ومن الطبيعي أن يستتبع العمل بالرعي هجرات متعددة وراء الشعب، وحسب حال الطبيعة من وجود أو شح؛ لذلك كان نزولهم مصر في عهد إبراهيم، وفي عهد يوسف بن يعقوب، وعادة ما كان يسبق تلك الحركة المهاجرة الإشارة إلى نزول جوع بالأرض «وحدث جوع في الأرض، فانحدر إبرام إلى مصر ليتغرب هناك» (تكوين، 12: 10)، «وكان الجوع على وجه كل الأرض ... فلما رأى يعقوب أنه يوجد قمح في مصر، قال يعقوب لبنيه: لماذا تنظرون بعضكم إلى بعض؟ وقال: إني قد سمعت أنه يوجد قمح في مصر، انزلوا إلى هناك» (تكوين، 41: 56؛ 42: 1-2).
ويبدو من عدة شواهد أخرى، أن أهم مظاهر ثروتهم التي تمثلت في الأنعام، كانت ثروات عائلية لا فردية ولا قبلية إنما كانت ملكية عائلية أسرية؛ فنجد أن لوطا ابن أخي إبراهيم، له ولأسرته أملاكها من المواشي، ولإبراهيم وأسرته أملاكا أخرى تخصهم. كذلك الأمر مع أبنائه، بينما كانت أراضي المراعي وآبار المياه ملكية جماعية مشاعية، لكن دون ثبات أو دوام؛ فكانت المراعي تتعرض للجفاف ، والآبار للنضوب، فتنتقل القبيلة مع مواشيها، كما حدث في حال نزولهم إلى مصر، أو في حال استيلائهم على أرض فلسطين. ولم تكن الفروق كبيرة في ذلك العهد بين ثروات أسر تلك القبيلة، ولا بين ثروات الأفراد، إلا في حالات طارئة تزيد فيها الثروة لأسباب أخرى، وهو مثيل ما روته التوراة حول نزول النبي إبراهيم إلى مصر، وما حدث عندما أخذ الفرعون سارة زوجته، «فصنع إلى إبراهيم خيرا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال ... فصعد إبراهيم من مصر ... وكان إبرام غنيا جدا في المواشي والفضة والذهب» (تكوين، 12: 16؛ 13: 1-2). وهو زعم سبق لكثير من الكتاب تناوله وتفنيده، ولا يغنينا منه سوى دلالة غنى أصاب بعض رهط إسرائيل في مصر، أما النبي إبراهيم فلا شك يراودنا في كونه نبيا جليلا، يترفع ويتنزه عن مثل تلك المزاعم.
وطوال تلك السطور، نجد التوراة تؤكد وتقرر أن «إيل إله إسرائيل» (تكوين، 23: 20)، وقد ظل «إيل» هو الإله الذي يتردد ذكره طوال الحقبة الممتدة ما بين إبراهيم وموسى؛ أي بطول سفر التكوين كاملا، عدا حالات يذكر فيها الإله الموسوي (يهوه) قبل ظهور موسى، بديلا عن «إيل»، بداخل سفر التكوين. ومعلوم لدى الدارسين أن ذلك لا يعني معرفة العهد الإبراهيمي للإله «يهوه»، إنما نعرف أن ذلك كان ناتج إدماج روايتين داخل سفر التكوين: رواية كتبها من نعرفه اصطلاحا بالكاتب الإيلي، وراويته هي الغالبة في سفر التكوين، ورواية كتبها من نعرفه اصطلاحا بالكتاب اليهوي. لكن ما لا يجب أن يفوت القارئ هنا، أن الكلمة «إيل» كانت تأتي في حالات كثيرة في صيغة الجمع «إللوهيم» أي الآلهة.
والإله «إيل» في رواية التوراة، هو الإله الذي يرتبط بمشروع البطاركة للاستيلاء على أرض كنعان، بعد هجرتهم من موطنهم الأصلي - وللأبد إلى فلسطين. وهنا لا نستطيع مجاملة الأحداث أو التاريخ؛ فقصة المشروع الإبراهيمي للاستيلاء على فلسطين قصة مقدسة ولا عبرة بتاريخ إنساني لم يدونها أو يعرف شيئا عنها. وقد اعتمدت، علاقة الإله إيل بالمشروع الاستيطاني على قصة توراتية مقدسة تؤكد أنه الإله الذي أخرجه من مدينة «أور الكلدانيين» موطنه الأصلي البعيد، وهو الإله الذي اختار له أرض كنعان ومنحه إياها ولنسله من بعده وإلى أبد آبدين، وتكرر صيغة هذا الميثاق في أكثر من موضع بسفر التكوين، وقد جاءت على الترتيب في عهد الجد إبراهيم كالآتي:
وقال الرب لإبرام: اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك، وأعظم اسمك وتكون بركة، وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه. (تكوين، 12: 1-3)
وبعد هبوطه أرض كنعان:
ظهر الرب لإبراهيم وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض. (تكوين، 12: 7)
ارفع عينيك وانظر من هذا الموضع الذي أنت فيه، شمالا وجنوبا وشرقا وغربا؛ لأن جميع الأرض التي أنت ترى لك أعطيها لنسلك للأبد، وأجعل نسلك كتراب الأرض. (تكوين، 13: 14-16)
في ذلك اليوم قطع الرب من إبرام ميثاقا قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات، القينيين والقنزيين والقدمونيين والحيثيين والفرزيين والرفائيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين. (تكوين، 15: 18-21)
وأقيم عهدي بيني وبينك، وبين نسلك من بعدك في أجيالهم، عهدا أبديا؛ لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، أرض كنعان، ملكا أبديا، وأكون إلههم. (تكوين، 17: 7-8)
Shafi da ba'a sani ba