Istishraq
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
Nau'ikan
إننا نريد من الآخر حين يرانا أن يتخلى عن «آخريته»، ويرانا كما نرى أنفسنا، ونريد من الغير أن يتقمصوا وجهة نظرنا تجاه ذاتنا، ويلغوا «غيريتهم». وقد تتعدد أسباب رفضنا لرؤية المستشرقين، ما بين دينية وسياسية وحضارية، ولكن من وراء هذا كله يكمن موقف واحد، هو رفض النظرة التي تتم بعين مغايرة. وكم يكون رائعا في نظرنا أن يستعير الآخر عيوننا نحن لينظر بها إلينا. ولهذا كان أعظم المستشرقين، في رأي الكثيرين، هم الذين يعتنقون الإسلام، يليهم من يتعاطفون معه ويمدحون إنجازاته،
4
أما ألعنهم جميعا فهم أولئك الذين يتمسكون بأن يرونا بعيونهم المغايرة.
بل إننا نستطيع أن نرى في الحملة على الاستشراق، من حيث هو تعبير عن «رؤية أخرى» لنا، مظهرا من مظاهر سيطرة التفكير السلطوي، الأحادي الجانب، على عقولنا. فالعالم العربي لا يقول «بالحقيقة الواحدة أو المطلقة» في ميدان الدين فحسب، وإنما يقول بها في ميدان السياسة والأيديولوجيا معا. وفي كل يوم يضيق نطاق المعارضة وتتسع سلطة الأنظمة التي لا تتحمل إلا طريقة تفكيرها الخاصة، وتعد كل ما عداها «خيانة»، ويبدو أن هذه النزعة التسلطية الأحادية الجانب قد تسربت إلى الميدان الثقافي بدوره، بحيث يمكن أن يعد نقد الاستشراق مظهرا لها، وإن لم يكن مظهرا واعيا بنفسه كل الوعي. (3)
وفي ضوء السمة السابقة نستطيع أن نلمح من وراء حملتنا على أعمال المستشرقين قدرا هائلا من الرضا عن النفس والغرور الذاتي، فالرؤية المغايرة ترفض إذا كان فيها هتك لحجاب «الستر»، الذي تعده قيمنا وأمثالنا الشعبية من أعظم النعم التي يمكن أن يمنحها الله للإنسان. وهذه الرؤية تصبح مقبولة إذا سايرتنا في تضخيم الذات وتفخيمها، أما إذا اخترقت قشرة الغرور فإنها تصبح شرا مستطيرا. ومن هنا كان مقياس قبولنا للمستشرقين هو: إلى أي حد يعددون أفضالنا على الغرب، ويمدحوننا (مع ملاحظة أن هذا المديح هو وحده الذي يستحق في نظرنا اسم «الموضوعية»).
فهل يجرؤ أحد منا في تقييمه للمستشرقين على أن يضع لهم معايير علمية خالصة، بحيث يفضل الأعمق بحثا والأكثر جهدا والأوسع معرفة، بدلا من تلك المعايير «الذاتية» التي نتمسك بها، مثل مدى التعاطف مع العرب؟ هل يجرؤ أحد على أن يتقبل المستشرق العلامة حتى لو لم يكن يتعاطف معنا؟
إننا في تعاملنا مع المستشرقين لا نستطيع - حتى نظريا - أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال الأساسي: ألا يجوز أن تكون بعض ملاحظاتهم السلبية عنا صحيحة؟ ولا بد أن أؤكد هنا أن ما أعنيه ليس على الإطلاق كون هذه الملاحظات صحيحة بالفعل أم باطلة، بل إن ما يهمني هو حالتنا الذهنية ومدى قدرتها على تقبل الصورة التي تكشف العيوب. ولو افترضنا حالة خيالية لمستشرق عالم ونزيه وموضوعي، ولكنه ناقد لنا، فإننا في هذه الحالة نخشى أن نطرح السؤال السابق، بل لا يخطر ببالنا السؤال أصلا؛ لأن غرورنا الذاتي وطريقة تربيتنا وقيمنا، بل وتخلفنا، كل هذا لا يسمح بطرح السؤال، ناهيك عن الاستعداد لقبول رد إيجابي عليه. (4)
هذا الغرور الذاتي، وما يرتبط به من رفض أية صورة لا تكون مرضية لنا، يؤدي في واقع الأمر إلى خداع ذاتي فادح الضرر. فحين تكون رؤية الغرب لنا مؤامرة متصلة الحلقات، حتى ولو اختلفت دوافعها عبر القرون، وحين تكون المناهج والمفاهيم وطرق البحث الغربية ذاتها جزءا من هذه المؤامرة، يكون أي تصوير نقدي لنا أكذوبة مضللة. وهكذا نخدع أنفسنا فنعتقد أن سمات مثل التخلف والتفكير اللامنطقي والعقلية السحرية أو الخرافية، ما هي إلا أساطير يروجها الغرب وينقلها إلينا عمدا، وربما أقنع بها بعض مثقفينا، حتى تكتمل سيطرته علينا. وحين نصل إلى هذا الحد من التفكير، نرضى عن أنفسنا كل الرضا، فقد أعفينا أنفسنا من العيوب، وعلقناها على مشجب «التزييف الذي يقوم به الآخرون لكي يحطموا معنوياتنا.»
وفي اعتقادي أنه ليس أضر على مجتمعات تمر بمرحلة نضال شاق من أجل البناء، ويتعين عليها أن تكافح عناصر التخلف وتواجه مشاكلها بوضوح وصراحة، من أن تقنع نفسها بمثل هذه الأوهام الخادعة. فتخلفنا حقيقة واقعة، سواء قال بها المستشرقون أم لم يقولوا. وسيطرة اللامعقول والفكر الخرافي على طريقتنا في النظر إلى العالم، وإلى أنفسنا، هي أمر يستحيل إنكاره، بغض النظر عن نوايا المستشرقين ودوافعهم عندما يشيرون إليه. والطريق الموصل إلى النهوض الحقيقي ليس أن نخدع أنفسنا وننكر عيوبنا، بحجة مقاومة الهيمنة الثقافية للغرب، وإنما هو أن نعترف بهذه العيوب حتى يكون اعترافنا هو الخطوة الأولى نحو التحرر منها.
وهكذا فإن مشكلة الاستشراق لا تكمن في أنه ينسب إلينا صفات التخلف واللاعقلية والإيمان بالسحر والخرافة (فيكفي أن نخرج عن نطاق الشريحة العليا من المثقفين لكي ندرك أن هذه السمات واسعة الانتشار بين الفئات الشعبية إلى أبعد حد)، ولا تكمن في أنه ينظر إلى الإسلام على أنه خارج عن التاريخ ومستقل عن مجرى الزمن، بل إن مشكلته الحقيقية هي أنه لا ينسب هذه السمات إلى أسبابها الحقيقية. فليس في إشارة المستشرقين إلى هذه السمات ظلم أو تجن أو مؤامرة (كما يقول نقاد الاستشراق من العرب المعاصرين)، بل إنها بالفعل سمات صحيحة لا زالت تتصف بها الكثرة الغالبة من شعوبنا. ولكن النقد الحقيقي للاستشراق هو أنه يجعلها سمات «متوطنة» أو «ثابتة»، ولا ينسبها إلى ظروف القهر والاضطهاد التي عاناها الإنسان العربي، والشرقي عموما، طوال الجزء الأكبر من تاريخه. ولو اعترفنا بهذه الحقيقة الأخيرة لكان معنى ذلك أن هذه السمات قابلة للتغيير، وأن الإنسان العربي أو الشرقي أو المسلم قادر على أن يتحرر منها إذا استطاع أن يقهر الظروف التي أدت إليها. أما إذا أخرجنا هذه السمات من التاريخ والتطور، وعزلناها عن الظروف الاجتماعية التي أدت إلى ظهورها، فعندئذ يصبح التجاوز والتحرر مستحيلا.
Shafi da ba'a sani ba