الإهداء
تمهيد
التوراة قراءة نقدية
نقد أسفار الأنبياء
التضليل الصهيوني (فليكوفسكي نموذجا)
ملحق له ضرورته
حتى لا يضيع العقل مع الأرض
مصادر استشهادات البحث
الإهداء
تمهيد
التوراة قراءة نقدية
نقد أسفار الأنبياء
التضليل الصهيوني (فليكوفسكي نموذجا)
ملحق له ضرورته
حتى لا يضيع العقل مع الأرض
مصادر استشهادات البحث
الإسرائيليات
الإسرائيليات
تأليف
سيد القمني
الإهداء
ما عادت على الجسد عاديات أمراضه المتناوبة إلا وتناوب رفقتي صديقان، يذهلان لأمري عن شئون دنياهم.
جمال عقيل ووسيم فريد.
فإليهما أهدي كتابي مشفوعا بامتنان هما أهل له وإن كانا في غنى عنه. فقط هو الحب والعرفان.
سيد
ضمن هذا الكتاب يقع كتاب سبق نشره بعنوان «إسرائيل: التوراة والتاريخ والتضليل»، إضافة إلى مجموعة من الدراسات المستجدة، سواء فيما يتعلق بنقد أسفار التوراة أو بالعلاقات التاريخية للقبيلة الإسرائيلية بشعوب المنطقة، مع قراءة نقدية لخطاب الحق الديني في القدس.
تمهيد
في التجربة المستمرة للتعامل مع طروحات الأيديولوجيا الصهيونية، المؤسسة على أعمدة تاريخية ودينية قدسية، كنت على يقين دوما بمدى تهافت كثير من أعمالنا الفكرية وترنحها إزاء تلك الطروحات، رغم كم الشعارات والجمل الساخنة، والإطالة المفرطة؛ حيث كانت تلك الأعمال تلقي بنا في النهاية على حجر الفكر الصهيوني وقبضة منظومته الفكرية، بعد الإقرار لها بكل تأسيساتها التاريخية والقدسية، برداء إسلامي يعيد إنتاج عناصر الأيديولوجيا الصهيونية، وهو ناتج ضروري، ولزوم حتمي عن التسليم الإيماني بقدسية التاريخ الإسرائيلي، كمادة أولى وأساس في النص المقدس، وكمادة أولى في قانون الإيمان «بالله وملائكته ورسله وكتبه»، وكان الواضح أن أولئك الرسل جميعا من بني إسرائيل نسبا وشرفا وعقيدة، وإن تم سحب المصداقية عن مقدسهم المتداول بين الأيدي الآن بعد وصمه بالتحريف، بعد اكتشاف يهود يثرب والنبي محمد
صلى الله عليه وسلم ، اختلاف توجهاتهم على البعد الاستراتيجي؛ ومن ثم تغير التكتيك المرحلي زمن الدعوة، بالنسخ القدسي، ليتم الكشف عن الإسلام كبعد تاريخي قديم، وأن الإسلام كان مستبطنا باليهودية التاريخية؛ ومن ثم تمت إعادة التاريخ دورة كاملة إلى عهد النبي محمد
صلى الله عليه وسلم . كما تحول جميع أنبياء وملوك دولة إسرائيل القديمة إلى أنبياء مسلمين، كانوا يدعون بدعوة الإسلام، وإن ظلت الشهادات المنسوخة متواجدة بالمقدس الإسلامي، بكل تفاصيلها التاريخية الإسرائيلية كما هي في المنظومة التوراتية، وظلت التوراة بصفتها الحاملة للهدى والنور، وظلت الآيات التي تذكر بهم كشعب مختار متميز فضلهم الله على العالمين. وغير ذلك لا تجد سوى تنويعات عروبية نادرة ويتيمة، عن القرى العربية البائدة، وأنبياء مثل هود وصالح. أما النسب الإسلامي والعربي فقد ظل بدوره إسرائيليا، بإعلان نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، أنه الحفيد النبوي الأخير لسلسلة عبرانية استعربت بعد إبراهيم، باستعراب ولده إسماعيل، واكتسابه الجنسية العربية بسكناه بلاد الحجاز، عبورا على عمومة مؤكدة لإسحاق شقيق إسماعيل، الذي أنجب إسرائيل (يعقوب) وبنيه وسلساله الطويل من أنبياء توارثوا النبوة خلفا عن سلف.
هذا ناهيك عن تطابق المنمنمات الدقيقة حول الإله وقدراته، وقصص الأولين الأولى بدءا من قصة الخليقة وآدم مرورا بنوح والطوفان، حتى قيام مملكة شعب الرب (مملكة إسرائيل القديمة) في فلسطين، وما لحق ذلك من قصص الأنبياء والمرسلين، وكلهم من ذات النسل المبارك. ثم ما أضيف في عصر التدوين الإسلامي للسير والتاريخ؛ تلك المدونات التي عملت مستضيئة بحديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.» والتزاما بقانون الإيمان، وما فرضه كل ذلك من سيادة المأثور الإسرائيلي على العقل العربي وروحه، بعد أن غص مأثوره بالإسرائيليات.
أما الشق الثاني من عناصر الأمة، والذي يمثله المسيحيون العرب، فمعلوم منذ البدء أنهم قد سلموا لإسرائيل وتوراتها، عبر إسرائيلية المسيح وتلامذته جميعا، نسبا، بل وبالشق الأعظم من العقيدة المسيحية، وذلك اتباعا لأمر إيماني، يطلب الإيمان بالمقدس الإسرائيلي القديم، والتاريخ الإسرائيلي؛ إعمالا لتوجيهات يسوعية بدأت بالإعلان: «ما جئت لأنقض الناموس، بل جئت لأكمل.» ولهذا ركز المسيح تعاليمه على الجانب الأخلاقي التشريعي، وترك ما دون ذلك للمؤمن يبحث عنه في المقدس الإسرائيلي؛ لذلك تم ضم الكتاب اليهودي المقدس (التوراة ومجموعة الأسفار القديمة) إلى الكتاب المسيحي المقدس (الأناجيل ومجموعة رسائل التلاميذ) في كتاب واحد مقرر على المسيحي المؤمن، يحمل عنوان «الكتاب المقدس» بشقيه «العهد القديم» و«العهد الجديد».
وإعمالا لذلك سلم المسيحيون بتاريخ إسرائيل وقدسيته وحتميته القدرية، ونهايته المرسومة في التقدير الإلهي لقيام مجد إسرائيل في فلسطين مرة أخرى، بل أصبح المسيحيون هم مادة التطور الكبرى، لقيام مملكة داود وسليمان في فلسطين بزعامة الرب يسوع صاحب الملكوت؛ لأنه امتداد لملوك إسرائيل القديمة، باعتباره من نسل سليمان وأبيه داود؛ فإن هو إلا حفيد ملوك، تجري في عروقه دماء إسرائيلية ملكية، ارتفع في المسيحية من كرسي النجارة الأرضية في مدينة الجليل، حيث كان يمارس حرفته، إلى كرسي الألوهية في السماء. لكن ليظل وفيا لرحمه وعشيرته، يمركز كل الحقوق التاريخية والدينية لإسرائيل في فلسطين؛ لأنه هو ذاته إله اليهود «يهوه» القائد الرباني المظفر الذي قاد شعب إسرائيل من مصر ليقيم مملكة في فلسطين، نعم هو «يهوه» ولكن بعد أن تجلى لخرافه الضالة في صيغة بشرية.
ومن ثم تنافس العربان، عتاة العقيدة العاضون بالنواجذ على الإيمان، مسيحية وإسلاما، في تشريف تاريخ إسرائيل وتكريمه. وبينما باتت عودة المسيح لإقامة مملكة أبيه داود، والجلوس على عرش سلفه سليمان في فلسطين، مشروعا مسيحيا، فلا يزال المسلمون ينتظرون المسيح ليقتل الدجال، ويقيم ذات المملكة، وبعدها يقف إسرافيل ينفخ في البوق من صخرة بيت المقدس، لقيام مملكة الحق الإسلامية الخالدة، مشروعا إسلاميا.
والأمر بهذا الشكل مشكلة إيمانية، وأزمة فكرية طاحنة، يتغافل عنها الجميع وفق صيغهم السياسية، وتكتيكاتهم المرحلية، وأهدافهم الاستراتيجية، لكن المأساة الحقيقية أنها تتجاوز ذلك الإطار إلى مستوى الأزمة الوطنية والقومية والاجتماعية، بحالة تبدو مستعصية على الحل تماما، اللهم إلا في عالم الحلم الثوري الآتي، وهو - بالركون إليه - يعادل تماما انتظار المسيح قاتل الدجال ثم دخول الجنات في المشروع الإسلامي، كما يعادل انتظار عودة المسيح الإله وقيام المملكة المجيدة في المشروع المسيحي واليهودي، على حد سواء. والمدرك لأبعاد تلك الأزمة المروعة في الفكر والسلوك العربي، سيجد كما من الإحباط الفكري والنفسي، والواقعي (في التعايش مع ذلك الفكر السائد)، كفيلا وحده بإلجائه إلى إهمال الأمر برمته، ونفض يديه منه، بيأس كامل ومطبق، لولا بقية من روح قتالية تتشبث بالمحاولة، لوضع لبنة حقيقية في بناء الأمل الآتي، ضمن لبنات أخرى نتمناها ونرجوها ونستحثها، من الباحثين المخلصين.
وضمن تلك المحاولات يأتي هذا القسم من بحثنا، الذي جهدنا عليه بالمعنى السالف، ولا نعلم مدى ما حققناه فيه، الأمر متروك في النهاية للجدل القائم الآن على مستوى التعامل مع التراث لتحديد الهوية؛ وعليه، أضع هذا الجهد، الذي ربما كان متعجلا في بعض مواضعه، كناتج محاولة المسارعة بالخروج إلى الساحة، بعد تأخر طويل، راجيا أن أكون بذلك قد وضعت بين يدي القارئ مساهمة على طريق التعامل العلمي مع طروحات الأيديولوجيا الصهيونية، مع قناعة خاصة، أو اعتقاد، أني أقدم به واحدة من الأدوات اللازمة، في الصراع الثقافي والحضاري، الملتبس دوما بالاجتماعي، والذي تخوضه فصائل أمتنا الواعية اليوم.
سيد القمني
التوراة قراءة نقدية
تأسيس
على الصفحة الأولى للكتاب المقدس (النسخة العربية) نقرأ إعلانا افتتاحيا يقول:
الكتاب المقدس؛ أي كتاب العهد القديم والعهد الجديد، وقد ترجم من اللغات الأصلية وهي: اللغة العبرانية، واللغة الكلدانية، واللغة اليونانية.
والعهد القديم يشمل مجموعة الكتب اليهودية المقدسة، التي يشار إليها في مجموعها - مجازا - باسم التوراة، وهو الاصطلاح الذي استخدمناه في عنونة كتابنا هذا للدلالة على مجموعة كتب العهد القديم، رغم أن التوراة تقتصر على الكتب الخمسة الأولى من العهد القديم، لكن الاصطلاح صار دارجا للدلالة على مجموع الكتب اليهودية التي يشملها ذلك العهد بكامله، وهو المختص في صفحة عنوان الكتاب المقدس، بالترجمة عن اللغة العبرانية واللغة الكلدانية، أما العهد الجديد فيشمل مجموعة الكتب المقدسة للعقيدة المسيحية، وهو فقط من بين مجموع كتب الكتاب المقدس، المترجم عن اللغة اليونانية.
ويطلق على كتب العهدين اصطلاحا لفظة «أسفار» (جمع «سفر» أي: كتاب، وتعني السور أو المحيط بالمحتوى)، و«سفر» هي المقابل العبري لكلمة «سورة» في اللغة العربية؛ حيث يتبادل الحرفان «ف» و«و» بين العبرية والعربية، كما في «ليفي» العبرية، ومقابلها «لاوي» في العربية، وقد اعتبرت تلك السور أو الأسفار عند أصحابها كتبا مقدسة؛ أي موحى بها. أما كلمة العهد في التسميتين «العهد القديم» و«العهد الجديد» فتعني الميثاق؛ بمعنى أن كلتا المجموعتين من الكتابات عبارة عن ميثاق أخذه الله على البشر، وارتبطوا به مع الله، فكان العهد القديم ميثاق العقيدة اليهودية، بينما أصبح العهد الجديد ميثاق العقيدة المسيحية.
وكتب العهد الجديد تمثل مجموعة الأناجيل وعددها أربعة أناجيل هي على الترتيب: إنجيل متى، إنجيل مرقس، إنجيل لوقا، إنجيل يوحنا؛ هذا إضافة إلى سفر أعمال الرسل، ومجموعة رسائل تخص تلامذة المسيح والتي بشروا بها الأمم، وهي:
رسائل بولس الرسول: رسالة إلى رومية، ورسالتان إلى كورنثوس، ورسالة إلى غيلاطية، ورسالة إلى أفسس، ورسالة إلى فيليبي، ورسالة إلى كولوسي، ورسالتان إلى تسالونيكي، ورسالتان إلى تيموثاوس، ورسالة إلى تيطس، ورسالة إلى فيلمون، ورسالة إلى العبرانيين.
رسالة يعقوب الرسول.
رسالتان لبطرس الرسول.
ثلاث رسائل ليوحنا الرسول.
رسالة ليهوذا.
سفر الرؤيا، وهو سفر خاص ناتئ يخص رؤيا ليوحنا اللاهوتي.
وتلك الأسفار والرسائل في مجموعها، إضافة إلى الأناجيل، تشكل سبعة وعشرين كتابا أو سفرا، تكون منظومة المقدس المسيحي: أناجيل ورسائل مقدسة.
لكن الأهم، والذي يعنينا هنا، هو القسم الأول من الكتاب المقدس، وهو القسم الأكبر والأضخم «العهد القديم» أو التوراة، ويتضمن تسعة وثلاثين سفرا ضخما هي على الترتيب: سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر التثنية، وسفر يشوع، وسفر القضاة، وسفر راعوث، وسفر صموئيل الأول، وسفر صموئيل الثاني، وسفر أعمال الملوك الأول، وسفر أعمال الملوك الثاني، وسفر أخبار الأيام الأول، وسفر أخبار الأيام الثاني، وسفر عزرا، وسفر نحميا، وسفر أستير، وسفر أيوب، وسفر مزامير النبي داود (المعروف إسلاميا باسم الزبور لاختلاط حرفي الباء والميم بين اللسان العبراني واللسان العربي)، وسفر الأمثال، وسفر الجامعة، وسفر نشيد الأنشاد الذي لسليمان، وسفر إشعيا (وهو مجموعة نبوءات)، وسفر دانيال، وسفر هوشع، وسفر يوئيل، وسفر عاموس، وسفر عوبيديا، وسفر يونان، وسفر ميخا، وسفر ناحوم، وسفر حبقوق، وسفر صفنيا، وسفر حجي، وسفر زكريا، وسفر ملاخي.
وعادة ما يتم تقسيم هذه المجموعة من الأسفار إلى أربعة أقسام هي على الترتيب:
القسم الأول:
المعروف باسم التوراة، أو كتب موسى الخمسة أو البانتاتك ويشمل خمسة أسفار هي: التكوين
Cenesis
والخروج
Exodus
واللاويين
Leviticus
والعدد
Nambers
والتثنية
Deuteronomy . وتعد تلك الأسفار الخمسة أهم أجزاء العهد القديم، وتنسب بجملتها إلى النبي موسى بوحي من الله.
ويحكي السفر الأول منها (التكوين) تاريخ العالم من لحظة البدء بخلق السموات والأرض، ثم آدم ونسله، ويسير مع ذلك النسل حتى يصل إلى أولاد يعقوب المعروف بإسرائيل، وهم اثنا عشر ولدا يعرفون بالأسباط أو بني إسرائيل، وينتهي السفر باستقرار هؤلاء ضيوفا على أرض مصر، في زمن حلت به المجاعة بالمنطقة بكاملها، ومن المرجح عند العلماء أن هذا السفر قد تم تأليفه حوالي القرن التاسع قبل الميلاد؛ أي بعد موسى بحوالي خمسة قرون، وهو افتراض علمي لا يأخذ بعين الاعتبار مسألة نسبته للوحي أو لموسى من الأساس.
أما السفر الثاني (الخروج) فيعرض للأحداث التي مرت بها القبيلة الإسرائيلية في مصر، وقصة النبي موسى وقيادته لبني إسرائيل في رحلة خروج - أو هروب - كبرى، ويحكي السفر أحداث الرحلة بتدقيق وتفصيل شديدين، ويشير إلى أسماء ومواضع الحل والترحال بكثافة وإصرار، إضافة لما يحويه ذلك السفر من بعض أحكام الشريعة اليهودية في العبادات والمعاملات والعقوبات، ويرجح أنه قد تم تأليفه زمن تأليف سفر التكوين.
والسفر الثالث هو سفر «التثنية»، الذي شغل معظمه بأحكام الشريعة اليهودية الخاصة بالحرب والسياسة والاقتصاد، والمعاملات والعقوبات والعبادات، وقد سمي التثنية لأنه ثنى أو أعاد ذكر التعاليم التي يفترض أن موسى تلقاها من ربه، لكن العلماء يرجحون أن هذا السفر قد تم تأليفه في أواخر القرن السابع قبل الميلاد؛ أي بعد موسى بحوالي سبعة قرون، وذلك أثناء وجود القبيلة الإسرائيلية في المنفى البابلي.
والسفر الرابع هو سفر «اللاويين» أو الليفيين، نسبة إلى لاوي أو ليفي
Lievi
أحد الأسباط، والإشارة هنا إلى أبناء ليفي أو سلسلة نسله من أحفاد الأحفاد، الذين اشتغلوا بالكهانة اليهودية، ومن هؤلاء الأبناء كان النبي موسى، وقد شغل معظم هذا السفر بشئون العبادة وطقوسها، خاصة ما تعلق منها بطرق تقديم الأضاحي والقرابين.
أما السفر الخامس وهو سفر «العدد»، فقد اهتم بإحصائيات عن عدد قبائل بني إسرائيل، وجيوشهم، وأموالهم، وأي أمر كان يمكن إحصاؤه في شئونهم؛ لذلك سمي «العدد» من عملية العد والإحصاء.
القسم الثاني:
ويعرف بالأسفار التاريخية، وعددها اثنا عشر سفرا، قامت بعرض تاريخ بني إسرائيل بعد استيلائهم على كنعان (فلسطين)، وهي أسفار: يشوع (ويشوع هو خليفة موسى على قيادة بني إسرائيل إلى فلسطين بعد موت موسى، بعد استيلائهم على بعض أرض فلسطين)، ثم سفر راعوث (وهو اسم جدة داود من جهة أبيه)، ثم سفر صموئيل الأول، وصموئيل الثاني (وصموئيل هو آخر قضاة إسرائيل قبل انتهاء النظام القبلي وقيام المملكة المركزية). ثم يلي ذلك سفران بعنوان أعمال الملوك أو الملوك أول وثاني، ويحكي تاريخ ملوك بني إسرائيل بدءا من أول ملوكهم «شاول» مرورا بداود وولده سليمان وسلسلة الملوك من بعدهم. ويلي ذلك سفران بعنوان أخبار الأيام، وهما أول وثاني بدورهما، ويعرضان على الترتيب شجرة النسب من آدم إلى يعقوب إسرائيل، وهو تكرار سبق عرضه في سفر التكوين. ثم بعد ذلك يتم تقديم عرض لتاريخ داود، ثم ولده سليمان، ثم عرض لتاريخ إسرائيل السياسي بعد سليمان.
ويأتي بعد ذلك سفر عزرا وينسب إلى عزرا النبي الذي تمكن من إعادة الإسرائيليين من منفاهم في بابل إلى فلسطين، وذلك حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، وإليه تنسب محاولة إعادة تجديد الديانة ونفخ الروح في القومية الإسرائيلية، إضافة إلى قيامه بتجديد بناء الهيكل، وينسب إلى عزرا النشط هذا تحرير كثير من أسفار العهد القديم، حتى بلغ منزلة عظيمة الشأن، عند بني إسرائيل.
ومن بين تلك الأسفار التاريخية يأتي أيضا سفر نحميا نسبة إلى نحميا، أحد وجهاء بني إسرائيل، والذي تمكن بمساعدة عزرا من إقناع ملك الفرس، بالسماح لهم ببناء الهيكل مرة أخرى. ويلي نحميا سفر أستير وهو سفر صغير يشتمل على تسعة إصحاحات فقط، يروي قصة الإسرائيلية الجميلة أستير، التي تمكنت من إغواء أحشويريش ملك الفرس فتزوجها، كما تمكنت من إحباط مؤامرات وزيره هامان ضد بني ملتها، ودبرت مع عمها الكاهن مردخاي مكيدة قضت عليه وعلى أنصاره، حتى سمح لهم الملك الفارسي بالولوغ في الدم كيف شاءوا، فقام الإسرائيليون بذبح الآلاف من قوم هامان ونسائهم وأطفالهم، وحتى اليوم يحتفل أصحاب الملة اليهودية بذكر تلك المذبحة الدموية في عيد البوريم، أو عيد أستير، وذلك في شهر مارس من كل عام.
القسم الثالث:
ويعرف بمجموعة أسفار الأناشيد أو الأسفار الشعرية، ويشمل أسفارا في صيغ الأناشيد والمواعظ الدينية المؤلفة تأليفا شعريا وهي خمسة أشعار: أولها أيوب ثم المزامير، وبعده سفر أمثال سليمان ثم سفر الجامعة وهو منسوب بدوره لسليمان، ومن بعده سفر نشيد الأنشاد وهو بدوره من أعمال سليمان حسب عنوانه «نشيد الأنشاد الذي لسليمان».
القسم الرابع:
ويسمى بمجموعة أسفار الأنبياء (النبييم)، ويشمل سبعة وعشرين سفرا تعرض لتاريخ أنبياء إسرائيل بعد موسى، وهي إشعيا، وأرميا، ومراثي أرميا، وحزقيال، ودانيال، وهوشع، ويوئيل، وعاموس، وعوبديا، ويونس، وميخا، وناحوم، وحبقوق، وصفنيا، وحجي، وزكريا، وملاخي.
ويرجح العلماء أن معظم تلك الأسفار قد تم تأليفها بين النصف الأخير من القرن التاسع قبل الميلاد، وأوائل القرن السادس قبل الميلاد، وأن بعضها يمكن تزمينه بأواخر القرن الرابع قبل الميلاد. (1) علاقة النبي موسى بالتوراة
بات معلوما - اليوم - أن نسبة «الأسفار الخمسة الأولى من التوراة» إلى النبي موسى، أمر مشكوك فيه تماما، وغير علمي بالمرة، بل أصبح من العلمي القطع بتأليفه على يد عدد من الكتاب الذين اختلفت مشاربهم وأمزجتهم وثقافتهم ومواقعهم الاجتماعية وتوجهاتهم العقائدية، وهو الأمر الذي فرض نفسه في النهاية على المؤسسات الدينية ذاتها، حتى إنك تجد في مقدمة الطبعة الكاثوليكية للكتاب المقدس، الصادرة في عام 1960م ما نصه:
ما من عالم كاثوليكي في عصرنا، يعتقد أن موسى ذاته كتب كل التوراة، منذ قصة الخليقة، أو أنه أشرف حتى على وضع النص؛ لأن ذلك النص قد كتبه عديدون بعده؛ لذلك يجب القول: إن ازديادا تدريجيا قد حدث، وسببته مناسبات العصور التالية، الاجتماعية والدينية.
وقد كان السبب في إطلاق اصطلاح «أسفار موسى الخمسة» على التوراة، هو افتراض إيماني ينسب تأليفها إلى النبي موسى، حتى صار ذاك الافتراض عقيدة يهودية منذ عهد فيلون السكندري ويوسفيوس في القرن الأول قبل الميلاد، اللذين عاصرا المسيح، وأعلنا أن موسى هو مؤلف التوراة، وهي العقيدة التي ظلت تأخذ بها الكنيسة إلى زمن قريب، ولا تزال سائدة في كثير من الكنائس.
إلا أن التوراة نفسها تقدم لمن يبحثها شواهد تقطع بأن تلك النسبة إلى موسى باطلة تماما، ومن تلك الشواهد على سبيل المثال:
هناك عبارات تتعلق بموسى في التوراة، ويستحيل أن تصدر عنه وذلك مثل الآية التي تقول: «وأما الرجل موسى فكان حليما جدا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض» (عدد، 12: 3)؛ فهنا واضح تماما أن الكاتب شخص آخر يتحدث عن موسى، ويذهب إلى تأكيد حلم «الرجل موسى»، كما لو كانت محاولة للتنصل من أحداث سيرة ذلك النبي التوراتية، تنفي عنه صفة الحلم بالمرة. ومثل تلك الآية، الأخرى التي تقول: «وأيضا الرجل موسى كان عظيما جدا في أرض مصر، وفي عيون فرعون وعيون الشعب» (خروج، 11: 3). هذا ناهيك عن الخبر الخاص بوفاة موسى والذي يقول: «فمات هناك موسى عبد الله في أرض موآب حسب قول الله، ودفنه في الجواء في أرض موآب» (تثنية، 34: 5)، وبالطبع يستحيل أن يكتب موسى عن نفسه أنه قد مات، بل ويحدد موضع دفنه.
إنك تجد في التوراة أسماء لمواضع جغرافية يستحيل أن يكون لدى موسى علم بها؛ لأنها كانت في عمق أرض فلسطين وموسى مات ولم تطأ قدمه أرض فلسطين. إضافة إلى أن أكثر تلك الأسماء لم تكن قد سميت زمن موسى، بل تمت تسميتها حسب ظروف ومستجدات حدثت بعد موسى بثلاثة أو أربعة قرون؛ مثل اسم مدينة دان (تكوين، 14: 14؛ تثنية، 34: 1)، ومثل مجموعة القرى المعروفة باسم يائير (عدد، 32: 41؛ تثنية، 3: 14)، وهي القرى التي لم تظهر أصلا في الوجود إلا في عصر القضاة بعد زمن موسى بقرون (انظر: القضاة، 10: 14).
وفي قصة يوسف خطأ تاريخي هائل، يطلق على فلسطين أرض العبريين (تك، 40: 15) وهو الاسم الذي لم يطلق إلا بعد ذلك بزمان، بينما قبل ذلك - بتأكيد التوراة نفسها - كانت تسمى أرض الفلسطينيين، وأرض الكنعانيين.
وفي سفر التكوين سقطة فاضحة تؤكد كتابة التوراة بعد قيام الملكية المركزية لإسرائيل؛ أي بعد أربعة قرون من زمن النبي موسى، والسقطة تتضح في حديث التوراة، وقولها إن ما ترويه عن زمن موسى، كان «قبل أن يملك ملك من أبناء إسرائيل» (تكوين، 36: 31؛ عدد، 24: 7)، وهي جملة لا يكتبها إلا شخص عاصر العهد الملكي وعرف بقيام المملكة، إنها بالقطع لا يمكن أن تكتب إلا في العصر الملكي لإسرائيل.
هناك تعبير متواتر في التوراة هو «حتى اليوم»، يلحق قص بعض الأحداث، كالقول إنه تم تسمية مدينة كذا بهذا الاسم وهذا اسمها «حتى اليوم»، أو إن الحدث قد أدى إلى تدمير مدينة كذا وظلت على حالها ذلك «حتى اليوم». والملاحظ أن كل التسميات والأحداث التي لحق بها هذا التعبير، تمت بعد عصر موسى بقرون، إضافة إلى مساحة زمنية أخرى يضيفها تعبير «حتى اليوم»؛ أي حتى يوم كتابة الحدث وتدوينه. وهو ما يشير باليقين إلى مسافة زمنية أخرى تفصل بين الحدث وبين زمن التدوين؛ مما يبعد بزمن كتابة التوراة عن زمن موسى مسافات أخرى. ونموذجا لذلك التعبير المتواتر ما يمكنك أن تجده في عدة مواضع؛ مثل «تكوين، 35: 20؛ وتكوين، 47: 26؛ وتكوين، 48: 15؛ وخروج، 10: 6؛ وعدد، 22: 30؛ وتثنية، 22: 30؛ وتثنية، 10: 8؛ وتثنية، 11: 4».
أما تعبير «ولم يظهر نبي مثل موسى» (تثنية، 34: 10) فهو يشير إلى معرفة الكاتب بظهور أنبياء بعد موسى، والمفترض أن ذلك لم يكن معلوما زمن موسى، علما أن هؤلاء الأنبياء لم يبدأ تواجدهم الفعلي إلا بعد عهد صموئيل ومع قيام المملكة الإسرائيلية.
وعلى مثل تلك الملاحظات التي يمكن لقارئ مدقق أن يراها في التوراة، تتالت التأكيدات التي ترفض نسبة التوراة إلى موسى؛ فكان تأكيد توماس هوبز الفيلسوف الإنجليزي (1588-1679م) أن تدوين التوراة قد تم بعد موت موسى بزمن طويل. ثم تبعه الفيلسوف اليهودي باروخ اسبينوزا (1632-1677م) الذي انتهى إلى إنكار أي احتمال يمكن بموجبه نسبة التوراة إلى موسى، وقدم على ذلك شواهد عديدة، وقدم عددا من القرائن التي تشير إلى أن كتب العهد القديم بدءا من سفر التكوين وحتى سفر الملوك الثاني، قد كتبها عزرا الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد. وكان الطبيب الفرنسي جاك أوستراك (1684-1766م) أول من كشف عن احتواء سفر التكوين على روايتين مختلفتين، وأوضح حقيقة وجود اسمين مختلفين للإله في ذلك السفر وفي قسم من سفر الخروج، هما «إلوهيم = الآلهة» و«يهوه». وقد ربط «أوستراك» بين ذلك وبين روايات التوراة فاكتشف أن الأجزاء التي تستخدم اسم «إلوهيم» تروي رواية مختلفة عن تلك التي تستخدم اسم «يهوه».
ويأتي الألماني جراف (1865م) ليكمل تلك الدراسات فيقوم بعملية عكس وقلب شامل للتصور التقليدي، الذي شاع عن كون القصة الإلوهيمية هي الأقدم، ليؤكد أن القصة اليهودية كانت هي الأقدم، بينما دونت القصة الإلوهيمية في فترة العودة من المنفى البابلي زمن عزرا، وذلك خلال القرن الخامس قبل الميلاد.
1
ولعل أهم ما ينفي نسبة التوراة إلى موسى، أنها لم تكن أبدا موضوعا واحدا متكاملا دفعة واحدة، يؤكد ذلك التكرار الذي يمكنك ملاحظته في قصة الخلق، مما يشير إلى اختلاف المؤلفين، بل إنك تجد في ذلك التكرار مخالفات جوهرية، ونماذج لتلك الروايات والمخالفات ما يمكن أن نورده كأمثلة وليس حصرا:
في قصة الخلق أو التكوين التي يمكن للقارئ الرجوع إلى نصها كاملا بالتوراة منعا للإطالة، يمكننا أن نقف على ذلك التناقض في فعل الخلق، الذي يقوم به مرة من سمي في الترجمة العربية «الله» وهو في الأصل العبري «يهوه». كما في القول: «في البدء خلق الله السموات والأرض» (تكوين، 1: 1) أو كما في القول: «وقال الله ليكن ... كذا وكذا.» ومرة أخرى نجد الخالق في ذات القصة لكن في مواضع أخرى هو «إلوهيم» أو «الآلهة»، وذلك كما في قوله لأعضاء مجمعه الإلهي: «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» (تكوين، 1: 26).
وفي موضع من القصة يقوم الإله بخلق السماء والأرض دفعة واحدة «في البدء خلق الله السموات والأرض» (تكوين، 1: 1)، بينما في موضع آخر تكون السماء والأرض موجودتين في الأصل في هيئة غمر ماء أزلي مظلم يفتقه الله عن بعضه إلى سماء و«أرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه ... وقال الله ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد ... ودعا الله الجلد سماء» (تكوين، 1: 2-8).
وفي مشهد آخر من دراما التكوين، نجد الإله يقوم بإنبات النبات في الأرض ويضع فيها حيوانها ودباباتها «وقال الله لتنبت الأرض عشبا وبقلا يبزر بزرا وشجرا ذا ثمر يعمل ثمرا كجنسه بزره فيه على الأرض» (تكوين، 1: 11)، وفي مشهد آخر نجد برية بلا عشب يقوم الرب الإله فيها بخلق آدم، ثم يضعه فجأة في مكان يدعى جنة عدن ليزرع أرضها ويفلحها «هذه مبادئ السموات والأرض حين خلقت، يوم عمل الرب الإله الأرض والسموات، كل شجر البرية لم يكن بعد في الأرض، وكل عشب البرية لم ينبت بعد ... وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ... وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا ووضع هناك آدم الذي جبله» (تكوين، 2: 1-8).
أما أفصح الإشارات لوجود روايتين مختلفتين لقصة الخلق، فهو ما جاء عن آدم عندما وضع في الجنة، فمرة نعلم أنه لم يكن محرما عليه أكل ثمرة الخلد أساسا، بينما نفهم في موضع آخر أنه كان مخلوقا للفناء «حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها؛ لأنك تراب، وإلى التراب تعود» (تكوين، 3: 19).
ثم تناقض آخر؛ فلدينا رواية تؤكد أن عملية الخلق قد بدأت بخلق السموات والأرض دفعة واحدة «في البدء خلق الله السموات والأرض» (تكوين، 1: 1)، وأنه بعد ذلك تقرر إنارة الكون «وقال الله ليكن نور فكان نور. ودعا الله النور نهارا والظلمة دعاها ليلا» (تكوين، 1: 3-5)، بينما لدينا رواية أخرى تتحدث عن السماء والأرض كموجود واحد أصلي في هيئة محيط أزلي مظلم، وترجئ تلك الرواية إيصال الإنارة إلى ما بعد فتق هذا المحيط إلى سماء وأرض «وقال الله ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه. ودعا الله الجلد سماء ... وقال الله لتكن أنوار في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل» (تكوين ، 1: 6، 8، 14).
أما أبرز الشواهد على مزج روايتين مختلفتين للتكوين، فهو الكيفية التي تم بها خلق الإنسان الأول؛ ففي مواضع من القصة نجد الخالق يخلق الإنسان دفعة واحدة، ككائن واحد يجمع في ذاته الواحدة بين الذكورة والأنوثة «يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله «ذكرا وأنثى، خلقه وباركه ودعا اسمه آدم»» (تكوين، 5: 1)، لكن في موضع آخر نجد الإله يخلق زوجين متمايزين ذكرا وأثنى «على صورة الله خلق الزوجين، ذكرا وأنثى خلقهم» (تكوين، 1: 27).
وبالطبع لم تكن شواهد التداخل بين روايات مختلفة تم جمعها، أمرا واضحا في قصة الخلق وحدها؛ فهناك دلائل أخرى في روايات أخرى تشير إلى هذا الأمر بسفور؛ ففي قصة نوح نجد رواية تقول إن الله قد أمر نوحا أن يأخذ معه في الفلك من كل زوجين اثنين «ومن كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل، تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك، تكون ذكرا وأنثى» (تكوين، 6: 19)، بينما نجد رواية أخرى ترتفع بهذا الرقم فتقول: «من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة ذكرا وأنثى» (تكوين، 7: 2). ثم في موضع نجد نوحا يستكشف أحوال الطوفان «وأرسل الغراب فخرج مترددا حتى نشفت المياه عن الأرض» (تكوين، 8: 7)، بينما المستمر في القراءة يجد المياه لم تنشف بعد، فيرسل الحمامة، ثم بعد فترة «في الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين من الشهر جفت الأرض» (تكوين، 8: 14). والقصة النوحية مليئة بمثل تلك التناقضات التي لا تغيب على فراسة قارئ مهتم، وهي ذات التناقضات التي تغص بها بقية أسفار التوراة بلا استثناء؛ فهناك كمثال تعليلات قدمتها التوراة لتفسير بعض التسميات، كتعليلها لتسمية مدينة «بئر سبع» بهذا الاسم؛ فالتسمية في رواية تقول إنها سميت كذلك نسبة إلى سبع نعاج قدمها النبي إبراهيم لأبيمالك ملك مدينة جرار الفلسطينية، كرمز لميثاق عدم اعتداء بينهما، وهو الوارد في «تكوين، 21: 28-31». لكن في رواية أخرى نجد التسمية تعود إلى إسحاق بن إبراهيم الذي حفر له عبيده بئر ماء «فدعاها شعبه، لذلك اسم المدينة بئر سبع إلى هذا اليوم» (تكوين، 26: 33). وذات التناقض نجده في تعليل تسمية مدينة «بيت إيل»؛ فهو في رواية ينسب إلى يعقوب بن إسحاق عندما نام فأتاه الله في المنام فقام متيقنا أن هذا المكان مسكن الله فسماه بيت الإله أو بيت إيل «ودعا اسم ذلك المكان بيت إيل، ولكن اسم المدينة أولا كان لوز» (تكوين، 28: 19)، وفي رواية أخرى تنسب التسمية إلى يعقوب أيضا لكن في قصة أخرى ومناسبة أخرى حيث حدثه الله «ودعا يعقوب اسم المكان الذي فيه تكلم الله معه بيت إيل» (تكوين، 35: 15). هذا بينما نعلم من التوراة ذاتها «أن المدينة كانت تحمل اسم بيت إيل قبل يعقوب وقبل أبيه إسحاق وقبل جده إبراهيم»؛ حيث نعلم أن إبراهيم هبط أرض فلسطين غريبا «ثم نقل من هناك إلى الجبل شرقي بيت إيل ونصب خيمته، وله بيت إيل من المغرب وعاي من المشرق» (تكوين، 12: 8).
وفي قصة يوسف نجد يهوذا أحد الأسباط وهو هو صاحب اقتراح بيع يوسف للإسماعيليين بعشرين مثقالا (تكوين، 37: 26-28)، بينما في موضع آخر نجد رءوبين أخاهم يقترح إلقاءه في الجب (تكوين، 37: 21، 22، 24)، ثم تجد نفسك هنا في متاهة: هل ألقوه أم باعوه؟ ومن الذي أنقذه أو اشتراه؟ تجار إسماعيليون أم مديانيون؟ التضارب هنا يصل قمته فلا تخرج بطائل.
وعليه فلا مناص من الاعتراف بأن التوراة، مجموعة جمة من التآليف التي اشترك في وضعها مجموعة مؤلفين، اختلفوا، ولم يلتقوا أبدا لتصفية ما بينهم من خلافات، وأن هذه المجموعة من التآليف تعنى بمسائل دينية ودنيوية وسياسية وأدبية وتاريخية. أما الذي يجب الإشارة إليه وعدم إهماله فهو شهادة العهد القديم نفسه في كثير من الإشارات الواضحة إلى أسفار يحيلنا إليها، فلا نجدها ضمن المقدس المجموع، مما يدلل بسفور على ضياع كثير من الكتب والأسفار ونموذجا لذلك، وهنا سنحاول الحصر، وسنأتي بالنصوص التوراتية التي تحيلنا لمزيد التفصيل في أسفار أخرى، بينما هذه الأسفار غير موجودة على الإطلاق.
لذلك يقال في كتاب حروب الرب: «واهب في سوفة وأودية أرنون» (العدد، 21: 14). (هنا سفر حروب الرب وهو غير موجود.) «فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه أليس هذا مكتوبا في سفر ياشر ، فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل» (يشوع، 10: 13). (هنا سفر ياشر، وهو مفقود بدوره.) «فكلم صموئيل الشعب بقضاء المملكة وكتبه في السفر ووضعه أمام الرب» (صموئيل الأول، 10: 25). (وهنا سفر قوانين المملكة، وهو غير موجود.) «وأمور داود الملك الأولى والأخيرة، هي مكتوبة في سفر أخبار صموئيل الرائي، وأخبار ناثان النبي، وأخبار جاد الرائي» (أخبار أيام أول، 29: 29). (وهنا ثلاثة أسفار هي أخبار صموئيل الرائي وناثان النبي وجاد الرائي، وهي بدورها لا يعلم شيء عنها.) «وبقية أمور سليمان الأولى والأخيرة، إما هي مكتوبة في أخبار ناثان النبي، وفي نبوءة أخيا الشيلوني، وفي رؤى يعدو الرائي» (أخبار أيام ثاني، 9: 29). (وهنا إشارة إلى سفرين آخرين مفقودين هما سفر أخيا الشيلوني، وسفر يعدو الرائي.) «وبقية أمور يهوشافط الأولى والأخيرة، ها هي مكتوبة في أخبار ياهو بن حناني، المذكور في سفر ملوك إسرائيل» (أخبار أيام ثاني، 20: 34). (وهنا سفر آخر مفقود هو سفر أخبار ياهو بن حناني.) «وبقية أمور عزيا الأولى كتبها إشعيا بن آموص النبي» (أخبار أيام ثاني، 26: 23). (والإشارة هنا إلى سفر من إشعيا المعروف؛ فالسفر المفقود هنا لإشعيا النبي، وقد دونه عن الملك الإسرائيلي عزيا.) «وبقية أمور حزقيا ومراحمه، ها هي مكتوبة في رؤيا إشعيا بن آموص النبي» (أخبار أيام ثاني، 32: 32). «وكذلك فإن أخبار الملك الإسرائيلي حزقيا بدورها ليست مدونة في سفر إشعيا المعروف؛ وعليه فهناك سفر دونه إشعيا عن أخبار هذا الملك فقد بدوره، ما كان هو ذات السفر المفقود الذي أشرنا إليه في الفقرة السابقة مباشرة.» «ورثى أرميا يوشيا، وكان جميع المغنين والمغنيات يندبون يوشيا في مراثيهم إلى اليوم، وجعلوها فريضة إسرائيل» (أخبار أيام ثاني، 35: 25). «وهنا إشارة لمراث كتبها النبي أرميا على الملك الإسرائيلي يوشيا، الذي قتل على يد الفرعون المصري نخاو، وأن تلك المراثي كانت ترتل كطقس فرضي على بني إسرائيل في صلواتهم، أو في تاريخ المناسبة السنوي، وهي غير موجودة في أرميا أو مراثيه الموجودة بالعهد القديم الموجود بين أيدينا، مما يشير إلى كونها شكلت سفرا بذاتها فقد بدوره.» «وكان بنو لاوي رءوس الآباء مكتوبين في سفر أخبار الأيام إلى أيام يوحانان بن الياشيب» (نحميا، 12: 23). (وبالبحث في السفر الموجود بالعهد القديم والمعروف بأخبار الأيام الأول، والسفر المعروف بأخبار الأيام الثاني، لم نجد تلك الإشارات حتى يوحانان بن الياشيب، مما يقطع بوجود سفر أخبار أيام ثالث هو المقصود بتلك الإشارة، وهو غير موجود بالعهد القديم، مما يشير إلى ضياعه بدوره.)
وتأسيسا على ذلك يمكن القول إن هناك ستة عشر أو سبعة عشر كتابا قد ضاعت من العهد القديم، وربما يصل الرقم إلى عشرين إذا أخذنا بإشارات إلى ثلاثة كتب مفقودة تنسب إلى الملك سليمان، هذا عدا ما ضاع ولم تشر إليه أسفار العهد القديم، ولم نعلم بأمره. وكان ضياع تلك الأسفار وغيرها أمرا محتوما، اقتضته ظروف المنطقة والحروب التي خاضها الإسرائيليون، والتي تعرض أثناءها هيكلهم للتدمير والتلف أكثر من مرة. هذا إضافة للمدة الطويلة التي تطلبها تدوين ذلك المقدس الهائل، والتي امتدت زمنا طويلا، وكان هذا بحد ذاته مدعاة لنقص شديد تعرض له ذلك الكتاب، الذي يلقي بظله على أي بحث ديني أو تاريخي فيه. ناهيك عن خضوع الأسفار لمؤثرات مختلفة وعديدة باختلاف الأزمان والأحداث التي عملت فيها حذفا أو زيادة، حتى إنك تجد اليوم نزاعا داخل المؤسسات اللاهوتية ذاتها، حول مدى أصالة سفري الجامعة ونشيد الأنشاد، وهل هما مقدسان يهوديان، أم دخيلان من ديانات أخرى. (2) تدوين العهد القديم وترجمته
انتهى التطور الأخير لأعمال مدرسة يوليوس فلهاوزن الألمانية حول الكتاب المقدس (1844-1918م)، إلى الكشف عن وثائق أربعة مختلفة يتكون منها المقدس اليهودي التوراتي (العهد القديم)، هي على الترتيب: (1)
مصدر يهوي
Jaheist : ويرمز له اختصارا بالرمز
J
وقد أخذت التسمية من اسم الإله يهوه
Jahouva
لأنه الاسم الإلهي الغالب على الاستعمال في هذا المصدر، ويرجع تأليفه إلى حوالي عام 850ق.م في مملكة يهوذا؛ أي المملكة الجنوبية. وقد ركز هذا المصدر على الوعد الذي أعطاه الله للبطاركة من إبراهيم إلى موسى. وإن كان يحق لنا أن نرى ذلك التركيز في هذا المصدر، محاولة لإضفاء الشرعية التاريخية والدينية، على الائتلاف الذي أنشأه داود، بوضعه هو وأسلافه في خضم تاريخ أقدم، لجعل مملكة داود ميثاقا وعهدا مع الله، يمتد شرعا إلى العهد مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى، ويمنح وحدة القبائل المعروفة بالأسباط وجودا تاريخيا قديما، وهي الوحدة التي لم تتحقق إلا بعد خروج القبائل الإسرائيلية من مصر، بقصد وضع أساس قومي تاريخي متين للدولة التي وحدت القبائل، حتى يصعد بتاريخ تلك القومية التاريخية عبر الأنساب إلى زمن الخلق الأول. (2)
مصدر إلوهيمي
Elohist : ويرمز له اختصارا بالرمز
E
نسبة إلى الاسم الإلهي الغالب في ذلك المصدر وهو إيل
EL
أي الإله، وإللوهيم أي الآلهة، ويرجع زمن تأليفه إلى حوالي 770ق.م، ويرجح أنه قد تم تأليفه في المملكة الشمالية إسرائيل، ثم تم بعد ذلك إدماج المصدرين اليهوي
J
والإلوهي
E
في مجموعة واحدة يرمز إليها بالرمز
EJ
وذلك حوالي عام 650ق.م. وقد عني هذا المصدر، باستكمال النقص الذي حدث في المصدرين اليهوي والكهنوتي الذي سياتي ذكره الآن. (3)
سفر التثنية
Deuteronomy : ويرمز له اختصارا بالرمز
D
ويعني بالإغريقية «القانون الثاني»، ويعد مصدرا منفصلا، تم تأليفه خلال القرن السابع قبل الميلاد، وتزعم الرواية التوراتية أنه كان مخفيا في مكان أو فجوة بجدران المعبد، وتم الكشف عنها عام 622ق.م أثناء حكم الملك اليهودي «يوشيا» عند ترميم معبد أورشليم (ملوك ثاني، 22: 3-10؛ و22: 3-25)؛ حيث عثر المرممون في وجود كبير الكهنة «حلقيا» على كتاب الشريعة وأحضروه للملك، فترك فيه أثرا عظيما، حتى قام بموجبه يحرم كل الطقوس المختلفة عن الوثنية، وقصر العبادة على معبد يهوه في أورشليم وحده. لكن الملاحظ هو تعرض ذلك المصدر لكثير من الحشو والإضافات من عناصر ثقافية لا علاقة لها بالبيئة الصحراوية البدوية، وواضح أن كاتبها ينتمي لثقافة دولة متماسكة يحكمها ملك، ويعنى هذا السفر بالإضافة للشريعة، بوضع تشاريع الحرب وما جاء من أوامر إلهية بشأنها. (4)
المصدر الكهنوتي
: ويرمز له اختصارا بالحرف
وهو تجميع كهنوتي يرجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد، ويركز على شعائر العبادة والطقوس، ويعود للتركيز على العهد مع نوح وإبراهيم وموسى وداود، ويقوم جوهره على وجوب إخلاص اليهود للعهد حتى يستحقوا الخلاص والوفاء بالعهد، وذلك عن طريق التزامهم شريعتهم بدقة، وشريطة أن يتمسكوا بلحظتين تاريخيتين جوهريتين: لحظة العهد القديم مع الله الذي أخذوا فيه الأرض مقابل الختان، أما اللحظة الأهم والأخطر فهي لحظة الإنقاذ بكبرى المعجزات (فلق البحر) عند الخروج من مصر، لذلك يكاد العزف على معجزة البحر عند اليهود، يشكل ترنيمة دائمة، وركنا أساسيا في الاعتقاد، ويرجع زمن ذلك المصدر إلى عهد «عزرا»، وقد تم إدماج هذا المصدر مع المصدر اليهوي والمصدر الإلوهيمي حوالي نهاية القرن الخامس قبل الميلاد.
وانتهت المدرسة الألمانية، إلى أنه قد تم تجميع المصادر الأربعة في كتاب واحد، هو العهد القديم، حوالي عام 200ق.م، أما الأسفار المتأخرة مثل سفر المكابيين الأول والثاني (في النسخة السبعينية اليونانية)، فقد تم تحريرها خلال القرن الأول قبل الميلاد. إلا أن مدرسة «فلهاوزن» قامت بعمل جريء حقا عندما عكست الترتيب اللاهوتي التقليدي القديم لتأليف الأسفار، بناء على ما أصبح بيدها من نتائج، وبحيث أصبح الترتيب يعاد على النحو التالي: أسفار الأنبياء، فالأسفار التاريخية، ثم أسفار موسى الخمسة مضافا إليها سفر يشوع لتتشكل التوراة من ستة أسفار بدلا من خمسة، ثم أضيفت إليها الأسفار بترتيب منهجي حسب مادتها، وليس حسب الترتيب الزمني لتأليفها.
أما عن الطرق والوسائل والأدوات التي استخدمها مؤلفو التوراة ومحرروها في التدوين، فهي ما يمكن استخراجه من الكتاب المقدس ذاته؛ فنجد سفر أرميا (2: 36) يحدثنا عن تدوين الأدراج، بمعنى اللفائف، وتكتب من اليمين إلى اليسار. وقد أكدت ذلك الأسلوب في الكتابة أسفار عدة؛ مثل سفر حزقيال (2: 9؛ 3: 1) وسفر زكريا (5: 2؛ 1) وسفر المزامير (40: 8). وأما الأداة التي استخدمت في الكتابة على اللفائف، فكانت أحيانا قلم الاردواز كما يذكر المزمور (45: 2)، أو باستخدام الأحبار كما في سفر أرميا (36: 18).
ويبدو أن تلك الأدراج قد بدأت بأوراق البردي المصرية، ثم تطورت إلى الكتابة على الرق (الجلود)، وظلت تلك المخطوطات على هيئة اللفائف حتى جاء القرن الثالث قبل الميلاد حيث بدأت تأخذ شكل الكتب، مع الاستمرار في العمل بنظام اللفائف، وهو نظام لا زال معمولا به إلى اليوم في الأشكال الطقسية التي تمارس في المعابد «من باب تحنيط التاريخ»، ونجد ذلك مستعملا خاصة في أسفار التوراة وسفر أستير بشكل محدد.
إلا أن أول أسلوب اتبعه الإسرائيليون في التدوين، وإن كان غير موجود منه الآن أي أثر يشير إليه، أو لم يعثر على شيء منه حتى تاريخه، فهو أسلوب النقش المصري القديم على المسلات، وكان أول من اتبعه النبي موسى، واستخدمه في كتابه ألواح الشريعة الحجرية، والمزعوم أنها نقرت على الحجر أو نقشت بيد الإله نفسه، ووردت قصتها في عدد من الإصحاحات المتفرقة في سفر الخروج التي جمعناها ورتبناها حسب ترتيب ورودها كالتالي: «وقال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل وكن هناك، فأعطيك لوحي حجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم ... ودخل الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة» (خروج، 24: 12، 13، 18). «ثم أعطى موسى عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء، لوحي شريعة مكتوبين بإصبع الله» (خروج، 31: 18). «فانصرف موسى ونزل من الجبل، ولوحا الشهادة في يده؛ لوحان مكتوبان على جانبيهما، من هنا وهناك كانا مكتوبين، واللوحان هما صنعة الله، والكتابة كتابة الله، منقوشة على اللوحين ... وكان عند اقترابه من المحلة أنه أبصر العجل والرقص، فحمي غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل» (خروج، 32: 15، 16، 19). «ثم قال الرب لموسى: انحت لك لوحين من حجر مثل الأولين، فأكتب أنا على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين، اللذين كسرتهما ... فنحت لوحين من حجر كالأولين، وبكر موسى في الصباح، وصعد إلى جبل سيناء كما أمره الرب وأخذ من يديه الحجر» (خروج، 34: 1-4).
وقد جاء في الأثر الإسلامي: «إن الله تعالى خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده.»
2
كما جاء في الآيات الكريمة:
وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة (الأعراف: 144).
هذا بالإضافة إلى أسفار الشريعة، التي أمر موسى أتباعه بكتابتها، وبذات الطريقة، وهو ما يتضح في قوله لهم: «يوم تعبرون الأردن إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك، تقيم لنفسك حجارة كبيرة، تشيدها بالشيد، وتكتب عليها جميع كلمات هذا الناموس ... حين تعبرون الأردن تقيمون هذه الحجارة، التي أنا أوصيكم بها اليوم، في جبل عيبال، وتكلسها بالكلس ... وتكتب على الحجارة جميع كلمات هذا الناموس، نقشا جيدا» (تثنية، 27: 2، 4، 8).
أما اللغة التي دونت بها الأسفار، فهي كما جاء على غلاف العهد القديم من الكتاب المقدس: العبرانية والكلدانية، والعبرانية، كما يقرر المقدس التوراتي أن اللغة العبرية هي لغة أو لسان أو شفة كنعان الفلسطينية (إشعيا، 19: 18). وإن كان من المفيد العلم أن بعض الأجزاء قد كتبت باللغة الآرامية، وأجزاء أخرى كتبت بالخط المربع (الآشوري) بعد السبي البابلي، وقد استخدم تلك اللغة «عزرا» صاحب معظم أجزاء العهد القديم.
أما المنطق التاريخي، فيفترض أن بدء الكتابة، بل وربما اللغة، التي استخدمها الخارجون من مصر بقيادة موسى، هي اللغة المصرية، خاصة إذا كانت الأدوات والأسلوب مصريين، وهو ما يجعل المدونات العبرية أمرا متأخرا حدث بعد موسى بزمان، وهو ما سبق وأثبتناه في الصفحات السابقة، كما يستحسن الفرض تقدير أن مؤلفي الكتاب المقدس قد تكلموا اللغة المصرية القديمة، شأنهم شأن بقية الأقوام التي دخلت مصر، هذا ناهيك عن ميلاد موسى في مصر ونشأته نشأة مصرية، وشهادة المقدس له بأنه تثقف ثقافة مصرية وأنه كان متفقها بكل حكمة المصريين.
بل وربما ذهب الافتراض حد القول إن لغة التخاطب بين موسى وربه في سيناء، كانت اللغة المصرية القديمة وليست العبرية، التي لم يكن موسى يعرفها أصلا؛ حيث ولد في مصر وعاش فيها ثم خرج منها حتى مات ولم تطأ قدمه أرض فلسطين حيث شفة كنعان التي عرفت بعد بالعبرية،
3
هذا ناهيك عن كون لفظة توراة ذاتها من الألفاظ المصرية، ومعنى تورا
Torah
في العبرية (الشرعية) من
Tororh (توروث)،
4
وهي ترتبط - في رأينا - بعبادة الثور المقدس في المصرية القديمة.
5
أما عن ترجمات ذلك الأثر الهائل عن لغاته الأصلية، فمعلوم أن الترجمة العربية المتداولة الآن، قد تمت عام 1865م، أما الترجمة الإنجليزية فقد تمت في عهد الملك جيمس عام 1611م، وكلا الترجمتين تمت عن الأصل العبري المعروف بالنص المازوري، الذي سبق تدوينه في القرن العاشر الميلادي ؛ أي بعد ثلاثة قرون من تدوين القرآن الكريم.
ومن المفيد العلم أن النص المازوري المدون قبل القرن العاشر كان غير مصحوب بالإشارات والحركات والنقاط فوق أو فيما بين الحروف الساكنة، وعند تدوين النص المازوري (المفترض أنه كان نصا قديما) تم اقتباس حركات النظام البابلي للحركات.
وهناك نص آخر باللغة اليونانية القديمة، يعرف بالنص السبعيني، وقد تم كتابته حوالي سنة 283 قبل الميلاد، على يد اثنين وسبعين فقيها يهوديا مصريا، بأمر ملك مصر آنذاك «بطليموس فلادفيوس». وتزيد هذه النسخة عن النص المازوري أربعة عشر سفرا، وتلك الأسفار هي:
سفر طوبيا وهو وصف لسيرة أسير إسرائيلي، في الأسر الآشوري بمدينة نينوى، في القرن السابع قبل الميلاد.
سفر الحكمة لسليمان ويشمل أمثلة حكمية وعظات ضد الوثنية.
أسفار المكابيين وعددها أربعة أسفار، تتحدث عن المكابيين الذين حكموا فلسطين حكما وطنيا في عهد الرومان، في القرن الثاني قبل الميلاد، وجاء اسمهم في الشعار الذي كانوا يتنادون به في الحروب وهو «مي كاموخا بجييم يهوفا»؛ أي «من مثلك بين الأمم يا يهوه؟» فأخذ من كل كلمة حرف «م كاب ي» شكلت الاسم «مكابي».
سفر يهوديت وهو قصة أرملة يهودية، غنية وتقية، ساعدت اليهود في الانتصار على الجيش الآشوري.
سفر الكهنوت أو سفر الحكمة ليسوع بن سيراخ، وهو مجموعة أمثال على غرار أمثال سليمان.
سفر تسبيحه الفتية الثلاثة وهي تسابيح يقال إن أصدقاء دانيال الثلاثة رنموها وهم في أتون النار (وردت قصة الإلقاء في النار بالقرآن الكريم لكن حول الأب إبراهيم، والتوراة لم تذكر ذلك في قصة ذلك البطرك).
سفر سوزان
Suzane
أو قصة سوسنة العفيفة، وهو تمجيد من النبي دانيال لقاض دحض وشاية ضد سوسنة العفيفة.
سفر بعل والتنين، وهو قصة تم إلحاقها بسفر دانيال تشرح كيف تم إقناع قورش ملك فارس بنبذ عبادة الأصنام.
هذا إضافة إلى ثلاثة أسفار منسوبة إلى عزرا، وإصحاحات تمت زيادتها على الأصل المازوري في أسفار «أستير» و«دانيال »، والمعلوم أن الكنيسة لم تتخل عن النص اليوناني السبعيني إلى النص العبري المازوري، إلا بعد القرن العاشر الميلادي؛ حيث أصبح النص المازوري هو النسخة المعتمدة للعهد القديم، ورغم ذلك ما زالت الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، والكنيسة الروسية، وكنائس شرق أوروبا، تستعمل النص السبعيني اليوناني. (3) الخرافة في العهد القديم
سبق وأشرنا في بحوثنا المنشورة إلى المصداقية التاريخية في النص التوراتي، والمصداقية هنا لا تعني أمرا لاهوتيا أو علاقة ما بالغيبيات، قدر ما تعني مدى مطابقة النص لوقائع وأحداث أثبتتها نصوص تاريخية أركيولوجية أي مصداقية موضوعية بحتة، وتلك الإشارة واجبة تماما وهامة، لكن مع الحذر في احتساب نص بعينه صادقا لمجرد مطابقة بعض أحداثه مع أحداث تاريخية واقعية، بل يجب القول إنه قد دخله حشو وإضافات ومتراكمات وزيادات خرجت به عن معنى المصداقية الحقة، وأنه هناك فقط ظل من حقيقة، بل وظل باهت، ونموذجا لذلك، أسماء المدن والمواضع وأخبار المعارك والحروب، وسير الأنبياء والملوك؛ لأنه من المستحيل علميا أن نتغاضى عن آلاف أسماء للمواضع الجغرافية التي وردت بالعهد القديم، لمجرد أنها وضعت في سياق من الخرافة الواضحة، خاصة إن علمنا أن هناك - كمثال - مواضع عديدة وكثيفة مرت بها رحلة الخروج من مصر إلى فلسطين، ومن العبث أن تكون كل تلك الأسماء لهذه المواضع قد ذكرت عبثا، أما الأهم حقا، فهو ما جاء في روايات تثبت معرفة مدهشة لدى الكاتب التوراتي بشئون تاريخية قديمة كانت مخفية عنا، ولم نعلم بأمرها إلا بعد كشف المناطق الأثرية القديمة في حضارات المنطقة، وفك لغات تلك الحضارات، كمعرفة العهد القديم العجيبة، لأسماء مدن مصرية، أهال عليها الزمان النسيان، بعد أن أهالت عليها الرياح تلول الرمال، ولم نكشف عنها ونعرفها إلا حديثا، كذلك أسماء بعض الفراعنة مثل «شيشنق» و«نخاو»، أو مثل اسم زوجة النبي يوسف المصرية «إسنات بنت فوطي-فا-رع، كاهن مدينة أون»، وهو ما جاء ذكره في سفر التكوين (41: 45)، ولم نعلم إلا حديثا باسم «رع» إله الشمس المصري، كما لم نعرف ما هي «أون» إلا بعد فك الطلاسم القديمة التي كشفت أن مدينة عين شمس الحالية كانت حاضرة مصرية عظيمة باسم «أون»، أو ما جاء عن مدينة «رعمسيس» في سفر التكوين (47: 11)، وهي المدينة التي لم نعثر عليها حتى الآن بشكل قاطع، لكننا وجدنا بشأنها برديات تتحدث عنها وتصف معالمها بكل دقة، إضافة لنشيد مديح مدينة «رعمسيس» المنسوب للشاعر «بنتأرو»، ناهيك بالطبع عن الاسم «رعمسيس» ذاته كدلالة تامة الصدق والمطابقة لاسم الفرعون «رعمسيس» بنطقه المصري القديم، قبل تحريفه إلى «رمسيس» بإهمال حرف ال «ع».
6
أضف إلى ذلك حديث التوراة عن مركبات فرعون (تك 41: 43 مثلا)، أو معرفة التوراة أن المصريين كانوا يعتبرون الرعاة رمزا للشر وأنجاسا ملاعين، كما في سفر التكوين (46: 34؛ و43: 32)، وهو أمر كشفت عنه علوم المصريات الحديثة، إضافة إلى معرفة التوراة الدقيقة بالأسلوب المصري في التعامل مع الموتى وطقوس التحنيط والدفن، وهو ما ذكرته التوراة عن دفن يعقوب في مصر، وأنه تحنيطه خلال أربعين يوما، ثم البكاء والندب عليه سبعين يوما (سفر التكوين، 50: 1-3)، وهو طقس لم نكن أبدا على علم به قبل فك أسرار المصريات القديمة.
وكثير مما يتعلق بشئون مصر القديمة أثبتت التوراة معرفة دقيقة به، مثل قصة سفط البردي (خروج، 2: 3)، وأسلوب البناء بالطوب اللبن، الذي يؤخذ من طمي النيل ثم يخلط بالتبن ويجفف، وذكره سفر الخروج (5: 6-17)، كذلك معرفة الكتابة بالحفر على المسلات، كما جاء في سفر الخروج (24: 12-13؛ و31: 18)، أو معرفتهم بصفات التابوت المقدس بدقة مدهشة تكاد تطابق التوابيت المصرية الملكية، وهو ما جاء ذكره في سفر الخروج (35: 10) مع إفراد إصحاحات كاملة بذات السفر لمواصفات ذلك التابوت، أو عبادة عجل أبيس في سيناء (خروج، 32: 1-19)، أو مركبات الشمس التي ورد ذكرها في سفر ملوك ثاني (23: 11)، وهي من أحدث الكشوف الحالية في المصريات القديمة.
لكن ذلك كله أمر، والتعامل مع النص بكامله كنص صادق تاريخيا أمر آخر؛ لأن التناقضات التي ينطوي عليها العهد القديم، يمكن أن تؤلف وحدها كتابا قائما بذاته، لا يقل حجما عن الكتاب المقدس، لو أردنا أن نجمعها في مدون واحد، وهذا بحد ذاته كفيل بنزع الثقة عن التوراة وأخبارها منذ البدء، وحتى الأحداث التي ترويها، كوقائع حدثت في القرن التاسع قبل الميلاد على الأقل؛ ففي التوراة مبالغات لا يمكن قبولها إطلاقا، وهي أقرب إلى الأسطورة منها إلى التاريخ الصادق.
وسنحاول هنا ضرب بعض الأمثلة التي تدخل روايات التوراة في عداد الخرافات البسيطة، والمركبة؛ فسفر القضاة مثلا يحدثنا كيف قتل «شمشون» ألف فلسطيني بفك حمار (سفر القضاة، 15: 16)، وهناك روايات تحتوي على أرقام خيالية إلى حد بعيد، كما في تقرير سفر الملوك الأول «فضرب بنو إسرائيل من الآراميين مائة ألف رجل في يوم واحد» (20: 29)، والحديث هنا عن حرب دارت بين «آخاب» ملك إسرائيل، وبين «بنحدد» ملك دمشق، حوالي عام 860ق.م، ومثل ذلك الحديث ليس فقط عسير التصديق، بل هو كذب فاضح؛ لأن مملكة دمشق بكاملها لم تكن تحتوي على مائة ألف رجل يمكن قتلهم في يوم واحد بل ربما لم يبلغ سكانها جميعا رجالا ونساء وأطفالا هذا الرقم العظيم.
وفي تلك الخرافات ما يعد لونا من الأساطير المشروعة إيمانا، ولا زالت موضع تصديق وإيمان في اليهودية والمسيحية، بل وفي الإسلام مع بعض التعديل، مثل قصة وجود آدم في الجنة وأكله من الثمرة المحرمة، وحديث حواء مع الحية التي تتكلم:
7
وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت الحية للمرأة: أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجرة الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمرة الشجرة التي في وسط الجنة، فقال الله: لا تأكلا منه وتمساه، لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه، تنفتح أعينكما، وتكونان كالله عارفين الخير والشر. (تكوين، 3: 1-5)
ومن قبيل تلك المصدقات الإيمانية، المبالغة الهائلة في أعمار الرعيل الأول من البشرية:
فكانت كل أيام آدم التي عاشها تسعمائة وثلاثين سنة. (تكوين، 5: 5)
فكانت كل أيام شيث تسعمائة سنة واثني عشر سنة ومات. (تكوين، 5: 8)
فكانت كل أيام آنوش تسعمائة وخمسين سنة ومات. (تكوين، 5: 11)
فكانت كل أيام قينان تسعمائة وعشر سنين ومات. (تكوين، 5: 14)
فكانت أيام مهلائيل ثمانمائة وخمسا وتسعين سنة ومات. (تكوين، 5: 17)
فكانت كل أيام يارد تسعمائة واثنتين وستين سنة ومات. (تكوين، 5: 20)
فكانت كل أيام أخنوح ثلاثمائة وخمسا وستين سنة ومات. (تكوين، 5: 23)
فكانت كل أيام متوشالح تسعمائة وتسعا وستين سنة ومات. (تكوين، 5: 27)
فكانت كل أيام لامك سبعمائة وسبعا وسبعين سنة ومات. (تكوين، 5: 31)
فكانت كل أيام نوح تسعمائة وخمسين سنة ومات. (تكوين، 9: 29)
ثم هناك أحاديث أخرى عن إنجاب الله لأبناء تزوجوا من آدميات فأنجبوا جيلا من الجبابرة، وهو ما جاء نصا:
وحدث لنا وابتدأ الناس يكثرون على الأرض، وولد لهم بنات، أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسان، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا، فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد لزيغانه، هو بشر وتكون أيامه مائة وعشرين سنة وكان في الأرض طغاة في تلك الأيام، وبعد ذلك إذا دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا، هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ أبد الدهر ذوو اسم.
8 (تكوين، 6: 1-4)
ومن باب تمجيد الآباء الأولين للقبيلة الإسرائيلية، نجد قصة تقول إن عددا من الملوك العظام «إمرافل ملك شنعاء، وإريوك ملك الأسار، وكدر لعومر ملك عيلام، وتدعال ملك جوييم» قد تحالفوا في حرب ضد مجموعة ملوك لدويلات أخرى في المنطقة هم «بارع ملك سدوم، وبرشاع ملك عمورة، وشنآب ملك أدمة، وشمئيبر ملك صبوييم، وملك بالع التي هي صوغر»، وتمت هزيمة الحلف الثاني، وكان بين أسرى المهزومين «لوط» ابن أخي «إبراهيم» وهنا تقول القصة ببساطة إن النبي إبراهيم أخذ ثلاثمائة رجل من أتباعه وهزم حلف الدول الكبرى، أو كما جاء في النص:
فلما سمع إبرام أن أخاه سبي، جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته، ثلاثمائة وثمانية عشر، وتبعهم إلى دان، وانقسم عليهم ليلا هو وعبيده فكسرهم، وتبعهم إلى حوبه التي عن شمال دمشق، واسترجع كل الأملاك. واسترجع لوطا أخاه أيضا، وأملاكه، والنساء أيضا، والشعب. (تكوين، 14: 13-16)
هذا ناهيك عن ظهور الإله (بهيئة تشبه ما تحدثنا به الأساطير عن الجن) للبطاركة الأوائل، وحديثه معهم، وصراعه مع يعقوب، أو مثلما جاء في قصة لقائه بموسى وأتباعه وهو في هيئة أقرب إلى التماثيل. «ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو، وسبعون من شيوخ إسرائيل، ورأوا إله إسرائيل، وتحت رجليه شبه «صنعة من العقيق» الأزرق الشفاف، وكذات السماء في النقاوة، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل، فرأوا الله، وأكلوا وشربوا» (خروج، 24: 9-11). (والمعلوم أن العقيق الأزرق هو فيروز سيناء الذي صنع منه المصريون تماثيل آلهتهم.)
وغير ذلك كثير وكثيف، نشير إليه في عجالة، مثل: العصا الحية (خروج، 4: 1-5)، وضرب يهوه للمصريين بضربات أسطورية (خروج، 7)، أو فلق البحر (خروج، 14)، وانشقاق نهر الأردن (يشوع، 3: 16-17)، وسقوط مدينة أريحا بمجرد أن صرخ عليها الإسرائيليون مع طبول وزمور وأبواق (يشوع، 6)، وإيقاف يشوع للشمس والقمر حتى ينتهي من القضاء على أعدائه (يشوع، 10: 12-4)، وعكاز الملاك الذي يحرق اللحم (قضاة، 6: 21)، وتحضير الأرواح (صموئيل، 28: 11-20)، ومعجزات شمشون في سفر القضاة (14: 4؛ 14: 5؛ 15: 15؛ 16: 30)، وإحياء النبي إيليا للطفل الميت (ملوك، 17: 21-22)، والأمر الذي أصدره إيليا بهبوط نار من السماء تأكل جنود الأعداء (ملوك ثاني، 1: 10-12)، ثم صعوده إلى السماء (ملوك ثاني، 2: 1، 11)، وقيام رداء إيليا بعد ذلك بدور عصا موسى في فلق الماء (ملوك ثاني، 2: 8، 14)، أو حروب الله مع التنين لوايثان (إشعيا، 27: 1).
وعليه، فإن النص التوراتي من وجهة نظرنا ليس أكثر من وثيقة أسطورية، لكنه كأي وثيقة أسطورية أخرى، وحسب منهجنا الذي اتبعناه في أعمالنا، يمكن أن يقدم لنا - إذا تعاملنا معه عمليا - مادة تاريخية نادرة لم تسعفنا بها الكشوف الأركيولوجية، وأن يضيء لنا مساحات مظلمة من التاريخ لم يكشف عنها البحث الآثاري بعد، ولكن وفق أصول وقواعد ومنهج صارم، وهو ما سبق وأن قدمنا له نماذج في أعمالنا المنشورة، لكن في نفس الوقت، يمكن لباحث مغرض أن يقرأه قراءة أخرى، بأغراض بعينها، وفق أيديولوجيا خاصة، فينطق بأمور أبعد ما تكون عن الصدق والموضوعية والعملية، وهو ما سنجد له نموذجا مثاليا في الباب الثالث من هذا الكتاب. (4) الأنبياء في العهد القديم
من الجدير بالذكر هنا، منعا للالتباس، أن الآباء الأوائل أو البطاركة، من إبراهيم إلى موسى في التوراة، لا يحتسبون أنبياء بالمعنى المفهوم والسائد وفق الطروحات الإسلامية، وتبدأ النبوات فقط في العهد القديم بموسى. أما عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب ... إلخ؛ فهم مجرد أسلاف يجب الإعزاز بهم وبسيرتهم، رغم علاقتهم بالإله، ورغم أنهم أصحاب الوعد، فهم ليسوا أنبياء بالمعنى المفهوم في الإسلام؛ لأن النبوة في الفهم التوراتي هي التنبؤ، والقدرة على قراءة المغيبات. هذا بالطبع مع أمور أخرى تفصيلية تضع هؤلاء البطاركة الأوائل على المستوى الأخلاقي، في صف الأفراد العاديين، الذين يمكن أن يرتكبوا أمورا يمجها التذوق المبني على الفهم الإسلامي لمعنى النبوة، فالنبي إبراهيم مثلا يتاجر بشرف زوجته سارة في مصر، وفي جرار الفلسطينية، للحصول على الأموال، ويتم سرد ذلك دون أي تحرج (تكوين، 12: 11-20؛ وتكوين، 20: 1-7، 14)،
9
وهو الأمر الذي يكرره بعد ذلك ابنه إسحاق في جرار كما ورد في سفر التكوين (26: 7-10).
وفي قصة هلاك سدوم وعمورة، ينجو لوط مع ابنتيه الوحيدتين، ويسكن في مدينة «صوغر»، لكنه لسبب غير مفهوم يتركها إلى الصحراء وتحكي الرواية بعد ذلك:
وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه؛ لأنه خاف أن يسكن في صوغر (؟!)، فسكن في المغارة هو وابنتاه، وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض، هلم نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه، فنحيي من أبينا نسلا، فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: إني قد اضطجعت البارحة مع أبي، نسقيه خمرا الليلة أيضا، فادخلي اضطجعي معه فنحيي من أبينا نسلا، فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، فحبلت ابنتا لوط من أبيهما، فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب، وهو أبو الموآبيين إلى اليوم، والصغيرة ولدت ابنا ودعت اسمه بني عمي، وهو أبو بني عمون إلى اليوم. (تكوين، 19: 30-38)
وعليه فلن تصيبنا الدهشة إن وجدنا «يعقوب» ابن «إسحاق» الأصغر يحتال على أبيه ليسرق ميراث أخيه الأكبر «عيسو» (تكوين، 27)، أو حين نجد «راحيل» زوجة «يعقوب» تغادر بيت أبيها مع زوجها فتسرق الأصنام من أبيها عشقا في عبادتها (تكوين، 31: 19)، كما لن ندهش إذا وجدنا الأسباط المكرمين يلقون بأخيهم الأصغر «يوسف» في بئر للتخلص منه (تكوين، 37: 18-38)، ولا أن يتزوج «عمران» من عمته يوكابد (خروج، 6: 20)، ولا أن يوعز الرب لموسى بسرقة ذهب النساء المصريات (خروج، 3: 21-22 وخروج، 12: 35-36). وربما لا نصعق إذا ما علمنا أن الرب قرر موت موسى وهارون لأنهما قاما بخيانته (التثنية، 38: 50-50)، أو أن يتم اختيار «شاول» كأول ملك لإسرائيل، لا لميزة فيه سوى طوله وجماله (صموئيل الأول، 9: 2؛ 10: 23) أو اختيار «دواد» لأنه كان أشقر وحلو المنظر (صموئيل الأول، 16: 12؛ 17: 42)؛ ومن ثم فلا يجب أن ننزعج إذا أوعز لنا ذلك المقدس، بأمر علاقة شاذة تقوم بين «داود» وبين الصبي يوناثان بن شاول (صموئيل الثاني، 1: 26)، أو أن يبدأ «داود» حياته مطبلا للزار ومزمرا لإخراج العفاريت التي ركبت «شاول» كما في (صموئيل، 16: 23)، وربما يجب أن نقبل المبررات التي قدمها المقدس، والتي تم فيها تبخيس «نابال» وتصويره خسيسا، حتى يسوغ لداود أخذ امرأته، وهو ما جاء في سفر صموئيل الأول (25)، ولطرافته يمكن سرد نصه القائل:
واسم الرجل نابال، واسم امرأته أبيجايل، وكانت المرأة جيدة الفهم وجميلة الصورة وأما الرجل فكان قاسيا وردئ الأعمال ... وبعد نحو عشرة أيام ضرب الرب نابال فمات ... وأرسل داود وتكلم مع أبيجايل ليتخذها له امرأة ... وصارت له امرأة.
ومثل تلك القصة نموذج آخر بطله «داود» أيضا، وهي بدورها قصة غرامية انتهت باستيلائه على زوجة أخلص ضباطه أوريا الحثي (وكان يعمل تحت قيادة يوآب) بعد أن ضاجعها في غياب زوجها للدفاع عن حدود الدولة، فحبلت في الحرام بولده الذي سيصبح أشهر ملوك إسرائيل؛ سليمان، وهي كما وردت نصيا:
وكان في وقت المساء أن قام داود عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحم، وكانت المرأة جميلة المنظر جدا، فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقال واحد: أليست هذه بتشبع بنت أليعام، امرأة أوريا الحثي؟ فأرسل داود رسلا وأخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها، ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت: إني حبلى . فأرسل داود إلى يوآب يقول: أرسل إلي أوريا الحثي. فأرسل يوآب أوريا إلى داود، فأتى أوريا إليه فسأله داود عن سلامة يوآب وسلامة الشعب ونجاح الحرب. وقال داود لأوريا انزل إلى بيتك واغسل رجليك، فخرج أوريا من بيت الملك وخرجت وراءه حصة من عند الملك، ونام أوريا على باب بيت الملك مع جميع عبيد سيده، ولم ينزل إلى بيته، فأخبروا داود قائلين: لم ينزل أوريا إلى بيته، فقال داود لأوريا: أما جئت من السفر؟ فلماذا لم تنزل إلى بيتك؟ فقال أوريا لداود: إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام، وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي لبيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي؟! وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر، فقال دواد لأوريا: أقم هنا اليوم أيضا وغدا أطلقك، فأقام أوريا في أورشليم في ذلك اليوم وغده ... وفي الصباح كتب داود مكتوبا إلى يوآب وأرسله بيد أوريا، وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه، فيضرب ويموت. وكان في محاصرة يوآب المدينة أنه جعل أوريا في الموضع الذي علم أن رجال البأس فيه، فخرج رجال المدينة وحاربوا يوآب، فسقط بعض الشعب من عبيد داود، ومات أوريا الحثي أيضا ... فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات أوريا رجلها، ندبت بعلها، ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته، وصارت له امرأة، وولدت له ابنا. (صموئيل الثاني، 11)
وإعمالا لكل ذلك فلا يصح أن تأخذنا الدهشة عندما نجد سليمان يقتل أخاه الأكبر صاحب الحق في العرش (ملوك أول، 2: 25)، ولا عشق سليمان للنساء وعبادته لآلهة أخرى (ملوك أول، 11: 1-8)، ولا عندما نجد أمنون بن داود يعشق أخته ثامارا ويجامعها (صموئيل ثاني، 13: 1)؛ فهذه قصص أسلاف وملوك ومؤامرات قصور ودسائس، أما الأنبياء فلهم في العهد القديم شأن آخر.
والنبييم جمع كلمة «نابي» أو «نبي» العبرية، من «نبا» أي خرج وارتفع، أو ظهر وخالف القطيع، وإن كانت بقراءة التوراة العبرية تعني تماما: الهاذي أو المخبول، وظهر منهم عدد كبير من بني إسرائيل، بعضهم كان قاسيا يقرع أسماع الإسرائيليين بالقول الغليظ، إلا أن الواضح أيضا في كثرتهم، أنها أصبحت مهنة تدر على محترفها رزقا طيبا، ومن هنا نلحظ في الأسفار المتأخرة تحفظ المؤلفين وحيطتهم إزاء الأنبياء كما جاء في سفر حزقيال «فإذا ضل النبي وتكلم كلاما، فأنا الرب قد أضللت ذلك النبي، وسأمد يدي عليه وأبيده من وسط شعبي إسرائيل» (14: 9).
وكثرة هؤلاء الأنبياء كانت لا تتناسب مع قلة عدد السكان في البلاد، وهو ما يؤخذ من قول سفر ملوك أول: «فجمع ملك إسرائيل الأنبياء نحو أربعمائة» (22: 6)، لكنهم على أية حال كان بإمكانهم إشعال الحروب وخلع الملوك وتنصيب من يريدون، هؤلاء عادة ما كانوا من رجال الدين غير النظاميين، أشبه بمن نعرفهم اليوم بالدراويش، ولم يخضعوا لهيكل من الهياكل. لكنهم كانوا يزعمون تلقي الوحي من الرب بلا واسطة، وأن روح الرب قد تملكتهم فنطقت بلسانهم، وعادة ما نجد بعضهم في صف الشعب يدافعون عن قضاياه، ضد المؤسسة الدينية الرسمية وكهانها المسيسين. وقد ظهر سلطانهم ونما منذ القرن العاشر قبل الميلاد، ولم يأت منتصف القرن التاسع قبل الميلاد حتى أصبحوا من أهم عناصر الجماعة الإسرائيلية، وقام بعضهم بعقد اتصالات مع الدول الخارجية، لتقويض سلطان الداخل المرفوض. ويقول «روبنسون» إنه كانت «تعتورهم حالة نفسانية غريبة نسميها نحن الوجد، تشبه أعراضها أعراض الغيبوبة أو الصرع، ويزعمون أن كل مرجع ذلك إلى أن الشخص قد حل فيه إله ... والعجيب أنها كانت حالة معدية قد تنتقل من شخص إلى آخر، وقد نزع الأنبياء والواجدون إلى التجمع وتأليف الفرق، وتعلموا كيف يبتعثون هذه الحالة الخاصة بهم برياضات شتى كالرقص أو اصطناع الموسيقى أو تناول العقاقير.»
10
ونموذجا لذلك ما جاء في اختيار الكاهن صموئيل لشاول لمسحه بالزيت المقدس مسيحيا، كأول ملك لبني إسرائيل، فيصفه الإصحاح التاسع من سفر صموئيل الأول بالصفات «شاول، شاب، وحسن، ولم يكن رجل في بني إسرائيل أحسن منه، من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب». لكنه حتى يكون نبيا ملكا، «أخذ صموئيل قنينة الدهن ، وصب على رأسه، وقبله، وقال: أليس لأن الرب قد مسحك على ميراثه رئيسا ... إنك ستصادف زمرة من الأنبياء نازلين من المرتفعة وأمامهم رباب ودف وناي وعود، وهم يتنبئون، فيحل عليك روح الرب معهم وتتحول إلى رجل آخر» (صموئيل أول، 10).
وهذا «داود» بعد تنصيبه ملكا، يتمكن من استعادة تابوت بني إسرائيل المقدس من الفلسطينيين،
11 «فأركبوا تابوت الله على عجلة جديدة ... وداود وكل بيت إسرائيل يلعبون أمام الرب بكل أنواع الآلات من خشب السرو، بالعيدان والرباب والدفوف وبالجنوك وبالصنوج ... وكان داود يرقص بكل قوته أمام الرب، وكان داود متمنطقا بأفود من كتان، فأصعد داود وجميع بيت إسرائيل تابوت الرب بالهتافات وبصوت البوق، ولما دخل تابوت الرب مدينة داود، أشرفت ميكال بنت شاول (زوجة داود) من الكوة، ورأت الملك داود يطفر ويرقص أمام الرب، فاحتقرته من قلبها ... فخرجت ميكال بنت شاول لاستقبال داود وقالت: ما كان أكرم ملك إسرائيل اليوم؛ حيث تكشف اليوم في أعين إمائه وعبيده، كما يتكشف أحد السفهاء. فقال داود لميكال: إنما أمام الرب الذي اختارني دون أبيك، ودون كل بيته، ليقيمني رئيسا على شعب الرب إسرائيل، فلعبت أمام الرب» (صموئيل ثاني، 6).
ومن الأنبياء من لم يكن من بني إسرائيل، إنما من أهل المنطقة الذين يدعون إلى عبادة الإله البعل الزراعي، وقد ذاع صيت نبي موآب المدعو «بلعام بن بعور»، وجاء ذكره في العقد القديم كمناصر لبني إسرائيل ضد شعبه، مما يشير إلى أن المكافأة التي نالها من الإسرائيليين كانت أعظم. (جاء ذكره في التراث الإسلامي باسم بلعم بن باعوراء.)
ومن الطرائف أن الأنبياء الإسرائيليين كانوا يكذبون بعضهم بعضا؛ فهذا ملك المملكة الجنوبية «يهوذا» المعروف باسم «يهوشفاط» يذهب إلى ملك المملكة الشمالية «آخاب» يطلب معونته لشن الحرب على بلاد سورية (آرام)، «فجمع ملك إسرائيل الأنبياء نحو أربعمائة رجل وقال لهم: أأذهب إلى رامة الجلعاد للقتال أم أمتنع؟ فقالوا اصعد فيها فيدفعها السيد ليد الملك» (ملوك أول، 22: 6)، وتحمس الأنبياء للقتال ومنهم صدقيا «وعمل صدقيا بن كنعنة لنفسه قرني حديد وقال: هكذا قال الرب بهذه تتطح الأراميين حتى يفنوا» (ملوك أول، 22: 11). لكن الملك آخاب أرسل يستدعي نبيا لم يكن حاضرا هو «ميخا بن يمله» وسأله في هذه المشكلة وهل يذهب لمحاربة الآراميين أم لا؟ فأجابه «ميخا» وقال: فاسمع إذن كلام الرب: «قد رأيت الرب جالسا على كرسيه وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه وعن يساره. فقال: هذا: هكذا، وقال ذاك: هكذا، ثم أخرج الروح ووقف أمام الرب وقال: أنا أغويه. قال له الرب: بماذا؟ فقال: أخرج وأكون روح كذب في أفواه جميع أنبيائه، فقال: إنك تغويه وتقدر، فاخرج وافعل هكذا، والآن هو ذا قد جعل الرب روح كذب في أفواه جميع أنبيائك هؤلاء، والرب تكلم عليك بشر، فتقدم صدقيا بن كنعنة وضرب ميخا على الفك وقال: من أين عبر روح الرب مني ليكلمك؟» (ملوك أول، 22: 19-24). (5) الآلهة في العهد القديم
معلوم أن بني إسرائيل انتقلوا بين مرحلتين، تمت فيهما عبادة إلهين: واحد باسم إيل، وأحيانا باسم إللوهيم أي الآلهة، والآخر باسم «يهوه»، لكن الأمر في الحقيقة لم يكن مقصورا على هذين الإلهين فقط؛ فقد عبد بنو إسرائيل العجل المصري أبيس في سيناء بعد خروجهم من مصر بأسابيع قليلة، أثناء غياب موسى على الجبل المقدس لإحضار لوحي الشريعة.
ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل، اجتمع الشعب على هارون وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا؛ لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هرون انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها ... فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا فقالوا: «هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.» (خروج، 32: 1-4)
ثم إنهم بعد ذلك عبدوا الإله المدياني بعل فغور، كما في سفر العدد (25: 1-3) وبدخولهم أرض كنعان حيث عبادة البعول الزراعية، عبدوا بعل وعشتروت، كما في سفر القضاة (2: 11-7)، والقضاة (3: 5-8)، بل ومارسوا طقوس الزنا الجماعي أمام هيكل تلك الآلهة، كما في القضاة (8: 33؛ و10: 6)، ثم تحول طقس الزنا إلى يهوه نفسه، فكانوا يمارسون النزو الجماعي في باب خيمة الاجتماع حيث تابوت الرب، وهو ما حدثنا عنه سفر صموئيل الأول (2: 22)، بل إن سليمان الملك عبد بدوره عددا من الآلهة «فذهب سليمان وراء عشتروث إلهة الصيدونيين، وملكولم رجس العمونيين ... وبنى سليمان مرتفعة لكموس رجس الموآبيين على الجبل الذي تجاه أورشليم، ولمولك رجس بني عمون» (ملوك أول، 1: 11-8).
أما الملك «يربعام» فقد عاد إلى عبادة العجل: «وعمل عجلي ذهب وقال لهم: هو ذا ألهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر، ووضع واحدا في بيت إيل، وجعل الآخر في دان» (ملوك أول، 12: 28-29).
كما بنى المرتفعات للزنى وراء الآلهة «رحبعام بن سليمان»، وهو ما جاء في سفر ملوك أول (14: 23)، كذلك الملك آخاب بن عمري عبد البعل (ملوك أول، 16: 31-33)، بل إن أحاز ملك يهوذا، أعاد طقس التضحية بالأبناء لنيران الآلهة، فقدم ابنه قربانا لنيران الإله، كما جاء في سفر ملوك ثاني (16: 3-4)، أما الحية التي صنعها لهم موسى وهم خارجون من مصر، وكان اسمها «نحشان»؛ أي الحنش؛ أي الثعبان، فقد ظلت تعبد زمنا طويلا حتى عهد متأخر (ملوك، 18: 4)، وقد عبد الملك منسي بدوره البعول وبنى لهم مرتفعات المضاجعة الجماعية، وهو ما يؤخذ من (ملوك ثاني، 21: 62) وكذلك لعبادة إله جبل توفه المعروف باسم مولك (ملوك ثاني، 23: 10)، كما عادت قدسية مراكب الشمس المصرية وظلت قائمة إلى عهد متأخر كما في سفر ملوك ثاني (23: 11)، واستمر يهورام ملك أورشليم في عمل مرتفعات الزنى في أورشليم كما أخبرنا سفر أخبار الثاني (21: 11).
وفي الكتاب المقدس سفر كامل، لا يمكن تفسيره إلا في ضوء العبادات الجنسية وطقوس الزنى الجماعي، تلك العبادات التي كانت متفشية في العبادات الزراعية بشكل وبائي، من باب حض الأرض على الخصب والعطاء اعتمادا على مبدأ السحر التشاكلي حيث الشبيه ينتج الشبيه، وكان الملك عادة ما يقوم داخل الهيكل مع الكاهنة الكبرى بإعطاء إشارة البدء في ممارسة الطقس للجماهير المحتشدة في الخارج، وذلك بقيامه بمجامعة الكاهنة، فتبدأ المعمعة الشبقية حول المعبد دون تمييز، وعادة ما كان يصاحب تلك الممارسة لون من الأناشيد الطقسية تسبق الممارسة، وهي أشكال شعرية جنسية تتم تلاوتها لتحفيز القدرات الجنسية على العمل، وذلك السفر المقصود بالعهد القديم هو المعروف بسفر نشيد الأنشاد الذي لسليمان، الذي لا يكن ولا يحتشم، بل يقدم النشيد الطقسي دون أي تحرج، ويمكن اقتطاع نماذج من ذلك السفر في شكل حوار يدور من العشيقين الملكيين يقول:
العشيقة :
ليقبلني بقبلات فمه، لأن حبك أطيب من الخمر.
لرائحة أدهانك الطيبة اسمك مهراق؛
لذلك أحبتك العذراى.
اجذبني وراءك فنجري.
أدخلني الملك إلى حجاله.
نذكر حبك أكثر من الخمر.
العشيقة :
أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم،
كخيام قيدار،
كشقق سليمان،
أخبرني يا من تحبه نفسي:
أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة؟
العاشق :
إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء فاخرجي على آثار الغنم،
وأرعي جداءك عند مساكن الرعاة.
لقد شبهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون.
ما أجمل خديك بسموط!
العشيقة :
ما دام الملك في مجلسه أفاح نار ديني رائحته.
صرة المر حبيبي لي،
بين ثديي يبيت.
العاشق :
ها أنت جميلة يا حبيبتي ها أنت جميلة،
عيناك حمامتان.
العشيقة :
ها أنت جميل يا حبيبي وحلو،
وسريرنا أخضر.
أنا نرجس شارون سوسنة الأدوية،
أدخلني إلى بيت الخمر، «وعمله فوقي محبة».
أسندوني بأقراص الزبيب،
أنعشوني بالتفاح؛ فإني مريضة حبا. «شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني».
أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول،
ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء. ... ... «في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي»،
طلبته فما وجدته.
وجدني الحرس الطائف في المدينة،
فقلت: أرأيتم من تحبه نفسي؟
فما جاوزتهم إلا قليلا حتى وجدت من تحبه نفسي،
فأمسكته ولم أرخه حتى أدخلته بيت أمي،
وحجرة من حبلت بي.
العاشق :
ها أنت جميلة عيناك حمامتان من تحت نقابك،
شعرك كقطيع معز رابض على جبل جلعاد،
أسنانك كقطيع الجزائر الصادرة من الغسل،
شفتاك كسلكة من القرمز، وفمك حلو،
خدك كفلقة رمانة «تحت نقابك»،
عنقك كبرج داود المبني للأسلحة، «ثدياك كخشفتي ظبية توءمين يرعيان بين السوسن،
شفتاك يا عروس تقطران شهدا ،
تحت لسانك عسل ولبن» ورائحة ثيابك كرائحة لبنان. ...
قد خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟
قد غسلت رجلي فكيف أوسخهما؟
حبيبي «مد يده من الكوة فأنت أحشائي عليه»،
قمت لأفتح لحبيبي. ... إلخ ... (6) تدقيق التسمية
عادة ما يلجأ الباحثون عند تناولهم شأنا من شئون الجماعة البشرية، التي بدأنا بالاصطلاح على تسميتها في العنوان ب «بني إسرائيل»، إلى استخدام أحد اصطلاحات ثلاثة، هي على الترتيب حسب شيوع الاستخدام: العبرانيين، اليهود، الإسرائيليين. ولتدقيق المصطلح ودلالته، نجد أن اصطلاح العبريين أو العبرانيين، يقصد به تمييز تلك الجماعة، بحيث يشير الاصطلاح إليها كشعب بعينه، وبحيث تبدو كما لو كانت تتسم بسمات جنسية محددة بتاريخ مترابط وواضح، ويرتبط بأرض ومواطن بعينها، له ظروفه البيئية والجغرافية التي تتناغم في النهاية مع السمات التي طبعت ذلك الشعب، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وفكريا. وهو قصد يذهب إلى وضع الجماعة الإسرائيلية في وضع يسمح بالإيحاء بدلالات، تتساوى مع الدلالات التي تفهم من استخدامنا مصطلحات مثل «المصريين، البابليين، الكنعانيين، الحيثيين ... إلخ».
لكن، بينما نجد اصطلاحات اسمية مثل المصريين أو البابليين، لا مجال للخلط بشأنها، ويمكن للمؤرخ وللباحث استخدامها باطمئنان، حيث تشير إلى شعب بذاته، يسكن أرضا بعينها، تفاعل مع بيئته خلال مسار تطوري، انتهى إلى وسمه بسمات صريحة المعالم، يبدو فيها أثر الجدل بين الإنسان وبين تاريخه وبيئته وطبيعة أرضه، وبحيث انتهى ذلك الجدل إلى نشوء كيان سياسي له سماته المميزة، مما يمكن الباحث من رسم صورة شبه متكاملة لتاريخ ذلك الشعب، من خلال وثائق، ومدونات، وآثار، وسجلات عينيه، ومعتقدات وأساطير. مع قراءة ذلك كله مرتبطا بالظرف البيئي والتطور الاجتماعي، الذي يكسب الشعب في النهاية نكهته الخاصة، وسماته المميزة. لكن استخدام مصطلح عبري، للدلالة على الجماعة الإسرائيلية لا يؤدي بحال إلى أي من تلك المعاني؛ بحيث يسمح بكثير من الخلط والخبط وسوء الغرض إن بحسن نية أم بقصد؛ نظرا لاتساع المصطلح عن حجم المدلول، فلا يطابقه ، وتتحول معه الجماعة الإسرائيلية إلى كتلة رجراجة داخل المصطلح دون ثبات. ويعود ذلك إلى عيوب أساسية في تاريخ تلك الجماعة البشرية، يجد معها الباحث عسرا شديدا في استخدام تعبير شعب، للدلالة على تلك الجماعة، دون السقوط في خطأ علمي فادح.
كما نجد عيوبا من لون آخر في نسيج تلك المجموعة البشرية، وفي المراحل التي مرت بها وظروفها، إبان تكونها التاريخي، لا تسمح بإعطاء المدلول الذي يمكن الاطمئنان إليه، كما في حال التعامل مع مصطلح «مصريين» أو «بابليين» على سبيل المثال. ورغم أن الباحث قد يجد أوجها للقصور في تاريخ أي من تلك الشعوب، نتيجة مبالغة هنا، أو اختفاء للمدون - في حقبة بعينها - هناك فإن الاستعانة بعمليات القياس والنقد والمقارنة بين النصوص المتعددة، إزاء الحدث الواحد والتحليل ومحاكمة الوثائق على سياقها الداخلي والسياق التاريخي، يمكن الوصول بالمسألة إلى الوجه الأقرب إلى صدق ما حدث بالفعل. إضافة إلى ما يمكن القيام به من مقارنات، إزاء الحدث الواحد، بين نص يتحدث عنه في مدونات مصر، وبين نص آخر يتحدث عنه في وثائق الرافدين. لكننا مع الجماعة الإسرائيلية لن نجد بين أيدينا مثل تلك المادة الخام الأساسية، لنعمل فيها أدوات البحث؛ فلا وثائق، ولا آثار، ولا سجلات عينية؛ لا شيء بالمرة سوى وثيقة واحدة هي الكتاب المقدس (العهد القديم).
وحتى نكون أكثر دقة، فإن تعبير «لا شيء بالمرة» لون من المجاز الصادق؛ فهناك بالفعل إشارات متأخرة في وثائق متناثرة في أشلاء مبعثرة بين دول المنطقة، لكنها لا تصنع تاريخا بحال، ولا تؤكد في التاريخ الإسرائيلي شيئا بالقطع اليقيني أو تنفيه. أما في المراحل الأقدم والتي تعود إلى بداية ذلك التاريخ ولقرون طويلة بعده، حتى ظهور تلك الإشارات المبعثرة، فالأمر معلق بالمقدس وحده. علما أن ذلك التاريخ الذي لا وجود له إلا بالكتاب المقدس، وهو عمدة تاريخ إسرائيل، ويمثل أخطر الأحداث التي تقيم جماعة إسرائيل التاريخ كله عليها، ويشمل أهم البنى لمقدسهم وتاريخهم على الإطلاق، ومثالا لذلك علاقة الجماعة الإسرائيلية بمصر، التي تتمثل في لحظة حاسمة وفاصلة وقاطعة في تاريخهم، وتحكي عبر المقدس عن هبوطهم من كنعان (فلسطين) إلى مصر، زمن النبي «يوسف » عليه السلام، وخروجهم منها بعد قرون في عهد النبي «موسى» عليه السلام، وسط أحداث هائلة سواء في كيفها أو في نتائجها. وما صحب ذلك الهول من هلاك كامل لجيش مصر، أعظم إمبراطوريات ذلك الزمان قاطبة، مع ما لحق الديار المصرية نفسها من دمار وهلاك بفعل رب إسرائيل (يهوه)، وأسهبت في شرحه الرواية المقدسة. ومع ذلك فإنك لا تجد في وثائق مصر، على كثرة ما اكتشف منها حتى الآن، وعلى ما في هذه الكثرة من ذكر لدقائق وتفاصيل صغيرة الشأن، كسجلات وعقود البيع والشراء، أو كأوامر ثانوية للفرعون بنقل موظف أو تابع قليل الشأن، أو جزاءات التقصير في العمل، أو الأمر بالسماح لقبيلة بدوية بالانتجاع على الحدود، للعمل في مناجم الفيروز وحفائر سيناء ... إلخ ... فإنك لا تجد بين كل تلك التلال الآثارية والشواهد المدونة أية وثائق تشير إلى بني إسرائيل، اللهم إلا إشارة وحيدة يتيمة، يقول فيها الفرعون «مرنبتاح» بن الفرعون «رعمسيس الثاني»، ضمن لوحة يحكي فيها عن انتصاراته «هلكت إسرائيل ولم يبق لها بذر.»
12
وقد جاءت تلك الإشارة عرضا، ضمن روايته عن سحقه لعدد من الشعوب؛ مثل اللوبيين (الليبيين)، والكوشيين.
13
وحتى لو غفلت مدونات مصر عن ذكر ذلك الحدث الهائل الذي دمرت فيه البلاد، وهلك الزرع والضرع والعباد، وغرق بعده الفرعون وجيشه العرمرم في خضم أمواج البحر، فما بال مدونات الشعوب المعاصرة للحدث لا تذكر ما حدث للجارة الكبرى؟ سواء في بلاد الشام أو الرافدين أو تركيا بلاد الحيثيين؟
هذا كل ما جاء عن تاريخ إسرائيل الطويل العريض في الأثر المصري «هلكت إسرائيل ولم يبق لها بذر!» أما بلاد الرافدين فإنها لا تعرف شيئا البتة عن التاريخ القديم لتلك الجماعة التي ملأت المقدسات صخبا وضجيجا وإن وردت إشارات في الحقب المتأخرة تذكر شيئا يسيرا في شذرات عن مملكة تدعى «مملكة عمري»، والتي يظن أنها مملكة إسرائيل في عهد أحد ملوكها المعروف باسم «عمري»، خلال الربع الأول من الألف الأولى قبل الميلاد. ثم شيئا لا يغني ولا يسمن عن انتصارات الآشوريين على سكان فلسطين وسبيهم لأهلها، ومثله شيئا آخر عن انتصارات الكلدانيين على جنوب فلسطين، أما قبل ذلك فلا شيء على الإطلاق يشير إلى جماعة إسرائيل، ولا للأحداث التي مرت بها، والتي أسهب الكتاب المقدس في تدوينها كعادته، إلى حد الإملال، بل إن الحفريات المحمومة، والهوس الأركيولوجي الذي يمارس الآن في دولة إسرائيل، لم يسفر حتى تاريخه عن شيء يستحق الذكر، أو عن أمر يمكن القطع بشأن نسبته للجماعة الإسرائيلية، أو حتى تصنيفه ابتسارا ضمن مرحلة بعينها من مراحل ذلك التاريخ، الذي تضخم حتى صار ورما ناتئا في تاريخ البشرية.
وحتى لو غضضنا الطرف عن كل المراحل القديمة في ذلك التاريخ، حسبما أوردته المقدسات الإسرائيلية، بحسبانها مراحل بداوة وعدم استقرار، لم تسمح لها ظروفها بترك آثار واضحة يمكن قراءتها، وبدأنا من زمن قيام الدولة، بحسبان التاريخ عادة ما يبدأ مع الاستقرار، وقيام الكيان السياسي والتدوين؛ أي لو بدأنا مع المملكة التي أقامها «شاول وداود وسليمان»، رغم عدم ثبوت التدوين آنذاك (حوالي 1000ق.م) لما وجدنا لأي من تلك الأسماء المضخمة قدسيا وسياسيا وعسكريا، أي ذكر في سجلات أي من دول المنطقة بكاملها ودون استثناء، ذلك رغم ما قيل عن عظمة تلك المملكة واتساعها وجبروتها وعظم شأنها ومنشآتها. مع ما زعم عن الهيكل والقصور والجيش العرمرم، مهما دققت النظر وأعييت الذهن، فلن تجد أية إشارة، لا لمملكة عظيمة ولا لمملكة وضيعة، وحتى في حفائر الدويلة الحالية، ولا أثر معماري واحد بقي يتيما كشهادة واحدة على تلك المنشآت التي صدعت بها أسفار المقدسات رءوسنا، بينما نجد ما يقف بلا ضجيج، بدل الشاهد ألفا، في آثار فراعين مصر الذين سفهتهم المقدسات البدوية عموما، وأظهرتهم في المراتب الدنيا من تاريخ الإنسانية؛ فالمملكة التي حدثتنا عنها مقدسات البدو وعن عظمتها لا شيء عنها البتة، لا في أثر على ظهر الأرض، ولا في باطن الأرض، ولا حتى في الورق ! اللهم إلا ورق المقدس وحده، وهو في موازين التاريخ والبحث العلمي، ما لم تخترع له وحدة قياس بعد.
هذا ما كان عن القصور الأول في تاريخ جماعة بني إسرائيل، والذي جعل من الصعب تدقيق الاصطلاح الصادق الدلالة عليهم؛ فمع تاريخ كهذا لن تكون واثقا عن أي شيء تتحدث بالضبط، ولا يبقى لديك سوى مأثرتهم الوحيدة (العهد القديم من الكتاب المقدس) لتتناول التاريخ الوارد فيه بالدرس. لكن الكتاب المقدس نفسه يضعك في حيرة عندما تريد تدقيق الاصطلاح، ما بين العبريين واليهود والإسرائيليين، لكن العجيب في الأمر، والمثير لدهشة الباحث وقلقه معا، هو ذلك التكامل المدهش في ذلك المأثور، الذي يندرج ضمن التاريخ أكثر مما يندرج ضمن الدين؛ فيظهر بمظهر الدقة الصارمة، ويتحدث عن الجماعة الإسرائيلية من البدء، نسبا لنسب، ليرتفع بهم إلى أرومتهم «النبي إبراهيم عليه السلام»، ثم يصعد ليصل إلى شخصية تراثية أبعد هي «النبي نوح عليه السلام»، ثم يغالي دون أن يبالي، فيرتفع بسلسلة الأنساب حتى يصلها مباشرة بشخصية تراثية أخرى هي «آدم» أبو البشر، مع تفصيل لكثير من الدقائق والمنمنمات التي يقدمها كشواهد، إثباتا للمصداقية، هذا علما أن كل هذا المدون الذي يضرب في عمق الزمن السحيق، لم يتم تدوينه إلا في زمن متأخر جدا بما لا يقارب، قياسا على زمن الأحداث التي يرويها؛ حيث لم يبدأ تدوين المقدس الإسرائيلي حسب أبعد الترجيحات، وأكثرها تأولا لصالح بني إسرائيل، إلا مع بداية الألف الأولى قبل الميلاد.
وإزاء هذا التأخير في التدوين، مع التكامل الظاهري، والإصرار على التدقيق في تفاصيل أحداث سحيقة في القدم، فإن أي باحث لا يملك سوى أن يرى في ذلك التاريخ المقدس صنعة وانتحالا واضحين، وريبة مركزية تحيط بها كثير من الظنون، مما يفقده الكثير من المصداقية لأول وهلة، وقبل وضعه على أي ميزان. هذا ناهيك عما تلبس بهذا التاريخ من أساطير ومبالغات لا تخلو منها صفحة من صفحات ذلك المقدس، ملتبسة بأحداث أخرى واقعية، وتتم رواية ذلك المزيج الهجين بحسبانه في مجمله أحداثا تاريخية واقعية ، مما يلقي مزيدا من ظلال الشكوك على الحدث نفسه، الذي يروى كواقعة تاريخية.
أما ما يزيد الأمر تعقيدا، فهو أن تلك الجماعة، وحسب الكتاب المقدس ذاته، قد مرت بعدة أدوار، انتقلت فيها نقلات هائلة ومتغيرة كميا وكيفيا، بحيث لا يمكنك في مرحلة بعينها، الزعم أنك تتحدث دون خلط، وهو ما ألقى بظلاله على تدقيق الاصطلاح المناسب الدال على تلك الجماعة البشرية؛ فاصطلاح العبريين يرتبط أساسا بلغة تلك الجماعة، والمعروفة باللغة العبرية، كما يرتبط من جهة أخرى بتفسير الباحثين للاصطلاح بحسبانه دالا على حدث تاريخي، هو عبور القبيلة الأولى (الإبراهيمية) للنهر، في هجرتها من وطنها الأصلي إلى كنعان، ويتضارب الباحثون التوراتيون - دون الشعور بأي خلل - ما بين كون هذا العبور لنهر الفرات أو لنهر الأردن؛ فالأمر مقدس، ومع المقدس كل شيء جائز. وقد كانت هذه الهجرة من مدينة «أور» المزعوم بالتوراة أنها «أور الكلدانيين»، والواقعة في أقصى الطرف الجنوبي الغربي لبلاد الرافدين حسبما ذهب الباحثون، والتي ذهبنا نحن بها إلى منطقة «أرارات» في جبال «أرمينيا» حول هضبة أرارات وغربها؛ أي المنطقة الواقعة شمالي العراق وسورية الآن، وذلك في كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول».
ومن جانبنا فقد رأينا اصطلاح «العبريين» غير صادق الدلالة إلى حد بعيد، رغم كونه أكثر الاصطلاحات استخداما في كتابات الباحثين، وموقفنا يتأسس على خطأ نراه أساسيا في مستند هؤلاء؛ لأن الكلمة «عبري» لا تعود بحال إلى عبور نهر، وإعادتها لعبور القبيلة الإبراهيمية للنهر، قصد بها تخريج يتماشى مع سيناريو كاتب هذا الجزء بالكتاب المقدس الذي دون قصة الهجرة الإبراهيمية من «أور» إلى كنعان. بينما الأصل يعود إلى أن القبيلة الإبراهيمية المعنية بهذا الاصطلاح تعود بنسبها إلى الجد المدعو «عابر»، وذلك حسب شجرة الأنساب التوراتية؛ فإبراهيم هو ابن تارح (آذر في الرواية الإسلامية)، ابن ناحور بن سروج بن رعو فالج بن عابر، وعابر هذا هو حفيد سام بن نوح. وتعود أهمية «عابر» في هذا السلسال حسب التعليلات التوارتية، إلى أنه في زمنه وزمن ولده «فالج»، قسمت الأرض حسب ألسنتها إلى شعوب وأجناس، ووزعت على خريطة المنطقة، بحيث تميز العبريون في هذه القسمة عن غيرهم من الشعوب؛ لذلك لا يني الكتاب المقدس يذكر الجد عابرا بشكل متواتر، قاصدا به الدلالة على الشعب الذي تناسل عن النبي إبراهيم تحديدا.
ومكمن الخطأ في استخدام هذا الاصطلاح، هو أنه إلى «عابر» ذاته، تعود مجموعة أخرى من الشعوب، حسب القسمة التوراتية ذاتها، هم أبناء «يقظان» أحد أبناء عابر. وأبناء يقظان هم عرب جزيرة العرب وبخاصة جنوبها «قحطان»؛ لذلك فإن دلالة «عبري» حسب المقدس، تشمل بني إسرائيل، كما تشمل شعوب جزيرة العرب؛ فهي دلالة أوسع وأشمل وأعم من بني إسرائيل وحدهم. وكما تبين دلالتها في الكتاب المقدس، فهي تشير إلى الرعاة وأصحاب نهج البداوة بشكل عام، وحيثما استعملنا التعبير «عبري»، يتبادر إلى الذهن فورا تعبير «عربي» كمصطلح دال على الرعي والبداوي، ولنلحظ أنه بظاهرة الميتاتيز الفونيطيقي (القلب اللساني)، يمكن أن تتبادل «عبري» و«عربي». وعلى مستوى اللسان فإنه من «عبري» يكون التعبير، أو الإفصاح من «عبر» ومن «عربي» يكون الإعراب «أعرب» أي أفصح وعبر وهو يحمل ذات الدلالة، ولا يفوتنا الاقتراب الحميم بين اللغتين العربية والعبرية تحديدا من بين بقية فروع شجرة اللغات السامية. وفي المأثورة «إسماعيل» أبو العربان، هو أخ لإسحاق أرومة بني إسرائيل، وفي التاريخ تحدثت وثائق الرافدين عن مملكة «عريبي»
14
بينما تحدثت وثائق مصر عن البدو باسم «عبيرو»
15
ولنلحظ أمرا لا يخفى مغزاه، وهو اعتماد المؤرخين الإسلاميين على شجرة الأنساب التوراتية، في حال تنسيبهم لشخصيات عربية تاريخية، بحيث تعود تلك الشخصيات دوما في النهاية إلى الشجرة العبرية.
وفي حال احتساب اصطلاح عريبي منسوبا إلى اللغة العبرية، فإنه من المفيد أن نعلم، أن اللغة العبرية نفسها لم تكن لغة بذاتها بهذا الاسم، بل هي «شفة كنعان» (إشعيا، 19: 86)؛ أي لسان الكنعانيين؛ حيث اكتسبتها القبيلة الإبراهيمية بعد نزولها فلسطين؛ حيث سكنت بين سكانها الكنعانيين، وتكلمت بلسانهم اكتسابا؛ وعليه، فإن استخدام اصطلاح عبري سيشمل القبيلة الإبراهيمية الوافدة، والكنعانيين سكان فلسطين، وعرب الجزيرة، وما أبعد ذلك عن الصحة والسلامة، ومن هنا رأينا أن اصطلاح عبري، لا يفي بدقة للدلالة على بني إسرائيل بقدر ما يدل على البداوة عموما.
أما اصطلاح «يهود»، فهو لا يشير إلى جنس بعينه، أو شعب بذاته، أو مكان محدد، أو لكيان سياسي بخصوصيته ونظامه، قدر ما يشير إلى تصنيف طائفي، يتأسس على العقيدة والملة التي اجتمع عليها البشر، الذين شكلوا الجماعة الإسرائيلية، وتعود التسمية «يهود» إلى رب هؤلاء المعبود فيما بعد العهد الموسوي باسم «يهوه»، ثم إلى أحد الأسباط من أبناء يعقوب، والمدعو «يهوذا»، الذي سمي به قسم منفصل عن دولة سليمان حمل اسم «مملكة يهوذا». والاصطلاح واضح القصور؛ حيث لم يظهر الإله يهوه إلا مع ظهور النبي موسى عليه السلام، والنبي موسى هو أحد أحفاد سبط لاوي أو ليفي بن يعقوب المعروف بإسرائيل، حوالي عام 1250ق.م، مع إسقاط كل المراحل السابقة في تاريخ تلك الجماعة. هذا ناهيك عن كونه لا يفي إطلاقا بدلالته الصادقة، على الشراذم المؤتلفة اليوم في دولة إسرائيل، والتي لا تجمعها لا لغة مشتركة ولا تاريخ واحد، ولا جنس، ولا موطن، ولا يجمعها شيء سوى الملة والطائفة، والمبدأ العنصري الذي يقوم عليه ذلك الكيان، وإعمالا لذلك فإن اصطلاح «يهود» لا يحمل دلالة صادقة على الجماعة الإسرائيلية المقصودة في الكتاب المقدس.
ومن هنا، فقد ملنا إلى استخدام اصطلاح «بني إسرائيل» الذي يشير إلى الجماعة القديمة، صاحبة ذلك التاريخ المقدس، رغم ما قد يلحق ذلك الاصطلاح بدوره من عيوب، وهو اصطلاح يعود في منشئه إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، في قصة مقدسة ومشهورة تقول إن يعقوب التقى ربا يعرف بالاسم «إيل»، وكان رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وظل ربا لتلك الجماعة حتى ظهور النبي موسى وربه «يهوه». وتحكي القصة النزال الجسدي بين يعقوب وإيل، وكادت المصارعة تحسم لصالح يعقوب، لولا أن كشف إيل عن شخصيته الإلهية ليعقوب؛ حيث أمره بتبديل اسمه من يعقوب إلى إسرائيل، وهو نحت لفظي مركب من ملصقين، بترجمة بعض الباحثين تجميلا، وربما مجاملة لشعب الرب، بالترجمة «جندي الرب»، بينما صدق التسمية لدينا هي «صراع-إيل» أي مصارع الرب، أو الذي صرع الرب وهزمه، ولو كان صدق التسمية هو «جندي الرب» لكان الأصل العبري هو «صبت-إيل» وليس «أسر = إيل» «صرع = إيل» (انظر: الكتاب المقدس، سفر 22: 32-29).
وقد ملنا إلى استخدام اصطلاح بني إسرائيل، رغم كونه لا يشمل سلف الجماعة قبل يعقوب «إسحاق وإبراهيم»، لكنه على أية حال الأقرب إليهم زمانا؛ فيعقوب حفيد إبراهيم مباشرة، هذا بالإضافة لكونه تابعا في العقيدة للإله «إيل»، بينما يرتبط يعقوب نفسه من جهة أخرى، بالأسباط بني إسرائيل وهم بنوه، الذين جاء من نسلهم موسى عليه السلام صاحب الإله الجديد «يهوه». (7) أدوار التاريخ الإسرائيلي
من المتفق عليه بين الباحثين المهتمين بدراسة تاريخ الجماعة الإسرائيلية اللجوء إلى تقسيم هذا التاريخ إلى مراحل أو أدوار، في محاولة لتجاوز الصعاب والعقبات التي ربما تعرض لونا من الاستحالة، في حال معالجته كتاريخ متصل. وهي الصعاب الناتجة عن العيوب الأساسية في مسيرة هذا التاريخ، والتي أشرنا إليها. وقد اختلف تقسيم تاريخ بني إسرائيل بيد المؤرخين حسب الرؤية، والمنهج، والمدرسة، والأيديولوجيا في أغلب الأحيان. وللإيجاز سنعمد إلى الرؤى المطروحة والمعلومة لدى القارئ العربي، وأوسعها انتشارا: تقسيم «فيليب حتي» لهذا التاريخ إلى دورين رئيسيين، يعتمدان خط الهجرات للجماعة الإسرائيلية إلى فلسطين، والذي تم في هجرتين رئيسيتين، تفصل بينهما مرحلة زمانية. تعود الهجرة الأولى منهما إلى القبيلة الأولى في التاريخ الإسرائيلي (القبيلة الإبراهيمية)، وهي الهجرة التي هبط فيها البطرك إبراهيم وعائلته أرض فلسطين في استيطان أول، أما الهجرة الثانية فكانت في الزعم المقدس مجرد عودة إلى فلسطين، بعد أن اضطرت المجاعة وشظف العيش النبي «يعقوب» وأسباطه أحفاد إبراهيم عليه السلام، إلى هبوط مصر طلبا للقوت. حيث لبثوا هناك زمنا عادوا بعده في هجرة ثانية إلى فلسطين، لكن الهجرة هذه المرة، ضمت عددا هائلا من البشر. وتأسيسا على ذلك أقام «فيليب حتي» تقسيمه لتاريخ بني إسرائيل إلى دورين مثلهما هجرتين إلى فلسطين، لكنه يؤكد أن التاريخ الحقيقي لتلك الجماعة، وظهورهم في التاريخ (كشعب)، إنما يبدأ من الهجرة الثانية؛ أي من خروجهم من مصر بقيادة النبي موسى عليه السلام، حوالي عام 1234-1215ق.م فيما يذهب هو إليه، وأن هذا الخروج أو الهروب أو الهجرة، لم تشمل سوى قبيلة واحدة فقط من جماعة إسرائيل، هي قبيلة راحيل،
16
نسبة إلى راحيل الزوجة الثانية ليعقوب وهي أم يوسف النبي عليه السلام وأخيه بنيامين، والمقصود هنا أن القبيلة التي دخلت مصر وخرجت منها هي نسل راحيل فقط دون بقية الجماعة الإسرائيلية.
وإن المؤرخ «فيليب حتي» وهو يضع ذلك اللغم، يتركه ويستمر في عرض تاريخ الجماعة، لكن بعد أن يشعل فتيله الذي يشير لقارئ لبيب، لديه إلمام كاف بالتاريخ المقدس، إلى تفجر وتشظي الجماعة الإسرائيلية قبل دخول مصر، وإلى احتمال أنها لم تكن يوما جماعة واحدة، إنما حدث لها ائتلاف بعد الخروج بقيادة قبيلة راحيل، وأن الخروج لم يشمل إلا عددا محددا من بني يعقوب (إسرائيل)؛ وعليه فلا مندوحة لعقل ناقد من الاستدلال من رؤية «حتي» على أن جماعة إسرائيل لم تتكون حقيقة إلا بعد الخروج، وبالتدريج لتتشكل من ائتلاف قبلي كان «أصلا متعدد العروق ومختلف المشارب»، ولم يكن من بينها من هو أصيل النسب لإسرائيل سوى أبناء راحيل، وهو أمر يمكن أن يؤدي بإعمال البحث المدقق إلى نتائج هائلة في محتواها، وهو ما نحاول إعمال البحث فيه حاليا، في كتاب لا زال مشروعا قيد البحث بعنوان «النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة».
17
أما عالم الساميات «سبتنيوموسكاتي» فيلجأ في تقسيمه للتاريخ الإسرائيلي إلى أدوار، مستندا إلى رؤية أخرى، ترتبط بمراحل الاستيطان والارتحال الإسرائيلي من مواطن مختلفة ومتباينة إلى مواطن أخرى متباعدة، يبدؤها بالمأثور التوراتي حول إقامة القبيلة الأولى (الإبراهيمية) في جنوب بلاد الرافدين (وهو يسلم بذلك دون مناقشة)، ثم هجرتهم من هناك إلى فلسطين. ثم يثني على الدور الثاني الذي هاجر فيه يعقوب (إسرائيل) وأولاده إلى مصر حيث أقاموا فيها إلى أن انتهى بهم الأمر إلى الاضطهاد، ثم الخروج من مصر إلى سيناء بقيادة موسى النبي عليه السلام . ثم ينتقل إلى الدور الثالث والأخير في تقسيمه، والذي يرتبط بدخولهم أرض فلسطين في سلسلة من الحملات، التي وجهت إلى جنوب فلسطين ووسطها وشمالها، حتى استيطانهم فيها، وينسب تلك الأحداث إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، مشيرا إلى حفائر آثارية في جنوب فلسطين، تشهد بتدمير بعض المدن حوالي ذلك الزمن، ويحتسب ذلك دليلا كافيا على حدوث الهجوم الإسرائيلي على فلسطين.
18
وهو الأمر الذي يؤخذ على باحث في وزن موسكاتي؛ فدليله واضح التحيز وبين القصور؛ لأنك لن تحفر الأرض في أي موطن في الشرق الأوسط، إلا وتجد قرى وبلادا عفى عليها الزمان، بعد تدميرها على يد أقوام أخرى، ومعلوم أن منطقة الشرق الأوسط كانت تموج لمدى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد بالحركات البشرية والهجرات، ومعلوم أيضا أن فلسطين نالها النصيب الأكبر من اصطراع تلك الجموع البشرية الهائلة، لموقعها الجغرافي المركزي في بطن المنطقة؛ وعليه فإن وجود قرى مدمرة في طبقات الحفائر بفلسطين لا يشير بالشرط والقطع إلى بني إسرائيل تحديدا في الزمن الذي يشير إليه، وكون فلسطين كانت طوال تاريخها معبرا لجميع الشعوب المهاجرة، وساحة لمعارك الإمبراطوريات الكبرى المتصارعة دوما (مصر، أشور، بابل، الحيثيين)، كفيل وحده بجعل فلسطين تنال نصيبا أوفر من الدمار المتواصل، أكثر من مواضع أخرى كثيرة في الشرق القديم.
هذا بينما يذهب باحث آخر هو «أحمد سوسة» إلى تقسيم التاريخ الإسرائيلي إلى أدوار ثلاثة، يعتمد ذات خط «موسكاتي»؛ أقصد نظرية المواطن التي تقاسمت حركة التبدي للجماعة الإسرائيلية، لكنه يخالفه في تزمين تلك المراحل طولا أو قصرا؛ فالدور الأول يبدأ بهجرة النبي إبراهيم عليه السلام، مع قبيلته، من «أور الكلدانيين» جنوبي بلاد الرافدين، لكنه يمد هذا الدور زمنيا لينهيه باستقرار الإسرائيليين في مصر. حتى يزعم أنه بعد هبوطهم مصر، اندمجوا كلية في البيئة المصرية، بعد قضاء ستة قرون كاملة هناك (وهو تقدير خاص بأحمد سوسة). لكن مسألة الاندماج التام رأي له وجاهته، في ضوء ما يعرفه التاريخ، عن قدرة مصر الفذة في امتصاص الغرباء وتمصيرهم، في أزمنة أقصر بكثير من المدة المزعومة لبقاء الإسرائيليين بمصر. ثم ينتقل «سوسة» بعد ذلك إلى الدور الثاني، الذي يبدؤه النبي موسى عليه السلام وجماعته ، في نزوحهم من مصر إلى فلسطين، ويذهب في ذلك إلى رأي فريد؛ فيقول: إن رحلة الخروج التي أسهب في روايتها الكتاب المقدس، وتعتبر حجر الزاوية في البناء التاريخي لإسرائيل بكامله، ليست سوى «حملة مصرية، مؤلفة من جماعة من المصريين، وبقايا الهكسوس، يدينون بدين التوحيد، الذي ورثوه عن إخناتون فرعون مصر، واضطروا تحت ضغط الوثنيين واضطهادهم إياهم إلى الهروب من مصر، والتوجه إلى أرض كنعان.»
بل ويذهب «سوسة» إلى أن هؤلاء الخارجين لا ريب كانوا «يتكلمون باللغة المصرية، وبها كلمهم موسى على وجه التأكيد، وقد نسبت التوراة هذه الحملة إلى بني إسرائيل؛ بغية ربط هذه الجماعة بيعقوب وبإبراهيم الخليل، كما نسبت موسى إلى كهنة بني لاوي بن يعقوب، في حين أن الرأي الغالب لدى الباحثين في هذا العصر، هو أن موسى كان قائدا في بلاط إخناتون، يدين بدين التوحيد الذي دعا إليه إخناتون. ورواية التوراة نفسها تشير إلى أن موسى تربى مصريا في بلاط فرعون، واتخذته ابنة فرعون ابنا لها (خروج، 2: 10)، ثم تزوج من امرأة كوشية (زنجية) (عدد، 12: 10)؛ فلو كان لاوي في الوجود زمنه، لتزوج إحدى بنات عمومته. ومن الثابت لدى العلماء، أن اسم موسى اسم مصري صميم، تسمى به أباطرة عصر الإمبراطورية: أحمس أو «أح موسى» تحوتمس أو «تحوت موسى»، رعمسيس أو «رع موسى»، أما لغة هذه الشريعة فالأرجح عندنا أنها كانت باللغة المصرية، وقد أخذت جماعة موسى بالحضارة الكنعانية وتقاليدها وعاداتها، كما أخذت بلغتها الكنعانية ... أما لغتهم التي صارت تسمى بالعبرية في وقت لاحق، فهي إحدى اللهجات التي اقتبسوها من الآرامية، وقد تكونت بمرور أكثر من ستمائة عام على دخولهم أرض فلسطين وبها كتبت التوراة في بابل بعد عهد موسى بثمانمائة عام، وبعد عدة قرون اقتبست هذه الجماعة الكثير من أسس الديانة والعبادة الكنعانية، وصارت جزءا من ديانتها.»
19
ثم ينتقل «سوسة» إلى الدور الثالث من أدوار التاريخ الإسرائيلي ، فينتقل مع بني إسرائيل إلى موطن ثالث، يبدأ بسبيهم من فلسطين إلى بابل على يد «نبوخذ نصر الثاني الكلداني»، وذلك حوالي عام 586-539ق.م؛ حيث أقاموا في بابل إقامة أدت إلى تطور هائل في العقيدة اليهودية خلال القرون التالية، كما كان لتلك الإقامة أهمية أخرى؛ فقد دونت في بلاد الرافدين - أثناء الأسر - أهم فصول التوراة. ويذهب «سوسة» إلى أنه ربما كان في حوزتهم، نسخة من وصايا موسى الأصلية، المكتوبة بالهيروغليفية، قدمت لهم المادة الأساسية والخام، لعملهم بالكتاب المقدس.
20
ثم نجد لونا آخر من تقسيم التاريخ الإسرائيلي، لا يعتمد خط الحركة المهاجرة ولا يأخذ باعتباره المواطن الجغرافية للحل والترحال، إنما يربط بين أدوار التقسيم، وبين تبادل الأحداث التي مرت بالجماعة الإسرائيلية، وكانت ذات أثر جوهري في حدوث نقلات تاريخية، حولته تحولا كبيرا؛ بحيث أصبح ذلك بمثابة الانتقال من دور إلى آخر، مع أخذه بالحسبان، شكل الحياة، أو نمطها السائد، ومدى ما دخلها من تغيرات نقلتها من دور إلى دور آخر في التاريخ، وهو ما نجد نموذجا له عند «أنيس فريحه» حيث يقول: «مر العبران في خمسة أدوار رئيسية: (1)
دور البداوة: حيث كانوا من جملة القبائل السامية المنتشرة في شمالي الجزيرة العربية، ولم يكونوا موحدين، لكنهم كانوا في طريقهم نحو التوحيد، وأصبح أحد ألهتهم - يهوه - قائدهم في الحروب، الإله الأول. وكان يهوه إله قبيلة قليلة العدد ضيقة الآفاق، وكان يتميز بكثير مما تتميز به آلهة الصحراء؛ فقد كان إلها غيورا يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء، للجيل الثالث والرابع، كان صارما شديدا، حتى إنه لم يرد أن يرسم له رسم أو نحت، خوفا من المنافسة، ولكن هذا الإله الصحراوي أصبح على يدي الأنبياء أمثال إشعيا وعاموس وميخا، إلها عالميا يأمر بالمحبة والعدل. (2)
دور التكوين القومي والسياسي: وهو طور استقرارهم في كنعان، بعد أن دخلوا أسباطا وعشائر تحت إمرة شيوخهم وقضاتهم، ولم تخضع البلاد لهم برمتها، بل ظلوا يكافحون فيها قرونا يحاربون، حتى دانت لهم من دان إلى بئر سبع، وكانت الحضارة الكنعانية أرقى من حضارتهم، وكذلك كانت لغة الكنعانيين أرقى من لغتهم، فاقتبسوا لغة البلاد واندمجوا في حضارتها وتكونت على مر الأجيال قومية عبرية، ... وتأسست الملكية ... ونعموا بفترة استقرار ورخاء دامت أكثر من تسعين سنة، ثم إنهم ما لبثوا أن انقسموا على ذواتهم؛ قسم شمالي عاصمته بالقرب من نابلس الحديثة، وقسم جنوبي عاصمته أورشليم، وفي هذه الفترة، نشأ صراع عنيف بين يهوه وبين آلهة أخرى زراعية، وقام نزاع بين كهنة البعل وكهنة يهوه، واشتد الصرع بين العادات الصحراوية القبلية، وبين العادات الزراعية الحضرية. (3)
دور السبي: في سنة 721ق.م وقعت المملكة الشمالية إسرائيل في قبضة الآشوريين، فخربوا العاصمة، وأجلوا قسما كبيرا من السكان إلى العراق، وفي عام 586ق.م، وقعت المملكة الجنوبية في قبضة البابليين، وخربوا العاصمة، ودكوا معالم الهيكل، وأجلوا السكان إلى بابل. (4)
دور الرجعة إلى موطنهم: كان رجوعهم إلى فلسطين على يد الفرس، وقد انصب حماسهم في إعادة بناء الهيكل ... وفي هذه الفترة وضعت أكثر أسفار التوراة، كما نعرفها حتى يومنا هذا ... وهذه الفترة كانت فترة نضوج اليهودية الرسمية التقليدية. (5)
دور وقوعهم تحت الهلينية: وقعت فلسطين تحت حكم الإغريق عند أواخر القرن الرابع ق.م، فنشأت حرب فكرية عقائدية بين الإغريق واليهود ... وقد اشتد العداء واستفحل، فنشبت بينهم حروب دامية تعرف بحروب المكابيين ... وقرر أنطيوخس أبيفانس أن يمحو اليهودية من الوجود، فجرد عليهم طيطس الروماني عام 70 للميلاد حملة كبيرة، كانت القاضية، فخرب الهيكل وأحرقه، وتشتت اليهود في جميع أنحاء المعمورة.»
21 (8) أحداث الدخول في الطور الإيلي الإبراهيمي
تبدأ الأحداث في الأصل، بنزول إسرائيل (وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) إلى مصر، بصحبة بنيه من الأسباط الأحد عشر، بعد أن استدعاهم ولده الأثير، السبط الثاني عشر (يوسف عليه السلام)، والذي سبق أن بيع رقيقا في مصر، بعد مؤامرة من أشقائه لاستبعاده، كي يخلو لهم وجه أبيهم، وفي مصر تقلبت به الأحوال، حتى انتهى وزيرا لخزانة المصريين.
وتقول التوراة: إن بني إسرائيل قد قضوا في مصر 430 عاما، لكنها لا تحدثنا إطلاقا، عما جرى لبني إسرائيل هناك طوال تلك السنين، رغم ميلها المعهود إلى التفصيل والتكرار الممل، فقط تبدأ التوراة عادتها، بالشرح والتفصيل والتكرار كدأبها، مع ظهور النبي موسى عليه السلام، الذي قدر له أن يقود بني إسرائيل في رحلة خروج أو هروب كبرى إلى فلسطين.
ومن المشكلات العصية على أي باحث، هو محاولة القطع بشأن الزمن الذي بدأ فيه ظهور القبيلة الإسرائيلية أصلا، على صفحات التاريخ، مع جدهم البعيد إبراهيم، وإن كان الأقرب للقبول افتراضا، هو تواجد الجد إبراهيم عليه السلام خلال القرن السابع عشر قبل الميلاد، وذلك وفق مقاربات افتراضية، تستند إلى رواية توراتية، تتحدث عن مهاجمة فرعون مصري لمملكة إسرائيل بعد موت ملكها سليمان مباشرة، وقد ذكرته التوراة باسم «شيشق»، ولأن تاريخ مصر المدون في آثارهم، حدثنا عن فرعون باسم «شيشنق»، وأنه كان صاحب حملات على بلاد الشام وفلسطين، فقد تم لأول مرة محاولة ضبط التاريخ الإسرائيلي متوافقا التاريخ المصري، «وتم التزمين الافتراضي لزمن سليمان، بمطابقته مع زمن شيشنق الأول أو «شيشق» الذي عاش حوالي 1000ق.م»؛ وعليه فقد وضعت خطة ترتب الأزمنة والأحداث والشخصيات التاريخية الهامة، ارتجاعيا، بدءا من زمن شيشنق الأول وسليمان، وفق سياق افتراضي يصل في النهاية إلى زمن الجد إبراهيم عليه السلام.
وإن الأحداث التي تتعلق بحدثي الدخول والخروج، يمكن تقسيمها بين مرحلتين أو طورين، هما الطور الإيلي الإبراهيمي، وخلاله تم حدث الدخول، ثم الطور الثاني اليهوي أو الموسوي وخلاله ثم حدث الخروج؛ وعليه فإن أحداث الدخول، هي تلك التي تبدأ بزمن الجد إبراهيم، وتنتهي بظهور النبي موسى على الأحداث؛ حيث يبدأ بعد ذلك حدث الخروج.
ويتضح من رواية «الكتاب المقدس»، أن تلك الجماعة قد عاشت هذا الطور في حالة من التبدي والارتحال الدائمين، وكان إبراهيم عليه السلام راعيا للمواشي، كذلك كان أبناؤه هبوطا من إسحاق إلى يعقوب. وهو ما يتضح في قول يوسف عندما استقبل إخوته بمصر «... ثم قال يوسف لإخوته ولبيت أبيه: أصعد وأخبر الفرعون وأقول له: إخوتي وبيت أبي الذين في أرض كنعان جاءوا إلي ، والرجال رعاة غنم؛ فإنهم كانوا أهل مواش، وقد جاءوا بغنمهم وبقرهم وكل ما لهم، فيكون إذا دعاكم فرعون وقال ما صناعتكم، أن تقولوا: عبيدك أهل مواش منذ صبانا إلى الآن، نحن وآباؤنا جميعا. لكي تسكنوا أرض جاسان؛ «لأن كل راعي غنم رجس للمصريين»» (تكوين، 46: 31-32).
لكن ثمة إشارات غامضة في مصر ما بين يوسف وموسى، غلب عليها حكاية الاضطهاد، لكن عملهم قبل ذلك أيام فرعون يوسف كان رعاية مواشي الفرعون، أو كما جاء بالكتاب المقدس «فكلم فرعون يوسف قائلا: أبوك وإخوتك جاءوا إليك أرض مصر، قدامك في أفضل أرض أسكن أباك وإخوتك، ليسكنوا في أرض جاسان، وإن علمت أنه يوجد بينهم ذوو قدرة، فأجعلهم رؤساء مواش على التي لي» (تكوين، 47: 5-6).
هذا إضافة إلى ما يظهره السرد التوراتي لحياة إبراهيم ونسله في أرض كنعان، وأنها كانت ارتحالا دائما وراء الكلأ؛ حيث تجد النغمة السائدة «ثم ارتحل إبراهيم ارتحالا متواليا» (تكوين، 12: 19)، دونما استقرار؛ فلم يعرفوا سكن البيوت، بل سكنوا في خيام متنقلة، وعادة ما كان الرب يظهر لإبراهيم وهو يقضي القيلولة أمام خيمته «وظهر له الرب عند بلوطات ممرا، وهو جالس في باب الخيمة، وقت حر النهار» (تكوين، 18: 15).
ومن الطبيعي أن يستتبع العمل بالرعي هجرات متعددة وراء الشعب، وحسب حال الطبيعة من وجود أو شح؛ لذلك كان نزولهم مصر في عهد إبراهيم، وفي عهد يوسف بن يعقوب، وعادة ما كان يسبق تلك الحركة المهاجرة الإشارة إلى نزول جوع بالأرض «وحدث جوع في الأرض، فانحدر إبرام إلى مصر ليتغرب هناك» (تكوين، 12: 10)، «وكان الجوع على وجه كل الأرض ... فلما رأى يعقوب أنه يوجد قمح في مصر، قال يعقوب لبنيه: لماذا تنظرون بعضكم إلى بعض؟ وقال: إني قد سمعت أنه يوجد قمح في مصر، انزلوا إلى هناك» (تكوين، 41: 56؛ 42: 1-2).
ويبدو من عدة شواهد أخرى، أن أهم مظاهر ثروتهم التي تمثلت في الأنعام، كانت ثروات عائلية لا فردية ولا قبلية إنما كانت ملكية عائلية أسرية؛ فنجد أن لوطا ابن أخي إبراهيم، له ولأسرته أملاكها من المواشي، ولإبراهيم وأسرته أملاكا أخرى تخصهم. كذلك الأمر مع أبنائه، بينما كانت أراضي المراعي وآبار المياه ملكية جماعية مشاعية، لكن دون ثبات أو دوام؛ فكانت المراعي تتعرض للجفاف ، والآبار للنضوب، فتنتقل القبيلة مع مواشيها، كما حدث في حال نزولهم إلى مصر، أو في حال استيلائهم على أرض فلسطين. ولم تكن الفروق كبيرة في ذلك العهد بين ثروات أسر تلك القبيلة، ولا بين ثروات الأفراد، إلا في حالات طارئة تزيد فيها الثروة لأسباب أخرى، وهو مثيل ما روته التوراة حول نزول النبي إبراهيم إلى مصر، وما حدث عندما أخذ الفرعون سارة زوجته، «فصنع إلى إبراهيم خيرا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال ... فصعد إبراهيم من مصر ... وكان إبرام غنيا جدا في المواشي والفضة والذهب» (تكوين، 12: 16؛ 13: 1-2). وهو زعم سبق لكثير من الكتاب تناوله وتفنيده، ولا يغنينا منه سوى دلالة غنى أصاب بعض رهط إسرائيل في مصر، أما النبي إبراهيم فلا شك يراودنا في كونه نبيا جليلا، يترفع ويتنزه عن مثل تلك المزاعم.
وطوال تلك السطور، نجد التوراة تؤكد وتقرر أن «إيل إله إسرائيل» (تكوين، 23: 20)، وقد ظل «إيل» هو الإله الذي يتردد ذكره طوال الحقبة الممتدة ما بين إبراهيم وموسى؛ أي بطول سفر التكوين كاملا، عدا حالات يذكر فيها الإله الموسوي (يهوه) قبل ظهور موسى، بديلا عن «إيل»، بداخل سفر التكوين. ومعلوم لدى الدارسين أن ذلك لا يعني معرفة العهد الإبراهيمي للإله «يهوه»، إنما نعرف أن ذلك كان ناتج إدماج روايتين داخل سفر التكوين: رواية كتبها من نعرفه اصطلاحا بالكاتب الإيلي، وراويته هي الغالبة في سفر التكوين، ورواية كتبها من نعرفه اصطلاحا بالكتاب اليهوي. لكن ما لا يجب أن يفوت القارئ هنا، أن الكلمة «إيل» كانت تأتي في حالات كثيرة في صيغة الجمع «إللوهيم» أي الآلهة.
والإله «إيل» في رواية التوراة، هو الإله الذي يرتبط بمشروع البطاركة للاستيلاء على أرض كنعان، بعد هجرتهم من موطنهم الأصلي - وللأبد إلى فلسطين. وهنا لا نستطيع مجاملة الأحداث أو التاريخ؛ فقصة المشروع الإبراهيمي للاستيلاء على فلسطين قصة مقدسة ولا عبرة بتاريخ إنساني لم يدونها أو يعرف شيئا عنها. وقد اعتمدت، علاقة الإله إيل بالمشروع الاستيطاني على قصة توراتية مقدسة تؤكد أنه الإله الذي أخرجه من مدينة «أور الكلدانيين» موطنه الأصلي البعيد، وهو الإله الذي اختار له أرض كنعان ومنحه إياها ولنسله من بعده وإلى أبد آبدين، وتكرر صيغة هذا الميثاق في أكثر من موضع بسفر التكوين، وقد جاءت على الترتيب في عهد الجد إبراهيم كالآتي:
وقال الرب لإبرام: اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك، وأعظم اسمك وتكون بركة، وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه. (تكوين، 12: 1-3)
وبعد هبوطه أرض كنعان:
ظهر الرب لإبراهيم وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض. (تكوين، 12: 7)
ارفع عينيك وانظر من هذا الموضع الذي أنت فيه، شمالا وجنوبا وشرقا وغربا؛ لأن جميع الأرض التي أنت ترى لك أعطيها لنسلك للأبد، وأجعل نسلك كتراب الأرض. (تكوين، 13: 14-16)
في ذلك اليوم قطع الرب من إبرام ميثاقا قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات، القينيين والقنزيين والقدمونيين والحيثيين والفرزيين والرفائيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين. (تكوين، 15: 18-21)
وأقيم عهدي بيني وبينك، وبين نسلك من بعدك في أجيالهم، عهدا أبديا؛ لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، أرض كنعان، ملكا أبديا، وأكون إلههم. (تكوين، 17: 7-8)
والمتابع للقصة التوراتية عن الإله «إيل» والجد «إبراهيم»، يجد نفسه إزاء أسرة صغيرة متواضعة، تتكون من أفراد يعدون على أصابع اليد «إبراهيم وسارة وولديه إسماعيل ثم إسحاق»، وأسرة ابن أخيه لوط التي تتكون فقط من زوجة وبنتين. وللتدقيق نجد الوعد قد اقتصر فقط على إبراهيم وولده إسحاق، «رجل وزوجته»، جاءوا أغرابا لينزلوا أرضا غريبة (أرض غربتهم بتعبير التوراة)، فيمنحهم «إيل» كل الأرض، «ليس قطعة فيها، ولا قرية، ولا حتى مدينة، إنما كل البلاد والممالك الواقعة ما بين نهر مصر وبين نهر الفرات». رغم سكانها الذين عمروها من ألوف السنين، وتم تعدادهم في نص الوعد «القينيين، والقنزيين والقدمونيين، والحيثيين ، والفرزيين، والرفائيين، والأموريين، والكنعانيين، والجرجاشيين، واليبوسيين»، والواضح في رواية سفر التكوين، أن تلك الشعوب قد قطعت شوطا عظيما في سلم التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وكونت عددا من الممالك المستقرة، وجاء ذكر بعضها في الإصحاح الرابع عشر وغيره؛ مثل مملكة جرار، ومملكة سدوم، ومملكة عمورة، ومملكة أدمة، ومملكة صبويم، ومملكة بالع، ومملكة عمون، ومملكة موآب، ومملكة شاليم. وقد ورد ذكر تلك المملكة الأخيرة مع اسم ملكها «ملكي صادق» أو الملك صادق، كما جاء مع مملكة جرار اسم ملكها الفلسطيني «أبيمالك». كل هذا تعج به الأرض، بينما كان إبراهيم مجرد راع غريب بسيط، صاحب مواشي؛ وعليه فلا مندوحة من افتراض أن كاتب هذا الجزء من التوراة، الذي كتب بعد زمن الجد إبراهيم بقرون طويلة، قد كتبه بعد أن وصل الإسرائيليون لدرجة من الاقتدار تسمح لهم بهذا الطموح، فتمت ترجمة ذلك الطموح إلى اللغة القدسية، بإعادة القرار بالاستيلاء على فلسطين، إلى علاقة قدسية بالرب «إيل». والمسألة بذلك تصبح قدرا مقدسا وإلهيا، لا مجال للاعتراض عليه؛ بحيث تم منح الأرض بأثر رجعي للسلف البعيد إبراهيم، بينما لم يكن قد أنجب أصلا. مع وعد آخر بأن ذلك النسل سيكون أعظم الأمم، ومن هنا تم تزمين الرواية بزمن الجد إبراهيم لتكتسب قدسية التقادم، وإعمالا للمبدأ القانوني القائل بوضع اليد المدة الطويلة المكسبة للملكية، والذي يبدو أنه اليوم ليس سوى توارث عن قواعد تلك الأزمان.
وكان المقابل الذي طلبه «إيل» مقابل هذه العطية العظيمة، التي يتم فيها سلب الأرض من أصحابها لصالح القبيلة المغتربة، هو أن يتم الاعتراف به إلها للقبيلة، دون الآلهة الأخرى، وكان لا بد من توثيق العهد وإشهاره، ليكون التوثيق شاهدا على مر السنين أمام جميع الشعوب منعا للنزاع. وكان التوثيق هو أن يضع إبراهيم ونسله علامة الميثاق الشاهدة لتذكر الأحفاد، في علامة مميزة هي «الختان»، وذلك نصا «هذا هو عهدي الذي تحفظون بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك، يختتن كل ذكر منكم، فتختتنون في لحكم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم» (تكوين، 17: 9-11).
أما الغريب في كل تلك الحكاية، أن «الإله «إيل»، الذي منح الغرباء أرض فلسطين، كان إلها كنعانيا فلسطينيا أصيلا في المنطقة»، وفي النصوص يمكنك أن ترى ما يشير إلى أن «إيل» كان غير معروف لإبراهيم عند هبوطه البلاد، وذلك من قبيل القول: وظهر الرب لأبرام وقال: «لنسلك أعطي هذه الأرض، فبنى هناك مذبحا للإله الذي ظهر له» (تكوين، 12: 7)؛ فالرب هنا غفل من التعريف أو المعرفة؛ فهو رب بين أرباب. لكنه يتميز عنهم بأنه هو «الذي ظهر له» لذلك قام الرب بتعريف نفسه لإبراهيم قائلا: «أنا إله بيت إيل» (تكوين، 31: 13). ومعلوم أن «بيت إيل» مدينة كنعانية مقدسة منذ القدم، وقد دلت الكشوف الأركيولوجية الحديثة على انتشار عبادة «إيل» على نطاق واسع بحسبانه كبير الآلهة، في مناطق الشعوب السامية، في بلاد كنعان والشام جميعا، والرافدين وجزيرة العرب وبخاصة جنوبها، بل إنك تلحظ ملحوظة على جانب عظيم من الأهمية سبقت الإشارة إليها، وهو أنه عند هبوط إبراهيم وعائلته أرض كنعان، يهجر لغته الأصلية الآرامية، إلى لغة الكنعانيين أهل البلاد، أو شفة كنعان بتعبير التوراة.
وقد ظل «إيل» مصاحبا للنسل الإبراهيمي فإليه ينسب «سمع إيل» أو «إسماعيل» ابن إبراهيم الأكبر، والذي تم استبعاده من التركة لأنه ابن جارية مصرية (؟!) وكان «إيل» هو الذي بشر سارة بابنها إسحاق، الذي أنجب ولدين هما «عيسو» و«يعقوب». وتم استبعاد عيسو بدوره من الميراث لتبقي التركة خالصة ليعقوب، الذي كان على علاقة متميزة بالإله إيل؛ فقد ظهر له عدة مرات كان أهمها وأشدها حسما، اللقاء الذي تم فيه اختبار قوة يعقوب بمصارعته جسديا، وتبديل اسمه من «يعقوب إلى إسرائيل»؛ ومن ثم أعاد «إيل» تأكيد الوعد الموثق بقوله ليعقوب: «أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق، «والأرض التي أنت مضجع عليها أعطيها لك ولنسلك ويكون نسلك كتراب الأرض، وتمتد غربا وشرقا وشمالا وجنوبا»» (تكوين، 28: 13-14). وبهذا استمر الوعد لإسرائيل (يعقوب) وبنيه الأسباط الاثني عشر «رءوبين، شمعون، لاوي، يهوذا، نفتالي، جاد، أشير، يساكر، زبولون، بنيامين، يوسف»، الذين هبطوا مصر، وعاشوا هناك زمنا كان كفيلا بنسيان «إيل»، وربما عبدوا هناك آلهة المصريين. ولما جاءهم موسى عليه السلام بعبادة الإله الجديد «يهوه» من بلاد «مديان»، وأخبرهم أنه إله أجدادهم الذي كان يعبد في كنعان، لم يجدوا غضاضة في قبوله على الفور، دون تمحيص أو تشكك أو حتى محاولة للتأكد.
وبعد ذلك، تنقلنا التوراة نقلة أخرى، إلى أحداث أخرى، تبدأ بقصة تفضيل يعقوب لولده يوسف، مما أثار حقد إخوته وموجدتهم، وبحيث لجئوا إلى مؤامرة للتخلص منه، وهنا محاولة تصفية أخرى تقوم بها التوراة لصالح قبيلة «راحيل» أي قبيلة يوسف، عن قبائل الأسباط الأخرى، لكنها هنا يبدو قد اصطدمت بواقع تحالف مجموعات لا مناص من قبولهم واستبقائهم، خاصة أن النبي الآتي (موسى) لن يكون من سبط يوسف، إنما من سبط لاوي.
وهكذا، بدأ الدخول بيوسف الجميل بن إسرائيل، صاحب الأحلام، تلك الأحلام التي أزعجت إخوته بشدة، ورأى فيها يوسف إخوته «رمزا» مع والديه يسجدون له، حتى قالوا له: «ألعلك تملك علينا ملكا، أم تتسلط علينا تسلطا» (تكوين، 37: 8). لكن سير أحداث القصة بعد ذلك، يشير إلى أن أحلام الصبي قد تحققت بحذافيرها، وأن يوسف سيصير في عليين، وأن أهله سيسجدون له فعلا، لكن في بلاد النيل، حيث تتابع الرواية سردها للأحداث فتقول: «وأما يوسف، فأنزل إلى مصر، واشتراه فوطيفار، خصي فرعون رئيس الشرطة، رجل مصري، من يد الإسماعيليين الذين أنزلوه هناك، وكان الرب مع يوسف، فكان رجلا ناجحا، وكان في بيت سيده المصري ... فوجد يوسف نعمة، وخدمة فوكله على بيته، ودفع إلى يده كل ما كان له ... والرب بارك بيت المصري بسبب يوسف ...»
ثم فجأة، وبلا مناسبة، تقول الرواية المقدسة: «وكان يوسف حسن الصورة، وحسن المنظر.» توطئة للتعريف بنساء المصريين، فإن «امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف، وقالت اضطجع معي فأبى.» واستمر يوسف يتأبى على سيدة القصر حتى كان يوم «أنه دخل البيت ليعمل عمله، ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت، فأمسكته بثوبه قائلة: اضطجع معي، فترك ثوبه في يدها وهرب.» فما كان من المرأة التي شبقت بالاشتهاء إلا أن نادت أهل بيتها وكلمتهم قائلة: «انظروا، وقد أتى إلينا برجل عبراني ليداعبنا، دخل إلي ليضطجع معي فصرخت بصوت عظيم ، وكان لما سمع أني رفعت صوتي وصرخت أنه ترك ثوبه بجانبي وهرب وخرج إلى خارج» (التكوين، 39).
وبغض النظر عن الثغرات في إخراج الدراما والتي ملأتها الرواية القرآنية بأنه بدوره قد «هم بها»، والتناقض ما بين خلو البيت تماما «لم يكن من أهل البيت هناك»، وبين صرخة واحدة فإذا أهل الدار كلهم إلى غرفتها محضرون، فإن مآل يوسف الحتمي كان السجن. وهو حكم لا شك يهون مقارنا بمواقف بني إسرائيل من قضايا مشابهة كان القضاء المبرم فيها هو الإعدام، دون أي تثبت من صحة الواقعة بالبراءة أو ثبوت التهمة، فكان قرار سيد الدار المصري مقابل مثيله لدى بني إسرائيل قرارا يتسم بالحيطة مشفوعة بالرحمة مغلفة برغبة في التغطية على فضيحة، كان يمكن أن تفشو - وقد فشت - لو تحدث عنها «يوسف» مع رفاق سجنه.
واستمر يوسف في علاقته الحميمة بالأحلام وهو رهين حبسه، ولكنه هذه المرة لم يكن حالما، إنما مفسرا للأحلام، وصدق تفسيره لأحلام رفاق السجن، وتنبأ لأحدهم - وهو ساقي الفرعون - أنه سيبرأ، ويتبوأ مكانه مرة أخرى بعد ثلاثة أيام من رؤياه، بينما تنبأ لآخرين بمصير سيئ بالإعدام، «وهو ما يشير إلى لون من» المحاكمات القضائية المقننة، فتبرئ وتجازي وفق قواعد محددة، وكان ما قاله يوسف محققا في الواقع.
ثم تأتي الرواية المشهورة عن حلم فرعون بالبقرات السبع العجاف، تأكل السبع السمان، والسنابل الملفوحة بالريح الشرقية السنابل السمينة الممتلئة، وعندما يطلب الفرعون المفسرين، يتذكر الساقي «يوسف» كأعظم مفسر للأحلام، فيخبر الفرعون، فيحضرون يوسف إلى البلاط، ويتقدم يوسف بتفسيره لسيد مصر: «فقال يوسف لفرعون: حلم فرعون واحد، قد أخبر الله فرعون بما هو صانع، البقرات السبع هي سبع سنين، والسنابل السبع الحسنة هي سبع سنين ... هو ذا سبع سنين قادمة شبعا عظيما في أرض مصر، تم تقوم بعدها سبع سنين جوعا.»
ثم يوجه يوسف النصيحة للفرعون: «فالآن لينظر فرعون رجلا بصيرا وحكيما يجعله على أرض مصر في سبع سنين الشبع ... ويأخذ خمس غلة الأرض ... فيجمعون جميع طعام هذه السنين الجيدة القادمة، ويخزنون قمحا تحت يد فرعون ... فيكون الطعام ذخيرة للأرض لسبع سني الجوع.»
وكانت نتيجة موهبة يوسف الفريدة في تفسير الأحلام أن قدرت له تحقيق أحلامه هو بعد ذلك، وهو ما سجلته رواية المقدس في قولها: «فحسن الكلام في عيني فرعون، وفي عيون جميع عبيده، فقال فرعون لعبيده: هل نجد مثل هذا رجلا فيه روح الله؟ ثم قال فرعون ليوسف: بعدما أعلمك الله كل هذا، ليس بصير وحكيم مثلك، أنت تكون على بيتي، وعلى فمك يقبل جميع شعبي، إلا أن الكرسي أكون فيه أعظم منك، ثم قال فرعون ليوسف: انظر، قد جعلتك على كل أرض مصر، وخلع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف، ... وأركبه في مركبته الثانية، ونادوا أمامه: اركعوا. وقال فرعون ليوسف ... بدونك لا يرفع إنسان يده ولا رجله في كل أرض مصر، ودعا فرعون يوسف صفنات فعنيح، وأعطاه بنت فوطي فارع كاهن أون زوجة ...» (تكوين، 41).
وكان تولي يوسف أمر خزانة مصر وشئونها الاقتصادية، مدعاة لدخول تغييرات جوهرية على الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية المعمول بها في البلاد؛ فبعد أن كان الناس أحرارا، ليس لملكهم عليهم سوى سلطان مركزية الدولة، وبعد أن كانوا يملكون أراضيهم وغلالهم أحرارا فيها. «اشترى يوسف كل أرض مصر لفرعون إذ باع المصريون كل واحد حقله؛ لأن الجوع اشتد عليهم، فصارت الأرض لفرعون، أما الشعب فنقلهم إلى المدن من أقصى مصر إلى أقصاه ... فقال يوسف للشعب: إني اشتريتكم اليوم وأرضكم لفرعون، هو ذا لكم بذار فتزرعون الأرض، ويكون عند الغلة أنكم تعطون خمسا لفرعون ... فقالوا: أحييتنا، ليتنا نجد نعمة في عيني سيدي، فنكون عبيدا لفرعون، «فجعلها يوسف فرضا على أرض مصر إلى هذا اليوم»» (تكوين، 48: 20-26). وكان من المفهوم كيف تحول بعد ذلك فرعون مصر أو الفراعين عموما، وبعدما كان الفرعون يشهد لله، وبأن الإله هذا هو الذي يمنح العبد علمه «بعدما أعلمك الله كل هذا»، فامتلك الفرعون الناس والأرض، تغيرت الأحوال، من سلطان محكوم بالقواعد، إلى سلطان مطلق النفوذ، يدعي الألوهية فيما بعد، وهو أمر يترتب على رواية التوراة، وإن كان التوراة، لا ينبني على حقائق التاريخ.
أما كيف تحققت أحلام الصبي بعد اليفوع، وكيف سجد له الأحد عشر كوكبا، فهو ما تخبرنا به رواية المقدس، التي تؤكد أن الجوع لم يكن في مصر وحدها، والتي أمنت على نفسها بالحكمة اليوسفية، إنما كان الجوع شاملا؛ فقد حل القحط بيعقوب وبنيه في بداوتهم، وحل بهم الشظف في سني المجاعة السبعة «فلما رأى يعقوب أنه يوجد قمح في مصر، قال يعقوب لبنيه: إني قد سمعت أنه يوجد قمح في مصر، انزلوا هناك واشتروا لنا من هناك لنحيا ولا نموت، فأتى بنو إسرائيل ليشتروا بين الذين أتوا؛ لأن الجوع كان في أرض كنعان» (التكوين، 42).
وبنزولهم مصر كان اللقاء مع سيد الخزانة، ثم التعارف، ثم إعلان يوسف لإخوته الذين بغوا عليه صغيرا «أنا يوسف، أحي أبي بعد؟ ... أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر ... فالآن ليس أنتم أرسلمتوني إلى هنا، بل الله، وهو جعلني أبا لفرعون وسيدا لكل بيته ومتسلطا على أرض مصر. أسرعوا وأصعدوا إلى أبي، وقولوا له هكذا ابنك يوسف: قد جعلني الله سيدا لكل مصر، انزل إلي فتسكن في أرض جاسان قريبا مني ... وقال فرعون ليوسف قل لإخوتك ... خذوا أباكم وبيوتكم وتعالوا إلي فأعطيكم خيرات أرض مصر، وتأكلوا دسم الأرض ... ولا تحزن عيونك على أثاثكم؛ لأن خيرات جميع أرض مصر لكم» (تكوين، 45)، «وكانت جميع نفوس بيت يعقوب التي أتت إلى مصر سبعون» فأسكن يوسف «أباه وإخوته وأعطاهم ملكا في أرض مصر، في أفضل الأرض، في أرض رعمسيس، كما أمر فرعون» (تكوين، 47).
وفي مصر، أنجب يوسف من زوجته المصرية «أسنات» ولديه «منسي وإفرايم» (تكوين، 41)، وبعد زمن مات يعقوب «وأمر يوسف عبيده الأطباء أن يحنطوا أباه، فحنط الأطباء إسرائيل، وكمل له أربعون يوما؛ لأنه هكذا تكمل أيام المحنطين وبكى عليه المصريون سبعين يوما» (تكوين، 50).
وعاش يوسف مائة وعشر سنين «وقال يوسف لإخوته: أنا أموت، لكن الله سيفتقدكم ويصعدكم من هذه الأرض إلى الأرض التي حلف لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، واستحلف يوسف بني إسرائيل قائلا: الله سيفتقدكم، فتصعدون عظامي من هنا، ثم مات يوسف وهو ابن مائة وعشر سنين، فحنطوه ووضعوه في تابوت في مصر» (تكوين، 50). وبموت يوسف ينتهي الطور الإبراهيمي المرتبط بالإله الأكبر «إيل».
وهنا ملحوظات سبق أن نبهنا إليها؛ لأنها أثارت بعد ذلك عددا من الإشكاليات؛ ففي قصة التوراة نجد ذكرا لأسماء مصرية مثل «فوطي فارع»، وهو اسم مركب يدخل فيه اسم إله الشمس المصري الأكبر «رع»، كذلك نعلم من الرواية أن «فوطي فارع» كان كاهنا لمدينة «أون» كذلك يرد اسم مدينة «رعمسيس»، ومثل تلك الإشارة أضفى على رواية التوراة بعض المصداقية، ويشير إلى معرفة واضحة للنص التوراتي لمصر في عهدها القديم، أو على الأقل معرفة كاتب ذلك الجزء من التوراة بمصر في عصرها الذهبي. وهي الإشارات التي أدت بنا في بحث بين أيدينا الآن «النبي موسى ...» مع إشارات أخرى كثيرة، إلى تأكدنا اليقين من دخول بني إسرائيل إلى مصر وخروجهم منها، دون أي شك في ارتكابنا خطأ علميا بهذا اليقين.
والمسألة بالطبع، ولاتخاذ ذلك الموقف، لم تكن بالبساطة التي في عجالتنا هنا؛ حيث كانت الإشكاليات الشديدة التعقيد، والكثيفة الروافد والمتشابكات، وربما كان أبرزها وأشدها إثارة للتضارب بين المدارس البحثية، هو أن التوراة رغم استخدامها اصطلاحات وأسماء مصرية قديمة، وذكرها لعادات مصرية لم نكن على علم بها قبل كشف رموز اللغة القديمة، كطقوس الدفن، وعدد أيام التحنيط، وعدد أيام ندب الميت ... إلخ، فإن التوراة جاءت عند أمور هامة وخطيرة وتجاوزتها، وبشكل يفصح عن جهل تام ومطبق بها، رغم أنها أكثر المسائل حدية وفصلا وقطعا في أهم نقاط التاريخ الفاصلة، وذلك مثل عدم ذكرها لاسم فرعون الدخول (فرعون يوسف)، ولا اسم فرعون الخروج (فرعون موسى)، ولا سنة الدخول، ولا عام الخروج، ولا أي علامات يمكن تزمينها وفك دلالاتها، رغم اهتمامها بذكر ما هو أقل أهمية بالمقارنة ، مثل اسم وزير الشرطة أو كاهن أون وابنته. والأمر كله مرهون بما يمكن أن نصل فيه إلى رأي يمكن الإفصاح عنه عند الانتهاء من البحث في كتابنا المشار إليه، أو بما يمكن أن ينتهي إليه باحث مجتهد قبلنا. (9) أحداث الخروج (في الطور اليهوي الموسوي)
ينقلنا المقدس التوراتي هنا نقلة أخرى فاصلة ومتميزة تماما في مضامينها ودلالاتها وتحولاتها التاريخية والعقدية، بادئا بالإشارة الهامة «بنو إسرائيل أثمروا وتوالدوا ونموا كثيرا وامتلأت الأرض منهم، ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف، فقال لشعبه: هو ذا إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا، هلم نحتال لهم لئلا ينموا، فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا، ويحاربوننا، ويصعدون من الأرض، فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم، فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيثوم ورعمسيس» (خروج، 1: 1-11).
وهكذا نعلم أن فرعون يوسف قد مات، أو انتهى أمره بشكل ما، ليخلفه على العرش فرعون آخر، تحول بنو إسرائيل في عهده من التكريم والسيادة، وأكل دسم الأرض، إلى التسخير في طين الأرض؛ لأن الفرعون الجديد لم يكن يعرف يوسف! واستعبدهم في بناء مدينتين للمخازن هما «فيثوم» و«رعمسيس». وكان واضحا أنه يحمل روحا عدائية شديدة، وشكا في علاقات الإسرائيليين بأعداء البلاد، مع رغبة واضحة في الانتقام منهم، لأمر غير واضح بالكتاب المقدس، حتى إنه أمر بقتل كل ذكر يولد من بينهم «إن كان ابنا فاقتلاه، وإن كان بنتا فتحيا ... كل ابن يولد تطرحونه في النهر، لكن كل بنت تستحيونها» (خروج، 1: 16-22).
وفي ظل هذه الأزمة ولد «موسى» أشهر رجل في تاريخ بني إسرائيل، وهو «موسى بن عمران بن قهات بن لاوي»، ولاوي هو أحد الأسباط أبناء يعقوب (إسرائيل)، وذلك يعني أن موسى هو النسل الرابع ليعقوب. وقد أنجبه عمران بزواجه من عمته «يوكابد»، وأنجب منها أيضا هارون أخاه الأكبر، وشقيقتها مريم (خروج، 6: 14-20). ورغم أن التوراة تؤكد لنا مسألة قتل ذكور الإسرائيليين من أطفال، فإنها لم توضح لنا كيف نجا هارون من هذا المصير، وإن فصلت أمر نجاة موسى؛ حيث وضعته أمه في سفط من البردي على حافة النهر، خوفا عليه من القتل، وعثرت عليه ابنة فرعون، فرقت له رغم علمها أنه طفل إسرائيلي وتبنته ، وأرسلته مع أمه كمرضعة له بالأجر، «ولما كبر الولد جاءت به إلى ابنة فرعون، فصار لها ابنا، ودعت اسمه موسى، وقالت إني انتشلته الماء» (خروج، 2: 10).
وقد تعامل «سيجموند فرويد» مع اسم «موسى» كما تعامل «جيمس هنري برستد»، وأكد أنه اسم مصري، وأنه بالترجمة الدقيقة يجب نطقه صحيحا «مس»؛ ومن ثم افترضوا أنه كان يسبقه اسم إله مصري، باعتبار «مس» في المصرية القديمة تعني «يلد» أو «أنجب» غرارا على أسماء مثل «تحوت مس» أي الإله تحوت أنجب ولدا، و«رع مس» أي إله الشمس أنجب ولدا، و«أح مس» أي إله القمر أنجب ولدا. لكن من جانبنا نرى ترجمة «موسى» بهذا الشكل متسرعة وغير دقيقة، ولو دققنا النظر في رواية التوراة، سنجد القول، «ودعت اسمه موسى قائلة: إني انتشلته من الماء» لا يحتاج إلى تخريجات؛ لأن «الماء» باللسان المصري القديم «مو»،
22
وبذات اللسان نجد «سا» تعني «ابن»،
23
والاسم هنا ملصق من مقطعين ويفيد معناه «ابن الماء»، وهو اسم يتناسب مع الموقف حيث وجدته ابنة الفرعون في سفطة على سطح الماء، ولم تجد اسما يناسبه - وهي لا تعلم له نسبا - سوى تلك التسمية البليغة، وهي بدورها تسمية مصرية قحة.
ونتابع الأحداث مع رواية التوراة فتقول: «وحدث في تلك الأيام، لما كبر موسى، أنه خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم، فرأى رجلا مصريا يضرب رجلا عبرانيا من أخوته، فالتفت إلى هنا وهناك، ورأى أن ليس أحد، فقتل المصري وطمره في الرمل. ثم خرج في اليوم الثاني، وإذا رجلان عبرانيان يتخاصمان، فقال للمذنب: لماذا تضرب صاحبك؟ فقال: من جعلك رئيسا وقاضيا علينا؟ أمفتكر أنت بقتلي كما قتلت المصري؟ فخاف موسى وقال: حقا قد عرف الأمر. فسمع فرعون هذا الأمر فطلب أن يقتل موسى، فهرب موسى من وجه فرعون، وسكن في أرض مديان، وجلس عند البئر، وكان لكاهن مديان بنات ، فأتين واستقين وملأن الأجران ليسقين غنم أبيهن، فأتى الرعاة وطردوهن، فنهض موسى وأنجدهن وسقى غنمهن، فلما أتين إلى رعوئيل أبيهن قال: ما بالكن أسرعتن في المجيء اليوم؟ فقلن «رجل مصري أنقذنا» من أيدي الرعاة، وإنه استقى لنا أيضا، وسقى الغنم، فقال لبناته: وأين هو؟ لماذا تركتن الرجل؟ ادعونه ليأكل طعاما، فارتضى موسى أن يسكن مع الرجل، فأعطى موسى صفورة ابنته» (خروج، 2: 16-21).
وفي مديان يأتي الحدث الأهم والجديد، في شئون العقيدة الإسرائيلية؛ «حيث يظهر لبني إسرائيل إله جديد»، يلتقي بموسى في مديان وهو يرعى غنم حميه «رعوئيل» أو «يثرون»، وذلك في رواية المقدس: «وأما موسى فكان يرعى غنم يثرون حميه كاهن مديان، فساق الغنم إلى ما وراء البرية، وجاء إلى جبل الله حوريب، وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة، فنظروا وإذا العليقة تتوقد بالنار، والعليقة لم تكن تحترق ... ناداه الله من وسط العليقة وقال: ... اخلع حذاءك من رجليك؛ لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة. ثم قال: أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب ... إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر ... فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين، وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة، إلى أرض تفيض لبنا وعسلا، إلى مكان الكنعانيين والحيثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين ... فالآن هلم فأرسلك إلى فرعون وتخرج شعبي بني إسرائيل من مصر ... فقال موسى لله: ها أنا آتي إلى بني إسرائيل، وأقول لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم، فإذا قالوا لي ما اسمه؟ فماذا أقول لهم؟ فقال الله لموسى أهيه الذي أهيه، وقال هكذا تقول لبني إسرائيل: أهيه أرسلني إليكم. وقال الله أيضا لموسى: هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه إله آبائكم، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني إليكم، هذا اسمي إلى الأبد» (خروج، 3: 1-15). «قل لبني إسرائيل أنا الرب، وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين وأنقذكم من عبوديتهم، وأخلصكم بذراع ممدودة وبأحكام عظيمة، وأتخذكم لي شعبا، وأكون لكم إلها» (خروج، 6: 6-7).
وهكذا التقى موسى الإله «أهيه» أو «يهوه»، وفي موضع آخر بالمقدس يأتي اسمه «ياه». انظر: (مزامير، 48). ويلاحظ أن كاتب هذا الجزء، يصر على أن هذا الإله كان إلها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، إصرارا لا يبرره إلا محاولة تثبيت أمر جديد بإلقائه في القديم، ولا يلتقي مع عدم معرفة بني إسرائيل بمصر لهذا الإله أو اسمه، مع استعدادهم بحكم تعاملهم في مصر مع آلهة عديدة لقبول الإله الجديد، فقط سيكون التساؤل عن اسمه (؟!)، ناهيك عن كونه لا يلتقي إطلاقا ولا حتى فونيطيقيا بالإله «إيل»؛ لذلك نجد موسى يتشكك في إمكان قبول بني إسرائيل لذلك الإله في قوله ليهوه: «ولكن، ها هم لا يصدقونني ولا يسمعون لقولي» (خروج، 4: 1)، فيعطيه يهوه دلائل إقناع إعجازية لم تظهر من قبل مع «إيل»، «فقال له الرب: ما هذه في يدك؟ فقال عصا، فقال اطرحها للأرض، فطرحها إلى الأرض فصارت حية، فهرب موسى منها، ثم قال الرب لموسى: مد يدك وأمسك بذنبها، فمد يده وأمسك به فصارت عصا في يده. ثم قال الرب أيضا: أدخل يدك في عبك، فأدخل يده في عبه ثم أخرجها، وإذا يده برصاء مثل الثلج، ثم قال له: رد يدك إلى عبك فرد يده إلى عبه ثم أخرجها من عبه وإذا هي عادت مثل جسده» (خروج، 4: 2-7)، أما الفاصل في شأن يهوه كإله جديد، فيأتي في عبارة ملتوية للكاتب التوراتي تفصح بجلاء في قول يهوه لموسى: «أنا ظهرت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء «وأما باسمي يهوه فلم أعرف عندهم»» (خروج، 6: 2-3).
ويخبر يهوه كليمه أن الخطر في مصر قد زال عنه «لأنه قد مات جميع القوم الذين كانوا يطلبون نفسك» (خروج، 4: 19)، لما احتج موسى لربه أنه لن يستطيع مجادلة الفرعون الجديد، في أمر خروج بني إسرائيل من مصر، لأنه «ثقيل الفم واللسان» (خروج، 4: 10)، و«أغلف الشفتين» (خروج، 6: 12)، فإنه يدعمه بأخيه هارون، ويتجه الأخوان للقاء الفرعون الذي لا تحدد الرواية من هو؟ ولا اسمه. «وبعد ذلك دخل موسى وهارون وقالا لفرعون: هكذا يقول الرب إله إسرائيل: أطلق شعبي ليعبدوني في البرية، فقال فرعون: من هو الرب حتى أسمع لقوله فأطلق إسرائيل؟ لا أعرف الرب، وإسرائيل لا أطلقه، فقالا له: إله العبرانيين. فنذهب سفر ثلاثة أيام في البرية ، ونذبح للرب إلهنا، لئلا يصيبنا بالوباء أو بالسيف، فقال لهما ملك مصر: لماذا يا موسى وهارون تبطلان الشعب من أعمالهم؟ اذهبا إلى أثقالكما» (خروج، 5: 1-4).
وكان رد رب موسى: «الآن تنظر ما أنا فاعله بفرعون، فإنه بيد قوية يطلقهم، وبيد قوية يطردهم من أرضه ... أنا أعطيهم أرض كنعان؛ أرض غربتهم التي تغربوا منها» (خروج، 6: 1-4).
والواضح هنا محاولة ربط التوراة بين الوعد القديم لإبراهيم من الإله إيل، وبين قبيلة راحيل أو بني إسرائيل المقيمين بمصر والإله الجديد يهوه، ولا تخفى على لبيب إشارة التوراة التأكيدية المتكررة، أن أرض فلسطين بالنسبة لبني إسرائيل هي أرض غربة أرضا أصلية لهم.
ثم تتتالى الأحداث متمثلة في معجزات متتالية، تفسرها حالة الانتقال البشري من التعامل مع الطبيعة كآلهة إلى آلهة مفارقة ومنفصلة عن الظواهر، ومن صيغة الأسطورة إلى صيغة الدين، وحيث كان السحر هو منهج الفكر الأسطوري وأداته الفعالة للتعامل مع الظواهر، وحيث إنه كان ممكنا للدين أن يبدأ من لا شيء، فقد دخل السحر في متن أدوات الدين والمنهج الجديد، وذلك قبل أن يتجاوزه فيما بعد، ويحاول التخلص منه ويدينه ويستنكره؛ ومن ثم استخدم الدين الطالع ذات الأدوات وذات المناهج السحرية القديمة، فأمر يهوه موسى أن يطرح عصاه أمام فرعون، لإثبات أن يهوه أشد سحرا وأقوى أثرا من سحرة الأساطير ومن الطبيعة، فتتحول العصا إلى ثعبان، فيستعدي فرعون مصر حكماء بلاده وسحرتهم فيفعلون الأمر ذاته، لكن السحر الجديد، يتسم بقدرة سترفع الأمر من مجال السحر والأسطورة، إلى مجال السحر والدين، كمرحلة انتقالية بشعائر وطقوس تضع المطلوب كله بيد الرب المفارق المتجرد، لكن تثبيت البداية الجديدة، تم بذات الأسلوب القديم، فابتلعت عصا موسى عصي المصريين (خروج، 7: 9-12).
ثم يلي ذلك مجموعة من الممارسات السحرية في ثوب إعجازي، يبدو صراعا بين أسلوبين من الحياة، أو بين أدلوجتين مختلفتين، بل ومتنافرتين، وتتحول العصا (عصا الراعي) إلى أداة فعالة في يد النهج الرعوي، لرأب صدع نفسي إزاء أهل الخصب، تلك الحالة النفسية التي كثيرا ما غذتها حاجة البدو الدائمة للانتجاع على حدود البلاد المستقرة حول الأنهار، طلبا للقوت، والإغارة في أحيان كثيرة على تلك الحدود، لسلب المحصول بعد جمعه، بشكل دوري سجله لنا التاريخ، ومن هنا يقوم يهوه بتدمير كل مظاهر الخصب والنماء، في الضربة الأولى للمصريين:
قال الرب لموسى: قل لهارون: خذ عصاك ومد يدك على مياه المصريين، وعلى سواقيهم، وعلى آجامهم، وعلى كل مجتمعات مياههم لتصير دما، فيكون دم في كل أرض مصر فتحول كل الماء الذي في النهر دما، ومات السمك الذي في النهر وكان الدم في كل أرض مصر ... وحفر جميع المصريين حوالي النهر لأجل ماء ليشربوا؛ لأنهم لم يقدروا أن يشربوا من ماء النهر. (خروج، 7: 19-24)
وهكذا ينتقل الصراع إلى تدمير عصب الخصب ممثلا في النهر، وتتحول عن كونها محاولة للخروج والتمرد يقودها موسى أمام فرعون، إلى عقاب جماعي يصيب كل شعب مصر، النقمة هنا تتحول لكيان المجتمع كله، فتأتي الضربة الثانية من يهوه لمصر:
ثم قال الرب لموسى: قل لهارون: مد يدك بعصاك على الأنهار والسواقي والآجام، وأصعد الضفادع على أرض مصر ... فصعدت الضفادع وغطت أرض مصر. (خروج، 8: 5-6)
ويتبعها مباشرة بالضربة الثالثة:
ثم قال الرب لموسى قل لهارون: مد عصاك واضرب تراب مصر ليصير بعوضا في جميع أرض مصر. (خروج، 8: 16)
كذلك تأتي الضربة الرابعة حشرية بدورها:
قال الرب لموسى: بكر في الصباح وقف أمام فرعون. إنه يخرج إلى الماء، وقل له: هكذا يقول الرب: أطلق الشعب ليعبدوني فإنه إن كنت لا تطلق شعبي، ها أنا أرسل عليك وعلى عبيدك وعلى شعبك وعلى بيوتك الذبان؛ فتمتلئ بيوت المصريين ذبابا ولكن أميز في ذلك اليوم أرض جاسان حيث شعبي مقيم حتى لا يكون هناك ذبان لكي تعلم أني أنا الرب في أرض، وأجعل فرقا بين شعبي وشعبك. (خروج، 8: 20-24)
ثم ينقل يهوه ضرباته من الحرب الحشرية إلى الحرب الجرثومية، بدءا من الضربة الخامسة :
فها يد الرب على مواشيك التي في الحقل، على الخيل والحمير والبقر والغنم وباء ثقيلا جدا، ويميز الرب بين مواشي إسرائيل ومواشي المصريين ... فماتت جميع مواشي المصريين، وأما مواشي بني إسرائيل فلم يمت منها واحد. (خروج، 9: 3-6)
كذلك جاءت الضربة السادسة جرثومية بيولوجية بدروها:
ثم قال الرب لموسى وهارون: خذ ملء أيديكما من رماد الأتون وليذره موسى نحو السماء أمام عيني فرعون؛ ليصير غبارا على كل أرض مصر، فيصير على الناس وعلى البهائم دمامل طالعة ببثور في كل أرض مصر. (خروج، 9: 8-10)
وبضربته السابعة؛ يتحول يهوه نحو الطبيعة مرة أخرى ليجعل خيرها نقمة:
ثم قال الرب لموسى: مد يدك نحو المساء ليكون بردا في كل أرض مصر ... فأعطى الرب رعودا وبردا، وجرت نار على الأرض، وأمطر الرب بردا على أرض مصر، فكان بردا ونارا متواصلة وسط البرد. شيء عظيم جدا لم يكن مثله في كل أرض مصر، منذ صارت أمة فضرب كل أرض مصر، جميع ما في الحقل من الناس والبهائم، وضرب جميع عشب الحقل وكسر جميع شجر الحقل، إلا أرض جاسان حيث كان بنو إسرائيل؛ فلم يكن فيها برد. (خروج، 9: 22-26)
ورغم كل ذلك الدمار والهلاك، يظل الفرعون مصرا على عدم إطلاق بني إسرائيل، ويعود يهوه إلى الحرب الحشرية، ليقضي تماما على بقايا أي أثر للخصب في أرض مصر؛ فبعد البرد الذي قضى على الشجر ونبات الحقل، تأتي الضربة الثامنة في أمره لموسى:
مد يدك على أرض مصر لأجل الجراد، ليصعد على أرض مصر، ويأكل عشب الأرض، كل ما تركه البرد، فمد موسى عصاه على أرض مصر، فجلب الرب على الأرض ريحا شرقية كل ذلك النهار وكل النهار وكل الليل، ولما كان الصباح حملت الريح الشرقية الجراد، فصعد الجراد على كل أرض مصر، وحل في جميع تخوم مصر، شيء ثقيل جدا، لم يكن قبله جراد هكذا مثله، ولا يكون بعده كذلك وغطى وجه الأرض حتى أظلمت الأرض، وأكل جميع عشب الأرض، وجميع ثمر الشجر الذي تركه البرد، حتى لم يبق شيء أخضر في الشجر ولا في عشب الحقل، في كل أرض مصر. (خروج، 10: 12-15)
ولم يكتف يهوه بذلك مع إصرار الفرعون على موقفه، فعاد يقلب ظواهر الطبيعة بضربته التاسعة:
ثم قال الرب لموسى: مد يدك نحو السماء، ليكون ظلام على أرض مصر، حتى يلمس الظلام، فمد يده نحو السماء، فكان ظلام دامس في كل أرض مصر، ثلاثة أيام، لم يبصر أحد أخاه، ولا قام أحد من مكانه ثلاثة أيام، ولكن جميع بني إسرائيل كان لهم نور في مساكنهم. (خروج، 10: 21-23)
وتبقى الضربة العاشرة، والقاضية، التي ستجبر فرعون على إطلاق شعب الرب، وقبلها يقول لموسى:
ضربة واحدة أيضا بعد ذلك يطلقهم من هنا، «وعندما يطلقهم يطردكم طردا» من هنا بالتمام، تكلم في مسامع الشعب أن يطلب كل رجل من صاحبه، وكل امرأة من صاحبتها، أمتعة فضة وأمتعة ذهب، وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين. (خروج، 11: 1-3)
هنا نعلم أن الإسرائيليين كانوا يقومون وسط المصريين، ولا نعلم كيف أصابت كل تلك الضربات المصريين دون الإسرائيليين، لكن الأهم هنا هو إيعاز الرب لموسى بأن الفرعون - مع الضربة القادمة - سيطلق بني إسرائيل؛ لذلك كان عليهم رجالا ونساء أن يطلبوا من أصدقائهم (أصحابهم) المصريين، ذهبهم وفضتهم، مما يشير في جانب آخر إلى مودة من المصريين للغرباء المقيمين بينهم، مما يجعل التساؤل عن ضرب شعب مصر بكل تلك الضربات ومبرراتها سؤالا مشروعا، أما أن يأمن المصريون للغرباء، ويعطوهم ذهبهم وفضتهم إعارة فذلك يضع أمامنا موقفهم موقفا نبيلا، ويدعو للتشكك في قصة تلك الضربات جميعا من أصلها.
وتأتي الضربة العاشرة، ويهبط يهوه بنفسه ليقتل بيده كل بكر من أبناء مصر:
وقال موسى، هكذا يقول الرب: أني نحو منتصف الليل، أخرج في وسط مصر، فيموت كل بكر في أرض مصر، من بكر الفرعون الجالس على كرسيه، إلى بكر الجارية التي خلف الرحى، وكل بكر بهيمة، ويكون صراخ عظيم في كل أرض مصر. (خروج، 11: 4-6)
ويأمر يهوه شعبه أن يلطخ كل منهم عتبة بيته بدم الخراف، ليميزوها عن بيوت المصريين، قبل وقوع ضربة قتل الأبكار، وأما السبب فهو كي:
يكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدم وأعبر عنكم، فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب كل أرض مصر. (خروج)
هنا تأكيد آخر للتغشي في السكنى للإسرائيليين بين المصريين، وأما الأهم، فهو أن يهوه يعلم هنا أنه سيصاب بلوثة القتل، وأنه لن يميز في تلك الحال بين بيوت جماعته وبين بيوت المصريين إلا إذا رأى دما على البيوت، تلك الدماء التي ستوعز له أنه قد انتهى من أمر سكانه وقتل أبكاره، فيعبر عن تلك البيوت ولا يصيبها، وهو في حالة التخبط في دماء المصريين، وفي تلك الليلة، حيث «كان صراخ عظيم في مصر؛ لأنه لم يكن بيت ليس فيه ميت» (خروج، 12: 30)، تقرر خروج بني إسرائيل، دون عزاء لأصحابهم من مصريين، لكنهم قبل تلك الضربة، التي مارس فيها يهوه نزوته الدموية:
فعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى، طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهبا، وثيابا، وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم، «فسلبوا المصريين»، فارتحل إسرائيل من رعمسيس. (خروج، 12: 35-37)
وتأتي الضربة الحادية عشرة عندما قام ملك مصر وجيشه يطارد الهاربين، حتى أدركوهم عند بحر سوف، وهنا كانت المعجزة الكبرى:
ومد موسى يده على البحر فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة، وانشق الماء، فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة، والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم، وتبعهم المصريون ودخلوا وراءهم ... فمد موسى يده على البحر، فرجع البحر عند إقبال الصبح إلى حاله الدائمة ... فدفع الرب المصريين في وسط البحر (خروج، 14: 27). (وبعد الخروج) كان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلا في عمود نار ليضيء لهم، لكي يمشوا ليلا ونهارا. (خروج، 13: 11)
وعلى قصة الخروج تلك، بكل تفاصيلها، أقام الباحث الصهيوني إيمانويل فليكوفسكي عمله الهائل، الذي انتهى فيه إلى تأكيد كل الأحداث التي روتها التوراة، بكل تفاصيل ضربات يهوه ومعجزاته التي صاحبت الخروج. وهو الأمر الذي يرضي الجانب الإيماني ليس فقط عند اصطحاب يهوه إنما لدى المسيحيين، بل والمسلمين بدورهم؛ فهو يشرح لهم عملية انشقاق البحر وتاريخيته، وما رافقه من قبل ومن بعد، من أحداث كسرت قوانين الطبيعة وقواعد الكون الثابتة، لكنه «يأخذ الجميع في سلة واحدة»، بعد تأسيس المقدمات العلمية للقواعد الإيمانية، إلى نتائج لا بد من التسليم بها إذا كانوا متسقين مع إيمانهم ومع أنفسهم، «وهي نتائج أبعد ما تكون عن أمانينا الوطنية والقومية»، وإذا كان ثمة شرخ أصيل في الذات، ما بين بعض المقررات الإيمانية التي تتناول بني إسرائيل، وما بين الأماني الوطنية والقومية، فإن فليكوفسكي لا يفعل شيئا سوى وضع القواعد الإيمانية على محك العلمية، ليثبت صدقها الكامل، ولا يبقى لدى قارئ طيب النوايا سوى الأخذ بالكفة الراجحة إيمانيا، وهو تسليم رسم له فليكوفسكي خطته ببراعة إلى محطة الوصول، بحيث يصادق الجميع من خلال عقائدهم على حق إسرائيل التاريخي، في التاريخ، وفي الأرض، بل وفي صفتهم كشعب فضله الله على العالمين.
أما نحن، فلا بأس عندنا في البحث عن أسس تلك الأحداث التي روتها التوراة والتي اكتست بثوب الإبهار الإعجازي في التاريخ الإسرائيلي، ولا بأس لدينا، ولا علينا، إن وجدنا لها تبريرا لا يصادم العقائد الثابتة، لكن دون افتئات على حقائق ذلك التاريخ وعلمية المنهج، وبغرض وضع ذلك التاريخ وتلك الأحداث في حجمها الصحيح ومقامها الفعلي من التاريخ. فقط نريد هنا القول: إنه بالإمكان حل إشكاليات التاريخ الإسرائيلي، ليس بنزوع عنصري، إنما بغرض علمي تماما، لا يستطيع أحد أن يصادر عليه، وذلك بالتعامل مع الأحدث الإعجازية في ذلك التاريخ، باعتبارها مواد قابلة للفحص، والإمساك بها، بحيث يمكن ضبطها ضبطا دقيقا، يضعها في حجمها، دون إهمال بعضها لصالح بعض، أو تضخيمها لتتحول إلى كتلة ضاغطة على ضميرنا الوطني وحسنا القومي، الذي ربما كان يبحث بعصبية وتوتر، عن مفاضلة قد تجرح بعض المقررات الإيمانية التي لا يصح جرحها، وتصادم في جانب آخر تطلعات وطنية وقومية مشروعة بدورها ولا يصح التنازل عنها، كالمفاضلة بين شعب مصر القديم وتاريخه العريق وفراعنته، وبين جماعة إسرائيل التي اتسمت بالقداسة وامتلكت أنبياء ومعجزات ثابتة أقرتها الأديان التالية لهم كما حظيت بعلاقة خاصة بالإله، سمحت بمنحهم تلك المنح والأعطيات، أو المفاضلة بين ملوك إسرائيل وجماعتها، وبين ملوك كنعان وشعبها الفلسطيني، وهي المفاضلة التي يمكن أن تؤرق الضمير الوطني، أو تجرح الحس العقائدي، في حال لزوم الاختيار ما بين فرعون وموسى، أو المصريين والإسرائيليين، وكذلك ما بين جالوت وداود، أو الفلسطينيين والإسرائيليين. لكن ذلك كله شيء وتأجيل التعامل مع كتاب فليكوفسكي شيء آخر، لا يقبل الإرجاء، وما على قارئنا إلا أن يشمر عن همته، لنتابع معا تنظيره بنى إسرائيل التاريخية، وممكناتنا في التعامل معها، في باب «التضليل الصهيوني».
نقد أسفار الأنبياء
(1) من عاموس إلى هوشع
أبدا لم يحتسب اليهود ولا كتابهم المقدس أن البطاركة الأوائل «إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط» أنبياء بالمعنى المفهوم من الكلمة في الإسلام أي رسل ذوي كتب، بقدر ما كانوا أسلافا لهم قدسيتهم لاتصالهم المباشر بالآلهة. وكان أول من وصف بصفة نبي صاحب كتاب بهذا المفهوم في التوراة؛ هو موسى سليل سبط «ليفي» أو «لاوي» الذي قاد حملة الخروج من مصر عبر سيناء باتجاه فلسطين.
وبعد موسى تواتر ظهور الأنبياء بكثافة خاصة بعد انقسام مملكة سليمان، وظهروا بمظهر القدرة على تلقي وحي الرب المعروف في المقدس باسم «روح الرب»؛ وهي القدرة المزعوم أنها منحتهم استطاعة التنبؤ بأحداث المستقبل وقدرة قراءة المغيبات.
واصطلاح «نبييم» هو جمع كلمة «نابي» أو «نبي» العبرية من «نبا» أي خرج وارتفع وظهر أو خالف القطيع، لكنها - نتيجة كثرة الأنبياء وسلوكهم - اتخذت دلالة الهذيان والخبال؛ فبعضهم كان هاذيا مخبولا وبعضهم كان صادقا في تمنياته التنبئية، وبعضهم كان صاحب طموحات دنيوية محض يريد تحقيقها عبر هذا الهذيان النبوي، وبعضهم كان قاسيا يقرع أسماع شعبه بالقول الغليظ ويتوعده بعقوبات عظيمة أو بهجوم الشعوب الأجنبية عليهم؛ تلك الشعوب التي تحولت لدى الأنبياء إلى أداة وعصا عقاب وتأديب يستخدمها يهوه لتأديب شعبه المختار. وعادة ما كان هؤلاء يختتمون نبوءاتهم بعزاء أنه إذا سار الشعب الإسرائيلي في طريق يهوه وتاب عن خطاياه، فإن يهوه سيظهر حبه لشعبه المختار من جديد.
وكان بإمكان هؤلاء الأنبياء إشعال الحروب وخلع الملوك وتنصيب من يريدون ، وكانوا من رجال الدين غير النظاميين وأشبه بالدراويش اليوم؛ فلم يخضعوا لهيكل من الهياكل بل يزعمون تلقي الوحي مباشرة من يهوه الذي تتملك روحه النبي فينطق بلسانه.
وعادة ما نجد بعضهم في صف الشعب يدافعون عن قضاياه ضد المؤسسة الدينية الرسمية وكهانها المسيسين، وقد ظهر سلطانهم ونما منذ القرن العاشر قبل الميلاد، ولم يأت منتصف القرن التاسع قبل الميلاد حتى أصبحوا أهم عناصر الجماعة الإسرائيلية، بل وربما قام بعضهم أحيانا باتصالات مع الدول المعادية لتقويض نظام وسلطان الداخل المرفوض.
وسلك بعضهم سلوكا نافرا غريبا من باب المخالفة الواضحة كالزواج من الدواعر والزانيات العلنيات، أما جميعهم فكانوا يثيرون الدهشة بالسير عراة تماما كما ولدتهم أمهاتهم رمزا للتخلي عن الدنيا الفانية. ولا يفوتنا هنا التأكيد أنه كان في فلسطين أنبياء آخرون من أهل البلاد من أتباع الإله الزراعي بعل، وقد ذاع صيت نبي موآب المدعو بلعام بن بعور الذي ورد ذكره بالعهد القديم كمناصر للإسرائيليين ضد شعبه، مما يشير إلى مكافأة كبرى من إسرائيل لذلك النبي الخائن لملته وشعبه، ناهيك عن كون تلك الكثرة جعلت أنبياء إسرائيل عادة يكذبون بعضهم بعضا.
وكان لسلوك الأنبياء ما جعلهم أحيانا في نظر الطبقات المحترمة والراقية مصدر نفور واحتقار، وهو ما عبر عنه «م. ريجسكي» بقوله: «إن الذين كانوا يصبحون أنبياء. بالإضافة إلى سلوكهم الغريب «أثناء الشغل» عندما يهتاجون بسبب الموسيقى الوحشية لآلاتهم الموسيقية، فيصلون إلى حالة النشوة ويخلعون ثيابهم ويصرخون ويقفزون ويكيلون الضربات لأنفسهم، كان يستدعي لدى الناس موقفا فيه بعض الازدراء تجاههم، ولم يكن نادرا أن يصبحوا مادة للسخرية؛ فسكان جبعة جيران شاول (جميع الذين عرفوه منذ أمس وما قبله) حين رأوه «يتنبأ مع الأنبياء» راحوا يسألون بدهشة: «أشاول أيضا من الأنبياء ... ومن هو أبوهم؟» ولم يكن معنى ذلك أبدا: كيف يتواجد رجل دنيوي وسط أناس ورعين كهؤلاء، بل على العكس من ذلك: كيف وجد ابن شخص محترم مثل يس، شاب من عائلة جيدة، في مجتمع رديء كهذا؟ لقد كان البعض يعتبر الأنبياء أناسا مجانين ويتخذ منهم الموقف المطابق لذلك: «لماذا جاء هذا المجنون إليك؟» (ملوك ثاني، 9: 11).»
1
ومن أهم الأنبياء كان عاموس أول من أخذ على عاتقه مهمة تبرئة يهوه من نقض عهده مع إسرائيل. وقد عاش في السنوات الأخيرة لحكم الملك الإسرائيلي يربعام بن يوآش الذي حكم من 793 إلى 783 قبل الميلاد، وكان عاموس من قرية تقوع الواقعة جنوبي بيت لحم في مملكة يهوذا الجنوبية.
ينظر عاموس حوله فيجد الأغنياء يمرحون في بذخ وترف وذهب وخمر، وكان بإمكانهم تقديم القرابين ليهوه ليرضى، بينما الفقراء في ضنك شديد ولا يملكون حق القربان لتقديمه ليهوه لينظر إليهم وإلى مشاكلهم، ومن هنا يقف عاموس يعلن وحي يهوه إذ يقول:
بغضت، كرهت أعيادكم، ولست ألتذ باعتكافاتكم، إني إذا قدمتم لي محرقاتكم لا أرتضي، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها، أبعد عني ضجة أغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع. (عاموس، 5: 21-23)
لقد بدأ الحس بالفوارق الاجتماعية يتضح ويعلو زمن عاموس الذي أعلن أن يهوه لم يعد يرضى بالثيران السمينة والعزف في معبده، إنه يريد الآن العدل. والآن كيف سيتدخل يهوه؟ كان عاموس لم يزل يؤمن بفكرة «الجزاء الجماعي» ومسئولية الكل عن خطأ البعض ومن هنا أعلن يهوه بلسان عاموس.
قد أتت النهاية على شعبي، لا أعود أصفح بعد. (عاموس، 8: 2)
إن أثرياء الشعب المختار لم يكتفوا بظلم الفقراء من بني إسرائيل، بل ذهبوا يسجدون للعجول في بيت إيل وفي الجلجال وفي بئر سبع، ولهذا قرر يهوه عقاب شعبه على خطاياه وجرائمه، وباسم الإله انهال عاموس بالوعيد على من تخيلوا أنه بإمكانهم رشوة يهوه بالقرابين لكسب رضا الكهنة الكسالى المتخمين؛ ولذلك كان عاموس أول نبي يعلن أن سبب غضب يهوه الآتي هو «خطايا أصحاب الثروة» والجاه، ولذلك سيعاقب الشعب جميعه، لكن الأغنياء سيحظون بنقمة أعظم في «يوم يهوه». وكان عاموس أول من قال بفكرة «يوم يهوه» الذي يحمل دلالة حساب الإسرائيليين على ما قدمت أيديهم.
ويل للذين يشتهون يوم يهوه، لماذا لكم يوم يهوه؟ هو ظلام لا نور. (عاموس، 5: 18)
لكن أبدا لم يصل عاموس ولا بقية الأنبياء من بعد بفكرة العدل الاجتماعي إلى نهايتها المنطقية، بالدعوة إلى مقاومة الاستغلال والظلم، لسبب بسيط في كل الأديان، وهو «أن تلك الدعوة تتناقض جوهريا مع صلب المشيئة الإلهية التي توزع الأرزاق بمعرفتها». فقط كان عاموس غاضبا من الظلم الواقع على الفقراء من أولئك الذين يصورهم:
المضطجعون على أسرة من العاج، والمتمددون على فرشهم، والآكلون خرافا من الغنم وعجولا من وسط الصيرة، الهاذرون مع صوت الرباب، المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود، الشاربون من كئوس الخمر والذين يدهنون بأفضل الأدهان. (عاموس، 6: 4-6)
لذلك قام عاموس يتوعد شعب إسرائيل بالسبي والأسر على يد أمة قوية، لكنه كان يطمئن المخلصين أنهم سيعودون بيد يهوه من الأسر إلى فلسطين، لبناء المدن الخاوية «ولن يقلعوا من بعد من أرضهم التي أعطيتهم، قال يهوه إلهك» (عاموس، 9: 15).
كان عاموس مشغولا بالظلم الاجتماعي أكثر من انشغاله بتحقير الآلهة الأخرى للشعوب؛ فقد ثبت أن «الشعوب الأخرى قوية بما فيه الكفاية للدلالة على قوة آلهتها»؛ لذلك ظلت فكرة التعددية قائمة لدية مع تفضيل يهوه عن بقية الآلهة؛ فهو مثلا يعبر عن سر هزيمة شعب موآب على يد الملك الإسرائيلي عمري، بأن شعب موآب انصرف عن ربه البعل كموش وأهمل وصاياه «لأن كموش غضب على شعبه!»
واتخذ عاموس من ذلك مثلا لما سيحدث مع الإسرائيليين الذين أغضبوا يهوه، فقام يتنبأ بسبيهم ودمار بلادهم. لكن عاموس - مع بعض الغموض - يضع أحيانا مصائر الشعوب الأخرى بيد يهوه، «في رؤية بدائية لعالمية الرب»؛ فموآب هزمت لأن ربها كموش غضب عليها، ولأن يهوه شارك أيضا في عقاب موآب لأنهم عندما هزموا بلاد آدوم «أحرقوا عظام ملك آدوم» (عاموس، 2: 1). وبذلك فإن عقاب يهوه سينال الشر في أي موطن حتى لو كان هذا الموطن لشعب وثني، أو لشر ارتكبه شعب وثني في حق شعب وثني آخر. كما عاقب موآب لحرقها ملك آدوم!
وبالفعل تتحقق نبوءات عاموس، ويهبط الآشوريون بجيوشهم على مملكة إسرائيل، ويسبون أهلها وبخاصة الطبقة المترفة منهم، واحتل سرجون الثاني الآشوري إسرائيل بعد أن نهبها، لكننا بقدر من التدقيق في مصادر التاريخ نكتشف «أن عاموس لم يكن بحاجة لوحي يهوه لكي يدرك أن الخطر الآشوري قد بات على أبواب السامرة»، خاصة بعد اتجاه جيوش تجلات بلاسر الثالث الآشوري جنوبا، وتهجيره أينما حل وفتح للنخبة من البلاد المفتوحة إلى آشور.
فماذا تقول لنا وثائق علم التاريخ حول نبوءات عاموس؟
من نصوص شلمناصر الثالث الآشوري نقرأ متون الفتوحات التي تؤكد أنه قد تلقى الجزية من صور وصيدون ومن ياهو بن عمري الذي دون اسمه هكذا
Hu . وبالعهد القديم نعلم أن هناك ملكا إسرائيليا حكم في السامرة، بعد أن قضى على بيت سلفه آخاب بن عمري، لكن بعد أن اكتسبت المملكة الشمالية إسرائيل اسم مملكة عمري في نصوص الرافدين، فقيل في نص شلمناصر الثالث «ياهو بن عمري». وكان ياهو معاصرا لحزائيل ملك دمشق، واتخذ كل منهما خطا مخالفا للآخر في التعامل مع الخطر الآشوري القادم؛ فبينما أعلن حزائيل تمرده واستعداده بتجييش مواطنيه، لجأ ياهو إلى الدبلوماسية بإرسال الجزية وفروض الطاعة والولاء التي وجدت صداها في نص منقوش بالمتحف البريطاني يمثل رجلا يقدم فروض الطاعة والولاء للملك شلمناصر الثالث، وتحت الرسم كتابة تقول: «جزية ياهو بن عمري تلقيت منه فضة وذهبا ...» وكذا وكذا (تعداد لأصناف الجزية وأنواعها).
وفي سفر ملوك ثاني رواية تقول:
في أيام فقح ملك إسرائيل جاء تغلث فلاسر ملك آشور وأخذ عيون وآبل معكة وينوم وقادش وحاصور وجلعاد والجليل وأرض نفتالي وسباهم إلى آشور، وفتن هوشع بن أيلة على فقح بن رمليا وضربه فقتله وملك عوضا عنه. (ملوك ثاني، 15: 29-30)
وهي الرواية التي تتقاطع مباشرة مع النص الآشوري:
أما مناحيم فقد هبطت عليه كما العاصفة الثلجية ففر وحيدا، ثم عاد فانحنى عند قدمي فأعدته إلى مكانه وفرضت عليه جزية (تعداد أصناف الجزية) وسقت الكثير من بيت عمري (يقصد مملكة إسرائيل) وممتلكاتهم إلى آشور، ثم انقلبوا بعد ذلك على ملكهم «فقح»؛ فأحللت بدلا عنه «هوشع» ملكا عليهم وتلقيت منه جزية (تعداد أصناف الجزية).
وفى عهد هوشع تحل النكبة الأخيرة بمملكة إسرائيل؛ فبعد تجلات بلاسر الثالث يأتي ابنه شلمناصر الخامس 726-722ق.م الذي يعزو إليه محررو التوراة فتح السامرة وإجلاء سكان السامرة أسرى إلى آشور، بينما تتحدث نصوص خليفته سرجون الثاني 721-705ق.م عن قيامه بفتح السامرة، ويبدو أن سرجون الثاني كان قائدا للعمليات العسكرية في فلسطين، وهو من أكمل خطط شلمناصر الخامس وعزاها جميعا لنفسه، فنحن نقرأ في نص مبكر لسرجون الثاني يقول:
سرجون ملك آشور فاتح السامرة وكل بيت عمري (إسرائيل)
Bet-Ha-um-ri-a
الذي غنم أشدود وشيتوخي وأمسك الياماني في البحر كالسمك، الذي قضى على ... إلخ.
2
لقد قرأ عاموس خريطة الأحداث والمقدمات وأيقن بالنتائج فقدمها كنبوءات، وكان في زمنه نبي آخر يتنبأ وربما استمر يعيش بعده لفترة قليلة، وكان هذا المتنبي هو المعروف بالنبي هوشع والمحتمل أنه كان يتنبأ بين عامي 750 و734ق.م، لكن بينما كان عاموس يعيش في المملكة الجنوبية يهوذا، كان هوشع يعيش في المملكة الشمالية، إسرائيل.
ويبدو أن هوشع كان يعاني من مشاكل عائلية قاسية «فزوجته تخونه مع كل من يدفع، وسيرتها على كل لسان، فأحال ذلك جميعه إلى إرادة يهوه الذي أمره بالزواج من امرأة زنى».
قال يهوه لهوشع اذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى لأن الأرض زنت زنى تاركة يهوه، فذهب وأخذ جومر بنت دبلايم فحبلت وولدت له ابنا فقال له يهوه ادع اسمه يزرعيل؛ لأني بعد قليل أعاقب بيت ياهو على دم يزرعيل وأبيد مملكة بيت إسرائيل.
ثم تلد الزوجة الخائنة مرة أخرى ولدا وبنتا، ومن جديد يأمر يهوه بمنحهما اسمين، أسمى البنت لورحامة: «لأني لا أعود أرحم بيت إسرائيل.» والابن لوعمي أي ليس شعبي «لأنكم لستم شعبي وأنا لا أكون لكم» (هوشع، 1: 2-9).
هوشع وجد نفسه مع امرأة زانية وأبناء زنى فتماهى بأسرته مع بيت إسرائيل جميعا، وبينما كانت الجيوش الآشورية تتدفق على الممالك الشمالية لإسرائيل ، كان سكان إسرائيل يتوقعون استمرار سير الهجوم جنوبا واكتساح الجيش الآشوري للسامرة، وكان السبب في رأي هوشع هو أن إسرائيل خانت ربها يهوه وعبدت آلهة أخرى مثل زوجته جومر تماما؛ لهذا تلقى هوشع أمر يهوه:
اذهب أحبب امرأة حبيبة صاحب وزانية كمحبة يهوه لبني إسرائيل وهم ملتفتون إلى آلهة أخرى ... فاشتريتها لنفسي بخمسة عشر شاقل فضة. وقلت لها تقعدين أياما كثيرة لا تزني ولا تكوني لرجل وأنا كذلك لك؛ لأن بني إسرائيل سيقعدون أياما كثيرة بلا ملك وبلا رئيس وبلا ذبيحة وبلا تماثيل وبلا أفود وترافيم. (هوشع، 3: 1-4)
ويتنبأ هوشع ليهوذا بالسقوط مع إسرائيل تحت النير الآشوري:
فيتعثر إسرائيل وإفرايم في إثمهما، ويتعثر يهوذا أيضا معهما. (هوشع، 5: 5)
وكما تنبأ عاموس لإسرائيل تنبأ هوشع بأن يوم العقاب قد أمسى على الأبواب ولم تعد لدى يهوه أي شفقة على خيانة إسرائيل، وسيتصرف مع إسرائيل تصرف الزوج مع الزوجة الخائنة، ويلوم يهوه زوجته الزانية إسرائيل على لسان الزوج المكلوم فيقول: «قالت: أذهب وراء محبي الذين يعطون خبزي ومائي وصوفي وكتاني وزيتي وأشربتي.»
وبالنسبة ليهوه وإسرائيل كان محبو إسرائيل آلهة أخرى على رأسهم رب الخصب بعل.
وهي لم تعرف أني أنا أعطيتها القمح والمسطار والزيت كثرت لها فضة وذهبا، جعلوه لبعل.
ومن ثم كان الجزاء.
أعاقبها على أيام بعليم (جمع بعل (المؤلف)) التي كانت تبخر لهم وتتزين بخزائمها وحليها وتذهب إلى محبيها وتنساني أنا، يقول يهوه.
والآن، لتعلم الزوجة الخائنة أنها ليست امرأتي وأنا لست رجلها. (هوشع، 2: 2-13)
ثم يبدأ في تقريع إسرائيل لتعبدها للعجلين اللذين يمثلان يهوه، ويقول:
زنخ عجلك يا سامرة ... صنعه الصانع وليس هو إلها. إن عجل السامرة يصبح كسرا. صنعوا لأنفسهم من فضتهم وذهبهم أصناما لكي ينقرضوا. (هوشع، 8: 4-6)
ثم يربط هوشع بين عبادة الآلهة الغربية وبين الانحدار الأخلاقي للناس في كل مكان.
حتى الكهنة كانوا ضمن هؤلاء الفجرة، أما الأثرياء فكانوا يمرضون من «سورة الخمر» والكبار «كلهم حامون كالتنور وأكلوا قضاتهم».
ومثل عاموس وقف هوشع يتنبأ لإسرائيل، لكنه لم يتبين الموقف بوضوح لأن الأخبار التي وصلته كانت تحمل إمكان التناقض في التنبؤ؛ فالمملكة الشمالية إسرائيل كانت ترسل الجزية لدولتين قويتين، لمصر ولآشور، «وحاول هوشع المفاضلة بين الخطرين فتوقع وقوع إسرائيل في الأسر المصري».
الآن يذكر إثمهم ويعاقب خطيئتهم. إنهم إلى مصر يرجعون. (هوشع، 13: 8)
لكنه في موضع آخر يتوقع الهجوم من كلتا الدولتين القويتين:
يرجع إفرايم إلى مصر ويأكلون النجس في آشور. (هوشع، 91: 3)
لكن عندما وضحت الأمور وأصبحت آشور على الأبواب يصلح شأن نبوءته فيقول:
لا يرجع إلى مصر بل آشور. (هوشع، 11: 5)
ثم يصاب بالبلبلة التامة فيقول:
فيكونون تائهين بين الأمم. (هوشع، 9: 17)
لكن الملك الآشوري لا يهاجم يهوذا مع إسرائيل حسب نبوءة هوشع؛ إذ تفادت يهوذا البطش الآشوري بدفع جزية كبرى للعاهل الآشوري فبقيت قائمة بعد سقوط مملكة إسرائيل؛ لذلك علينا أن نعتبر المقطعين (1: 7؛ و1: 10-11) في سفره إضافة من محرر يهوذي لاحق؛ حيث يتم قطع النبوءة حول إسرائيل بوعود من يهوه بإنقاذ مملكة يهوذا.
وأما بيت يهوذا فأرحمهم وأخلصهم بيهوه إلههم ولا أخلصهم بقوس وبسيف وبحرب وبخيل وبفرسان. (هوشع، 1: 7)
بينما كانت نبوءات هوشع الأصلية تشفق في النهاية على مملكتي إسرائيل ويهوذا لأن يهوه الزوج الغيور سيصالح زوجته الخائنة (الشعب الإسرائيلي) ويلاطفها وستفهم الخائنة أن سلوكها كان مشينا وستندم، وكراهية في بعل واسمه يقول الرب:
ويكون في ذلك اليوم يقول يهوه إنك تدعينني رجلي ولا تدعينني بعد بعلي، وأنزع أسماء البعليم من فمها فلا تذكر أيضا اسمها. (هوشع، 2: 16)
وسوف يحل الغفران على الخائنة؛ أي على شعب إسرائيل، وسوف يعود الأسرى من مصر وآشور (رغم أنهم لم يسبوا إلى مصر) وبعدها تقوم مملكة السلام والخير، ويؤكد يهوه:
وأقطع لهم عهدا في ذلك اليوم مع حيوان البرية وطيور السماء ودبابات الأرض وأكسر القوس والسيف والحرب من الأرض، وأجعلهم يضطجعون آمنين. (هوشع، 2: 18) (2) سقوط النبوءات
ثم نأتي إلى سفر إشعيا الذي يحتوي على ست وستين إصحاحا، لكن الرؤية الناقدة لهذا الكتاب النبوي يمكنها أن تستبعد نصف هذا العدد أو أقل قليلا بحسبانه لا يعود أبدا لإشعيا الذي عاش آخر القرن الثامن وأول القرن السابع قبل الميلاد. وإلى الإصحاحات الأصلية أضيفت نصوص أخرى ليست لإشعيا خلال عدة قرون، من قبل محرري النبوءات اللاحقين، لما كان يتمتع به إشعيا من شعبية في المملكة الجنوبية يهوذا، وذلك لإضافة الهيبة إلى نصوصهم بإضافتها لإصحاحات كتاب إشعيا.
وفى الإصحاحين الثالث عشر والرابع عشر نجد حديثا عن تدمير الإمبراطورية الآشورية (14: 25)، وعن مملكة بابل بحسبانها بهاء الممالك وزينة وفخر الكلدانيين، وعن العاهل البابلي الجبار الذي يطوي الشعوب تحته طيا بالقوة المسلحة (14: 4، 96)، وكيف جعل العالم كقفر وهدم مدنه ولم يطلق أسراه إلى بيوتهم (14: 17).
وإزاء قوة بابل الطالعة التي تمكنت من هزيمة الأشوريين كان لا بد أن يرتعب شعب الله المختار خوف الاحتلال وخشية السبي؛ فإن يهوه يؤكد بلسان إشعيا «ها أنا ذا أهيج عليهم الماديين ... وتصير بابل كتقليب الله سدوم وعمورة، لا تعمر إلى الأبد ولا تسكن إلى دور فدور» (إشعيا، 13: 5؛ 17: 20).
ومرة أخرى يعطف يهوه على يهوذا وإسرائيل فيجعلهم يتسلطون على من ظلمهم (14: 1، 2).
وهذا الكلام إطلاقا لا يمكن نسبته لإشعيا وزمنه في آخر القرن الثامن ق.م لأسباب شديدة الوضوح؛ حيث في زمن إشعيا في القرن الثامن ق.م كان الحديث عن هذه الأحداث سيبدو غير مفهوم بالمرة؛ «فيهوه يهدد بابل بالويل والثبور ويصفها بأنها زينة الممالك، بينما بابل في زمن إشعيا كانت فاقدة لاستقلالها مثل يهوذا وتتبع الإمبراطورية الآشورية».
وحتى لو قلنا مع المؤمنين إن تلك نبوءة، وكي تكون النبوءة صادقة، كان لا بد أن يتنبأ إشعيا أولا بأن بابل ستثور على آشور وتنتصر عليها ثم تتوسع وتهاجم يهوذا وتسبي سكانها، لكن النبوءة لم تتطرق لذلك كله، فقط يتحدث إشعيا عن عودة المسبيين كأنه كان أمرا معلوما لجميع ناس زمنه؛ ومن ثم «لا يصح احتساب الإصحاحين 13 و14 من عمل إشعيا بل يجب القول إنه قد تم تحريرهما بعد قيام بابل بتدمير الإمبراطورية الآشورية»، وبعدما بلغت بابل جبروتا كبيرا في عهد نبوخذ نصر الثاني، وبعدما قام نبوخذ نصر بحملته على يهوذا وأسرها إلى بابل؛ أي يجب أن يكون تحرير هذين الإصحاحين قد تم بعد عام 586ق.م.
ثم نقف مع تلك المفترض أنها نبوءة، أو دست على سفر إشعيا لتظهره بمظهر النبوءة عما سيحدث في قابل الأيام ، لندهش من قولها إن بابل العظيمة ستسقط فريسة الاحتلال الميدي، بينما الذي حدث فعلا بعد ذلك هو سقوط بابل فريسة الاحتلال الفارسي زمن قورش 539ق.م وليس الميدي، وهذا يعني أن مؤلف النص «لم يكن يعرف بعد عن الانقلاب الذي حصل في إيران وكيف سقط الميديون أنفسهم في إيران تحت سلطة الفرس حوالي عام 549ق.م».
إن ذلك يؤكد أن نبوءة الإصحاحين 13 و14 قد تمت كتابتها بين عامي 586 و549ق.م؛ ومن ثم «لا يمكن أن تعودا إلى إشعيا الذي مات قبل ذلك بزمن بعيد».
وضمن التحرير المنسوب لإشعيا تصورات لما كان يأمل المحرر في حدوثه قريبا وهو سقوط بابل فريسة للاحتلال من شعب آخر وعودة اليهوذيين المسبيين إلى أورشليم وسيادة يهوذا على ظالميها. ومؤلف الإصحاح 21 يشير ليهوذا مسحوقة، لكنه يتنبأ بأن البابليين الذين سحقوا يهوذا لهم أعداء، وهؤلاء الأعداء يتقدمون لسحق بابل، ويشجعهم المؤلف باسم الإله «اصعدي يا عيلام، حاصري يا مادي» (إشعيا، 21: 2)، وهذا يعني أن العيلاميين والميديين الذين يعيشون في إيران سيقومون باحتلال بابل، ويفرح صاحب النبوءة ويطرب هاتفا: «سقطت سقطت بابل، وجميع تماثيل آلهتها المنحوتة كسرها إلى الأرض.» والطريف أن مطابقة ذلك على خط سير أحداث التاريخ يجعل ما يقوله المتنبئ هنا غير حقيقي بالمرة؛ فالذين احتلوا بابل هم الفرس الذين سيطروا على كل إيران، وخرج ملكهم قورش بجيوشه واحتل بابل، لكنه «أبدا لم يهدم المعابد ولم يكسر تماثيل الآلهة، بل أظهر احترامه لها»، وهذا يعني أن المؤلف لم يعرف كل هذا وكان يتنبأ قبل وقوع بابل بين 549 و538ق.م بل ونجد ضمن الإضافات حشرا من زمن أكثر تأخرا مثل النبوءة «ويكون في ذلك اليوم أن يهوه يعيد يده ثانية ليقتني بقية شعبه التي بقيت من آشور ومن مصر ومن فتروس ومن كوش ومن عيلام ومن شنعار ومن حماه ومن جزائر البحر» (إشعيا، 11: 11-12)؛ «لأن هذا الانتشار الواسع لليهود لم يحدث إلا بعد حملة الإسكندر الأكبر في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد».
وبالعودة إلى بدء نبوءات إشعيا يمكن القول إنه في سنة موت الملك اليهوذي عزيا عام 742ق.م قرر اليهوذي «إشعيا بن آموص» أن يكون نبيا وهو يرى خطر هجوم الأعداء قريبا. وكان إشعيا رجلا من العلية على صلة بالكهنة وبالنخبة وبالبلاط وبالملك، إضافة إلى ثقافته الرفيعة وإحاطته بالتقاليد الدينية وبالتاريخ.
وفى عام 744 أي قبل أن يتنبأ إشعيا بسنتين حدث انقلاب في بلاط آشور وجاء الملك تجلات بلاسر الثالث المشهور بفتوحاته، وكي يتقيه الملك الإسرائيلي مناحيم أرسل له جزية كبيرة وأصبح تابعا لآشور (ملوك ثاني، 15: 2)، واقتطع تجلات بلاسر بعض أراضي إسرائيل وهجر سكانها إلى نينوى على الفرات.
وإزاء هذه القوة الكبرى الطامعة شرع ملوك الدول الصغيرة في بلاد الشام بعقد التحالفات للتصدي لهذا الغازي وقد اشتركت مصر في هذه التحالفات، بل تحالف اللدودان إسرائيل ودمشق. وأرسل الملك الدمشقي رصين للملك اليهوذي أحاز لينضم للتحالف فرفض، فشنت دمشق وإسرائيل الحرب على أحاز اليهوذي مما اضطره إلى طلب مساعدة الآشوريين في رسالة ذليلة مهينة تقول «أنا عبدك وابنك، اصعد وخلصني من يد ملك أرام ومن يد ملك إسرائيل القائمين علي» (ملوك ثاني، 16: 7).
وهنا يبدأ دور إشعيا وتبدأ نبوته ونبوءاته بتحريض ملك يهوذا ضد ملك إسرائيل وأنه لا يجدر بملك يهوذا أن يخشى إسرائيل الشمالية لأن يهوه قد قرر مصير مملكة إسرائيل الشمالية «تخلي الأرض التي أنت خاش مليكها» (إشعيا، 7: 16) ... وأنه في خلال خمسة وستين سنة سوف تنكسر إفرايم/إسرائيل حتى لا يكون شعبا (7: 98). ثم اقترح إشعيا على أحاز أن يطلب من الرب يهوه علامة على ذلك (آية) فرفض أحاز، لكن يهوه يتطوع بنفسه ويعطي الآية، وهو أنه لو كان ثمة طفل رضيع فإن نبوءات إشعيا ستحدث قبل أن يتمكن هذا الطفل من تمييز الخير من الشر.
يعطيكم السيد نفسه آية، ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل (معنى عمانوئيل: الله معنا). زبدا وعسلا يأكل، ومتى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير؛ لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير تخلى الأرض التي أنت خاش من مليكها.
وعندما رأى إشعيا خوف الملك اليهوذي قام يوحي له أن ملك دمشق وملك إسرائيل سيطردان من بلديهما قريبا جدا قبل أن يميز هذا الطفل الصغير. ولم ينتظر الآية بل قام يصنعها بالزواج من نبية أنجبت الطفل، لكنه أطلق عليه اسما جديدا هو دمهير شلال حاش، ومعناه: «أي الذي يعجل الغنيمة ويسرع النهب». وقبل أن يعرف هذا الصبي نداءه للأب والأم سيسبى ملك آشور دمشق والسامرة (8: 2-4). والمعلوم لدى العارفين بالتوراة أن تعبير «العذراء» في النص السالف قد ورد في الترجمة السبعينية وقد تمت ترجمة اللفظة العبرية «علما» فيها بمعنى العذراء، بينما كانت في الأصل هي «بارتيتوس» التي منها «بروستيتيوت» أي الداعرة وليس العذراء. وقد وقفت المسيحية بعد ذلك أمام هذا النص لتراه «نبوءة بمجيء المسيح». رغم أن إشعيا لم يفكر في هذا إطلاقا وهو يطلق نبوءاته، فقط كان يتنبأ بسقوط مملكتي دمشق وإسرائيل خلال ثلاث أو أربع سنوات قبل أن يبدأ طفله المولود من الداعرة في التمييز. وسقطت دمشق أمام آشور بعد عامين فقط، وسقطت إسرائيل ليس بعد 65 عاما بل قبل ذلك بكثير، بعد نبوءات إشعيا باثني عشر عاما فقط عندما احتلها سرجون الثاني الآشوري وسبى سكانها إلى نينوى. «لقد كان الغزو متوقعا بين لحظة وأخرى، ووضعه إشعيا بحسبانه نبوءة ووحيا إلهيا».
وعندما كانت إسرائيل تسقط أمام الجيوش الآشورية، هاجم الفلسطينيون والآدوميون يهوذا واحتلوا بعض مدنها (أيوب، 28: 17-19) ومن هنا لجأ ملكها أحاز إلى ملك آشور، بل وأدخل إلى يهوذا عبادة الآلهة الآشورية رشوة لسرجون العاهل الآشوري، مما جعل ديانة يهوه في خطر، وترأس صفوف أنصار يهوه النبي إشعيا، الذي قام يحاول إيجاد تبرير لما يحدث لشعب يهوه. وانتهى إلى نتيجة هي أن آشور بكل جبروتها ليست سوى أداة في يد يهوه ينفذ بها إرادته لتأديب شعبه المختار وتفسخه الأخلاقي خاصة لدى النخبة العليا في المجتمع اليهودي، ولأن شعبه المختار دوما يحب عبادة الآلهة الغريبة والوثنية.
وإذا كان هوشع قد تصور يهوه في صورة الزوج الغيور الذي من حقه تأديب زوجته الزانية، فإن إشعيا تصوره في هيئة ملك حاكم يحق له شرعا تأديب المتمردين، لكن كما أن الملك لا يسمح بإبادة شعبه فكذلك يفعل يهوه ليبقى من الشعب من يتعبد له ويمجد اسمه على الأرض. كان إشعيا يتوقع احتلال آشور ليهوذا وعند ذلك سيغضب يهوه على آشور التي هي أداته التنفيذية، وستظهر بعد ذلك بقية اليهود ليعيشوا في مملكة سلام ورخاء. كما رأى في استعانة أحاز اليهوذي بالأشوريين شكا في يهوه الذي يجب الاعتماد عليه وحده، وعبر إشعيا للملك أحاز عن غضبه من الاستعانة بآشور ضد دمشق وإسرائيل؛ لأن المتوقع لدى أي عارف بالأشوريين أنهم لن يحفظوا عهدهم وأنهم بمجرد احتلالهم لدمشق وإسرائيل سيتجهون من فورهم جنوبا نحو يهوذا، وهو بالفعل ما حدث بعد ستة عشر عاما عندما مات أحاز وانتقل العرش إلى ابنه حزقيا.
وبمجرد تتويج حزقيا قام إشعيا بتدوين قصيدة مديح عصماء في الملك الجديد أملا في اجتذابه لتحقيق مخططاته، وبالفعل تم تقريب إشعيا من البلاط وأصبح شديد التأثير فيه حتى أصبح الملك حزقيا مناصرا غيورا ليهوه، وقام يلاحق العبادات الأخرى بعنف، وفتح معبد أورشليم الذي أغلق أيام أبيه أحاز وانتصر حزب يهوه على بقية الآلهة.
وفى المملكة الشمالية إسرائيل تحمس الملك هوشع وتوقف عن دفع الجزية لآشور وعقد حلفا مع مصر. وهنا اجتاحت آشور السامرة بأمر سرجون الثاني عام 723ق.م، وانتهت إسرائيل من الوجود. أما في الجنوب في يهوذا فقد أعلن إشعيا الموقف المطلوب وهو أنه على حزقيا ملك يهوذا عدم الاشتراك في الصراع ضد آشور وعدم الدخول في أية أحلاف ويجب ألا تطلب العون سوى من يهوه فقط.
وأملا في مساعدة مصر قامت مجموعة الدول الصغيرة في بر الشام بعقد الأحلاف، لكن حتى لا يفعل ملك يهوذا فعلهم خلع إشعيا ملابسه ومشى في البلاد عاريا ثلاث سنين يعلن أن عريه آية ضد مصر التي يعتمدون عليها؛ لأن ملك آشور سوف يغزو مصر ويعريها كما يسير هو عاريا (إشعيا، 20: 2-6).
وفي ربيع 711ق.م كانت جيوش آشور قد ابتلعت الأحلاف السورية وتجنبت يهوذا هذا المصير مؤقتا. وفي 705ق.م مات سرجون الثاني ومرة أخرى حاولت دول سوريا وفلسطين خلع النير الآشوري بمحالفة مصر، وتوجهوا ليهوذا لتحالفهم، ومن جديد وقف إشعيا ضد هذا التحالف، لكن الملك حزقيا رفض نصيحة إشعيا وأرسل لمصر بعثة للتحالف ضد آشور بينما أخذ إشعيا يندد بهذا التحالف.
وفي 701ق.م اجتاح سنحاريب خليفة سرجون سوريا جميعا، وحطمها بينما كانت يهوذا قد حصلت من مصر على دعم عسكري كاف جعلها تصمد أمام الحصار الآشوري. وأرسل سنحاريب كبير جنده ربشاقي إلى أورشليم مع كبار الضباط يحملون رسالة لأورشليم، ووقفوا خارج أسوارها يحدثون المتحصنين بالداخل وعلى الأسوار، ينادونهم بصوت عال لإسماع سكان يهوذا، يتساءلون ساخرين من اعتمادهم على مصر «على هذه القصبة المرضوضة؛ على مصر التي إذا توكأ عليها أحد دخلت في كفه وثقبتها؛ هكذا فرعون ملك مصر لجميع المتوكلين عليه» (ملوك ثاني، 18: 19-21).
ثم يلعب الوفد الآشوري بالعواطف الدينية لشعب يهوذا وينادي مؤكدا أن الملك الآشوري جاء يحتل يهوذا بأمر من يهوه نفسه:
والآن هل بدون يهوه صعدت على هذه الأرض لأخربها؟ «يهوه قال لي اصعد إلى هذه الأرض وأخربها.» وخشي حكام يهوذا استماع شعب يهوذا لهذا الكلام المقنع فطلبوا من الوفد الآشوري محادثتهم بالآرامية «كلم عبيدك بالآرامي لأننا نفهمه ولا تكلمنا باليهودي في مسامع الشعب الذي على السور.» لكن وفد سنحاريب استمر يحرض قائلا: «هل إلى سيدك وإليك أرسلني سيدي لأتكلم بهذا الكلام؟ أليس إلى الرجال الجالسين على السور ليأكلوا عذرتهم ويشربوا بولهم معكم؟»
ثم قام ربشاقي ينادي بصوت عظيم على شعب يهوذا يحرضهم على الثورة ضد ملكهم حزقيا «اسمعوا كلام الملك العظيم ملك أشور ... لا يخدعكم حزقيا ... اعقدوا صلحا معي واخرجوا إلي ... حتى آتي وآخذكم إلى أرض مثل أرضكم، فسكتوا ولم يجيبوه بكلمة لأن أمر الملك كان قائلا: لا تجيبوه.» ومع الهلع أرسل الملك حزقيا يستدعى النبي إشعيا بحثا عن مخرج وخلاص. ولم يكن بيد إشعيا سوى رفع الروح المعنوية لشعبه والصمود مدة أطول أمام الحصار حتى يحدث أي طارئ يمكن نسبته إلى يهوه وتدخله، وطمأن الناس معلنا نبوءة جديدة «كطيور مرفة هكذا يحامي يهوه رب الجنود عن أورشليم. ويسقط آشور بسيف غير رجل وسيف غير إنسان» (إشعيا، 31: 4-8).
ثم نجد في كتاب إشعيا خطابا من إشعيا موجها لوفد من الملك اليهودي حزقيا يقول: «هكذا تقولون لسيدكم: هكذا يقول يهوه: بسبب الكلام الذي سمعته الذي جدف علي به غلمان ملك آشور. ها أنا ذا أجعل فيه روحا فيسمع خبرا ويرجع إلى أرضه وأسقطه بالسيف في أرضه ... لا يدخل هذه المدينة ولا يرمي هناك سهما وفي الطريق الذي جاء فيه يرجع» (إشعيا، 37: 6-7، 33-34).
والمعنى أن يهوه سيجعل سنحاريب يسمع خبرا من بلاده يعود على إثره إلى بلاطه حيث يقتل هناك بالسيف، وهذا الكلام أمام العين الفاحصة لا يمكن أن يكون قد صدر من إشعيا، إنما هو إضافة متأخرة؛ لأن سنحاريب عاد فعلا إلى آشور ورفع الحصار عن أورشليم وسقط ضحية انقلاب في البلاط إذ قتل بيد ابنه أسرحدون. «ويبدو أن مصر لم تكن بريئة من هذه الأحداث، لكن كل تلك الأحداث لم تتم وتحدث إلا بعد عشرين عاما من الحوار الذي دار عند أسوار أورشليم؛ أي في عام 681ق.م وبالطبع لم يكن بوسع إشعيا أن يعرف ذلك. وبالطبع لم يكن يهوه هو الذي يقف وراء ما يحدث إنما كانت مصر» التي كانت تحكمها في هذا الوقت أسرة كوشية في دولة واحدة تجمع مصر والسودان الشمالي، وهو ما يرد في فلتة بسفر ملوك ثاني تقول إن سنحاريب قد سمع «عن ترهاقة ملك كوش قولا: قد خرج ليحاربك» (19: 8-9). وكان ترهاقة قد خرج بالفعل لكن سنحاريب كان قد قرر عدم الاشتباك وفضل رفع الحصار عن أورشليم والانسحاب إلى آشور، وشجعه على ذلك سر آخر لم يعلنه لنا سفر إشعيا ليجعل الفعل كله ليهوه، وهو أن ملك يهوذا أرسل لسنحاريب يقول: «قد أخطأت، ارجع عني، ومهما جعلت علي حملته.» فطلب سنحاريب جزية تعويضية باهظة، اضطر معها الملك اليهودي إلى إفراغ خزينة الدولة والمعبد، بل وقلع الكسوة الذهبية عن أبواب معبد يهوه وأعمدته. أما العهد القديم فكان يروي في موضع آخر أن حزقيا استلم رسالة تهديد من سنحاريب ونشرها أمام يهوه ليقرأها بنفسه، فأرسل الإله ملاكا من عنده «فخرج ملاك يهوه وضرب من جيش آشور مائة وخمسين ألفا، فلما بكروا صباحا إذا هم جميعا ميتة، فانصرف سنحاريب ملك آشور وذهب راجعا وأقام في نينوى.»
ولحسن الحظ أن سنحاريب قد ترك نصوصا واضحة حول هذا الأمر تؤكد أن اشتباكا قد حدث فعلا مع جيوش مصر وآشور في يهوذا، والنتائج تشير إلى هزيمة الآشوريين وتراجعهم، لكن الملك الآشوري فضل أن يبدي أنه قد انتصر وأن الجزية التي أخذها من حزقيا هي أسلاب ومغانم المعركة المظفرة. ويحكى أن مدينة عقرون الفلسطينية كانت ضمن الحلفاء الذين تجمعوا لصد آشور، وأن الشعب فيها قبض على ملكها «بادي» لأنه عقد عهدا مع آشور وخان الحلف، وسلموه إلى ملك يهوذا حزقيا الذي تحالف مع مصر بدوره، فرمى بادي ملك عقرون في السجن «رماه في السجن وعامله معاملة الأعداء، ثم خاف فدعا لمساعدته قوات ملك مصر وإثيوبيا التي لا تعد، فجاءوا لمساعدته، وفي سهل تقوع انتظمت صفوفهم ضدي وشحذوا أسلحتهم، وبعد استخارة نبوءة الإله آشور مولاي هاجمتهم وهزمتهم.»
3
والواقع يؤكد عكس ذلك فالحصار رفع عن أورشليم، وعاد سنحاريب إلى بلاده فقط بجزية الفداء التي دفعها حزقيا رعبا وخوفا.
ويسترسل مرسوم الملك سنحاريب يحكي ما حدث: «أما حزقيا اليهودي الذي أبى الخضوع لي فقد ألقيت الحصار على 46 من مدنه الحصينة وقلاعه المسورة وعدد لا يحصى من القرى حولها وأخذتها ... أما حزقيا نفسه فقد صار حبيسا في قصره الملكي في أورشليم كعصفور في قفص ... لقد غمره الخوف من رهبة جلالتي، والقوات التي أتى بها إلى أورشليم لمعاونته قد احتلت صفوفها إلى جواري وتركته ، فأرسل إلي في نينوى عاصمة ملكي ثلاثين وزنة من الذهب و800 وزنة من الفضة وأحجارا كريمة وكميات من الإثمد وقطع الصخر الأحمر ومقاعد وكراسي مزينة بالعاج وجلود الفيلة وخشب الأبنوس وصناديق خشبية وكل أنواع النفائس كما أرسل إلي بناته ومحظياته وموسيقييه من بنات وشبان.»
4
وقد ساعد في انسحاب جيوش سنحاريب تفشي وباء الطاعون في جيشه مما أجبره على الانسحاب، وأتاح الفرصة لإشعيا للقول بتدخل يهوه في الأمر، وهو الأمر الذي ظهر لشعب يهوذا كمعجزة سماوية فعلا، لكن بعد أن فقدت يهوذا قسما من أرضها ومن سكانها مع اعتراف من حزقيا بالتبعية لآشور.
كان إشعيا قبل المحاولة الفاشلة للغزو الآشوري يتنبأ بأن يهوه سينتقم من الآشوريين، ومن وجهاء يهوذا وأثريائها الذين كانوا يضطهدون بقية شعب يهوذا، وجاء الغزو الآشوري ثم انسحب، «لكن يهوه لم ينتقم من الأغنياء ولم يقم العدل» في أرضه من أجل شعبه المختار.
كان حديث النبوءات عن أسر في آشور وأن هناك بقية من الشعب سترجع إلى فلسطين؛ ومن ثم تحول تعبير «البقية التي ترجع» والذين سوف يأكلون خيرات الأرض في «مملكة السلام والحق» إلى فكرة ومفهوم عن بعث بني إسرائيل مرة أخرى على يد الملك حزقيا، لكن الواقع كان نقيض التوقعات. ورغم انسحاب الجيش الآشوري فإن خطره لم يزل قائما، واستمر وجهاء بني إسرائيل في تجاوزاتهم وقسرهم للفقراء، وهنا قام إشعيا يؤجل زمن مملكة الحق والبقية التي ترجع إلى زمن غير محدد. وكما ينبت الفرع من ساق البلوطة المقطوعة سوف تنبت إسرائيل جديدة ولكن «في آخر الأيام» (إشعيا، 2: 2)، والكلمة «آخر» في اليونانية هي «إسخاتا» التي أدت لمفهوم «الإسخاتولوجي» أي آخر الأيام حيث يوم يهوه الذي وضع اصطلاحه من قبل النبي عاموس. وهذا اليوم سيكون آخر يوم للعالم القديم وبداية انبعاث إسرائيل وفق مثل أعلى عند الأسلاف البطاركة، سيكون الانبعاث كما كان عند الأسلاف، ويصور إشعيا اللوحة الإسخاتولوجية بقوله:
ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت يهوه يكون ثابتا في رأس الجبال ويرتفع فوق التلال ويجري إليه كل الأمم، وتسير شعوب كثيرة ويقولون هلم نصعد إلى جبل يهوه، إلى بيت إله يعقوب فيعلمنا من طرقه ونسلك في سبله ... فيقضى بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين فيطبعون سيوفهم سككا (أي محاريث) ورماحهم مناجل، لا ترفع أمة على أمة سيفا ولا يتعلمون الحرب فيما بعد. (إشعيا، 2: 2-4)
وسيتكفل بإقامة مملكة السلام والحق شخص يختاره يهوه كما اختار موسى، «سيكون هو ممسوحه أو مسيحه أو رسوله»، وهذا المسيح سينقد شعب الله. المشكلة أننا لا نعلم متى ظهرت فكرة المسيح المنقذ بالتدقيق؛ فربما تعود لنبي جاء بعد إشعيا وأضيف كلامه إلى كتاب إشعيا، ومن الشروط التي يجب أن تنطبق على هذا المسيح أو النبي الآتي «أنه من الدم الملكي، سليل سليمان وداود بن يس»، «قضيب من جذع يس»، وهذا الذي تجري في عروقه الدماء الملكية «يحل عليه روح يهوه، روح الحكمة والمشورة والقوة؛ وروح المعرفة ومخافة يهوه.» وسيكون حاكما بالحق على كل الأرض «يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض ويضرب الأرض بقضيب فمه ويميت المنافق بنفخة شفتيه»، وستختفى كل الشرور من على الأرض، حتى بين الوحوش الضارية؛ فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي والعجل والشبل المسمن معا وصبي صغير يسوقها، والبقرة والدب ترعيان، تربض أولادهما معا، والأسد كالبقر يأكل تبنا ويلعب الرضيع على سرب الصل (الثعبان) ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان لا يسوءون ولا يفسدون في كل جبل قدسي الآن الأرض تمتلئ من معرفة يهوه كما تغطي المياه البحر» (إشعيا، 11: 1، 9). (3) تفشي الفساد
وفي ذات الزمن الذي كان فيه إشعيا يرسل نبوءاته كان في يهوذا نبي آخر يرسل تبشيره ونبوءاته هو النبي «ميخا» الذي كان يعيش في القرية الريفية «مورشه» بعكس إشعيا ابن المدينة العاصمة، وكان يرى العاصمة أورشليم مركزا لكل الشرور (ميخا، 1: 5؛ و3: 10)؛ لذلك تنبأ لأورشليم بالدمار التام بعكس إشعيا الذي تنبأ لها أنها ستبقى «مدينة العدل القرية الآمنة» (إشعيا، 1: 26)، ويكرر ميخا تقريبا نفس أقوال عاموس وهوشع وإشعيا حول الظلم الاجتماعي والدعوة إلى التطهر والتوبة النصوح كي يحدث الصلح مع يهوه، لكنه أعطى صورة دقيقة وفظيعة للأثرياء في يهوذا:
يأكلون لحم شعبي ويكشطون جلدهم عنهم ويهشمون عظامهم، ويشققون كما في القدر وكاللحم في وسط المقلي. (ميخا، 3: 3)
يشتهون الحقول ويغتصبونها، والبيوت ويأخذونها، ويظلمون الرجل وبيته والإنسان وميراثه. (ميخا، 2: 2)
ثم يرسم صورة لمصدر ذلك الظلم في فساد النظام والحكومة وانتشار الرشوة والنهب في كل مكان:
الرئيس طالب والقاضي بالهدية، والكبير متكلم يهوى نفسه. (ميخا، 3: 11)
ورغم إصلاحات حزقيا ومطاردته للعبادات الأجنبية، فإن الشعب كان لا يزال يتعبد للتماثيل والأنصاب «والسواري المقدسة (المسلات على الطريقة الفرعونية)» (ميخا، 5: 12-14)؛ لهذا كان ميخا بعكس إشعيا شديد التشاؤم لأن يهوه سينزل على أورشليم عاصمة يهوذا والسامرة عاصمة إسرائيل غضبه فتتحولان إلى كومات من الأنقاض (ميخا، 1: 36؛ و12: 6-16). ولن يقبل القرابين والذبائح «هل يسر يهوه بألوف الكباش، بربوات أنهار زيت» (ميخا، 6: 6، 7). لقد أمسى يهوه يطلب أمرا آخر هو «أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعا مع إلهك» (ميخا، 6: 8). ولأن ميخا كان مشدوها مما يحدث من فساد في بيوت الأثرياء وأهل الحكم والسلطان، فإنه «وجد الفساد أكثر مما يمكن إصلاحه؛ لذلك فالكارثة قادمة لا شك فيها» بعد أن حكم يهوه على شعبه بقوله:
أسلمك للخراب، وسكانها للصغير. (ميخا، 6: 16)
لكن كتاب ميخا يحوي نقيضا تاما لهذا ذا طابع إسخاتولوجي بتعزية تتحدث عن نهوض شعب الله مرة أخرى لأن الله لن يسمح بفناء شعبه تماما: «والآن قد اجتمعت عليك أمم كثيرة، الذين يقولون لتتدنس ولتتفرس عيوننا في صهيون، وهم لا يعرفون أفكار يهوه ولا يفهمون قصده.»
إن ميخا يؤكد أن هؤلاء الأجانب الذين يرسلون جيوشهم على شعب الرب لا يعلمون أن يهوه يدفعهم لذلك، بعد أن دبر لهم مكيدة كبرى وشركا عظيما. إنه جمعهم كحزم إلى البيدر.
وهنا سيسمع شعب الرب أمر يهوذا وينفذ. قومي ودوسي يا بنت صهيون ... فتسحقين شعوبا كثيرين وأحرم غنيمتهم ليهوه وثروتهم لسيد كل الأرض. (ميخا، 4: 11-13)
هناك إضافات واضحة لكتاب ميخا أضيفت بعده بزمان، كالتنبؤ بأن بنت صهيون أي أورشليم سوف تسبى بسكانها إلى بابل، لكن يهوه سينقذها، رغم أن «عدو شعب الله زمن ميخا كان آشور وليس بابل». مما يؤكد أن تلك إضافة حدثت لمحرر عاش زمن الأسر؛ لأنه يتحدث عن إعادة بناء سور جديد لأورشليم يبنيه العائدون من أسر بابل، بعد أن سبق ودمره البابليون. ويؤكد هذا الفرض أننا نجد في سفر إشعيا وميخا نصين متطابقين تماما مبنى ومعنى ثانيا عن مكان إسرائيل المقبل في آخر الأيام، وهو النص الذي يقول:
ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت يهوه يكون ثابتا في رأس الجبال ويرتفع فوق التلال، تجري إليه الشعوب وتسير أمم كثيرة ويقولون: هلم نصعد إلى جبل يهوه وإلى بيت يعقوب فيعلمنا من طرقه ونسلك في سبله؛ لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة يهوه، فيقضي بين شعوب كثيرين، ينصف لأمم قوية عدة فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل، ولا ترفع أمة على أمة سيفا ولا يتعلمون الحرب فيما بعد. (ميخا، 4: 1-3) (إشعيا، 2: 2-4) «وهو ما يعني أن محرر تلك الإضافات في السفرين كان واحدا»، وأنه قد تمت إضافتها مع أخبار السبي البابلي زمن السبي البابلي أو بالأحرى بعده، بعدما أعاد قورش المسبيين وسمح لهم ببناء الهيكل والمدينة والسور مرة أخرى. ويبدو أن هذا المحرر قد أراد التخفيف من اللهجة القاسية القاتمة في نبوءات إشعيا وميخا حول المصير الأسود للشعب المختار.
ثم يتنبأ هذا المحرر المتأخر عبر كتاب ميخا قائلا:
أما أنت يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج الذي يكون متسلطا على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل؛ لذلك يسلمهم إلي حينما تكون قد ولدت والدة، ثم ترجع بقية إخوته إلى بني إسرائيل ... ويثبتون لأنه الآن يتعظم إلى أقاصي الأرض ... ويكون هذا سلاما. (ميخا، 5: 2-5)
وقد «رأت الديانة المسيحية في هذا المقطع نبوءة بمقدم السيد المسيح الذي ولد في بيت لحم، بينما الأمر ببساطة كان تنبؤا بمجيء ملك من نسل داود، وداود كان مولودا في بيت لحم» (صموئيل أول، 17: 12)، ولأن الفكرة الإسخاتولوجية عن المسيح لم تظهر قبل القرن الثالث ق.م ، فلا شك أن «محرر هذا الجزء عاش بعد بداية هذا القرن».
ويموت الملك الصالح حزقيا ملك يهوذا ويخلفه ابنه منسي في 642-687ق.م، بينما كان أسرحدون قد أضحى ملكا على آشور ثم تبعه آشور بانيبال 655-671ق.م، وكان ملوك يهوذا يتصرفون كتابعين لملك أشور، وأدخل العبادة الآشورية لجند السماء (عبادة الأجرام السماوية) إلى هيكل أورشليم والمعابد الأخرى.
وعلى مستوى علم التاريخ كانت وثائق أسرحدون تعدد أتباعه من ملوك ومنهم «منسي
Me-na-si-i
ملك يهوذا»
5
ومنسي هو ابن حزقيا اليهوذي ملك أورشليم الذي دون عنه المقدس التوراتي أنه:
عمل الشر في عيني يهوه ... وعاد فبنى المرتفعات التي أبادها حزقيا أبوه ... وسجد لكل جند السماء وعبدها في داري بيت يهوه. (ملوك ثاني، 21: 2-5)
بل وعاد منسي إلى عبادات كنعانية قديمة كانت تشرع التقرب من الإله بذبح الأبناء الذكور البكر على مذبح الإله وحرقه على محرقته استرحاما، لكن منسي كان يذبح ويتقرب بالبشر ليهوه، وهو ما يشعرنا بفظاعة إحساسه بدنو نهايته على يد الأشوريين حتى إنه أقام على هذا القربان الرهيب بتقديم ابنه شخصيا للنار.
ولا شك أن «منسي كان يفعل ذلك من باب استرضاء الآلهة الأخرى الأجنبية التي ربما كانت أقوى من يهوه بدليل قوة جيوشها ودولتها» ... وفجأة يأتي ملك آشور ويأسر منسي، ويغفل المحرر الأسباب حتى تقف فقط عند عصيان منسي الديني، لكن التاريخ هنا يفصح عن السبب الحقيقي وهو تمرد وعصيان منسي بعد اتفاق تم بين دول بلاد الشام على العصيان الجماعي لآشور زمن ملكها أسرحدون، مما دفع أسرحدون إلى تجريد حملات جيوشه على تلك البلاد وإعادتها إلى الطاعة، وأنه جاء بملوك دويلات تلك البلاد واستخدمهم خدما في قصره ومنهم بعلو ملك صور «ومنسي ملك يهوذا» وكوش جبري ملك إيدوم وموصوري ملك موآب وسلبيل ملك «غزة وميتيني» ملك أشقلون.
6
وهو ما ردد العهد القديم صداه إذ يحكى:
ولكن منسي أضل يهوذا وسكان أورشليم ليعملوا أشر من الأمم الذين طردهم الرب من أمام بني إسرائيل، وكلم الرب منسي وشعبه فلم يصغوا، فجلب عليهم رؤساء الجند الذين لملك آشور، فأخذوا منسي بخزامة وقيدوه بسلاسل وذهبوا به إلى بابل. (أخبار أيام ثاني، 33: 9-12)
ولم تتمكن مصر هذه المرة من نجدة حليفتها الصغيرة؛ لأن مصر نفسها كانت زمن أسرحدون 681-668ق.م قد وقعت فريسة الغزو الآشوري الذي اجتاحها حتى بلاد النوبة، لكن لتكتب آشور بذلك بداية قصة نهايتها؛ لأنها كانت دوما بحاجة لتكثيف جيوش في مصر إزاء ثورة لم تنقطع أو تهدأ في مساحات شاسعة من أرض يعرف دروبها الثوار وحدهم، مما أعطى الفرصة لثورة أخرى على آشور في بلادها ذاتها. لقد كانت ثورة بابل الصاعدة.
ترك الملك منسي 698-642ق.م ولده آمون 641-640ق.م على العرش، ولم يمض على حكمه عامان حتى قام يوشيا 639-609ق.م ابنه بانقلاب سريع ضده استولى معه على العرش حوالي 640ق.م (ملوك ثاني، 21: 20-24)، وخلال العقدين التاليين زمن وملك يوشيا أحرز يهوه وكهنته انتصارات واضحة ضد العبادات الغريبة، وظهر خلالهما ثلاثة أنبياء دخلوا التوراة وسجلت كتبهم فيها وهم صفينا 630ق.م وناحوم 633ق.م وإرميا 626ق.م.
وخلال ذات الفترة كانت مصر قد خلعت نير الآشوريين عن كاهلها وبدأت تستعيد قوتها، وكان الانتصار المصري قد استنزف في ثورته قوى آشور، وفي عام 626 انتفضت بابل أيضا ضد آشور لتقيم دولة الكلدانيين القوية، بينما كان الميديون من سكان إيران يحتلون المقاطعات الشرقية لآشور، ويعقدون حلفا مع بابل الجديدة من أجل إسقاط العاصمة الآشورية نينوى. وفى هذه الظروف جاءت نبوءات الأنبياء الثلاثة صفنيا وناحوم ثم إرميا.
وقد وصلنا من كتاب صفنيا ثلاثة إصحاحات فقط خلاصتها: أن يهوه يهدد يهوذا وأورشليم عاصمتها بالعقاب لخطايا شعب يهوذا، مما يشير إلى أن تلك النبوءة قد وضعت قبل إصلاحات يوشيا لصالح يهوه؛ لأنه بعد تلك الإصلاحات نجد نبوءات أخرى لصفنيا تهدد وتتوعد بدمار دول المحيط وبخاصة العاصمة الآشورية نينوى التي كان من السهل ومن قراءة الأحداث التنبؤ بسقوطها الوشيك.
ومعاصرا لصفنيا كان ناحوم الذي ركز نبوءاته على نينوى فكتابه يبدأ بعنوان يقول: «وحي على نينوى، سفر رؤيا ناحوم الألقوشي .» (ناحوم، 1: 1)، و«ألقوش» مدينة صغيرة من مدن يهوذا يعني أنه كان من مواطني المملكة اليهوذية. بالطبع لم يقل ناحوم إن نينوى باتت مهددة من تلك الشعوب المحيطة بها، ولا أنها زمنه قد بدأت تتلقى أولى ضربات الحلف الميدي البابلي؛ لأن الأمر كله لا بد أن يعود إلى يهوه الذي سينتقم لشعبه من آشور، فقد وجه يهوه غضبه ضد نينوى لأنه منها «خرج المفتكر على يهوه شرا» وبالطبع يقصد بهذا المفتكر أو الذي ينوي الشر على يهوه «سنحاريب ملك آشور». وأعلن يهوه على لسان ناحوم حكمه على آشور «لا يزرع من اسمك فيما بعد» (ناحوم، 1: 14). لقد جاء انتقام يهوه على يد الحلف الميدي البابلي وهو ينادي نينوى التي أوشكت على السقوط «تنفتح لأعدائك أبواب أرضك» (ناحوم، 3: 5).
لكن فرحة ناحوم الشامتة لم تستمر طويلا لأن بابل الناهضة كانت في طريقها للاستيلاء على ميراث آشور في المنطقة الشرق أوسطية، بعد أن دمرت آشور في 614ق.م وتقاسم الحلفاء ممتلكاتها.
ورغم أن سفر ملوك ثاني يؤكد إخلاص الملك يوشيا وغيرته الشديدة على يهوه، وأنه طارد كل العبادات الأخرى وقام بمذابح هائلة ضد أتباعها وكهنتها، وأنه «... لم يكن قبله ملك مثله، قد رجع إلى يهوه بكل قلبه وكل نفسه وكل قوته حسب شريعة موسى، وبعده لم يقم مثله» (ملوك ثاني، 23)؛ فإن يهوه أبدى نكرانا للجميل؛ فبينما مات منسي الكافر على سريره هانئا، فإن يوشيا المخلص ليهوه قد مات إبان معركته مع الفرعون نخاو 606-593ق.م عندما فضل يوشيا اعتراض جيوش مصر الخارجة لإيقاف الزحف البابلي على المنطقة وذلك في موقعة مجدو 609ق.م.
ومعلوم أن أسفار موسى لم تظهر إلا زمن يوشيا هذا حيث قيل إنه قد عثر عليها خبيئة بالمعبد، وهي التي عرفت باسم كتاب أو سفر التثنية. والقوانين والأحكام في هذا الكتاب أبدا لا تتفق مع زمن موسى لأنها تتحدث عن شعب يعيش حياة حضرية ويشتغل بالزراعة وليس شعبا بدويا تائها؛ شعب يملك مدنا ونظاما سياسيا وسلطة ملكية وإدارة مدنية (تثنية، 16: 18) ولديه مجمعه الكهنوتي الهرمي.
وفي سفر التثنية سقطة تؤكد أن هذا السفر قد تم جمعه أو إعادة تدوينه من أوراق قديمة زمن يوشيا؛ حيث يقول في موضع منه «في عبر الأردن في أرض موآب ابتدأ موسى يشرح هذه الشريعة قائلا» (تثنية، 1: 5)، والتعبير في عبر الأردن أي في الجانب الغربي من نهر الأردن، وهذا يشير إلى أن الكاتب وليس موسى هو من كان يعيش في عبر الأردن، بينما نعلم أن موسى مات ولم يعبر هذا النهر إلى غربه أبدا.
هذا ناهيك عن أسلوبه ومفرداته التي لا تمت بصلة إلى زمن موسى إنما هي بحق لغة متطورة من مميزات القرن السابع قبل الميلاد بل ويجب افتراض أن أنبياء مثل صفنيا وناحوم بل وإرميا كانوا ضمن جامعي ذلك القديم أو مؤلفي سفر الشريعة/التثنية.
وفي ذات الزمن ما بين 650 و640ق.م تقريبا ولد نبي آخر هو النبي الشهير إرميا، سليل أسرة الكاهن أبيثار الذي كان رأس كهنة أورشليم زمن داود وسليمان، وكان فيما يبدو ميسورا مثقفا قارئا للمقدس لأنه ينقل في كتابه نقلا حرفيا نبوءات سبق وقرأناها عند عاموس وهوشع وإشعيا. ويبدأ كتابه بمدخل تصديري يقول: «كلام إرميا بن حلقيا من الكهنة الذين في عناثوث في أرض بنيامين، الذي كانت كلمة الرب إليه في أيام يوشيا بن آمون ملك يهوذا» (إرميا، 1: 1-2).
ثم يميز إرميا نفسه «وكيف أصبح نبيا قبل أن يولد وكيف اختاره يهوه واصطفاه وهيأه للنبوة، وكيف أنه مرسل إلى شعوب العالمين وهي نغمة جديدة ستؤثر في نبي آخر بعيد فيما بعد ذلك بأزمان وفى مكان بعيد.» يقول إرميا: «فكانت كلمة الرب إلي قائلا: «قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك، جعلتك نبيا للشعوب.» فقلت آه يا سيدي الرب إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد. فقال الرب لي: لا تقل إني ولد لأنك إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به. لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك، يقول الرب. ومد الرب يده «ولمس فمي وقال الرب لي: ها قد جعلت كلامي في فمك»، انظر: قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس» (إرميا، 1: 4-10).
هكذا كان «من تكلم صبيا هو إرميا»، وكان إرميا مشاركا في الرعاية التمهيدية لسفر الشريعة/التثنية الذي كان آنذاك قيد الإعداد، وقام يهاجم العبادات الوثنية ويطالب بعدم السجود سوى ليهوه إبان كان في قريته عناثوث المنسوبة لربة الخصب الكنعانية «عنات/عناث» حتى إن أهل قريته تآمروا عليه لقتله (إرميا، 11: 21) مما اضطره إلى الهرب إلى أورشليم. وبقي إرميا حيا خلال زمن يوشيا ثم ابنه يهو آحاز 309ق.م، ثم يهوياقيم 608-598ق.م، ويهوياكين وصدقيا 597-586ق.م، ورأى بعينيه ما أسسه ليهوه زمن الملك يوشيا ينهار زمن أخلافه الذين عادوا للعبادات المتعددة والآلهة الغريبة؛ لذلك لم يكل إرميا من التنديد بشعبه لغدره بيهوه وزناه مع الآلهة الغريبة التي تم ترميمها من جديد، خاصة عبادات البعل وربة السماء إيزيس المصرية وعشتار البابلية، وكان يهوه يغلي غيظا وكمدا وغيرة على لسان إرميا إذ يقول له:
أما ترى ماذا يعملون في مدن يهوذا وفي شوارع أورشليم؟ الأبناء يلتقطون حطبا والآباء يوقدون النار والنساء يعجن العجين، ليصنعن كعكا لملكة السموات ... لكي يغيظوني. (إرميا، 7: 17-18)
بعدد مدنك صارت آلهتك يا يهوذا وبعدد شوارع أورشليم وضعتم مذابح للخزي؛ مذابح للتبخير للبعل. (إرميا، 11: 13)
كان غضب يهوذا قد تفجر على الجميع أغنياء وفقراء، لكن الأغنياء كانوا أكثر مكرا ومعصية:
مثل قفص ملآن طيورا هكذا بيوتهم ملآنة مكرا، من أجل ذلك عظموا واستغنوا، سمنوا، لمعوا، أيضا تجاوزوا في أمور الشر ... أفلأجل هذه لا أعاقب؟ يقول الرب، أولا تنتقم نفسي من أمة كهذه؟! (إرميا، 5: 27-29)
أتسرفون وتقتلون وتزنون وتحلفون كذبا وتبخرون للبعل وتسيرون وراء آلهة أخرى لم تعرفوها، ثم تأتون وتقفون أمامي في هذا البيت الذي دعي باسمي عليه وتقولون أنقذنا؟! (إرميا، 7: 9-10)
محرقاتكم غير مقبولة وذبائحكم لا تلذ لي. (إرميا، 6: 20)
ثم يستدير إرميا يكيل الطعن لزملائه الأنبياء فكل الشر يأتي منهم بتعاونهم مع الكهنة فهم:
يفسقون ويسلكون بالكذب ويشددون أيادي فاعلي الشر حتى لا يرجعوا الواحد عن ... شره هكذا قال يهوه رب الجنود: لا تسمعوا لكلام الأنبياء الذين يتنبئون لكم فإنهم يجعلونكم باطلا ... يتكلمون برؤيا قلبهم لا عن فم يهوه ... ويقولون لكل من يسير في عناد قلبه لا يأتي عليكم شر. وقد سمعت ما قالته الأنبياء الذين تنبئوا باسمي بالكذب ... عار أبدي وخزي أبدي. (إرميا، 23: 14-40)
وبالطبع «كان بقية الأنبياء يقولون عن إرميا ذات الأقوال ويرمونه بذات الاتهامات، لكنه كان يعتبر نفسه الصادق وهم الكذبة»، وبقي حوالي ثلاثين عاما يطلق نبوءاته ويغامر بحياته ويعرض نفسه لأكثر من مؤامرة، حتى قال إنه قد أصبح «إنسان خصام وإنسان نزاع مع كل الأرض» (15: 10)، وقد انعكست معاناته تلك في رغبة دفينة في الثأر والانتقام من الجميع؛ فينادى يهوه بكل رغباته الدموية:
لا تصفح عن إثمهم ... سلم بنيهم للجوع وادفعهم ليد السيف، فتصير نساؤهم ثكالى وأرامل، ويصير رجالهم قتلى الموت، وشبانهم مضروبي السيف في الحرب. (إرميا، 18: 18-23)
ويردد إرميا «ما سيردده بعد ذلك نبي في مكان بعيد وزمن أبعد منطقا» يتناول عبادة الأصنام التي لا تستحق السجود:
لأنها شجرة يقطعونها من الوعر، صنعة يدي نجار بالقدوم، بالفضة والذهب يزينونها، وبالمسامير والمطارق يشدونها فلا تتحرك، هي كاللعين في مقثاة فلا تتكلم، تحمل حملا لأنها لا تمشي، لا تخافونها لأنها لا تغير ولا فيها أن تصنع خيرا ... الآلهة التي لم تصنع السموات والأرض تبيد من هذه الأرض ومن تحت هده السموات.
أما يهوه فهو الإله الحقيقي لأنه هو:
صانع الأرض بقوته، مؤسس المسكونة بحكمته، بفهمه بسط السموات ... مصور الجميع وإسرائيل قضيب ميراثه ...
وهو أيضا إله عالمي:
لا مثل لك يا رب، عظيم أنت وعظيم اسمك في الجبروت، من لا يخافك «يا ملك الشعوب» لأنه بك يليق؛ لأنه في جميع حكماء الشعوب وفي كل ممالكهم ليس مثلك. (إرميا، 10)
وتزداد الضغوط النفسية على إرميا وهو يجد نفسه يصرخ ولا مجيب، يكرهونه ويدبرون لاغتياله مرة ويسبونه ويلعنونه مرة، فينادي شعب يهوذا الضال الذي خان آلهته بعقاب قادم، فسيمنع يهوه المطر ويموت الناس جوعا، ثم يرسل جحافل شعب غريب عليهم فيقتلونهم ويسبونهم إلى بلاد غريبة، لكن يهوه سيرأف بهم في النهاية إذا تابوا وندموا عما فعلوه من شر (إرميا، 5: 15-19؛ و18: 6-10؛ و33: 10-12).
ومع ذلك فإن إرميا لم يكن فيما يبدو قد وصل إلى التوحيد المجرد، كل ما في الأمر أنه يريد يهوه وحده سيدا، أما طقوس عبادته فكانت هي ذات طقوس الآلهة الأخرى، ولم يظهر أي عداء لتقريب الضحايا والتبخير لربه؛ لأنه يرى مستقبل يهوذا التائبة يوم يقوم الكهنة اللاويون بإصعاد المحرقات والتقدمات وتهيئة الذبائح ليهوه (إرميا، 33: 18)؛ فلم يكن ليهوه عند إرميا أية مطاليب أخرى سوى ذات المطاليب التي تطلبها الآلهة الأخرى.
ويبدو أن مواقف إرميا السياسية كانت وراء ملاحقته واضطهاده؛ فكما علمنا انفصلت بابل عن آشور بعد موت «أشور باني بعل» عام 626ق.م، وخلال العقدين التاليين كانت بابل والميديين قد حطموا الإمبراطورية الآشورية تماما. وبدأت تطلعات بابل لميراث الإمبراطورية، وكانت لمصر زمن الفرعون «نخاو» ذات الطموحات، وهو ما دفعها لمساعدة حاميات آشور في شمالي سوريا أملا في الاستيلاء عليها، لكن نبوخذ نصر الكلداني أنزل بها الهزيمة في قرقميش، فتراجع نخاو بجيوشه لتجميع قواه ومتابعة الصراع ضد بابل. وهو ما شجع يهوذا على إيقاف دفع الجزية لآشور المتهالكة وكانت يهوذا تابعة في الوقت نفسه لمصر. ويبدو أن يهو آحاز بن يوشيا أزعج الفرعون فعزله وأخذه أسيرا إلى مصر حيث مات هناك، ونصب الفرعون نخاو بدلا منه يهوياقيم شقيقه ملكا على يهوذا. وفى كل ممالك بلاد الشام كان يجري النزاع بين اتجاهين في السياسة الخارجية: اتجاه يميل نحو مصر والآخر نحو بابل، فكان في بلاط الملك يهوياقيم حزب قوي موال لمصر، وحزب آخر موال لبابل قوي شأنه بعد هزيمة الفرعون نخاو، وكان إرميا من هذا الحزب الأخير الذي يرى أن الخلاص من الدمار والانقراض الشامل هو الخضوع لبابل باستسلام كامل دون مقاومة؛ «لأن الهزيمة العسكرية أمام مصر قد تعني مجرد تبعية سلمية، أما الهزيمة العسكرية أمام بابل فكانت تعني الدمار الشامل»؛ ومن هنا لم يكن إرميا مواليا لحزب بابل حبا فيها بل رعبا منها وإشفاقا مما قد يحدث ليهوذا لو حالفت مصر وهزمت مصر أمام بابل ثانية؛ فمعنى ذلك الإبادة الشاملة لشعب الرب من قبل البابليين. هذا بينما كان فريق ثالث يعتقد أن يهوه لن يسمح لهؤلاء أو أولئك من وثنيين بالسيطرة على شعبه، لكن إرميا كان على يقين من اجتياح بابل لبلاده، لكن يهوه في النهاية لن يسمح بفناء شعبه «وأيضا في تلك الأيام يقول يهوه لا أفنيكم» (5: 18). ومثل هوشع وإشعيا يتنبأ إرميا ببعث جديد لشعب إسرائيل من البقية التائبة أو الراجعة لكن في مستقبل غير محدد بشكل دقيق. لكن قبل ذلك ستدمر أورشليم تماما «يكون هذا البيت وتكون هذه المدينة خربة بلا ساكن»، وكان رد فعل الناس على إرميا غضبا شديدا «وكل الشعب أمسكوه قائلين تموت موتا» (26: 8)، لكن البعض الآخر أنقذ إرميا من غضبة الناس، في ذات الوقت الذي لقي فيه النبي أوريا بن شمعيا - الذي كان يردد ذات كلام إرميا - حتفه، «أتوا به إلى الملك يهوياقيم فضربه بالسيف وطرح جثته في قبور بني الشعب» (26: 32).
وبالفعل السحري المتبع بكسر الجرار الفخارية رمزا على كسر أصحابها وفنائهم، تجرأ إرميا أمام شيوخ الكهنة والشعب في وادي بن هنوم وكسر هناك إناء فخاريا وهو يقول كلمة يهوه «هكذا أكسر هذا الشعب وهذه المدينة كما يكسر وعاء الفخاري»، وكان ذلك مجلبة للنحس في اعتقاد الناس؛ لذلك أمر فشحور كاهن معبد أورشليم بضرب إرميا ومنعه من دخول المعبد (19: 1-11؛ و20: 2).
ويبدو أن ملك يهوذا «يهوياقيم» قد اضطر في النهاية إلى إعلان خضوعه لبابل؛ لأنه قام أولا بقطع اتصالاته مع مصر، ثم أرسل جزية إلى نبوخذ نصر، ثم عاد بعد ثلاث سنوات يتردد محاولا العودة إلى مصر التي فقدت ثقتها به، وحتى يؤكد عودته توقف عن دفع الجزية لبابل، فأمر نبوخذ نصر أتباعه الموآبيين والآراميين والعمونيين بتأديبه فهاجموا بلاده. ومات يهوياقيم عام 598ق.م تاركا العرش لابنه يهوياكين، في الوقت الذي وصلت فيه جيوش بابل وضربت الحصار على أورشليم واستسلم يهوياكين 597ق.م، وسبى نبوخذ نصر الملك اليهوذي وبلاطه وكهنته وجيشه إلى بابل، وترك سكان الريف وأقام عليهم صدقيا الابن الثالث ليوشيا ملكا منوبا من قبله على يهوذا.
وإلى الأسرى في بابل أرسل إرميا رسالة باسم يهوه ينصحهم بالخضوع التام للملك البابلي ولا يعولوا على عودة سريعة لأورشليم لأنه «هكذا قال يهوه، إني عند تمام سبعين سنة لبابل أتعهدكم وأقيم لكم كلامي الصالح بردكم إلى هذا الموضع » (إرميا، 29: 10). «إذن فلا عودة من الأسر البابلي قبل سبعين عاما». هكذا كانت نبوءة إرميا.
وتتالى الأحداث وتجتمع كلمة الشعوب الواقعة تحت النير البابلي موآب وآدوم وعمون وصور وصيدا بتحريض من مصر، وأرسلوا سفراءهم إلى صدقيا ملك يهوذا لينضم للحلف. وما إن رأى إرميا السفراء حتى نادى:
هكذا قال يهوه رب الجنود إله إسرائيل ... أنا صنعت الأرض والإنسان والحيوان الذي على وجه الأرض ... وأعطيتها لمن حسن في عيني، والآن قد دفعت كل هذه الأراضي ليد نبوخذ نصر ملك بابل عبدي ... ويكون أن الأمة التي لا تخدم نبوخذ نصر ملك بابل ... إني أعاقب تلك الأمة بالسيف والجوع والوباء، يقول يهوه حتى أفنيها بيده ... والأمة التي تدخل عنقها تحت نير ملك بابل وتخدمه، أجعلها تستقر في أرضها، يقول يهوه، وتعملها وتسكن بها. (إرميا، 27: 4-11)
لكن الحزب المعادي لبابل قدم نبيه حنانيا يقول باسم يهوه:
هكذا قال يهوه. هكذا أكسر نير نبوخذ نصر ملك بابل في سنتين من الزمان. (إرميا، 28: 10-11)
وبينما تضرب جيوش بابل الحصار الثاني على أورشليم «كان حنانيا يعلم أن جيوش مصر قد خرجت لمعونة يهوذا» وحلفائها بقيادة الفرعون إبريس، ورفع نبوخذ نصر حصاره عن أورشليم محركا جيشه باتجاه مصر فانتعشت آمال يهوذا فى الخلاص، بينما تم القبض على إرميا في يهوذا بحسبانه جاسوسا لبابل وأودع السجن، لكنه كان يصر على أن يهوه قد أمر بتسليم أورشليم لبابل «هذه المدينة ستدفع دفعا ليد جيش ملك بابل فيأخذها» (إرميا، 28: 2-3). مما دفع جنود يهوذا لمطالبة الملك بقتل إرميا الذي يضعف روح المقاومة عند الناس.
ليقتل هذا الرجل ؛ لأنه بذلك يضعف أيادي رجال الحرب الباقين في هذه المدينة ... هذا الرجل لا يطلب السلام لهذا الشعب بل الشر. (إرميا، 38: 4)
وهزم البابليون جيش الفرعون إبريس الذي عاد إلى مصر، وفي عام 586ق.م اخترقت جيوش بابل أورشليم وتم تهديمها بشكل شبه كامل؛ فقد أمر نبوخذ نصر بهدم أسوارها، وحرق معبد يهوه، وقتل الملك صدقيا، وسبي الصناع والحرفيين وغيرهم إلى بابل وترك فقراء يهوذا فقط يفلحون الأرض. كما أمر «بإكرام إرميا» وتخييره بين البقاء في يهوذا أو السفر إلى بابل ففضل البقاء في يهوذا، «ومن هناك تم اختطافه إلى مصر» هو وتابعه الذي كان يلازمه باروك، ورغم أن «إرميا كان قد تنبأ بأن مصر ستلاقي مصير يهوذا على يد البابليين فإن نبوءته لم تتحقق»، وفي مصر مات واختفى ذكر إرميا من التاريخ. كذلك أخطا إرميا في تحديد مدة أسر اليهوذيين ببابل سبعين عاما؛ لأنه حتى أولئك الذين ذهبوا إلى السبي الأول «لم يلبثوا أكثر من 58 عاما»، منذ الحصار الأول 597ق.م وحتى 539ق.م على وجه التدقيق.
والنظرة الفاحصة لكتاب إرميا ستكشف أن هناك إصحاحات قد أضيفت إلى هذا الكتاب ليست لإرميا بأية حال وهما الإصحاحان 51 و52 تكرر حرفيا ذات الإضافات التي حشيت بكتاب إشعيا، وتتحدث حول هجوم الميديين على بابل (إرميا، 51: 11)، ودمار بابل التي ستتحول إلى كومة من الأنقاض، وهو ذات ما رددته إصحاحات إشعيا 13 و14، بينما نجد الإصحاح 52 في إرميا يردد ما جاء في الإصحاح 25 من كتاب ملوك ثاني، بل ويشهد على ذلك أن تلك الإصحاحات قد أضيفت بعد ما ورد من إشارة ختامية في الإصحاح 51 (إلى هنا كلام إرميا)، والمرجح «أن كاتبها كان رفيقه باروك الذي أراد إصلاح وتهذيب شأن خيانة إرميا الواضحة وعمالته لبابل». (4) حزقيال من كاهن إلى نبي
ولم تعمر المملكة البابلية الكلدانية طويلا؛ فقد ظهرت قوة جديدة في إيران هي قوة الفرس الذين أخضعوا الميديين هناك، وتمكن قورش الفارسي من توحيد إيران جميعا تحت سلطانه، وفي 539ق.م كان قد فتح بابل. لكنه «أبدا لم يحقق نبوءات إشعيا وإرميا؛ فلا هو هدم معابدها ولا دمر تماثيل آلهتها ولا تركها كومة أنقاض، بل أبدى نحوها شديد الاحترام»، وكانت حكمته دليلا لأخلافه الذين تمكنوا من إقامة إمبراطورية كبرى طوت شرقي المتوسط تحت جناحيها حتى وادي النيل، لكن إرميا رغم موته شريدا غريبا في مصر فإنه لم يعدم من يشاطره آراءه من بعد، ذلك كان «حزقيال» المنحدر من نسل الكهنة الصدوقيين المقدسين، والذي ذهب إلى بابل أسيرا في صباه عام 597ق.م، وبعد أن أمضى خمس سنوات في الأسر قرر أن يكون نبيا. أما كيف كان ذلك؟ فقد ظهر له يهوه ونشر أمامه كتاب «وهو مكتوب من داخل ومن قفاه وكتب فيه مراث ونحيب وويل». ثم أمر يهوه حزقيال أن يأكل ذلك الكتاب، وعند ذلك أصبح حزقيال نبيا (حزقيال، 3: 1-14) يتحدث بلسان يهوه عن مستقبل شعبه المختار.
لم تكن هناك مصائب باقية أكثر مما حدث لشعب الرب، لكن حزقيال كان يرى مصائب أكثر وأخطارا أعظم هي الخطر المحيق بديانة يهوه. وكان حزقيال شاهدا على الخيانة التي قام بها شعب يهوذا لربه يهوه بعبادة آلهة أخرى (حزقيال، 8).
ونجد عنده إشارات إلى «عبادة بشر حيوانات بمعبد أورشليم تشير إلى آلهة مصرية واضحة» (حزقيال، 1: 10؛ و43: 6). وكانت تلك الآلهة ذات الرءوس الحيوانية إضافة لشبيهها في بابل كما في الثيران المجنحة «قيراب» أو «كروبيم» قد أصبحت فيما بعد أساسا لظهور ما يعرف بالملائكة في أفق الديانة اليهودية، ويروي حزقيال كيف كان الكروبيم (الثيران المجنحة) ركوبة تنقل يهوه من بابل إلى أورشليم إلى أي مكان آخر.
ويرتد حزقيال عن النقلة التقدمية التي أسسها إرميا بعالمية يهوه الذي كان يرعى الآراميين والكوشيين والفلسطينيين، «يعود حزقيال إلى يهوه العنصري الذي يقف فقط إلى جوار شعبه المختار»، وأنه سينتقم من الشعوب المحيطة بيهوذا من عمون إلى موآب إلى آدوم إلى الفلسطينيين، لأنهم نجسوا معبد الإله بدخولهم إليه، وتشفوا في هلاك يهوذا على يد نبوخذ نصر (حزقيال، 3: 25).
ويرتد حزقيال إلى طلب يهوه للقرابين والذبائح وليس للتقوى (حزقيال، 41: 22)، ويعد يهوه حزقيال بأنه في مملكة إسرائيل التي سوف تبعث، سيعمل الكهنة «على المذبح محرقاتكم وذبائحكم السلامية فأرضى عنكم» (حزقيال، 34: 27)، والسبب الواضح «أن حزقيال كان كاهنا من سلالة الكهنة»، وكان يشغله وضع الكهنة المميز. لكن كان يشغله أيضا طمأنة شعبه على مستقبله وهو أسير في بابل؛ فالله قد قال له:
فبددتهم في الأمم فنذروا في الأراضي ... أنا يهوه ... آتي وآخذكم من بين الأمم وأجمعكم من جميع الأراضي وآتي بكم إلى أرضكم ... وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها. (حزقيال، 36)
لكن السؤال كان: هل يستحق شعب الرب كل هذا العقاب العظيم؟ وإذا هلكت يهوذا فذلك معناه انتهاء عبادة يهوه، ثم لماذا هذا العقاب للجميع بينما يوجد بالشعب عباد مخلصون ليهوه؟ ولماذا يعاني الأبرياء مع الخاطئين المذنبين في حق يهوه بعبادة آلهة أجنبية؟ كانت إجابته ذات إجابة هوشع فإسرائيل الشمالية ويهوذا الجنوبية كانتا مثل امرأتي زنى خانتا زوجهما الشرعي يهوه مع عشاق أشوريين ومصريين وبابليين. لكن الزانية ستتوب ويعدها يهوه إن تابت بالغفران (حزقيال، 16: 52-60).
ولتبرير عدل يهوه إزاء عباده المخلصين الذين يعانون مع الخونة وربما أكثر معاناة من خونة يهوه، فإن حزقيال يكرر تفسيرات إرميا، ثم يضيف إضافات جديدة تماما «متأثرة بالعقائد المصرية الأخروية»:
فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها وحفظ كل فرائضي ... «فحياة يحيا ولا يموت». كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه ... وإذا رجع البار عن بره وعمل إثما وفعل مثل كل الرجاسات التي يفعلها أفيحيا؟ كل بره الذي عمله لا يذكر في خيانته ... «يموت». (حزقيال، 18: 1-24)
ومن ثم يفتح حزقيال أبوابا جديدة للأمل والتوبة، ضمن مدرسة الكهنة ذوي الامتيازات، وحرصا على هذه الامتيازات قاموا يقدمون وحيا منسوبا لموسى يعرف باسم القانون الكهنوتي، يعكس مصالحهم وتطلعاتهم. أدرجوه تعشيقا هنا وهناك في التوراة الخماسية، في مناطق متفرقة منها، حتى تجد في التوراة القديمة المنسوبة لموسى فصولا كاملة مكرسة لوظائف الكهنة وطقوسهم وقرابينهم؛ لأن إسرائيل المقبلة يجب أن تكون تحت سلطان الكهنة.
ومن هنا نجد ثمانية إصحاحات كاملة من كتاب حزقيال من 40 إلى 48 عبارة عن مشروع كامل لبناء يوتوبيا إسرائيل المقبلة «تحت سلطان الكهنة». ويقدم حزقيال تصوراته من خلال أقصوصة يقول فيها إن يهوه أخذه وطار به إلى المستقبل كي يشاهد إسرائيل الآتية الباقية، ودور المعبد الضروري للكهنة وسيادتهم في المملكة المقبلة، ويضع ضمن تلك التصورات كيف سيكون الكهنة في أعلى درجات السلم الاجتماعي، وهناك سوف يعلمون الشعب:
التمييز بين النجس والطاهر، وفى الخصام هم يقفون للحكم يحكمون حسب أحكامهم ويحفظون شرائعي وفرائضي، في كل مواسمي يقدسون سبوتي . (حزقيال، 44: 23-24)
ومعنى ذلك أن الكهنة سيحوزون أيضا السلطة القضائية بينما تقوم السلطة المدنية بدور هامشي تماما، ويبدأ الحديث عن رئيس ستكون مهمته تقريب الضحايا ليهوه ورعاية المعبد وممارسة الشعائر الدينية؛ لهذا سيجمع الإتاوة من الشعب لصالح المعبد وكهنته. من هنا «كانت الطقوس عند حزقيال أهم كثيرا من الواجبات الأخلاقية».
ولم يعش حزقيال حتى يرى «معظم نبوءاته وهي تطيش» خاصة تلك النبوءات المحددة الواضحة المباشرة؛ ففي بداية نبوءاته في بابل تنبأ «بمحاكمة الملك اليهوذي صدقيا في بابل (17: 20) وهو ما لم يحدث، وتنبأ بدخول نبوخذ نصر صور (إصحاحات 26 و27) وهو ما لم يحدث أيضا».
وفي بابل كان أنبياء آخرون يتنبئون بمستقبل شعب الرب لم تصلنا أسماؤهم لأنه تم إدخالها في كتب أنبياء أكثر شهرة، منها تلك التي نسبت زورا إلى النبي إشعيا ابتداء من الإصحاح 40 وحتى نهاية كتاب إشعيا، واصطلحت مدارس نقد التوراة على تسميتها بكتابي إشعيا الثاني وإشعيا الثالث كاصطلاحات فقط مجازية لا علاقة لها بإشعيا صاحب الكتاب؛ «لأنها أبدا لم تدون بأحداثها زمن إشعيا إنما بعد ذلك، زمن الأسر البابلي وفي الأسر البابلي»، وبعض تلك الإضافات تعود إلى زمن أكثر تأخرا من زمن الأسر البابلي.
يعلن النبي المجهول المتسلل إلى كتاب إشعيا إعلانا إلهيا هو أن يهوه قد قنع بما أنزله على يهوذا من عقوبات استحقتها، وأن آثامها قد تمت مجازاتها وأنها قد قضت فترة عقوبتها وآن أوان تصالحها مع ربها بعد أن انتهى من توقيع الجزاء المناسب الذي ارتاحت له نفسه المكلومة من شعبه المختار.
عزوا عزوا شعبي، يقول إلهكم، طيبوا قلب أورشليم ونادوا بأن جهادها قد كمل، أن إثمها قد عفي عنه، أنها قد قبلت من يد يهوه ضعفين عن كل خطاياها. (إشعيا، 40: 1-2)
وكان كورش يكتسح إيران يوحدها ثم يخرج بجيوشه ليخضع المدن اليونانية في آسيا الصغرى، وتتتالى الأنباء عن التهيؤ الفارسي لاكتساح بابل، وهنا يقوم إشعيا المزيف يتنبأ بانتصار قورش الفارسي على بابل (إشعيا، 41: 25؛ و46: 11) ويعلن النبي المجهول أن يهوه قد وقع اختياره على قورش ليكون هو ممسوحه المسيح :
هكذا يقول يهوه «لمسيحه قورش» الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أمما وأحقاء ملوك أحل لأفتح أمامه المصراعين والأبواب لا تغلق ... لأجل عبدي يعقوب وإسرائيل مختاري دعوتك باسمك، «لقبتك وأنت لست تعرفني». (إشعيا، 4: 1-4)
وفي إضافات إشعيا الثاني تجد كلمات وصفات أبدا ليس لها مثل في بقية إشعيا الأصلي، ثم كلمات لم تعرفها لغة العهد القديم إلا بعد البقاء في الأسر البابلي مدة سمحت بنحت ألفاظ جديدة واصطلاحات جديدة، ودلالات جديدة لألفاظ قديمة. ويعلن إشعيا الثاني عن قورش الفارسي.
هو يبني مدينتي ... ويطلق سبيي لا بثمن ولا بهدية. (إشعيا، 45: 13)
ثم ينقل بالحرف من كتاب ملوك (18: 13-19) ويدونه في إشعيا (36: 39)، ناهيك عن كون الإصحاحات من 36 إلى 39 «تتحدث عن النبي إشعيا بضمير الغائب، أما نبوءته بدخول قورش بابل فهو أمر كان يستطيع أي شخص أن يتنبأ به»؛ لذلك قام يكتبه وينسبه إلى النبي إشعيا.
ولما أفرج قورش عن المسبيين بعد سقوط بابل، لم يتحمس اليهوذيون الأسرى للعودة من رفاهية بابل وخيرات الفرات، بل لقد رأى بعضهم «أن رب بابل مردوك أقوى كثيرا من يهوه الذي يملك على مقاطعة فقيرة وشعب جاهل ومتخلف». إضافة إلى أنهم هناك تزاوجوا من الرافديات وتاجروا وأثروا بل وأصبحوا يحملون أسماء بابلية ويسلكون بعادات البابليين، ولم يجد إشعيا الثاني آذانا صاغية لدعوته بالعودة وإقامة الهيكل والمدينة المقدسة، فقام ينادي بقول يهوه المكلوم:
هو ذا من أجل آثامكم قد بعتم، ومن أجل ذنوبكم طلقت أمكم، لماذا جئت وليس إنسان؟ ناديت وليس مجيب؟ هل قصرت يدي عن الفداء وهل ليس في قدرة للإنقاذ. (إشعيا، 50: 1-2)
ويؤكد إشعيا الثاني لشعبه أن بابل سوف تذهب إلى السبي كما ذهبت يهوذا بل إن آلهة بابل نفسها سيتم الإطاحة بها ويحملونها معهم إلى سبيهم؛ لأنها مجرد أصنام تعجز عن حماية أتباعها بعكس يهوه المنقذ؛ فيقول عن بعل/بيل والرب نبو البابلي:
قد جثا بيل، انحنى نبو، صارت تماثيله على الحيوانات والبهائم ... قد انحنت، جثت معا، لم تقدر أن تنجي. أنت تنجي الحمل وهي نفسها قد مضت في السبي . (إشعيا، 46: 1-2)
لا يعلم الحاملون خشب صنمهم والمصلون لإله لا يخلص. (إشعيا، 45: 20)
أليس أنا يهوه ولا إله آخر غيري وبعدي لا يكون؟ (إشعيا، 43: 10)
وأنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيري. (إشعيا، 44: 6) «لقد سجل إشعيا الثاني مجده بدءا من تلك اللحظة عندما جعل من يهوه ربا واحدا مطلقا عالميا دون منافس». ثم ينتقل في تبرئه يهوه مما حدث لشعبه نقلة أخرى، «فيهوه لم يعاقب شعبه لأنه أسوأ من الشعوب الأخرى بل لأنه الأفضل»، الشعوب الأخرى تضرب في ظلمات الوثنية أما الشعب المختار فقد استضاء عقله وطريقه بشريعة يهوه؛ لأنه المختار ليكون «نورا للأمم» (إشعيا، 42: 6). والجهل راحة والمعرفة عذاب وهذا شأن أقوياء الروح ودورهم في التاريخ؛ أن يتحملوا جهل الآخرين وذنوبهم على عاتقهم ويتعذبون بسببهم. إن الشعوب الجاهلة تزدري شعب الرب وتشمت فيه وتعذبه (إشعيا، 51: 23). لكن كل هذا هو الثمن النبيل المدفوع سلفا للمجد الآتي؛ لأن شعب الرب عندما يصل إلى ختام أداء رسالته سوف يصبح أعظم العالمين بقرار يهوي، وستعلم الشعوب الأخرى أن شعب الرب قد تعذب من أجل خلاصها، وأطاعت إسرائيل ربها بعبودية ووفاء. «وتبدأ كلمة العبودية لله تظهر في أفق العقيدة اليهودية لتطلق على أحباره وأنبيائه» (عباد الله جمع عبد الله)، لتؤثر بعد ذلك في الصيغ النبوية التي «سنسمع لها صدى في الزمن الآتي تردد أن النبي ليس سوى عبد لله مبلغ ونذيرا»، يقول إشعيا الثاني:
أما أنت يا إسرائيل عبدي، يا يعقوب الذي اخترته ... الذي ... دعوته وقلت له أنت عبدي، اخترتك ولم أرفضك ... لأني إلهك. (إشعيا، 41: 8-10)
اذكر هذه يا يعقوب، يا إسرائيل فإنك أنت عبدي، قد جبلتك عبدا لي أنت يا إسرائيل، لا تنس مني، قد محوت كغيم ذنوبك، وكسحابة خطاياك، ارجع إلي لأني قد فديتك (يقصد الرجوع من بابل إلى أورشليم دون التأويل). (إشعيا، 44: 21-22)
ثم يعلن للجهلاء من شعوب المحيط:
هذا الشعب جبلته لنفسي يحدث بتسبيحي. (43: 21)
هو ذا عبدي يعقل، يتعالى ويرتقي ويتسامى جدا. (52: 13)
ويبدو أن «إشعيا الثاني ذلك المجهول كان يعيش حياة شديدة القسوة»، تلقي بظلها الغامض على الإصحاح 53 الذي يصور حياة قديس معذب يقول عنه يهوه «عبدي البار» (إشعيا، 53: 11)، وأن هذا العبد المحب ليهوه كان محتقرا بين الناس وانصرف عنه الجميع لشكهم في أنه يتلقى عقابا من الله على آثامه، رغم أن هذا القديس المعذب في الواقع:
أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها ونحن حسبناه مضروبا من الله ومذلولا وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه وبحبره يشفينا. (إشعيا، 53: 4-5)
والسبب أن:
يهوه وضع عليه إثمنا جميعا. (إشعيا، 53: 6) «وغني عن الذكر أن المسيحية بعد ذلك وجدت في ذلك نبوءة بمسيحها المعذب من أجل البشرية.»
وفي هذا الإصحاح نجد حديثا عن سجن القديس المعذب ومحاكمته وربما إعدامه (بغموض) فهي تقول «قطع من أرض الأحياء»، لكن النبي وهو ينتظر الإعدام أعلن قوله إنه قد:
جعل نفسه ذبيحة إثم، يرى نسلا تطول أيامه، ومسرة بيد يهوه تنجح. (إشعيا، 53: 15)
ويعضده يهوه ويعلن:
لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء، يقسم غنيمة من أجل أنه سكب للموت نفسه، وأحصى مع إثمه، وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين. (إشعيا، 53: 12)
وفي المستقبل الآتي مع النجار يسوع بن مريم نجده قد وجد لديه في عذابات قديسنا المجهول نظرية كاملة عن «المعذب الذي جاء يحمل خطية البشر»، وليس من الضروري أن يكون العذاب على ذنب بقانون النار لا تحرق مؤمنا؛ فربما يكون العذاب خاصا بالمتقين بقانون المؤمن مصاب. ويمكن أن يتعذب البريء التقي بعلم الله وإرادته ليفسح المجال للخاطئين كي يتوبوا، وتلك الفكرة وإن كانت فلسفة غامضة غير منطقية أو مقبولة عقلا، فإنها كذلك لأنها من أسرار يهوه غير المفهومة، أسراره المحجوبة على أفهام البشر، ويشرح يهوه فلسفته الجديدة الغامضة:
لأن أفكاري ليست أفكارهم، ولا طرقهم طرقي، يقول يهوه، لأنه كما علت السموات عن الأرض، هكذا علت طرقي وأفكاري عن أفكاركم. (إشعيا، 55: 8-9)
وهكذا تمت صياغة فكرة الرسالة الفدائية لإسرائيل من أجل البشرية؛ لأنه عبد يهوه وبشيره ونذيره الذي يجب عليه أن يتحمل ويحمل شريعة الرب إلى «الجزائر ... والأمم ... البعيدة» (إشعيا، 49: 1). وهكذا سجل هذا القديس لأول مرة فتحا مبينا في تاريخ اليهودية التي لم تعد تقتصر على شعب بني إسرائيل؛ لأن شعب بني إسرائيل لفضله وأصالته قد تم اختياره ليحمل الرسالة ويتحمل العذاب إلى الشعوب الأخرى بالدعوة لمجد يهوه.
ومن أجل مجد يهوه لم يلتفت إشعيا المجهول إلى أن قورش كان من غير بني إسرائيل بالدم والعنصر، ولم يهتم بكونه كان وثنيا تماما حتى مماته؛ فهو أول المهديين الذين تم هداهم لخدمة يهوه، وأن يهوه بنفسه هو من مسحه مسيحا لأنه كان رسول يهوه المنتظر من زمن طويل، الذي سينفذ إرادة يهوه. ويرسم إشعيا المجهول صورة فصيحة لدمار بابل القريب، وأن يهوه سيسير أمام قورش ليفتح له أبواب سور بابل.
أنا أسير أمامك والهضاب أمهد أكسر مصراعي النحاس، ومغاليق الحديد أقصف. (إشعيا، 45: 2) «وقد ذهب البعض إلى أن فتح بابل قد تم عبر اتفاقات سرية مسبقة بين اليهوذيين المسبيين وبين قورش، وكان اليهوذيون في بابل يعيشون كمواطنين داخل المدينة.»
وبينما يذهب شعب بابل إلى المنفى حسب تلك النبوءة، فإن شعب إسرائيل سيعود إلى وطنه ويصبح صاحب مجد عظيم، وأن كاس الألم ستشربه شفاه الذين عذبوا شعب الرب (51: 22-23) والظالمون سيأكلون أجسادهم ويشربون دمهم كالخمر (46: 26).
وسوف تأتي كل الشعوب بجزيتها وكنوزها إلى دولة شعب الرب (45: 14)، وسيلحق بالوثنيين الخزي والعار، لكن بعضهم سيؤمن بيهوه ويأتون إليه يقولون:
فيك وحد الله وليس آخر إلها. (إشعيا، 14: 45)
وستقوم أورشليم عاصمة كبرى مقدسة يناديها النبي:
اخرجوا من بابل، اهربوا من أرض الكلدانيين بصوت الترنم أخبروا ، نادوا بهذا. (إشعيا، 48: 20) (5) بناء الهيكل الثاني
ولكن الشعب المقدس يتمسك بالإقامة في بابل ولا يرغب في العودة، مما كان مبررا مصلحيا لعدم تصديقهم نبوءات الأنبياء عن الغد الذهبي في أورشليم.
المهم أن قورش بعد فتح بابل سنة 538ق.م بقليل، أعلن مرسومه بعودة اليهوذيين إلى يهوذا، وقد ورد في كتاب عزرا:
في السنة الأولى لقورش ملك فارس، عند تمام كلام يهوه بفم إرميا، نبه يهوه روح قورش ملك فارس، فأطلق نداء في كل مملكته وبالكتابة أيضا قائلا: هكذا قال قورش ملك فارس: جميع ممالك الأرض دفعها لي يهوه إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتا في أورشليم التي في يهوذا. من منكم من كل شعبة ليكن إلهه معه ويصعد إلى أورشليم التي في يهوذا، فيبني بيت يهوه إله إسرائيل، «هو الله الذي في أورشليم». وكل من بقي في أحد الأماكن حيث هو متغرب، فلينجده أهل مكانه بفضة وبذهب وبهائم، مع التبرع لبيت يهوه الذي في أورشليم. (عزرا الأول، 1: 1-4)
لقد حل النبي المشكلة، «الفقراء يعودون، أما الذين ارتبطوا بمصالح اقتصادية في بلاد الكلدانيين البابلية، فإنه يمكنهم البقاء لكن عليهم التبرع والتمويل لإعادة بناء الهيكل» الذي سبق وهدمه نبوخذ نصر، بناء البيت، وبناء مدينة أورشليم وسورها المهدوم. أي أنه على من يرغب في البقاء أن يتقدم بمعونة سنوية لمعبد كهنة أورشليم.
وبينما نبي التوراة المجهول يتحدث عن قورش باعتباره المسيح المختار لدمار بابل، كان كهنة الإله البابلي مردوك يسجلون بأوامر قورش، أن الإله مردوك رب بابل قد استدعى قورش لفتحها، وذلك في المرسوم القائل على لسان مردوك، أنه: «بعد أن نظر في كل البلدان ومحصها بحثا عن ملك تقي، يكون من قلبه، فليأخذ بيده. نادى الملك قورش ... باسمه، وناشده السيطرة على الكون ... وأمره بالسير إلى مدينته هو (مدينة مردوك) بابل، ودون معركة أو قتال سمح له بدخول بابل.»
7
لقد كان قورش يرعى مصالحه السياسية عبر إيمان المتدينين؛ فهو يفتح بابل ويحترم آلهتها ويوقرها بعكس كل نبوءات التوراة، ويقول إنه جاء ليأخذ بابل بناء على طلب كبير أربابها، كذلك فعل مع بقية آلهة الدول المفتوحة، كذلك فعل مع يهوه، ويقول في مرسوم آخر: «حين دخلت بابل، أخذت برعاية شئون بابل الداخلية ومقدساتها ... ففرح «مردوك» المليك العظيم لأعمالي المباركة، وباركني أنا قورش الملك الذي يجله.»
8
وتمكن قورش من اجتذاب كهنة ديانات البلاد المفتوحة إلى جانبه، وهم من جانبهم ضمنوا له ولاء رعاياهم بما لديهم من أوامر إلهية يوحى بها، ولم تفكر بابل في الانتفاض عليه لا في عهده ولا في عهد ولده قمبيز. وهو قد سمح لليهوذيين بالعودة إلى أورشليم ليس لأنه تلقى أوامر يهوه بذلك، ولكن لأنه كان يهيئ نفسه للاستيلاء على مصر، وكان يشغله أن يكون الملك الملاصق لبوابة مصر من أتباعه هو وشعبه؛ أن يكون شعب الحدود المصرية وفيا لفارس. بل ودفع قورش جزءا من مصاريف بناء الهيكل، لأنه كان يريد إخلاص الكهنوت اليهوذي، مع تبعية كاملة؛ فهي عودة لكنها تحت ظل السلطان الفارسي الكامل، بل إن قورش قد عين عليها واليا فارسيا من قبله، مع حاكم يهوذي محلي هو «زربابل» الذي اختاره الكهنة بحسبانه «سليل البيت اليهودي الملكي، سليل داود وسليمان».
لكن عند العودة لم تعد سوى قلة من اليهوذيين الذين ضاقت بهم سبل الرزق في بابل، بعد أن شكوا في وعود يهوه «لأن أقواله كذبت أكثر من مرة»؛ فهو أكثر من مرة أكد أنه سيفني البابليين وبابل، لكن ما حدث كان بالعكس تماما، بل ازدهرت بابل أكثر، وأضيفت إليها معابد جديدة، وإلى تجاراتها زيادات هائلة، وتحولت إلى كبرى عواصم الدولة الفارسية نفسها.
وعاد البعض، ودفع البعض، وقام العائدون يبنون وينتظرون كل ليلة إطلالة المجد اليهوي بالخير على شعبه المخلص، لكن لتجتاح الأرض موجة جفاف نادرة المثال، وتصاب المزروعات بالدمار، حتى الأشجار المثمرة ضربتها الآفات (حجي، 1: 5-11؛ و15: 19)، ثم جاء الجراد يكتسح في هجوم متكرر، مع مشاكل أخرى نتجت عن كون القائمين في يهوذا من فلاحين لم يتم سبيهم، كانوا قد استولوا على أراضي المسبيين، ويرفضوا الآن إعادتها مما خلق مشاكل كبرى بينهم وبين الكهنة.
وامتد تشييد معبد يهوه المتواضع جدا حوالي عشرين سنة كاملة، كانت فيها أورشليم تعاني ويلات الجوع، وعاش الناس في حطام أطلال لم تبن منذ الغزو البابلي، ليبزغ في التاريخ نجم نبي مجهول جديد، لم يجد أمامه سوى سفر إشعيا فدس فيه لفائفه الجديدة، واصطلح على تسميته إشعيا الثالث. وكان حديثه يقع زمن بناء الهيكل والدعوة إلى بناء سور أورشليم (إشعيا، 60: 10-13)، وسط النزاع بين الأتقياء وبين الكفار. «والكفار عند إشعيا الثالث ليسوا الشعوب الوثنية ولكن هم اليهوذيون أنفسهم الذين قد أصبحوا نصف وثنيين»، يقدمون القرابين ليهوه في أورشليم، ثم يذهبون ويرتبون موائد الإلهين جاد ومنسي (إشعيا، 65: 11) ويأكلون الخنزير المحرم (66: 17). «وظهر مفهوم الكافر في أفق التاريخ» ليعيد إلى يهوه غضبه ويقول إن يهوه قبل أن يعيد بناء أورشليم «سيبيد أولا الكافرين، وبعدها سيكون لإسرائيل أمجاد عظمى وتبنى كأزهى البلاد» (إشعيا، 61: 4). إن الأزمة عندما استحكمت ذهب الحلم الغاضب إلى تكفير بني الملة، «وهو ما يردد صداه اليوم في بلاد المسلمين». وبينما يعود عزرا عما كان قد أسسه إشعيا الثاني من عالمية يهوه ودعوته للتبشير وفتح دينه للأخرين، يعود عزرا إلى عنصرية الشعب المختار بالدم والعنصر وحده؛ لأنهم عندما عادوا من الأسر فوجئوا بمن بقي منهم هناك وقد تزوجوا من نساء الشعوب المختلفة وعبدوا آلهتها، وهو ما يسجله كتاب عزرا في تقرير يقول:
لم ينفصل شعب إسرائيل والكهنة واللاويين من شعوب الأرض من رجاساتهم، من الكنعانيين والحيثيين والفرزيين واليبوسيين والعمونيين والموآبيين والمصريين والأموريين؛ لأنهم اتخذوا من بناتهم لأنفسهم ولبنيهم، واختلط الزرع المقدس بشعوب الأرض، «وكانت يد الرؤساء والولاة في هذه الخيانة أولا».
وهنا نلمح في زمن إشعيا الثالث ومواصفاته ما يمكن له أن يحدد زمنه وقت أو أيام كان كهنوت أورشليم لم يبلغ سطوته كاملة، ووقت كان يلح فقط على فروض العبادة، ونستمع إليه يعضد إشعيا الثاني ويؤكد فتح باب اليهودية للشعوب الأخرى، حتى يجد حلا لمشكلة الزواج الكثيف من الأجانب، وحتى يجعل أبناء تلك الزيجات يهودا، وهنا يقول يهوه لأبناء الشعوب الأخرى:
فلا يتكلم ابن الغريب الذي يقترن بيهوه ليخدموه، وليحيوا اسم يهوه، ليكونوا له عبيدا، كل الذين يحفظون السبت لئلا ينجسوه ويتمسكون بعهدي، آتي بهم إلى جبل قدسي وأفرحهم في بيت صلاتي، وتكون ذبائحهم ومحروقاتهم مقبولة على مذبحي؛ لأن بيتي بيت الصلاة يدعى لكل الشعوب. (إشعيا، 56: 3-28)
وأنبياء الشعوب الأخرى المؤمنون بيهوه سيعيشون في مملكة إسرائيل المزدهرة (إشعيا، 61: 5)، لكن خدمة معبد يهوه تظل من اختصاص اليهوذيين فقط. ويدفع إشعيا الثالث بيهوه نحو تطور أرقى حين يؤكد يهوه - مع الصعوبة القائمة في بناء المعبد - أنه ليس بحاجة ماسة لمعبد، والسبب:
هكذا قال يهوه: السموات كرسي، والأرض موطئ قدمي. أين البيت الذي تبنون لي؟ (إشعيا، 66: 1) «وفي الإسلام أصبحت الأرض كلها معبدا طهورا.» وهكذا تدل مداخلات إشعيا الثالث على أنه لم يكن كاهنا منتفعا من المعبد؛ لأن هناك آخر كان ينتفع لأنه كان كاهنا لذلك كان يقول كلاما آخر، ويؤكد على وجوب استكمال المعبد لأن يهوه يحتاج إلى السكن في الأرض:
هكذا قال يهوه رب الجنود قائلا: هذا الشعب قال إن الوقت لم يبلغ وقت بناء البيت! هل الوقت لكم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة، وهذا البيت خراب؟ (حجي، 1: 42)
ووجد حجي في تباطؤ شعبه عن البناء حجة تبرر ما نزل بهم من كوارث جديدة؛ فيهوه يقول لحجي:
لأجل بيتي الذي هو خراب، وأنتم راكضون كل إنسان إلى بيته، لذلك منعت السموات من فوقهم الندى، ومنعت الأرض غلتها، ودعوت بالحر على الأرض وعلى الجبال وعلى الحنطة وعلى المسطار وعلى الزيت، وعلى ما تنبته الأرض، وعلى الناس، وعلى البهائم. (حجي، 1: 96-110)
اصعدوا إلى الجبل وأتوا بخشب وابنوا البيت فأرضى عليه وأتمجد. قال يهوه. (حجي، 1: 8)
واستغرقت عملية البناء خمس سنوات أخرى، وكان المعبد الثاني أكثر تواضعا من البيت الأول المتواضع أصلا بجوار المنشآت المعمارية لدول الجوار، وينظر حجي إلى البيت الجديد حزينا قائلا بمرارة:
من الباقي فيكم الذي رأى هذا البيت في مجده الأول، وكيف تنظرونه الآن؟ أما هو في عينيكم كلا شيء؟! (حجي، 2: 3)
ويعلن يهوه على لسان حجي أنه سيبني البيت مع البنائين، محفزا لهم مبشرا أن «زربابل» 522ق.م، سليل بيت داود وسليمان الملكي سيكون بداية البشرى لقيام دولة اليهود الكبرى، ولقبه بلقب «مشتهي الأمم»، يقول يهوه:
تشددوا يا جميع شعب الأرض يقول يهوه، واعملوا فإني معكم ... لا تخافوا لأنه هكذا قال يهوه رب الجنود، هي مرة بعد قليل فأزلزل السموات والأرض والبحر واليابسة وأزلزل كل الأمم، ويأتي مشتهي كل الأمم فأملأ كل هذا البيت مجدا. (حجي، 2: 4-7)
وإلى زربابل بن شلتائيل من يسري في عروقه الدم الملكي السليماني الداوودي يتوجه يهوه بالقول عبر حجي:
كلم زربابل والي يهوذا قائلا: إني أزلزل السموات والأرض، وأقلب كرسي الممالك وأبيد قوة ممالك الأمم، وأقلب المركبات والراكبين فيها، وينحط الخيل وراكبوها كل منها بسيف أخيه. في ذلك اليوم يقول يهوه رب الجنود: آخذك يا زربابل عبدي بن شلتائيل يقول يهوه، وأجعلك كخاتم لأني قد اخترتك. يقول يهوه رب الجنود. (حجي، 2: 21-23) (6) زربابل مسيحا
كان حجي 520ق.م، كما هو واضح، يشير إلى اضطرابات شديدة في الأمم المحيطة بمؤامرات يدبرها يهوه لأجل عيون شعبه، وهو ما يلتقي فعلا مع مجموعة أحداث كانت تجري حينذاك؛ فقد قتل قورش في حملة على آسيا الوسطى وتحطم جزء كبير من جيشه، وانتقل العرش إلى ولده قمبيز الذي حاول تعويض تلك الهزيمة بفتح جديد، فدفع بجيوشه نحو مصر وتمكن من احتلالها، ولكن ليقوم الميديون في فارس بمؤامرات عاد بموجبها قمبيز من مصر لكنه مات في الطريق. وتمكن الكاهن الميدي جوماتا من الوصول بثورته إلى البلاط الفارسي وتم تنصيب «برديا» ملكا، ثم قام انقلاب آخر بالبلاط الفارسي انتهى بقتل «برديا» وتمكن أحد المتآمرين الميديين من الاستيلاء على عرش فارس، وهو من عرفه التاريخ باسم داريوش/دارا الأول. ونتيجة هذه الخلخلة في قوة الإمبراطورية قامت عدة ثورات في البلاد المفتوحة، في بابل وفارس وميديا وعيلام وآسيا الوسطى ومصر، لكن داريوش كان رجلا حديديا تمكن من قمع تلك الثورات جميعا وتوطيد ملكه عند نهاية عام 519ق.م . ومن جانبه احتسب حجي تلك الاضطرابات بداية النهاية للجميع حول يهوذا؛ لأنه لما كانت يهوذا لا تملك مقدمات القوة لترفع رأسها وسط هذه القوى الكبرى، «فإن يهوه رأى تدمير تلك القوى الكبرى سلفا لأجل مجد شعبه». وإنه قد أعد زربابل ليكون ملكا للملكة الرسولية الآتية. لكن نبوءة حجي ذهبت مذهب نبوءات زملائه السابقين؛ فقد صمدت الإمبراطورية الفارسية، بل وبلغت زمن داريوش الأول اقتدارا لم يسبق له مثيل، لكن إلى هذا الزمن تعود نبوءات نبي آخر من الأنبياء الكهنة في معبد أورشليم هو النبي زكريا 520ق.م الذي كان يرى مثل حجي أن الأحداث العاصفة التي جرت خلال السنتين الأوليين من حكم داريوش دلالة أكيدة على اقتراب اليوم الأخير يوم يهوه، وحلول المملكة اليهوذية الرسولية الجديدة. لكن زكريا تفاجئه الأحداث واستقرار الأمور لداريوش تماما.
ويصوغ زكريا نبوءاته في شكل دراما تخيلية تصور الأمم في هيئة وحوش قوية ذات قرون، ولأول مرة لا يتكلم يهوه بنفسه، «فتظهر فكرة الملاك حامل الوحي للرسل في أفق التاريخ الديني»، ويتساءل ملاك الوحي: متى سينزل يهوه رحمته بيهوذا التي ما برح يغضب عليها؟ ويتراءى لزكريا فيما يشبه الحلم أو اليقظة أربعة قرون، ويشرح له الملاك حامل الوحي أن تلك القرون الوحشية هي التي دمرت يهوذا، زوجان منهما مصر وبابل بالطبع وقد تم تحطيم هذين القرنين على يد داريوش، ثم قام ينادي اليهوذيين المستوطنين في بابل للهرب والعودة لأورشليم لأن أورشليم على أول سلم الوعد والمجد لأن ربها يناديها: «ترنمي وافرحي يا بنت صهيون، لأني ها أنا ذا آتي وأسكن في وسطك.» وكي يحدث ذلك كان لا بد من التطهير الرمزي، فيظهر يهوشع كاهن أورشليم الأول (رمزيا) بثياب قذرة، فيأمر الملاك «برفع وزره الذي أنقض ظهره» ويأمر: «انزعوا عنه الثياب القذرة» استعدادا لمجيء سليل بيت داود الملكي، الغصن من شجرة سليمان.
انظر يا يهوشع الكاهن العظيم ... لأني ها أنا ذا آتي «بعبدي الغصن» ... وأن الإله سوف يزيل إثم تلك الأرض في يوم واحد. (زكريا، 3)
أما الأمر الواقعي في تلك الصورة فيوعز بأن يهوشع الكاهن قد لطخ نفسه بتصرفات غير لائقة، مما دفع زكريا الكاهن لشرح ذلك باعتباره آية للناس وضرب مثل، وأن الله لا يرضى الهجوم على خدامه الكهنة، لكن من هو «غصن جذع داود»؟ هو الذي كان باقيا من سلسال داود: «زربابل».
هكذا كلمة يهوه إلى زربابل قائلا: لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي ... إن يدي زربابل قد أسستا هذا البيت فيداه تتممانه. (زكريا، 4)
لكن زكريا كان كاهنا وتشغله سيادة الكهنوت على الملك المدني؛ لذلك قام بصناعة الذهب المرسل من يهود بابل تاجا ملكيا، وكي تتدعم سلطة الكهنوت ألبسه للكاهن يهوشع وليس زربابل، مما دفع زربابل إلى الغضب ومغادرة أورشليم والعودة إلى بابل. وقد سعد الكهنة بخروج هذا المنافس بعد أن استثمر اسمه كثيرا، وتوقيا لأي نزعات تمردية أو انفصالية قد يسعى لها. ويبدو أن زربابل قد ذهب إلى بابل يطلب دعم اليهوذيين المقيمين هناك، لكن ليختفي بعد ذلك ذكره تماما، «ويختفي النسل الملكي ولا يظهر إلا بعد ذلك خلال القرن الأول الميلادي عندما جاء يسوع الناصري ليعلن أنه البذرة الباقية من فرع داود وغصن سليمان وأن في عروقه يسري الدم الملكي».
وفي النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد كان هناك نبي آخر يطلق نبوءاته مؤكدا على اقتراب يوم يسود شعب يهوه بقدوم يوم يهوه؛ ذلك كان عوبيديا 450ق.م، الذي قام يؤلف نبوءاته في الأيام الأخيرة للأسر البابلي، ووقف يتذكر ضعف شعب إسرائيل، وكيف قامت الشعوب المجاورة بنهب يهوذا، موآب وعمون وبالذات آدوم، ليرى الآن آدوم تلقي ذات العقاب؛ حيت قام أعراب الجزيرة بمهاجمتها ونهب أرضها، كان هذا دليلا على أن يهوه لم ينس شعبه فعاقب أدوم، كما كان دليلا على اقتراب يوم يهوه الذي سيحاكم فيه كل الشعوب التي آذت شعبه الذليل. ويعطي «العلامات المنبئة بقدوم هذا اليوم»:
دمار ونار وأعمدة دخان، تتحول الشمس إلى ظلمة والقمر إلى دم قبل أن يجيء يوم يهوه المخوف ... لكن في جبل صهيون وفي أورشليم تكون نجاة ... وتعلمون أني أنا وسط إسرائيل وأني أنا يهوه إلهكم وليس غيري. (عوبيديا، 2: 30-32؛ و27-29)
في تلك الأيام وفي ذلك الوقت عندما أرد سبي يهوذا وأورشليم، أجمع كل الأمم وأنزلهم إلى وادي يهو شافاط وأحاكمهم هناك، على شعبي وميراثي إسرائيل الذين بددوهم بين الأمم ... مصر تصير خرابا وآدوم تصير قفرا خربا من أجل ظلمهم لبني يهوذا، الذين سفكوا دماء بريئة في أرضهم. (عوبيديا، 3: 1، 2، 19)
وعند ذلك ستصبح يهوذا جنة الله في الأرض:
ويكون في ذلك اليوم أن الجبال تقطر عصيرا والتلال تفيض لبنا، وجميع ينابيع يهوذا تفيض ماء، ومن بيت يهوه يخرج ينبوع ويسقي وادي السنط. (عوبيديا، 3: 18)
كان عوبيديا يحاول تعزية العائدين من الأسر زمن جفاف وقحط لم يحدث مثله من قبل، بينما كان زميله يوئيل 400ق.م يؤكد أن هذا القحط والجراد المتتالي الدوري علامة على اقتراب يوم يهوه، وفي أفق التاريخ يسجل الدين اليهودي قفزة نوعية على يد يوئيل عندما يرى أن ذلك اليوم سيكون يوم الدينونة العظمى لكن ليس لشعب الرب، بل للشعوب الوثنية؛ لأن شعب يهوذا لن يحتاج محاكمة فقد دفع سلفا كل ديونه وتطهر من آثامه بما لقيه من عذابات وتشريد. وستنسكب روح يهوه على شعبه المختار ويصبحوا جميعا أنبياء مطهرين. ومع كتاب عوبيديا الصغير ظهر كتاب ملاخي النبي 450ق.م، إبان كانت يهوذا مقاطعة هزيلة ضمن الإمبراطورية الفارسية، وبعد إقصاء زربابل والتحكم الكامل لكهنة يهوه في بلاد يهوذا، حيث لا نرى إطلاقا أية سلطة مدنية (ملاخي، 2: 27)، وتحول الأنبياء عن الثورة للشعب الفقير إلى سند أيديولوجي للكهنة. وحاول أن يجيب على سؤال الشعب للرب «أحببتكم قال يهوه وقلتم بم أحببنا؟» بأنه على الأقل لم تتعرض يهوذا لهجوم العربان الذي قضى تقريبا على آدوم؛ لذلك على يهوذا أن تشكر الله؛ أنها لم تدمر مثل آدوم لذلك عليها ألا تتذمر على ربها، ثم إن يهوه ليس مغمض العينين؛ فشعب يهوذا لا يقرب قرابينه ليهوه في معبده إلا من مواشيه المريضة ونباته المعطوب؟!
وإن قربتم الأعرج والسقيم أفليس ذلك شرا؟ قربه لواليك أفيرضى عليك؟! (ملاخي، 1: 12)
ثم إن شعب الرب قد فقد خوفه من يهوه:
أقوالكم اشتدت علي. قال يهوه، وقلتم ماذا قلنا عليك؟ قلتم عبادة الله باطلة، وما المنفعة من أننا حفظنا شعائره، ولأننا نحن مطوبو المستكبرين وأيضا فاعلو الشر يبنون، بل جربوا الله ونجوا. (ملاخي، 3: 13-15)
لقد أتعبتم يهوه بكلامكم وقلتم بم أتعبناه؟ بقولكم كل من يفعل الشر فهو صالح في عيني يهوه وهو يسر بهم، أو أين إله العدل؟ (ملاخي، 2: 17)
أيسلب الإنسان الله؟ فإنكم سلبتموني فقلتم بم سلبناك؟ في العشور والتقدمة. لقد لعنتم لعنا وإياي أنتم سالبون هذه الأمة كلها. هاتوا جميع العشور إلى الخزنة ليكون في بيتي طعام، وجربوني بهذا. (ملاخي، 3: 8-12)
أما السبب عند ملاخي في بداية انتشار الإلحاد والكفر بيهوه فهو محاولة الانفتاح على الشعوب الأخرى لهدايتها لدين يهوه، وبالزيجات المختلطة مع الوثنيين.
غدر يهوذا وعمل الرجس في إسرائيل وفي أورشليم لأن يهوذا قد نجس قدس يهوه وتزوج بنت إله غريب. (ملاخي، 11: 2)
وكالأنبياء السابقين يتنبأ مؤلف كتاب ملاخي باقتراب يوم يهوه الذي لن تكون عليه أية علامات كما قال عوبيديا، بالعكس سيأتي يوم يهوه فجأة وبغته، وحينها سيرسل ملاكا من عنده يطهر يهوذا بالنار «ويصفيهم كالذهب والفضة» وبعد ذلك سيأتي يهوه ليحكم بنفسه، وعندئذ يستعير ملاخي صورة «رب الشمس رع المصري بأجنحته» مناديا «لكم أيها المتقون اسمي، تشرق «شمس» البر والشفاء في «أجنحتها»» (ملاخي، 4: 2)، وعند ذلك ستخدم كل الشعوب يهوه رعبا منه وخوفا. (7) موجات الإلحاد المقدس
وبينما عزرا ومؤيدوه ينشرون سفر الشريعة الذي تم تأليفه في بابل وينسبونه إلى موسى، ويطلبون تطهير البلاد من الرجس الذي أفقدهم رعاية يهوه؛ يطلبون طرد وتطليق الزوجات الأجنبيات، ويشكلون لجان الفرز والفسخ في وقت لم يعد يحتمل مثل تلك الإجراءات، بعد أن جرب شعب الرب العلاقات مع الشعوب الأخرى والعيش معها والكسب من تجاراتها ونعيم أربابها واختلط بالأجانب. ناهيك عن كون يهوه ظل طوال الوقت ينعى على شعبه وينعب ولا يقدم له سوى الدمار والشتات، كان أصحاب الاتجاهات الجديدة المتمدنة المتأثرة بالآخرين يتجرءون على إعلان آرائهم بوضوح، وتمكن بعضهم من التسلل إلى المقدس ليدونوا كتبهم بداخله، ومن هذه الكتب المحتجة كان كتابا راعوث ويونان.
وقد زعم مؤلف الكتاب أن القاضي صموئيل هو من ألف كتاب راعوث في الزمن السالف البعيد، بينما لغة الكتاب لغة شديدة الحداثة سواء من حيث التعابير أو الأفكار التي تنتسب إلى زمن إصلاحات عزرا ونحميا وربما بعد ذلك؛ فلا يمكن لباحث مدقق أن ينسب سفر راعوث إلى ما قبل ذلك.
ويلقي المؤلف المجهول المحتج الذي لا شك كان متزوجا محبا لزوجة غير يهوذية بقصته داخل العهد القديم، لكن ليقوم شخص آخر من الكهنة بإلقائها في رحم الزمان الغابر بادئا بالقول إن ذلك قد «حدث في أيام حكم القضاة»، قبل حتى قيام مملكة شاءول وداود وسليمان.
يحكي كتاب راعوث حكاية مؤثرة عن عائلة اضطرت لمغادرة بيت لحم بيهوذا نتيجة الجوع والقحط إلى بلاد موآب، وهناك مات رب العائلة وترك أرملته نعمى وولدين، فتزوج الولدان امرأتين موآبيتين، كان اسم إحداهما «راعوث»، وبعد فترة مات الولدان، وسمعت الأرملة نعمى أن الخير قد عاد إلى يهوذا فقررت العودة إليها سعيا إلى اللحاق بأحد أقاربها الموسرين في يهوذا وكان يدعى «بوعز». لكن «راعوث» لم تترك حماتها نعمى إخلاصا لها ولزوجها المتوفى وتركت بلادها موآب وسافرت مع حماتها العجوز إلى يهوذا، إلى بيت لحم، وأوعزت نعمى إلى راعوث بإغواء قريبها الثري بوعز.
ومعلوم أن هناك تقليدا يهوديا قدسيا يلزم زواج الأخ بزوجة أخيه الميت لينجب ولدا يحمل اسم أخيه الميت فلا ينقطع ذكره، وكان هدف الأرملة العجوز إحياء اسم ابنها فأوعزت لكنتها بإغواء بوعز للزواج منها لينجب طفلا يحمل اسم زوجها السابق الميت ابن نعمى. وبالفعل تزوجت راعوث من بوعز وأنجبت ولدها عوبيد منسوبا إلى زوجها السابق الميت. ثم ينتهي كتاب راعوث بتقرير يقول إن راعوث هذه الموآبية هي التي أنجبت سلسالا انتهى إلى داود الذي أصبح ملكا على إسرائيل، لأن «عوبيد ولد يس ويس ولد داود». وهكذا جعل المؤلف امرأة موآبية جدة لملك إسرائيل ليعلن رأيه للجنة الفرز أنه ليس ضروريا أن تكون النساء الأجنبيات شريرات وضد يهوه، بل إنه من الممكن أن يكن تقيات ويلتزمن بتقاليد يهوذا وأوامر يهوه بل وينجبن ليهوذا ملوكا عظاما. وكان ذلك ردا على شريعة موسى المزعومة فى كتاب نحميا «إن عمونيا وموآبيا لا يدخل في جماعة الله إلى الأبد» (نحميا، 13: 1).
أما كتاب الاحتجاج الثاني فيعود إلى بطله يونان بن أمتاي، وتم إلقاؤه في مرآة الأيام الخوالي زمن الملوك يهو آحاز ويهو آش ويربعام الثاني؛ أي تمت إعادته إلى نهاية القرن التاسع وبداية القرن الثامن من قبل الميلاد. ويبدأ سفر يونان بالعبارة: «وصار قول يهوه إلى يونان بن أمتاي قائلا: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وناد عليها لأنه قد صعد شرهم أمامي.» وكان على يونان أن ينفذ أمرا يهويا بأن يذهب لأهل نينوى يعلن لهم أن يهوه قد قرر تدمير مدينتهم بعد أربعين يوما.
وخاف يونان وهرب من تنفيذ أوامر يهوه فذهب إلى يافا وركب سفينة متجهة إلى ترشيش بإسبانيا هربا «من وجه يهوه»، فيغضب يهوه ويرسل على البحر أعاصيره، ويلقي البحارة بيونان مصدر البلوى في البحر فيهدأ البحر. «أما يهوه فأعد حوتا عظيما ليبتلع يونان، فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، فصلى يونان إلى يهوه إلهه من جوف الحوت وأمر يهوه الحوت فقذف يونان إلى اليابسة» (يونان، 1: 17؛ 2: 1، 10)، وهو النبي الذي جاء ذكره في الإسلام باسم يونس مصرفا بالتصريف اليوناني.
وعرف يونان أنه لا مهرب له فذهب وأعلن أهل نينوى بقرار يهوه تدميرها بعد أربعين يوما، فآمن أهل نينوى وصاموا لله وهجروا الإثم، وأمر ملك نينوى شعبه بالتطهر خشية يهوه.
فلما رأى الله أعمالهم، أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة، ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه. (يونان، 3)
وشعر يونان بالمهانة والخذلان بعد أن ظهر إنذاره كاذبا، وتجرأ على يهوه لأنه سيبدو في نظر الناس نبيا دجالا، حتى إنه تمنى الموت وقال ليهوه: «خذ نفسي مني لأن موتي خير من حياتي ، فقال يهوه: هل اغتظت بالصواب؟»
وبالطبع لا يمكن نسبة سفر يونان للتأريخ الذي وضعته له التوراة لأن لغته متأخرة، ويحوى كثيرا من الكلمات الآرامية المحدثة التي دخلت العبرية زمن السيطرة الفارسية.
والواضح أن المؤلف المجهول كان يحمل كتابه رسالة إلى أتباع يهوه المتعصبين مثل عزرا ونحمياه 458ق.م، «وأن يهوه بإمكانه أن يكون رحيما لا غضوبا حتى مع الشعوب الوثنية»، ويقدم ليهوه صورة جديدة تماما بحيث يظهر ربا للخير رحوما صبورا شفوقا حتى على نينوى عاصمة الوثنية والتجبر، لقد كتب المؤلف المجهول كتابه ليتحدى به كهنة أورشليم والأنبياء المتعصبين المنغلقين.
أما أكثر الكتب تحديا حتى ليهوه نفسه، ويموج بالنزوع الإلحادي الصريح فهو كتاب أو سفر أيوب. والكتاب من حيث اللغة والأفكار يعود إلى مرحلة ما بعد الأسر وأبدا ليس قبل القرن الخامس قبل الميلاد.
والكتاب بعد تشذيبه على يد الكهنة يحكى أن الواشي/شاطان/الشيطان أرشد يهوه إلى فكرة هي أن إيمان عبده أيوب وتقواه إنما لكي يزداد ثراء وصحة ونعمة؛ فهو إيمان غير خال من الغرض، وهنا يسمح يهوه للشيطان بتجربة عبده الوفي بامتحانه قياسا لإيمانه، فينزل الشيطان بالعبد التقي أيوب مصائب هائلة فيخسر ثروته ويموت أبناؤه ويصاب هو بالقرح في جسده. لكن الكهنة الذين تدخلوا في النص أكدوا أن أيوب كان طوال الوقت راضيا وأوجز موقفه بالقول: «يهوه أعطى ويهوه أخذ فليكن اسم يهوه مباركا» (أيوب، 1: 12).
لكن ذلك لم يطغ على النغمة الساخطة الواضحة لعدم عدالة يهوه مع أيوب الذي لم يذنب، ويرى أيوب كل الشعب يتعذب والظلم سائد ويهوه يسمح بذلك. وهنا يأخذ أصدقاء أيوب دور المدافع عن الله في مشهد درامي، بينما يأخذ أيوب دور الناقد المهاجم في نقاش فلسفي، اتهم فيه أيوب مجادلية بأنهم «ملفقي الكذب» و«أطباء باطلين»؛ فالإله يميت الطيب التقي كما يميت الشرير (9: 22) بل ويؤازر الأشرار ويحيطهم برعايته (21: 30) والكافر يعيش حياة طويلة ثريا مطمئنا ويترك ذرية كثيرة (وكان ذلك من علامات رضى يهوه).
وعلى لسان أيوب يقول هؤلاء الأشرار المنعمون «من هو القديم حتى نعبده وماذا ننتفع إذا التمسناه؟» (أيوب، 21: 15)، هذا بينما الأتقياء يعانون الذل والجوع ويموتون على يد الأشرار «من الوجع الناس يئنون ونفس الجرحى تستغيث والله لا ينتبه إلى الظلم» (أيوب، 24: 12)، ولا يوافق أيوب على أن يهوه سينتقم من أبناء الشرير «الله يخزن إثمه لبنيه؟! ليجاز نفسه» (أيوب، 21: 19-21).
هكذا نلحظ أن «كاتب سفر أيوب لم يكن يعلم بظهور العقيدة الأخروية» في أفق الديانة اليهودية، ولم يكن موضوع الحياة الآخرة والثواب والعقاب قد ظهر بعد، بل إن أصدقاءه الذين أخذوا دور الدفاع عن يهوه لم يخطر ذلك ببالهم؛ فهم جميعا يعتقدون أن الموت هو نهاية كل شيء؛ نهاية السعادة ونهاية الأحزان «أما الرجل فيموت ويبلى الإنسان، يسلم الروح، فأين هو الإنسان؟ يضطجع ولا يقوم، لا يستيقظون حتى لا تبقى السموات، ولا ينتبهون من نومهم» (14: 10-12).
وتتعالى النغمة فإذا كان الله هو القدير وهو المقدر لكل شيء، فهو إذن مصدر كل الأفعال؛ لأنه «عنده العز والفهم، له المضل والمضل» (أيوب، 2: 16) «ويعلم سلفا ما سيحدث، ويعلم نتيجة امتحانه لعباده فلماذا يمتحنهم بالبلاء؟»
وينتهي الكتاب الحقيقي لأيوب بكلمات صارمة تؤكد أن أيوب كان محقا «فكف الرجال الثلاثة عن مجاوبة أيوب لكونه كان بارا في عيني نفسه» (أيوب، 32: 1). لكن لتبدأ مداخلات أخرى من شخص تقليدي يستكمل السفر لصالح يهوه، فيقول إن يهوه جاء بنفسه ليؤازر المدافعين الثلاثة ويلقي خطبة طويلة ضد إلحاد أيوب (الإصحاحات من 38 إلى 41)، وأنه ليس بحاجة لتبرير سلوكه مع عباده ولا يحق لعبد الاعتراض (أيوب، 39: 32)، وهنا يعترف أيوب بهزيمة منطقه أمام منطق الإله ويعلن توبته، وينتهي الكتاب بأن أيوب بعد رجوعه إلى الله وندمه عن فلسفته الهرطقية كافأ أيوب بعودة ثروته وولادة أبناء جدد له وأنه أمد في عمره حتى عاش 140 سنة (الإصحاح، 42)، «وهكذا انتصرت قوة يهوه الغشوم على منطق وحق أيوب».
هكذا ثم تشذيب كتاب أيوب في الأعداد (27: 8-10؛ و13: 23) على يد أيوب مزيف، ليعلن أن الشرير ينتظره عقاب شديد من الله رغم كل إدانة أيوب الحقيقي طوال الكتاب لربه «الذي لا يميز ولا يقدر»، وهو ما يوضح أيضا أن العددين (21: 16؛ و21: 22) إضافات لاحقة؛ بحيث تم تقديم شكوك أيوب في عدالة يهوه كضعف مؤقت اعترى أيوب المعذب لكنه تجاوز ذلك بالتوبة فغفر له يهوه.
وهناك كتاب آخر لا يقل تنديدا بيهوه ونقدا مريرا للعقيدة اليهودية هو كتاب الجامعة، والجامعة لقب عبري في الأصل «كولهيت» أي المبشر أو الداعية، وقد نعت بهذا النعت سليمان بن داود، وبذلك تمت نسبة الكتاب إلى سليمان في الزمن الماضي البعيد وهكذا أمكن لمؤلف الكتاب الاجتراء بنسبة كلامه إلى أشهر ملوك إسرائيل القديمة طرا. لكن التحليل النقدي للكتاب يثبت أنه يقع ضمن آخر أدبيات العهد القديم، ولم يكتب على الإطلاق قبل القرن الثالث قبل الميلاد، وأفكاره تكاد تتطابق مع أفكار كتاب أيوب؛ حتى إنه يكرر نفس المقاطع حرفيا (الجامعة، 5: 14؛ وأيوب، 1: 21؛ والجامعة، 6: 3-5؛ وأيوب، 3: 11-13 ... إلخ). ويعلن المؤلف موقفه صريحا يقول:
يوجد باطل يجري على الأرض، أن يوجد صديقون يصيبهم مثل عمل الأشرار، ويوجد أشرار يصيبهم مثل عمل الصديقين، فقلت إن هذا أيضا باطل. (جامعة، 8: 14)
وقد يكون بار يبيد في بره، وقد يكون شرير يطول في شره. (جامعة، 7: 15)
وأن شر الموت يطال الجميع الصالح والطالح، بل ويصف موقف يهوه بإماتة الجميع بحيث يكون الموت نهاية الطيب والخبيث، بأنه موقف من أشر ما يعمله أحد تحت الشمس.
حادثة واحدة للصديق وللشرير، للصالح وللطاهر والنجس، للذابح وللذي لا يذبح، كالصالح الخاطئ، الحالف كالذي يخاف الحلف، هذا أشر كل ما عمل تحت الشمس! (جامعة، 9: 2-3)
وكل شيء عنده باطل حتى يهوه وديانته ويردد مرارا أن الكل «باطل الأباطيل». وإذا كان ذلك كذلك فلماذا السعي في الحياة ولماذا اقتناء ثروات بعدها موت، وما الحكمة إذن في خلق الناس؟ ولماذا الحكمة أصلا؟
في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يزيد علما يزيد حزنا. (جامعة، 1: 18)
والفكرة الساذجة بأن الميت الطيب يترك ذكرى طيبة فكرة مضحكة:
لأنه ليس ذكر للحكيم ولا للجاهل إلى الأبد، كما منذ زمان كذلك الأيام الآتية، الكل ينسى. (جامعة، 2: 16)
لذلك:
الكلب الحي خير من الأسد الميت؛ لأن الأحياء يعلمون أنهم سيموتون، أما الموتى فلا يعلمون شيئا وليس لهم أجر بعد لأن ذكرهم نسي. (جامعة، 9: 4-5)
ويسخر ملحد كتاب الجامعة من نداء «اخش الله» (5: 7)؛ لأن الله لا يقدر الورع والتقوى، ويتبع ذلك بسخرية مرة مناديا «لا تكن بارا كثيرا ولا تكن حكيما بزيادة.» ثم يعلن عدم احترامه للصلوات والنذور (جامعة، 5: 1-2) لأن الله في السموات ونحن في الأرض والله فيما يبدو يترفع عن الاهتمام بمتابعة سلوك كل منا (جامعة، 4: 1؛ و9: 24).
لكن داخل هذا الكتاب، وبين سطوره التي ينز منها التشكيك والإلحاد الحزين الناقم، تتدخل يد أخرى مجهولة بدورها لتضع تأكيدات مخالفة تماما لسياق النصوص وهدفها، فنجدها تقول: «سيكون خير للأتقياء ولا يكون خير للشرير» (جامعة، 8: 12-13). ويظهر تأخر هذا التدخل إلى ما بعد ظهور فكرة الدينونة والحساب مأخوذة عن مصر؛ فالجامعة الذي يؤكد طول الوقت على عدم العدل بالموت للجميع يقول فجأة بقلم المحرر التالي إنه «سيجلب الإله جميع الناس إلى «الدينونة»» (جامعة، 11: 2).
ومن ثم كشف كتاب أيوب وكتاب الجامعة مأزق الديانة اليهودية بعد الأسر الذي ظل يصر على مجازاة الإنسان في حياته حسب أفعاله، «وباتت الضرورة ماسة للاستسلام للعقيدة المصرية في البعث والحساب ثم الجزاء بثواب أو عقاب»، وقد برز ذلك متجليا عند نبي آخر مشهور هو النبي دانيال، الذي له علاقة مجهولة بمدينة الإسكندرية التي كانت تموج بالفلسفة المصرية واليونانية، حتى نرى اليوم بالإسكندرية شارعا هاما يحمل حتى اليوم اسم شارع النبي دانيال، «فهل كان صاحب كتاب دانيال مصريا من الأصل؟» المهم أن الكتاب قد اضطلع بمهمة كبرى بمحاولته الإجابة على سؤال الأتقياء التعساء: هل من العدل أن تظل تضحياتهم بلا ثواب؟ لقد رأى دانيال أو المؤلف أيا كان اسمه الحقيقي أنه بالإمكان الحصول على المكافاة من بعد الموت، وبدأ يشرق في سماء اليهودية تعليم جديد حول قيامة الموتى والثواب الأبدي.
وعند دراستنا لكتاب دانيال سنكتشف أن دانيال «شغل مناصب هامة في بلاط ملوك وثنيين (؟! من؟)» لكنه حافظ على عبادة يهوه وتقواه، كما ارتكب دانيال أخطاء فادحة تدلل على جهله بتاريخ قومه إن كان منهم، ورغم ذلك اجترأ الكهنة على نسبة دانيال إلى الشعب اليهوذي، ثم نسبته هو وكتابه إلى القرن السادس قبل الميلاد، وأنه كان يعيش في الأسر البابلي، رغم ما يفصح به الكتاب عن كونه قد كتب في القرن الثاني قبل الميلاد، وليس قبل ذلك.
يحكي دانيال المزعوم عن أحداث جرت في الماضي وأحداث ستجري في المستقبل لإثبات نبوته، لكنه «يكشف عن جهل وخلط فيما وصله من معلومات»؛ فأي شخص عاش في القرن السادس كان يعلم أن نبوخذ نصر الكلداني البابلي قد احتل يهوذا بعد موت ملكها يهوياقيم سنة 597ق.م وسبى يهوياكين بن يهوياقيم (ملوك ثاني، 24: 6، 12) لكن مؤلفنا هنا يرتكب خطأ فاضحا فيؤكد أن نبوخذ نصر قد احتل أورشليم وسبى الملك يهوياقيم وليس ولده يهوياكين (دانيال، 1: 1)، ثم يذكر اثنين من ملوك بابل هما نبوخذ نصر وولده بيلشاصر آخر ملوك بابل (دانيال، 5: 2، 11)، الذي حكم بعده داريوش المادي (دانيال، 5: 31)، لكن بيلشاصر أبدا لم يكن ولدا لنبوخذ نصر، كما أن الذي حكم تاريخيا بعد نبوخذ نصر أويل مردوك ويشهد بذلك سفر (ملوك ثاني، 25: 27-23؛ وإرميا، 52: 3)، ثم حكم بعده ملكان وكان الثاني هو نابونيد ولم يكن من يكن من الأسرة المالكة بل مغتصب للعرش، ونابونيد أنجب في النهاية بيلشاصر لكنه لم يعل كرسي العرش قط؛ لأن مملكته سقطت على يد كورش الفارسي.
ويقول دانيال إنه بعد موت بيلشاصر احتل مملكته دار يوش (دانيال، 5: 30) وهو عنده «ابن احشويروش من نسل الماديين» (دانيال، 9: 1)، لكن الألواح المسمارية تشهد أن قورش الفارسي وليس داريوش الميدي هو من احتل بابل سنة 539ق.م. ولو كان يقصد داريوشا فارسيا فقد وجد بالفعل، لكنه كان داريوش الأول ابن ويشتا سب، لكنه لم يحكم إلا بعد قمبيز بن قورش.
لذلك نجد من الصعوبة بمكان تصور أن دانيال عاش في القرن السادس. خاصة أن رواية دانيال للأحداث تصبح أكثر انضباطا مع حوادث التاريخ بشكل تدريجي، «كلما اقتربت روايته من القرن الثاني قبل الميلاد» في عصر أنطيوخس، ذلك العصر الذي يحتاج إطلالة سريعة عليه حتى نفهم كتاب دانيال. وقبل ذلك نعود إلى زمن داريوش الأول، عندما دفع جيوشه نحو المدن اليونانية الغنية بتركيا حيث هزم هناك في معركة مارثون عام 490ق.م؛ مما دفعه إلى تعويض ذلك بفتح زينة زمانها مصر، وكان سقوط مصر العظيمة إشارة خطر كبرى لليونان وبدأت حقبة من الحروب بين فارس واليونان امتدت حوالي خمسين عاما، وفي النصف الثاني من القرن الرابع ق.م انتقل المقدونيون بعد توحيد بلاد اليونان من الدفاع إلى الهجوم.
وفي 330 قتل داريوش الثالث إبان هربه من الجيوش اليونانية التي احتلت بلاده نفسها بقيادة الإسكندر الأكبر المقدوني، الذي أقام أكبر إمبراطورية في العالم حتى زمنه؛ فملك من البحر الأيوني حتى حوض نهر السند، ومن ليبيا حتى بحر قزوين. وما كان بالإمكان السيطرة على هذه الأصقاع الشاسعة؛ لذلك وبموت الإسكندر عام 323 تفجرت الإمبراطورية شظايا مثلت كل شظية دولة مستقلة، ووضع قادة الإسكندر كل منهم يده على واحدة منها وأعلن نفسه ملكا عليها؛ بطلميوس على مصر، وسلوقس على بلاد الشام وأنتيجونس على اليونان، وكانت ضمن أملاكه في البداية من سوريا حتى الهند. «ومرة أخرى وجدت يهوذا نفسها بين جارين جبارين: مصر البطلمية وسوريا السلوقية، اللذان كانا دائمي الشقاق على الثمرة الفلسطينية».
في البداية وقعت فلسطين وفينيقيا وسوريا الجنوبية تحت السيطرة البطلمية المصرية، لكن الملك السلوقي أنطيوخس الثالث تمكن في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد من انتزاع تلك المناطق لسوريا، وبعد موته ورث سلطاتها ابنه أنطيوخس الرابع أبيفان (175-164ق.م).
وفي عهد أنطيوخس أبيفان قامت يهوذا بثورة ضد الاحتلال اليوناني وضد السلطات اليهوذية المدنية والكهنوتية من ذوي العلية الذين حالفوا اليونان المحتلين، وذلك في عام 167ق.م تحت قيادة الإخوة «حشمون» الذين برز منهم القائد يهوذا مكابي أي المطرقة، وتمكن يهوذا المكابي من طرد المحتلين وحصلت على الاستقلال ورضيت بحكم الكهنة الحشمونيين.
وكانت حملة الإسكندر فاتحة حقبة تاريخية تسمى بالهلينستية في العالم القديم، وانتشر تأثيرها اليوناني في أشكال المجتمع والاقتصاد والعبادات والعادات والتقاليد يجترف البلاد المستعمرة من اليونان بما فيها يهوذا، وكان تأثير الثقافة اليونانية أعلى على الطبقة الأعلى.
ووصل التأثر إلى حد أن مينيلاوس الكاهن الأول ليهوه في أورشليم، تبرع بالأواني الذهبية المقدسة لإقامة ألعاب مقدسة للإله هرقل، وفرض أنطيوخس عبادة زيوس اليوناني، واستبدل مذبح يهوه بتمثال لزيوس في 168ق.م، ومنع تقريب القرابين ليهوه وعاقب الملتزمين بالسبت والأعياد والختان. وتعرض المتقون للتعذيب والموت، فهرب اليهود الغاضبون إلى الصحراء وتجمعوا في فصائل بقيادة يهودا المكابي الذي رفع السلاح للنضال، بينما كان هناك فريق آخر يحمل اسم الحاشيدي أي الورعين يرون أن الثورة المسلحة غير مجدية لأن يهوه سيأتي بذاته لتحرير شعبه، «وكانت تلك بداية فكرة مجيء الإله من السماء، التي تجلت في العقيدة المسيحية من بعد». المهم أن المكابي استقل بيهوذا ولو فترة عن الاحتلال اليوناني.
وفي هذا الزمن يلمح دانيال في المقطع (11: 40-43) ملك الشمال الوقح المستكبر - على حد وصفه له - أنطيوخس الرابع يتجه جنوبا، فيتنبأ بأنه سوف ينهب كنوز البلاد ويحتل مصر، ولكن التاريخ كان له رأي آخر إذ لم يحقق لدانيال نبوءته.
كما تنبأ دانيال لملك الشمال هذا أنه سيموت بين البحور وبين جبل بهاء القدس أي جبل صهيون (دانيال، 11: 45)، ومرة أخرى يرى التاريخ رأيا آخر إذ يموت أنطيوخس الرابع في طريق عودته من إيران عام 164ق.م.
إذن فكتاب دانيال لم يكتب في القرن السادس في الأسر البابلي، إنما في فلسطين في القرن الثاني قبل الميلاد، «وبالتحديد ليس قبل عام 168ق.م»؛ لأن ذلك هو العام الذي نصب فيه تمثال زيوس في معبد أورشليم. لكن المرجح أن دانيال انتهى من كتابته قبل عام 164ق.م والسبب أن المؤلف أيا كان اسمه، دانيال أو غيره، لم يكن يعلم بموت أنطيوخس الرابع بعيدا عن فلسطين فطاشت نبوءته، ومما يؤكد ذلك أن كتاب دانيال لم ترد بشأنه أية إشارات بالكتاب المقدس أو غيره خلال القرون الأربعة السابقة على القرن الثاني قبل الميلاد، بل كان مجهولا لمحرري تلك الفترة تماما.
وتبريرا لذلك احتاط المؤلف الأريب فقال إن دانيال بعد تدوين كتابه أمره يهوه أن يخفيه إلى زمن تم تحديده بأنه «وقت النهاية»، وأن زمن ظهور هذا الكتاب - أي القرن الثاني قبل الميلاد - سيكون بشارة ودليلا على أن نهاية زمن الآلام قد اقتربت.
ويكشف التحليل اللغوي لكتاب دانيال أنه قد كتب باللغتين العبرية والآرامية من الإصحاح 2: 4 وحتى الإصحاح 7، وهي سمة القرن الثاني قبل الميلاد وليس قبل ذلك. كذلك هناك أسماء يونانية واضحة لجميع الآلات الموسيقية مثل بيسانطرين وكاتروس وسيمفونيا، إضافة إلى أنه قد أورد طقوسا وأفكارا يهودية هي فقط من سمات اليهودية المتأخرة، كالصلاة في ساعات محددة ثلاث مرات في اليوم، والتوجه إلى قبلة هي أورشليم (6: 10) وطقوس تناول الطعام (1: 8).
إن كتاب دانيال وفق هذا التحليل يكون قد كتب بالضبط ما بين عامي 168 و164ق.م إبان الاضطهاد الديني الذي أمر به أنطيوخس أبيفان، ومن هنا قسم دانيال المؤمنين إلى صنفين أو إلى فريقين: المتقين الصامدين ضد الاضطهاد، و«الفاهمون من الشعب» (11: 33) وهم الأرقى، ويبشر الفاهمين أنه حين تأتي القيامة للأموات فإن «الفاهمين يضيئون كضياء الجلد كالكواكب إلى أبد الدهور» (دانيال، 12: 3).
ويبدو أن هؤلاء الفاهمين في نظره كانوا حزب الحاشيدي، ويدعم ذلك أن مؤلف كتاب دانيال انتظر تدخل يهوه ولم يشارك في ثورة المكابيين، ولم يبق وقت كثير لصمود المضطهدين المحافظين على دينهم رغم التعذيب؛ فمن لحظة إزالة المذبح وإقامة التمثال الرجس لزيوس مكانه لم يبق سوى وقت قصير:
من وقت إزالة المحرقة الدائمة وإقامة رجس المخرب ألف ومائتان وتسعون يوما. طوبى لمن ينتظر ويبلغ إلى الألف والثلاثمائة والخمسة والثلاثين يوما. (دانيال، 12: 11-12)
وليس مفهوما وضع ميعادين مختلفين لمجيء الخلاص، لكن يبدو أنها إضافة تمديدية للزمن من كاتب آخر بعد انتهاء الموعد الذي حدده دانيال ولم يأت يوم الخلاص. «ولأول مرة يظهر اسم الملاك حامل الوحي؛ فهو جبريل» الذي جاء يقول لدانيال إنه من لحظة الأمر بتجديد أورشليم وبنائها إلى ظهور مسيح يهوه الآتي سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعا (دانيال، 9)، وهنا لا يفوت اللاهوت المسيحي بعد ذلك هذه الفرصة، ويقترح أن دانيال كان يتنبأ بذلك بمقدم يسوع بأزمنة رمزية يجب تأويل فهمها. بينما كان دانيال يتابع شارحا أن خطأ إرميا في تحديد سنوات السبي بسبعين سنة بدلا من 49 سنة ليس خطأ، لأنه حسب سبعين سنة حتى مجيء المخلص ملك إسرائيل ونسل داود الذي سيمسح بالزيت المقدس مسيحا ملكا.
بالحسبة الرقمية العبرية 49 سنة أسر تساوي سبع أسابيع من السنوات 7 × 7 = 49 وهكذا كان إرميا يعني بالسنوات «أسابيع السنوات» أي إن الحسبة هي 49 سنة؛ هي المدة التي حددها يهوه حتى يكفر شعب الرب بالآلام عن آثامه ويخرج طاهرا ومستقلا عن حكم الوثنيين.
وعليه أولا يجب بدء العد من لحظة الأسر تسعا وأربعين عاما لنجده زمن زربابل آخر نسل داود المعروفين في زمنه. «لقد كان دانيال يقصد المسيح زربابل وليس المسيح يسوع».
وقد علمنا أنه قد تم تنصيب زيوس بدلا من يهوه في معبد أورشليم في 15 يناير 168ق.م، وهو ما يصوره لنا سفر ملوك ثاني قائلا: «فاشتد انفجار الشر وعظم على الجماهير وامتلأ الهيكل عهرا وقصوفا، وأخذ الأمم يفسقون بالمأبونين ويضاجعون النساء في الدور المقدسة، ويدخلون إليها ما لا يحل، وكان المذبح مغطى بالمحارم التي نهت الشريعة عنها» (6: 3-5). ويوم تنصيب زيوس بحسابات دانيال يوافق عام 171ق.م.
وبهروب زربابل إلى بابل نظر دانيال إلى الكاهن عونيا الثالث ورأى فيه المسيح الجديد، وهو ما دفع إلى الوشاية به من البعض وهلك، وهو ما يصوره في (9: 27) عن المسيح الشهيد ومداخلة إرميا الخاطئة حول السنوات السبعين دفعت دانيال لمحاولة التبرير إذن، فقام يقول إن 49 عاما في الأسر كانت الأسبوع الأول من الأسابيع السبعين، وموعد مملكة يهوه ومسح الملك القدوس، «وذهب اللاهوت المسيحي بعد ذلك وراء سحر الأرقام المغلوطة ليؤكد أن مقدم يسوع تم التنبؤ به سلفا قبل خمسة قرون من حدوثه عند دانيال».
أما القسم السردي فيشرح ما وقع من عقوبات على شعب الرب.
وفي هذا الوقت جرت احتمالات كثيرة منها أن مصر قد تتمكن من استجماع قواها لتحطيم عدوها وربما تتدخل روما الناهضة الناشطة في المنطقة ، وربما تحدث متغيرات عنيفة في المملكة السلوقية بسوريا؛ ومن ثم كان المطلوب من الشعب المختار أن يصبر ويطيل أمد الصمود أمام اضطهاد أنطيوخس أبيفان، رغم أنه لم تحدث أية مطاردات للعقيدة اليهودية في بابل حيث يزعم المؤلف أنه قد تم تأليف الكتاب هناك.
ولكن حتى يلتقي ما يحكي دانيال، مع مرسوم أبيفان بعبادة زيوس والملك أنطيوخس أبيفان نفسه، فقد قام دانيال بتأليف مرسومين نسب أحدهما إلى نبوخذ نصر (الإصحاح الثالث) والآخر إلى داريوش الأول (الإصحاح السادس)، بينما الحقيقة تؤكد أنه لم يوجد في التاريخ إطلاقا مثل هذين المرسومين المخترعين، وأن ما تتجلى به صورة هذين الإصحاحين من تصفيات وحشية للمؤمنين لم تحدث قط قبل حكم أنطيوخس أبيفان. ولم ير دانيال بأسا في سرد بعض التفاصيل الملحمية كإلقاء دانيال وأصدقائه الثلاثة في النار ومع ذلك رفضوا السجود للصنم، ثم كيف ألقي دانيال إلى حفرة ملأى بالأسود الجائعة.
وكي يعطي مؤلف هذا الكتاب مصداقية فقد لجأ إلى كتابي عزرا ونحميا حيث قوائم أسماء كاملة لمن عادوا من الأسر البابلي وانتقى منها اسم «دانيال» الوارد في عزرا، 8: 2.
وإذا كان اليهود قد أطلقوا على أنطيوخس أبيفان لقب المجنون، فقد عمد دانيال إلى سرد روايات وأساطير تثبت أن نبوخذ نصر كان هو المجنون حتى يكون زمنه زمن تأليف الكتاب، أما الحادث في القرن الثاني قبل الميلاد أن اليونان أنفسهم قد قاموا يسجعونه على وزن أبيفان لقب يبيمان؛ أي المجنون، سخرية من هذا الملك «الإله الجديد».
لكن ما يحسب لدانيال المزعوم أنه أول من أدخل فكرة واضحة عن قيامة الموتى وحسابهم ثم ثوابهم الأبدي، لكن لم يوصلها إلى آخرها فلن يقوم الجميع بل البعض:
كثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار، للازدراء الأبدي. (دانيال، 12: 2)
وهكذا وجد الحل الأمثل لتبرئة يهوه الذي سيعطي كل ذي حق حقه عند حلول ذلك اليوم لكن يجب ألا نتصور أن دانيال فعل فعل المصريين بتمامه فتصور مملكة القديسين الخالدة خارج الأرض؛ لأنها عند دانيال يجب أن تحدث على الأرض وبشكل واقعي في قيامة جسدية، وأن كل هذا سيحدث لقيام مملكة شعب الرب في أرض فلسطين لا في جنة سماوية أو تحت أرضية. ولم تبلغ هذه الفكرة تطورها الآتي إلا مع أسفار الأبوكريفا غير المعتمدة في الكنيسة الأرثوذكسية، ثم بعد ذلك مع مجيء الدعوة المسيحية، ليستقيم عودها وتكتمل صورتها بعد المسيحية بستة قرون في بلاد العرب مع ظهور العقيدة الإسلامية؛ حيث أمكن تبرئة الإله نهائيا مما يحدث من كوارث لعباده المخلصين.
التضليل الصهيوني (فليكوفسكي نموذجا)
(1) التأسيس
تأسيس (1)
ربما سمحت لي علاقة امتدت زمنا بالتراث القديم للمنطقة أن أجازف بالزعم: أنه إذا كان النبي «موسى» - حسب المأثور التوراتي - هو المؤسس الحقيقي للديانة اليهودية، والعقدة الرابطة للقبائل التي ائتلفت في كيان كونفودرالي عرف بعد ذلك بشعب إسرائيل، وأنه إذا كان «شاول» و«داود» و«وسليمان» هم أصحاب الفضل في إقامة أول كيان سياسي مركزي لذلك الشعب، فإن «إيمانويل سيمون فليكوفسكي» أو «عمانوئيل شمعون» هو صاحب أهم وأخطر وأثرى تنظير تاريخي لما يسميه هو «القومية الإسرائيلية»، في كتابه الذي اكتسب شهرة عالمية في الأوساط العلمية كافة، والموسوم بعنوان «عصور في فوضى»، والذي انتهى من كتابته في شهر فبراير من عام 1952م.
1
وقبل قراءتي لذلك الكتاب، والتي جاءت متأخرة بل ومتأخرة جدا فيما يبدو، قضيت وقتا أحاول فيه البحث لفهم سر الادعاء الإسرائيلي، بأن أسلافهم الغوابر هم بناة أهرام مصر، ومعظم أعلامها الآثارية، وأنهم أصحاب الأصل الرفيع لثقافات المنطقة الشامية منذ فجر التاريخ. ولما لم يهدني البحث إلى تفسير أي من تلك المعاني، لم أجد سوى أن القوم قد استمرءوا زهوا تاريخيا زائفا، وأن الأمر لا يزيد عن كونه مثل كثير من السذاجات والأساطير والمبالغات المسطورة بكتابهم المقدس، الذي هو كتاب لتاريخهم في المقام الأول؛ حيث اكتسبت فيه أحداث التاريخ وتلبست بألوان عديدة من المبالغات المغرقة في الأسطرة، واكتسبت ذلك الادعاء كلون من مغامرات يشوع وشمشون وداود وسليمان. لكني عندما طالعت «عصور في فوضى»، اكتشفت أن الأمر جد خطير ، وأخطر بكثير من كتابات أسطورية قديمة كانت تلائم بنية التفكير في عصرها، وأن احتساب دعواهم كبناة وكعمادة أساسية لحضارة المنطقة في عصرها القديم مجرد سذاجة لهو موقف في منتهى السذاجة؛ لأن في الأمر أمرا وللادعاء حيثيات وقرائن وشواهد ودلائل وبراهين، قام على جمعها وتصنيفها بأسلوب عصرنا، وصياغتها بالمنهج العلمي الصارم، رجل من نوع نادر، وباحث من طراز فذ، هو «فليكوفسكي».
ورغم الواضح للوهلة الأولى، أن «عصور في فوضى» كتاب يخدم غرضا سياسيا وعنصريا من ألفه إلى يائه، فإن الأوضح كان قدرة المؤلف على البحث الدءوب الذي لا يكل، وامتلاكه جلدا على التقصي المضني لا يبارى، وسعيا لا يفتر - من أول كلمة خطها إلى الختام - وراء القرائن والبراهين التي تدعم فروضه وطروحاته لتحويلها إلى بناء راسخ القواعد؛ مع لهاثه خلال حقبة زمنية طويلة مكتظة بالأحداث والمتغيرات، وفي مساحة شاسعة من أثرى مساحات العالم القديم بالراسب الثقافي الذي لم يزل فاعلا إلى اليوم. وبين متغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية تلاحقت في كافة الاتجاهات، وتركت بصماتها على نقوش ورسوم ودلالات حفرية، وكتابات ذات طرائق مختلفة باختلاف الأصول اللغوية لمواطن متباينة؛ مما كان كفيلا بجعل أي باحث يقبع وسط شرك من خيوط عنكبوتية متشابكة وكثيفة، يحتاج فكها وفحصها - وإعادة نظمها مرتبة - إلى صبر قدرة ووعي نفاذ، وربما كان البحث مع البدء عن طرف الخيط فيها، لا يزيدها إلا تشابكا واضطرابا. وهنا سر عظمة الرجل، الكامن في هذا القدر العجيب من الصبر، الذي لازمه طوال رحلته مع ذلك الرتل المختل وتقديمه، في سياق قصصي لين سهل، صيغ بلون روايات التحري المباحثية؛ مما جعله - في رأينا - بحق، صاحب أخطر تنظير معاصر لما يسمى القومية الإسرائيلية؛ بحيث لا يتخلف درجة عن موسى أو سليمان، وذلك بعينه ما جعله «النوتة» الأصلية لكل المعزوفات الصهيونية، التي لم تفعل أكثر من إعادة توزيع المعزوفة حسب المقامات المطلوبة. وهذا أيضا ما جعله صاحب أخطر فكر يشكل قدرا هائلا من الإقناع، حتى لدى الخصوم السياسيين، بل ولدى الخصوم المصيريين، وهذا أيضا ما جعله - بعقد المقارنات - يزيد في تقزيم مؤسساتنا الفكرية، التي لم تقدم على عراقتها وممكناتها عملا على ذات المستوى، وربما جاز لتلك المؤسسات مراجعة مناهجها وطرائقها وأدواتها، التي أثبت هذا العمل مدى هشاشتها وهزالها رغم منتجها الكمي الضخم.
ولا يجوز أن يفهم من كلامنا هنا، دعوة إلى رد من النوع ذاته، رد عنصري أو قومي، فهذا أبعد ما يكون عما نريد، لكن ربما طلبنا عملا على ذات الدرجة من الأصولية العلمية، وعلى ذات القدر من التمكن من أدوات العلم، والتي تمكن بها «فليكوفسكي» من تطويع مادته التاريخية، لخدمة أغراض أبعد ما تكون عن العلمية؛ مع رغبتنا في تسجيل ملحوظة لا بد منها في حالة المقارنة بين عمل مثل «عصور في فوضى» وبين أعمال أخرى تزحم أرفف مكتباتنا، ولا حول لها ولا قوة إلا بالله طبعا. وتكاد تأخذنا الريب والظنون بشأن ذلك الرتل من الزحام في المكتبة العربية، والذي يفصح - بتناوله - عن عمد للطرق السهلة، والابتعاد عن مكامن الإشكاليات الحقيقية في التاريخ القديم؛ لما يحتاجه تناولها من جلد وصبر ودأب. ذلك في الوقت الذي نؤكد فيه أن «عصور في فوضى» لا يمكن احتسابه نتاج باحث فرد هو «فليكوفسكي»؛ فلا ريب يراودنا أنه كان «المايسترو» الذي خطط وقاد ووجه فريقا من المتخصصين بالمراكز الأكاديمية العالمية، والتي بدون معونتها ودعمها ما كان ممكنا إخراج مثل ذلك العمل.
ولا ريب لدينا أن تلك المؤسسات قد عملت لحساب ذلك العمل، وجمعت له المادة العلمية النادرة من الوثائق القديمة، وبحثت له بين قوالب الآجر وقطع الفخار ونقوش المعابد، وباللغات المسمارية سومرية أو سامية، أكادية أو كنعانية أو حثية أو آرامية أو عبرية، أو خطوط هيروغليفية متناثرة، تجد نصف البردية منها في نيويورك، والنصف الآخر في ليننجراد، وقامت على ترجمة كل تلك الوثائق للباحث الفذ؛ مع إيضاح إمكانات الاحتمال فيها، ما بين صدق نسبتها لعصرها أو لغيره، عبر مقارنات للنص بالعصور من حيث شكل الأسلوب والكتابة والبلاغيات وما يحكيه من أحداث، وهل يوافق ذلك العصر الفلاني أم ذلك؛ مع بيان مواضع الثغرات التي يمكن للرجل أن يتسلل من خلالها لدعم توجهاته، وباختصار قدمت له جهدا كان يحتاج أي باحث آخر لإتمامه، أن يعيش قرنين من الزمان على أدنى تقدير؛ مما أهله في النهاية للخروج بسفره هذا، الذي يصح لأصحابه أن يضعوه بفخر في مقدمة أسفارهم، ليقف منتصبا بين التوراة والتلمود والهجادا والمشناه والمدراش. وحكمنا هذا، الذي نزعم فيه دعم مؤسسات أكاديمية عالمية لصاحب هذا العمل، يتأسس على معرفتنا، وبحكم درايتنا، بتلك المادة الوثائقية القديمة، وعلمنا اليقيني بالحدود القصوى التي يمكن أن تصل إليها قدرات باحث فرد، لإنتاج مثل ذلك العمل.
تأسيس (2)
من المستحسن هنا أن نبدأ بالإهداء الذي صدر به «فليكوفسكي» كتابه، والذي يستحق التسجيل كاملا دون تدخل؛ لأنه يفصح بجلاء عن الرجل وهويته وأهدافه، والروح التي كتب بها كتابه. يقول:
هذا العمل مهدى إلى أبي، وأحب أن أوضح في بضعة أسطر، من هو سيمون إيمانويل فليكوفسكي؟ منذ ذلك اليوم، وهو في الثالثة عشرة من عمره، حين غادر منزل والديه، وذهب سيرا على الأقدام، إلى واحد من تلك المراكز المتخصصة في تدريس التلمود بروسيا، وحتى يوم وافته المنية في ديسمبر 1937م على أرض إسرائيل. كل ذلك العمر، مع ثروته وراحة باله وكل ما يملك، كرسه لتحقيق ما كان يوما مجرد فكرة، ألا وهي إعادة بناء نهضة الشعب اليهودي على أرضه القديمة. لقد أنجز الكثير لإحياء لغة الكتاب المقدس، وتطوير العبرية الحديثة بإنجازه مع الدكتور ج كلوشنر كمحرر للأعمال العبرية القديمة المجمعة، كما ساهم في إحياء الفكر العلمي اليهودي، بنشر كتابه المخطوطة العالمية، من خلال المؤسسة التي سبق له انشاؤها، وكانت تلك الأعمال بمثابة البنية التحتية، التي قامت عليها أعمدة الجامعة العبرية بالقدس بعد ذلك. كما كان «من أوائل من استعادوا الأرض في النقب»، أرض الأحبار، وأنشأ هناك أول مستعمرة تعاونية أطلق عليها اسم: ردحاما، وتعد اليوم من أكبر المنشآت الزراعية المتطورة شمالي النقب. ولا أعرف لمن أتوجه بالعرفان في إنجاز هذا العمل الفكري، في إعادة بناء التاريخ القديم، إن لم أتوجه به إلى أبي سيمون.
الأمر واضح من البداية، لكنه رغم وضوحه، وإمكان اتخاذ مواقف مناسبة من جانب القارئ إزاء ما سيطالع بعد الصدمة النفسية لذلك الإهداء فإن الرجل غامر وصدر به الكتاب وهو واثق تماما من قدراته، ويعلم سلفا إلى أي حد يمكن أن يؤثر في قارئه ويزحزحه عن موقفه، إن لم يجعله يتبنى في النهاية كل أطروحات الكتاب عن قناعة، وهنا قمة خطورة الرجل والكتاب.
ولعل الغرض الأساسي للكتاب قد وضح في الإهداء، في قوله «هذا العمل الفكري في إعادة بناء التاريخ القديم» وفي الفصل الأول يشرح دوافع ذلك الغرض بقوله: «لقد تبنى الكثير من الدارسين رأيا خلاصته، أن إقامة الإسرائيليين بمصر واستعبادهم وخروجهم ورحيلهم، مجرد تصورات دينية بحتة، وقد لقي هذا الرأي تعضيدا قويا، في غياب أي دليل مباشر على وقوع تلك الأحداث في الآثار المصرية القديمة، أو في المدونات البردية. وعلى العكس من ذلك تبنى آخرون وجهة نظر مضادة، فحواها أنه من العسير أن يخترع شعب أساطير عن العبودية، والتي لم يكن في الحسبان وقتها، أنها ستحفز وتخلق كرامة قومية؛ وعليه فلا بد من وجود أسس تاريخية للقصة.» ولأن «فليكوفسكي» من أصحاب وجهة النظر الثانية، فقد كرر الحديث عن دوافع الكرامة القومية لشعب إسرائيل، كما في قوله: «إن الرجوع الدائم بالذكرى اليهودية لتجربة البحر، يوحي بأن القصة كلها لم تكن من نسج الخيال ... والغريب حقا هو مثابرة الشعب اليهودي على التعلق بهذه القصة، جاعلا منها بدايته الحقيقية، وجاعلا منها في الوقت ذاته، الحدث الأكبر في حياته وتاريخه كأمة.»
ومن ثم تصبح الكارثة التي صحبت الخروج، وانشقاق البحر، الركن الأساسي في عمل «فليكوفسكي»، حتى إنه يذهب إلى أن «الخروج اليهودي من مصر - لا بد - قد حدث في قمة فوران الأحداث، وأن الكارثة بالذات، ربما يمكنها البرهنة كونها كانت الحلقة الرابطة للتاريخ الإسرائيلي بالتاريخ المصري، القديم.» ومن هنا يبدأ بتأسيس موطئ قدم لقبائل بني إسرائيل في التاريخ، ذلك التاريخ الذي لا يعرف شيئا عنهم في وثائقه، وذلك بدءا من أحداث الخروج، تلك الأحداث الأكثر أسطورية في الميثولوجيات القديمة، والتي ينجو فيها شعب إسرائيل ويغرق المصريون وفرعونهم. لكن ليجعل تلك الأحداث بعد عدة فصول - وسط إثارة رائعة حقا وأسلوب متميز وقرائن منتقاة - من أشد الأمور قبولا واعتيادية؛ بحيث لا يجد القارئ بعدها مانعا في قبول أساطير أقل إدهاشا بالكتاب المقدس، والتي سيعالجها في بقية أقسام الكتاب، والتي لا ترقي إلى مستوى شق البحر إغراقا في الأسطرة، معتمدا على إثارة الدهشة وبأسلوب المباغتة، التي يتحول فيها الواقع إلى منظومة أسطورية. بينما تتحول أحداث الأسطورة إلى وقائع حية وفاعلة.
من تلك الحادثة «حادثة البحر» ينطلق «فليكوفسكي» ليؤسس فروضه؛ تلك الفروض التي تقف بدورها كأمر نافر عسير القبول، لكنه مدهش ومثير وجديد، مع مخالفته لكل ما تم التعارف عليه حتى الآن. والفرضية الأساس عنده تبدأ من كون مدونات التاريخ القديم سواء في مصر أو الشام أو الرافدين أو حتى فلسطين ذاتها، لا تعرف شخصا باسم «موسى» رغم أهميته القصوى في التاريخ اليهودي وفي تاريخ الأديان الكبرى في الشرق الأوسط عموما ولا تعرف ملكا أسس مملكة لشعب إسرائيل باسم «شاول»، ولا عظيما باسم «داود»، ولا حكيما حاز شهرة فلكية في التاريخ الديني باسم «سليمان». كما لا يعلم علم التاريخ شيئا البتة عن دخول قبائل بني إسرائيل إلى مصر، ولا عن خروجها ولا عن بحر ينشق ويبتلع جيوش دولة عظمى آنذاك، وهو الحدث الذي كان جديرا بالتسجيل في مدونات مصر والشام والرافدين وتركيا لأهميته وخطورته. بينما على الجانب الآخر نجد الكتاب المقدس في الأسفار من سفر الخروج إلى سفر القضاة لا يذكر مصر إطلاقا، ولا يحكي أحداثا عنها كعادته، وهو زمن امتد زهاء أربعة قرون، رغم المفترض تاريخيا أن الخروج قد حدث زمن الأسرة الثامنة عشرة الفرعونية، أولى أسرات الدولة الحديثة المعروفة بدولة الإمبراطورية، وهو زمن كانت مصر تسيطر فيه على بلدان المتوسط الشرقية، وبضمنها فلسطين.
ومن هنا يتأسس العمل كله على فرضية تذهب إلى أن ثمة خطأ وقع في تأريخ التاريخ المصري القديم - وهذا رأي «فليكوفسكي» - توقف معه تاريخ مصر عند لحظة محددة مع نهاية الأسرة الثانية عشرة في الدولة الوسطى؛ مع دخول الهكسوس إلى مصر. ولأن هؤلاء الغزاة كانوا بدوا برابرة لا يحترمون الحضارة، ولا يعرفون حتى الكتابة، فقد حطموا حضارة مصر، ولم يحاولوا أن يتعلموا شيئا من المصريين، لذلك لم يتم تدوين شيء ذي بال طوال فترة الاحتلال. هذا بينما كان بنو إسرائيل وقت دخول الهكسوس إلى مصر، في طريق الخروج لشبه جزيرة سيناء، ووقت فوران أحداث جسام لم تسمح بتدوين واضح كامل لتلك الأحداث. أما كون بني إسرائيل كانوا في مصر قبل دخول الهكسوس، وفي زمن أسبق سمح لهم بالتكاثر مدة طويلة في أرض النيل ، فإن ذلك سيعود بنا إلى عهد بناة الأهرام في الدول القديمة. ومكمن الخطأ عند فليكوفسكي يكمن في أن المؤرخين قد قاموا بوصل نهاية الأسرة الثانية عشرة آخر أسر الدولة الوسطى (1788ق.م) ببداية الأسرة الثامنة عشرة أولى أسر الدولة الحديثة بعد التحرر من الهكسوس (1580ق.م)، ولم يتركوا للأسر من الثالثة عشرة إلى السابعة عشرة سوى مائتي عام تزيد قليلا، يتم تقسيمها على مجموعة الأسر المصرية والهكسوسية خلال خمس أسر كاملة. بينما يرى «فليكوفسكي» أنه قد سقط من ذلك التاريخ - بالإضافة إلى المائتي عام المفترضة - ما لا يقل عن أربعمائة عام كاملة - هي زمن قضاة إسرائيل، وهي بالضبط زمن احتلال الهكسوس لمصر؛ وعليه فيجب أن تكون بداية الأسرة الثامنة عشرة التي أسسها «أحمس» الذي قضى على الهكسوس، واقعة في تاريخ يبعد عما حدده المؤرخون بأربعة قرون إضافية؛ أي يجب أن تكون بدايتها بين 1180 و1100ق.م على وجه التحديد.
والخطورة عند «فليكوفسكي» في ذلك الخطأ، لا تكمن في اختلال تاريخ مصر، أو في سقوط ذكر بني إسرائيل من التاريخ، إنما ينسحب الخطأ على عمليات التأريخ لحضارات المنطقة بكاملها؛ حيث كان التاريخ المصري هو المعيار الذي قيست بالنسبة إليه عهود الحضارات الأخرى وتم تزمينها وفقه. ومن هنا جاز له القول: «إن تاريخ الآشوريين البابليين والفرس قد تم تشويهه وتخريبه، وتاريخ الإمبراطورية الحثية (تركيا القديمة) قد اخترع بأكمله، وكذلك التاريخ اليوناني في عصره البرونزي لم يوضع في موضعه الحقيقي من السياق الزمني، كما تم تشويه التاريخ السابق للإسكندر الأكبر ... ومن ثم يتضح أن هناك ملوكا قد وضعوا في مواضع أحفاد أحفادهم، ووصفت إمبراطوريات وهمية، بينما كانت قطع الآثار نتاج قرون أخرى، وعصور تخالف ما ينسب إليه، وكان هذا هو الحال بالنسبة للإمبراطورية الحثية وفنونها، وكانت كذلك أيضا، بالنسبة للشعوب الحورية ولغاتها لأنها ببساطة لم توجد أصلا.» ومن هنا كانت فوضى العصور في حاجة إلى «فليكوفسكي».
تأسيس (3)
وحتى لا يبدو الرجل كمن يلقي القول جزافا، كان عليه أن يقوم بأمرين: الأمر الأول هو عرض ما انتهت إليه النظريات التاريخية التقليدية بشأن الخروج، ومناقشة مدى مصداقيتها؛ بحيث إذا ثبت بطلانها انتقل إلى الأمر الثاني، وهو تقديم الأدلة الكافية لتأكيد فروضه، تلك التي استغرقت كتابه حتى آخر صفحة فيه. ومن هنا يبدأ مناقشة التاريخ ونظريات المؤرخين، ومحاكمتها محاكمة عادلة تماما، وربما ساعده على تلك المحاكمات أن حيثيات إدانة أي نظرية منها، سبق وقدمتها نظرية أخرى بديلة.
ويبدأ بأقدم نظرية قدمت عن حدث الخروج، وقد وردت عند المؤرخ المصري «مانيتون». وتقرن تلك النظرية بين ظهور الهكسوس وبين ظهور الإسرائيليين، كما تقرن خروج الهكسوس بخروج الإسرائيليين؛ حيث سجل «مانيتون» أن الهكسوس بعد طردهم من مصر اتجهوا إلى فلسطين؛ حيث أنشئوا هناك مملكة «أورشليم». وقد أخذ المؤرخ اليهودي «يوسفيوس» بكلام «مانيتون». وذهب المذهب نفسه - من القدماء - الأب «يوليوس الأفريقي»، الذي روى أن اليهود تمردوا في مصر بقيادة «موسى»، على ملك باسم «أحمس». وحتى الآن، وبعد مضي أكثر من تسعة عشر قرنا على تلك النظرية، لم يزل هناك من يأخذ بها إلى اليوم.
لكن على الجانب الآخر نجد من يرفض تلك النظرية تأسيسا على مقدمة منطقية تماما، وهي «كيف يقع اليهود تحت نير العبودية في مصر إذا كانوا هم الذين حكموها باسم الهكسوس»، إضافة إلى المقدمة الثانية في ذلك القياس وهي أن حكام مصر بعد «أحمس» قائد التحرير، كانوا من الحكام الأقوياء الذين فرضوا هيمنتهم على شرقي المتوسط بما فيه فلسطين، مما يستحيل معه أن يخرج بنو إسرائيل رغما عن إرادة مصر، بل ويقومون بغزو فلسطين المفترض أنها خاضعة للحكم المصري آنذاك، بل ويتمكن الإسرائيليون من إنشاء دولة في فلسطين! لذلك لجأ آخرون إلى البحث عن فترات ضعف إبان حكم الأسرة الثامنة عشرة، يمكن أن تسمح بالخروج وبقيام الدولة؛ ومن ثم ذهبوا إلى احتمال حدوث ذلك بعد انتكاسة «إخناتون» فرعون التوحيد. لكن ما يدحض ذلك المذهب بدوره، أسانيد وثائقية تم العثور عليها بين وثائق مدينة «إخناتون» في تل العمارنة، في شكل رسائل من حاكم أورشليم، يحذر فيها الفرعون من مهاجمة قبائل بربرية لحدوده من عبر الأردن باسم «الخابيرو»، والتي تنطق أيضا «عابيرو»، ويمكن أن تكون مسمى للعبريين اليهود؛ لذلك لا بد أن يكون الخروج قد حدث قبل إخناتون بفترة كافية، وتسقط بذلك تلك النظرية بدورها.
ومن هنا ذهبت نظرية ثالثة إلى أن بني إسرائيل قد غادروا مصر زمن «أحمس»، إبان طرده للعناصر الأجنبية مع الهكسوس، ووصلوا فلسطين زمن «إختاتون» باسم «الخابيرو»، لكن العقبة في قبول تلك النظرية، أنها تهمل مائتي عام بين زمن أحمس وزمن إخناتون، وتعني أمرا مقبولا، هو أن يكون زمن التيه الإسرائيلي في سيناء قد استغرق مائتي عام بدلا من أربعين عاما قدرتها التوراة، وتعد بذاتها زمنا طويلا جدا استغرقه الخارجون من مصر إلى فلسطين.
لذلك طرحت النظرية الرابعة رأيا مخالفا تماما؛ وهو أن يكون الخروج قد حدث - لا بد - زمن الفرعون «مرنبتاح» بن الفرعون «رمسيس الثاني» حوالي 1220ق.م في الأسرة التاسعة عشرة، بعد العثور على غطاء تابوته الذي يعدد عليه البلاد التي أخضعها، وبينها عبارة تقول: «أبيدت إسرائيل ولم يبق لها بذر.» وهو أول ذكر لإسرائيل في أي وثيقة مصرية على الإطلاق، مما يؤكد أن «مرنبتاح» هو فرعون الخروج، بينما كان أبوه «رمسيس الثاني» هو فرعون الاضطهاد، لكن تلك النظرية بدورها تبدو غير كاملة الإقناع؛ لأن نص مرنبتاح يشير لإسرائيل ضمن إشارته لدول خارج مصر، وليس لقوم داخل مصر، بما يعني أن حديثه عن دولة كانت قائمة بالفعل قبل أن يشن هجومه عليها. إضافة لعدم ذكر فرعون دمر إسرائيل باسم «مرنبتاح» ضمن الأسماء الواردة في المأثور التوراتي لأعداء إسرائيل، كما لا يتفق ذلك مع أي محاولة لتزمينه مع أحداث التوراة وزمنها، حيث لا بد أن يكون الإسرائيليون قد دخلوا فلسطين بعد خروجهم من مصر، ولكن بمائة عام أي حوالي 1190ق.م، وبذلك لا يتبقى لعصر القضاة سوى قرن واحد، وهو ما يخالف بشدة الزمن المفترض، والذي يحتسب ثلاثة قرون كاملة على الأقل لذلك العصر، وربما أربعة، «لذلك اعتبر عصر «مرنبتاح» كموعد للخروج موعدا متأخرا جدا وأكثر مما ينبغي»، ورغم ذلك تعد هذه النظرية من أشيع النظريات حتى اليوم.
وبين النظريات التي حازت ذيوعا أيضا، تلك التي اعتبرت حدثي الدخول والخروج مسألة اعتيادية في تاريخ مصر، باعتبار دخول البدو إلى مصر وخروجهم منها في عصور متباينة، كان أمرا دوريا ومعتادا؛ لذلك كان دخول بني إسرائيل وخروجهم أمرا هامشيا في اهتمامات المصريين، إلى الحد الذي لم يجدوا معه أي داع للاهتمام بتسجيله. لكن ذلك لا يتفق مع إصرار التوراة على تفصيل الأحداث وهولها وشدتها، ومن هنا لجأ أصحاب نظرية مشابهة إلى الاعتراف بما قالت التوراة، لكن مع النزوع إلى تأويل النصوص التوراتية لتبدو مقبولة، وذلك بإلباس الأساطير التي سبقت الخروج وصحبته ثوبا يظهرها كأمر اعتيادي. ومن هنا قامت تفسر الضربات التي أنزلها رب موسى بالمصريين من قمل وضفادع أو بعوض وذباب باعتبارها أمورا اعتيادية تماما عند المصريين، بالنظر إلى أرض مصر الشديدة الخصب، والتي تسمح بكافة أنواع الحياة، بينما بدا ذلك غريبا على بدو رعاة. كذلك رياح الخماسين التي تهب من الصحراء الليبية محملة بالرمال والأتربة مع ما تجلبه معها أحيانا من أسراب الجراد، يمكن أن تفسر ضربة الإله اليهودي «يهوه» لمصر بالظلام والجراد. أما مسألة انشقاق البحر فهي أسطورة متكررة في الميثولوجيات القديمة عند مختلف الشعوب، وإذا كان لا بد من الاعتراف بانشقاق البحر وانطباقه، فلن يكون له تفسير سوى موجة مد عالية ضاعفها إعصار مفاجئ. ثم تستكمل النظريات مسوغاتها بالميل الإسرائيلي المعهود، والواضح في كتابهم المقدس للصياغات الإعجازية والميل الشديد للخوارق، حتى إن شعلة بيد قائد الخروج، تتحول مع ميل إلى الخيال في نص التوراة إلى إله يسير أمامهم في عمود دخان ونار.
وقد ذهب أحد هؤلاء، وهو «تشالزبيك» إلى أن جبل سيناء الذي عبروا إليه كان بركانا، والبركان هو الظاهرة الوحيدة التي تعطي صورة عمود دخان بالنهار ونار بالليل، ولأنه عادة ما تصاحب ثورات البراكين النشطة ضربات زلزالية، فإن زلزالا قد سحب الماء ليلة الخروج بعيدا عن الشاطئ، ثم ارتدت المياه لتحطم كل ما جاور البحر وتبتلعه، وهو ما يفسر معجزة البحر الموسوية. لكن المشكلة الكبرى التي واجهت هذا التفسير ... رغم براعته ... أن منطقة سيناء لم تكن منطقة بركانية، إضافة إلى أن المنطقة الواقعة ما بين البحر المتوسط وخليجي السويس والعقبة تفتقد تماما ظاهرة المد الإعصاري، ناهيك عن كون «بيك» اضطر في النهاية، وفي نهاية حياته، إلى الاعتراف بخطئه، وسحب نظريته. (2) الوثائق والأدلة
وهكذا أصبح الميدان خاليا من نظرية تامة الصدق تفسر حدث الخروج وزمانه، ومرة أخرى تبيت الحاجة ماسة إلى «فليكوفسكي»! ولا يبقى سوى أن ندخل مع الرجل إلى عالمه، بادئين بقوله: «سنجد أنفسنا مضطرين للإقرار باعتراف مباشر وصريح، أن الكلمات (يقصد كلمات الكتاب المقدس) تعني ما تقوله تماما، وأن مدى الكارثة كان يفوق بدرجة كبيرة أية نتائج أخرى يمكن أن تنجم عن ثورة بركان. لقد ساهمت الأرض والبحر والسماء في الثورة المفاجئة، البحر غمر الأرض، والحمم الساخنة تدفقت من أرض ممزقة، وقد وصفت النصوص المقدسة فوضى العناصر التي انطلقت من عقالها:
ارتجت الأرض، وارتعشت أسس الجبال ... تحركت واهتزت ... دخان ونار ... ظهرت أعماق المياه، وانكشفت أسس المسكونة. هو المزحزح الجبال، ولا تعلم الذي يقلبها في غضبه ... هو المزعزع الأرض من مقرها فتتزلزل أعمدتها.»
لكن قبل تلك الأحداث الهائلة، وقبل حدث انفلاق البحر، فإن «النص التوراتي يصر على حدوث البلاء بمصر قبل رحيل الإسرائيليين عنها، وكانت نذيرا سابقا للدمار الذي سببته عناصر الطبيعة التي أفلتت من عقالها ... إن الأسئلة المنطقية التي تفرض نفسها في هذا الموضع هي: هل هذه الشهادة مزيفة بأكملها؟ ... هل من الممكن ألا يكون المصريون قد لاحظوا شيئا من تلك الأحداث؟ ... هل هناك أي زلزال على الإطلاق تم ذكره في السجلات المصرية القديمة؟ إن التسجيلات المصرية التقليدية لا تحتوي على أي ذكر لهزة أرضية، ولا تحتوي على أي أثر لكوارث، ولكننا نصر ... فقد نحصل على مفتاح هام لمشكلة مستعصية، اختلف الكثيرون بشأنها واختصموا، وظلت حتى الآن ما يقرب من ألفي عام دون إجابة قاطعة» وبالفعل، ولأول مرة في التاريخ، يقدم لنا «فليكوفسكي» ما عثر عليه من وتائق وأدلة. (2-1) الوثيقة الأولى: بردية لايدن
تحت عنوان «شاهد عيان مصري يشهد بحدوث البلاء»، وبأسلوبه المتميز، يقدم لنا «فليكوفسكي» فيما يبدو أنه كشف خاص وخطير، بردية «إبيور» المعروفة ببردية لايدن، وفي قالب لا يخلو من ملابسات الغموض، وضبابية الماضي السحيق، ودخان ما قبل الكشف عن اللغز وغموض الأمر؛ بحيث يبدو كما لو كان يقلب البردية بين يديه، ويصفها وصفا دقيقا، بادئا بالقول: «ليس من المعروف تحت أية ظروف، تم العثور على البردية التي تحتوي كلمات إبيور، وطبقا لرواية أنستاسي مالكها الأول، فقد عثر عليها في منف، وهو ما يشير للمنطقة المحيطة بهرم سقارة، ثم انتقلت ملكيتها في عام 1828م إلى متحف لايدن بهولندا، وأدرجت بقائمة محتويات المتحف تحت رقم 344 لايدن ... إلخ.» وفي عجالات سريعة يشير إلى ما قدمه المتخصصون من تفسيرات بشأنها؛ فهناك من اعتبرها عملا فلسفيا، وآخر لم يجد فيها سوى مجموعة أحاجي وألغاز، وذهب ثالث إلى أنها نبوءة بأوقات شدة كانت مقبلة على مصر، لكن الوثيقة - فيما يرى «فليكوفسكي» - تنطق بلسان مبين لشاهد عيان مصري عاصر الأحداث التي سبقت الخروج بأيام أو بأسابيع، وبتطابق مبهر مع نصوص التوراة بذات الخصوص، ويبدأ بأخطر النصوص دلالة، والتي تشير بوضوح إلى كارثة أصابت الأرض، ومصحوبة بأصوات الطبيعة الهادرة:
2: 8: انظروا الأرض تدور حول نفسها كما تدور عجلة صانع الفخار.
2: 11: المدن دمرت ... وصعيد مصر أصبح يبابا.
3: 11: الكل خراب.
4: 7: انقلب المسكن في لحظة.
2: 4: سنوات من الضجيج ولا نهاية للضجيج.
6: 1: آه لو تتوقف الأرض عن الضجيج وتتقطع الجلبة.
ويعقب على مدلول «الضجيج» في البردية، بأنها «الأصوات التي تصم الآذان وعادة ما تصاحب الزلازل، ويبدو أن الهزات كانت متتابعة الحدوث مرة بعد أخرى، حتى تحولت البلاد إلى حطام وانهار نظام الدولة فجأة، وأصبحت الحياة لا يمكن احتمالها.»
ثم يدلف مباشرة إلى المقارنة بين مقاطع من البردية، وبين مقاطع من سفر الخروج التوراتي، وهي تفصح بوضوح عن ضربات «يهوه» رب التوراة لأرض مصر قبل الخروج مباشرة.
بلاء تحويل ماء النهر إلى دماء
الخروج، 7: 20: فتحول كل الماء الذي في النهر دما.
البردية، 2: 65: النهر دم.
الخروج، 7: 21: وكان الدم في كل أرض مصر.
البردية، 2: 65: البلاء انتشر في كل أنحاء البلاد ... الدماء في كل مكان.
الخروج، 7: 24: وحفر جميع المصريين حول النهر لأجل ماء ليشربوا؛ لأنهم لم يقدروا أن يشربوا من ماء النهر.
البردية، 2: 10: عاف الناس شرب الماء.
الخروج، 7: 21: مات السمك الذي في النهر وأنتن النهر.
البردية، 3: 10-13: هذه مياهنا، وهذه سعادتنا، فماذا سنفعل بعد الآن؟ ... الكل حطام.
بلاء البرد والنار
الخروج، 9: 25: فضرب البرد في كل أرض مصر، جميع ما في الحقل من الناس والبهائم، وضرب البرد جميع عشب الحقل، وكسر جميع شجر الحقل.
البردية، 6: 1: لا فاكهة ولا محاصيل موجودة.
الخروج، 9: 23-24: وجرت نار على الأرض، وأمطر الرب بردا على أرض، فكان بردا ونارا متواصلة وسط البرد.
البردية، 2: 10: التهمت النار البوابات والأعمدة والحوائط. والنار التي أهلكت الأرض لم تنشرها أيد بشرية، لكنها سقطت من السماء.
الخروج، 10: 15: لم يبق من أخضر في الشجر، ولا في عشب الحقل في كل أرض مصر.
البردية، 6: 3: أحقا اختلف الحبوب في كل مكان؟
البردية، 5: 12: أحقا ... اختفى ما كان «بالأمس» مرئيا؟ «فليكوفسكي» يعقب هنا بأن «حصر زمن تدمير المحاصيل بيوم واحد، يستبعد الجفاف» كسبب تقليدي لقلة المحاصيل، فقط النار والصقيع والجراد هي التي كان بإمكانها ذلك.
بلاء وباء الطاعون
الخروج ، 9: 3، 19: يد الرب تكون على مواشيهم التي في الحقل، على الخيل والحمير والجمال والبقر والغنم ... سيفتك بها طاعون ... جميع الناس والبهائم الذين يوجدون في الحقل ... ينزل عليهم البرد فيموتون.
البردية، 5: 5: كل الحيوانات قلوبها تنتحب ... والماشية تئن.
البردية، 9: 2-3: انظروا تركت الماشية شاردة ولا يوجد من يجمعها، كل إنسان انشغل بنفسه.
بلاء الظلام
الخروج،10: 22: فكان ظلام دامس في كل أرض مصر ثلاثة أيام.
البردية، 9: 11: لم تكن الأرض نورا.
بلاء ضربة البكر
الخروج، 12: 30: فقام فرعون ليلا هو وكل عبيده وجميع المصريين وكان صراخ عظيم في مصر؛ لأنه لم يكن بيت إلا فيه ميت.
الخروج، 12: 27: الرب الذي عبر عن بيوت بني إسرائيل في مصر لما ضرب المصريين وخلص بيوتنا.
الخروج، 12: 29: حدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر، وبكر فرعون الجالس على كرسيه، إلى بكر الأسير الذي في السجن، وكل بهيمة.
البردية: انهار المسكن في لحظة.
البردية، 4: 3: أحقا كل أبناء الأمراء سحقت أجسادهم في الحوائط؟
البردية، 6: 12: أحقا تشرد أبناء الأمراء في الطرقات؟
البردية، 3: 14: النواح في كل أنحاء البلاد يختلط بالنحيب. «فليكوفسكي» يعقب: إن موت كل هذا العدد في ليلة واحدة، وفي ذات الساعة من منتصف الليل لا يمكن تفسيره بوباء كالطاعون، إنما بكارثة أرضية ضربت كل أرض مصر.
تكسير آلهة المصريين
الخروج، 12: 12: وأصنع أحكاما بكل آلهة المصريين، أنا الرب.
البردية، 3: 14: وسقطت تماثيل الآلهة مهشمة إلى أجزاء.
خروج كفن يوسف من قبره
النص من الهجادا: عندما سحقت الأرض في مصر آخر ليلة وجد الإسرائيليون كفن يوسف على سطح الأرض فحملوه معهم. «فليكوفسكي» يعقب: ولم تكن الأرض أكثر رحمة بجثث الموتى في قبورهم فالمقابر لفظت موتاها وتمزقت الأكفان.
البردية، 4: 4: أحقا أولئك الذين كانوا محنطين في أكفانهم، صاروا ملفوظين على سطح الأرض؟
ويشرح «فليكوفسكي» أن البردية قد تضمنت تمرد السكان وفرار البؤساء والمساكين المسخرين للعبودية، واختفاء الملك في ظروف غامضة ... والحقيقة الثانية هنا، هي أن زلازل متتابعة صاحبتها ظواهر طبيعية أخرى، قد اجتاحت أرض مصر، صاحبها أكثر من بلاء، سبب هلاك الإنسان والحيوان والنبات ، وأتلف كل مصادر الحياة ... ونظر المصريون إلى ذلك كله على أنه من فعل رب العبيد ... وأسرع العبيد الفارون باتجاه حدود الدولة، يسبقهم نهارا عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلا في عمود نار.
الخروج، 13: 11: وكان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلا في عمود نار ليضيء لهم، لكي يمضوا نهارا وليلا.
البردية، 7: 11: يا ويلاه، النار ارتفعت إلى الأعالي وامتد لهيبها أمام أعداء البلاد. ... مع ما سجلته البردية 17: 1-2: «أن الفرعون قد فقد في ظروف غير عادية، وأن ذلك لم يحدث من قبل قط لأي فرعون آخر.»
ثم يبرز «فليكوفسكي» حدث دخول الهكسوس البلاد البردية 3: 1: «أحقا صارت الدولة خرابا كالصحراء وأصبحت الأقاليم يبابا واقتحمت البلاد قبائل غريبة من وراء الحدود؟ إن الكارثة التي حولت مصر إلى دمار شامل بلا قوة متماسكة تدافع عن أرضها، أغرت الغرباء، وكانت حافزا لقبائل الصحراء العربية لينقضوا عليها. البردية، 15: 1 ماذا حدث؟ لقد علم الآسيويون بحال البلاد.» (2-2) الوثيقة الثانية: حجر العريش
وحجر العريش كتلة جرانيت سوداء، حفرت عليها نصوص هيروغليفية ورغم أهميته فإنه لم يحظ باهتمام كاف، ولم يعد يذكره أحد إلا لماما، رغم احتوائه على أسماء ملوك ومدن وأماكن جغرافية، وغزو غرباء للبلاد في عصر ملك يدعى «توم». ونص الكتابة في رأي «فليكوفسكي» يتطابق كلية مع نص التوراة بشأن الأحداث التي صحبت الخروج من البحر. ومما اقتبسه «فليكوفسكي» من تلك النصوص: «لقد مرت البلاد ببلوى عظيمة، سقط الشر على أرضها، وثارت الأرض ثورة عنيفة شملت عاصمة البلاد، ولم يغادر أحد القصر الملكي لمدة تسعة أيام كاملة، وأثناء هذه الأيام التسعة من جيشان الأرض، كانت هناك عاصفة بلغت قوتها حدا لا يستطيع معه الإنسان ولا الإله أن يرى وجوه الآخرين.»
وحجر العريش ليس - عند «فليكوفسكي» - سوى تسجيل للقصة الكاملة للبلاء العاشر، الذي أنزله الرب الإسرائيلي بمصر في شكل ظلام وعواصف برية؛ فالحجر يتابع «وفي خضم المحنة، وتقلبات الطبيعة الوحشية، جمع الملك جيشه وأمرهم باتباعه إلى مناطق، وعدهم أنهم سيرون فيها النور من جديد (سنرى أبانا رع حر أختي في منطقة باخيت المضيئة) ... وفي هدأة الليل، وتحت ستار الظلام، اقتربت جحافل الغرباء من حدود مصر ثم اجتازتها، وذهب صاحب الجلالة لمحاربة أبوبي وزمرته ... وحين قاتل جلالة الملك رع حرماكيس؛ حين قاتل إله الشر بالقرب من البحر في مكان الدوامة، فإن إله الشر لم يتغلب على جلالته، ولكن جلالته هو الذي اندفع إلى دوامات البحر.»
وبعد شروح يعود الكاتب إلى المكان الذي انتهت إليه مسيرة الملك قبل غرقه في البحر، وأنها محددة بالاسم في النص «ووصل جلالته إلى مكان يسمى بي خاروتي». ثم يأتي بنص التوراة «فسعى المصريون وراءهم، وأدركهم جميع خيل مركبات فرعون وفرسان جيشه، وهم نازلون عند البحر، عند فم الحيروث» (خروج، 14: 9)، ثم يوضح «وبي خاروتي في المصدر المصري هي «بي حيروت» أو «فم الحيروث» في المصدر العبري. إنه المكان نفسه والمطاردة نفسها ... وبعد انقضاء فترة من الزمن خرج ابن الفرعون «صاحب السموجب» باحثا عن أبيه (وقد أخبره شهود العيان بكل ما حدث لرع في بات نيبيس والصراع الذي خاصه الملك توم)، ويحكي النقش أن كل من رافقوا الأمير في رحلته للبحث عن أبيه قد ماتوا حرقا أما الأمير نفسه صاحب السموجب، فقد أصيب بحروق شديدة قبل أن يعود من رحلة البحث وهو يائس من العثور على أبيه الذي لقي حتفه. ومن غبرة الصحراء في طريق يات نيبيس وصل الغزاة واحتلوا مصر (أتى أبناء أبوبي المتمردون الذين كانوا يعيشون في أوشيرو ... وساروا على طريق يات نيبيس، وحلوا على مصر مع حلول الظلام). لقد غزوا البلاد ليحطموها ويدمروها وبمرور الوقت برد الجو في مصر وجفت الأرض، ولم يعرف ماذا حدث بعد ذلك للأمير التعس، ولكن نهايته كانت بائسة بالتأكيد (لقد دمرت مصر بالإعصار فأكلتها النيران، وأما العاصمة فقد احتلها الآمو) ... إن النقش الموجود على حجر العريش يحدد «اسم الفرعون الذي هلك في دوامة البحر، كان توم أو تووم»، ومن المثير أن اسم «بي توم» تعني مسكن أو مقر توم، و«بي توم» كانت إحدى المدينتين اللتين شيدهما العبيد الإسرائيليون للفرعون الطاغية وبأمر منه، وطبقا لمانيتون فإن الفرعون الذي حل غضب السماء على مصر في عهده قبل غزو الهكسوس، كان يدعى توتيماوس أو تيمايوس.» (2-3) الوثيقة الثالثة: بردية الأرميتاج
وهي بردية الحكيم «نفررحو» المحفوظة بمتحف الأرميتاج بليننجراد بروسيا ويرى فيها «فليكوفسكي» ترديدا لذات نص بردية لايدن، وإن اختلفت في كونها نبوءة ألقاها صاحبها أمام أحد الفراعين، وأهم ما يريده «فليكوفسكي» منها قولها في مقاطع:
ملء قلبي رثاء لهذه الأرض التي نبع منها الفن ...
ستهلك هذه البلاد وما عليها ولن يبقى سوى الشر.
فانية هذه البلاد.
ستحجب الشمس ولن يرى إنسان النور.
لن يبقى أحد حيا.
النهر جاف.
ستهب الرياح الجنوبية ضد الرياح الشمالية.
وتكابد الأرض بؤسا لم تعرفه.
ويحتل البلاد البدو حين يأتون من الشرق.
سينزل الآسيويون أرض مصر.
ستشرب وحوش الصحراء وحيواناتها من نهر مصر.
أرى هناك الأرض مقلوبة رأسا على عقب.
ويردف «فليكوفسكي»: «إن الرائي نفررحو يتنبأ بعد ذلك بتحرير مصر على أيدي ملك مصري يولد من أم نوبية، ويسمى «أميني»، وهو الذي سيقتل الآمو (البدو) بسيفه، وبعدها سوف يبني سور الحاكم حتى لا تتكرر عودة الآمو إلى مصر ... واسم «أمني» يشير إلى «أمن حوتب» الأول، وهو واحد من الموك الذين حكموا مصر بعد أن تم تحريرها من الهكسوس، وكان وقت بداية حروب التحرير ما زال أميرا، وكانت صوره على جدران المعابد تشير إلى لون بشرته الأسود، وهو ما يتفق مع مقولة أنه سيولد لأم نوبية، وقد تم تبجيله فيما تلا ذلك من عصور.» (2-4) الوثيقة الرابعة: نبوءة الخزاف
وهي أثر أدبي مماثل في مضمونه للوثائق السالفة، لخزاف عاش في عهد «أمينحوتب» يقول: «إن نهر النيل سيمتلئ بالمياه، «ويعود موسم الشتاء إلى موقعه الصحيح من العام، وتستعيد الشمس مجراها الطبيعي».» مما يشير إلى خلل قد أصاب النظام الطبيعي الكوني. (2-5) الوثيقة الخامسة: مقياس سمنة «لاحظ «ليبيسيوس» أن مقياس النيل عند «سمنة» الموجود منذ عصر الدولة الوسطى، يظهر ارتفاعا عظيما لمستوى الماء في ذلك المكان، حيث يجري النهر فوق أرض صخرية، ومقدار الارتفاع يزيد عن أعلى ارتفاع للمياه مسجل في العصر الحديث بمقدار 22 قدما. ونظريا فإن هبوط مستوى الماء في ذلك المكان بعد ذلك بمقدار اثنين وعشرين قدما قد يعزى إلى واحد من احتمالين: فإما إلى تغير كمية المياه المتدفقة من نهر النيل، أو إلى تغير في التركيب الصخري والطبقي للأرض. ولو كان يحمل هذا القدر العظيم من الماء قبل الكارثة، فإن العديد من المعابد والمساكن كان من المفترض أن تغطى تماما بالمياه بانتظام كل عام مع الفيضان، لكن الواضح أن «التغيير المرصود عند مقياس سمنة، يدل على حدوث تغيرات ضخمة في التكوين الصخري وفي طبقات الأرض بمصر، في أواخر الدولة الوسطى أو بعدها».» (2-6) الوثيقة السادسة: نقش حتشبسوت
وهو نقش حجري من عهد الملكة «حتشبسوت» التي حكمت بعد جيلين أو ثلاثة من طرد الهكسوس، وتقول فيه الملكة: «إن مقر ربة كيس قد تحول إلى أنقاض، وابتلعت الأرض حرمها المقدس، ولعب الأطفال فوق معبدها. وقد أزلت عنه ما تراكم، وأعدت بناءه ... فقد كان هناك عامو في وسط الدلتا، وفي حاوار (حواريس عاصمة الهكسوس)، وكانوا هم دمروا كل المباني القديمة، وحكموا البلاد غير مؤمنين بالإله رع.» ويعقب «فليكوفسكي»: «إن السطور السابقة تحمل الدليل على أن تلك المعابد قد ابتلعتها الأرض ... وصحيح أن الهكسوس قد دمروا المباني، لكنهم لم يدفنوها في الأرض.» وهو بذلك إنما يشير إلى كارثة طبيعية ليست في رأيه شيئا آخر سوى كارثة الخروج.
وينهي الباب الأول من القسم الأول بعبارة تلخص نظريته تماما، وتقول: «لو كانت كل المقارنات السابقة، والنتائج المترتبة عليها، صحيحة، فإن خروج الإسرائيليين يكون قد سبق غزو الهكسوس لمصر بأسابيع أو بأيام قليلة.» (3) إمبراطورية الهكسوس العربية
وربما الأمر هنا لا يشبه مجموعة الوثائق التي جمعها «فليكوفسكي» للتدليل على صدق أحداث الخروج كما وردت بالكتاب المقدس، إنما هي مجموعة شهادات عربية على القسم الثاني من نظريته، والذي يذهب إلى أن الهكسوس كانوا من عرب شبه الجزيرة العربية؛ فهو يلتقط طرف الخيط من «مانيتون» في شذرة تقول : «البعض قالوا إنهم كانوا عربا.» وهم من أطلق عليهم المصريون اسم «آمو». وكان الهكسوس من الشعوب التي تشربت حتى النخاع بروح التدمير والتحطيم، وعلى قدر ما هو معروف، لم يترك الهكسوس أثرا أو نصبا تذكاريا ذا قيمة تاريخية أو فنية طوال فترة حكمهم، وأن هؤلاء الهكسوس ليسوا سوى التسمية المصرية لمن ذكرهم سفر الخروج باسم العمالقة، حيث «أتى عماليق وقاتلوا إسرائيل عند رفيديم.» في طريق الخروج بسيناء، لذلك قال الرب لموسى: «اكتب هذا تذكارا في الكتاب وضعه في مسامع يشوع، فإني سوف أمحو ذكر عماليق من تحت السماء» (17: 14).
وإن هؤلاء العماليق في هجرتهم انقسموا خطين عظيمين: الأول احتل كل منطقة شرقي المتوسط، بينما احتل الثاني مصر، وعند خروج بني إسرائيل من مصر وقت انهمار سيول العمالقة على المنطقة، «وبسبب وجود العماليق في جنوب فلسطين، اضطر الإسرائيليون للبقاء في الصحراء على مدى جيل كامل»، وبذلك يفسر «فليكوفسكي» مسألة التيه أربعين عاما في سيناء.
ولتأكيد فروضه حول كون الهكسوس هم ذاتهم العمالقة، وأنهم كانوا من غرب شبه الجزيرة، فإنه يؤكد أن ما حدث للطبيعة من هياج مفاجئ في مصر، قد حدث أيضا على الضفة الأخرى من البحر الأحمر في جزيرة العرب.
وبصبر غريب ينقب الرجل عن كل ما يدعمه في كتب التراث الإسلامية، وما جاء فيها من تاريخ جزيرة العرب في عصورها الأولى. ومعلوم أن حديث العماليق من الأحاديث المتواترة في كتبنا الإخبارية بحسبان العماليق من أشهر قبائل العرب البائدة، وأنهم بادوا كما جاء في مستندات «فليكوفسكي» بنصوص من «المسعودي» وصف فيها الغضب الإلهي الذي حاق بهم، وكيف أرسل عليهم الله سيلا هربوا على إثره من البلاد متتبعين سحبا قادتهم إلى أماكن دمارها أشد هولا. يقول المسعودي: «ودمرت مكة في ليلة واحدة بضجيج يصم الآذان، وتحولت كل المنطقة إلى صحراء بلقع، وأصبحت كل الأرض من الحجون إلى الصفا قفرا ... وصل العماليق إلى سوريا ومصر وامتلكوا البلاد، وكان طغاة سورية وفراعنة مصر من أولئك العماليق، ... وقدم ملك العماليق الوليد بن دوما من سوريا وغزا مصر وقهرها واستولى على العرش ... وغزا العماليق مصر بعد أن عبروا حدودها وبدءوا في نهب البلاد، وحطموا أعمالها الفنية وخربوا كل آثارها (ويلفت فليكوفسكي نظرنا إلى تشابه تعبيرات المسعودى مع نص حتشبسوت). كذلك طعم مستنداته بأسانيد من شهادة الطبري «ثم مات ملك مصر، وارتقى ملك آخر عرش البلاد وكان من العماليق، كان يدعى قابوس بن مصعب بن مويا بن نمير بن سلواز بن عمرو بن عماليق.» ومن شهادة أبي الفدا «كان هناك فراعنة مصريون من أصل عماليقي.» ومن شهادة أبي الفرج الأصبهاني «إن العماليق انتهكوا حدود الحرم فحلت عليهم نقمة الله، فتركوا مكة ... وساقهم الله إلى منشئهم حيث أغرقهم بالطوفان.»
وحسب «مانيتون»، فقد أنشأ الهكسوس لهم عاصمة شرقي الدلتا باسم «حواريس »، وكان أول ستة ملوك منهم يشكلون الأسرة الأولى من الفراعنة الهكسوس، وأشهر هم الملك الرابع في هذه الأسرة «أبوفيس». وهنا يصدر فليكوفسكي بعض الأحكام من قبيل «وكان حكم الهكسوس قاسيا، ولم تدرك قلوبهم شفقة ولا رحمة.» ثم يضيف «ولم تقتصر هيمنة الآمو الهكسوس على مصر وحدها فقد وجدت جعارين وأختام رسمية في العديد من البلدان تحمل اسم الملك المصري «أبوب = أبو فيس» والملك «خيان»، كما وجد اسم خيان أيضا على تمثال لأبي الهول اكتشف في بغداد، وعلى غطاء آنية في «كونسوس» بجزيرة «كريت». كما وجد نقش يعود للملك «أبوب» ذكر فيه، أن أبوب الملك، ست رب حواريس، قد أخضع كل البلاد تحت قدميه ... ووجد بعض المؤرخين أنفسهم مجبرين على قبول حقيقة أن الهكسوس كانوا أصحاب إمبراطورية كبرى، ولو لفترة محددة من الزمن ... وطبقا لمانيتون ... كان آخر ملوك الفراعنة الهكسوس ملكا قويا يدعى أبوب الثاني.»
ولأن الإسرائيليين غادروا مصر وقت دخول الهكسوس، ولأنهم لقوهم في سيناء، ولأن تلك النظرية لا تجد نصا توراتيا واضحا بشأنها، فإن «فليكوفسكي» يعثر على ذلك النص، ويكتشف أن الإسرائيليين قد عرفوا بالفعل الكارثة الحادية عشرة التي حلت بمصر ممثلة في غزو الهكسوس. والنص في سفر المزامير، ويقول: «أرسل الله عليهم حمو غضبه سخطا ورجزا وضيقا، جيش ملائكة أشرار» (78: 49). ويكتشف أن تعبير «ملائكة أشرار» خطأ في القراءة والترجمة؛ حيث «ملائكة» و«ملوك» تتشابهان في العبرية، ثم تأتي زيادة حرف «ألف» إلى كلمة «رعاة» فتحولها إلى كلمة «أشرار»؛ ومن ثم فقد كان الأصل: «أرسل الله عليهم جيش ملوك رعاة، وهو الاصطلاح المأخوذ من كلمة هكسوس.»
وتأسيسا على كل تلك القرائن، وإعمالا لتلك الشواهد الغزيرة، ينتهي «فليكوفسكي» إلى «إعادة التزامن الصحيح للتاريخ، ويعيد إليه أربعمائة سنة مفقودة بين نهاية الدولة الوسطى وبداية الدولة الحديثة، إضافة للمائتي عام المفترضة من قبل المؤرخين لتلك الفترة الزمنية» وهو الفرض غير المقبول منطقيا. ليصبح الزمن ما بين سقوط الأسرة الثانية عشرة آخر أسر الدولة القديمة، وبين الأسرة الثامنة عشرة أولى أسر الدولة الحديثة ، ستة قرون كاملة؛ «ومن ثم يكون زمن التيه، ويشوع، والقضاة، الذي استغرق في تاريخ إسرائيل أربعة قرون، يقع في توقيت واحد مع حكم الهكسوس العماليق لمصر»، وتبقى المائتا سنة الأولى لأسر مصرية متهالكة فيها تعرف بالعصر المتوسط الثاني.
ومن هنا يستمر «فليكوفسكي» في دعم فرضيته ليسوق المزيد من الأدلة على صدقها، ويقف مع نص العراف «بلعام» بالتوراة، والذي يمتدح فيه إسرائيل ويقول: «يجري ماء من دلائه، ويكون زرعه على مياه كثيرة، ويتسامى في ملكه على أجاج وترتفع مملكته ... ثم رأى عماليق فنطق بمثله وقال: عماليق أول الشعوب وأما آخرته فإلى هلاك» (عدد، 24: 7، 20). ويستنطق «فليكوفسكي» ذلك النص بما لم يخطر ببال أحد حتى اليوم؛ فعماليق أول الشعوب تشير أن العمالقة كانوا أصحاب إمبراطورية عظمى، لكن آخرته ستكون الهلاك على يد بني إسرائيل، و«أجاج» الملك بالنص ليس سوى «أبوب الثاني» آخر ملوك تلك الإمبراطورية؛ حيث كانت العبرية القديمة تحمل تشابها يؤدي إلى اللبس بين حرفي «ج» و«ب».
ومن بردية ساليه يخرج «فليكوفسكي» بمدى الازدراء والاحتقار الذي كان يعامل به الهكسوس أمراء الولايات المصرية، وكيف حكت تلك البردية عن رسالة مهينة من «أبوب الثاني» إلى «سقننرع» أمير طيبة، وكيف «يظل أمير المدينة الجنوبية صامتا، ثم بكى لوقت طويل، ولم يدر بم يجيب على رسالة الملك أبوفيس.» ومن ثم «قبض على الأمير المصري، «وساقه رسول الملك أبوب الثاني إلى حواريس»، ونهاية البردية مفقود.»
لكن الأمير «كاموس» ابن الملك الطيبي «سقننرع» قاد أولى عمليات المقاومة «ضد الهكسوس العرب، بمعاونة قوات أجنبية»، كما هو مسجل بلوح كارنارفون، كما أن قصة طرد الهكسوس محفورة على جدران مقبرة الضابط «أحمس»، وكان ضابطا في جيش الملك «أحمس» الذي حمل الاسم ذاته، أخي الملك «كاموس» وقد قاد الكفاح ضد الهكسوس بعد أخيه. وهنا يقول «فليكوفسكي»: ««إن الأمراء المصريين المتمردين على حكم الهكسوس، لم يكونوا هم من حرر مصر، لكن مقاتلين أجانب من خارج مصر» هم المحررون الحقيقيون لها؛ فالنقش بمقبرة الضابط أحمس يقول: تابعت الملك سيرا على أقدامي في حين ركب عجلته الحربية، في طريقه إلى خارج الولاية ... «كانوا هم» يحاصرون مدينة حواريس، أظهرت بسالة في القتال مترجلا أمام سموه ... «كانوا هم يحاربون» من جهة قناة المياه في حواريس، ثم نشب قتال جديد في ذلك المكان ... وشاركت في القتال مرة أخرى ... «حاربوهم» في مصر هذه جنوب تلك المدينة ... ثم استطعت اقتياد أسير حي ... «استولوا هم» على حواريس «وهم حاصروا» شاروهين لأربعة أعوام، ثم أخذها جلالته.»
ويتوقف «فليكوفسكي» مع أولئك الأجانب المشار إليهم بإشارة الغائب (كانوا هم) في النص، ليشير إلى أنهم أصحاب الفضل الحقيقي في تحرير مصر من العرب العمالقة الهكسوس، ليقرنه مباشرة بنص الكتاب المقدس؛ حيث يقول «صموئيل» آخر قضاة إسرائيل، «لشاول» أول ملوك إسرائيل: «هكذا يقول رب الجنود: إني قد افتقدت ما عمل عماليق بإسرائيل؛ حيث وقف له في الطريق عند صعوده من مصر، فالآن اذهب واضرب عماليق، وأحرموا كل ماله (أحرموا اصطلاح توراتي بمعنى أبيدوا، والإشارة من عندنا)، ولا تعف عنهم «بل اقتل رجلا وامرأة، وطفلا ورضيعا، بقرا وغنما، حملا وحمارا» ... ثم جاء شاول إلى مدينة عماليق وكمن في الوادي ... وضرب شاول عماليق من حويلة حتى مجيئك إلى شور التي مقابل مصر وأمسك أجاج ملك عماليق حيا» (صموئيل أول، 15: 2-8). ويعقب: «كانت عبارة مدينة عماليق عقبة دائمة أمام دارسي التوراة؛ فقد كانوا يفترضون أن العماليق ليسوا سوى قبيلة صغيرة ... والأدلة الوحيدة على موقع تلك المدينة هي العلامات الطبوغرافية لموقعها؛ فالمدينة حوصرت من جهة مجرى قناة للمياه، أو نهر ناخال ... ولا يوجد في كل تلك المنطقة سوى نهر وادي العريش؛ حيث تجري مياهه غزيرة بالشتاء، ويجف مجراه صيفا.»
ونكتشف أن مدينة العماليق ليست سوى «حواريس»، وأن أجاج هو «أبوب»، وأن «هم» ليسوا سوى بني إسرائيل بقيادة الملك «شاول»؛ ومن ثم وجد «فليكوفسكي» أن من واجبه إعلان «أن هناك دينا تاريخيا يدين به الشرق الأدنى لنيله حريته، وتخليصه من نير عبودية الهكسوس على يد شاول»، لكن أعماله العظيمة لم تقدر، بل حتى لم يعترف بها. لقد كان سقوط حواريس وتدمير جيوش العماليق، تغييرا حاسما لمسار التاريخ، ومن جديد نهضت مصر لتبني قوتها مرة أخرى، وتستعيد إشراقها بعد أن تحررت من العبودية التي دامت مئات السنين، و«كان محررها واحدا من بين أحفاد اليهود الذين كانوا عبيدا بمصر».»
بل إن حصار «شاروهين» بعد ذلك حيث انسحب الهكسوس، والذي دام ثلاث سنوات لم ينته على يد المصريين كما يظن علم التاريخ التقليدي، لكن على يد أحد قادة جند الملك «داود» خليفة «شاول» والمعروف باسم «يوآب»، والذي تتواتر عنه أسطورة تقول إنه اخترق بمفرده أسوار عاصمة العماليق، وقد كتب الضابط «أحمس»: ««لقد حاصر هو» شاروهين لمدة ثلاثة أعوام ثم أخذها جلالته.» وكلمة «هو» في النص تشير بالضرورة فيما يرى فليكوفسكي إلى «يؤاب».
وقبل أن يصل «فليكوفسكي» إلى إغلاق القسم الأول والأساس الصلب لنظريته لا يفوته القول: «لم يستطع الإسرائيليون أبدا أن ينسوا معاناتهم في مصر، ولكنهم لم يحملوا أبدا أية كراهية للمصريين، أو للشعوب الأخرى في تلك المنطقة القديمة، لكن العماليق وحدهم هم الذين أصبحوا رمز الشر في نظرهم؛ ومن ثم هدفا لكراهيتهم. إن الشر الهائل في ذلك الشعب ظل يتكرر حتى الملل في آداب الفكر القديم، «وكيف كانوا يمتصون دماء الشعب المرهق في تيه الصحراء (يقصد بذلك الشعب المرهق اليهود)، وكيف كانوا ينصبون الكمائن بكل خسة وجبن، ويستولون على الأقوات القليلة، وكيف كانت حقارتهم ووضاعتهم ووحشيتهم تظهر في مهاجمتهم للضعفاء في مؤخرة القافلة، وكانوا يبترون أعضاء وأطراف الجرحى ويمثلون بهم ويهرطقون ويجدفون بكفر صارخ، بقذف الأعضاء المبتورة من الجرحى نحو السماء، ويسخرون من الرب ... لقد خلف الهكسوس ذات الكراهية في نفوس المصريين؛ فقسوتهم البالغة، ووحشيتهم التي لا تعرف رحمة، تركت آثارا من المستحيل محوها من ذاكرة الشعوب ... لقد كان قدر شاول أن يحمل مهمة تحرير إسرائيل ومصر على عاتقه، ولم يذكر المصريون إسرائيل بالتقدير المناسب، وأشار إليهم المصريون ب «هو» و«هم»» وفي ذلك بعض الظلم. وكانت مكافأتهم للإسرائيليين ما قام به المؤرخون المصريون بجمعهم الإسرائيليين مع المخربين الهكسوس في سلة واحدة، مع أن الإسرائيليين هم من طردوا الهكسوس من مصر ومن حواريس. وفي عالم الإغريق وإمبراطوريتهم لم توجد إشارة واحدة إلى كراهية عنصرية لليهود، «حتى بدأت قصص المصري «مانيتون» في الانتشار والذيوع، وحين عرف اليهود كسلالة منحدرة من العماليق الغزاة المتوحشين» ... وكانت هناك كراهية موازية لا تقل عنها ومتأججة على الدوام من نفوس اليهود وذاكرتهم نحو العماليق. إن الكراهية من الممكن أن تدوم وتمتد عبر الزمن حتى ولو لم يعد المستهدف بالكره موجودا على ظهر الأرض. وكم كان يصبح عليه مقدار هذا الكره، إن لم يكن «المكروهون قد ذابوا بشخصيتهم القومية من آلاف السنين في شعوب شبه الجزيرة العربية؟! لقد رأى المؤرخ المصري مانيتون أن اليهود هم البذرة الخسيسة للطغاة المتوحشين، وتسللت تلك الكراهية إلى كل الأجيال. «إن اللعنة التي وجهت إلى العماليق تحولت لتنصب على بني إسرائيل»، ومحيت ذكرى العماليق حتى لم يعد هناك من يعرف أن العماليق كانوا هم الهكسوس، واستمر الإسرائيليون يعانون أشد المعاناة بسبب تشويه حقائق التاريخ، وحملوا آلام إدراجهم في سلالة العماليق، «وبدأ ذلك العقاب التاريخي حين أطلق مانيتون أحكامه الخاطئة، مانيتون المصري الذي تحررت أمته من الهكسوس على يد اليهود.»
ومن هنا يبدأ «فليكوفسكي» مشواره الطويل لإعادة كتابة تاريخ العالم وترتيب فوضى العصور، مع الإصرار على معالجة ذلك التشويه الظالم الذي لحق بني جلداته، وإلى هنا نوقفه، لنبدأ رحلتنا معه مرة أخرى من البداية. ورغم اعترافنا بقدرته العظيمة على البحث، واحترامنا لجهده الهائل، ووصفنا له بأنه رجل من نوع نادر وفذ، فإن ذلك لا يمنعنا من وصفه الآن بأنه أبرع رجل علم، تمكن من استخدام أدوات البحث العلمي لإجراء أروع بل وأمتع عملية «تزييف وتلفيق وتزوير»، في تاريخ الدين والتاريخ. (4) التحدي
وعود على بدء، ومع مقدمة «عصور في فوضى»، تلك المقدمة الهادئة المغلفة داخل طرح علمي لأهم الإشكاليات التي سيتناولها ذلك التنظير التاريخي للقومية الإسرائيلية، دون أن تبدو أية ملامح لتلك النقمة الشديد على التاريخ الذي أهمل شأن شعب إسرائيل، ورماهم بكل ما في قاموسه من اصطلاحات عدائية في كتاباته المتأخرة من بعد الميلاد - لذلك استحق أن يعاد النظر فيه؛ لأنه بخطيئته كان خاطئا - يوحي كاتبنا بمدى ما أصيب به من عسر ومشقة وهو يبحث في مدونات العالم القديم، وهو لا شك محق في ذلك تماما. لكن الإيحاء يتوسع في دلالاته؛ حيث يصف الكاتب نفسه بأنه سيكون كرجل المباحث، الذي لا يهمل في بحثه وراء الجريمة شيئا مهما بدا تافها و«حتى لو كان شعرة على عتبة نافذة». لكن ما وضح عندما أن أتممنا قراءة العمل، وسعينا وراء مصادره، أن الرجل فعلا لم يهمل شعرة على عتبة نافذة، ولا خطأ عفويا على حائط، ولا كومة قمامة ملقاة في ركن غرفة، لكنه أهمل عن قصد مبيت وعن رغبة، عوارض خشبية تسد الطريق، وألواحا من حديد لا يمكن النفاذ من خلالها. وهنا مكمن خطورة الكتاب على قارئ ذي اهتمام عام بشئون التراث، لا يمتلك أدوات كافية للتعامل مع الكتاب ومؤسساته، وإمكانيات اللعب بنصوص ذلك التراث لعبة تلفيقية، ذات أغراض سياسية عنصرية، مغلفة بأردية شديدة الكثافة، ومخاطة بقدر عظيم من الذكاء، مادتها عقلانية ساطعة وعلم باهر؛ لذلك كان الرجل فخورا بعمله إلى حد وصفه في مقدمته أنه «إنجازه الأعظم على الإطلاق»، ثم لا يلبث أن يقدم تحديه للجميع سافرا: «وأنا أقدم هنا معركة كبرى للتاريخيين والمؤرخين.» ورغم أن الرجل يطلب عراكا، ويقفز على الحلبة طول الوقت دون أن يستقر ودون أن يلهث، مستفزا الجميع داعيا إياهم للنزال، فإننا فيما نعلم، وفي حدود بلادنا على الأقل، لم نجد من قبل النزال، إنما ما بدا حتى الآن هو القبول بقفازه المرمي على الوجوه، ثم يقول عن عمله «إعادة بناء التاريخ القديم للعالم من جذوره.» إنه عمل «غير مسبوق بمحاولات مثيلة.» بل «إنه ليست هناك أية فرضيات قوية، ولا أدلة ولا براهين، يمكنها أن تواجه أو تدحض إعادة صياغة التاريخ التي أوردناها.»
لكن، وفق أي معيار يقوم بإعادة كتابة التاريخ وإعادة تزمينه، ما دام الأصل المصري فاقدا السلامة؟ إنه كما عرضنا سار بنا مع وثائق وبرديات وحفائر وأحداث وكوارث، لكن كان يلقي بنا كل مرة في قبضة التاريخ الإسرائيلي، حيث ينتهي إلى قياس كل شيء بمعيار التاريخ اليهودي وحده، والكتاب الذي دون ذلك التاريخ، الكتاب اليهودي المقدس وحده، والعقل الذي صاغه، العقل اليهودي وحده.
لكنك لا تلمس بطول كتابه نزوعا إيمانيا حقيقيا، ولا يبدو الرجل كحبر من الأحبار، ولا حتى ذا ميول دينية، بل إنك تلمس رغبة الرجل في ألا يبدو رجل دين تقليديا، بل يكاد يفصح أحيانا بإلحاده. لكن لأن قيام الدولة الإسرائيلية حاليا، لا يجد أي دعامات من مقومات الكيانات السياسية، ولا يجمع عقدها المتنافرة سوى الدين وتلك الذكريات التاريخية، كأسس للقومية الإسرائيلية، فإن «فليكوفسكي» بكتابة هذا سجل أعظم نقطة في رصيد القوميات العنصرية، بقراءة موثقة، وتنظير قل أن يوجد مثيل له لتاريخ إسرائيل المقدس، وبحيث تطابق ما كنا نظنه خرافة وأساطير، مع وثائق أخرى رصدت ما بدا أنه حدث موضوعي واقعي، سحبت مصداقيتها على النصوص التوراتية في أدق تفاصيلها، وفي منمنمات تلك التفاصيل وفسيفسائها، حتى بدا كتابا لا يدخله الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وربما من باب التحدي لمن يفكر في النزال، قام الرجل يروعنا بمغامراته التي صاحبت نشر كتابه الأسبق «عوالم في تصادم»، ويقول: «إن مجموعة العلماء التي هاجمت عوالم في تصادم وأدانت مؤلفه، ولعدم قدرتهم على إثبات أن الكتاب أو حتى جزءا منه قد جانبه الصواب، أو إن إحدى الوثائق الواردة به مزيفة، فإن تلك المجموعة من العلماء انزلقت إلى موجة من التعصب الأعمى، بلا أدنى أسس علمية، وحاولوا وأد الكتاب في مهده، وهو بين يدي أول ناشر، بالتهديد بمقاطعة كل ما تنتجه تلك الدار من كتب ومراجع، وبلغ الأمر حدته حيث أجبروا عالما وكاتبا صحفيا على الاستقالة من عملهما؛ لكونهما اتخذا موقفا موضوعيا علنيا من الكتاب، مما حدا بكثير من المفكرين الأكاديميين بالجامعات، إلى السعي لقراءة كتاب عوالم في تصادم سرا والاتصال بكاتبه في الخفاء.»
نحن إذن بإزاء كاتب ألجأ علماء الدنيا للتخلي عن موضوعيتهم وحيادهم ووقارهم العلمي، والتحول إلى استخدام أساليب قمعية إزاءه، عندما لم يجدوا لديه تزييفا في الوثائق، أما لماذا كل ذلك الهجوم الذي تعرض له كاتبنا؟ فيرجع - فيما يوعز به للقارئ - إلى أن كتابه احتسب مروقا على الدين، وتجديفا على الملة اليهودية، وهو ما يتضح بقوله في المقدمة: «لقد كان حراس العقيدة، وما زالوا، متحفزين دوما لمهاجمة أي جديد وإدانته بأساليب رجعية، بعيدة عن الحجة الموضوعية وعن النقاش، فضلا عن تحقير صاحب كل فكر جديد في أعين الرأي العام، وفي مسوح من يريدون إظهار كم هي خطأ تلك الأفكار المتمردة والمنشقة عن الدين.» وهكذا فالكاتب يطمئن القارئ على أمرين: الأول: أن الذين يهاجمونه رجال دين تقليديون متعفنون يترصدون لكل جديد بعقلية متخلفة، وبذلك يكسب أشد القوى استنارة؛ لأن معنى ذلك اتخاذه موقفا، علميا موضوعيا لا ينحاز لرأي أو عقيدة. أما الثاني، فهو أنه سيقول ما يعتبر تجديفا في عرف بني ملته، وأنه قد قبل بذلك الموقف التزاما من جانبه لوجه الحق ولوجه العلم بغض النظر عمن سيغضب ومن سيرضى.
وبين المقدمة والتمهيد، يعمد إلى فصل يبدو كنتوء مقصود تحت عنوان «اعتراف بالفضل»، وهو ما اعتدنا كباحثين إدراجه بالمقدمات، لتقديم التقدير لمن ساهم في إنجاز البحث وقدم العون للباحث. لكن «فليكوفسكي» قصد ما هو أكثر من تقديم الامتنان؛ حيث أورد مجموعة أسماء لعلماء ومتخصصين في صيغة الشكر على المعاونة، لكنها ملتبسة بما يشير إلى موافقتهم على عمله واقتناعهم بفروضه ونتائجه، وبشكل لحظنا فيه ما لا يبدو واضحا من التواء يعسر مؤاخذاته عليه. وخرجنا بنتيجة مفادها أنه لا العلماء المذكورون وافقوا وأيدوا، ولا هم - في ضوء الأسلوب الملتوي - بقادرين على الاحتجاج، ولا القارئ سيلتفت إلى الخدعة المبيتة، ونضرب لذلك أمثلة لأهميتها كنموذج لأسلوبه الذي احتذاه بطول كتابه:
يقول: «أشعر بامتنان أيضا للدكتور «والتر فيديون» بمعهد دراسات آسيا بنيويورك، الذي لم يتوان عن مد يد العون بمعلوماته الغزيرة عن الأدب القديم، ويزيد من إحساسي بالعرفان أنه لم يحاول أبدا أن يقدم نفسه بأي شكل على فرضياتي الخاصة بالكتاب. «ولقد اقتضى الأمر ما يزيد على ستة أعوام، حتى اقتنع» وأقر بأن التاريخ التقليدي كما نعرفه، غير مبني على أسس ثابتة.» ولا أخفي القارئ سرا، أني لم يصادفني إطلاقا عالم باسم «والتر فيديون»، واحتسبت ذلك للوهلة الأولى تقصيرا ينبغي تلافيه، أما كلام فليكوفسكي فيشير إلى اقتناع «د. فيديون» أخيرا برأي «فليكوفسكي» وموافقته على إعادة صياغة التاريخ المبني على أسس غير ثابتة. ومع قراءة متأنية تكتشف أن «فيديون» كان لديه تحفظات وأراء ترفع بها عن الإقحام في عمل «فليكوفسكي»، لكن الأهم هو أن فيديون احتاج ست سنوات ليقتنع أن التاريخ القديم يقوم على «أسس غير ثابتة»، أما التعبير الأصدق «غير يقينية أو قاطعة»، وهو أمر معلوم لدي جميع العارفين بذلك التاريخ، ويعلمون أيضا أن ذلك ليس لعيب فيه أو خلل ينتظر «فليكوفسكي» ليصلحه، إنما هو ناتج حلقات مفقودة لم تقدمها لنا الحفائر الأركيولوجية حتى الآن، والتي تقدم كل يوم جديدا يملأ مثل تلك الثغرات. والقول باحتياج «فيديون» لست سنوات للاقتناع بفرضية الكتاب، أسلوب فيه التواء يسمح بتسرب المعنى الآخر للذهن، لكن إن كان حقا، قد احتاج «فيديون» ست سنوات ليقتنع بأمر معلوم، فربما فسر لنا ذلك أننا لم نسمع به من قبل بين العلماء المتخصصين.
ثم يقول: «كما أدين أيضا للدكتور روبرت ه. فايفر، المرجع الفذ لدراسات الكتاب المقدس، ومدير بعثة التاريخ القديم بجامعة بوسطن، ومحرر جريدة الكتاب المقدس، ومؤلف العمل المميز عن العهد القديم (لاحظ الألقاب التي يعددها فليكوفسكي للمرجع الفذ، محذرا فيما يبدو كل من لا يحمل مثلها من محاولة التعرض له)، وهو من الشخصيات التي يركن إلى آرائها. إن فايفر اقترح علي أن أحاول إثبات فرضياتي على أسس من الوثائق الآثارية، وهو ما أخذت به.» وهنا واضح من رؤية فايفر ما يشير إلى خلل تلك الفرضيات، وعدم قناعته بما قدم كاتبنا، مع رفضه التورط بالتأييد لفليكوفسكي.
وللاختصار نصل مباشرة إلى قوله: «كما قرأ أيضا البروفيسور ج. جارستانج المنقب في آثار جيركو، النسخة الأولية للقسم الأول (الذي نحن بصدده)، وأقر بأن وصف الوثائق المصرية القديمة للكارثة التي صاحبت الخروج، يتطابق تماما مع وصف الكتاب المقدس، مما يثبت أنهما وصفان لحدث واحد.» وهنا أرى من واجبي الإشارة إلى أن «جارستانج» هذا هو صاحب كشف لجعران في «جيركو/أريحا» وأن هذا الجعران المصري عليه كتابة تشير بالقطع وباليقين أن النبي موسى هو ابن الفرعونة «حتشبسوت». بينما ثبت أن تلك كانت أكبر تلفيقة في تاريخ علم الآثار، وكارثة علمية حقيقية.
لكن قبل البدء في التعامل مع «فليكوفسكي»، نؤكد مرة أخرى أنه عقل من نوع نادر، «ولا يصح بحال مقارنته بالمضحكات المبكيات فيما قدمه باحثونا بذات السبيل عن تاريخ بني إسرائيل وعقائدهم، وهي أعمال تنضح بالعنصرية وتدعي العلمية، لكنها بجوار عمل كهذا تصبح لونا من خطب أيام الجمعة، وصفحات الإنشاء القلقشندي»، الذي لا يؤثر إلا منفرا، ناهيك عن سطحيته وسذاجته، وما يتركه من انطباعات أن تلك الأعمال كانت لديهم اهتماما جانبيا؛ لأنه لا يصح - إيمانيا - إلا الصحيح، وأن عقائد بني إسرائيل وتاريخهم لا يحتاج لأكثر من جرة قلم وينتهي الأمر
2
هذا بينما كرس «فليكوفسكي» عمره كله من أجل عمله هذا، فأين نحن من ذاك؟ استفسار - لا شك - أشد سذاجة من أعمال باحثينا.
لقد بدأ «فليكوفسكي» من حدث الخروج، والأحداث التي صاحبت ذلك الحدث، وبنى كل عمله على التأريخ لزمن الخروج، الذي استدعى بدوره إعادة النظر في تاريخ المنطقة برمتها، بعد كشفه لخطأ هائل، سببه ذهاب التاريخ التقليدي إلى كون ذلك الخروج قد حدث في عصر الدولة الحديثة (الإمبراطورية) بينما هو حسب إعادة الصياغة والتزمين، ينبغي الرجوع به إلى العصر المتوسط الثاني، مع نهاية الأسرة الثانية عشرة في الدولة الوسطى. مما يشير إلى أن دخول بني إسرائيل إلى مصر يجب أن يكون قد سبق ذلك الزمن بفترة مناسبة، معتمدا خلال ذلك كله على قياس تلك الفترة الزمنية مقارنة بالكتاب المقدس، الذي أثبت صدقا مذهلا، وتطابقا يفوق الوصف مع الوثائق التي اكتشف «فليكوفسكي» أنها تشهد بأحداث الخروج . (4-1) لكن ماذا عن الدخول؟ «إن «فليكوفسكي» لا يتعرض لهذا الأمر بالمرة ولا مرة!» وهو الأمر الذي يضع عددا من علامات الاستفهام، ودونه لا يمكن البدء في التعامل مع حدث الخروج وباقي عمل «فليكوفسكي» المثير.
وحدث الدخول يبدأ من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر، وأبيهم (يعقوب) الملقب بإسرائيل، ومع بداية الإصحاح 37 من سفر التكوين، حيث يلقي الأسباط المكرمون بأخيهم المميز (يوسف) في بئر، حيث تلتقطه قافلة تجار «إسماعيليين» أو «مديانيين» - يتضارب الكتاب المقدس هنا - وتبيعه لفوطيفار رئيس شرطة مصر. إلى أن يعلم الفرعون بقدرات يوسف على التبصير وقراءة الطالع في الأحلام فيقربه منه، وبمهارة يوسفية يتمكن ابن إسرائيل ذو الجمال الأخاذ من الوصول إلى كرسي وزارة خزانة مصر، ويرسل في طلب أبيه وإخوته ليقيموا معه في بلاد النيل، ويستقر الرعاة في مصر، وكانت «جميع نفوس بيت يعقوب التي جاءت إلى مصر سبعون» (46-37) و«سكن إسرائيل في مصر في أرض جاسان» (47-27)، «ثم مات يوسف وهو ابن مائة وعشر سنين فحنطوه ووضع في تابوت في مصر» (50: 26).
ثم يستكمل سفر الخروج قصة الدخول، فيقول: «وأما بنو إسرائيل فأثمروا وتوالدوا ونموا وكثروا كثيرا جدا، وامتلأت الأرض منهم، ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف، فقال لشعبه: هو ذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا، هلم نحتال لهم لئلا ينموا فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا، ويحاربوننا ويصعدون من الأرض، فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم، فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيتوم ورعمسيس» (1: 7-11). ثم يلي ذلك سرد الأحداث المعروفة مع ظهور «موسى» من نسل يعقوب (إسرائيل) حتى الخروج الإعجازي، وحسب النص التوراتي اليوناني المعروف بالسبتواجت (السبعيني)، فإن مدة بقاء بني إسرائيل في مصر كانت 215 سنة. أما النص العبراني المازوري، فيذهب إلى أن مدة بقاء بني إسرائيل في مصر استغرقت 430 سنة وتشهد على ذلك عدة نصوص توراتية، منها بالنص العبراني: «ودور ربيعي يشبوا هنا» وتعني «في الجيل الرابع يرجعون إلى هنا»، وقد احتسبت كلمة «دور» بمعنى مائة سنة كاملة، بدليل نص آخر يقول فيه الرب لإبراهيم، «اعلم يقينا أن نسلك سيكون غريبا في أرض ليست لهم، ويستعبدون لهم فيذلونهم أربعمائة سنة» (تكوين، 15: 13). وبالاستناد إلى نص آخر واضح تماما يقول: «وأما إقامة إسرائيل التي أقاموها في مصر، فكانت أربعمائة سنة وثلاثين» (خروج، 12: 40). هذا بينما يحدد لنا الإصحاح السادس من سفر الخروج أسماء لأربعة أجيال فقط من نسل يعقوب عاشت في مصر إلى زمن الخروج؛ فقد أنجب «لاوي» أخو يوسف وابن يعقوب «كوجات»، وأنجب كوجات «عمران» وأنجب عمران «موسى» الذي قاد رحلة الخروج، ولو افترضنا أن كلا منهم قد أنجب ابنه وله من العمر خمسة وعشرون عاما، فإنهم يكونون قد لبثوا في مصر حوالي مائة سنة ربما تزيد قليلا، وليس أربعمائة سنة، ذلك الزمن المعمول به لدى الباحثين التوراتيين لمدة بقاء الإسرائيليين بمصر، وهو رقم (أي الأربعمائة سنة) بجمعه لستمائة ساقطة التاريخ عند «فليكوفسكي»، تذهب بنا إلى عصر بناة الأهرام، «ويكون بنو إسرائيل اليوم، هم فعلا أحفاد بناة الأهرام، الذين استعبدوا في مصر».
هذا بينما على الجانب الآخر، يعطي لنا سفر الخروج عدد الخارجين من بني إسرائيل في قوله: «فارتحل بنو إسرائيل ... نحو ستمائة ألف ماش من الرجال، عدا الأولاد» (12: 37)، وبإضافة الأولاد والنساء ربما ارتفع الرقم إلى أكثر من مليون، وربما ارتفع إلى مليونين إذا أخذنا بالاعتبار بقية النص «وصعد معهم لفيف كثير جدا أيضا» (12: 38)، وإن كان لا يحدد جنس هؤلاء اللفيف، الذين لن يكونوا بالطبع جنسا آخر غير المصريين، بما يشير إلى خروج أعداد من المصريين مع الخارجين.
وهكذا فإن «فليكوفسكي» لا يتعرض بالمرة لهذه الإشكالية، التي دفعت المؤرخين إلى قرن بني إسرائيل بالهكسوس بالنظر إلى عدد الخارجين الهائل، وهو ما كان مناط احتجاجه ورفضه، وقد أسس هؤلاء المؤرخون رأيهم بالإضافة إلى عدد الخارجين، على الزمن الذي استغرقوه بمصر وهو أربعة قرون، مع الأخذ بالحسبان أن رقم الخارجين لا يتناسب بحال مع سبعين فردا دخلوا مصر وعاشوا فيها لأربعة أجيال فقط. هذا بينما أهمل «فليكوفسكي» مسألة الدخول بالمرة، حتى لا يتعرض لإشكالية: كيف ينجب سبعون شخصا ما يزيد عن مليون شخص خلال أربعة أجيال فقط، وهو ما كان ممكنا أن يضطره إلى الأخذ بأحد احتمالين، لا بد أن يكون الكتاب المقدس بموجبه كاذبا في الاحتمال الآخر.
فإما أن يأخذ بكون الخارجين نسلا لأربعة أجيال فقط، وفي هذه الحال لن يزيدوا بحال عن خمسمائة شخص أو ألف أو ألفين لو بالغنا، مع افتراض فحولة لا تبارى في الرجال، وخصوبة عظيمة في النساء، وهو - أساسا - ما لن يلتقي مع فروضه ونتائجه؛ حيث انتهى إلى أن «شاول» ملك اليهود، مع «مئات الألوف» من جنوده، هم من دمروا عاصمة الهكسوس (حواريس) وحرروا مصر.
وإما أن يأخذ بالاحتمال الثاني الذي يؤيد فروضه، وهو أنهم عاشوا في مصر أربعمائة سنة ليتيسر لهم إنجاب هذا العدد الهائل، لكنه «في هذا الحال كان لا بد أن يقر بنظرية أنهم كانوا هم ذات عين الهكسوس».
وحتى لا يقع بين شقي الرحى، فقد أهمل تماما الإشارة إلى حدث الدخول، وهو الأمر الذي ربما غرب على بال القارئ وسط زحمة الإثارة وكم الإدهاش، لكنه بتعمده هذا أثبت غرضية واضحة بعيدة عن روح العلم، وأول شروط العلم هو الأمانة فيما نعلم، وهذا أول الغيث الفليكوفسكي، كان لا بد من الإشارة إليه، قبل البدء في مناقشة فروضه وطروحاته ووثائقه وبراهينه واحدا واحدا.
ونعود الآن لكلامه «إننا سنجد أنفسنا مضطرين للإقرار وباعتراف صريح مباشر، أن الكلمات - في الكتاب المقدس - تعني ما تقوله تماما.» لنجدها حسب ما أوردنا الآن لا تعني ما تقول، ولا تلتقي مع أي فروض. وكان كلامه تمهيدا للاستشهاد بالنص الذي أورده هكذا «ارتجت الأرض ... وارتعشت أسس الجبال ... تحركت واهتزت ... دخان ونار ... فظهرت أعماق المياه، وانكشفت أسس المسكونة» (أسقط هنا الإشارة إلى موضع النص بالكتاب المقدس).
هنا عمد «فليكوفسكي» مباشرة إلى النص التوراتي الذي رآه أهلا لتصوير الكارثة التي صاحبت الخروج، وربما مر القارئ على النقاط الأفقية بين العبارات مرور الكرام، وهي في عرف الباحثين مواضع لجمل أو فقرات تم الاستغناء عنها لعدم صلتها بالموضوع ، وحتى لا تصرف ذهن القارئ عن جوهر الموضوع، وهي إحدى أدوات البحث العلمي ولا اعتراض. لكن كل الاعتراض يكون عندما نعلم أن للكاتب مقاصد غير أمينة، وأنه قد عمد إلى الإسقاط والحذف لأن المحذوف كان ممكنا أن يتعارض مع فروض الكاتب وما يريد الوصول إليه؛ باختصار هي انتقائية وعدم أمانة واضح، وللتأكد إليك النص الأصلي من الكتاب المقدس:
وفي ضيقي دعوت ربي، وإلى إلهي صرخت، فسمع من هيكله صوتي، وصراخي قدامه دخل أذنيه، «فارتجت الأرض، وارتعشت أسس الجبال»، ارتعدت وارتجفت لأنه غضب، صعد دخان من أنفه ونار من فمه، أكلت جمرا، اشتعلت فيه، طأطأ السموات ونزل وضباب تحت رجليه، ركب على كروب وطار، وهف على أجنحة الرياح، جعل الظلمة ستره، حول مظلته ضباب المياه وظلال الغمام من الشعاع قدامه عبرت سحبه، «برد وجمر ونار»، أرعد الرب من السموات والعلى، أعطى صوته بردا وجمرا ونارا، أرسل سهامه فشتتهم، وبرقا كثيرة فأزعجهم، «فظهرت أعماق المياه وانكشفت أسس المسكونة» من زجرك يا رب، من نسمة ريح أنفك، أرسل من العلى فأخذني ... (المزامير، 18: 6-16)
هذا هو النص، وقد عمدنا إلى إبراز ما انتقاه «فليكوفسكي» ببنط مميز، انظر مثلا «صعد دخان من أنفه ونار من فمه»، أصبحت في النص الذي استشهد به «دخان ونار » حتى تشير إلى صورة الكارثة التي صاحبت الخروج كما صورها، ولا بأس علينا إن لفق الرجل في نصوص كتابه المقدس، لأن بني ملته أدرى بالنصوص الأصلية، لكن البأس أن زور علينا وعلى العالمين!
واضح أن الرب «يهوه» هنا استجاب لدعوة الداعي بغضب، ولغضبه اهتزت الأرض والجبال، وفي حنقه ترك عرشه السماوي وركب كروبا (الكروب نوع من الثيران المجنحة، وهي بالقلب اللساني - الميتاتيز - تصبح بروكا أو براقا)، وهبط ينفث غيظه دخانا من أنفه ونارا من فمه. وهي صفات اعتيادية لرب التوراة يعرفها جيدا المعتاد على التعامل مع المقدس الإسرائيلي، فعادة ما يظهر الإله في صورة التنانين، وهي الصورة التي دفعت الباحثين، ودفعتنا (في كتاب: منابع سفر التكوين) إلى جمع الأدلة لتأكيد أنه ليس أكثر من رمز لقوى بركانية. لكن فليكوفسكي الذي انتوى «أن يجد لكل كلمة بالتوراة نظيرها في الواقع وفي التاريخ» وما يتبع ذلك بالضرورة من موضعة النص التوراتي وعقلنته؛ فقد قام من البداية «باستبعاد كل ما يمكن أن يعطي دلالات أسطورية»، هذا ناهيك عن كون هذا النص تحديدا من النصوص التي كتبت متأخرة عن كتابات أخرى بالكتاب المقدس، ويذهب الباحثون إلى احتمال كتابتها إبان أسر اليهود في بابل أو ربما قبله بقليل؛ أي إنها لا ترقى أصلا لعصر قائلها النبي «داود» في الألف الأولى قبل الميلاد. وحتى «لو» كانت نسبتها لداود صحيحة، وحتى «لو» كانت نسبتها للألف الأولى قبل الميلاد، وما قبلها بقليل صحيحة، وحتى «لو» دونت وقتها فورا «بالفرض»، وفي كل «لو» كسر لحقيقة علمية، فإن النص يبعد عن زمن الخروج، وحسب تزمينه هو للعصور حوالي ستة قرون كاملة، فهل يصلح للشهادة على واقعة مضى عليها ستمائة سنة قبل تدوين النص؟ مع ملاحظة أن كاتبنا لم يشر بالمرة إلى كل تلك الملابسات المحيطة بالنص، وإنما أورده كما لو كان شهادة شاهد عيان على الكارثة. أما الأجدر من كل هذا، ويدفعنا لنصح القارئ «بإلقاء تلك الشهادة في أول صندوق قمامة يقابله»، فهو ما جاء في مقدمة ذلك النص ويشرح الظروف التي قيل فيها؛ حيث يقول: «المزمور الثامن عشر لإمام المغنين، لعبد الرب داود، الذي كلم الرب بكلام هذا النشيد، في اليوم الذي أنقذه فيه الرب من أيدي كل أعدائه، ومن يد شاول.»
ولإيضاح المقصود في تلك المقدمة التي سبقت النص، نورد قصة من أطرف القصص التوراتية المقدسة؛ بإيجاز: بعد أن هزم الفلسطينيون بني إسرائيل أيام القضاة، اجتمعت قبائل إسرائيل وطلبت من القاضي الكاهن «صموئيل» أن يختار لهم ملكا كبقية الشعوب، يجمع صفوفهم وينظمهم ويقودهم بأسلوب الجيوش النظامية لحرب الفلسطينيين، «فالآن أجعل لنا ملكا يقضي لنا كسائر الشعوب» (صموئيل أول، 8: 5). فاختار لهم «شاول» كأول ملك لإسرائيل، وكان أهم صفاته التي أهلته للملك، أنه كان «شاب وحسن الصورة، ولم يكن رجل في بني إسرائيل أحسن منه، كتفه فما فوق كان أطول من جميع الشعب» (9: 2)، ودخل «شاول» عدة حروب منها حربه مع العمالقة التي اهتم بها «فليكوفسكي»، لكن شاول أبقى على الغنائم من الأطفال والبهائم، وأطلق سراح زعيمهم «أجاج» بعد إذلاله وكسر شوكته، فغضب يهوه على «شاول»؛ لأن أوامر الرب كانت: اذهب واضرب عماليق، وحرموا (أي «أبيدوا»، وهو اصطلاح توراتي معروف ومتواتر) كل ماله، ولا تعف عنهم، بل «اقتل رجلا وامرأة طفلا ورضيعا»، بقرا وغنما، جملا وحمارا» (صموئيل أول، 15: 2-3) (لاحظ أن فليكوفسكي «لا يأتي أبدا على ذكر بربرية بني إسرائيل الوحشية تلك بالمرة بطول كتابه، ولا يذكر شيئا عن إباداتهم للرجال والنساء والأطفال حتى البهائم»، لأي شعب يوقعه سوء الحظ في أيديهم، لكنه ينعى وينعب طوال كتابه على العرب الهكسوس، دونما دليل واضح على وحشية مشابهة اتسم بها الهكسوس تشابه وحشية وقسوة بني إسرائيل وربهم يهوه).
المهم أن الرب يغضب على «شاول» لرحمته بملك العماليق «أجاج»، ويسلط عليه عفريتا يلبسه؛ لذلك احتاج شاول إلى إقامة حفلات الزار بالطبول والزمور لتصرف عنه العفاريت، وكان رجل الزار هو «داود بن يسي إمام المغنين والزمارين»، الذي دخل البلاط ولمس حلاوته فطمح إلى الاستيلاء على العرش، بالتعاون مع الكاهن «صموئيل». وبدأ الصراع الذي انتهى بمقتل «شاول » وتسلق «داود» سدة الحكم، ومن هنا قام «داود» يغني على مزماره تلك الأنشودة، التي يقدم فيها الشكر للرب عرفانا، ولا علاقة لهذه التزميرة البتة بحدث الخروج، وقد أرفق «فليكوفسكي» معها شهادات أخرى، كالاستشهاد بمقاطع من سفر «أيوب» المتأخر بدوره عن الأحداث بما لا يقل عن ألف عام، من قبيل «وهو المزحزح الجبال ... إلخ»، وهي عبارات تجدها في التوراة بطولها، أو في أي نص ديني في أي دين آخر لتمجيد عظمة الإله، أي إله، وتصوير قدراته على اللعب بأركان الطبيعة الثابتة لإثبات ألوهيته.
وهكذا يعزف «فليكوفسكي» مع داود على مزماره مرة، وينوح مع بكائيات «أيوب» على حاله المتدهور وتوقعه تدخل الغضب الإلهي مرة أخرى، بنزوع غير خاف لنزع النصوص من سياقها، وتفريغها من دلالاتها الأصلية، لتشهد معه على حدث الخروج الأسطوري. (5) مناقشه الوثائق (5-1) تزييف دلالات بردية لايدن
من المعروف أن بردية لايدن «إبيور» قد نسخت من قبل شخص عاش في الأسرة الثامنة عشرة أو بعدها، عن أصل يعود إلى بداية العصر المتوسط الأول بعد الدولة القديمة، وقد انتهى إلى هذا الرأي - بقرائن لا تهم تفاصيلها إلا المصرولوجيين (السير ألن هنري جاردنر)، ووافقه عليها بعد نشره الترجمة كاملة جمهرة العلماء. والبردية على حالها الراهن تتكون من أربع عشرة صفحة، تشمل فقرات نثرية، وست قصائد شعرية طويلة، وربما كان من الأفضل هنا استحضار كلام «جاردنر» نفسه حول تلك البردية حيث يقول: «إن الفوضى التي ظلت قائمة بصفة مستمرة أو متقطعة حتى الأسرة الحادية عشرة، إنما هي صورة لثورة حقيقية انطبعت في أعجب وأهم بردية من الأدب المصري، الذي استطاع أن يبقى رغم مخاطر الأيام، «ولا ترجع هذه البردية المحفوظة في مجموعة لايدن إلى ما قبل الأسرة الثامنة عشرة»، ولكن حالة البلاد التي تناولتها بالوصف، لا يمكن أن تكون من وصف خيال قصاص أو راوية، ولا هي تصلح لأن توضع في أي مكان من التاريخ المصري، سوى «الفترة اللاحقة لنهاية الدولة القديمة». أما المقدمة فضائعة لسوء الحظ، وقد فقد معها كذلك تسجيل الظروف التي دفعت المتحدث لإلقاء عظته، وهناك أول الأمر مجموعة كبيرة من الفقرات المختصرة تصور حالة الدمار والغزو، التي سقطت البلاد فريسة لها نتيجة عدوان مغامرين منحطي الأصول، وآسيويين يشقون طريقهم إلى الدلتا ... إنها تعكس صورة لما آلت إليه الأرستقراطية المنهارة ... أما الملك الذي يهيل إبيور اللوم على رأسه من جراء ضعفه وتراخيه، فربما كان من آخر فرع بين الملوك المنفيين (آخرهم هو آخر ملوك الأسرة السادسة بيوبي/بيومي الثاني، والإضافة من عندنا) ومهما كان من أمر، فإنه لا نزاع في أصالة بردية لايدن وصدقها، من حيث هي وصف لمصر في العهد الوسيط الأول.»
3
وكان حريا بأي باحث غير متخصص في المصريات وأركيولوجيتها، أن يترك الأمر لأهل مكة فهم أدرى بشعابها، وربما جاز له أن يأخذ بأرجح الشهادات، ليبني بعد ذلك عمله أو كشوفه، لكن «فليكوفسكي» ليس باحثا عادي؛ لذلك رفض كل ما قيل بشأن تلك البردية وركن إلى احتمال ضعيف قدمه «زيته»، ومن ثم رفض نسبتها للعصر المتوسط الأول، وألحقها بالعصر المتوسط الثاني؛ لأنها في هذه الحال ستوافق ما ذهب إليه. بينما نحن سبق أن أقمنا عملا كاملا تأسس على إشارات ل «جاردنر ووبيت وبرستد وإرمان وسليم حسن ونجيب ميخائيل وعبد العزيز صالح ... إلخ»، وهي شذرات تشير إلى تصوير البردية لحال يبدو «كلون من ألوان الثورة، ثم» أقمنا عمد العمل وجمعنا له الدلائل والشواهد مع ما لحقها من استنتاجات؛ بحيث أثبتنا في كتابنا «رب الثورة: أوزيريس عقيدة الخلود في مصر القديمة»،
4
أن الظلم الذي حاق بالجماهير في عصر بناة الأهرام، والفوارق الطبقية الهائلة التي اكتمل نضجها في ذلك العصر، أدت إلى ثورة شعبية عارمة، كانت هي السبب في سقوط الأسرة السادسة والدولة القديمة، وأن بردية «إبيور» ليست سوى واحدة من رجع الصدى الأدبي لتلك الأحداث الجسام.
وهنا أجدني مضطرا لتقديم اعتراف متواضع، مضمونه أني ما كدت أنتهي من قراءتي الثالثة لكتاب عصور في فوضى حتى كان «فليكوفسكي» قد أنشب كل إمكاناته وبراعته في دماغي، حتى وصلت إلى لحظة كادت تكون هي التسليم له بكل ما ذهب إليه؛ ومن ثم كان لا بد أن أعيد النظر فيما سبق أن وصلت اليه في أعمالي المنشورة لي على الأقل، وأن أعلن في أقرب مناسبة تراجعي الكامل عن كل ما وصلت إليه في أبحاثي من باب أمانة واجبة علميا، كما كان ينبغي إذا أردت الاستمرار أن أبدأ من نقطة الصفر مرة أخرى، وأعيد النظر في كل ما وصلت إليه حتى الآن في قراءتي للتراث. وهذا طبعا عدا كم المعاناة التي عشتها ما بين انتماءاتي الوطنية، وبين إصراري على التزام نتائج العلم الصادق - وهي ما تصورت «فليكوفسكي» قد انتهى إليها - حتى لو خالفت أشد الأمور حميمية، وكان الحل هو العزوف الكامل عن البحث والدرس بشكل نهائي.
ولولا محاولة أخيرة في قراءة رابعة لعصور في فوضى، تسعى للاطمئنان اليائس قبل أن أنفض يدي من شئون البحث، قصدت منها مراجعة أخيرة لمكمن سقطاتي البحثية قياسا على نتائج «فليكوفسكي»، لأضعها بين يدي باحث صديق أطمئن لإخلاصه ليأخذ الخطوة المناسبة. أقول: لولا تلك القراءة ما كان ممكنا أن أكتب هذه الصفحات؛ فسرعان ما بدأت تتتالى اكتشافاتي لمكامن الشراك والفخاخ، وبدأ التلفيق يظهر ثم تزييف الدلالات آخذا بعضه برقاب بعض، تلك الشراك التي تمت صياغتها وترتيبها بحرفية عالية الجودة، وبإتقان غاية في الكفاءة.
وهنا لا أجد مندوحة من إطلاع قارئي على فكرة أساسية تتعلق بذات الوثائق التي استشهد بها «فليكوفسكي» من نصوص مصر القديمة، وأدت فيها تلك الوثائق - عندنا - دورا يختلف تماما، وسنكتفي بتلك الفكرة الأس في عملنا «أوزيريس ...» والتي استغرقتها ثلاث أسر في الدولة المصرية القديمة (الرابعة والخامسة والسادسة)، وما أفرزته تلك الأحداث من بنى فكرية. مع عدد من القرائن والبراهين التي تشير إلى ثورة جماهيرية شعبية حقيقية، صاحبتها حركة فكرية نشطة أفرزت للثورة تنظيرها ووضعت لها أيديولوجيتها، تلك الأيديولوجيا التي تمثلت في ديانة جديدة، ورب جديد، يهتم بشئون المستضعفين، ويضع أسس النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي طمح إليه الثوار، وقد تمثلت الأدلوجة في ديانة الإله «أوزيريس»، وهو ما دفعنا لجمع عدد آخر من البراهين لدعم فكرة محورية، هي حداثة ذلك الإله بالنسبة للآلهة الرسمية وشبه الرسمية، وأن ظهوره وافق مقدمات تلك الثورة، مما استدعانا الرجوع إلى ما تركه العصر من تراث أدبي ينطق بما حدث، وكان على رأس تلك الأدبيات «بردية لايدن».
ولا يبقى الأن سوى موقفين يجب أن يثبت أحدهما صدقه الموضوعي: الأول: أن تكون الأحداث التي سجلتها البردية تصويرا حقيقيا لكارثة الخروج كما رواها الكتاب المقدس، والثاني: أن تكون تلك الأحداث تصويرا لثورة شعبية، واعية لأهدافها الطبقية، دلت عليها - في رأينا - روح ثورية في أشعارها، متضمنة مطالب بالعدل الاجتماعي، والتقريب بين الطبقات، مع بعض المحافظة التقليدية الطبيعية تماما، من شاعر حكيم، أتاحت له ظروفه الاجتماعية ذلك القدر من التعليم .
وحتى لا نفعل فعل «فليكوفسكي»، فسنقدم الوثيقة كما ترجمها المتخصصون من علماء المصريات عن الهيروغليفية، ولن نتدخل في النص إطلاقا، فقط سنسقط الأبيات التي يعاد تكرارها نصيا، مع الاستعانة الأساسية ب «سليم حسن»، مع التدخل بالاستعانة بترجمة «جاردنر» في بعض المواضع لما قد نجده غير واضح أو مفهوم لتيسيره على القارئ، كذلك سنستعين بترجمة «هنري برستد» لذات الغرض في أحيان أخرى، وللمدقق أن يراجع وراءنا.
يقول الحكيم «إبيور»:
حقا فإن (... تالف)، وملأى بالعصابات، ويذهب الرجل ليحرث ومعه درعه ...، وحامل القوس أصبح مستعدا، والمجرمون في كل مكان.
حقا إن النيل في وقت الفيضان، ولكن لا أحد يحرث من أجله ...
حقا لقد أصبح المعوزون يمتلكون - الآن - أشياء جميلة، ومن كان يرقع نعليه أصبح صاحب ثروة.
حقا إن القلب لثائر، والوباء قد أنبث في كل الأراضي، والدم صار في كل مكان، ولفائف المومياوات تتكلم. «حقا لقد أصبح الحزن يملأ أصحاب الأصل الرفيع، أما الفقراء فقد امتلئوا سرورا»، وأضحت كل قرية تقول: دعونا نقصي العتاة من بيننا.
حقا لقد أصبحت «الأرض تدور كعجلة صانع الفخار، وصار اللص صاحب ثروة ...»
حقا لقد تحول النهر دما فهل يشرب الإنسان منه؟
حقا إن (... تالف) والعمد والجدران قد التهمتهما النيران ... «حقا إن حجرة الملك لا تزال باقية وتقف ثابتة ...»
حقا لقد «أصبحت التماسيح متخمة بما تقنصه بعد» أن ذهب إليها الناس عن طيب خاطر ...
حقا لقد أصبح ابن الأصل التليد مجهولا، وأصبح ابن زوجته ابن خادمته ... «ونزل أقوام من الخارج إلى أرض مصر ...»
حقا إن الذهب والفضة والياقوت والكرنيليان والبرونز والمرمر (... تالف). «تحلى جيد الجواري، والنبيلات مشردات في الشوارع، وربات الخدور. يقلن: ليت عندنا شيئا نأكله.»
حقا فإن (... تالف) أعضاء النبيلات في حالة يرثى لها إذ «يرتدين الخرق الممزقة ...» «حقا إن صناديق الأبانوس تتكسر وخشب سسنم الثمين يقطع لصنع الأسرة ...»
حقا إن «ألفنتن» و«طيبة» لا تؤديان الضرائب بسبب الحروب الداخلية ... فما فائدة وجود خزانة للدولة بدون دخل؟ ... هذا ماؤنا وهذه سعادتنا ولكن ما العمل؟ وكل شيء ينحدر إلى دمار.
حقا إن الأموات أصبحوا كالأحياء ... «وأصبح لا يميز بين ابن رفيع الأصل وبين من لا أب له»، والجلبة لم تكن بهذه الشدة في سني الجلبة، ولا نهاية للضوضاء ...
حقا لقد «أصبح أولاد الأمراء يضرب بهم عرض الحائط»، وأطفال الشهوة يلقون على قارعة الطريق، وأصبح الإله خنوم يئن تعبا ...
حقا هؤلاء الذين يرتدون الكتان الراقي أصبحوا يضربون، واللاتي لم يسبق أن شاهدهن نور النهار قد خرجن، واللاتي كن على أسرة أزواجهن بتن ينمن على مضاجع مقضة، وأصبحت السيدات يتألمن كالإماء ...
حقا لقد أصبحت الخادمات يوجهن ألسنتهن حيث شئن، وعندما تتكلم السيدات فإنهن يبدين الملل ...
حقا لقد أصبح الولاة بائسين جياعا.
حقا لقد أصبح الأحمق يقول: لو عرفت أين الإله قدمت له القرابين! حقا إن «قلوب الماشية تبكي والقطعان تندب حال البلاد.» «حقا لقد عمت الوقاحة كل الناس.»
حقا «لقد دمر ما كان بالأمس مرئيا ...» «حقا لقد أصبح القوم يأكلون الحشائش ويشربون الماء ... وأصبحت القاذورات تختطف من أفواه الخنازير ... وجرد الملأ من الملابس والعطر والزيت.»
حقا لقد «ذبح الموظفون الرسميون وسلبت منهم سجلاتهم، ودمرت دفاتر كاتب الضرائب، وأصبحت غلال مصر مشاعا.» «حقا لقد وضعت قوانين الحكم في الساحات، وأخذ العوام يدوسونها بالأقدام في الطرقات والفقراء يمزقونها في الأزقة .» «حقا لقد وصل الفقير إلى مرتبة الآلهة التسع ... وازدحمت قاعات المحاكم العليا بالغوغاء، وأخذ الفقراء يروحون ويجيئون في البيوت العظيمة.»
حقا لقد أصبح أولاد ولاة الأقاليم يلقون في الشوارع. «انظر، إن النار قد اشتعل لهيبها عاليا ضد أعداء البلاد.»
انظر، لقد حدثت أمور لم تحدث من عهد بعيد فقد «اختطف الفقراء الملك.» «انظر، إن الذي دفن كصقر يرقد الآن على نعش وما أخفاه الهرم بات خاويا ...»
انظر، إن الناس يظهرون العداء لليورايس (ثعبان التاج الملكي (المؤلف)) حلمي الدرع، الذي جعل الأرضيين في سلام ...
انظر، إن الأرض ملأى بالعصابات ... والثاوين في المقابر ألقوا على قارعة الطريق، ومن لم يكن بمقدوره الحصول على كفن أصبح يملك ثروة ... ومن لم يملك حجرة صار يمتلك فناء مسورا.
انظر، إن كبار القضاة قد طردوا ليهيموا في الأرض ...
انظر، إن النبيلات يرقدن على الفراش الخشن ... ومن لم يكن ينام على مصطبة حجرية بات يمتلك سريرا ...
انظر، إن الرجل الغني يمضي ليلة عطشان، ومن كان يتلقى فضلاته أصبح يمتلك الجعة الفاخرة.
انظر، إن اولئك الذين كانوا يملكون الملابس الكتانية أصبحوا في خرق بالية، ومن كان لا ينسج لنفسه يلبس الكتان الراقي ...
انظر، إن الذي ما كان يستطيع صنع قارب لنفسه أصبح يمتلك سفينة بينما صاحبها ينظر إليها بعد أن سلبت منه ...
انظر، إن من كان يجهل الضرب على العود أصبح يملك الهارب البديع، ومن كان لا يغني له أحد بات تغنيه آلهة الطرب ...
انظر، إن من كان ينام بلا امرأة لفقره أصبح يجد الأميرات.
انظر، إن الفقير أصبح يمتلك ثروة تجلب له مديح العظماء.
انظر، إن من كانوا يملكون خوي وفاضهم ...
انظر، إن الأصلع الذي لا يعرف الزيت أصبح يمتلك أواني العطور الذكية.
انظر، إن التي كانت تشاهد وجهها في الماء أصبحت تملك مرآة.
انظر، إن أبناء البلاط في ملابس ممزقة وماشيتهم منهوبة. «انظر، إلى القصابين يذبحون الماشية للفقراء.»
انظر، إن «القصابين يذبحون الإوز ويقدمونه للآلهة على أنه ثيران (؟!).» «انظر، إن من كانوا ينامون على أسرة ينامون اليوم على الأرض، وذاك الذي كان ينام في الأوساخ يتدثر في سرير.»
انظر، إن من كان لا يمتلك أتباعا أصبح صاحب عبيد، ومن كان من السادة أصبح ينفذ الأوامر. إن الفقراء يستيقظون وهم لا يخشون نور النهار، «وإنها لخيام صنعوها مثل المتوحشين.» «انظر، أين هو ليحاسب الناس؟ ... إنه يطفئ اللهيب، يقال عنه راعي كل الناس، ولا يحمل في قلبه شرا، وحينما تكون خرافه قليلة العدد، فإنه يصرف يومه في جمعها إلى بعضها وقلوبها محمومة ... فأين هو اليوم؟ هل هو بالمصادفة نائم؟ إن بأسه لا يرى (تلفيات شديدة).»
إن القيادة معك والفطنة وأسباب العدالة، لكنك نشرت الفوضى في البلاد مع الفتن، الغوغاء يحدثون الضوضاء. بينما تتلى عليك الأكاذيب والبلاد كالقش الملتهب ... ليتك تذوقت بعض هذه المصائب بنفسك ... (بعد ذلك تلفيات لا تسمح بتكوين فكرة صحيحة أو جملة مفيدة).
5
وتأسيسا على تلك المعاني، اعتمدنا بردية لايدن كوثيقة دالة على الثورة، التي بدأت عمليا وفعليا بانتشار الكفر بالآلهة الرسمية للدولة، حتى صار الرجل الأحمق يقول: إذا عرفت أين الإله قدمت له القرابين، و«الأحمق» هنا تترجم أيضا «المنفعل، ما هو ضد الرزانة والتصرف الكيس عموما». وبينما كان القصابون مشغولين بذبح الثيران للجوعى، كانوا يقدمون للآلهة الإوز على أنه ثيران، وسخرية من آلهة لا تميز في توزيع الأرزاق. ثم الأحداث التي تلت ذلك لإقصاء العتاة وتدمير مباني القضاء الظالم وسجلاتها، ونهب ثروات مقابر الأغنياء والملوك، وبدا أن كل شيء ينقلب رأسا على عقب؛ فالأرض «تدور حول نفسها كعجلة صانع الفخار»، والشطر الثاني من البيت يشرح مباشرة «وصار اللص صاحب ثروة». وتمكن الثوار من القبض على الملك الدي لم توضح البردية مصيره، وهو معلوم على أية حال، وانفلتت الجماهير من عقالها لتدمر بدون تمييز حتى صار نهر النيل بلون الدم لكثرة القتلى وما كانت تلتهمه التماسيح. مع إشارات نادرة ويتيمة لتسلل أغراب للدلتا؛ بحيث بدا الحدث هامشيا بجوار الأحداث الأخرى الجسام، وهو التسلل الذي تم القضاء عليه مع استقرار ملك أسرة أهناسيا الإقليمية إبان العصر المتوسط الأول، حتى يقول أحد ملوكها «خيتي» لولده «مري كارع»: «لا تزعج نفسك بالآسيوي التعس، إن هو إلا آسيوي.» ثم تابع حكام الأسرة الحادية عشرة تطهير البلاد منهم، وعندما يأتي زمن الأسرة الثامنة عشرة لا نجد أي ذكر لوجود آسيوي على أرض مصر إلا العمالة الرخيصة الوافدة باستمرار. وإن كان المعلوم أن ذلك التسلل قد تكرر لكن في شكل غزو كبير للهكسوس جاء بعد سقوط الدولة الوسطى، ولعل إشارة «إبيور» إلى أن الفقراء إبان الثورة، قد أقاموا لأنفسهم خياما في الشوارع مثل المتوحشين، إشارة ساطعة تقطع بأن هؤلاء كانوا ثوارا مصريين يأتون تصرفات تشبه المتوحشين، وهي الوصف المصري للبدو، أما أن تذكر البردية الإله رع والإله خنوم، ولا ذكر إطلاقا للإله آمون ، فذلك في رأينا يشير إلى وجوب نسبة البردية للعصر المتوسط الأول وليس إلى العصر المتوسط الثاني كما يريد فليكوفسكي؛ حيث لم يكن آمون قد ظهر بعد؛ لأنه لم يظهر إلا مع الملك آمنمحات الأول في الأسرة الثانية عشرة من الدولة الوسطى.
هذا ما كان عن بردية لايدن ودلالاتها، فماذا عن تلك الدلالات عند «فليكوفسكي»؟ مع الانتقاء، وملء الثغرات من عنده، لا يجد المرء نفسه إلا أمام حدث كوني عظيم «الأرض تدور حول نفسها، المدن دمرت، الكل خراب، سنوات الضجيج»، هذا مع المقاطع التوراتية مع كل مقطع مقتطع من البردية، مع كلام من لون «إن تلك الهزات كانت متتابعة الحدوث مرة بعد أخرى، حتى تحولت البلاد إلى أنقاض، وانهار نظام الدولة فجأة وأصبحت الحياة لا تطاق، فيقول إبيور: آه لو تتوقف الأرض عن الضجيج، إن بردية إبيور تحتوي على دلالة على حدوث كارثة أرضية مصحوبة بزلزال.»
ولا يفوت المدقق هنا أن تصدير هذه الفصول بعنوان «أرض مصر في جيشان» أو «في ضجيج»، عمد واضح لتزييف الدلالات في البردية؛ حيث عمد إلى الكلمة المصرية «هرو» التي تعني عددا من المعاني مثل «النهار وكل ما يتصف بالوضوح مثل الركض، الثورة، أصوات الشغب والجدل والصراخ، الزمجرة، نفثات الغضب، الصراع»، ليأخذ منها فقط معنى زمجرة الأرض القاصرة على جيشان الزلازل. وغني عن البيان هنا، أن أسلوب المصري القديم في التدوين، له سمات خاصة، وتعبيرات خاصة، ويقصد إلى دلالات يجب الاعتياد عليها مرتبطة ببلاغيات العبارة وتراكيبها، وهو اعتياد من لزوم ما يلزم للفهم السليم لتلك الدلالات؛ فمثلا عندما كان المصري القديم يقول «الأرض» نفهم فورا أنه يقصد مصر تحديدا دون العالم أجمع، وعندما يقول «الناس» يقصد الشعب المصري وحده دون الناس، حتى إنه في البرديات المتأخرة وفي عصور الانحطاط كان المصري يبدي أسفه لأن الأجانب قد أصبحوا من الناس،
6
لكنه يفصل عن دلالات «الأرض» و«الناس» معنى «الحكومة»، بحيث لا تدخل المؤسسة السياسية ضمن تلك الدلالات، فالكلمة الدالة عليها تصبح «برعو» أي السور أو البيت العظيم ، المأخوذ منها كلمة «فرعون»، والأمر هنا يشبه استخدام تعبير «الباب العالي» للإشارة للسلطان أو مقر الحكم العثماني؛ لذلك فإن «إبيور» عندما يتمنى أن تكف الأرض عن الضجيج، يعني تماما أمنية توقف أرض مصر عن الثورة وناسها عن تدمير البلاد.
و«فليكوفسكي» الذي يريد تحقيق المطابقة التامة بين أحداث البردية وأحداث التوراة، لا يعمد إلى التأويل، لكنه يركن إلى قدرته على استخدام الأدوات الفنية في الصياغة والتوصيل، فيمزج كلامه بكلام التوراة بكلام البردية، ويتداخل الكل وسط شوق متأجج يضع فيه القارئ الذي إن التفت إلى الأمر في البداية، فلن يستمر منتبها له وسط زحمة الأحداث وتسارعها. وعندما يدرك «فليكوفسكي» التوقيت المناسب الذي يحتمل أن يكون القارئ قد بات فيه مستسلما له، يدخل مباشرة بكل ثقله ليمرر ما قد لا يتفق إطلاقا مع فروضه، ويربط بين ما لا يمكن توافقه بين البردية والتوراة؛ فبينما كان الحديث عن الدم في النهر لضحايا الثورة، وتماسيح النيل، يصبح حديثا عن تحويل مجرى النهر دما، دون الإشارة إلى ثورة أو تماسيح، ويأتي بالنص «هذه مياهنا وهذه سعادتنا فماذا نفعل؟» لتشير دون أي وجه لتشابه مع نص التوراة «مات السمك الذي في النهر وأنتن النهر.» ولما لا يجد بالبردية نصا واحدا يشير إلى ضربة البرد لا يجد بأسا من الاستشهاد بنصوص تشير لنتائج الثورة الوخيمة، كإهمال شئون الفلاحة والري من قبيل «لا فاكهة ولا محاصيل موجودة» كما يجعله أيضا دلالة على ضربة الجراد الذي لا يوجد لها أي ذكر بالبردية، لكنه يجد صيدا ثمينا في النيران التي أشعلها الثوار في المباني الحكومية ليطابقها مع التوراة «وجرت نار على أرض مصر»، لكن الفاضح في الأمر أنه لا يزيف الدلالات فقط، بل يبلغ حد التزوير التدخل في بنية النص عندما يضيف من عنده داخل علامات تنصيص تنص على اقتباس نص من البردية «والنار التي أهلكت الأرض لم تنشرها أيد بشرية لكنها سقطت من السماء.»
وأحيانا يحمل الألفاظ فوق طاقتها، كما في تعقيبه على نص البردية «أحقا اختفى ما كان بالأمس مرئيا»، رغم أن المصري لم يزل حتى اليوم يستخدم كلمة «بالأمس» للدلالة على وقائع وأحداث مرت عليها أجيال. أما انتحاب الماشية على أحوال البلاد، وهو تعبير شائع في الكتابات المصرية، فيتحول بقدرة قادر ليلتقي مع قول التوراة: «يد الله تكون على مواشيهم التي في الحقل، على الخيل والحمير «والجمال» والبقر والغنم ... سيفتك بها طاعون.» والمثير أن مصر لم تعرف في تاريخها القديم ولا نقوشه ولا ألفاظه ما يشير إلى معرفتها بالجمل، أما الأكثر إثارة فهو أن فليكوفسكي قد فاته أن المصريين لم يعرفوا الحصان والعجلة التي تجرها الخيل إطلاقا وبالقطع، قبل قدومهما مع الهكسوس الغزاة. وحسب نظريته هو، فإن بني إسرائيل خرجوا من مصر قبل دخول الهكسوس إليها؟!
ولأن التوراة تتحدث عن ضربة البرد، ولا برد في البردية، فإن «فليكوفسكي» يتقصى حتى يجد معلومة يتيمة في كتاب وضعه «أرتبانوس» عن أحداث غير معلومة المصدر، نقلها عن «إيسابيوس» يحكي فيها عن صقيع وزلازل أثناء ليلة البلاء الأخير «حتى إن أولئك الذين فروا من بيوتهم خوفا من الزلزال قتلهم البرد.» والمعلوم أن «إيسابيوس» راوية مرتبط بروايات التوراة في كثير من تخريجاته، أما الكتاب الأصلي الذي وضعه «أرتبانوس» ونقل عنه «إيسابيوس» فهو كتاب مجهول، ولم تكتشف منه نسخة واحدة اليوم !
وكان معنى أن يسقط «فليكوفسكي» من اعتباراته الإشارات الكثيفة والواضحة والمتكررة إلى الثورة الطاحنة، أن يلحق الشك عمله بكامله، ولأنه أذكى من ذلك، فقد خصص فصلا بعنوان «البكر أو المختار» ليفرغ فيه المحتوى الثوري ودلالته، ليصب في دلالات أخرى توافق التوراة. ولأنه من جانب آخر لم يجد في التوراة ذاتها ما يشير إلى تلك الثورة الشعبية الطبقية، فقد جعل من فصله متاهة للقارئ بعبقرية يحسد عليها، مهد له بفصل «الليلة الأخيرة»، وألحقه بملاط لاصق جيد التماسك في فصل «تمرد وفرار»؛ بحيث أصبحت كل نصوص البردية التي تتحدث عما لحق الأغنياء والفقراء من تحولات، وما آل إليه أبناء النبلاء من مصير بالقتل أو التشرد، إنما حديث واضح عن الضربة الأخيرة في الليلة الأخيرة ؛ حيث سفك رب التوراة دم المصريين في تلك الليلة، ولم يعد قانعا بقمله وذبابه وبعوضه وجراده وضفادعه، فنزل تقتيلا لكل بكر في كل بيت، إنسان أو بهيمة، مع الأخذ بالحسبان أن تلك الضربة لم تلحق أيا من بني إسرائيل أو مواشيهم، بعد أن ميزوا بيوتهم للرب الذي هبط يتخبط كرها وفظاظة، والتاثت روحه برائحة الدماء سعارا، وذلك بأن قام بنو إسرائيل يرشون دماء الحيوانات على أبواب بيوتهم كعلامات للرب الهائج، كي يظن أنه قد سفك دم أهلها فيعبر عنها.
7
ويؤكد الرجل نظره في مقتل المختارين من مصر بنص البردية «انهار المسكن في لحظة»، بحيث إن الزلزال قتل سكان المنازل الفخمة، والبيت الملكي تحديدا (رغم نص البردية على سلامته)، لكن السؤال المشروع هنا هو: كيف أمكن لزلزال بهذه الشدة أن ينتقي انتقاءين متميزين: الأول: أن يصيب المصريين ولا يصيب الإسرائيليين (ولا يمكن في هذه الحال قبول حجة أن الإسرائيليين كانوا يسكنون بعيدا عن المصريين في مصر، وإلا ما ميزوا بيوتهم بالدم، وما تيسر لنسائهم استعارة ذهب المصريات الساكنات معهن ونزيلات بيوتهن لسلبه ليلة الخروج حسب نصيحة موسى لهن وحسب نص التوراة).
8
أما الانتقاء الثاني غير المفهوم، فهو «كيف أمكن لزلزال أن ينتقي أغنياء مصر ويميز أمراءها ويصيبهم دون الفقراء ؟» إن الكارثة الوحيدة والوباء الوحيد الذي يمكن أن يفرز هذا الفرز هو ثورة طبقية واعية، وهو ما يفسر لنا بقاء المعابد الضخمة والأهرام وغيرها من آثار سبق بناؤها العصر الذي نحن بصدده، ولم يشر إليه «فليكوفسكي» إزاء زلزاله العظيم.
ويلاحظ القارئ هنا كاتبنا - وهو بسبيل التغلب على العقبة الكأداء بالبردية، وما تحمله من أحداث تشير إلى ثورة الجماهير المصرية ضد طغيان النبلاء والملك - يروح ويجئ قبل إلقاء ما في جعبته فيقلب أكثر من حقيقة رأسا على عقب؛ فهو يحول الحديث عن السجن الذي حطمه الثوار لإطلاق المعتقلين، إلى حديث آخر يقول: «لقد حرك مشهد أبناء الأمراء المسحوقين على أرض الشوارع الصخرية المظلمة (لا توجد في مصر شوارع صخرية بالمناسبة)، والجرحى والموتى بين الأنقاض، حرك لوعة وأسى الشاهد المصري، ولم ير أحد ما حدث في أقبية السجن، تلك الأقبية التي حفرت تحت الأرض وأغلقت أبوابها على السجناء (الرجل هنا يصور لنا مصر كما لو كانت أوروبا العصور الوسطى)، ولم ير أحد العذاب الذي تعرضوا له حين انهارت تلك الأقبية فوق رءوسهم ودفنتهم أحياء تحت الأرض»، وكل ذلك جاء فيما يرى في العبارة اليتيمة، التي بحثنا عنها عبثا، وتقول «السجن حطام.» وأبدا لم نجدها.
أما كفر الناس بالآلهة الرسمية وتطاولهم عليها، فهو ما يشير إلى قول التوراة «وأصنع أحكاما بكل آلهة المصريين.» ونبش قبور الموتى الأثرياء أصبح عنده «ولم تكن الأرض أكثر رحمة بجثث الموتى في قبورهم؛ فالمقابر لفظت موتاها وتمزقت الأكفان.» أما الدليل فمن الهجادا التي كتبت بعد ذلك بما يصل إلى ألفي عام.
كل هذا وورطة الأحداث الثورية قائمة، لكن الآن قد خفت حدتها في ذهن القارئ، ويسهل عندئذ أن يسوق تخريجه الضعيف المتكلف والمبتسر، في كون إصرار البردية على تعرض أبناء الأمراء والحكام فقط للقتل والتشريد، هو موافقة تامة للتوراة، التي قررت قتل الرب لأبكار المصريين. والأبكار في تفسيره ليست سوى أبناء النخبة والطبقة البكر المصطفاة، ولأنه لا يمكن - عقلا - قبول أن يكون يهوه قد أمضى ليلته يمارس نزوته الشاذة في قتل أطفال الأغنياء، فلم يبق أمام «فليكوفسكي» سوى مزج فكرة الثورة - التي يعترف بها بسرعة وبألفاظ غير حاسمة - بإرادة الرب «يهوه»، وينتهي إلى أن ربه انتقم من المصريين بقتل المختارين المميزين من النبلاء والمترفين. ثم يردف فورا بما يشعر القارئ بمدى موضوعيته ونزاهته فيقول: «وبرغم أن البردية المهترئة «لم تحتو على أي ذكر للإسرائيليين صراحة أو تلميحا، ولم تشر إلى أي من قادتهم (؟!).» فإن ثلاثا من الحقائق ظهرت بوضوح تام كنتيجة للكارثة، أو مجموعة الكوارث المتتالية، وهي: تمرد السكان، فرار البؤساء والمساكين المسخرين للعبودية، واختفاء الملك في ظروف غامضة. وبالرغم من التطابق الوصفي للكوارث بين ما ذكرته البردية، وما سردته أحداث الكتاب المقدس، فإنني إن حاولت أن أستخرج من البردية أكثر من الحقائق، فقد أعرض نفسي للريب والظنون، بمحاولة استغلال الحالة السيئة التي وجدت عليها البردية، لإثبات نتائج مسبقة بتضمينها ما لم تتضمنه. لكن الإشارة للكارثة، والجماهير التي تمردت وفرت ليست غامضة، ومعناها واضح وليس فيها أي مجال للبس أو غموض ... «وهي زلازل متتابعة» صاحبت ظواهر طبيعية أخرى اجتاحت أرض مصر، «صاحبها أكثر من بلاء» سبب هلاك الإنسان والحيوان والنبات، وإتلاف كل مصادر المياه.»
والرجل هنا، وهو يلبس ثوب العالم النزيه والأمين، يقوم بأكثر من تلفيق، وأكثر من تزوير لدلالات الوثيقة، فإذا كان السكان قد تمردوا فهذه حقيقة، وأن يكون المعتقلون قد فروا من الحبس فهي حقيقة أخرى، لكنها لا تشير بالمرة إلى فرار بني إسرائيل من عبودية مصر إلى فلسطين، أما ما يسميه اختفاء الملك في ظروف غامضة، فهو إشارة ذات تخابث واضح على عقل القارئ، وتذهب به فورا إلى فكرة الغرق في البحر.
أما أن يطابق بين النص البردي «انظروا، إن النار قد اشتعل لهيبها عاليا ضد أعداء البلاد، وترجمها هو «أمام أعداء البلاد»، وبين نص التوراة «وكان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلا في عمود نار ليضيء لهم.» فهو افتئات واضح على اللفظة المصرية التي تفيد معنى «مقابل» والتي ترجمها «سليم حسن» بمعنى «ضد»، والتي تحمل ضمنيا معنى أن لهيب الثورة كان إشارة للبدو بتجاوز حدود مصر وهي في حالتها المتردية، وهو ما توضحه البردية دون لبس في قولها - حسب ترجمته هو - «ماذا حدث؟ لقد علم الآسيويون بحال البلاد.»
وعن قول «إبيور» في النص الفليكوفسكي: «إن ذلك لم يحدث لأي فرعون آخر قط.» فهو ليس إشارة لغرق جلالته إنما لخطف الفقراء لجلالته، وربما محاكمة جلالته، وربما إعدام جلالته.
إننا نقرر مع التاريخ التقليدي، الذي لم يعجب «فليكوفسكي»، والذي لم يذكر بني إسرائيل بالمرة إلا في نص مرنبتاح المعروف، «أن البدو الذين تسللوا إلى البلاد إثر الثورة، في العصر المتوسط كانوا شيئا يختلف تماما عن غزو الهكسوس الذي دخل بجحافله في العصر المتوسط الثاني»، وأن الغزو الأول كان تسللا غير ذي بال و«لا تزعج به نفسك، إن هو إلا آسيوي.» وأن أصحاب الغزو الأول أطلق عليهم اللسان المصري «العاموحريشع» أي البدو فوق الرمال، أما الغزو الثاني فكان باللسان المصري «حقاو-خاسوت» التي نطقت عند «مانيتون» «هكسوس»، ولم يخلط التاريخ في وثائقه بينهما ولا مرة واحدة. (5-2) تزييف دلالات حجر العريش «من سيهتم حقا بالبحث وراء رجل بهذا القدر من الاجتراء؟ أو من سيشك أصلا في قرائن تركب بعضها فوق ذهن قارئ أسلم قياده لمفكر يبدو بهذا القدر من النزاهة؟ وعليه من سيهتم مع الصدمة النفسية الوجدانية بالبحث والاهتمام؟ أو من سيجد نفعا يرجى بمراجعة نصوص قديمة بعد الصدمة العقلية لكل ما تعارف عليه التاريخ والمؤرخون؟ أو من سيجد في ذاته بواعث تدفعه للسعي وراء نص لا تجد له ذكرا في أغلب المصنفات التي تناولت مصر القديمة؟ وربما كان على الباحث المصر على التأكد أن يذهب بنفسه إلى متحف الإسماعيلية ليستفسر عن «حجر العريش» ومصيره، وعن ترجمته الصادقة، وله وعد مني أنه سيعود بعد ذلك يائسا من كل شيء، بعد كم اللامبالاة والاستهانة والاستخفاف التي سيلقاها من مؤسساتنا العتيدة.»
فما هو حجر العريش؟
لقد حكى لنا «فليكوفسكي» قصة العثور عليه بكثير من الصدق، ثم حكى لنا القصة المدونة عليه بما هو أكثر من الإفك، فحمل النص فوق ما يحتمل،وأنطقه بدلالات لم يقصد إليها ولا خطرت ببال الرجل الذي قضى ينقره بالإزميل زمنا؛ فالنص عند «فليكوفسكي» يحكي بلسان مبين عن بلوى عظيمة تعرضت لها مصر القديمة، من عواصف، وجيشان للأرض، ودمار، مما حدا بالفرعون المدعو «توم» والذي أكد كونه كان ملكا أن اسمه قد جاء مدونا على حجر العريش في خرطوش ملكي، إلى جمع جيوشه، ووعد جنوده في ظل الظلام الذي حل بالبلاد، أنهم سيرون النور من جديد بقوله: «سنرى أبانا رع حر أختي في منطقة باخيت المضيئة»، و«رع» هو إله الشمس المصري كما هو معلوم، هذا بينما الملك قد أضمر غرضا آخر ، فقد «ذهب صاحب الجلالة لمحاربة أبوبي وزمرته.» لكن النتيجة كانت وخيمة على الفرعون وجنده، لأنه «حين قاتل جلالة الملك رع حرماكيس (نظرا للتضارب بين حر أختي، وبين حرماكيس، يضع فليكوفسكي هنا علامة استفهام وعلامة تعجب)؛ حيث قاتل إله الشر بالقرب من البحر مكان الدوامة، فإن إله الشر لم يتغلب على جلالته، «ولكن جلالته هو الذي اندفع إلى دوامات البحر».» «وإذا كانت المنطقة المضيئة اسمها «باخيت» فإن «فليكوفسكي» بعد صفحتين، وبعد مرور كثير من الأسماء الغريبة الكفيلة بنسيان الاسم الأصلي، يعود لذات النص ولكن الكلمة تصبح هذه المرة «بي خاروتي»، وذلك كي تلتقي مع كلمة «بي هحيروث» العبرية، التي تشير للموقع الذي توقف فيه الإسرائيليون قبل عبور البحر مباشرة والمترجمة في التوراة العربية إلى «فم الحيروث»، ولأن «باخيت» بعيدة فيلولوجيا عن «بي هحيروث» فإنه يضع بينهما متوسطا مزورا لم يرد بحجر العريش هو «بي-خاروتي».»
ونستمر مع «فليكوفسكي»: «خرج ابن الفرعون صاحب السمو جب ليبحث عن أبيه، وقد أخبره شهود العيان بكل ما حدث لرع في بات نيبيس ... والصراع الذي خاضه الملك توم.» ولا شك أن المدقق سيتوه هنا وهو يحاول معرفة اسم ذاك الذي خاض الصراع وغرق في دوامات البحر، هل هو ملك باسم «رع» أم باسم «توم ». لكنه يعلمنا بعد ذلك أن أبناء «أبوبي» قد غزوا البلاد ليحطموها، وسلبوا الابن «جب» عرشه، بينما اعتزل هو في مسكن ناء، ربما كان منفى اختياريا أو إجباريا.
وبينما أهمل «فليكوفسكي» الاسم «رع» تماما كما لو كان غير موجود، فقد ركز على «توم»؛ لأنه الاسم الذي سيلتقي مع الاسم الوارد في التوراة، للمدينة التي استعبد الإسرائيليون في بنائها لفرعون الخروج، واسمها «فيثوم»، ويمكن نطقها «فيتوم» و«بي توم»، وفي هذه الحالة يصبح معناها «منزل توم». ولا ينسى أن يربط ببراعة، بين إشارة «مانيتون» المؤرخ المصري العظيم - الذي سبق أن هاجمه وسفه آراءه وتاريخه لكنه احتاجه الآن - إلى فرعون الخروج باسم «توتيماوس»، ويرى أن الاسم يحوي في تركيبه شقا هو «توم».
لكن أي مهتم بالتاريخ الديني لمصر القديمة، سيعرف كم كان «فليكوفسكي» ملفقا؟ وكم كان بارعا؟ لأن القصة المنقوشة على حجر العريش ليست سوى ترديد لأسطورة دينية قديمة، اعتقد فيها المصري منذ فجر التاريخ، وأن الأسطورة قد صيغت في أسلوب التعاويذ السحرية، التي يتم ترديدها في زمن محدد، لدرء خطر عظيم سيلحق بإله الشمس المصري، وبالتالي بمصر جميعا. وكان إله الشمس ذاك يحمل الاسم المركب «رع أنوم» أو «آتوم رع». ومنذ استقرار الإنسان في الوادي، أدرك أهمية الشمس في تجفيف التربة والمستنقعات، وفي نضوج النباتات، لذلك حظيت بأهمية بلغت بالشمس سمت السيادة بين الآلهة، وبحيث أصبحت الرب الرسمي للدولة. وقد ارتبطت الشمس بعناصر أخرى لازمة لحياة الإنسان والنبات، هي حسب أهميتها: الهواء، والرطوبة أو الندى، والتربة أو الأرض، والسماء التي هي مقر «رع آتوم». وفي واحدة من الصياغات الدينية لمدينة «أون» المقدسة، نجد إله الشمس يخلق من ذاته بالاستمناء - إيغالا في توحيده وحتى لا تكون له شريكة - إلها ذكرا هو «شو» إله الهواء، وإلهة أنثى هي «تفنوت» إلهة الندى أو الرطوبة. ويتزوج «شو» و«تفنوت» لينجبا إله الأرض «جب» الذي يحتسب وفق تلك الصياغة حفيدا لرع آتوم، وابنا ل «شو» و«تفنوت»، بينما في صياغة أخرى يأتي «جب» كأب لإله الشمس «رع ».
ولأن أهم وسيلة نقل للمصريين هي الإبحار في النيل، فقد تصوروا أن هناك نيلا آخر في السماء، هو الذي يؤدي إلى سقوط الأمطار أحيانا.
9
وأن دورة الشمس اليومية تتم بإبحار «رع» في النيل السماوي، في مركب أسموه «مركب الشمس»، تجوب به السماء من الشرق إلى الغرب نهارا، لتنتقل إلى زورق آخر مع الغروب لتعبر به سماء سفلى أثناء الليل من الغرب إلى الشرق، وهكذا دواليك. أما تلك اللحظة التي يتم فيها الانتقال فكانت أخطر اللحظات إطلاقا؛ حيث كانت غالبا ما تدور حرب هائلة ودموية يظهر أثرها في لون الغسق الناري وفي لون الشفق؛ فالرحلة الإلهية لم تكن تتم دوما في بهاء وسلام؛ لأن هناك إلها للشر هو الأفعى الضخمة الأفعوانية «أبوفيس» وجنوده ، يكمن في لحظة الظلام ليداهم زورق الشمس ويبتلع إله النور، لذلك كان يحرس الإله في مركبه بحارة وجنود وحاشية، تخوض معارك شرسة ضد إله الظلام والشر «أبوفيس»
10
حتى لا تسمح له بابتلاع الشمس الذي يعني خراب الزرع والضرع، وتحول البلاد إلى بادية جرداء، لذلك ألحق المصريون باسم «أبوفيس» العلامة الهيروغليفية الدالة على الصحراء والجدب، وهي ذات العلامة المستخدمة لكل ما يمت للصحراء والشر والجفاف والظلام بصلة.
ومن هنا لا بد من وجود جيوش الخير بصحبة «آتوم رع» لقهر التنين «أبوفيس» وجنوده، وهو اعتقاد مرده إلى اعتقاد آخر شاع في أقطار الشرق القديم - ولم يزل - وهو أن كسوف الشمس أو خسوف القمر، ناجم عن ابتلاع ثعبان ضخم أو شيطان أو مجموعة من الجن للجرم السماوي. وما زال الأهلون في قرانا يخرجون بالطبول والعصي والسيوف في جماعات منظمة تمثل جنود الخير تهلل وتكبر لمساعدة الجرم عند ظهور حالة الخسوف، لتخويف الثعبان ليطلق الجرم السماوي. ومن هذا اعتقد المصري القديم في تعرض «آتوم رع» أحيانا، بل وفي أي وقت، للالتهام أثناء إبحاره في دوامات النيل السماوي؛ لذلك وضعوا تلك الترتيلة السحرية المعوذة لمساعدة إله الشمس على الهروب من «أبوفيس» والإبحار السريع في مياه السموات العظيمة؛ حيث لا يتمكن «أبوفيس» من اللحاق به أمام جحافل جيش الخير التي تعطله دوما عن غايته الشريرة. وقد صيغت ترتيلة «فشل التنين» عدة صياغات متواترة في نقوش متعددة في مواضع مختلفة بالوادي، وليس على حجر العريش وحده، وتستخدم التعويذة خاصة عند الغروب حيث تختفي الشمس في الظلام وتكون أكثر تعرضا للابتلاع، وربما لا تعود للظهور في اليوم التالي. وإن الشمس كان دوامها النهاري يتناقص في فصل الشتاء (هو فصل الجدب) إلا لأنها كانت تخوض حربا مريرة مع جيشها كل ليلة ضد الشيطان «أبوفيس»، الذي لا يستقوي إلا في فصول الجدب الباردة.
ومطلع النص معنون ب «فاتحة قهر أبوفيس عدو رع وعدو الملك أون نفر (اصطلاح ملكي يشير لأي فرعون بمعنى له الحياة)، له الحياة والفلاح والصحة ... كتاب معرفة الخلق لرع وقهر «أبوفيس»، الكلام الذي يتلى»، ثم يبدأ المقطع الأول بترديد عظمة أتوم رع باعتبار الخالق «قال إله الجميع بعد أن جاء إلى الوجود ... (هنا حديث طويل عن خلقه للآلهة من أبنائه وأحفاده ومنهم «جب رب الأرض» ... «أمرتهم بإبادة أعدائي بواسطة السحر» الفعال لحديثهم، وأخرجت هؤلاء الذين جاءوا إلى الوجود من جسمي أن تصب عليه لعنة ... «ينتصر رع عليك ... هكذا تكون في مركبك»، ستعبر السماءين في سلام ... إلخ.»
11
وهكذا يهمل «فليكوفسكي» اسم «رع» تماما من النص، ويفصل عنه «أتوم»، ويحذف الهمزة ليصبح «توم» حتى يلتقي باسم الموضع التوراتي «بي توم». ثم تصبح المعركة ضد ظلام الكسوف، معركة الفرعون «توم» مع الملك الهكسوسي «أبوب» عند موضع عبور بني إسرائيل الميامين «بي حيروث». ويتحول إسراع «أتوم رع» بالهرب من أبوفيس (حيث كانت مهمته الهرب دوما والحفاظ على ذاته بينما يحارب جنوده عنه ليهرب) إلى الماء السماوي؛ يتحول إلى فرعون يندفع مع جيشه إلى دوامات البحر (وعليه نفهم أنه غرق رغم أن القصة ليس فيها أي غرق). وبكل براعة يطابق بين اسم التنين «أبوفيس» وبين اسم الملك الهكسوسي «أبوب» مع استثمار عدم معرفة القارئ غير المتخصص لمعنى «خرطوش»، فيشير إلى أن وجود اسم «توم» محفورا على خرطوش يشير إلى كونه كان ملكا لأنها الصيغة المصرية المتبعة لكتابة أسماء الملوك. بينما المعلوم لدى أي مهتم بالمصريات أن الخرطوش كان لتدوين أسماء الآلهة، في المقام الأول، ثم لتدوين أسماء الملوك المؤلهين، أو الحاكمين بحق النسل الالهي في المقام الثاني؛ لذلك كان طبيعيا أن ينقش سم «رع آتوم» داخل خرطوش. أما اسم حالة ما بين النور والظلام شبه المضيئة بين ذهاب النهار الذي أظلم، وبين قدوم ظلمة الليل، فيتحول من التسمية «باخيت» التي تدل على الخوف من الظلام وما قد يحيق برب الشمس، ولم يزل يقولها المصري إلى اليوم تخويفا «بخ»، تتحول إلى «بي حيروث» التوراتية.
ثم إن «فليكوفسكي» يضع علامة استفهام وعلامة تعجب من تلقيب «رع» مرة بلقب «حر أختي» ومرة بلقب «حرماكيس»، وهو ما يشير إلى أنه يوحي لقارئه، أنه قد لمس خطأ في النص ربما يرجع لجهل من كاتبه. لكن معنا ربما انصرف الذهن الأن إلى جهل في «فليكوفسكي» ذاته. لكن الرجل حتى الآن أثبت براعة تجعلنا ننأى به عن صفة الجهل، لكنها لا تنأى به عن العمد إلى التزوير؛ لأن «حر أختي» هو اسم الشمس أو لقبها في حالة الشروق، أما «حرماكيس» فهو عندما تكون في حالة الغروب ويمثلها حينئذ أبو الهول، واللقب الحوري لإله الشمس «رع آتوم» يشبه الشمس بالحر أو «حور» الصقر. إنها تطير كالصقر، إضافة لما يحمله لفظ «حر» من معنى الحرارة.
و«فليكوفسكي» وهو يقوم بهذه التلفيقة الكبرى، يعمد إلى ترجمة «نتر» ومرادفاتها بالقصة إلى ملك، وهي إن صلحت للدلالتين إله وملك، فإنها تستعمل عادة للإشارة للآلهة، أما «جب» إله الأرض، وحفيد «رع آتوم» فيصبح عند «فليكوفسكي» الأمير الملكي الذي فقد عرشه بعد غرق أبيه بمعجزة البحر الملفوق بالعصا السحرية، ولأن حجر العريش فيما يبدو كان تسجيلا لحالة هامة من حالات الكسوف، فقد قام جب بالدور المطلوب منه حسب نص التعويذة والذي من أجله وجد أصلا هو وأشقاؤه من آلهة؛ فخلقهم كان بغرض حماية «رع آتوم» من «أبوفيس».
لكن من المهم هنا أن نسجل للعالم البارع «فليكوفسكي» سقطة لا تليق به؛ فالسرد هنا جميعه يتناول «حربا خاضها الفرعون - حسبما يقول - ضد الملك الهكسوسي «أبوفيس»، إذن لم تكن مطاردة ضد الإسرائيليين» - حتى لو أخذنا بتزويره - وحتى يلتقي النص مع الزمن الذي حدده لدخول الهكسوس، وهو ذات الوقت الذي خرج فيه بنو إسرائيل، «فلا بد أن يكون الملك الهكسوسي ليس «أبوفيس»، إنما يجب أن يكون «سالاتيس» أول ملوك الهكسوس على مصر؛ لأن «أبوفيس» الأول وليس الثاني أو «أبوب الأول» هو الملك الرابع من ملوك الهكسوس الفعليين على مصر، وليس ملك الغزو، ولو ذهبنا إلى كونه ربما كان «أبوفيس» أو «أبوب الثاني»، فإن ذلك يعني أن تلك الحرب قد حدثت في آخر عصر الهكسوس، وهو ما يبعد أربعة قرون عن عصر خروج بني إسرائيل حسب تاريخه هو وتزمينه للأحداث.»
الحقيقة أن الرجل رغم براعته، ورغم أنه أمتعنا فعلا بأكبر عملية تزوير وتلفيق، فإنه كبا حتى الآن لأكثر من كبوة، أما هذه فكانت سقطة شديدة. (5-3) تزييف دلالات بردية الأرميتاج
اكتشف بردية الأرميتاج المصرولوجي «جولنشيف»، وقام بترجمتها ودرسها وتحقيقها وتحليلها كل من «بيت وبرستد وإرمان وجن وجاردنر»، وهي محفوظة الآن بمتحف «ليننجراد»، وتحوي نبوءات الكاهن المرتل «نفررحو». وتدعي البردية أنها ألقيت في حضرة الفرعون «سنفرو» أحد أوائل ملوك الأسرة الرابعة من الدولة القديمة. وفي رأينا أنه قد دخلها على حالتها التي وصلتنا أكثر من خدعة: الأولى في كونها تحكي عن أحداث تخص عصرا، وكتبت في عصر آخر ونسبت إليه، وقد ذهبنا في كتاب «أوزيريس ...» «أنها كتبت في عصر الثورة في العصر المتوسط الأول في نهاية الدولة القديمة، وأعطيت قيمة تقليدية - حيث القديم يكتسي القداسة والتبجيل - بنسبتها إلى عصر موغل في القدم، عصر «سنفرو» قبل عصر الثورة بقرون طوال.» «أما الخدعة الثانية فهي في نسبتها لعصر موغل في القدم قبل الأحداث التي تروج لها بالفعل، مما يكسبها قدرة أعظم على التنبؤ.»
والخدعة الثالثة التي ربما جازت على كثير من الباحثين، فهي أنها استثمرت مرة ثالثة في عصر يخالف العصرين السابقين: عصر «سنفرو» وعصر الثورة، بأن أضيف إلى متنها الأصلي نصا إضافيا ألحق بآخرها، وهو النص الذي - بعد سرد أحداث الصراع الاجتماعي، وتسلل الآسيويين إلى البلاد - يضيف نبوءة بملك منقذ يأتي ويخلص البلاد من كبوتها، أشارت إليه باسمه المختصر «آميني». وذهب المؤرخون إلى أنه هو «آمنمحات الأول» مؤسس الأسرة الثانية عشرة من الدولة الوسطى، مما حدا بهم إلى تزمينها «بإثبات تاريخها في عصر ذلك الفرعون، وأنها كتبت في عهده ثم نسبت إلى أيام «سنفرو»، كي تتحول إلى لون من ألوان الدعاية لآمنمحات كملك عادل منقذ»، وهو ما نوافق عليه تماما. لكنا سقنا في المقابل عددا من القرائن التي تشير إلى أن «الجزء الأخير الذي يتنبأ بالملك المنقذ «آميني» هو فقط الذي تصح نسبته لعصر «آمنمحات»»، وأن هذا الجزء قد أضيف بالفعل أيامه أو قبل صعوده سدة العرش بزمن يسير، وكان معلوما باليقين للكاتب الذي أضاف تلك النبوءة أن «آمنمحات» لا بد سيصبح ملكا للبلاد. أما بقية متن الوثيقة فكان بالفعل يسبق عصر «آمنمحات» بزمان، «وأن ذلك الأصل قد تم تدوينه زمن الثورة، وبالتحديد أيام فوضى العصر المتوسط الأول»، وهكذا أصبحت الوثيقة تبدو بكاملها كرؤية تنبؤية بقدوم «آمنمحات».
أما السر في عدم اليقين من التأريخ الصادق لزمن الأحداث الواردة بها، أنها لم تدون بالفعل على النسخة التي وصلتنا إلا في عهد الدولة الحديثة، من قبل كاتب عاش في القرن 1500ق.م؛ حيث ظهرت له أهمية النص الأصلي الذي بدا موشكا على التلف، فقرر نسخه والاحتفاظ به، ولما لم يجد بردية خالية عنده قام بنسخها على ظهر بردية كان يستخدمها لإجراء حساباته الخاصة، وبذلك وصلتنا نبوءة «نفررحو» بالصدفة البحتة، بما تحويه من غموض ومن أغلاط كثيرة حدثت نتيجة النسخ عن نص قديم يختلف أسلوبه عن أسلوب عصر الناسخ.
وترجع أهمية الوثيقة لكونها - في رأينا - «دونت لأول مرة في عصر الثورة بالعصر المتوسط الأول»، لكنها بعكس «إبيور» الذي ركز اهتمامه على أحداث الثورة، فإنها «ركزت اهتمامها على تسلل الآسيويين للبلاد»، فألقت الضوء على ما أهمله «إبيور» وساقه في شذرات لا تعطي تفصيلا عن ذلك التسلل بشكل واف، وهنا يجدر بنا أن نضيف أنه ليست فقط مؤخرة البردية هي التي أضيفت إليها في عهد «آمنمحات»، بل إن بالمدخل شواهد واضحة على كونها بدورها تمت إضافتها في عهد «آمنمحات».
الوثيقة تبدأ بالملك «سنفرو» جالسا وسط حاشيته: «وقال لهم جلالته: يا إخوتي لقد أمرت بطلبكم لتبحثوا لي ... عن أي شخص يتحدث بكلام جميل وألفاظ منتقاة، عندما أسمعها أجد فيها تسلية، عندئذ سجدوا ... وقالوا ... يوجد مرتل عظيم للإلهة باست يا أيها الملك، اسمه نفررحو، وهو «رجل شعبي قوي الساعد» وكاتب حاذق الأنامل ... فقال جلالته: اذهبوا وأئتوني به ... فقال المرتل نفررحو: هل تريد كلماتي عما حدث أو ما سيحدث يا مولاي الملك؟ فقال جلالته: لا، مما سيحدث؛ لأن الحاضر قد أتى إلى الوجود يمر بنا، ثم «مد يده إلى صندوق مواد الكتابة، وأخذ قلما وقرطاسا ومدادا وكتب: كتابة ما تحدث به الرائي نفررحو». ابن مقاطعة عين شمس، حينما كان يفكر فيما سيحدث في الأرض، ويفكر في حالة الشرق حينما أتى الآسيويون بقوتهم» (ولنلحظ أن نفررحو من عين شمس بالدلتا، مما يجعله أقرب إلى معايشة أحداث التسلل البدوي بل وكان في مركز هذا التسلل في بوبسطة معبد الربة القطة باستت). ويقول نص كلام «نفررحو»:
فؤادي، لطالما تألمت من أجل تلك الأرض التي نشأت فيها.
وقد أصبح الصمت نقيصة.
وثمة أمور يتحدث القوم عنها ...
وقد ولى زمان الرجل الكفء ...
فمن أين تبدأ؟ ...
لا تراع فؤادي؛
فالأمر واضح أمامك «وعليك أن تقاومه».
لقد أصبح حكام البلاد يأتون أمورا ما كان ينبغي حدوثها، «وخربت الأرض» وليس من يأسى عليها. ... يتحدث الجميع عن الحب ... لكن الخير اختفى.
تناقصت الأرض لكن الموظفين تزايدوا.
جفت الأرض لكن «الضرائب تضخمت».
قلت المحاصيل لكن المكيال اتسع، «واقتحم القبليون أرض مصر»،
وما من مدافع ليسمع أو يجيب.
تباعد «رع» عن الناس وأصبح الكليل صاحب سلاح، «وصار القوم يبجلون من كان يبجلهم ...»
لكن سيأتي ملك من الجنوب اسمه آميني،
ابن سيدة من تاستي،
طفل خن نخن،
سوف يتسلم التاج الأبيض،
ويلبس التاج الأحمر،
والناس في زمنه سيكونون سعداء،
إن ابن أحدهم (أو ابن الإنسان)،
12
سيخلد اسمه إلى أبد الآبدين.
13
أما «الذين تآمروا على الشر ودبروا الفتنة»،
فقد أخرسوا أفواههم خوفا منه،
والآسيويون سيقتلون بسيفه،
واللوبيين سيحرقون بلهيبه، «والثوار سيستسلمون لنصائحه»،
والعصاة لبطشه. «سيخضع المتمردون» للصل الذي على جبينه،
وسيقوم أسوار الحاكم،
حتى لا يتمكن الآسيويون من غزو مصر،
وسيستجدون الماء حسب طريقتهم المعروفة،
حتى ترده أنعامهم،
وستعود العدالة إلى مكانها،
وينفي الظلم من الأرض،
فليبتهج من سيراها،
ومن سيكون من نصيبه التعاون مع ذلك الآتي.
14
هذا، وكنا قد ذهبنا في كتابنا «أوزيريس ...» إلى أن تولى «آمنمحات الأول» عرش مصر، يوحي أن تلك الولاية كانت قمة أغراض العمل الثوري، استنادا إلى شواهد أهمها:
أن «آمنمحات» لم يكن من سلالة ملكية، ولا حتى من أبناء النبلاء، بل كان رجلا من سواد الشعب، وإن كان طيب المنبت، أثبت صلاحيات عسكرية وحربية أوصلته إلى وزارة الحرب، ويعلمنا «سليم حسن» مستفيدا من «جاردنر» أن تعبير «ابن أحدهم» أو «ابن الإنسان» تعبير متواتر يشير إلى شخص من نسل غير ملكي أو نبيل، وإن كان ابن أسرة طيبة.
15
ويقول «جيمس برستد» صراحة: «إن آمنمحات قد اغتصب الملك قهرا.»
16
ويذهب معه آخرون إلى أنه كان وزيرا قويا في عهد «منتوحتب الرابع» آخر ملوك الأسرة الحادية عشرة، واستطاع - أثناء وزارته - أن يركز بيديه سلطات كبيرة، يشرف إشرافا فعليا على شئون الدولة، وانتهز وفاة مليكه فوثب على العرش.
17
هذا ناهيك عن الاتفاق شبه الكامل على أنه هو ذاته «أمنحتب سحتب أب رع» رئيس الجند في عهد «منتوحتب الرابع»، وأنه استغل رياسة الجند للإطاحة بمليكه والقضاء على شأفة أسرته. وقد أكد «برستد» وهو مصرولوجي ثقة أنه هو ذاته «آمنمحات سحتب أب رع» صاحب آخر حملة مشهورة تم تجريدها لتطهير البلاد تماما من بقايا الآسيويين، وذلك قبل قيام الأسرة الثانية عشرة بزعامته بزمان يسير.
18
والشاهد الثاني هو أن قائد الجند «أمن محات» ينتمي باسمه الذي يعني «آمن في الطبيعة» إلى إله كان مغمورا حتى ذلك الحين هو «آمن»، مما يشير إلى اتباعه عقيدة تخالف عقيدة سادته، المناتحة التابعين للإله «منتو» إله أرمنت، وهو أمر غريب مع وزير في حكومة فرعونية، ومنذ تولي «آمنمحات» الحكم يرتفع شأن «آمن» حتى يصبح أهم الآلهة على الإطلاق حتى نهاية العصور الفرعونية.
والخطير في رأينا هو أن «آمون أو آمن» كان في العقيدة الشعبية هو «... روح أوزيريس»
19
ذلك الإله الذي احتسبناه أدلوجة الثورة.
والشاهد الثالث هو أن «آمنمحات» اعتبر في نظر رجال الفكر المصري القديم - كما عند «نفررحو» - المخلص المنتظر، إضافة إلى كونه الرجل الذي وجه همه إلى كسر شوكة النبلاء الدين بقوا من العصور القديمة.
20
وقد أسسنا على ذلك تكهنا مفاده أن آمنمحات كان رجل الشعب المنتظر، وربما كانت القيادات الشعبية وراء الترويج له كما في إضافة النبوءة به لأشعار «نفررحو»، مع تمهيد السبيل له بكل الوسائل للوصول إلى الحكم. ولعل في نص البردية ما يشير إلى حميمية العلاقة بين «آمنمحات» والثوار، فإن الآسيويين سيقتلون بسيفه «واللوبييون سيحرقون بلهيبه»، و«العصاة ببطشه»، لكن «الثوار سيستلمون لنصائحه». وقد استطاع آمنمحات بالفعل أن يجعل من عصره أزهى عصور الدولة الوسطى، ولكن «أندريه إيمار» و«جانين إبوايه» يذهبان إلى تأكيد أنه قد مال آخر أيامه إلى عقد لون من المصالحة مع النبلاء الأقوياء ... الذين بدءوا يستعيدون نفوذهم بعد سكون الأحوال، بحيث ارتضى السماح لهم باستعادة قسط من النفوذ القديم مقابل طاعته.
21
وهنا عثرنا على نصوص تشير إلى مؤامرة قد دبرت في الخفاء لاغتيال الملك، وبلغت حدا بعيدا حيث دخل عليه الجناة غرفة نومه، وهجموا على شخصه الملكي بالسيوف، مما اضطره للدفاع عن نفسه بنفسه حتى هرع الحراس لمساعدته، وقد احتسبنا تلك المحاولة قد جاءت من جانب القيادات الثورية إزاء سياسته الجديدة مع النبلاء؛ بحيث استدعى تصفيته جسديا. ويدل حديث «آمنمحات» عقب محاولة اغتياله على ذلك المعنى؛ فهو يأسف لخيانة حلفائه الذين وثق بهم، ويقول:
لقد أحسنت إلى اليتيم،
وأطعمت المساكين ،
وتحدثت مع الوضيع كمحادثتي مع الأمير،
لكن كل من أكل خيري،
قام ضدي.
22
والمعنى الواضح أنه كان حليفا لطبقة محددة، يصفها باليتم والمسكنة والوضاعة، مؤكدا أن هؤلاء الحلفاء هم من حاولوا اغتياله، وإن كان «برستد» يؤكد أن المتآمرين كانوا من رجال حاشيته،
23
فإن ذلك يدعم مذهبنا؛ لأنه من الطبيعي أن تكون حاشيته متشكلة ممن مهدوا له السبيل إلى العرش، ومن هنا نفهم لماذا قام بتصفيتهم جميعا بعد ذلك.
كما أن في بردية «نفررحو» معاني كثيرة تؤيد ما ذهبنا إليه، ونسوقها هنا كأدلة جديدة لم ندرجها بكتابنا المذكور؛ فالمعتاد أن يسبق اسم فرعون ويتبعه عدد غفير من ألقاب التشريف والسيادة والتفخيم إلى حد مبالغ فيه، ويثير عجبا شديدا بين الباحثين، وهو الأمر الذي تخلو منه هذه البردية تماما، وهو أمر خارج على المألوف بالمرة. ناهيك عن كون الملك يخاطب حاشيته بالنداء: «إخوتي» ويتوجه بالحديث لأحد رعيته بالقول: «يا صاحبي»، وبدلا من أن يأمر بإحضار الكاتب الملكي، يقوم هو بهذا الدور ليسجل ما يقول واحد من بين أصغر رعاياه. وهي مشاهد لا يمكنك أن تجدها قبل أو بعد تلك الوثيقة النادرة، في تراث مصر القديمة. أما أن يطلب صاحب الجلالة مرتلا يؤنسه فيخبره رجاله لزيادة سعادته وإدخال السرور على قلبه أن مثل ذلك الرجل موجود، وأنه ليس رجلا عاديا، ويبشرونه بوصف الرجل المطلوب بالوصف «رجل شعبي قوي الساعد»! فهو أمر في غنى عن التعليق.
والآن ماذا قدم لنا «فليكوفسكي» بشأن بردية الأرميتاج!
بعكس الجميع فإن كلمة «أميني» تشير عنده إلى «أمنحتب الأول» ابن الملك «أحمس» ملك التحرير، ويعد «آمنحتب الأول» ثاني ملوك الأسرة الثامنة عشرة. والاسم هنا بدوره ملصق من مقطعين «آمن + حتب»، ولأنه يريد من كلمة «آميني» أن تشير إلى محرر مصر من الهكسوس؛ لأنها لا تلتقي مع المحرر «أحمس»، فلتلتق مع ولده، ولأن «آميني» من «تاستي» بالنوبة، فلا بد أن يكون أسود اللون وهو لون «آمنحتب الأول»، لكنه أيضا لون «آمنمحات» وأغلب حكام مصر من ملوك طيبة. «ميني» إذن يحتمل أن تشير «لآمنمحات» حتى يتزامن التاريخ مع زمن التوراة، ولأن الفاصل بين الرجلين «آمنمحات الأول» و«آمنحتب الأول» يصل إلى قرون، إلا أن أخطر ما يدحض «فليكوفسكي» تماما، هو نص البردية الذي يصف «آميني» بأنه ابن أحدهم؛ أي ليس سليل بيت ملكي فهو ملك ابن ملك من ذات الأسرة الحاكمة، بينما الملك «آمنحتب الأول» هو ابن الملك «أحمس» بن الملك «سقننرع» ... إلخ، أما «آمنمحات» فرجل من عامة الشعب، وهكذا لا ينطبق الوصف على الملك الذي اختاره «فليكوفسكي» ليتزامن مع تاريخه، وقصد به أن يطابق «آميني» مع «آمنحتب الأول» ليستطيع أن يجعل من بردية الأرميتاج برمتها شهادة على أحداث الخروج ودخول الهكسوس.
أما الدحض الثاني لهذا السند لإعادة كتابة التاريخ حسب التزمين الفليكوفسكي، فهو ما جاء، في نص البردية: «... الآسيويون سيقتلون بسيفه ... وسيقوم أسوار الحاكم حتى لا يتمكن الآسيويون من غزو مصر.» والمعلوم أن سور الحاكم الذي كان يشار إليه بالتعبير «حائط الحكم التي أقيمت لصد الآسيويين والقضاء على عابري الرمال» قد بنيت في عهد ملوك الأسرة الثانية عشرة
24
أسرة «آمنمحات» وقبل زمن «آمنحتب الأول» بستة قرون كاملة.
وبمزيد من البحث والتدقيق، نجد في وثائق الأدب المصري، وفي قصة «سنوحي» تحديدا، وهي قصة أدبية مشهورة، دليلا قاطعا على أن «حائط الحاكم» قد أقيم زمن «آمنمحات الأول»، أو أنه كان موجودا في آخر أيام هذا الملك، وبعد القضاء التام على أي آثر ل «العامو حريشع» بمصر؛ فيحكي «سنوحي» بعد أن بلغه نبأ محاولة اغتيال الملك «آمنمحات الأول»، ودون أسباب واضحة لم تزل شاغلة للمهتمين من الباحثين، يشعر المحارب «سنوحي» بالذعر الشديد، ونظن السبب واضحا مع رؤيتنا التي قدمناها، وموقف سنوحي يشير إلى كونه كان أحد القيادات الشعبية المتآمرة على الملك، بل وكان شريكا مخططا على الأقل؛ لذلك نجد سنوحي يهرب فورا إلى آسيا بعد أن غافل حراس «حائط الحاكم» أو بالنص في قوله: «وأعطيت الطريق لقدمي - وهو يشبه تعبيرنا: أسلمت قدمي للريح - ولما اقتربت حائط الحاكم المقامة لرد الآسيويين والقضاء على عابري الرمال، قعدت القرفصاء تحت أجمة خشبية، خشية أن يراني حراس الأسوار أثناء تأديتهم لخدمتهم اليومية».
25
فالحائط قد أقيم إذن في عهد «آمنمحات»، وقبل «آمنحتب» بستة قرون، وبه تسقط حجة «فليكوفسكي» المؤسسة على بردية «نفررحو» لإعادة صياغة تاريخ العالم، مع زيادة يقين القارئ الآن، أن غزو الهكسوس كان أمرا يختلف تماما، ومتأخرا تماما، بالنسبة للتسلل الآسيوي الأول في العصر المتوسط الأول، وأن غزو الهكسوس كان حدثا، وغزو أولئك الذين انتهزوا فرصة الثورة للتسلل كان حدثا آخر، وهو من أطلق عليهم المصريون «العاموحريشع». (5-4) تزييف دلالات نبوءة الخزاف
في عملية التأريخ التي قام بها العلماء لتاريخ مصر القديمة، كان ثمة خطأ بالفعل، لكنه ليس من نوع الخطأ الذي يسقط بموجبه ستة قرون كاملة من التاريخ كما يريد «فليكوفسكي»، إنه خطأ لا يسقط شيئا إنما يؤدي إلى التباس في حسابات سني الملوك والأسر، ومدى دقة ضبطها مع توقيت محدد في عام بذاته. وللتوضيح نقول: إن الخطأ لم يكن ناتج نقص أو تشويه للمستند التاريخي، لكنه كان عيبا في التقويم المصري ذاته؛ إذ إنه في زمن بالغ القدم، كان المصريون قد وضعوا حساباتهم الفلكية التي بموجبها وضعوا ما نسميه اصطلاحا في علم المصريات بالنسبة المدنية التي تحتوي على 360 يوما، لكن السنة الفلكية تزيد ربع يوم أو مع زيادة طفيفة عن هذا الربع. لذلك فإن بدء العام الجديد في السنة الخامسة من التقويم المصري كان يزيد يوما كاملا إذا قارناه بالنسبة الفلكية، وعندما نسقط تلك الزيادة - كما نفعل اليوم فيما نسميه بالسنة الكبيسة - فإننا سنجد فارقا في حسابات السنة المصرية القديمة، بشهر زائد كل 120 سنة عن السنة الفلكية. ومع تراكم هذا الشهر كل 120 سنة يبدأ التناقص بالظهور، مع أناس يعملون في مواسم للزرع ومواسم للحصاد، وهو ما عبرت عنه بردية عصر الرعامسة التي تقول: «إن الشتاء يأتي في الصيف، والشهور تنعكس، والساعات تضطرب ...» ويبدو أن المصريين لم يحاولوا تلافي الخطأ لما يحوطه من قدسية تحريمية تقليدية، حتى جاء «بطليموس الثالث» عام 237ق.م ليصدر مرسوما بإدخال يوم إضافي للسنة، حتى يمنع أعياد مصر الوطنية من المجيء في غير مناسباتها الزراعية، وحتى لا يأتي الشتاء في الصيف لكن
26 «فليكوفسكي» لا يجد مانعا من الإتيان بنص البردية «ويعود موسم الشتاء إلى موقعه الصحيح من العام، وتستعيد الشمس مجراها الطبيعي» ليوحي أن الشمس كانت قد خرجت عن مدارها نتيجة الخلل الكوني الذي أصاب كوكب الأرض وسبب كوارث الخروج.
ثم يستمر «وتهدأ الرياح بعد أن كانت الشمس محجوبة بسبب العاصفة.» بعد أن يكون قد مزج بين نص البردية المنسوبة لعصر الرعامسة بالأسرة التاسعة عشرة، وبين مرسوم كانوب المكتوب بثلاث لغات منها اليونانية، والذي أمر به «بطليموس الثالث» عام 237ق.م. وبعد ذلك يسرب فصلا تحت عنوان «استفسارات» يقول فيه «لا توجد معلومات قاطعة عن أي غزو آسيوي «عامو» أو «آمو» حدث في العصر المتوسط الأول الذي يقع بين الدولة القديمة والدولة الوسطى.» حتى لا يكون ثمة إمكان لغزو سوى غزو الهكسوس الذي حدث بعد الأسرة الثانية عشرة، وهي مخالفة صريحة لكل ما تعارف عليه علم المصريات بكشوف أركيولوجية واضحة غير ملتبسة. وهذا التغافل عن تلك الحقيقة كان عموده العظيم الذي أسس عليه بنيان إعادة صياغة التاريخ، وبحيث انتهى إلى عدم صحة أو جواز نسبة بردية لايدن وبردية الأرميتاج إلى ما قبل الأسرة الثانية عشرة؛ ومن ثم تكون كل روايتهما والأحداث التي وردت بهما تتفق تماما مع لحظة دخول الهكسوس ولحظة خروج الإسرائيليين، تلك اللحظة التي صاحبتها كوارث فلكية نادرة، أشرف على تنظيمها، ورتب الإخلال بنظام الكون خلالها، الرب «يهوه» بذاته، من أجل عيون شعبه الذي فضله على العالمين! في معزوفة فليكوفسكي النادرة.
لكن الثابت تاريخيا أن مصر كانت تتعرض دوما وبشكل شبه دوري للغزوات الرعوية، والتسلل إلى البلاد، وخاصة مع أي لحظة ضعف أو خلل في المركزية، وهو ما تشهد به الوثائق التاريخية، نضرب منه أمثلة سريعة؛ ففي عهد «بيومي الأول» بالدولة القديمة «عصر بناة الأهرام» يحكي قائد الجيوش: «وحين أراد جلالته أن يوقع العقوبة على الآسيويين والساكنين على الرمال ، جمع جلالته جيشا من عشرات الألوف ... وأرسلني جلالته على رأس ذلك الجيش ... عاد هذا الجيش في سلام ... بعد أن حمل معه جيوشا كثيرة العدد كأسرى.»
27
وهناك تسلل آخر قوبل بردع سريع في الأسرة الحادية عشرة، أو بالأحرى في بدايتها، في عهد «منتوحتب الأول» الذي سجل نصا يقول إنه «استولى على الأرض كلها، وأقدم على ذبح آسيوي دجاتي.»
28
كما علمنا بطرد «آمنمحات» لطرد بقايا العامو حريشع عندما كان قائدا على جيوش «منتوحتب الرابع»، ثم تبعه ابنه «سنوسرت الثالث» الذي طاردهم إلى مواطنهم خارج الحدود المصرية، وهو ما تسجله لوحة نسمونت «ارتحل الملك بنفسه للقضاء على الآسيويين ووصل إلى إقليم سكمم» وهو منطقة «ششم» السامرية الجبلية بشمال فلسطين،
29
وهو أمر ما كان ممكن التحقق لو كان أولئك الآسيويين هم الهكسوس الذين احتلوا المنطقة كلها بما فيها فلسطين ومصر. وأما الملك «خيتي» فيسجل قبل ذلك بزمان، في العصر المتوسط الأول «عامو التعساء إن سوء الطالع يحل حيث يحلون ... إنهم يقومون بالمعارك منذ عهد حورس (يعني منذ فجر التاريخ)، ومع ذلك فإنهم لا ينتصرون مطلقا، وهم كذلك لا يغلبون.»
30
ثم يوجه النصح لولده «مري كارع» قائلا: «الآسيوي التعس لا تزعج نفسك به، إن هو إلا آسيوي.»
31
وهي بالطبع صورة لا تلتقي أبدا مع الهكسوس المحتلين أصحاب الإمبراطورية. (5-5) تزييف دلالات مقياس سمنة
فيما وراء الجندل الثاني في أقصى الجنوب، وفي وقت ما من التاريخ المصري القديم، أرسى المصريون حدودهم الجنوبية عند قلعتين منيعتين تواجه كل منهما الأخرى على القمم الصخرية على ضفتي النيل، واحدة اسمها «قمة» والأخرى اسمها «سمنة»، ومن هناك نحو الجنوب، ومع بدء الصخور، تبدأ أرض «كوش» بلاد الزنج، وعلى الصخور المقام عليها قلعة سمنة حفروا مقياسا لمياه النيل، ليتمكنوا من التنبؤ بالفيضان المرتفع أو المنخفض، قياسا على الأثر الذي يتركه ماء الأعوام الماضية من أثر، دون حاجة لفرعون حلوم، كما قصت علينا التوراة. وبناء على ملاحظة «ليبسوس» لآثار المياه التي تركها على المقياس، بما يسجل ارتفاعا يزيد عن اثنين وعشرين قدما على القياسات المعاصرة، يقدم «فليكوفسكي» وثيقته السادسة الدالة على الكارثة، حيث يزعم أن ذلك يعني هبوطا في التكوين الصخري وطبقات الأرض في مصر آنذاك بمقدار اثنين وعشرين قدما؛ لأنه لو كانت الأرض هي الثابتة، وأن التغير حدث في كمية الماء المتدفق بالنيل، فذلك لا شك يعني أن عددا من المعابد والمساكن في السنوات الأسبق كان من المفروض أن تغطي بالمياه بانتظام كل عام زمن الفيضان.
ولا مشاحة أن الرجل هنا يمتلك قدرة التقاط عظيمة، وصبرا على التفتيش وراء كل ما يدعم مذهبه، لكنه ربما لم يلتفت إلى النتائج التي تترتب على هبوط صخور المقياس، والتي لا بد أن تؤدي إلى هبوط المقياس بدوره بذات القدر؛ حيث إنه تم تسجيله حفرا في شكل خطوط عرضية على خط رأسي على الجرف الصخري عند «سمنة».
وحجته هنا كما هو واضح واهية تماما، لكنه على أية حال يسوقها ضمن مجموعة قرائن متضافرة، بحيث لا يظهر هذا الضعف إلا عند انهيار القرائن الأخرى، أما ما نعرفه نحن أبناء هذا الوادي يقينا بالمعايشة والمعاينة، وفي طفولتنا قبل بناء السد العالي، أن الفيضان كان يأتي في بعض المواسم مرتفعا إلى حد نتحول فيه جميعا إلى طوارئ من لون خاص بمصر، طوارئ الريف المصري الذي يتحرك أبناؤه فورا، وكل يعرف دوره تماما دون تنظيم رسمي، للردم حول القرى لحماية البيوت المتطرفة، التي ستتعرض - بحكم الدراية - خلال أسابيع للغرق الكامل. وكان الماء يرتفع إلى حدود هائلة، ولم يكن ذلك ليبهرنا نحن أبناء النيل كما أبهر الروسي/البولندي «فليكوفسكي»؛ حيث كنا معتادين - في غير فصل الفيضان - على التطلع من فوق أسطح منازلنا، على الأطراف العليا البعيدة لأشرعة المراكب النيلية تحتنا، وكنا معتادين أيضا - في فصل الفيضان - على الصعود إلى أسطح تلك المراكب واللعب فوقها عندما ترسو عند أبواب بيوتنا، أما المساعدة في حمل «قفف» الأتربة والأحجار للبالغين وهم يقيمون الردم حول البيوت المتطرفة، فكانت مجالا لسعادة طفولتنا وهذرها ومرحها؛ كانت لونا من اللهو الدوري الجميل الذي - لا شك - لا يعرف «فليكوفسكي » طعمه، ولا علاقته بحميمية أبناء هذا الوادي وبعضهم، وبينهم وبين نيلهم الذي كأن يتجرأ عليهم إلى حد التدمير، لكنهم كانوا دوما أسعد الناس به، وأشد من في الكون فرحا بجبروت فيضانه. أما أجدادنا فكانوا يحكون لنا في طفولتنا عن ارتفاع أشد قسوة للماء لم نحظ نحن بمعايشته، وكان يحدث قبل إقامة سد أسوان الذي يبعد عن السد العالي إلى الشمال بمقدار سبعة كيلومترات. وكان الأجداد يشيرون إلى مواقع بيوتنا ويقولون: ما كان ممكنا أن تقام هذه البيوت هنا قبل إقامة سد أسوان؛ حيث كان الماء يغطي هذه الأرض وقت الفيضان. أما أهل بعض المناطق وخاصة في وسط الدلتا فقد أقاموا قراهم بكاملها فوق ردم مرتفع، جعل لتلك القرى الآن لونا غريبا لكنه بديع، وعلى الردم أقام الأهلون السلالم الحجرية التي كانت تسمح للفلاحات بحمل أواني الطهو والملابس لغسلها أمام أبواب البيوت مباشرة في مياه النيل وقت فيضانه، بدلا من جهد حملها الطويل أيام التحاريق الصيفية إلى مجرى النهر البعيد. (5-6) تزييف دلالات نقش حتشبسوت الحجري
يسوق «فليكوفسكي» نص هذا النقش كالآتي: «إن مقر «ربة كيس» قد تحول إلى أنقاض، وابتلعت الأرض حرمها المقدس، ولعب الأطفال فوق معبدها، وقد أزلت عنه ما تراكم وأعدت بناءه، واستعدت ما كان أنقاضا، وأكملت ما كان قد ترك بلا بناء، فقد كان هناك آمو في وسط الدلتا، وفي حواريس، وكانوا هم من دمرت قبائلهم كل المباني القديمة، وقد حكموا البلاد غير مؤمنين بالإله رع.»
وعندما يورد «فليكوفسكي» ذلك النص مباشرة، بعد حديثه عن مقياس سمنة الذي يقع أقصى الجنوب ودون أن يحدد أين يقع المعبد المهدم، معتمدا على أنه مكان يسمى «كيس». حيث إن المعبد كان معبد «ربة كيس»، إنما يقوم بتزييف آخر يذهب بالقارئ إلى مكان اسمه «كيس» قرب «سمنة» جنوبي أسوان. وهنا لا شك سيراود القارئ وهو يبني تصوراته أن الهكسوس قد حكموا مصر بكاملها حتى وصلوا حدودها الجنوبية قرب «سمنة»، حتى يلائم ذلك أربعة قرون حكموا فيها مصر. ولن يكون مستساغا أن يحكموا أربعة قرون دون احتلال لكل شبر فيها، لكن الحقيقة أن الهكسوس لم يصلوا إلى أبعد من «أشمون» الحالية في أبعد التقديرات، بل ربما لم يصلوها إطلاقا، إنما رضوا من حكامها بالجزية التي ستسمح لهم بالمرور شمالا إزاء إغلاقهم للحدود الشمالية على البحر المتوسط والشرقية بسيناء. كما أن التعبير «ربة كيس» فيه تلاعب واضح؛ لأنه في أصله الصادق «مقر الربة كيس» وليس «مقر ربة كيس»، والنص عبارة عن نقش أمرت بكتابته الملكة حتشبسوت على واجهة معبد إقليمي، يوعز لنا «فليكوفسكي» أنه كان في سيناء ليتيسر له الزعم بهبوطه تحت الأرض أثناء الكارثة. رغم المعلوم أن المعبد المذكور في منطقة إسطبل عنتر الحالية بمصر القديمة (أحد أحياء جنوب القاهرة الحالية)، وهو الذي أطلق عليه اليونان اسم «سيبيوس أرتميدس»، ويبدو أن معبد الإلهة «كيس» أهمل زمنا أتاح للرمال أن تتراكم عليه «أزلت ما تراكم عليه»، وهي ظاهرة نعرفها في بلادنا. أما التعبير الوحيد الذي استند إليه صاحبنا في انخفاض الأرض المتزلزلة بفعل رب التوراة وقت الكارثة، وهو تعبير مجازي واضح يشير إلى تراكم الرمل على المعبد، يقول: «ابتلعت الأرض حرمها المقدس.» وليس هناك أية إشارة لانخفاض الأرض وإلا أشارت «حتشبسوت» للأمر بوضوح. أما كوننا نذهب إلى عدم تجاوز الهكسوس لسيناء وشرقي الدلتا، فهو واضح في قول حتشبسوت: «كان الآسيويون في «حواريس في شمال البلاد»، وكانت من بينهم حشود تقوم بهدم ما سبق تشييده، كانوا يحكمون بغير مشورة رع.»
32
ولعل القول بحشود تهدم ما سبق بناؤه لا تحتاج معها إلى الزلزال الفليكوفسكي.
وقبل أن ننتقل إلى القسم الثاني من نظرية «فليكوفسكي» نجدنا بحاجة إلى الإجابة عن تساؤلات مشروعة إزاء ما قدمه حتى الآن، فإذا كان بنو إسرائيل في مصر منذ زمن طويل سبق نهاية الأسرة الثانية عشرة حين خرجوا ودخل الهكسوس، فهل لم يوجد في مصر شخص واحد أمكنه أن يسجل لنا ولو إشارة عن بني إسرائيل باسم إسرائيل أو باسم أي فرد من إعلامهم؟ وإذا كان الهكسوس قد حكموا مصر أربعة قرون متصلة فهل لم يوجد بينهم من يعرف الكتابة ليسجل لنا شيئا واضحا عن إمبراطورية عربية عظمى قامت على الجهل والبربرية؟ أولم يوجد مصري في عهدهم يدون لنا خلال أربعة قرون شيئا عنهم؟ إن عدم وجود مثل تلك المدونات إطلاقا،
33
كفيل وحده بهدم كل ما ذهب إليه «فليكوفسكي»، لكن وقفتنا معه كانت أمرا لازما إزاء براعته القصوى التي تحسب له، والتي كانت تكفل له أن يهمل أي قارئ مثل تلك التساؤلات. (6) تزوير التاريخ
أقام «فليكوفسكي» رؤيته في جنس الهكسوس وموطنهم على إشارة عابرة للمؤرخ المصري «مانيتون»، والتي ساقها «مانيتون» في صيغة عدم اليقين بقوله: «والبعض قالوا: إنهم كانوا عربا.» لكن «فليكوفسكي» يهمل تماما إشارة «مانيتون» التأكيدية في كون الملوك الستة الأوائل من الهكسوس، أصحاب الأسرة الخامسة عشرة - فيما يزعم - كانوا فينيقيين بالتأكيد.
34
وهو ما أخذ به بعض المؤرخين، وإن ذهب الأكثرية إلى قدومهم من مناطق بحر قزوين.
والمعلوم أيضا أن العامل الأخطر والذي ساهم بقدر فاعل في غزوهم لمصر، ليس فقط حالة التفكك والفوضى التي صاحبت العصر المتوسط الثاني، بل أيضا تفوقهم العسكري الذي تمثل في أمرين غاية في الدلالة: الأول هو اكتشافهم لمعدن الحديد وتصنيعه؛ بحيث امتلكوا أسلحة مصنوعة من الحديد، أما الأمر الثاني فهو أنهم كانوا السابقين إلى ترويض حيوان لم يكن معروفا في منطقة الشرق الأدنى أصلا هو الحصان، بل واختراع العجلات التي يجرها ذلك الحصان واستخدامها في النقل، وكأداة حربية متطورة للغاية، تعادل دبابات اليوم وطائراته. والثابت تاريخيا وحفريا أن منطقتنا لم تعرف الحصان بالمرة قبل قدوم الهكسوس إليها، وإن جاءت إشارات إليه من نصوص الرافدين المسمارية، من عهد سلالة أور الثالثة (2112-2004ق.م) باسم «أنشوكرا» أي «حمار الجبل» أو «حمار البلد الأجنبي»، ولم يعرف في الرافدين إلا مع الغزو الكاسي لها
35
حوالي عام 1600ق.م، ولنلحظ أن غزو الهكسوس لمصر جاء حسب التاريخ المعروف حوالي عام 1680ق.م.
وقد ظهر سلاح العجلات التي يجرها الحصان لأول مرة في مصر، بعد اكتسابها تلك المعرفة من الهكسوس، وإبان حروب التحرير، وكان أول ظهور للحصان والعجلة الحربية في حروب أحمس ضد الهكسوس مع بداية الأسرة الثامنة عشرة، وكان سلاحا ابتدائيا، بحيث إن كبير ضباط الفرعون «أحمس»، والمعروف بدوره باسم «أحمس بن أبانا»، الذي عرفناه مدونا لقصة حصار المصريين لحواريس عاصمة الهكسوس، كان يسير على قدميه إلى جوار عجلة الفرعون، فإلى هذا الوقت كان المصريون يستخدمون السفن كوسيلة نقل رئيسية، وكترسانة عسكرية متحركة، وهو ما وضح في قصة التحرير، حيث ««أبحر» المصريون لقتال الهكسوس.» ولأول مرة تظهر رتبة قائد سلاح العجلات مع نهاية عصر الأسرة الثامنة عشرة، وتحديدا في عصر «آمنحتب الثالث» الذي أصدر قرارا - لأول مرة - بتعيين حميه «يويا» قائدا لسلاح العجلات، بلقب «وكيل الملك في سلاح العجلات».
وهذا الأمر وحده كفيل بهدم السند الأساسي لفروض «فليكوفسكي»، إضافة لفقدان الكتاب المقدس صفته كمعيار تام السلامة للتزمين؛ حيث إن الكتاب المقدس يشير إلى العجلات كسلاح معلوم، وكوسيلة انتقال اعتيادية عند دخول «يوسف» إلى مصر. والمفترض - حسب نظرية فليكوفسكي - أن هذا الدخول قد حدث منذ زمن سبق الأسرة الثانية عشرة، وجاء ذلك في عدة نصوص توراتية، مثلما جاء في تصرف الفرعون بعد إدراكه لقيمة يوسف التنبؤية «وأركبه في «مركبته» الثانية، ونادوا أمامه: اركعوا، وجعله على كل أرض مصر» (تكوين، 41: 43)، ثم جاء عند وصول يعقوب إلى مصر «شد يوسف «مركبته» وصعد لاستقبال يعقوب أبيه» (تكوين، 46: 49)، ثم عند موت يعقوب وخروج يوسف ليدفن أباه في أرض كنعان «فصعد يوسف ليدفن أباه وصعد معه «مركبات وفرسان»، فكان الجيش كثيرا جدا» (تكوين، 5: 7-9)، وغير ذلك كثير من النصوص التي تؤكد وجود العجلات كشيء اعتيادي في مصر عند دخول الإسرائيليين إليها، وهو بالوثائق سيكون أمرا باطلا تماما، إذا احتسبناهم قد دخلوا مصر قبل الهكسوس كما ذهب «فليكوفسكي»؛ لأن العجلات لم تعرف في مصر إلا مع مقدم الهكسوس إليها، بل ظلت العجلات بعد طردهم زمانا شيئا ابتدائيا، لم يكتمل ليمكن أن يكون نواة لسلاح مستقل بالجيش، إلا بعد ذلك بأكثر من قرنين من الزمان، وهو الفارق بين زمن «يويا » أو وكيل الملك لسلاح العجلات، وبين زمن «أحمس» محرر مصر من الهكسوس ومؤسس الأسرة الثامنة عشرة.
وعليه لا يمكن أن يكون الإسرائيليون قد دخلوا مصر في زمن سابق لزمن الهكسوس، بل المرجح أن يكونوا، قد دخلوها زمن الهكسوس وكحلفاء لهم، وقد سبق لنا أن اجتهدنا في تحديد المنطقة التي قدم منها الهكسوس إلى المنطقة، ونشرناه في كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول»،
36
وسجلنا مجموعة من القرائن كافية، تشير إلى أنهم يعودون بأصولهم إلى المنطقة الكاسية شمالي بلاد الشام والرافدين، في أراضي «أرمينيا» جنوب بحر قزوين، وتحديدا حول بحيرة «قان» ومن هذه المنطقة قدمت موجات ذات كثافة عالية في شكل موجات متتابعة، وكان أكبر هذه الهجرات وأخطرها الموجة الكاسية التي دونت أخبارها نصوص الرافدين بعد أن هبط الكاسيون في غزو كاسح على دولة بابل الأولى حوالي 1600ق.م، وقد ذهبنا إلى أنه ضمن تلك الموجات جاءت موجة الهكسوس التي تعد جناحا من أجنحة الهجرة الكاسية اتجه إلى مصر حوالي 1680ق.م.
وقد سبق أن علمنا أن «يوسفيوس» فصل كلمة هكسوس إلى مقطعين: «هك» بمعنى ملك و«سوس» بمعنى راعي؛ أي ملوك الرعاة، وفي كتابنا «النبي إبراهيم ...» رفضنا ذلك التخريج؛ لأن كلمة «هكسوس» إذا احتسبناها كلمة واحدة لا تتركب من شقين فسوف تكون واضحة بذاتها ولا تحتاج إلى تخريجات وتقسيمات، و«برستد» يذهب إلى أن الهكسوس آراميون،
37
وقد رأينا - بالأدلة - أن الآراميين من أرمينيا الكاسية، ومع حذف التصريف الاسمي في آخر كلمة هكسوس (حرف السين الأخير) لا تحتاج التسمية إلى إثارة إشكاليات؛ حيث تصبح «الكاسو» أو «الكاسي»، وهو ما يلتقي مع مذهبنا في كونهم فرعا أصليا للهكسوس، أما موسوعة تاريخ العالم فتقول في حديثها عن أحداث تاريخ الرافدين عام 1600ق.م، قولها: «عام 1600ق.م، غزا الكاشيون بابل ... حكموها لمدة 450 عاما، أصبح الحصان معروفا في مصر وغرب آسيا.»
38
ومع ذلك لم تربط الموسوعة ولو بالإشارة بين الغزو الكاسي للرافدين، وبين الغزو الهكسوسي لمصر، وبين الآراميين وأرمينيا.
ولعل أهم ما يبطل تقسيم كلمة هكسوس إلى مقطعين «هك»، «سوس»، أنه لا يوجد في اللغة المصرية القديمة لفظة بنطق «سوس» أو ما تفيده معناها، على وجه الإطلاق،
39
وهو ما يبطل أيضا أي تخريج يقسم الكلمة إلى مقاطع، ولا تبقى سوى «ه-كاسي-س» أي الكاسيين. لكن «فليكوفسكي» كافح كفاحا مستميتا ليجد بالكتاب المقدس أي إشارة تتوافق مع معنى المقطعين «الملوك الرعاة» حسب التخريج الخاطئ، وهو ما يشير إلى تكلف وتلفيق واضح العمد، فيلجأ إلى سفر المزامير المتأخر بقرون طويلة عن زمن الخروج، ليجد فيه النص «قد أنزل عليهم الرب أشد غضبه وعقابه سخطا وزجرا وضيقا، «جيش ملائكة أشرار»» (48: 49)، ثم يعقب متغابيا فيما يبدو «فما الذي يعنيه ملائكة الشر؟» بينما هو يعلم جيدا تواتر «ملائكة الشر» بالكتاب المقدس، واصطلاح ملاك الشر يشير إلى الملك الموكل من قبل «يهوه» مع جنوده لإنزال الدمار بأعداء إسرائيل، وهر اصطلاح اعتيادي تماما لدى العارف بالكتاب المقدس، ثم يقوم «فليكوفسكي» بتفسير الاصطلاح «ملائكة أشرار» بحيث يلتقي مع «ملوك رعاة» بقوله إن الناسخ القديم للكتاب المقدس باللغة العبرية القديمة قد أضاف حرف ألف لكلمة «شرر» لتتحول عن معناها الأصلي «رعاة» إلى «أشرار»، بينما الشق الأول «ملائكة» يلتقي مع كلمة «ملوك» بلا فرق يذكر؛ وعليه فالأصل في المقدس القديم، كان «جيش ملوك رعاة»، وليس «جيش ملائكة أشرار»، والواضح أن الرجل قد بذل جهدا لا طائل من ورائه، حيث لا تعني كلمة هكسوس بالمرة «ملوك الرعاة»، لعدم وجود كلمة «سوس» بمعنى «رعاة» ولا بأي معنى أخر ولا حتى بلفظها ضمن معجم ألفاظ المصرية القديمة؛ لأن الأصل في اللسان المصري كان «حقاوكاسوه» والتي ببساطة - لدينا - «الحكام الكاسيين» أو «الكاشيين».
ولو كان «فليكوفسكي» قد اقتصر على تزييف دلالات النصوص لهان الخطب، لكنه - كما رأينا في أكثر من موضع - عمد إلى تزييف النصوص ذاتها، ومن ذلك التزوير ما فعله مع «بردية ساليه»، وهي عبارة عن تمرين مدرسي كتبه التلميذ «بيتاعور» كتدريب على النسخ، وإن نسخها يعود إلى الأسرة التاسعة عشرة، بعد طرد الهكسوس بمئات السنين، والأصل المفقود. لكن المصرولوجيين استخرجوا من ملابساتها أنها كانت تحكي قصة شعبية متواترة، من ألوان قصص الفخر الوطني وأشعار البطولة القومية، والقصة تتناول بداية حروب التحرير، وتحديدا بداية ما يمكن تسميته بالنزاع بين «سقننرع» الملك المصري الطيبي، وبين «أبوب» الملك الهكسوسي، وتبدأ البردية بوصف حال الفاقة والبؤس، وكيف بعث «أبوب» رسالة تحد ل «سقننرع» في طيبة مع رسول، تقول: «أخل البركة الواقعة شرقي المدينة من أفراس النهر؛ لأنها تحول بيننا وبين النوم ليلا، ولأن ضوضاءها تملأ آذان سكان حواريس.»
ورغم أن «فليكوفسكي» يرى في تلك الرسالة كثيرا من الازدراء والاحتقار من قبل «أبوب» للحكام المصريين الذين يحكمون في طيبة «الأقصر»، فإن آخرين ذهبوا إلى أن الرسالة لونا من «جر الشكل»، والاستفزاز، وهو استفزاز لا معنى له لو كانت الأمور مستقرة للهكسوس في الجنوب؛ لذلك ذهب آخرون إلى أنها نوع من الألغاز القديمة التي كان الملوك يخاطبون بعضهم البعض بها، وأن الأمر يشير إلى لون من الضجيج الثوري بدأ يتعالى في طيبة، وأن الأمر «أزعج» «أبوب» مما دفعه لإرسال تلك الرسالة المتحدية، التي تكاد تقول: إن المشاعر الوطنية التي ظهرت في الجنوب تقض مضاجعنا وعليك أيها الحاكم إخمادها فورا.
ثم يأتي «فليكوفسكي» بما يوحي أنه نص يقول: «وظل أمير المدينة الجنوبية صامتا، ثم بكى لوقت طويل ولم يدر بما يجيب على رسالة الملك أبوفيس.» ومن ثم «قبض على الأمير المصري، وساقه رسول الملك أبوب الثاني إلى حواريس.» ونهاية البردية مفقود (والتعقيب الأخير لفليكوفسكي)، أما الغريب فعلا فهو أن بردية «ساليه» تقطع عند مشاورة الملك «سقننرع» لحاشيته وجنوده بشأن الرسالة، وأن الاستكمال جاء من عند فليكوفسكي في حديثه عن القبض على «سقننرع» وأخذه إلى حواريس، وهنا الأمر الخطير في عمل ملفق كالذي بين أيدينا، والذي حاز شهرة عالمية لا تضارع، وربما عمد «فليكوفسكي» إلى عدم ذكر ظروف كتابة البردية، حتى لا يتساءل القارئ: كيف يمكن لمدرسة وطنية في ظل حكومة إمبراطورية تفاخر العالم آنذاك، أن يتناول موضوعا شعبيا يحكي كيف تم إهانة ملك تاريخي يفخر به المصريون، وكيف سيق أسيرا لعاصمة الهكسوس. بينما الثابت من وصف «إليوت سميث» ومن واقع الجراح التي وجدت في مومياء الملك «سقننرع»، أن الرجل مات بعد ضربات نافذة بالخناجر والبلط. وكان ممكنا القول مع «فليكوفسكي» إن الملك المصري أخذ إلى حواريس أسيرا، ولو بافتراء على وثيقة لم تقله، وإنه أعدم هناك، لولا أن جثمانه كان محفوظا بوادي الملوك في طيبة عاصمة الجنوب، والتي انطلقت منها عزمات التحرير، وهو ما يشير إلى موت الرجل في معركة شرسة، وقع فيها شهيدا وسط جنوده، الذين حملوا جثمانه من ساحة المعركة إلى مرقده الأخير في مقر حكمه (طيبة - الأقصر). ولن نفهم سر كل هذا التسفية من شأن قواد التحرير المصريين إلا في ضوء تزمين التاريخ الفليكوفسكي، الذي يصب في النهاية كل البطولة والنجدة والشهامة والمروءة في يد بني إسرائيل الكرام؛ حيث يتزامن الخروج الإسرائيلي مع الدخول الهكسوسي، ويتزامن الملك الإسرائيلي «شاول» مع زمن تحرير مصر من الهكسوس، الذي قام به «شاول» ورجاله بعدما ثبت له أنه إزاء جبروت إمبراطورية عربية، وبنص «فليكوفسكي»: «إن الإسرائيليين كانوا هم الشعب الوحيد الذي قام وقاتل ودخل حروبا وبإصرار شديد، كي يظلوا مستقلين وغير خاضعين لسيطرة العماليق ... «لقد كان زمنا بطوليا لإسرائيل انفردت به دون سائر الأمم، في الوقت الذي لم تقم فيه أية ثورة أو أي تمرد من أي نوع كان، لا في مصر ولا في غيرها»، ضد العماليق، في تلك الإمبراطورية الواسعة، خلال القرون التي حكموا فيها تلك البلاد».
ونفهم من ذلك أن الإمبراطورية العربية المتبربرة حكمت جزيرة العرب ومصر وجزر البحر المتوسط وبلاد الشام بما فيها فلسطين، تغلب على سطوتها حفنة من الآبقين الخارجين من مصر هاربين؛ بحيث كانوا الشعب الوحيد في المنطقة الذي امتلك كرامة قومية دعته للمحافظة على استقلاله في بقعة صغيرة بفلسطين، ضمن الإمبراطورية العربية العظمى. وهو مبرر واه تماما لتفسير قيام حكم القضاة اليهود لأربعة قرون في فلسطين في ظل إمبراطورية عاتية وهمجية كالتي صورها لنا «فليكوفسكي» ذاته حيث قد تم سحب زمن الهكسوس ليتزامن مع عصر «شاول» مع عصر تحرير مصر؛ لأن «شاول» - في رأيه - هو الذي قاد ألوف الإسرائيليين إلى حواريس، وضرب عليها الحصار وهزمها شر هزيمة، وشتت العماليق الهكسوس الذين انسحبوا إلى شاروهين. وترك الأرض المحررة لأصحابها المصريين (منتهى العدل! ومنتهى المروءة)، دون أن يفكر في الاستيلاء على تلك الأرض، ولو من باب انتقام واجب من عبودية بني إسرائيل بمصر قرونا، ولم يحاول بقواته العظمى التي هزمت أعظم الإمبراطوريات في زمانها أن يحتل مصر، كان همه الأوحد الانتقام من عماليق؛ لأنهم آذوا الإسرائيليين عند الخروج، منذ أربعة قرون مضت، وظل الإسرائيليون يحتفظون بذلك الحقد حتى انتقموا بتدمير حواريس وتشتيت الهكسوس العماليق. هذا رغم «جيشان» الكتاب المقدس بحقد على مصر والمصريين، وكل ما كانت تملكه تلك الأسفار هو استنزال اللعنات المرتجاة من رب العالمين على رءوس المصريين؛ لذلك من حقنا أن نبدي الدهشة والعجب من امتلاك إسرائيل تلك القوة الهائلة التي تهزم الهكسوس المحتلين أصحاب إمبراطورية الاحتلال الاستيطاني، ولا تنتقم من المصريين، في وقت كانت فيه مصر أمام تلك القدرات الإسرائيلية مجرد ثمرة ناضجة تقع دون جهد يذكر في يد «شاول» وجيوشه الجرارة.
ومن جهة أخرى، فإن مزاعم «فليكوفسكي» لا بد تفترض - ضمنا - أن بني إسرائيل قد قضوا تماما على كل أعدائهم الصغار مقارنة بالعماليق، وهو الأمر الذي يحتاج توضيحا، لكن ليس قبل أن نقف مع النص المصري الذي علم منه «فليكوفسكي» بقصة التحرير على يد «شاول»، وهو المدون في مقبرة الضابط «أحمس بن أبانا»، إضافة إلى نص آخر استشهد به هو حكاية العراف «بلعام» بالتوراة.
ولنبدأ بنص التوراة، الذي يحكي لونا فجا من الخرافة، عن كيف استدعى «بالاق» ملك الموآبيين العراف «بلعام» المدياني، ليصب له اللعنات على بني إسرائيل ليبيدهم، «فأجاب بلعام وقال لعبيد بالاق: ولو أعطاني ملء بيته فضة، ولا ذهبا، لا أقدر أن أتجاوز قول الرب ... فأتى الله إلى بلعام ليلا وقال له: أتى الرجل ليدعوك فقم اذهب معهم ... فقام بلعام صباحا وشد على أتانه (حماره) وانطلق مع رؤساء موآب، فحمى غضب الله لأنه منطلق معهم (؟!) ووقف ملاك الرب في الطريق ليقاومه وهو راكب على أتانه وغلامه معه، فأبصرت الأتان ملاك الرب واقفا في الطريق وسيفه مسلول في يده (؟) فمالت الأتان عن الطريق ... فحمي غضب بلعام وضرب الأتان بالقضيب، ففتح الرب فم الأتان فقالت لبلعام: ماذا صنعت بك كي تضربني؟ ... فقال بلعام للأتان: لأنك ازدريت بي، لو كان في يدي سيف لكنت قتلتك الآن، ... ثم كشف الرب عن عيني بلعام فأبصر ملاك الرب واقفا في الطريق وسيفه مسلول في يده، فخر ساجدا على وجهه ... إلخ» (العدد، 22: 19-31).
والمعتاد على قراءة ذلك الكتاب المقدس (؟!) لن يجد أية غرابة في تناقض الرب إذ يأمر بلعام بالذهاب مع عبيد بالاق وعندما يفعل يحمى غضب الرب عليه، ولن يعجب من حمار يتحدث مع صاحبه حديثا وديا فيعاتبه، وصاحبه يلومه؛ لأن القارئ لن يجد صفحة بالكتاب تخلو من تلك العجائب، لكن المهم أن «بلعام» بدلا من أن يلعن بني إسرائيل مدحهم وأعطاهم بركاته، وتنبأ بأن ملك إسرائيل سيتسامى على ملك «أجاج»، وأن آخرة عماليق إلى هلاك (انظر سفر العدد، 24: 30-7). وهنا يقفز «فليكوفسكي» ليمسك «أجاج» بكلتا يديه مناديا: فلتشهدوا أن هذا هو «أبوب الثاني» ملك الهكسوس، ولا بد بالتالي أن يكون الهكسوس هم العماليق، وأن هلاك العماليق قد جاء على يد بني إسرائيل، حسبما تنبأ بلعام، وذلك في الحملة التي قادها أول ملك لأول مملكة يتم فيها توحيد شراذم إسرائيل.
ولإثبات صدق «بلعام والحمار والرب»، يكتشف «فليكوفسكي» الدليل على ما حدث في مقبرة الضابط المصري «أحمس بن أبانا»، ولنقرأ كيف صاغ «فليكوفسكي» ذلك النقش الهام، الذي يقول فيه الضابط: «تابعت الملك سيرا على أقدامي حين ركب عجلته الحربية في طريقه إلى خارج الولاية، «وكانوا هم يحاصرون» مدينة حواريس.» والإشارة «كانوا هم» لا تعني سوى أن قوما آخرين هم أصحاب الفضل الحقيقي في التحرير، ««كانوا هم» يحاربون من جهة قناة المياه حواريس ... «استولوا هم» على حواريس ... «هم حاصروا» شاروهين.» الرجل بهذا الشكل محق تماما، لكن عندما نقرأ النص الأصلي سنكتشف إلى أي حد بلغت بالرجل الجرأة والقدرة على التزوير.
يقول الضابط «أحمس بن أبانا» في النص الصادق: «تبعت الملك على قدمي عندما كان يركب عجلته الحربية. إنه حاصر مدينة حواريس.» ولنقف هنا مع أمرين: الأول زمن الفعل في النص الصادق «حاصر» وزمنه في النص المزور «يحاصرون»، والذي ضبطه مع تزوير آخر، وبدلا من الصيغة المصرية للفعل الماضي «إنه حاصر» تحولت «إنه» في صيغة الإشارة المفخمة للغائب «الملك»» إلى «كانوا هم»، ولأن استكمال العبارة جميعا في صيغة الماضي ستصبح غير ملتئمة «كانوا هم حاصر مدينة حواريس»، فكان لا بد من تزوير الكلمتين لتتحول العبارة «من إنه حاصر» إلى «كانوا هم يحاصرون».
ولنقرأ النص كاملا: «تبعت الملك سيرا على قدمي عندما كان يركب عجلته الحربية. إنه حاصر مدينة حواريس ، وقد أظهرت شجاعة وأنا أحارب على قدمي أمام جلالته، ثم عينت في سفينة تسمى مشرق منف، وحاربت في قناة مياه بازدكو في حواريس، ثم حاربت ملتحما يدا بيد واستوليت على أحد الأسرى، ولما بلغ ذلك المسامع الملكية منحني الملك ذهب الشجاعة، ثم تجدد القتال مرة أخرى في ذلك المكان، وحاربت ثانية هناك يدا بيد، وحصلت على أسرى آخرين، ومنحني الملك ذهب الشجاعة ثانية.»
وأثناء انشغال الملك «أحمس» في محاربة الهكسوس، حدثت قلاقل في جنوبي البلاد، على بعد ما يزيد عن ألف كيلومتر عند «الكاب»، فسارع الملك مع بعض جنود، وبضمنهم الضابط «أحمس»، الذي يروي تلك الواقعة أيضا، ويقول: «لقد حاربت في مصر جنوبي مدينة الكاب، واستوليت على أسير حي حملته معي على صفحة الماء، ولما بلغ هذا الأمر المسامع الملكية، منحني «هو» الذهب بالمعيار المزدوج.» والسؤال الآن: هل كانت «هو» المفخمة هنا - بدورها - تشير إلى الإسرائيليين فهي تترجم حرفيا «منحوني»، وأنهم ذهبوا إلى أسوان على بعد ما يزيد عن خمسمائة كليومتر في العمق المصري مع «أحمس» الملك للقضاء على قلاقل منطقة النوبة، ومنحوا الضابط «أحمس» الأنواط الذهبية المزدوجة لشجاعته؟
وذات الأمر يكرره في قصة انسحاب الهكسوس من حواريس إلى شاروهين بفلسطين؛ حيث حاصرها الملك ثلاث سنوات حتى استسلمت ورحلوا عنها بموجب اتفاقية أبرمت بهذا الخصوص، «لقد حاصر شاروهين ثلاث سنوات ثم استولى عليها، وأسرت هناك رجلا وامرأتين.» لكن النص هنا لا يحمل اسم الإشارة المعتاد، بل الفعل «حاصر» فقط، مما يشير إلى الملك كقائد لجيش الحصار، وهي إشارة لمفرد متضمن داخل الفعل الماضي بالتقدير، ولا يشير إلى جيوش يمكن أن تكون عند «فليكوفسكي» جيوش أجداده الأفاضل، وهنا لا يجد فليكوفسكي ما يناسب النص بالتوراة، فيلجأ إلى أسطورة متداولة بين بني جلدته تحكي عن القوة البدنية الخارقة في أساطير منوعة عن «يوآب» قائد جند «داود» الذي خلف «شاول». وضمنها أسطورة تقول إنه اخترق بمفرده أسوار مدينة عماليق؛ وعليه فإن «فليكوفسكي» يعلم أن «يوآب» هو صاحب الفضل الحقيقي في هزيمة ألوف المحاربين العماليق بمفرده، وأنه وفق العادة الكريمة لبني إسرائيل، قد تركها هدية لأحمس المصري، رغم أنها تقع داخل أرض فلسطين ذاتها، وفي عمقها، وجزء من مملكة إسرائيل؟!
وتبقى هنا عدة مسائل، تثيرها استفسارات بدهية، إزاء كل ما قدم «فليكوفسكي»، لإثبات سقوط ستة قرون كاملة من التاريخ المصري وتاريخ العالم بالتالي، وإزاء ركونه الكامل إلى مصداقية مطلقة تتسم بها نصوص التوراة، وهو غرض آخر يتضمن في ثنايا الغرض الأول، من أجل تحقيق عدة أهداف «أهمها إيجاد موطئ قدم لبني إسرائيل في تاريخ المنطقة، وإثبات البراءة الكاملة والطهارة المطلقة لهذا الشعب من كل ما التبس بتاريخه من اتهامات، مع تأكيد العلاقات الحميمة بين بني إسرائيل والمصريين إزاء العرب منذ التاريخ القديم، والتي أهدرها المصريون من جانب واحد»، مع إعادة تأسيس تاريخ العالم يتزامن مع الأساس المتين بالكتاب الإسرائيلي المقدس، وبحيث يكون العمل في مجمله تنظيرا تاريخيا للقومية الصهيونية.
وهذه المسائل التي تنتج عن استفسارات، يمكن تحديدها في العناصر التالية:
إزاء المصداقية الكاملة التي يريد «فليكوفسكي» إثباتها لنصوص المقدس الإسرائيلي، والتي عمد وهو بسبيل ذلك الإثبات إلى الانتقاء من وثائق التاريخ القديم ما يراه أهلا لتحقيق غرضه، مع تزوير دلالات تلك الوثائق ، وإزاء حدث الخروج العظيم الذي انبنت عليه الكرامة القومية الإسرائيلية، وعليه أسس «فليكوفسكي» العلم كله. أقول: إذا كان الأمر كذلك فلا ريب أن الدهشة تأخذ المدقق مع استفسار بسيط تماما يتساءل: لماذا لم تذكر النصوص المقدسة بالكتاب المقدس اسم ذلك الفرعون الذي سام شعب الرب هذا العذاب التاريخي المتكرر دوما رغم كل تلك الدقة في سرد المعجزات، ورغم خطورة الحدث وأهميته واحتسابه حجر الأساس في التاريخ الإسرائيلي؟
ثم إذا كانت الكوارث التي أنزلها «يهوه» بالمصريين ليست من باب الأساطير، إنما تسجيل لوقائع حدثت بالفعل، وكان حدث انشقاق البحر هو قمة تلك الأحداث الكونية، وبعدها دخل بنو إسرائيل أرض الميعاد، فإن المدقق في التوراة سيجد أن هناك أحداثا أخرى تمت في فلسطين بعد الخروج، تدخل في عداد المبالغات الأسطورية وتهويلاتها، وغض «فليكوفسكي» الطرف عنها تماما؛ لأن الكارثة التي يتحدث عنها كانت قد انتهت، فهذا مثلا «يشوع بن نون» الذي خلف «موسى» على قيادة الإسرائيليين، وعند عبور نهر الأردن البعيد عن أحداث كارثة الخروج مكانا وزمانا، تحدث له نفس المعجزة «ولما ارتحل الشعب من خيامهم لكي يعبروا الأردن» والكهنة حاملو تابوت العهد (هو تابوت ينام فيه الرب ليحملوه معهم) أمام الشعب، فعند إتيان حاملي التابوت إلى الأردن، وانغماس أرجل الكهنة حاملي التابوت في ضفة المياه، والأردن ممتلئ إلى جميع شطوطه كل أيام الحصاد، وقفت المياه المنحدرة من فوق وقامت ندا واحدا بعيدا جدا ... والمنحدرة إلى بحر العربة بحر الملح انقطعت تماما، وعبر الشعب مقابل أريحا، فوقف الكهنة حاملو تابوت عهد الرب على اليابسة في وسط الأردن راسخين، وجميع إسرائيل عابرون على اليابسة، حتى انتهى جميع الشعب من عبور الأردن (سفر يشوع، 3: 14-17). وبعد ذلك بخمسة قرون يأتي الرب ليقابل النبي «إيليا التشبي»، «فقال أخرج وأقف على الجبل أمام الرب، وإذا بالرب عابر وريح عظيمة وشديدة قد «شقت الجبال وكسرت الصخور» أمام الرب» (ملوك أول، 19: 11)، فهل كانت تلك كارثة أخرى، وخاصة أن «إيليا» قام بمعجزة فلق الأردن هو بدوره «فأخذ إيليا رداءه ولفه وضرب الماء فانفلق إلى هنا وهناك فعبر كلاهما في اليابس» (ملوك الثاني، 2: 8). وبعدها ظل رداء «إيليا» بيد اليشع يقوم بالوظيفة التي كانت تقوم بها عصى «موسى»، «فأخذ رداء إيليا الذي سقط عنه وضرب الماء وقال أين هو الرب إله إيليا؟ ثم ضرب الماء أيضا فانفلق إلى هنا وهناك فعبر اليشع» (ملوك الثاني، 3: 14)، ومثل تلك الروايات تغص به كل صفحات الكتاب المقدس من بدئه إلى منتهاه.
أما الاستفسار الأهم، فهو إذا كان الإسرائيليون مع أول ملوكهم «شاول» قد امتلكوا تلك القوة الحربية العظمى بألوف العربات ومئات الألوف من الجنود المدربين، بحيث تمكنوا بها من استئصال شأفة الهكسوس العرب وتحرير مصر والقضاء على الإمبراطورية العظمى، فإن ذلك يعني وجود نظام إسرائيلي مركزي متماسك وقوي، بينما المطالع للكتاب المقدس لن يجد لأي من الفرضين أي تحقيق بالمرة، انظر معي قارئي الكتاب المقدس حيث يوزع أسباط إسرائيل وقبائلها بأسمائهم على خريطة المدن الفلسطينية حيث كان لها سكانها الأصليون. «وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم «فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم»، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى اليوم» (يشوع، 15: 63).
و«كذلك سبط إفرايم لم يستطيعوا أن يطردوا الكنعانيين» الساكنين في جازر، «فسكن الكنعانيون وسط إفرايم إلى اليوم» (يشوع، 16: 10).
وكذلك أبناء منسي أخي إفرايم ««ولم يقدر بنو منسي أن يملكوا هذه المدن» فعزم الكنعانيون على السكن في تلك الأرض» (يشوع، 17: 12).
كذلك سبط أشير لم يستطع الاستيلاء لا على «صيدون العظيمة»، ولا على «المدينة المحصنة صورة» (يشوع، 19: 28-29). «وكان الرب مع يهوذا فملك الجبل «ولكن لم يطرد سكان الوادي لأن لهم مركبات من حديد»» (قضاة، 1: 19).
كذلك «زبولون لم يطرد سكان قطرون ولا سكان نهلون فسكن الكنعانيون في وسطه» (قضاة، 1: 33). ««وحصر الأموريون بني دآن في الجبل» ... فعزم الأموريون على السكن في جبل حارس في إيلون وفي شعلبيم» (قضاة، 1: 35).
والأمثلة غير ذلك كثيرة يمكن للقارئ الرجوع إليها بالكتاب المقدس. وتشير بوضوح إلى أمرين هامين: الأول أن الإسرائيليين الخارجين من مصر ظلوا على انقسامهم قبائل وبطونا وأفخاذا، والثاني هو أنهم رغم البشاعة التي استخدموها في حروبهم ضد سكان الأرض، فإن هؤلاء ظلوا في أماكنهم ولم يتمكن بنو إسرائيل رغم المجازر الهائلة التي ارتكبوها - وسنأتي على ذكرها - أن يزحزحوا هؤلاء من بلادهم، فسكن الإسرائيليون بينهم.
أما الفرض الثاني، وهو قيام كيان متماسك، فمن الواضح أنه لم يتحقق طوال الزمن الممتد من الخروج إلى زمن «شاول»، وفي رواية المقدس التوراتي تفاصيل تؤكد أن بني إسرائيل لم ينعموا بالاستقرار طول ذلك الزمن الذي امتد حوالي أربعة قرون كاملة، وإليك نماذج من تلك الروايات التي وردت في سفر القضاة: «فعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب ونسوا إلههم وعبدوا البعليم والسواري، فحمي غضب الرب على إسرائيل فباعهم بيد كوشان رشعتايم ملك أرام النهرين، فعبد بنو إسرائيل كوشان رشعتايم ثماني سنين» (3: 7-8)، وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب ... فشدد الرب عجلون ملك موآب ... وضرب إسرائيل، فعبد بنو إسرائيل عجلون ملك موآب ثماني عشرة سنة (3: 12-14)، وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب ... فباعهم بيد يابين ملك كنعان ... فصرخ بنو إسرائيل إلى الرب لأنه كان له تسعمائة مركبة من حديد، وهو ضايق بني إسرائيل بشدة عشرين سنة (4: 1-3)، وعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب فدفعهم الرب ليد مديان سبع سنين ... بسبب المديانيين عمل بنو إسرائيل لأنفسهم الكهوف التي في الجبال ... وإذا زرع إسرائيل كان يصعد المديانيون العمالقة وبنو المشرق ... ويجيئون كالجراد في الكثرة وليس لهم ولجمالهم عدد، ودخلوا الأرض لكي يخربوها، فذل إسرائيل جدا من قبل المديانيين، وصرخ بنو إسرائيل للرب (6: 1-6)، وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب، وعبدوا البعليم والعشتاروت وآلهة أرام وآلهة صيدون وآلهة موآب وآلهة بني عمون وآلهة الفلسطينيين، وتركوا الرب ولم يعبدوه، فحمي غضب الرب جدا على إسرائيل وباعهم بيد بني الفلسطينيين ويد بني عمون فحطموا ورضضوا إسرائيل ... ثماني عشرة سنة ... فصرخ بنو إسرائيل إلى الرب قائلين أخطأنا إليك (10: 6-10)، ثم عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب فدفعهم إلى يد الفلسطينيين وانكسر إسرائيل وهربوا كل واحد إلى خيمته، وكانت الضربة عظيمة جدا، وسقط من بني إسرائيل ثلاثون ألف رجل، وأخذ تابوت الله» (صموئيل أول، 4: 10-11) وبعدها اجتمع الأسباط وطلبوا من الكاهن القاضي «صموئيل» أن يجعل لهم ملكا فاختار «شاول»، الذي نجح في استرداد التابوت من الفلسطينيين، في غزو ما أسماه الكتاب المقدس مدينة عماليق، والتي افترض «فليكوفسكي» أنها كانت حواريس عاصمة إمبراطورية الهكسوس العربية، تلك الإمبراطورية التي كانت تحكم على منطقة حوض المتوسط الشرقي، بينما كان داخلها كل تلك الممالك وتلك الحروب، والتي لم يأت لها «فليكوفسكي» على ذكر. إن معنى وجود ممالك متعددة في المنطقة، وحروب إقليمية متتالية، بينها حروب شعب مثل بقية تلك الشعوب بالمنطقة والمعروف باسم العمالقة، يهدم الفرض الأساسي في كتابه حول تلك المملكة العظمى المسيطرة خلال عصر القضاة المليء بالأحداث.
ومسألة أخرى ما زالت تطلب المناقشة، وتتأسس على مدى مصداقية الصفات البربرية التي نسبها «فليكوفسكي» للهكسوس العرب حسب فروضه، وفي هذه الحال لن يكون أمامنا مقياس للفضائل ومعيار للنبل سوى الشعب المقابل؛ الشعب التقي الورع الذي فدى الإنسانية جمعا، وقضى على شر الهكسوس، وظلمته الإنسانية جمعاء؛ شعب إسرائيل، ولا شك أنه لا توجد شهادة للإسرائيليين أفضل من كتابهم المقدس.
تقول شريعة الكتاب المقدس العطرة والسمحاء لشعبها أثناء رحلة التيه، قبل دخول فلسطين: «أحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار (عدد، 31: 10)، اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة (عدد، 31: 17)، أحرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار (تثنية، 12: 31)، فضربا تضرب سكان المدينة بحد السيف وتحرقها بكل ما فيها مع بهائمها ... وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك (تثنية، 13: 15-16) وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما» (تثنية، 10: 10-16).
ولن تجد سفرا واحدا يخلو من صورة «يهوه» وهو ينفث أوامره المتكررة بالحرق والذبح وتقطيع الأوصال، رجال أو نساء أو حتى الأطفال بل والبهائم أيضا، وعندما كانت تحدث أي مخالفة لتلك الأوامر، حين يطمع الإسرائيليون في الإبقاء على بعض النساء كسبايا، أو على المتاع والبهائم كغنائم، فإن الرب كان يصب نقمته على الإسرائيليين أنفسهم. والأمثلة كثيرة بالكتاب نستشهد منها بمثال واحد فقط اختصارا للأمر، «وكلم الرب موسى قائلا: أنتقم نقمة لبني إسرائيل من المديانيين ... فكلم موسى الشعب قائلا: جردوا منكم رجالا للجند فيكونون على مديان ليجعلوا نقمة الرب على مديان، ألفا واحدا من كل سبط من جميع أسباط إسرائيل ترسلون الحرب ... فتجندوا على مديان كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر ... وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكل أملاكهم، وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار ... فخرج موسى ... لاستقبالهم ... فسخط موسى ... وقال لهم موسى: «هل أبقيتم كل أنثى حية ... فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة» (عدد، 31: 1-17). فلماذا تجاوز «فليكوفسكي» عن هذه المدونات التي لا شك كانت مصداق كل كلمة استشهد بها من قبل «واعتبرها تقول ما تعنيه فعلا؟» بينما حمل على الهكسوس تلك الحملة القاسية بعد أن احتسبهم عربا من العمالقة، بينما في مصر ذاتها لا توجد شهادة قديمة واحدة على قسوة الهكسوس بشكل يقترب من تلك البشاعة في شرائع الحرب التوراتية؟ اللهم إلا في نص «حتشبسوت»، وما جاء في حديث «مانيتون» في القرن الثالث قبل الميلاد.
هذا ما كان عن تزوير التاريخ لصالح التنظير التاريخي للقومية الإسرائيلية، ويبقى أن نعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، ونكشف عن هوية الهكسوس بوضوح وعلاقتهم بالعرب وبالمصريين وببني إسرائيل، وموقعهم الصحيح من التاريخ القديم! وهذا وعد نعمل حاليا - وربما لبعض الوقت - من أجل الوفاء به.
40
ملحق له ضرورته
(1) الصهاينة مرة أخرى (؟!)
1 (الرد على مقال الأستاذ حازم هاشم)
كنا قد آلينا على نفسنا عدم الاستجابة لأية استفزازات، حتى لا ننشغل بمعارك وهمية تصرفنا عن أبحاثنا، خاصة مع إدراكنا لحجم الشراك المنصوبة تلك الأيام، والتي نعلم جيدا دقائقها وآلياتها وأهدافها. لكن ما نشره الأستاذ «حازم هاشم» في «الوفد» بتاريخ 7 / 11 / 1955م تحت عنوان «ما بين القمني وهذا المترجم»، ودعوته الواضحة لنا للرد على الطبيب «رفعت السيد» حول ما كتبه في مقدمة ترجمته لكتاب «عصور في فوضى»، لمؤلفه الكاتب الصهيوني «إيمانويل فليكوفسكي»، إضافة إلى العبث غير المحمود الذي ساقه الطبيب المذكور ، كل ذلك لم يترك لنا فرصة التمسك بمبدئنا؛ حيث انزلق السيد الطبيب إلى منزلق شديد الوعورة، غير مدرك إلى أي منحدر ذهب؛ فطعن في أمانتنا العلمية، «وهي الرصيد الوحيد الذي نملك ونتيه به اعتزازا». ومن هنا تأتي استجابتنا لدعوة الأستاذ حازم هاشم، وهي الاستجابة الكفيلة بإنهاء الأمر تماما، حتى لا نترك مساحة لمزيد من المهاترات، وحتى لا يطول أمر الأخذ والرد، لكن ذلك لا يعني حرمان القارئ من متعة المتابعة، فسنعطيه هنا قدرا كافيا من المتعة، وبغرض العودة السريعة إلى مكاننا الحقيقي بعيدا عن السجال حول أمور هي كالعهن المنفوش، ومن هنا نعتقد أن السيد الطبيب بدوره سيلزم الصمت الحميد وفي ذلك كفاية وغنى.
وكان السؤال الذي تبادر إلى ذهني فور قراءتي للوفد، هو: لماذا صمت السيد الطبيب منذ التقاني عام 1992م - حسبما قرر هو في مقدمة الكتاب المذكور - وحتى اليوم ليخرج الآن عن صمته؟ أما لو كنت مكان أي قارئ آخر لكان السؤال هو: لماذا لم يبادر سيادته من فوره إلى اتخاذ الخطوات القانونية الرادعة في مثل تلك الأحوال؟ لكن لو حاولت الإجابة على سؤالي أنا، مع الأخذ بحسن الظن، لذهبت إلى احتمال أن الرجل وهو لم يبدأ بعد خطواته في عالم الكتابة، قد هدته قريحته إلى أن أقرب طريق إلى الشهرة هو افتعال المعارك الكبيرة، وإذا كان ذلك كذلك، فقد فعلها الرجل دون أن يرمش له جفن، بجرأة متفردة ومغامرة يحسد عليها، لكن ذلك الاحتمال تراجع إزاء معطيات أخرى يمكنها أن تفسر لنا سر تلك النزوة المفاجئة، لمغامرة نزقة، في منطقة خطرة عسرة العبور. (1-1) راوية هذا الترجمان
يحكي لنا الطبيب الترجمان في مقدمته رواية غاية في الطرافة والظرف، فيقول: إنه قد التقاني عام 1992م، عندما كانت ترجمته لكتاب فليكوفسكي لم تزل بعد مخطوطة بأدراج مكتبه بالمطرية بالقاهرة، لكن تلك الترجمة غير المنشورة - بمعجزة غير مفهومة - طبقت شهرتها الآفاق حتى وصلتني أخبارها؛ حيث كنت أقيم بمدينة الواسطى بصعيد مصر (كذا؟!)، وعندها هرعت إلى السيد الطبيب أطلب منه استعارة تلك المخطوطة الأسطورية لأطلع عليها، وحسب قوله إني قد فعلت ذلك بعد ما ترامى إلى سمعي عنها، وتشوقي لقراءتها، وذلك كي أستعين بها في كتاب كنت أكتبه حينذاك، هو كتاب «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول».
وهكذا وجه الرجل لنا اتهامين دفعة واحدة: الأول أننا استعنا بفليكوفسكي في كتابنا «النبي إبراهيم» دون أن نشير إليه كمرجع لأنه بالفعل غير مدرج كمرجع بكتاب «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول»، أما الثاني فهو أننا قد أخذنا بأفكار كاتب صهيوني في معالجة مسألة تتعلق بأب الأنبياء خليل الله عليه الصلاة والسلام. والغريب أن الطبيب الملهم لم يكلف نفسه عناء النظر في تاريخ طباعة ذلك الكتاب الذي صدر عام 1990م، واستغرق العمل فيه ثلاث سنوات قبل صدوره، وهو ما يعني أن الكتاب قد صدر قبل أن ألتقي بالترجمان بسنتين كاملتين.
ونتابع مع الرجل مندبته المأساوية وهو يجأر بالشكوى قائلا: إنه أعطاني مخطوطته المترجمة لكتاب فليكوفسكي، بعد أن أخذ مني وعدا بعدم نشر أي جزء منها (؟!) أي إنه كان يخشى على مخطوطته سلفا ومع ذلك وثق في وعدنا الشفاهي (هكذا؟!)، لكن الرجل يكتشف كم كان غرا عندما أعارنا المخطوطة؛ لأنه لم تكد تمر أسابيع حتى فوجئ بنشر ترجمته في مقالات أسبوعية بصحيفة «مصر الفتاة»، وبأننا قد وضعنا اسمنا على ترجمته للكتاب، وأننا كي نمرر تلك السرقة اللئيمة لجهد الرجل المسكين، أضفنا إلى تلك الترجمة بعض المقبلات، مع تعليقات هنا، وحواش هناك، لذر الرماد في العيون.
ويزعم الطبيب الترجمان أنه بذل جهودا مضنية لإيقاف نشر ترجمته لكتاب فليكوفسكي باسمنا، وتمكن من ذلك فعلا، لكن بعد أن كنا قد نشرنا الفصل الأول كاملا، ولأني رجل لا أرتدع عن الغي، فقد تماديت وأدرجت مقالات «مصر الفتاة» بكتابي «إسرائيل: التوراة، التاريخ، التضليل»، وأضفت إليها بعض التوابل والمشهيات في عبارة هنا وجملة هناك، لمزيد من الضحك على ذقن القارئ والمترجم، إنها إذن فضيحة بكل معنى الكلمة، وظل الرجل صامتا يمضغ أوجاعه بصمت الكبراء والكاظمين الغيظ، حتى قرر أن يتكلم الأمس فقط، فأي تسامح؟ وأية مروءة ؟ وأي ترقع؟ لكن ماذا يفعل الرجل بنفسه وهو يسوق أكاذيبه، عندما تكتشف أنه لم يجهد نفسه في صياغة الكذب المرتب؛ حيث إن دراستنا التي أشار إلى نشرها ب «مصر الفتاة»، والتي نشرناها نحن تحت عنوان «الرد على الأضاليل في تنظيره بني إسرائيل»، وكانت ردا على الصهيوني فليكوفسكي قد نشرت خلال عام 1991م أي قبل أن يلقاني سيادته بعام كامل.
يبدو أن الموضوع سينتهي عند هذا الحد، ولم أف قارئي الوعد بالمتعة المنتظرة. وحتى لا تأخذ القارئ بنا ظنون عدم الوفاء، أجد من واجبي توسيع الحكاية حسب الأصول. ومن هنا أقدم للسيد الطبيب مثالا للأمانة لعله يحتذي به في مستقبل أيامه، فأقر هنا رغم انتهاء الأمر بهذا الشكل، أن الترجمة التي اعتمدناها في ردنا على كتاب فليكوفسكي الصهيوني «عصور في فوضى»، كانت بالفعل ترجمة صاحبنا الترجمان، وهذا درس آخر في جرأة الواثقين المطمئنين، أما كيف حدث ذلك؟ فهي حكاية أخرى. (1-2) زيارة الترجمان للصعيد
أكد الطبيب الترجمان أنه قد التقاني عام 1992م، لكن لأن للشرف رجاله، فإني أصحح له المعلومة لصالحه؛ حيث إنه قد تجشم مشقة زيارتي لأول مرة في بيتي بمدينة الواسطى في شتاء 1991م، كأي زائر من قرائنا الكرام. لكن زيارة الرجل كانت بغرض آخر؛ حيث جاء يطلب منا رعايته كمبتدئ هاو، ومساعدته على نشر مخطوطة من ترجمته أحضرها معه لأن المخطوطة تواجه عقبات شديدة في نشرها، كما طلب - إذا أعجبتني - أن أكتب لها تقديما.
ووعدت الرجل خيرا، وبدأت مطالعة ترجمته لكتاب فليكوفسكي «عصور في فوضى»، ولكن لأكتشف أني أمام شرك عظيم، وأن عدم تجرؤ دور النشر على نشره، له مسوغاته وحيثياته؛ حيث وجدتني بإزاء عمل هائل وشديد الخطورة هزني هزا، حتى لحق الهز بالثوابت العلمية، ووجدت أمامي فنا عاليا وعظيما بل ورائعا ومثيرا للإعجاب، في تزوير حقائق التاريخ والعقائد، لصالح الفكر الصهيوني، كما لاحظت أن العمل قد وقفت وراءه ودعمته جامعات عالمية، وأساتذة كبار في شتى صنوف المعرفة، وهنا كان لا بد أن يطفر السؤال قافزا: إذا كان قد حدث لي كل الانبهار - مع هول الصدمة - إزاء ذلك التكنيك الصهيوني العالي الجودة والامتياز، فماذا سيكون شأن قارئ عادي دون أن يتسلح برد على ذات المستوى من الأصولية العملية والاقتدار؟ بينما الكتاب يتألق تحت ستار براق من العقلانية والعلمية والصرامة الظاهرة، لينقض نهشا على تاريخ مصر وتاريخ العرب، ليؤسس لإسرائيل مكانها في التاريخ وفي العلم وفي العقول وفي القلوب. وكانت الدهشة أكثر عندما علمت أن أول طبعة للكتاب بالإنكليزية كانت عام 1952م، ومع ذلك لم نسمع في بلادنا ولو ردا واحدا على ذلك الكتاب، بل اكتشفت أن العكس هو ما قد حدث بالضبط؛ حيث استعان به كتاب عرب كمصدر في كتبهم لكن غفل من الإشارة لمصدرهم وهم كتاب مفترض أنهم مهمون أشرت إليهم في حينه.
هنا وجدت معركة حقيقية، وقررت فضح كل هذا الكم من التزييف التاريخي وتزوير الحقائق، لكن اللياقة الريفية اللعينة دعتني إلى عدم تجاوز الترجمان الطبيب، خاصة وأنه كان السبب في تعريفنا بذلك الكتاب الخطير، وعليه طلبت من السيد الترجمان الحضور إلى بيتي المتواضع، وأحطته علما بقراري الرد الفوري والسريع دون إبطاء على ذلك الزيف المخيف الذي تأخر الرد عليه طويلا.
وبالفعل حضر السيد الترجمان يركب سيارته المرسيدس الفاخرة، واستمع إلى جزء طويل من ردودي على فليكوفسكي، بينما وجهه يتلون ويتبدل، ثم انحدر فجأة إلى حالة عصبية دفاعا عن طروحات الكاتب الصهيوني، مما أشعرني أن وراء الأكمة ما وراءها؛ ومن ثم كان ردي الفوري هو أني سألجأ إلى ترجمة النصوص التي سأرد عليها من جانبي ومباشرة بالصحف، من النسخة الإنكليزية التي كان قد أحضرها لي لتدقيق ترجمته، وسافر الرجل ليعمل تفكيره في قراري الحاسم والقاطع، لكن لتختفي من على مكتبي النسخة الإنكليزية مع مغادرته (؟!) لا بأس ... يمكن الحصول عليها، لكن في ذات الليلة اتصل بي السيد الترجمان ليقدم لي اقتراحا يقول: ما المانع أن أستثمر ترجمته الموجودة لدي الآن ما دمت متعجلا؟ على أن أشير إليه كمترجم لنص فليكوفسكي بشكل واضح ومميز مع نغمة نفعية عالية الصراحة ، مفادها أن ذلك سيكون دعاية لترجمته تسمح بنشرها، وإزاء تلك النفعية الواضحة، تراجعت ظنوني في طبيعة علاقة الترجمان بمنظومة الكتاب، وقررنا العمل باقتراحه.
وقمت بالرد على تأسيسات فليكوفسكي التي أوردها بفصله الأول؛ حيث إن بقية الفصول كانت إعادة لتوزيع المعزوفة التأسيسية حسب نوتات أخرى، وقد قلت ذلك واضحا في مقالي الأول بمصر الفتاة وتم نشرها، وأنجزت ذلك الرد في عشر مقالات سلمتها كاملة للأستاذ مصطفى بكري رئيس تحرير مصر الفتاة آنذاك، ونشرت على التوالي كاملة دون توقف، هذا بينما يقول السيد الترجمان إن ما نشرناه كان ترجمته هو، وإننا كنا نزمع الاستمرار بنشر الكتاب كاملا لولا تدخله لإيقاف نشر بقية الفصول، ولعل الأستاذ مصطفى بكري يقرأ معنا الآن ليدلي بشهادته حول هذه الجزئية؛ أي إن السيد الترجمان لم يتدخل ويوقف نشر بقية ترجمته المسروقة كما زعم؛ حيث لم يتسلم الأستاذ بكري سوى تلك الحلقات العشر فقط وقد نشرت كاملة. (1-3) حقوق الترجمان
وعملا بالأصول العلمية، واتباعا لشروط الأمانة البحثية، قمنا بتصدير الحلقة الأولى بالبنط العريض برأس المقال، بإشارة واضحة إلى أن العمل الذي سنرد عليه هو من ترجمة الطبيب رفعت السيد، وعدنا إلى تكرار الإشارة في الحلقة الثالثة نظرا لورود اقتباسات لنصوص كثيرة من تلك الترجمة فيها، وفي ختام المقال العاشر والأخير طلبت من الأستاذ مصطفى بكري تليفونيا أن يكتب بنفسه شكرا وتقديرا لتلك الترجمة، وقد جاء نص ذلك التنويه في مربع بلون متميز لمزيد من الإيضاح، وكان نصه: «يتقدم د. سيد القمني بالشكر إلى الزميل د. رفعت السيد الذي ترجم كتاب عصور في فوضى، وبذل فيه من الجهد والعرق ما يستحق التقدير.» «نص المنشور بصحيفة مصر الفتاة بتاريخ 24 / 6 / 1991م، والذي يؤكد كذب وافتراء السيد الترجمان وقد تم تصويره من الصحيفة مباشرة.» «نص اتهامات المترجم رفعت السيد في مقدمته لترجمة كتاب «عصور في فوضى» مأخوذ بالتصوير من الكتاب المذكور.»
وعندما قررنا توسعة الرد على تلك المدرسة الصهيونية، أصدرنا كتابنا «إسرائيل: التوراة، التاريخ، التضليل»، وضمنه تلك الردود، وعند ورود الجزء الخاص بعرض أسس نظرية فليكوفسكي التي سنرد عليها وذلك ص97، أحلنا إلى المترجم بحاشية مستقلة واضحة تقول: «إيمانويل فيلكوفسكي: عصور في فوضى، عن ترجمة مخطوطة قام بها الدكتور رفعت السيد.» وهو الترتيب العلمي لعناصر معلومات الكتاب حسب الأصول الأكاديمية، أما ملحوظة الأستاذ حازم هاشم، أن تلك الإشارة لم تتكرر بعد ذلك عند ورود نصوص نرد عليها بالكتاب، فهو الأمر الذي ما كان ممكنا؛ فالترجمة حتى ذلك الحين كانت مخطوطة بلا أي معلومات نشر نحيل إليها، فلا اسم ناشر، ولا طابع، ولا بلد، ولا صفحات أيضا، فكيف نحيل إلى صفحات غير منشورة؟ وللتغلب على تلك العقبة وضعنا تلك الإشارة الواضحة في مستهل عرض طروحات فليكوفسكي، مع إبراز الاقتباسات بعلامات التنصيص أحيانا، وبالهامش الأوسع أحيانا أخرى، وهي من الأدوات الأكاديمية المعلومة في الإحالة إلى المصدر.
ولو قمنا بجمع النصوص الفليكوفسكية التي أوردناها للرد عليها، في اتصال سردي متصل، لما تجاوزت العشرين صفحة، في كتاب يمهد لها، ويناقشها، ويرد عليها، في مائتي صفحة كاملة، جهدنا عليها زمنا حتى أنجزناها، وهي الردود التي أسماها السيد الترجمان «تعليقات وحواشي».
وأذكر أني بعدما نشرت تلك الردود التي تكشف الكتاب والدوائر التي تقف من ورائه، فاجأنا السيد الطبيب بالعدد «139» من مجلة القاهرة بمقال يتلبس الزي الوطني والقومي الغيور ضد فليكوفسكي، وهو ما عاد إلى عزفه في مقدمة ترجمته للكتاب التي نشرت بالأمس القريب، لكن ليقدم لنا الآن، والآن بالتحديد، كتابا مليئا بالمتفجرات الموجهة. بالطبع نحن لا نصادر على نشر أي كتاب من أي لون، لكن يبقى ذلك السؤال الأرق الملحاح يهمس: «لماذا نشر مثل هذا العمل الآن تحديدا، خاصة وأنه الكتاب الوحيد الذي ترجمه السيد الطبيب، فلماذا هذا الاختيار من بين ملايين الكتب التي تحتاجها مكتبتنا العربية فعلا؟»
مرة أخرى - إذا أخذنا بسوء الظن - فسيكون ما أزعج صاحبنا الترجمان ليس موضوع الترجمة، بل ردنا نحن غير المتوقع على فيلوفسكي الذي تصوره من النوع الذي لا يقهر، فهل يسعد صاحبنا الطبيب القيام بدور حارس الشرف للكتاب الصهيوني؟
أما إذا كانت الإجابة تأخذ بحسن الظن، فإن السيد الطبيب قد كسب رهان المغامرة، عندما اضطرنا للرد عليه، ليشكل ردنا دعاية مجانية لسيادته، وللكتاب، وبالطبع للدار الناشرة التي تجرأت على نشر هذا الكتاب أخيرا، بعدما رفضته كل دور النشر الأخرى.
حتى لا يضيع العقل مع الأرض
(1) الرد على خطاب شامير في مدريد
1
يعنينا هنا أن نؤكد، أن كلمة «شامير» التي ألقاها على المؤتمرين بمدريد في 31 / 10 / 1991م، تشكل نموذجا - لا شك - مثاليا تماما للخطاب الصهيوني عامة بمنطقه ومحاوره الأساسية؛ فرغم الظروف التي ألقيت فيها كلمة إسرائيل، في ظل ضعف عربي عام وشامل، مهما سار العربان متبخترين، وتحت مظلة من السيطرة الأمريكية شبه الكاملة، ومع الاقتدار الإسرائيلي المتفوق على كافة المستويات، والذي لا يجادل فيه إلا مكابر، فإن كلمة شامير كانت على ذات الخط، وذات الدرجة، وذات القدر، الذي كان الخطاب الصهيوني يراعيه دوما، ودون أن يحيد عنه أنملة بشكل ذكي. وليس جديدا أنها تلقى في ظرف عالمي يتحدث عن نظام جديد، يقول للدنيا إنه يسعى لإرساء قواعد السلام والأمن والمحبة على الكوكب الأرضي، وبخاصة في أشد مناطق العالم سخونة، حتى لو ثوى الجمر مؤقتا تحت رماد ظاهري، تصنعه أنظمة تابعة. كما لم يغب عن بال الخطاب أنه يتحدث إلى العالم كله، وأمام كل الشبكات الإعلامية الدولية؛ فوضع بحسبانه مشاعر الجماهير العريضة على تنوعها واختلاف توجهاتها، فجاءت صياغة الخطاب واضعة باعتبارها أنها كما لو كانت تخاطب كل فرد على حدة؛ ومن ثم فإننا نفترض أن الخطاب قد أحاط تماما بكل الأغراض المطلوبة منه، واستخدم كل الممكنات من أساليب متاحة تتناسب مع المقام، وعمد إلى كل طرق الإقناع وعرض قضيته كاملة تامة شاملة مانعة بهدف كسب أكبر تأييد جماهيري ممكن؛ حيث إنه حاصل سلفا على تأييد النظام الجديد؛ وعليه فإننا سنتعامل مع كلمة شامير في مدريد كمعبر صادق عن الخطاب الصهيوني، وسنحاول قراءة طبيعة هذا الخطاب ومكوناته وأغراضه ومناهجه.
والمدقق في الخطاب يمكنه أن يلحظه وهو يتحرك على عدة محاور، تم ربطها ببعضها في منظومة شديدة الجودة، تم تركيبها معا بتقنية ومهارة عالية؛ فكان المحور الأساسي للحركة جيئة وذهابا، ومركز الحركة، هو التركيز على الاستجابة النفسية للمستمع، فقدم افتراضه المسبق لهذه الجماهير بأنه يخاطب كل واحد منهم كشخص متحضر، بلغ من الحضارة قمتها، وهذا وحده لون من تملق المستمع لكن بحيث يترك في نفسه أثرا مطلوبا، هو أن الخطاب يتعامل معه بكل احترام لأنه شخص متحضر حتى لو لم يكن المستمع يستحق هذا الاحترام، أو يحوز تلك الدرجة الحضارية، لكنها على أية حال الطريقة المثلى لجعل المستمع يتجاوب مع كم الاحترام وكم الحضارة المفترض فيه! وهكذا فقد سلم الخطاب للمستمع أنه رجل متحضر، مسالم ينفر من الحروب، يريد الرفاهة لجميع الأمم وكل الشعوب بلا استثناء، يرفض التعصب بكافة أشكاله وينفر من الاضطهاد على أسس عرقية أو دينية بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة. وبإيجاز فالخطاب يفترض في المتلقي ليبرالية ملائكية، ومن هنا كان الكسب الأول المطلوب، على المستوى السيكولوجي، هو أن يقول للمتلقي أنت متحضر، ولهذا نحن نحترمك ونثق في حكمك على ما سنقول.
أما المحور الثاني الذي ترتبط حركته بحركة المحور الأول، فهو الذي يركز على الجانب الحقوقي! وهو لا شك أهم أعمدة التعامل بين المتحضرين ويتم فيه تأكيد الحقوق التاريخية الثابتة لليهود في أرض فلسطين منذ آلاف السنين. وهنا يتداخل المحور الثالث على نفس الميكانيك لينقل الأمر الحقوقي المسلم به حضاريا إلى اليد الإلهية منتقلا بذلك إلى المحور الديني؛ فتلك الحقوق قرارات إلهية، وهبة سماوية، واختيار أحكم الحاكمين الذي فضلهم على العاملين (؟!) وهو القرار الذي يؤمن به إلى جانب اليهود، العالم المسيحي الغربي كله، وذلك باحتساب التوراة صاحبة ذلك القرار الحقوقي القدسي بعهديه (القديم أو التوراة، والعهد الجديد أو الأناجيل) مع البصمة التأكيدية، والقول التوثيقي على الناموس التوراتي بلسان المسيح «ما جئت لأنقض الناموس. ما جئت لأنقض. بل جئت لأكمل.» وهنا وبسرعة يتم إدخال المحورين الحقوقي والتاريخي، مع المحور الايماني الديني على ميكانيك الحركة المحورية الأساسية «النفساني» لتتشابك الحلقات التي تؤدي إلى راحة ضمير المؤمن المسيحي الغربي تماما والمتحضر جدا، إزاء مساهمته بالموافقة على تأمين حياة هؤلاء المؤمنين لتحقيق كلمة الله الصادقة الثابتة، مع ما يفترض في المستمع المتحضر من رغبة في إثبات تحضره، بتأمين كل الحقوق، لكل العقائد والديانات مهما اختلف معها. (1-1) ضمير العالم
ولإحداث الأثر المطلوب من المحور الأساسي «النفساني» فقد ترك الرجل أثرا طيبا فعلا، فكان رقيق الحاشية، عف اللسان، وديعا كالحملان يمد يده إلى جيرانه يستجديهم الصداقة والأمان، رغم أنه الأقدر والأقوى، ولكنه من جانب آخر قام يردد «أن الموضوع ليس موضوع أرض، إنه موضوع وجودنا ذاته.» فأي لون من التنازل يعني دمار شعب إسرائيل المسالم (!) وإزالته من الوجود. وذلك في ضوء المقارنة التي قدمها لتعداد شعب إسرائيل «4 ملايين»، مع من حولهم من عتاة القتلة المتعطشين للدماء وعددهم «170 مليون عربي» مع ضالة مساحة أرض إسرائيل التي تستدعي الشفقة «27 ألف كم» وسط محيط عربي شرس يبلغ «24 مليون كم» والحجة على المستوى النفسي مع تغييب الحقائق الأخرى تبدو غاية في الوجاهة. يبدو فيها شعب إسرائيل بطلا للخير يدافع عن وجوده وسط غابة من الشر، مما يستدعي مشاعر الاشمئزاز من العرب الذين يستأسدون على الدولة الوديعة!
وقد عمد الخطاب - بذكاء - إلى استحضار مشاعر أخرى تمتزج مع مشاعر الاشمئزاز، عندما ذكر أن كل عدوان عربي على إسرائيل تم دحره! لتمتزج مع المشاعر الأولى مشاعر الاحتقار أيضا مع الاستهانة والاستخفاف، من شأن أجلاف البوادي، الذين يتحينون فرصة لا يجيدون حتى صنعها والوصول إليها. رغم ذلك فالرجل يمد يده إلى جيرانه أمام كل العالم ويشرح ما وقع على شعبه من مظالم، وذلك في قوله: «وللأسف فإن الزعماء العرب الذين كنا نود مصادقتهم، رفضوا الدولة اليهودية في المنطقة، وادعوا أن أرض إسرائيل هي جزء من الأرض العربية ... وانطلاقا من تحدي الشرعية الدولية، فقد حاولت الدولة العربية احتلال وهدم الدولة اليهودية.»
وهكذا يختفي الفلسطينيون تماما ويصبح العرب - بلا سبب مفهوم أو واضح - يريدون تدمير إسرائيل المسالمة التي تسعى لصداقتهم وحسن جيرتهم لذلك أصبحت المسألة ليست مسألة أرض، إنما مسألة وجود شعب إسرائيل، وسط الحشد العربي الشرير! ومن ثم عمد الخطاب مباشرة إلى الضغط على ضمير العالم بمأساة الشعب اليهودي الذي لاقى صنوف الاضطهاد، وأنه قد آن الأوان كي يصحو ضمير العالم ليرد لهذا الشعب أبسط الحقوق، وهي الأمن، بل ويطلب من اليهود الصفح والمغفرة (ألسنا عالما يدعي التحضر؟) ومن هنا أخذ يوجه حديثه إلى كل فرد في هذا العالم الخاطئ ويقول: «لقد تمت ملاحقة اليهود عبر التاريخ في كل القارات تقريبا ... وتعرض اليهود للاضطهاد والتعذيب والذبح. وشهد هذا القرن خطة إبادة نفذت على أيدي النظام النازي وهذه الكارثة والإبادة الجماعية المنقطعة النظير، والتي قضت على ثلث شعبنا تمت في واقع الأمر، وأمكن تنفيذها لأن أحدا لم يدافع عنا؛ فقد كنا بلا وطن، ولكن هذه الكارثة هي التي جعلت المجتمع الدولي يعترف بمطالبنا، القائمة على حقنا في أرض إسرائيل.» وهنا نجدنا مضطرين إلى تأجيل تناول المحورين (التاريخي والديني) لنحاول أن نفهم الآن: كيف أمكن للمذابح النازية ضد اليهود، أن تؤدي إلى اعتراف العالم بحق إسرائيل في فلسطين، وقيام الدولة الصهيونية على أرضها؟ ونلاحظ أن الخطاب - بعد تهيئة المستمع نفسيا وعاطفيا، مع إشعال جذوة الضمير الحضاري وعقدة الذنب - ينتقل فورا إلى إعلان أنه رغم ظلم العالم لليهود، فليس لأحد حق الادعاء بقيام دولة إسرائيل؛ لأن ضحايا اليهود أيام النازي كانوا الثمن المدفوع سلفا، فقدموا أنفسهم قربانا على مذبح قيام الدولة. هذا بالطبع حق اليهود التاريخي الديني المعلوم في تلك الأرض، وكل ما في الأمر أن العالم ربما نسي تلك الحقيقة بعد طول اغتراب اليهود عن فلسطين وما حدث من النازي كان فقط عامل الإنعاش للضمير العالمي الخاطئ.
الخطاب الصهيوني بذلك يعمد إلى لون فاضح من التزوير والتلفيق؛ فرغم أن المذنب هو النازي، فهو لا يذكر أبدا أنه ليس من المقبول حضاريا وحقوقيا وإنسانيا أن يدفع الفلسطينيون وزر الجريمة النازية، والمعلوم أنه في فلسطين تحديدا وعندما وقع اضطهاد على اليهود كان بداية من جانب الرومان الذين دمروا الهيكل الثاني، وشتتوا اليهود في بقاع الدنيا، لأسباب تاريخية معلومة. أما الاضطهاد الثاني فقد جاء على يد الصليبيين عندما استولوا على القدس عام 1099م، وقاموا بحرق اليهود داخل معابدهم، مما أدى إلى هروبهم الجماعي من فلسطين، وهو ما وضح في سقطة لسانية بخطاب شامير عندما قال: «إن اليهود كانوا موجودين باستمرار في فلسطين باستثناء فترة المملكة الصليبية القصيرة.» لكنه بالطبع لم يذكر السبب، كما لم يذكر أن سبب تواجدهم بعد ذلك في فلسطين كان سماح صلاح الدين لهم بالعودة بعد استعادة العرب لها من يد الصليبيين.
أما إشارة الخطاب إلى أن كل شعوب العالم اضطهدت اليهود الذين عاشوا بين ظهرانيهم، فهو يستحق الدهشة والتساؤل؟ لماذا تجمع شعوب مختلفة المواطن متباينة المشارب والعقائد، على كراهية مواطنين مثلهم، ولكن من ملة اليهود؟! هذه فزورة لا يحلها إلا السيد شامير. (1-2) العلاج النفسي
واللافت للنظر هو تركيز الخطاب الصهيوني الدائم، على الجريمة الهتلرية ضد اليهود ففي كل «حدوتة» وفي أي مناسبة (وبدون مناسبة) يتكرر ذكر المذبحة النازية لليهود التي اكتست بطابع ديني؛ بحيث لا يذكر هتلر إلا وتذكر كراهته للدين اليهودي وأتباعه، وأنه ما ذبح هؤلاء إلا لكونهم يهودا! حتى نسي العالم أن ضحايا النازية من غير اليهود قد بلغوا ستين مليون إنسان، وأن الضحايا المدنيين فقط وصل عددهم إلى ثلاثة ملايين بولوني، وستة ملايين سلافي، وضاع ذكرهم وسط الضجيج والصخب الصهيوني، والندب والعويل على شهداء البشاعة البشرية ضد اليهود والذين اتخذ موتهم طابعا قدسيا كما لو كان ضحايا هتلر من اليهود فقط! وأنهم فقط أصحاب حق في القداسة وأصحاب حق في جلد ضمير الدنيا بالسياط، ووسيلة لكسب التأييد المادي والمعنوي، وإذا كانت هذه الجريمة كما يقول خطاب شامير سبب صحوة الضمير العالمي لإقامة دولة إسرائيل، فلا شك أن الخطاب العربي الفاشل كان وراء خمود ذات الضمير أمام إبادة وتشريد الفلسطينيين! إضافة إلى العوامل الأخرى المتعددة، البعيدة عن موضوعنا هذا بشأن طبيعة الخطاب الصهيوني. لكنها على أية حال توضح لنا لماذا لم تقم دولة إسرائيل على أشلاء ألمانيا المنهزمة وقامت في فلسطين؟
ثم يعمد الخطاب الصهيوني مرة أخرى إلى تشغيل المحور السيكولوجي؛ فبعد أن يعدد خطايا العالم في حق شعب الرب المختار! ويضع الضمير العالمي في حالة أرق، وشعور حاد بالذنب والخطيئة، فإنه يسارع متبرعا بتقديم العلاج النفسي والبلسم الشافي لذلك الضمير المعذب، حتى يكون الجميع ممتنين وشاكرين؛ فيربط الخطاب بين الاضطهاد النازي وبين الأشرار العرب الذين يكيدون للدولة الوليدة، ليضع النازي والعرب داخل إطار واحد، فيمتزج الشر العربي بالشر النازي، ويصبح العالم مسئولا تمام المسئولية إزاء الشروع في الجريمة الجديدة، وأن يمنعها قبل أن تقع، وعلى الإنسانية أن تقوم بواجبها إزاء ما يمكن حدوثه، وهو ما يلتقي صداه مع العقيدة المسيحية التي تقبل بفكرة الضحية، مقابل الفداء والخلاص، أو بالنص الإنجيلي الذي يضع مشروعية رفع الخطيئة (بدون دم وسفك دم لا تحصل مغفرة).
والضحية موجودة والحمد لله، وعلى الفلسطينيين أن يقدموا الفداء لخطايا العالم، ويرفعوا الإصر عن ضميره اليقظ لأن المسيح نفسه، وهو الإله، قد تمت تضحيته على الصليب من أجل راحة ضمير البشرية ورفع الخطيئة عن بني آدم فهل الفلسطينيون أحسن من الله؟
وهكذا تجد البشرية الغربية المتحضرة المعذبة، التواقة إلى التكفير عن ذنبها لكن بعيدا عن جلدها خروفا يذبح بدلا منها، لتعود لتلك النفس راحتها، واتزانها وتماسكها، وهو ما أجاد الخطاب الصهيوني صناعته على الدوام وباقتدار؛ ومن ثم تبرز إلى جوار طبيعة الخطاب التي تستهدف الجانب النفسي مع استثمار المعاني النظرية لمفهوم التحضر، التي لا بد أن تنفر من الاضطهاد بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة، طبيعة أخرى تستثمر البعد الديني؛ فاليهود لم يضطهدوا إلا لأنهم يهود، ويصبح من المنطقي ألا يطلبوا التعويض ممن اضطهدوهم بأرض في أوروبا لسبب ديني بسيط معلوم هو أن أوروبا ليست أرض اليهود، أو كما قال موشى ديان لصحيفة لوموند في 5 / 10 / 1971م «بما أننا نملك التوراة وأننا شعب التوراة فلا بد أن نملك أيضا أرض التوراة.»
وتتم المغالطة الكبرى بالخلط السريع للأوراق، ولا يبقى مكان في العالم يصلح لليهود ومن حق اليهود، وترضى به النفس الأوروبية المعذبة دون أن تخسر أرضا، سوى الوطن اليهودي الذي سلبه الفلسطينيون. والأمر مشروع قدسيا بقرار إلهي بالكتاب المقدس المصدق وتلك إرادة الله الذي لا راد لقضائه. (1-3) التزوير في الخطاب
والوقوف مع الترنيمة المعذبة لليهود حول الجريمة النازية، يكشف لنا بعدا أخر بالخطاب الصهيوني، وهي وقفة للتذكير بمجموعة حقائق، تساعد على حل اللغز الذي طرحه السيد شامير في قوله إن المذبحة الهتلرية، كانت السبب الحقيقي وراء قيام دولة إسرائيل!
ربما ما زلنا نذكر ما حدث في بغداد مع بدء الهجرة اليهودية المنظمة إلى إسرائيل، بتخطيط وإشراف الصهاينة عندما تردد يهود العراق في قيد أسمائهم بكشوف الهجرة، فلجأت العصابات الصهيونية المسلحة إلى إلقاء القنابل على مراكز التجمع اليهودي لإشعارهم أنهم في خطر لدفعهم للهجرة إلى إسرائيل. وهو الحدث الذي تزامن مع حالات أخرى شبيهة في مواقع أخرى من العالم كما تزامن مع بداية النشاط الفعلي للصهيونية العالمية. وكان أخطر تلك الأساليب هو ما حدث في ألمانيا النازية في قضية «إنجمان» المعروفة وما كشفت عنه د. «حنا أرندت» في كتابها «إنجمان في القدس»، وأوردت به مجموعة وثائق تثبت وجود تعاون وثيق بين السلطات النازية وبين المؤسسة الصهيونية في فلسطين، وأن من بنود ذلك التعاون أنه كان بإمكان أي يهودي ألماني أن يهاجر إلى إسرائيل، شريطة أن يحول أمواله إلى بضائع ألمانية. وقد قدم إنجمان مساحات من الأرض للصهاينة كمعسكرات تجمع لليهود ولتهجيرهم بالإكراه إلى فلسطين.
أما ما حدث ليهود تلك المعسكرات فهو البشاعات التي كشفت عنها قضية كاستنر، الذي باع يهود تلك المعسكرات للنازي بالتعاون مع إنجمان وهي من القضايا التي هزت إسرائيل، وكشفت أن زعماء الصهاينة وقياداتهم، قاموا بتجهيز أغنياء اليهود إلى فلسطين للحصول على الأموال إضافة للعناصر الفعالة كالعلماء والشباب بينما تركت في المعسكرات بقية اليهود من عناصر غير مرغوب فيها، وهم من تمت إبادتهم على يد النازي بعلم القيادات الصهيونية وتعاونها، لكسب العطف والتأييد العالمي، «وهو ما أدى بعد ذلك وبالفعل، إلى قيام دولة إسرائيل».
وبموجب الاتفاق قام «إنجمان» بتأمين قطار خاص لحمل المهاجرين من النخبة المختارة الممتازة، ورافقهم بعض النازيين إلى الحدود لضمان سلامتهم، وقد قال كاستنر إن عددهم كان 1648 شخصا غادروا إلى إسرائيل مقابل 476000 تمت التضحية بهم في المجزرة «وهو الأمر الذي يفسر لنا تأكيد شامير على أن تلك المجزرة، كانت السبب وراء قيام إسرائيل».
قد شهد على تلك المؤامرة الكبرى أحد القلائل الذين تمكنوا من الفرار من معسكر «أوشيتز»، هو «رودلف فربا» وذلك في جريدة لندن ديلي هيرالد عام 1961م، بقوله: «نعم أنا يهودي، لكني أتهم قادة اليهود بأنهم أبشع ممارسي الحروب فتلك المجموعة كانت على علم مسبق بما سيحدث لإخوانهم في غرف الغاز النازية، ومن بينهم ستنر رئيس مجلس يهود هنغاريا، وقد استقل عدد كبير من يهود هنغاريا الفقراء قطارات النقل طائعين دون مقاومة؛ لأنهم كانوا قد أخذوا تطمينات من القادة الصهاينة أنهم في طريقهم إلى الحرية، بينما كانوا يساقون إلى الإعدام». أما جريدة صوت الشعب الإسرائيلية فقد قالت في عام 1955م «إن كل أولئك الأشخاص، الذين ذبح الألمان أقرباءهم في هنغاريا، يعلمون الآن وبوضوح، «أن قيادات الصهاينة هي التي دبرت الجريمة مع النازي».»
ولما فاحت الفضيحة، وقدم كاستنر للمحاكمة في إسرائيل بضغط الرأي العام لكشف الحقائق، عقبت صحيفة يديعوت أحرونوت في 1955م بقولها: «إنه إذا تم تقديم كاستنر للمحاكمة فإن الدولة برمتها ستنهار، سياسيا ووطنيا نتيجة ما ستكشف عنه تلك المحاكمة.» ولم يمض قليل على بدء المحاكمة حتى سقط كاستنر صريعا رميا بالرصاص من مجهول، وكشف بعد ذلك أن قاتله هو أكشتاين العميل السري في جهاز الموساد.
وكان السؤال: هل من المعقول أن تقدم القيادة الصهيونية هذا العدد الهائل من اليهود للذبح؟ يجد إجابته أولا في قيام الدولة. وثانيا في شهادات منها شهادة «موشى شوايفر» مساعد كاستنر الذي قال بهدوء: «نعم كان يهود هنغاريا عددا كبيرا لكنهم للأسف لم يكونوا يتمتعون بأي أيديولوجية يهودية.»
أما قائد الهاجاناه «فايفل بولكس»، فقد التقى بإنجمان في جروبي القاهرة، وأبدى رضاه التام عن سير التعاون اليهودي مع النازي كما هو مرسوم له (انظر مجموعة وثائق التعاون النازي الصهيوني/كالتون، أستراليا).
لكن السؤال الأكثر منطقية هو: إذا كانت الجريمة النازية قد حدثت بالفعل، فلماذا تطوع النازي وسمح للنخبة اليهودية بالهجرة؟ والسؤال وجيه لكن الوقائع تقول ما يفيدنا بإجابة مقنعة؛ فلعلنا نذكر أن منظمة الأورجون اليهودية في فلسطين قد قامت بإعلان الحرب رسميا ضد حكومة الانتداب البريطانية عام 1944م. ونظمت نشاطات إرهابية متتالية ضد القوات البريطانية في فلسطين، وهو ما جاء في سقطة أخرى بخطاب السيد شامير في مدريد في قوله: «لقد قامت الدولة اليهودية وتكونت لأن الطائفة اليهودية الصغيرة بفلسطين أيام الانتداب ثارت على الاحتلال الإمبريالي!» سقطة السيد شامير هنا فاضحة ففي الوقت المفترض فيه، أن اليهود يحاربون الألمان، وأنهم ضحية المجازر النازية كان اليهود في فلسطين يقومون بنشاطات إرهابية ضد بريطانيا (؟!) الأمر واضح تماما تؤيده العلاقات غير الخفية التي قامت بين عصابة «شتيرن» اليهودية بفلسطين، وبين إيطاليا الفاشية وشنت بموجبها عددا من الهجمات الإرهابية على البريطانيين بفلسطين، أما مناحيم بيجن زعيم عصابة الأورجون، فقد وصل لفلسطين كجندي في الجيش البولوني لمقاتلة النازية، ثم فر من الجندية ونظم عصابة لقتال البريطانيين وقتل الفلسطينيين.
هكذا تمت الخطة الصهيونية على ثلاثة محاور: محور يهود أوروبا ومهمته قتال النازية لكسب تأييد الحلفاء، ومحور ألمانيا للتخلص من نفايات يهودية لا تؤمن باليهودية وحقوقها التاريخية ليتم بها كسب عطف العالم والضغط على ضميره، في أشد الظروف العالمية توترا. ومحور ثالث كان فيه صهاينة فلسطين يقدمون للنازي خدماتهم الجليلة، ويقاتلون بريطانيا لصالح دول المحور، تنفيذا للاتفاق غير المعلن.
وهكذا تنكشف لنا أهم جوانب طبيعة الخطاب الصهيوني وهو التزوير الفاضح، وتهديد ضمير العالم دوما بدم اليهود المسفوك لأنه إذا كان «بدون دم وسفك دم لا تحصل مغفرة.» فإن ناموس الصهيونية قد أكد «بدون دم وسفك دم لا تقوم لإسرائيل دولة.» (1-4) الدين والعنصر
وقد كان مناط احتجاج الخطاب الصهيوني في مدريد هو أن «الزعماء العرب الذين كنا نود أن نصادقهم رفضوا الدولة اليهودية في المنطقة، وادعوا أن أرض إسرائيل هي جزء من الأرض العربية.» وهنا تحتشد مجموعة من المغالطات والتلفيقات؛ فالخطاب لا يذكر الأرض باسمها التاريخي الصادق «فلسطين» إنما يشير إليها بوصفها «أرض إسرائيل»، هو ما يستدعي مجموعة تداعيات تاريخية، مع مجموعة مداخلات تلفيقية تربط تلك الأرض بشعب واحد فقط، عاش مع مجموعة شعوب أخرى على تلك الأرض على مر العصور التاريخية، لكن بحيث يبدو أنه لم يكن هناك سوى شعب واحد هو الشعب الإسرائيلي.
والخلط مقصود، وينطلق من خلط أساسي في مفهوم الخطاب الصهيوني وأدلوجته، ما بين مفهوم العرق أو الجنس، وبين مفهوم الدين، بحيث يتداخلان ويصبح العرق دينا، والدين عرقا. كما يسمح بتداخل آخر مع التراث الديني للمسيحيين بإجراء التطابق في الخطاب بمهارة علاقات التطابق الدائري في علم المنطق، أو أنظمة التكافؤ الرياضية؛ فالخطاب يتحدث عن رفض العرب ل «الدولة اليهودية» وادعائهم أن «أرض إسرائيل» عربية فتتطابق هنا الدائرة الكلية لمفهوم «الدين اليهودي» وتتكافأ مع الدائرة الكلية ل «أرض فلسطين». لكن بعد حذف «فلسطين» ووضع «إسرائيل» لتصبح فلسطين إسرائيل ويصبح شعبها الوحيد هو الشعب الإسرائيلي، والدين الوحيد الذي تواجد فيها على مر العصور، هو الدين اليهودي وحده دون بقية الأديان.
والمغالطة الثانية تتضح في إشارته إلى أن من ناصبوا الدولة الإسرائيلية العداء هم «الزعماء العرب». المسألة هنا طموحات من الزعامات، مع غزل رقيق للشعوب العربية فنحن أصدقاء كشعبين، وأهل وبنو عمومة. المشكلة فقط في طموحات الزعماء للتوسع.
أما المغالطة الثالثة فهي إجراء المطابقة السريعة بين مفهوم الدين اليهودي وبين العنصر أو الجنس الإسرائيلي، الذي عاش كقبيلة ضمن عدد كبير من الشعوب الأخرى التي ذكرتها التوراة في فلسطين مثل الكنعانيين (الفلسطينيين) والحيثيين، والعمونيين والأدوميين والموآبيين، والفرزيين، واليبوسيين ... إلى آخر القائمة المعروفة. ثم تجرى المطابقة الدائرية مرة أخرى بين اليهودية كدين بعد أن أصبحت جنسا وبين يهود اليوم المتناثرين بين جنسيات العالم على تفرقها، بحيث يظهر هذا الشتات غير المؤتلف كما لو كان جنسا واحدا، وعرقا بذاته، لمجرد أنهم يدينون بدين واحد هو اليهودي، بحيث تنطلي الأكذوبة الكبرى على جماهير الدنيا تأسيسا على مدخل منطقي سافر التزوير، وعلى أساس ديني عقائدي ينهض على أسس أسطورية خلقت تتابعا عرقيا عنصريا بالكتاب المقدس لشعب إسرائيل القديم بحيث يبدو يهود اليوم كما لو كانوا ينحدرون عن الآباء التوراتيين الأوائل، إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
وربما ساهم في ابتلاع البعض لتلك الفرية خاصة المتدينين، هو انعزال أصحاب الديانة اليهودية عن غيرهم في كل المواطن التي عاشوا فيها بحيث بدوا كما لو كانوا محافظين تماما على نقاء البذرة الإبراهيمية منذ ألوف السنين في أصلابهم الطاهرة، وهو افتراض يقوم على التسليم بلون خارق من العفاف الجنسي المنقطع النظير، وهو ما لا تنطق به سيرة بنات اليهود، لا اليوم ولا حتى في العصور التوراتية مند البدء ... وباعتراف الكتاب المقدس ذاته.
وبنظرة سريعة عجلى على إصحاحات الكتاب المقدس يمكنك أن تجده يموج بالصخب الجنسي. ونموذجا لذلك ما جاء به مع الرجل الأول في تاريخهم، البطرك إبراهيم الذي حكى الكتاب عنه: «فانحدر إبرام إلى مصر وقال لساراي امرأته إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر ... قولي إنك أختي ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك ... فأخذت المرأة إلى بيت فرعون، فصنع لإبرام خيرا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال» (سفر التكون، 21).
هكذا نجد البداية لا تبشر بخير مع هذا الادعاء بالنقاء الجنسي على مر العصور. ولسنا هنا في مقام الدفاع عن نبي جليل، لكن المتابع للأسفار يجد النبي «إرميا» ينوح على تفشي الزنا بين بنات مملكتي يهوذا وإسرائيل ويقول: «هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل، انطلقت إلى كل جبل عال وإلى كل شجرة خضراء وزنت هناك ... ولم تخف الخائنة يهوذا أختها، بل مضت وزنت هي أيضا» (سفر إرميا، 3)، وصهلوا كل واحد على امرأة صاحبه» (إرميا، 5)، بل إن الرب يهوه أخذ ينادي نساء شعبه المختار «ارفع ذيلك على وجهك فيرى خزيك، فسقك وصهيلك، ورذالة زناك على الآكام، في الحقل رأيت مكرهاتك، ويل لك أورشليم، لا تطهرين حتى متى؟» (إرميا ، 13). ثم ينادي مملكة يهوذا «أزنيت على اسمك وسكبت زناك على كل عابر ... وصنعت لنفسك مرتفعات موشاة وزنيت عليها وصنعت لنفسك صور ذكور وزنيت بها ... وفرجت رجليك لكل عابر، وأكثرت زناك وزنيت مع جيرانك بني مصر الغلاظ اللحم الذين منيهم كمني الحمير وزدت في زناك لإغاظتي ... وأسلمتك لمرام مبغضاتك بنات الفلسطينيين اللاتي يخجلن من طريقك الرذيلة، أعطيت كل محبيك هداياك ورشيتهم ليأتوك من كل جانب للزنا بك وصار فيك عكس عادة النساء في زناك؛ إذ لم يزن وراءك بل أنت تعطين أجرة ولا أجرة تعطى لك، فصرت بالعكس» (سفر حزقيال، 16).
وهذا قليل من كثير. وربما كل شبق بنات صهيون، الذي كان يدفعهن إلى الصهيل عند الوصال (بتعبير الكتاب المقدس)، وإلى صناعة ذكور صناعية لمزيد من الإشباع، ودفع الأجور للرجال، وهو الذي دفع دولة إسرائيل الحالية، إلى وضع قانون لا يعتبر الفرد بموجبه يهوديا إلا إذا كانت أمه يهودية ومن ثم أصبح النسب اليهودي للأم لا للأب. ولو طبقنا ذلك القانون على «داود» مؤسس المملكة التوراتية القديمة، وعلى ولده «سليمان» أشهر ملوكهم فسنجد الأول حفيدا لامرأة تدعى «راعوث» لم تكن من بني إسرائيل جنسا ولا تدين باليهودية بل كانت موآبية، أما سليمان فقد رزق به أبوه «داود» من امرأة حيثية لا يهودية ولا إسرائيلية. وطبقا للقانون فإن كليهما ليس يهوديا ولا إسرائيليا. (1-5) الجانب الحقوقي
أما المغالطة الكبرى في كلمة السيد شامير فكانت في قوله إن الزعم بأن أرض إسرائيل أرض عربية مجرد ادعاء فينتقل الخطاب إلى المحور التاريخي، أو (الحقوقي الديني التاريخي معا)، ليقول دون أن يرف له جفن: «إننا الشعب الوحيد الذي ظل على أرض إسرائيل بدون توقف لمدة أربعة آلاف عام متصلة ... ونحن الشعب الوحيد الذي كانت أورشليم عاصمته، ونحن الشعب الوحيد الذي توجد أماكنه المقدسة فقط في أرض إسرائيل.» ورغم ما في مقولة الأربعة آلاف سنة من مغالطة، لأننا هنا في مقام قراءة طبيعة الخطاب وليس الرد بالوثائق، فإن الخطاب يريد أن يقول للجماهير ببساطة: إن بني إسرائيل (متطابقا معهم يهود اليوم) كانوا أصحاب أرض فلسطين من أقام العصور التاريخية.
وما دام الرجل يتحدث كمؤمن صادق الإيمان، حريص على عقيدته ومحارم دينه، صادق العلاقة بتوراته إلى الحد الذي دفعه إلى ترك المؤتمرين في مدريد، ليقضي عطلة السبت متهجدا مع بني جلدته، فلا مشاحة في أن اختبار صدق الخطاب بالمطابقة مع الكتاب المقدس يمكن أن يضع طبيعة ذلك الخطاب على محك المصداقية من عدمها.
وبالعودة إلى الكتاب المقدس نجده يحكي لنا أن إبراهيم أرومة اليهود وأول رجل ذي شأن في تاريخهم، لم يكن فلسطينيا إنما جاء فلسطين غريبا من بلد بعيد يدعى «أور الكلدانيين» في رحلة استغرقت خمسة عشر عاما. وعندما وصل فلسطين مع عائلته الصغيرة، يقول الكتاب المقدس: «كان الكنعانيون حينئذ في الأرض» (سفر التكوين، 12)، وأن إبراهيم قد هبط ضيفا على ملك مدينة جرار المدعو أبيمالك، ويصف المقدس تلك الأرض بأنها «أرض الفلسطينيين» (سفر التكوين، 21)، وأن أبيمالك كان «ملك الفلسطينيين» (تكوين، 26)، وعندما قتل أبناء يعقوب حفيد إبراهيم بعض الفلسطينيين بعد حالة زنى مع شقيقتهم، قال لهم يعقوب المعروف باسم إسرائيل: «كدرتماني بتكريهكما إياي عند «سكان الأرض الكنعانيين» ... وأنا نفر قليل» (تكوين، 34)، وعليه لو سلمنا للرجل الحريص على محارم دينه ويوم سبته، بأن الآباء التوراتيين الأوائل كانوا في فلسطين منذ أربعة آلاف عام، فإن مقدسه يؤكد أنهم دخلوها ضيوفا قليلي العدد على أهلها الكنعانيين بل كانت فلسطين عندما وصلوها ممالك ذات حضارة ونظام اجتماعي وسياسي. أما مهجر الأب الأول إبراهيم وموطنه الأصلي، فقد أثبتنا أنه لا يقع ضمن المنطقة بكاملها وعلى الإطلاق، وإنما يقع في جبال آرارات بأرمينيا وذلك في كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول» وقدمنا بسبيل ذلك مجموعة من القرائن والبراهين التي ستظل صادقة حتى تجد من يرد عليها ويدحضها بأدلة أقوى وقرائن تثقل كفتها، وحتى الآن لم يحدث ذلك ولا نظنه بحادث في المستقبل المنظور. (1-6) يهود فلسطين
وإعمالا لما قلناه فإن طبيعة الخطاب الصهيوني كما هو واضح جلي، طبيعة قبلية لا ترى قبيلة غير قبيلتها، ولا تراثا مقبولا غير تراثها، ولا دينا صحيحا غير دينها ولا صدقا إلا في توراتها، وكأن تراث الآخرين غير موجود لشعوب عديدة عاشت في فلسطين، كان لها مقومات الشعب والعنصر والدين والحضارة والنظام الاجتماعي والسياسي قبل قيام مملكة داود بأكثر من ألفي عام.
ولمجرد التذكرة، ومنعا للإطالة يكفينا ذكر أن الملك «داود» المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل التوراتية، حوالي 1000 قبل الميلاد أقام دولته مستفيدا من توازن القوى بين القوتين العظميين حينذاك «مصر والرافدين»، فكون جيشا من أهل الأرض الفلسطينيين، وأقام لونا من الائتلاف ووحد القبائل في وحدة سياسية وصهر الممالك الصغيرة معا، بل كان حراس «داود» أيضا من الفلسطينيين، كذلك قائد جيشه، وسواء هو أو ابنه «سليمان»، «فقد أقاما الدولة على أساس تعدد القوميات. المقدس شاهد بذلك»، وحتى لو أغفلنا كل ما سبق وسلمنا ولم تقم أبدا كدولة ذات جنس واحد ودين واحد، والكتاب للخطاب الصهيوني بالصدق التام فإن مسألة جمع روس وألمان وبلغار وأمريكان وأحباش ... إلخ من مواطنهم للإقامة في فلسطين بالحق التاريخي، لمجرد أنهم يهود، يجعل الأمر مزحة بشعة ستظل وصمة، وربما بصقة في جبين هذا العصر إلى ما يشاء الله؛ لأنه بمقارنة شديدة البساطة، سنجد أن الحقوق التاريخية للهنود الحمر في أمريكا أوضح من ادعاءات الخطاب الصهيوني في فلسطين لأن الهنود لم يكونوا أول من استوطن أمريكا منذ فجر التاريخ بل كانوا الشعب الوحيد فيها.
إن طبيعة الخطاب الصهيوني إذن، تعتمد على عدد هائل من المغالطات والتمريرات التي تبدو في ظاهرها صادقة الحقوقية (مع الخلط لمفهوم العنصر بمفهوم العقيدة)، وحتى لا يتيح الخطاب الفرصة لمقارنة يهود اليوم بآباء العصر التوراتي، فإنه يقفز فورا إلى تأكيد «أننا الشعب الوحيد الذي ظل على أرض إسرائيل بدون توقف نحو أربعة آلاف عام»، لتستمر المطابقة بين مفهوم الدين والعنصر لدعم محور الحق التاريخي؛ ليظهر الأمر كما لو أن اليهود فقط هم من عاشوا في فلسطين على مر العصور أو على الأقل الجماعة الأكثر عددا. لكن السائح اليهودي بنيامين الطليطلي الذي زار القدس 1170 ميلادية سجل أنه لم يجد في فلسطين بكاملها سوى 1440 يهوديا! كما لم يعثر اليهودي «ناحوم جيروندي» في زيارته لفلسطين عام 1257م إلا على عائلتين يهوديتين. أما الأطرف فعلا فإنه حتى هذا القرن نجد الشهادة في خطاب شامير تقول: «لقد قامت الطائفة اليهودية الصغيرة (ولاحظ الصغيرة) التي كانت تقيم بفلسطين تحت الانتداب بالثورة على الاستعمار الإمبريالي.» (1-7) شالوم
وأمام عدسات الإعلام العالمي في مدريد، لم ينس الرجل الشهم أن يبدي مروءته وأسفه وأساه على الفلسطينيين، المشردين، بينما قنابله الجهنمية تدك مخيماتهم في لبنان، حيث قال بكل تراحم وحنان: «إنه لا يوجد يهودي واحد في هذا الزمان، يستطيع أن يكون غير مبال بمعاناة الفلسطينيين.» هذا رغم سرده لبشاعات العرب مدمجة ببشاعات النازي ضد اليهود. لكنه رأى من واجبه كرجل متحضر أن يعلن ذلك الأسى والحزن مع ندائه لجيرانه البرابرة حتى يظهروا كسبب فيما حدث للفلسطينيين: «أظهروا استعدادكم لقبول إسرائيل. إن التخاطب أفضل بكثير من سفك الدماء ؛ فالحروب لن تحل قضية في منطقتنا، لكنها تسببت في المآسي والمعاناة والقتل والكراهية.» وهكذا فطبيعة الخطاب تشهد العالم: إن العرب يشردون الفلسطينيين بحروبهم؛ لأنهم يريدون قتلنا لمجرد أننا متدينون. إنهم يريدون أن يقتلوا رجلا يقول: ربي الله.
الخطاب مستمر كما هو واضح في التركيز على المحور النفسي والمشاعر الدينية المسيحية الأوروبية التي تشهد بالحقوق التاريخية على أساس الشهادة المقدسة بالتوراة، هذا بالطبع مع صورة العربي المعلومة لدى الرجل الأوروبي.
ومرة أخرى نعود للكتاب المقدس لنرى مدى المصداقية في الخطاب، وإلى أي حد يتطابق مع الكتاب المقدس، ومع ما يحدث بالفعل بل بالقول، مسايرة للخطاب المتدين الحريص على محارم الدين، والحريص في الوقت ذاته على إقناع عقل العالم وضميره بحقوقه التاريخية.
يقول الرب «يهوه» في شريعته مفصحا عن طبيعته وهويته، التي لا تلتقي بحال مع طبيعة الخطاب الصهيوني قدر ما تلتقي مع ما يحدث بالفعل: «الرب رجل حرب» (سفر الخروج، 15)؛ لذلك كانت شريعة هذا المحارب السماوي تأمر عبيده الأتقياء بالأسلوب الأمثل للتعامل مع شعوب المنطقة، ومن تلك الشرائع إليك المقاطع اللطيفة الآتية: «أحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار» (سفر العدد). «اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة» (سفر العدد، 31). «أحرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار» (سفر التثنية، 12).
أما الخطة المثلى في أوامر الرب، فهي أن يبدأ شعبه بدعوة الشعوب الأخرى إلى السلام والصلح أو بالنص: «حين تقترب من مدينة، استدعها للصلح. فإن أجابتك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا، فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كلها غنيمة تغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا، التي ليست مدن هؤلاء الأمم هنا» (تثنية، 20).
هذا عن المدن البعيدة، أما المدن القريبة: «فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرقها بكل ما فيها مع بهائمها. تجمع أمتعتها إلى وسطها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها» (تثنية، 13).
أما المدن الفلسطينية فلها شأن آخر، إذ يأمر يهوه قائلا: «أما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا، فلا تستبق منها نسمة ما» (تثنية، 20).
ومن هنا، وبمطابقة المقدس فهو يتطابق تماما مع الفعل الصهيوني، لكنه لا يطابق الخطاب بحال. لكن الفعل بمطابقة المقدس إنما يصبح فعلا مقدسا ويصبح من تلك المقدسات تدمير صور وصيدا ومذابح صبرا وشاتيلا وقبية وكفر قاسم ودير ياسين، ومجازر منظمة الأورجون البيجنية وسفاحي الوحدة 101 التابعة لأريل شارون؛ فالأمر مقدس، لذلك هو نبيل وسام، وباسم رسالة إسرائيل التوراتية يتم التعامل مع عرب اليوم، كما تم التعامل مع الكنعانيين بالأمس. فقط تغيرت لغة الخطاب أما الفعل فمقدس، والمقدس خير وأبقى. (1-8) العصر السعيد
ثم يختم شامير خطابه وهو يبتسم سعيدا استطلاعا للعصر السعيد الآتي، عصر الأمان والسلام لكل الشعوب الذي تنبأ به إشعيا وردد شامير نبوءته وهو يقول: «فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل، ولا ترفع أمة على أمة سيفا ولا يتعلمون الحرب فيما بعد» (إشعيا، 2).
هذا فقط ما ذكره الرجل من كتابه المقدس، ليتطابق مع خطاب السلام، كي يبرز التطابق في الخطاب مع العنصر المقدس مع الحق التاريخي، اتباعا لكتاب يأمر بالسلام وينبئ بالسلام؛ فإشعيا النبي يتحدث عن اليوم الذي سيتم فيه صهر السيوف لتحول إلى محاريث ومناجل، ولا تكون هناك حرب بين الأمم إنما تعاون وسلام وإنتاج ورفاهية لكن في أي مقام قال إشعيا نبوءته؟ الخطاب يصمت، وهنا فقط يذكر النبوءة منزوعة من سياقها، ليقدم مقدساته للعالم، وهي تدعو للسلام وبحيث يكون الرجل مستمرا على الدرب ومكررا لدعوة أبطال العهد القديم من أجل السلام.
ومن المستحب في هذا المقام أن نتأسى برغبة شامير في استدعاء نبوءة إشعيا فنجدها تتحدث عن يوم يثبت فيه دين يهوه وحده في قمة جبل صهيون «وتجري إليه كل الأمم» (إشعيا، 2)، لكن ذلك لن يكون قبل أن يحدث الآتي لبلدان المنطقة:
لسوريا: «هو ذا دمشق تزال من بين المدن وتكون رجمة ردم» (إشعيا، 17).
لمصر: «في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء ، فترتعد وترتجف من هزة يد رب الجنود، وتكون أرض يهودا رعبا لمصر» (إشعيا، 17: 19).
لجزيرة العرب: «بلاد العرب ... من أمام السيوف قد هربوا يفنى كل مجد قيدار ... لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم» (إشعيا، 21).
للبنان: «وحي من جهة صور ... ولولي يا سفن ترشيش لأنها خربت ... ولولوا يا سكان الساحل ... ورب الجنود قضى به ليدنس كبرياء كل مجد ... أرضك كالنيل يا بنت ترشيش ... أيتها العذراء المتهتكة بنت صيدون ... ولبنان ليس كافيا للإيقاد وحيوانه ليس كافيا للمحرقة» (إشعيا، 23، 40).
للعراق: «انزلي واجلسي على التراب أيتها العذراء ابنة بابل، اجلسي على الأرض بلا كرسي يا ابنة الكلدانيين لأنك لا تعودين تدعين ناعمة ومترفة تنكشف عورتك وترى معاريك ... اجلسي صامتة وادخلي في الظلام يا ابنة الكلدانيين لأنك لا تعودين تدعين سيدة الممالك» (إشعيا، 47).
والآن، ترى هل حقق الخطاب الصهيوني القديم أغراضه، بفعل أصحاب الخطاب الصهيوني الجديد؟ سؤال لا يجيب عليه إلا الزعماء العرب المؤتمرون في مدريد ... يحلمون بنبوءة «إشعيا» بالعصر السعيد. (2) المصريون والإسرائيليون في التوراة وفي التاريخ
2
من استهلاك الوقت أن نتحدث عن مصر في التاريخ ، والكلام بشأنها من نوافل القول؛ فشأنها معلوم وأنشر من أي حديث حتى أصبح من فساد الرأي أن يؤرخ باحث لأي علم من العلوم دون الرجوع إلى أصول تلك العلوم في مصر القديمة، هذا في مجال العلوم، وفي ميدان التاريخ كعلم. أما في ميدان الاعتقاد، وفي الصحائف المقدسة، فلها شأن عظيم أيضا، لكن بوصفها ذلك البلد الضال أهله، الذي تأله حاكمه، فكفر، فوصم مع شعبه بأنهم من المجرمين؛ لذلك استحقوا أن يكونوا من المغرقين، بقرار من «يهوه» رب التوراة، وبضربة من عصا إعجازية دمرت الزرع والضرع في وادي النيل قبل أن ينطبق البحر المفلوق على من بقي منهم، أليسوا مجرمين؟
أما إسرائيل فهي عمدة المقدس وعقدته الجامعة، هي المحور منه والقلب الخافق؛ فهي شعب مقدس فضله الله على العالمين. سلسلة من النجباء الأنبياء المطهرين فالأب نبي ينجب نبيا، في سلسال توارث النبوة كما توارث أرض فلسطين، خير خلف عن خير سلف ، فكانوا في المقدسات هم المقدمين على غيرهم من الأمم الضالة، جدهم البعيد هو إبراهيم الخليل، وآباؤهم إسحاق ويعقوب الملقب بإسرائيل، وبنوه بنو إسرائيل الأسباط المكرمون، ومنهم يوسف الصبي الفاتك الجمال الذي توزر على خزانة المصريين، وعلم خبراء الزراعة ومهندسيها في مصر، كيف يواجهون قحط السنين، ومن بعده جاء «موسى» أعظم أنبياء إسرائيل. ويغص التاريخ المقدس بعد ذلك بسيرة أولئك الهداة المطهرين فهذا «شاءول» يقيم لهم دولة في فلسطين ليترك تأسيسها وتعميدها لداود الملك وولده سليمان، بينما أصبح ذلك الأخير سيدا على مملكة عظمى تغنت بها كتب الدين وكتب الأساطير، فتسلط على الوحوش والهوام والجن والعفاريت. وأصبحت إسرائيل في زمانه أغنى الدول، حتى كانت الفضة في الشوارع مثل التراب (بتعبير التوراة)، أما في المأثور الإسلامي فكان أحد أربعة ملوك تملكوا على العالم الأرضي من أقصاه إلى أقصاه.
هذا شأن إسرائيل في مأثورات الدين، لكن الغريب والمشكل الحقيقي أمام هذا الرتل العقائدي والهائل، أن التاريخ كعلم، يعلم يقينا تاريخ مصر بحفائره وعلمائه وأركيولوجيته بأعلامها الآثارية الشاهدة، كما انتهى ترتيب أوضاعها الزمني عبر أسرات ودول، من مينا موحد القطرين مرورا ببناة الأهرام إلى التحامسة ثم المناتحة فالرعامسة حتى الشناشقة والطهارقة والبطالمة، فأرض مصر تفيض بالحفائر، غنية بالأحداث. لكن ذلك العلم نفسه، علم الحفائر والآثار، علم التاريخ، رغم الهوس الحفائري في إسرائيل الآن، يجد الأرض ضنينة بأي معلومة ذات شأن؛ فالتاريخ كعلم لا يعرف عظيما أقام لإسرائيل مملكة باسم «شاءول»، ولا يعلم بشأن محارب ذي بأس أسس لإسرائيل قوميتها باسم «داود»، ولم ترد في وثائقه بالمرة أية إشارة لملك حكيم حاز شهرة فلكية باسم «سليمان»، كما لم يسمع أبدا ولم يسجل في مدونات مصر ولا في مدونات الدول المجاورة، خبر جيش الدولة العظمى وهو يغرق في بحر تفلقه عصا، وإطلاقا لا يدرى شيئا عن صبي جميل فتن نساء مصر وأذهلهن بجماله فقطعن الأيادي وهن في الهيام به ساهمات. كلا لا يعلم التاريخ من كل ذلك شيئا ولو يسيرا، وكل ما يعلمه عن إسرائيل، حكايات متناثرة عن شوارد قبائل من شذاذ الآفاق باسم «الخابير، والعابيرو»، وإيماءة هنا ولفتة هناك تتحدث بإهمال عن جماعة باسم إسرائيل يحتمل، ويظن، ومن الجائز، وقد تكون: هي مملكة إسرائيل لكن الأسماء المعظمة المبجلة المفخمة في التاريخ الديني، فلا شيء منها البتة وقطعا في التاريخ كعلم. (2-1) الإسرائيليون يدخلون مصر «تقول التوراة - ولا يقول التاريخ هنا شيئا - إن أول احتكاك للبدو العبرانيين بمصر والمصريين كان زمن الأب إبراهيم، الذي هبط مصر مع زوجته سارة هربا من القحط الذي حل بأرض كنعان، فحصل هناك على فضل عظيم وخير عميم، ثم تحدثنا التوراة - ولا يحدثنا التاريخ - عن قصة الصبي الأخاذ في جماله «يوسف» ابن إسرائيل (يعقوب) وقصة بيعه في مصر، وكيف أثبت مهارة إسرائيلية أوصلته إلى كرسي الوزارة، ليصبح الرجل الثاني في مصر بعد الفرعون، وكيف أرسل يوسف يستدعي أهله لينعموا بخير مصر كملجأ للإسرائيليين كلما قحطت بهم الحياة ولحقت بهم المجاعات.»
لكن التوراة لا تخبرنا بالسبب الذي أدى إلى حنق الفرعون التالي على العرش على يوسف وأهله، إلى حد تسخيره ضيوف مصر في الأعمال الشاقة، عقابا لهم على أمر مجهول، ونحن نعلم أن «ماعت/العدالة/القانون الكوني» كانت تاج القانون المصري الدائم، ومن هنا يظن أغلب الباحثين، أن الإسرائيليين لعبوا دورا مع الهكسوس الغزاة ضد المصريين، وتعاونوا مع أعداء البلاد فحقت عليهم النقمة، وتم أسرهم مع فلول الهكسوس الأسيرة بمصر.
وبدورنا نذهب مع هذا الظن، ونحتمل دخول يوسف وأهله مصر في عهد «أسيس» آخر الحكام الهكسوس على مصر، وهو ما يلتقي مع الاسم «عزيز» الذي جاء في القرآن الكريم، خاصة أن الآيات كانت تتحدث دوما عن حاكم مصر باسم الفرعون، عدا زمن يوسف، زمن دخول الإسرائيليين إلى مصر. ناهيك عما سجلته التوراة عن سياسة يوسف في مصر أثناء السنين القحط السبع؛ حيث احتكر «الميرة» جميعا في خزائنه وباعها للمصريين الذي يموتون جوعا مقابل الاستيلاء على أرضهم ثم مواشيهم ثم أنفسهم هم ليتحولوا إلى عبيد، لصالح الحاكم الهكسوسي. أما مشاعر المصريين تجاه هؤلاء الإسرائيليين فقد تبدت بوضوح في اعتبارهم الإسرائيليين نجسا يجب اجتنابه، وهو ما ورد جميعه في نصوص توراتية من قبيل: «اشترى يوسف كل أرض مصر لفرعون؛ إذ باع المصريون كل واحد حقله؛ لأن الجوع اشتد عليهم، فصارت الأرض لفرعون، أما الشعب فنقلهم إلى المدن من أقصى حد مصر إلى أقصاه ... فقال يوسف للشعب إني اشتريتكم اليوم وأرضكم لفرعون» (سفر التكوين، 47)، وفي نفس السفر كان يوسف يقول لإخوته «جواسيس أنتم، لتروا عورة الأرض جئتم» (تكوين، 42)، وكان ينصحهم دوما بالابتعاد عن المصريين «لأن كل راعي غنم رجس عند المصريين» (سفر التكوين، 46). (2-2) الإسرائيليون يخرجون من مصر
هذه حكاية التوراة عن الدخول إلى مصر، فماذا عن الخروج؟ تقول التوراة: إن موسى قد ولد في مصر إبان أزمة الإسرائيليين بمصر، والقصة معروفة؛ فقد ربي في القصر الملكي، وتبنته ابنة الفرعون وأكرمت مثواه، لكن الصبي يكبر فيقتل مصريا تعصبا لبني جلدته، فيطلبه القصاص وتطارده العدالة فيهرب إلى مديان بسيناء، حيث يلتقي هناك برب سينائي يدعى «يهوه» على هيئة نار في عليقة، ويحمل منه أوامر صريحة لبني إسرائيل، ليخرجوا من مصر تحت قيادة موسى إلى فلسطين. وعاد موسى إلى مصر بتلك الأوامر، وبالعصا الثعبان، مع وعد إلهي يقول: «الآن تنظر ما أنا فاعله بفرعون؛ فإنه بيد قوية يطلقهم، وبيد قوية يطردهم من أرضه ... أنا أعطيهم أرض كنعان أرض غربتهم» (سفر الخروج، 6).
وتتالى الأحداث فيضرب موسى بعصاته النيل ليتحول دما، وتصير مصر خرابا، ثم يضرب بعصاته ضربات متتالية، فتمتلئ مصر بالضفادع والبعوض والذباب والطاعون والجراد مع برد وظلام، ثم يهبط الرب يهوه بنفسه لتحقيق الضربة الأخيرة بقتل أطفال المصريين وذلك في النص «وقال موسى: هكذا يقول الرب: إني نحو منتصف الليل، أخرج في وسط مصر، فيموت كل بكر في أرض مصر، من بكر الفرعون الجالس على كرسيه، إلى بكر الجارية التي خلف الرحى، وكل بكر بهيمة، ويكون صراخ عظيم في كل أرض مصر» (سفر الخروج، 11).
وفي تلك الليلة «كان صراخ عظيم في مصر؛ لأنه لم يكن بيت ليس فيه ميت » (خروج، 12). ولم ينس الإسرائيليون عادتهم في الخروج من مصر بالخير الوفير، «فقد فعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى، طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهبا وثيابا، وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم فسلبوا المصريين، فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس» (خروج، 12).
ثم تأتي الضربة الحقيقة لإفناء المصريين، في رواية التوراة عن قيام ملك مصر وجيوشه بمطاردة الفارين بالذهب؛ حيث أدركوهم عند البحر، وهنا تحدث المعجزة الكبرى «ومد موسى يده على البحر، فأجرى الرب بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة وانشق الماء، فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم، وتبعهم المصريون ودخلوا وراءهم ... فمد موسى يده على البحر، فرجع البحر عند إقبال الصبح إلى حاله الدائمة ... فدفع الرب المصريين وسط البحر» (خروج، 14). ويتوجه الخارجون من مصر إلى فلسطين ليغزوها ويحتلوها ويقيموا لهم هناك دولة، تلك الدولة التي قيض لأحد ملوكها «سليمان» أن يحوز في مقدسات المنطقة شهرة لا تضارع، ومع ذلك فقد قال «ه. ج. ويلز» ونقل عنه الباحثون العرب مثل د. أحمد سوسة ود. أحمد شلبي قوله: «أما الوصف الذي اعتاد الباحثون ترديده عن اتساع وامتداد حدود مملكة سليمان، فيعده أكثر الباحثين من قبيل المبالغات التي درجت عليها دويلات تلك العصور، والحقيقة «أن مملكة سليمان التي تبجحت التوراة بعظمتها كانت أشبه بمحمية مصرية» مرابطة على حدود مصر، قائمة على حراب أسيادها الفراعنة ... وكان سليمان يريد أن يجاري الفراعنة في البذخ والظهور بما هو فوق طاقاته وإمكانياته الاقتصادية ... فأثقل كاهل الشعب بكثرة الضرائب ... ولما عسر على سليمان أن يحتل أرض فلسطين الساحلية طلب معونة فرعون مصر، فأرسل جيشا مصريا صغيرا احتلها وسلمها له مهرا لابنته.» ثم يتساءل: «كيف صور كتبة التوراة مملكة سليمان في صورة تفوق الواقع بكثير؟ فسليمان لم يكن وهو في أوج مجده إلا ملكا صغيرا يحكم مدينة صغيرة، وكانت دولته من الهزال وسرعة الزوال بحيث لم تنقض بضعة أعوام على وفاته، حتى استولى شيشنق أول فراعنة الأسرة الثانية والعشرين على أورشليم.» ثم يتابع قوله: «إن أمور مصر في عهده كانت مرتبكة فخفت هيمنتها على فلسطين وبلاد الشام، وكانت أمور الدولة الآشورية مرتبكة كذلك، وقد منح هذا لسليمان شيئا من الحركة والنشاط والتبسط في ممارسة السيادة. أما ما جاء عن قصة ملك سليمان وحكمته التي أوردها الكتاب المقدس، فقد تعرضت لحشو وإضافات على نطاق واسع، على يد كاتب متأخر شغوف بالمبالغة في وصف رخاء عصر سليمان، مولعا بتمجيد حكمه ... «وقد استطاعت هذه الرواية أن تحمل العالم المسيحي بل والإسلامي على الاعتقاد بأن الملك سليمان كان من أشد الملوك عظمة وأبهة، لكن الحق أنه إذا قيست منشآت سليمان بمنشآت تحتمس الثالث أو رمسيس الثاني أو نبوخذ نصر، فإن منشآت سليمان تبدو من التوافه الهينات»، أما مملكته فهي رهينة تتجاذبها مصر وفينيقيا، وترجع أهميتها في معظم أمرها إلى ضعف مصر المؤقت.» (2-3) ماذا يقول التاريخ؟
وهكذا يتضح أن الباحثين عندما يريدون الحديث عن أحداث التوراة حديث المؤرخين، يضطرون إلى المقارنات والاستنتاجات، بالنظر إلى أن تاريخ مصر، على كثرة ما اكتشف منه، لا يشير إلا لماما في لمحات سريعة إلى القبائل البدوية، بينما تتحدث التوراة بالتفاصيل عن مصر وملوكها ومدنها وطبائع أهلها، مما يشير إلى معرفة واضحة من جانب الإسرائيليين بشئون مصر والمصريين، وهو أمر طبيعي تماما حيث إن وضع إسرائيل كقبائل هامشية ما كان يشغل حيزا هاما في المدونات المصرية، بينما كان المدون الإسرائيلي لا يستطيع إغفال مصر.
المهم أن أول ذكر لإسرائيل في مدونات مصر جاء في قصيدة منقوشة على لوح تذكاري من الجرانيت الأسود، أقيم في معبد الملك «مرنبتاح» الجنائزي، والقصيدة تتغنى ببطولات الملك وانتصاراته، حيث تقول: «الأمراء منبطحون أرضا يصرخون طالبين الرحمة، ليس بين الأقواس التسعة من يرفع رأسه، لقد دمرت أرض التحنو (ليبيا)، وخاتي (تركيا) هادئة، وكنعان قد استلبت بقسوة، وعسقلون تم الاستيلاء عليها، وجازر قد أخذت وينو عام أصبحت كأن لم تكن، وإسرائيل أقفرت وليس لها بذر، وخوري (أرض فلسطين) عدت أرملة لمصر.»
وقد وقف علماء كثر مع هذا النص واعتبروه دالا على حدث الخروج من مصر، حيث ترد كلمة إسرائيل في نصوص مصر لأول مرة، واعتبروا الفرعون «مرنبتاح» هو فرعون موسى والخروج، بينما ذهب آخرون إلى أن النص يتحدث عن حرب شنها مرنبتاح على عدد من الشعوب خارج مصر، وأنه هاجم أراضيهم وضمنها إسرائيل.
هذا كل ما ورد من التاريخ التوراتي المهول في تاريخ مصر «إسرائيل أقفرت وليس لها بذر» ويبدو أن الأمر لم يكن يستأهل الفخار به والإطالة بشأنه قياسا على أعمال الفرعون الأخرى، فاكتفى بتلك الإشارة السريعة، التي قامت عليها ألوف الأبحاث في جامعات العالم، مقارنة بالتوراة، ولم تزل.
أما قول «ويلز» السالف، إن إسرائيل كانت مجرد دويلة رهينة لمصر، وإنها كانت تابعا متقدما في آسيا للفراعنة، فهو استنتاج يطابق أحداث التاريخ، وما ورد في تاريخ مصر القديمة من وثائق، عن الحملات التأديبية التي كان يقوم بها الفراعنة على بدو آسيا، في حال أي تمرد أو عصيان مع تركهم على أحوالهم ويحكمون فقط بوال من قبل الفرعون غالبا ما يكون منهم، مع بعض كتائب مصرية لمنع أي شغب.
ومن المعلوم أن مصر ظلت ترعى فلسطين وتزودها بالميرة أيام القحط والجفاف، كما ظلت ملجأ آمنا لأهلها عند أي خطب أو غزو خارجي، وهو بالضبط ما حدث زمن هجوم الملك الكلداني نبوخذ نصر على يهوذا، حيث لجأ أهلها بالألوف المؤلفة إلى مصر، التي استقبلتهم بالترحاب زمن الفرعون «واح إف رع» المسمى باليونانية «أفريس 587-568ق.م» أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين، وهو ما حكته التوراة في الإصحاح 25 من سفر ملوك ثاني، وتأكد بوجود جالية يهودية تعيش بعد ذلك في جزر الفنتين جنوبي أسوان بمصر.
وتحكي لنا التوراة عن معركة بين مصر وآشور وقعت في بلاد الشام، مما يشير إلى خروج الجيوش المصرية للدفاع عن بلاد الشام ضد غزو آشوري، وتقول التوراة إن ملك إسرائيل «يوشيا» اعترض طريق الفرعون «نخاو» ليمنعه عن نجدة سوريا فاضطر الفرعون إلى قتل الملك الإسرائيلي. كما اضطر بعد ذلك لأسر ابنه «يهو آحاز» الذي تخابر مع الآشوريين، وتم ترحيل الملك الإسرائيلي «يهو آحاز»، إلى مصر وهي رواية سفر الملوك الثاني بالإصحاح الثالث والعشرين، ولا نجد في مدونات التاريخ المصري نظيرا للرواية، لكنا نجد ما يصادق عليها؛ حيث تم العثور على لوح عليه نقش ورسم وكتابة عن شخص باسم «يوده ملك» وترجمتها «ملك يهوذا»، وتعود إلى زمن الفرعون «نخاو»، وهو ما جعل المؤرخين يتأكدون أنه بعينه الملك الإسرائيلي الأسير «يهو آحاز».
وبينما كانت التوراة تصف مصر بأنها «جنة الرب أرض مصر» حيث الراحة والهدوء والرخاء والدعة، نجد أيوب النبي يحلم بأيام مصر، «قد كنت مضطجعا الآن ساكنا، كنت نمت مستريحا، مع ملوك «ومشيري الأرض، الذين بنوا أهراما لأنفسهم»» (أيوب، 3)، وفى سفر الخروج نجد الإسرائيليين يعانون الجوع بسيناء فيحتجون على موسى معبرين عن ندمهم لترك أسر مصر قائلين: «ليتنا «كنا بمصر جالسين إلى جوار قدور اللحم».» وهي كلها الأمور التي تفسر ما استقر في نفوس الإسرائيليين تجاه المصريين، متمثلا في نبوءات ترد لمصر الجميل. (2-4) نبوءات التوراة لمصر
في الأزمنة الأخيرة لإسرائيل، زمن أنبياء إرميا وإشعيا، وقبل زمن تدمير الهيكل على يد طيطس الروماني وتشتيتهم في بقاع العالم، وقف أنبياء إسرائيل على عتبات النهاية، يتنبئون بعودة المجد السليماني وقيام دولة إسرائيل مرة أخرى، وأنها حينذاك ستسود العالم، لكن قيامها كان يشترط أولا وأخيرا خرابا تاما لمصر، وإذلالا لها، وهو ما يفصح عن التكوين النفسي والعقلي ومدى التشوه الذي لحق بنفوس القوم تجاه مصر.
يقول إشعيا في الإصحاح التاسع عشر من سفره: «وحي من جهة مصر، هو ذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر ... يذوب قلب مصر في داخلها ... تنشف المياه من البحر ويجف النهر وييبس وتنتن الأنهار ... والرياض على النيل على حافة النيل وكل مزرعة على النيل تيبس وتتبدد ولا تكون ... في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء، فترتعد وترتجف من هزة يد رب الجنود التي يهزها عليها، وتكون أرض يهوذا رعبا لمصر.»
ثم يؤنب إشعيا بني جلدته الذين يلجئون إلى مصر وفيئها في الملمات، بقوله في إصحاحه الثلاثين: «ويل للبنين المتمردين يقول الرب ... الذين يذهبون لينزلوا إلى مصر للمعونة ليلتجئوا إلى حصن فرعون «ويحتمون بظل مصر»، فيصير لكم حصن فرعون خجلا، والاحتماء بظل مصر عارا.»
أما النبي إرميا في الإصحاح 46، فقد وقف يعبر عن مكنون كل إسرائيلي تجاه مصر في قوله: «أخبروا مصر، وأسمعوا في مجدل، وأسمعوا في نوف (منف) وفي تحفنحيس، قولوا انتصب وتهيأ الآن، لأن السيف يأكل حواليك ... نادوا هناك: فرعون مصر هالك ... نوف تصير خربة وتحرق فلا ساكن ... ها أنا ذا أعاقب آمون نو وفرعون مصر وآلهتها والمتوكلين عليه.»
أما حزقيال النبي فلم يبخل على مصر وهو يوجه كلام الرب الإسرائيلي إلى الفرعون المصري المقبل، بالإصحاح 29 حيث يقول: «ها أنا ذا المليك على أنهارك، «أجعل من أرض مصر خربة مقفرة من مجدل إلى أسوان ... وأشتت المصريين وأبددهم من الأرض».» (3) فلسطين وإسرائيل: الخلل في التوراة أم في التاريخ؟
حدث هذا أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد، عندما انقضت موجات بشرية على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، قادمة من جزر البحر الإيجي ، كان أكبرها تلك التي اكتسحت العاصمة الحيثية «خاتوشاش/بوغاز كوي حاليا تركيا» ودمرتها، لتتركها خرابا بلقعا إلى الأبد، ثم تزحف منها جنوبا لتقضي على «قرقميش/جرابلس حاليا شمالي حلب»، لتحتل بعدها «أوغاريت/رأس شمر الآن قرب اللاذقية»، ومن بعدها «أرواد»، لينحدر السيل الجارف جنوبا باتجاه حدود مصر الشرقية عبر سيناء، مترافقا مع جناح بحري لمهاجمة شواطئ مصر الشمالية، مصحوبا في الوقت نفسه بجناح ثالث هبط على السواحل الليبية ليهاجم حدود مصر الغربية، وكان ذلك الهجوم الثلاثي أكبر كماشة عسكرية تعرضت لها مصر.
ويحكي لنا «رمسيس الثالث» أحد المحاربين العظماء في التاريخ، أنه قد تصدى بجيوش مصر لهذا العدوان الثلاثي، وألحق به هزيمة مروعة، في ثلاث معارك برية وبحرية، وكان ذلك عام 1180 قبل الميلاد. أما علم التاريخ فقد حاول تفسير وجود عناصر من هؤلاء المهاجمين على الساحل الفلسطيني بعد ذلك، يعيشون هناك في شكل ممالك مستقرة، بأن انكسار الهجوم البحري الكاسح للمنطقة ، الذي جاء من جزر البحر الإيجي وعاصمتها (كريت)، قد انكسر على الحدود المصرية انكسارا شديدا، لكن الفرعون المصري المنتصر، ترك لهم سواحل فلسطين ليقيموا بها، ويكونوا من رعايا الفرعون وجنوده، وفيالقه المتقدمة في آسيا.
أما هيرودت أبو التاريخ، فيقول: إن هؤلاء المهاجمين هم من حملوا اسم «البلست» ويضيف المؤرخون من بعد أن هيرودت اليوناني هو أول من أطلق على بلاد كنعان شرقي المتوسط اسم «بلستيا» و«بالاستين»، نسبة إلى هؤلاء الغزاة «البلست» لتحمل بعد ذلك اسم فلسطين. (3-1) موجات الهجوم
ويعلمنا علم التاريخ من وثائقه، أن ذلك الهجوم الفلسطيني القادم من كريت والجزر الإيجية، قد هجم على منطقتنا في شكل موجات متتابعة، بعد أن شكلت قبائل بحر إيجه اتحادا قويا في نهاية 1300 قبل الميلاد، وأن أول تلك الموجات قد اضطر مصر إلى التخلي عن مستعمراتها في سوريا وفلسطين، وأن أول الموجات قد تمكنت تماما من احتلال ساحل فلسطين في زمن قياسي.
وكان أول ذكر في وثائق التاريخ لهؤلاء «البلست»، هو ذلك الذي نقرأه في وثائق الفرعون «أمنحتب الثالث 1397 / 1360 قبل الميلاد »، ذلك الزمن الرخي الذي ضمت فيه مصر دول الشرق القديم تحت جناحيها وتدفقت عليها الجزى، منذ زمن جده الفاتح الكبير «تحتمس الثالث»، فكان عصر «أمنحتب الثالث» عصر رخاء عظيم.
وقد تلي الموجة التي وصلت زمن «أمنحتب الثالث 1397 / 1360 قبل الميلاد» ذكر لموجات أخرى كان تاليا لها تلك الموجة التي وصلت زمن «رمسيس الثاني 1292 / 1225 قبل الميلاد»، ويبدو أن المصريين قد أسروا منهم أعدادا كبيرة؛ حيث نجدهم بعد ذلك يعملون كمرتزقة في جيوش مصر، باسم الشردانيين (نسبة إلى جزيرة سردينيا).
وعلى نصب عثر عليه في «صان الحجر» بمحافظة الشرقية، نجد حكايات عن سفن البلست الضخمة، ونقوشا تصورهم يلبسون خوذات ذات قرون ويحملون دروعا مستديرة، ويمتشقون سيوفا طويلة ضخمة، وهو النصب الذي روى لنا كيف صد الفرعون «مرنبتاح بن رمسيس الثاني» هجومهم، ليردهم عن الحدود المصرية.
أما في فلسطين ذاتها فقد نظم «البلست» أنفسهم عندما دخلوها، في هيئة ممالك صغيرة مستقلة في إدارتها، منها جرار وغزة وعسقلان وأشدود وجازر وغيرها، لكن ضمن اتحاد فيدرالي مركزه الرئيسي مدينة أشدود، أما قوتهم العظيمة فتكمن فيما نعلمه من نصوص مصر ومن التوراة، أنهم صنعوا أدوات القتال من الحديد، وأن الحديد كان عندهم مادة اعتيادية ووفيرة حتى إنهم صنعوا منه عجلاتهم المقاتلة.
وكل هذا إنما يعني ببساطة القول: إن الفلسطينيين جاءوا المنطقة كعنصر دخيل، قادم من كريت وبحر إيجه، وهو أمر يشكل عمودا لأعمال بحثية كثيرة تشكل الخلفية التاريخية للأحداث التي تجري في منطقتنا، منذ قيام دولة إسرائيل مرة أخرى في عام 1948م. (3-2) ماذا تقول التوراة؟
إذا التاريخ قال: إن الفلسطينيين جاءوا مهاجرين من كريت إلى فلسطين، ليستقروا بها زمن الفرعون «رمسيس الثالث» حوالي عام 1180 قبل الميلاد؛ أي بعد خروج بني إسرائيل من مصر بحوالي خمسين عاما، ومعلوم أن كبرى المدارس البحثية قد استقر رأيها على خروج الإسرائيليين من مصر زمن الفرعون «مرنبتاح ابن رمسيس الثاني» حوالي عام 1229 قبل الميلاد.
ومثل ذلك التاريخ وتلك التزمينات تستتبع عددا من النتائج والدلالات؛ حيث تقول التوراة: إن الإسرائيليين قد سبق لهم أن استقروا بفلسطين قبل زمن الدخول إلى مصر بحوالي خمسة قرون، وهو ذلك الزمن الأسطوري الممتد من إبراهيم إلى إسحاق إلى يعقوب المسمى إسرائيل، وأنه إذا كان الإسرائيلي والفلسطيني وافدين على كنعان، غريبين عليها، فإن إبراهيم كان داخلها الأول حيث سكن بين أهلها الكنعانيين وتكلم بلسانهم، وذلك قبل مجيء الهجرة الفلسطينية بحوالي ستة قرون كاملة. «هذا كلام، لكن التوراة نفسها لها كلام آخر وقول آخر فمادا تقول التوراة؟»
أولا:
لقد جاء إبراهيم وأسرته الصغيرة إلى أرض تسميها التوراة أرض كنعان، قادما من موطنه «أوركسديم»، وإن إبراهيم قد تنقل في كنعان بين عدة مواضع، أهمها ذلك الموضع المعروف بمملكة «جرار» التي كان يحكمها ملك اسمه «أبي مالك»، وتصف التوراة تلك المملكة بأنها مملكة فلسطينية، وذلك في قولها: «وتغرب إبراهيم في «أرض الفلسطينيين» أياما كثيرة» (سفر التكوين، 21).
ثانيا:
يتكرر ذكر جرار بذات التوصيف في زمن إسحاق بن إبراهيم في قول التوراة «فذهب إسحاق إلى «أبيمالك ملك الفلسطينيين» إلى جرار، وزرع إسحاق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مائة ضعف، فحسده الفلسطينيون» (سفر التكوين، 26).
هكذا، ومع إبراهيم أول رجل مهم في التاريخ التوراتي، نجد مملكة باسم «جرار» توصف بأنها فلسطينية، وهو ما يعني اعترافا من جانب التوراة، بوجود العنصر الفلسطيني في فلسطين، قبل زمن الأب إبراهيم بزمن أبعد، يسمح بإقامتهم ممالك مستقرة. ويصبح القول: إن «هيرودوت» أول من أطلق على أرض كنعان اسم فلسطين قولا مردودا بشهادة التوراة ذاتها، أما عند خروج الإسرائيليين من مصر، فنجد نصا توراتيا صريحا يسمى أرض كنعان بكاملها وليس جرار وحدها باسم فلسطين، وذلك في قوله: «يسمع الشعوب فيرتعدون، تأخذ الرعدة سكان فلسطين» (سفر الخروج، 15)، وفي نبوءة متأخرة للنبي اليهودي «صفنيا»، نجده يخاطب تلك الأرض بلسان اليهود قائلا: ««يا كنعان أرض الفلسطينيين»، إني أخربك بلا ساكن» (سفر صفنيا، 2).
هكذا اكتسبت أرض كنعان اسم أرض الفلسطينيين زمن خروج الإسرائيليين من مصر، رغم أن الفلسطينيين كانوا عنصرا يقطن بساحل فلسطين ضمن عناصرها الأخرى، وقد حددت التوراة مساكن الفلسطينيين كمجموعة ممالك متحدة الساحل، بترتيب يصعد من الجنوب إلى وذلك في قولها: «من الشيحور الذي هو أمام مصر إلى تخم عقرون شمالا «تحسب للكنعانيين، أقطاب الفلسطينيين الخمسة»: الغزي والأشدودي والأشقلوني والعقروني والعويين» (يشوع، 13)، وفي قول آخر تمزج فيه التوراة بين الكنعاني والفلسطيني نجد «وكانت تخوم الكنعاني من صيدون حينما تجيء نحو جرار إلى غزة» (تكوين، 10)، لكن الترتيب هنا كان من صيدا في الشمال إلى غزة في الجنوب.
وقد بات من المشكوك فيه عند الباحثين الآن، أن يكون الإسرائيليون الذين خرجوا من مصر، لهم علاقة بذلك الرعيل الأول المسمى بالبطاركة أو الآباء «إبراهيم، إسحاق، يعقوب، الأسباط»، ناهيك عن كون مسألة البطاركة برمتها - كما حكتها التوراة - تدخل في عداد الأساطير عند باحثين محترمين، إضافة إلى جلة محترمة من باحثين آخرين، يرون أن قصة إبراهيم والبطاركة الأوائل لون من الصياغة التي تمت متأخرة بعد الخروج لربط الخارجين بتاريخ قديم، لإلقاء تاريخ إسرائيل المقدس في عمق التاريخ القديم، وأن كل الأمر ربما تم بعد قيام مملكة داود في أورشليم، بتدوين إسرائيل في خضم تاريخ أعرق، وأبعد في القدم، من باب إيجاد موطئ قدم لإسرائيل في التاريخ القديم للمنطقة. (3-3) مصداقية التوراة وخلل التاريخ
لكن تظهر هنا مشكلة كبرى، تثيرها مصداقية مدهشة للتوراة، من حيث تطابقها مع نصوص التاريخ الآثارية، حيث تنسب التوراة الفلسطينيين إلى أصول من جزيرة تسمى مرة «كفتور» ومرة «كريت»، وتسجل بهذا الشأن نصوصها من قبيل: «هكذا قال السيد الرب: ها أنا ذا أمد يدي على «الفلسطينيين»، وأستأصل «الكريتيين»، وأهلك بقية ساحل البحر» (حزقيال، 25)، و«الرب يهلك «الفلسطينيين بقية جزيرة كفتور»» (إرميا، 47)، و«ويل لسكان البحر أمة الكريتيين، كلمة الرب تكون عليكم يا «كنعان» أرض «الفلسطينيين»» (صفنيا، 2)، وفى تعبير واضح لا يقبل لبسا يقول: «إن بعض الهجرات تمت بفعل إلهي.» يقول النص: «قول الرب: ألم أصعد إسرائيل من أرض مصر، والفلسطينيين من كفتور، والآراميين من قير؟» (عاموس، 9).
وهنا المشكلة، والخلل بعينه، فإذا كانت رواية التوراة ككتاب في التاريخ قد تطابقت مع المكتشفات والسجلات الآثارية في هذه المسالة، وإذا كان كلاهما قد أكد قدوم الفلسطينيين من جزيرة كريت وبحر إيجه، فإن هناك خللا يتمثل في: كيف نوفق بين قول التاريخ باستقرارهم على الساحل الفلسطيني في عهد الرعامسة، حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وبين وجودهم حسب التوراة في فلسطين قبل خروج الإسرائيليين من مصر، ناهيك عن قول التوراة بوجودهم بفلسطين زمن البطاركة الأوائل؟
وبالحسابات يقول علم التاريخ: إن الفلسطينيين قد استقروا على سواحل فلسطين بعد أن سمح لهم رمسيس الثالث بذلك؛ أي بعد الزمن المفترض للخروج الإسرائيلي من مصر بحوالي خمسين عاما. وبحسابات التوراة نعلم أن الإسرائيليين أقاموا بمصر 430 عاما حسب الرواية العبرية المازورية، ويضاف إليهم أربعون عاما زمن التيه في سيناء، فيكون المجموع 520 سنة كاملة، إضافة إلى حوالي سبعين سنة افتراضية بين إبراهيم وحفيده يعقوب، فيكون المجموع ستة قرون كاملة، هي الفارق بين تزمين المؤرخين وبين زمن الغزو البلستي التاريخي لفلسطين، وهذا إنما يعني وجود الإسرائيليين بفلسطين قبل وصول الفلسطينيين إليها بستة قرون كاملة، وهو ما تقول به التوراة ذاتها، أليس ذلك خللا حقيقيا؟
والإشكالية في محاولة إيجاد حل يتطلب أحد فرضين؛ فإما أن نتأخر بعصر الرعامسة ستة قرون إلى الوراء قبل التزمين المتفق عليه حاليا بين المؤرخين، وهو ما سيترتب عليه إشكاليات كبرى؛ حيث سيلحق الخلل بكل تاريخ المنطقة، الذي تم تزمينه قياسا على تزمين التاريخ المصرى، وإما أن نتقدم بزمن الخروج الإسرائيلي من مصر ستة قرون؛ أي يكون الخروج قد حدث عام 600 قبل الميلاد، وهو غير ممكن علميا، لأنه سيتضارب تضاربا صارخا مع حقائق تاريخية ثابتة، وتفصيلات شتى لا تسمح بهذا الجموح في الافتراض المستحيل. (3-4) إشكالية تبحث عن حل
نعود هنا مرة أخرى لزمن البطاركة الأوائل، وقول التوراة بوجود الفلسطينيين في ذلك الزمن الأسطوري، زمن إبراهيم وإسحاق ويعقوب، لندقق النظر مرة أخرى، فنجدها إطلاقا لا تذكر أرض كنعان إلا باسم أرض كنعان، ولا ذكر لفلسطين ولا لفلسطينيين إلا عند الحديث عند مدينة واحدة بالذات هي «جرار» التي يسكنها فلسطينيون، وهو ما يضعنا أمام واحد من احتمالين: فإما أن يكون الكاتب التوراتي لهذا الجزء من التوراة - والذي كتب متأخرا بعد الألف الأولى قبل الميلاد - قد استقر في ذهنه اسم فلسطين للدلالة على تلك الأرض فاستخدمه في غير موضعه من الزمن وأطلق اسم فلسطين السائد في زمانه على أرض كانت تحمل فقط اسم كنعان في الزمن السحيق، وإما أن تكون جرار تحديدا ووحدها دون غيرها كانت موئلا للفلسطينيين زمن البطاركة، وأن الفلسطينيين قد سكنوها كجند مرتزقة أو جالية بموافقة الفرعون، وهو الاحتمال المرجح لدينا؛ حيث نعلم من التاريخ أن حيا بكامله شمال شرقي مصر قد حمل اسم «الحي الجزري» زمن الرعامسة، لسكنى الإيجيين فيه، وكانت جرار أقرب المدن الفلسطينية إلى الشيحور المصري الواقع شرقي الحي الجزري تماما، وقد سمي «الجزري» نسبة للجزر، وعبدت هناك آلهة غريبة تماما على مصر، تليق بالأغراب الملتحقين بخدمة الفرعون.
والأسباب في وضع الاحتمالين واستبعاد أن تكون فلسطين مسكونة بجنس البلست زمن البطاركة، هو كما قلنا إن التوراة كانت تصفها بأرض الكنعانيين، وأنها لم تصف أي مكان فيها بالفلسطيني سوى مدينة «جرار»، هذا إضافة إلى أن الأحداث التي رافقت زمن البطاركة لم يأت فيها ذكر الفلسطينيين إطلاقا في أي وثيقة تاريخية، لا في مصر ولا في أي من دول المنطقة ولا بفلسطين ذاتها. علما أن ذلك الزمن لحقته أحداث جسام، تمثلت في غزو الهكسوس لمصر وتذهب جلة محترمة من الباحثين إلى أن دخول بني إسرائيل إلى مصر قد حدث زمن الهكسوس، وهو زمن ما كان يسمح بدخول البلست؛ حيث كان الهكسوس قوة كبرى تحتل مصر ذاتها وتقهرها، مع عدم وجود أي إشارة لفلسطين بهذا الاسم ولا لهجرة باسم البلست في أركيولوجيا ذلك الزمن.
لكن التوراة من جانبها تصر، زمن الخروج، على وجود الفلسطينيين في فلسطين كحقيقة واقعة، والأمر هنا ليس - كما في عهد البطاركة - حديثا عن مدينة واحدة، بل عن مجموعة ممالك قوية ومقتدرة للفلسطينيين بشكل لا يدع سبيلا للشك فيه، بنصوص غزيرة كثيفة ومتعددة، تحدثنا عن قراهم وأسماء زعمائهم ، بل وشخصيات هامة من بينهم، وقواد عسكريين، وشكل أسلحتهم، وحروبهم مع الإسرائيليين عند دخول الأرض، وعباداتهم، وآلهتهم، مما يشير إلى أن الفلسطينيين كانوا قد أصبحوا حقيقة مسلما بها في فلسطين، حتى إنهم أعطوا أرض كنعان اسما جديدا هو أرض الفلسطينيين، وأن ذلك قد حدث أثناء تواجد الإسرائيليين في مصر. (3-5) محاولة حل
رغم أن آخر النظريات وأكثرها اعتمادا في الأكاديميات العالمية، تلك التي تقول باضطهاد الإسرائيليين في مصر زمن الفرعون «رمسيس الثاني»، وبخروجهم من مصر في عهد ولده الفرعون «مرنبتاح»، فإننا لا نعلم كيف وجد هؤلاء السبيل «مثل بروغش وبيير مونتيه وغيرهم» كيف وجدوا السبيل إلى التوفيق بين ذلك، وبين الحقيقة التي تؤكد مجيء الفلسطينيين واستقرارهم على الساحل الكنعاني زمن «رمسيس الثالث»؛ أي بعد خروج الإسرائيليين من مصر حسب ذلك التزمين بحوالي خمسين عاما، بينما التوراة التي تعد لدى هؤلاء مرجعا تاريخيا أساسيا في حسابات تزمينهم للأحداث، تقول إن الخارجين قبل خروجهم كانوا يطلقون على الطريق السينائي طريق فلسطين، وعلى كنعان كلها اسم الفلسطينيين، وأنهم عندما وصلوا إليها وجدوا الفلسطينيين قوة قائمة في ممالك دخلوا معها حروبا طاحنة قبل أن يستقروا إلى جوارهم هناك؟
ومن ثم لا يبقى أمامنا سوى اقتراح فرض لا ينزلق إلى الاصطدام بما استقر عليه علم التاريخ في تزمينه للأحداث وللأسر الحاكمة في مصر، إنما هو فرض يرجع قليلا بزمن الخروج إلى الوراء؛ فنحن نعلم أن أول الهجمات البلستية قد حدثت زمن «أمنحتب الثالث» 1405-1367 قبل الميلاد، وهنا نفترض نجاح تلك الهجمة واستقرارها على الساحل الفلسطيني؛ أي إننا بوضوح نستبعد الخروج زمن «مرنبتاح» 1229 قبل الميلاد، ونرجع به إلى تلك الفترة الواقعة زمن خلو العرش بعد سقوط «إخناتون ابن أمنحتب الثالث» الذي حكم بين 1367، 1350 قبل الميلاد، وهو الزمن المناسب للخروج؛ لأن زمن مرنبتاح كان زمن قوة مصرية تسيطر على فلسطين ذاتها، أما زمن خلو العرش بعد سقوط إخناتون فكان فترة ضعف تسمح بوقوع أحداث الخروج، ومهاجمة الخارجين لفلسطين التابعة لمصر، لكن ليجد الخارجون أن الفلسطينيين قد استقروا هناك زمن «أمنحتب الثالث» وربما قبله بقليل وأسسوا ممالكهم هناك.
وبالحسابات الافتراضية، نحن ندفع بزمن الخروج الإسرائيلي إلى الخلف إلى عام يقع قبل 1350 قبل الميلاد، وبإضافة زمن التيه في سيناء وهو أربعون عاما، فإن وصول الإسرائيليين إلى فلسطين يكون قد حدث حوالي عام 1310 قبل الميلاد، وبذلك نكون قد أرجعنا زمن الخروج مائة وعشرين عاما إضافية عن الزمن المفترض لخروجهم زمن مرنبتاح، وهو ما يعني أنهم قد دخلوا فلسطين قبل قرن من زمن الفرعون مرنبتاح.
وإن فرضنا هذا سيحل عددا من المشاكل الكبرى في التاريخ غير المحلولة حتى الآن؛ فسيحل أولا مشكلة وجود الفلسطينيين بفلسطين قبل الخروج الإسرائيلي من مصر، وثانيا سيعيد الاعتبار إلى المؤرخ المصري «مانيتون السمنودي/القرن الثالث قبل الميلاد» الذي أثبت مصداقية عالية في كثير مما أورده، ومع ذلك استبعد ما ذكره عن الخروج زمن فرعون باسم «أمنوفيس» لصالح فكرة الخروج زمن مرنبتاح، استنادا إلى لوح مرنبتاح الذي يقول فيه إنه هاجم قوما باسم إسرائيل ودمر بذرتهم. وهنا بالتحديد يكمن الخلل في رأينا؛ حيث نحتسب أن لوح مرنبتاح كان يتحدث عن حملة تمت بعد خروج الإسرائيليين واستقرارهم في فلسطين، ضمن الحملات التأديبية التي كان يشنها الفراعين على مستعمراتهم، بينما «أمنوفيس» الذي ذكره مانيتو كفرعون للخروج هو النطق اليوناني للاسم المصرى «أمنحتب» وكان إخناتون يحمل اسم «أمنحتب الرابع».
هذا ناهيك عن كون ذلك الفرض يجعل الخارجين من مصر، ربما كانوا أتباعا مباشرين لأخناتون كأول داعية للتوحيد في التاريخ، وهو ما يفسر التوحيد الإسرائيلي بعد ذلك. إضافة إلى حل معضلة كأداء تقف دوما في وجه القائلين بالخروج زمن مرنبتاح وتتمثل في أن التوراة قد أكدت أن الإسرائيليين عند غزوهم فلسطين، قد دمروا مدينة أريحا وأحرقوها بالكامل، وقد قامت بعثة حفائر بريطانية، بقيادة العالمة الأركيولوجية «ك. كينون» عام 1950م بإجراء حفائر في مدينة أريحا للكشف عن أدلة تشير لتدمير أريحا، ومدى صدق الرواية التوراتية.
وقد تأكد للبعثة البريطانية أن أريحا قد دمرت بالفعل، لكن في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وهو ما شكل معضلة لأصحاب نظرية الخروج زمن مرنبتاح؛ لأن أريحا تكون بذلك قد دمرت قبل زمن مرنبتاح بقرن من الزمان، وقد اعتمدت البعثة البريطانية في تزمينها لدمار أريحا، على ما عثرت عليه من جعلان وكسرات فخارية تحمل أسماء ملوك مصريين، حكموا خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد، هذا مع آثار الحريق المدمر، وآثار التهديم الذي تعرضت له أريحا.
ونقصد من هذا كله القول: إن العودة بزمن الخروج 120 سنة إلى الخلف، إلى فترة خلو العرش بعد سقوط إخناتون، يحل معضلة آثارية كبرى ومشكلة تاريخية حقيقة، ويتطابق موعد دمار أريحا مع موعد دخول الإسرائيليين إليها، كما يحل مشكلة مستعصية تفسر وجود الفلسطينيين بفلسطين فبل دخول الإسرائيليين إليها، ولماذا حملت كنعان اسم أرض الفلسطينيين حتى في التوراة ذاتها، لكنها لم تحمل يوما اسم أرض الإسرائيليين، وهو الأمر الذي لم يزل بعد قيد البحث في كتابنا: «النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة». (4) تعقيب على لقاء نتانياهو بالمثقفين المصريين
ولا أقصد هنا التعقيب على الحوار أو على كل ما قال السيد نتانياهو، لكن فقط على فقرة واحدة قالها في هذا اللقاء، وأوردها الأستاذ عبد الستار الطويلة في عدد روز اليوسف التالي للقاء مباشرة.
يقول الأستاذ عبد الستار: «وهو - أي نتانياهو - لا يعدم حجة يقلب فيها حقائق التاريخ؛ فهو يقول في براءة شديدة وهو يبرر احتلال يهوذا والسامرة، كما أصر على تسمية الضفة الغربية بشكل مستمر طوال اللقاء: نحن لسنا الأمريكيين أو الفرنسيين الذين ذهبوا لاحتلال فيتنام والجزائر، هؤلاء غرباء عن الأرض والشعوب هناك، ولا حق لهم في ذلك، أما نحن فهذه الأرض هي أرضنا، والذي حدث أننا طردنا منها ونريد استردادها.»
وكنا نظن أننا قد تجاوزنا هذا المنطق من حقبة الستينيات لكن السيد نتانياهو بالتزامه العقدي الواضح والمعلن قد أعادنا مرة أخرى إلى تلك المنطقة من التاريخ بمنطق يدعي الحقوق المؤسسة على التاريخ.
لن أكرر هنا القول المأثور: إن كان ذلك كذلك، وكان لا بد من إعادة الأراضي المسلوبة عبر التاريخ إلى أصحابها، فعلى العالم المتقدم الذي يأخذ بهذا المبدأ أن يعيد القارة الأمريكية إلى الهنود الحمر.
ولن أكرر هنا أن الحقوق الدينية لا تعطي حقوقا في الأرض، وإلا كان للمسلم الأفغاني والصيني والإندونيسي حقوق في أراضي الحجاز، وهو ما لم يدعه مسلم عاقل أو رشيد.
ولن أكرر ما سبق وقلته في أعمالي المنشورة عن كون إسرائيلي اليوم أمرا يختلف تماما عن بني إسرائيل التوراتيين، وإلا كان على السيد نتانياهو أن يقدم لنا أهم وثيقة تؤكد تلك الحقوق، وأنه وفق منطقه هو عليه أن يقدم لنا شهادة إثبات نسب تعود به رأسا للنبي يعقوب المعروف بإسرائيل.
نعم نحن نعلم أن في الأزمنة الخوالي كانت هناك العقود المكتوبة بين أفراد مجتمعات الأمم المتحضرة لتؤكد الحقوق، أما القانون كما في مصر القديمة فقد كان للدنيا مثلا، ولكنا نعلم من توراة السيد نتانياهو أن أولئك الذين ينتسب إليهم لم يكونوا ممن يفكون الخط؛ لذلك عمل يعقوب مع خاله الآرامي رجمة حجارة لتكون علامة شاهدة على عقدهما أسماها «يجر سهدوثا»، وأعطى ابراهيم سبع نعاج لأبيمالك ملك جرار الفلسطيني وزرع شجرة أثل عند بئر سبع «لذلك سميت كذلك؛ أي إن بئر سبع سميت بهذا الاسم نسبة للنعاج السبع والقسم) كي تكون شاهدة على عقده مع أبيمالك حول ملكية أحد الآبار - وليس شيئا كالنيل مثلا - أو بالنص التوراتي «وأقام إبراهيم سبع نعاج من الغنم وحدها، فقال أبيمالك لإبراهيم: ما هي هذه السبع نعاج التي أقمتها وحدها؟ فقال إنك سبع نعاج تأخذ من يدي لكي تكون لي شهادة بأني حفرت هذا البئر؛ لذلك دعا ذلك الموضع بئر سبع لأنهما حلفا كلاهما هناك، فقطعا ميثاقا بئر سبع ... وغرس إبراهيم أثلا في بئر سبع» (سفر التكوين، 21: 28-31).
وهو ذات الأمر الذي تكرر مرة أخرى مع أبيمالك الفلسطيني لكن البطل هذه المرة لم يكن إبراهيم بل ابنه إسحاق، وكان النزاع حول البئر التي سميت بئر سبع أي بئر القسم/القسم الذي أقسموه على عهد غير مكتوب فهي تعني الرقم سبعة كما تعني أيضا القسم أو الحلف (انظر: سفر التكوين، 26: 22-23).
مجرد بئر كانت البداية، وحولها تناقضت رواية التوراة مما يشير إلى بطلان القصة بكاملها من أول سرد لها بكتاب ينعت بالمقدس.
نعم نحن نعلم أنهم لم يكونوا من بين الشعوب التي تعرف الكتابة حينذاك، حتى إن على ذمة التوراة بين إبراهيم وبين الله ليأخذ العهد الأعظم وهو المزعوم قد حدث على ذمة التوراة بين إبراهيم وبين الله ليأخذ أرض فلسطين من الله، كان بموجب عقد موثق مختوم بخاتم واضح، وكان أي ختم؟ وأي توثيق؟ كما تقول التوراة: «وقال الله لإبراهيم وأما أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم، هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك، يختتن منكم كل ذكر في لحم غرلتكم (أي في القضيب الذكري) فيكون علامة عهد بيني وبينكم» (التكوين، 17: 9-11).
وبالطبع ليست تلك هي الوثيقة التي نطلبها من السيد نتانياهو ليؤكد الحقوق التاريخية التي يدعيها؛ فلا هو يستطيع إبراز تلك الوثيقة للإعلام العالمي، ولا أي محكمة يمكنها أن تأخذ بهذه الوثيقة المعتمدة بختم الطهارة (بالطبع هي غير الطهارة الثورية). ناهيك عن أنه إذ كان هذا الختم وتلك الوثيقة إعلانا عن امتلاك بئر سبع (البئر فقط وليس المدينة) فلا شك أن المطالبين بحق الملكية وما يملكون من صكوك إثبات لن تكفيهم آبار الدنيا (لعلماء النفس رأي في تلك القصة وهي عندهم تعبير عن الفعل الجنسي، فالقضيب معروف والبئر رمز الفرج).
والغريب في أمر نتانياهو أنه يؤكد حقوقه اليوم في فلسطين اعتمادا على حقوق الآباء الأولين وإقامتهم في فلسطين، رغم أن توراة السيد نتانياهو تؤكد وتعيد وتزيد أن أرومة العبريين إبراهيم ذاته كان غريبا على أرض فلسطين، وهو الأمر الذي ظل يكرره أخلافه من بعده، مما جعل كلام السيد نتانياهو غريبا غرابتهم على فلسطين. انظر معي يا سيد نتانياهو توراتك إذ تقول بلسان إبراهيم وأخلافه: (1) «فخرجوا معا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان» (تكوين، 11: 31).
أي إن القبيلة الإبراهيمية جاءت إلى فلسطين وافدة من أرض أخرى وبلاد أخرى، وقد أثبتنا في كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول» أن أور الكلدانيين هذه تقع في بلاد أرمينيا الحالية ولا علاقة لها بالمنطقة. (2)
وقال الرب لإبراهيم: «اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك» (تكوين، 12: 1). (3) «أنا الرب الذي أخرجك من أور الكلدانيين ليعطيك هذه الأرض لترثها» (تكوين، 15: 7). (4) «لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان» (تكوين، 17: 7-8).
ولعل القارئ لاحظ - كما لا شك يعلم السيد نتانياهو يقينا - أن التأكيد على غربة تلك القبيلة عن أرض كنعان تكاد تتكرر في كل إصحاح، نكتفي منها بتلك الأمثلة لأن إحصاءها يحتاج صفحات طويلة من الملل.
هكذا جاء السيد نتانياهو بافتراء واضح على التاريخ بل على توراته ذاتها التي يعض عليها بالنواجذ. لقد وصل أسلافه قادمين من بلاد بعيدة غرباء على أرض كنعان. الرجل ذكي ومذاكر توراة بشكل جيد، سيرد علينا نعم كان أهل الأرض كنعانيين وهم شعب سامي لا يمكن لأحدنا أن يدعيه لنفسه دون الآخر؛ لأن كلينا سامي. لكن لديك أيها السيد في توراتك ذاتها ما يشير بوضوح إلى أن الفلسطينيين قد سكنوا تلك الأرض قبل مجيء أجدادك إليها من أرمينيا أو من حيث ألقت، ولم يكن فقط سكانها الكنعانيون. لقد وصل إبراهيم وكانت تلك البلاد لا تسمى بلاد الكنعانيين رغم سكن الكنعانيين فيها، لكنها كانت تسمى أرض الفلسطينيين ... هكذا بوضوح فصيح تسميها التوراة أيها السيد المؤمن، وقد ورد ذلك في قصة طريفة لا تستحي التوراة من ذكرها فلا حياء في الدين، والتوراة كما تعلمون أيها السيد لا تعرف الحياء.
كان إبراهيم جدك البعيد حسبما تزعم، وإن كنا في شك عظيم في ذلك لو ناقشناك، لكنا على يقين في عدم نسبتك إليه دون أن نناقشك؛ كان جدك هذا قد نزل مصر يستجدي القوت، بعد مجاعة حلت ببلاد فلسطين، ونستمع معا إلى تراتيل التوراة إذ تقول: «وحدث جوع في الأرض فانحدر إبرام إلى مصر ليتغرب هناك لأن الجوع في الأرض كان شديدا. وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته: إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر فيكون إذا راك المصريون أنهم يقولون هذه امرأته فيقتلونني ويستبقونك، قولي إنك أختي ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك» (تكوين، 12: 10-13).
ثم نفهم من بقية الراوية أن ادعاء سارة الأخوة لإبراهيم لم يكن اتقاء إبراهيم للقتل، إنما لسبب آخر ترويه التوراة تذكرة للعالمين إذ تقول: «فحدث لما دخل إبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدا، ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون. «فأخذت المرأة إلى بيت فرعون فصنع إلى إبرام خيرا بسببها وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال». فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة إبرام، فدعا فرعون إبرام وقال: ما هذا الذي صنعت بي؟ لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت هي أختي «حتى أخذتها لي لتكون زوجتي». والآن هو ذا امرأتك خذها واذهب، فأوصى عليه فرعون رجالا فشيعوه وامرأته وكل ما كان له » (تكوين، 12: 10-20).
سنفهم الآن المراد والمقصود عندما نعلم أن ذات الأمر قد تم تدبيره للملك الفلسطيني أبيمالك، فنقرأ: «وانتقل إبراهيم من هناك إلى أرض الجنوب وسكن بين قادش وشور وتغرب في جرار وقال إبراهيم عن سارة امرأته هي أختي، فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة» (تكوين، 20: 1-2)، وكانت النتيجة فأخذ أبيمالك غنما وبقرا وعبيدا وإماء وأعطاها لإبراهيم ورد إليه سارة امرأته وقال أبيمالك هو ذا أرضي قدامك اسكن فيما حسن في عينيك وقال لسارة: «إني قد أعطيت أخيك ألفا من الفضة»» (تكوين، 20: 14-16). وتكررت القصة ذاتها مع ولده إسحاق بحذافيرها لكن لنسمع هنا القول: «فذهب إسحاق إلى «أبيمالك ملك الفلسطينيين» إلى جرار» (تكوين، 26: 2). التوراة هنا تنتهي إلى تعريف أبيمالك بأنه ملك الفلسطينيين. لقد كان الفلسطينيون قد استقروا في الأرض وأقاموا فيها ممالك أدت بالنبي صفنيا إلى مناداتها في سفره «يا كنعان يا أرض الفلسطينيين» (صفنيا، 2). حيث هناك زعم تروجه جامعات العالم يقول: إن الفلسطينيين - أو كما ذكرهم التاريخ (البلست) - قد قدموا من كريت إلى فلسطين؛ فحتى لو كان ذلك هو الحادث تاريخيا فإن التوراة تقول بمجيء أرومة العبريين إلى بلاد كنعان وقد عرفت باسم أرض الفلسطينيين. «لقد كان البلست قد أقاموا في فلسطين زمنا كافيا قبل ذلك ليمنحها اسم الفلسطينيين».
ومع منظومة أخلاقية كتلك المنظومة التي حدثتنا عنها التوراة لا يكون هناك مجال للقول بنقاء الجنس الإسرائيلي مع هذه البداية التي لا تبشر بخير، ناهيك عن كون هذه النقاء الجنسي ظلما لطبيعة الإنسان؛ فمن المستحيل أن تقنعنا بنقاء هذا السلسال خلال ألوف السنين، وأن البذرة الإسرائيلية ظلت تتناقل في أرحام الطاهرات حتى وصلت يهود اليوم؛ لأنه من جانب آخر هناك مغالطة تتم بموجبها المطابقة بين مفهوم الدين اليهودي وبين العنصر أو الجنس الإسرائيلي، بحيث يبدو وفق تلك المغالطة أن يهودي الفلاشا الزنجي ويهودي روسيا الأحمر ويهودي المنطقة السامي ويهودي أمريكا المهجن، هم جميعا يعودون بالنسب إلى جدهم يعقوب إسرائيل.
فنحن كبشر لا نستطيع التسليم بلون خارق من العفاف الجنسي المنقطع النظير عند بنات يهود، حتى تحمل البذرة الإسرائيلية خالصة، ولن نضرب هنا أمثلة ضربناها كثيرا في أعمالنا المنشورة عما يموج به الكتاب المقدس من صخب جنسي وصهيل شبقي لبنات صهيون على الشباب الفتي لأم غير إسرائيلية (انظر مثلا سفر إرميا، 30: 50، 13؛ وحزقيال، 16 ... إلخ)؛ ولهذا السبب تحديدا وضعت دولة إسرائيل قانونا لا يعتبر الفرد بموجبه يهوديا إلا إذا كانت أمة يهودية.
لكن المشكلة أننا إذا طبقنا هذا المبدأ على مؤسس دولة إسرائيل الملك داود، ثم على أشهر ملوكهم الملك سليمان، فسنجد الأول حفيد راعوث، ولم تكن لا إسرائيلية جنسا ولا يهودية دينا إنما كانت موآبية أما سليمان فقد رزق به أبوه من امرأة حيثية لا يهودية ولا إسرائيلية. وطبقا للقانون وإعمالا لبنوده فإن كليهما لم يكن يهوديا ولا إسرائيليا، وتكون المؤسسة الكبرى من البدء دولة فلسطينية تم سلبها لصالح يهوذا.
يبدو هكذا أنه لم تصبح لدى السيد نتانياهو أية وثيقة تعطيه حقوقا في الأرض، حتى أساطيره لا تسعفه، وبالطبع لن نقبل منه الوثيقة التأسيسية فلدينا منها الأقوى والأكبر والأكثر عددا ونفيرا. (5) الإسلام والقضية الإسرائيلية «اتبعوني أجعلكم أنسابا، والذي نفس محمد بيده لتملكن كنوز كسرى وقيصر.»
كان ذلك نداء النبي
صلى الله عليه وسلم
يجلجل في مكة يعد من يتبع صاحبة بكنوز عظمى وفتوحات أعظم، وقد ظل هذا النداء يتكرر حتى بعد قيام دولة الرسول النبوية الصغيرة في يثرب، خاصة في المناطق الصعبة وهو ما حدث في غزوة الخندق والمدينة محاصرة بالأحزاب قد يدخلونها على أهلها بين فينة وأخرى، وساعتها أعلن الرسول وعده للمؤمنين أن الله قد فتح عليه بلاد الفرس وبلاد الروم، وهو ما دعا مسلما أنصاريا هو «معتب بن قشير» ليعقب في المساحة الواقعة بين الوعد وبين واقع الحال، فيقول: «كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!» والرد كما هو واضح رد ساخر ينعى هما حاضرا لا ينبئ بمثل ذلك الوعد العظيم. لكن خط سير التاريخ كان مع صاحب الدعوة وأمله الكبير.
كانت مصر وساحل أفريقيا مع فلسطين وبلاد الشام جميعا تقع حينئذ تحت ظل عرش قيصر الروم، بينما كانت العراق وما والاها شرقا تقع تحت مظلة كسرى الفرس، وكل الدلائل تشير إلى فراغ سياسي واضح ناتج بالضرورة عن انهيار قوى الإمبراطوريتين بعد حروب دامت وطالت، ولا بد أن تملا هذا الفراغ قوة جديدة.
وقد وعى عرب الجزيرة الدرس وقرءوه بإمعان وأدركوا دورهم التاريخي المنتظر، فكانت دعوة النبي
صلى الله عليه وسلم
وكان الوعي النافذ لرجل من سادة الملأ القرشي عظيم، هو الشيخ «عتبة بن ربيعة» الذي كللت السنوات رأسه بالحكمة فقرأ خطوات التاريخ المقبلة قراءة واضحة بوعي ضفره موقعه القيادي في دار الندوة، فقام يحدد موقف الملأ القرشي من محمد ودعوته بندائه: «يا معشر قريش أطيعوني وخلوها بي وخلوا بين هذا الرجل وما هو فيه فاعتزلوه؛ فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم. فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن ظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به.»
وهنا يطفر السؤال: هل كان معلوما لدى صاحب الدعوة، وفى خطة الوحي أن بلاد الحضارات الشرق أوسطية القديمة، مثل مصر والشام والعراق، ستقع ضمن حدود الدولة الإسلامية الإمبراطورية المنتظرة؟ وأنها ستتحول تماما لتصبح دولا عربية تتبنى العروبة لغة وثقافة وقومية بل وربما عنصرا؟
المشكلة أننا لو سلمنا بذلك لوقعنا في مأزق حرج بين ما يطلبه الإيمان وما تطلبه همومنا الوطنية والقومية اليوم؛ فنحن اليوم في أزمة حضارية طاحنة تستدعي تمسكا شديدا بالهوية مقابل الآخر الغاصب المتفوق، والهوية في مصر مصرية تضرب بجذورها آلافا من السنين في أزمنة غوابر، والهوية في العراق عراقية تضرب بحضاراتها المتعددة من كلديا إلى بابل وأشور وآكد في عمق الماضي فحازت العراقة لاسمها، وبلاد الشام بدورها لا يقل وجودها الحضاري القديم عن شأن جيرانها، ثم يجمع هؤلاء جميعا رابطة العروبة التي تحققت خلال قرون بعد الغزو العربي لها. لكن مكمن المشكلة أن اعتزازك بذلك القديم العريق الذي يحفظ لك التماسك النفسي والروحي ويضمن لك عدم فقد الذاكرة التاريخية، سيتصادم فورا مع موقف الوحي القرآني الذي كرم بني إسرائيل تكريما مقارنا طوال الوقت بأصحاب تلك الحضارات مع تسفيه هذه الحضارات لصالح التاريخ الإسرائيلي؛ لأنه يعتمد في موقفه على الإيمان والكفر وحدهما، وكانت تلك الحضارات حضارات كافرة برب الشعب الإسرائيلي؛ لذلك يغرق فرعون مصر وقومه المجرمون في لجج بحر ينشق بالعصا الحية؛ لأنه كفر برب موسى وهارون الإسرائيليين، وينهار برج بابل فوق نمرود وقومه لأنه جادل الحق الذي جاء به الخليل إبراهيم أرومة العبريين، ويموت جوليات الفلسطيني قتيلا وهو يدافع عن أرضه ضد الاستيطان الإسرائيلي لبلاده بقيادة الملك داود؛ لأن جوليات كان بدوره كافرا. ومن هنا تطرأ الأسئلة الملحة والمشروعة إيمانيا ووطنيا وقوميا، والتي تفرضها متغيرات واقع الأحوال منذ جاءت هذه المواقف وحيا مع بدء دعوة النبي
صلى الله عليه وسلم
وحتى الآن، أسئلة تبحث عن السواء النفسي والاتساق مع الذات ومع الإيمان ومع منطق الأحداث. تبغي التمدد في هويتها الحضارية القديمة العريقة احتماء وتماسكا، وتريد في الوقت ذاته احترام المقدس وقراره حتى تطمئن إلى ما وقر في القلب حتى يصدقه العقل ويطابقه العمل. وحتى يمكن ذلك سنحاول قراءة حركة التاريخ على مستويين: الحركة الأولى إبان تواتر الوحي في مكة والمدينة حتى وفاة الرسول
صلى الله عليه وسلم
وتوقف الوحي، والحركة الثانية منذ توقف الوحي، وحتى الآن. (5-1) وقائع الحركة الأولى
وعلى محور الحركة الأولى نطالع الدعوة الناشئة في مكة وهي في بدئها تبحث عن ملاذ وحلفاء وأتباع، وتمثل هذا البحث في سعي صاحب الدعوة إلى كسب الولاء لدعوته، بعرض نفسه على شتى القبائل وعلى المستوى الاستراتيجي كان أهم نقطتين يجب التركيز على حلف أحدهما يتمثل في مدينتين تقع كلتاهما على الخط التجاري الدولي الذي يمسك بعنان تجارة عالم ذلك الزمان. المدينة الأولى هي الطائف التي تقع على عصب طريق الشتاء التجاري إلى اليمن، والثانية هي يثرب الواقع عند عنق طريق الإيلاف الصيفي إلى الشام.
وبحكم المصالح التجارية المشتركة التي تربط أهل الطائف بالأرستقراطية التجارية المكية رفضت الطائف عرض التحالف مع الدعوة الجديدة، وبالمنطق نفسه - منطق المصالح - قبلت يثرب حلف صاحب الدعوة. بعد أن دفعها إلى ذلك أمران:
الأول:
أن قريشا قد أسقطت يثرب من حسابات مكاسبها التجارية نتيجة لضعف يثرب الشديد بعد مجموعة الحروب الأهلية التي دارت بين بطونها وأحلافها، حتى لم يعد بإمكانها القيام بفعل مناسب على طريق الإيلاف الشامي للضغط على قريش، حتى تنال نصيبها من تلك المكاسب التجارية الهائلة. وقد رأت يثرب أن التحالف مع صاحب الدعوة هو الفرصة المثالية للوقوف ندا لمكة التجارية. بل وتشكيل تهديد حقيقي تمثل في قمته في قطع الطريق التجاري تحت قيادة زعيم قرشي من قريش ذاتها، قريش مكة التي سبق وأهملت يثرب من معادلتها الاقتصادية.
أما الأمر الثاني:
الذي دفع يثرب إلى هذا التحالف أو ساعد عليه بالأحرى، هو خئولة النبي وآل هاشم في بني النجار من الخزرج اليثاربة، تلك الرابطة القرابية التي دعت الأخوال في يثرب إلى استقبال ابن رحمهم الهاشمي، وفتح مدينتهم له لتكون نواة الدولة وعاصمتها المقبلة. ولا يغيب علينا دور الإيمان العظيم لأهل يثرب بالدعوة الجديدة، وهو الإيمان الذي هيأهم له معاشرتهم لفكرة التوحيد الإلهي عبر أهلها من يهود يثرب، لكن ذلك تحديدا كان سببا في جعل يثرب مدينة إشكالية لوجود العنصر اليهودي بها، مما استدعى - في التعامل معها - تكتيكا من نوع خاص، أراد الله به إعطاء الدرس الموضوعي للمؤمنين.
من نافلة القول التأكيد أن يهود يثرب إنما كانوا عربا بكل معنى الكلمة، فقط كانوا يدينون باليهودية. ومثلهم مثل بقية يهود الشتات كانوا ينتظرون نبيا من بني إسرائيل، يعيد لإسرائيل مجدها ويقيم لها دولتها الغابرة التى أنشأها داود وولده سليمان، وعلى أن يكون هذا الآتي من نسل تلك الشجرة وحين ظهوره سيتم مسحه بالزيت المقدس «مسيحا» ليقيم عمد دولته ويعيد بناء الهيكل الذي دمره طيطس الروماني عام 70 ميلادية.
وقبل ذلك بزمان عانت الدولة السليمانية من قوة جيرانها؛ فقد وجه الفرعون شيشنق لها أولى الضربات زمن رحبعام بن سليمان، ثم تبعه الآشوريون الذين قضوا على النصف الشمالي من دولة إسرائيل، لينهي الأمر نبوخذ نصر البابلي باحتلاله نصفها الجنوبي وسبي أهلها. وهنا لم يبق أمام أنبياء شعب الرب سوى استمطار اللعنات على أعداء إسرائيل المتمثلين في حضارات المنطقة القديمة، والتنبؤ بانتقام سيقوم به المسيح الممسوح الآتي بعد أن يقيم دولة إسرائيل على أنقاض دول المحيط المعادي لها. ومن هنا كثرت نبوءات الكتاب المقدس بنبي آخر الزمان الآتي من سجف الغيب.
وعندما ظهر النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
في مكة، أرسل إعلانه يدوي بين فيافي الجزيرة ليصل من يهمهم الأمر، يؤكد أنه نبوءة موسى وبشرى عيسى وأنه أحمد النبي المنتظر. وتم دعم ذلك بقصة الذبح التي كاد يتعرض لها أبوه عبد الله لتتناغم مع قصة الذبح التي كاد يتعرض لها إسماعيل ابن إبراهيم، حيث كان الذبح علامة على التواصل مع السماء. وقد تم تعويض ذلك الذبح في اليهودية بذبح شاة أو بذبح جزئي للطفل بجراحة الختان، التي أكدت التوراة أنها بصمة العقد الذي تم بين إبراهيم ونسله وبين الله. وبموجب هذا الختان/الختن/الختم تم توثيق العقد والوعد بوراثة النسل الإبراهيمي الإسرائيلي للأرض ما بين نهر مصر إلى نهر الفرات.
ولكن لأن شرط النبوة التوراتية أن تكون في بني إسرائيل، ولأن النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
ليس من بني إسرائيل، فقد أمكن إيجاد الصلة مع الوعد بإرجاعه سلفا ليس إلى يعقوب المسمى بإسرائيل، لكن إلى الأب الخليل صاحب الوعد والعقد الأول، إلى إبراهيم نفسه؛ وحيث إن إسماعيل كان أول من اختتن قبل شقيقه إسحاق، أمكن القول بإمكان مجيء نبي آخر الزمان من الفرع الإسماعيلي، دون اقتصاره على الفرع الإسرائيلي من نسل إبراهيم. وهكذا تم ربط صاحب الدعوة بالمشروع الإسرائيلي، ليكون محقق الوعد لكن عبر النسل الإسماعيلي.
وهو الأمر الذي وعاه مؤرخونا الإسلاميون الأوائل وعبروا عنه بهذا المعنى.
لا زلنا على محور الحركة الأولى التي حددت علاقة النص المقدس بواقع الأحداث التي أصبحت تاريخا، إبان تواتر الوحي في مكة وقبل الهجرة إلى يثرب، في دفعات متتالية من الآي القرآني الكريم للتأثير في يهود يثرب توطئة لهم لقبول دعوة النبي، بل وقبوله هو نفسه في يثرب؛ فجاءت آيات الكتاب الكريم تتحدث عن مكانة بني إسرائيل في التاريخ السياسي والديني للمنطقة، وكيف فضلهم الله على العالمين، مع تأكيد أن محمدا إنما هو استمرار للنبوات المتوارثة في البيت الإبراهيمي، مع تكرار لقصص أولئك الأنبياء منذ نوح وإبراهيم عبورا على إسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وانتهاء بداود وسليمان وعيسى، باعتبارهم كانوا توطئة لخاتم النبوات. ومن جانبها كانت الأحاديث تؤكد أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
كان غرة بيضاء في جبين آدم تناقلتها أصلاب الأنبياء والطاهرين التي شخصت بميلاده.
ومن هنا جاءت الآيات تترى تؤكد ليهود يثرب الذين يترقبون:
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور (المائدة: 44)،
إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة (الصف: 6). مع احترام واضح حتى للتفاصيل التوراتية الصغيرة وتوقيرها والإشارة إليها في الآيات. كذكر شعيرة اليهود المقدسة التي كانوا يحملون بموجبها تابوتا يعتقدون أن ربهم يرقد بداخله، وجاء ذكر هذا التابوت في الآيات:
إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم (البقرة: 248)، أو مثل كتابة الله للتوراة (بإصبعه فيما تقول التوراة) على ألواح الشريعة:
وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة (الأعراف: 145). ثم تلا ذلك الموقف العملي للنبي عند حلوله كريما على يثرب لتستنير به وتحمل اسم مدينة الرسول المنورة؛ فقد استقبل مع أتباعه قبلة اليهود في الصلاة بل وصام معهم يوم كيبور/الغفران/«يوم غرق المصريين» وخروج بني إسرائيل من مصر، ثم عقد الصحيفة مع يهود يثرب للتعاون والدفاع المشترك، مع كفالة تامة لحرية الاعتقاد. وإعلان عدم التناقض العقدي بين ديانة يهود وبين ما جاء به محمد، وهو ما تنطق به آيات كثيرة من قبيل:
وهو الحق مصدقا لما معهم (البقرة: 91)،
وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم (البقرة: 139). وكان ذلك بالنسبة ليهود يثرب لونا من ممكنات مستقبلية تحول مركز الجزيرة وقلبها عن مكة إلى يثرب، وما سيعود نتيجة ذلك من منافع عظيمة ، لكنهم أبدا لم يروا محمدا النبي هو المسيح الإسرائيلي المنتظر، بينما كانت خطوات النبي تلك تسجل على الجانب الآخر تباعدا مؤقتا عن أهل مكة في إنذار واضح لقريش كي تغير موقفها.
وبمرور الوقت لم يبق وداد الود على حاله؛ فقد استمر يهود يثرب يهودا دون اندماج كامل يضمن لدولة المدينة تماسكها، ثم تأتي غزوة بدر الكبرى لتضع بيد المسلمين القوة المادية سلاحا ومالا، وتمنحهم الثقة النفسية والقوة المعنوية، وهكذا أذن فجر الأيام البدرية بمغرب مرحلة آن لها أن تغرب. وأخذت آيات القرآن تترى تحمل روح سياسة جديدة، تنسخ ما قد سلف من حرية اعتقاد تم السماح بها في ظرفها، آتية بجديد يوطئ لخلاص يثرب الكامل لدولة الإسلام؛ لأن الدين قد أصبح عند الله فقط هو الإسلام:
إن الدين عند الله الإسلام (آل عمران: 19)،
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه (آل عمران: 85).
وأخذت الجفوة في الاتساع لتتحول إلى عداء جهير صحبته معارك طاحنة انتهت بخروج يهود من يثرب نهائيا، مع إيضاح جديد تحيطنا به الآيات علما في قولها:
من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه (النساء: 46)،
وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه (البقرة: 75)، ناهيك عن تقرير القرآن أن القائلين بأن الله ثالث ثلاثة قد كفروا، قد صحبته معلومة لم تكن معلومة بالتوراة، وهي أن يهود تقول عن الله الذي لم يلد ولم يولد أنه قد أنجب عزيرا ابن الله.
هكذا كانت حسابات الجدل المتفاعل بين صدق الواقع وبين الوحي الصادق الذي طابق الواقع وتحرك معه في درس عظيم من البرمجة والتخطيط، بدأ على أمر وانتهى إلى أمر، وقفت بعده دولة الرسول موحدة شامخة بعد الخلاص من المنكر الإيماني الحي لدعوة الرسول (يهود يثرب).
لكن ما علاقة كل هذا بسؤالنا التأسيسي عن أزمة مؤرقة بين ما يمليه الاعتقاد وبين همومنا القومية والوطنية؟ الإجابة رغم وضوحها فإنها سيبين فيها الخيط الأسود من الخيط الأبيض مع قراءة المحور الثاني للحركة التي تبدأ من وفاة الرسول
صلى الله عليه وسلم
وتوقف الوحي حتى الآن. (5-2) وقائع الحركة الثانية
عملا بخطة الرسول
صلى الله عليه وسلم
التي استنها بنفسه قبل رحيله إلى عالم البقاء، قامت الخلافة من بعده بحروب الفتوحات الكبرى التي انتهت بإدخال دول غير عربية تحت مظلة الدولة الناشطة، بل وتم استعراب سكان البلدان المفتوحة لغة وثقافة وعقيدة ومنهج حياة، فكان أن دخلت في ضفائر العروبة بلدان ذات حضارات عريقة، كان لها مواقف عدائية مع اليهود الغوابر، وفي الوقت نفسه تتلو في مقدسها مواقف تشين جذورها الحضارية وتقتلعهم منها، عبر الإيمان بكفر أصحاب تلك الحضارات من أجداد كانوا لنا عنوان الفخار، ومع وجوب الإيمان بصدق الآخر الإسرائيلي وتبجيله إزاء الوطني العريق. خاصة مع مرور زمان تمكن فيه يهود العالم من إقامة مجد داود وسليمان في أورشليم مرة أخرى باقتطاع أرض عربية من أهلها لصالح شعب الرب والدولة الموعودة بالكتاب المقدس.
لقد كان الموقف قبل انجلائه في بدر، يسعى لتأكيد العلاقة مع التوراة وأصحابها، بسرد القصص التوراتية في آيات قرآنية تؤكد تصديق نبوة النبي ليهود يثرب، وضمن تلك القصص تم تكفير حضارة مصر ممثلة في قوم فرعون الذين أجرموا في حق بني إسرائيل فغرقوا عقابا واستحقاقا، كما انتصرت الآيات للملك دواد الإسرائيلي وهو يقتل جالوت الفلسطيني ويقيم على أنقاض الفلسطينيين دولة إسرائيل، ثم تم الوقوف من حضارة العراق القديم ذات الموقف لأن ملكها النمرود جادل إبراهيم أرومة العبريين في أمر ربه فاستحق هو وآله دمار برج بابل والعذاب.
السؤال الملحاح لا يتحرج ولا يتراجع عن الاجتراء الحر يتساءل: ألا يكفر هذا الموقف فينا نصف هويتنا إن لم يكن معظمها، ويكفر الأسلاف والتاريخ، ويقطع مع الماضي، ويفقدنا الذاكرة الوطنية؟ وإذا كانت خطة الوحي قد استدعت، مصالحة يهود وكل ما ارتبط بها من آيات، فإن الحكمة الإلهية لصالح الموقف الجديد المعادي لليهود، لم تدخل ضمن خطة النسخ بقية البنود المرافقة لقصص مثل قصص فرعون وجالوت ونمرود، آيات ناسخة أو حتى رافضة أو حتى مراجعة لهذا الرتل من الإسرائيليات، أفلا يشرخ ذلك في الذات القومية تجاه الآخر المعادي المتفوق المحتل؟
فكيف نحل هذه الإشكالية دون أن نستهين بأي عنصر في ديننا الحنيف الجليل، ودون أن نفقد تواصلنا مع أصولنا الحضارية القديمة العريقة الأصيلة التي تشكل هويتنا؟
لا أتصور حلا يليق بجلال الوحي وتوقيره سوى إعادة قراءته غير منزوع من سياقه، مرتبطا بواقعه وأحداثه لنعلم حكمة السبب، حتى لا يتصادم الإيمان مع العزة الوطنية بأسلافنا العظماء، ولا يتضارب الوطني مع القومي، ولا يتناقض القومي مع الإيماني.
وهذا النوع من القراءة هو وحده الكفيل الآن برفع الالتباس في علاقة الإيماني بالقومي أو ما يمكن تسميته فك اشتباك. ومن جانب آخر يحقق مصلحة ضرورية هي رفع الانتهازية والاستخدام النفعي للدين ونصوصه حسب مصالح ذوي النفوذ؛ فنحارب إسرائيل بآيات ونصالحها بآيات، ونبني الاشتراكية بآيات ونفتح المجتمع الحر على السوق بآيات، وكي يظل النص القرآني في مكانه اللائق من ثقافتنا دون مصادمات تفرز الأسئلة الصعبة، وربما نكون قد أصبنا، وربما نكون قد أخطأنا، لكنا نحاول لوجه الوطن ما نبغي سوى الفهم وهو مطلب إنساني طبيعي. (6) حول خطاب الحق الديني في القدس
3
هناك حقيقة لا يجادل فيها عربي (على الأقل)، وهي أن إسرائيل استعمار إحلالي يقوم بإحلال اليهود محل الفلسطينيين. ومن هنا يجب مقارنته باليانكي وهو يغزو الشرق والغرب الأمريكي ويبيد هنوده الحمر، ومن بقي منهم كان من باب الحفاظ على فصيلة من الانقراض، لكن ما لا تفوت ملاحظته أن الهنود الحمر كانوا عبر السنين في أمريكا، ولم تقم أمريكا كدولة ثم دولة عظمى إلا بعد هجرة الرجل الأبيض إليها محملا بالناتج الحضاري المادي والمعنوي لزمنه. فحمل معه الثورة العلمية والمنهج الحر في التفكير والممارسة. أما ما تجب ملاحظته بشدة فهو أنه مع هذه المقارنة يجب أن نقارن أنفسنا بالهنود الحمر، وأن نترقب مصيرا مشابها إن بقينا عند ثوابتنا الكبرى المرفوعة أعلاما. وقد سبق واحتل العرب أرض الأندلس احتلالا استيطانيا، وهو أخف وطأة من الإحلالي. لكن مع رفع الأعلام الثوابت أجهض المشروع العلمي الرشدي وذهب ابن رشد إلى أوروبا فحاز ما يناسبه من تقدير وحاز العرب أيضا موقفهم من الحريات، فخرجوا من الأندلس. بينما أصبحت أمريكا قوة عظمى وإسرائيل قوة كبرى. من الحقائق أيضا أننا خضنا معاركنا دفاعا عن حقوقنا، وهي حقوق وليست أوهاما دينية كما تفعل إسرائيل، وليست كما يحولها البعض إلى المستوى الديني فتصبح أوهاما. ولأن الحق مع العرب فقد رفضوا قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة فلسطينية والأخرى إسرائيلية، وقرروا إعلان الحرب.
اللوحة التاريخية تقول إنه رغم أننا أصحاب حق، فقد تمت هزيمتنا هزيمة نكراء ... لماذا؟ معرفة الأسباب تكمن في الإجابة على سؤال آخر أهم: هل كان العقل حاضرا إبان سعينا وراء حقوقنا؟ نقول العقل مجردا الآن وليس ما يستتبعه من حريات ومناهج تفكير علمية وفكر نقدي بلا تحريمات ... إلخ، فقط نسأل: هل كان العقل كتفكير مجرد حاضرا؟
قبل ذلك كان المستوطنون اليهود قد بلغ عددهم في فلسطين حوالي ستمائة ألف نسمة، ما بين رجل وامرأة وطفل. جاءوا من أصقاع شتى ليتعرفوا على أرض فلسطين، وسط قسوة خطوات الاستقرار المعيشي الأول في المهجر. ومع ذلك كان في قدرتهم أن يجيشوا لهذه الحرب 67000 مقاتل، سبق وتدرب معظمهم تدريبا عالي الكفاءة في الحرب العالمية الثانية، ويحملون معهم الفكر المدني إلى جوار القدرة القتالية. واندرجوا جميعا رغم تمايزاتهم المتباعدة الطازجة تحت قيادة عسكرية واحدة. وإبان المعركة أسسوا مجتمعهم المدني بتأسيس أول برلمان ديمقراطي في أرضهم الجديدة.
فماذا كان على الجانب العربي؟
تعداد العرب والحمد لله كان خمسين مليون نسمة، وقد دخل الحرب من الدول العربية والحمد لله سبع دول عربية هي الأكبر. لكنهم والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه لم يتمكنوا من حشد أكثر من واحد وعشرين ألف مقاتل (؟) معظمهم من الأميين (!)، ومع أسلحة أقل عددا وكفاءة مما بيد الجانب الآخر.
وكالعادة التاريخية التي هي فيما يبدو من الثوابت الأعلام بدورها، لم يتنازل الإباء والشمم العربي لقائد واحد يقود جيوشهم، فذلك عار وشنار، وأسفر الأمر عن خمس قيادات عربية متناحرة، رغم أنهم دخلوا الحرب متعنصرين بالعنصر العربي الواحد ، ومتشحين بالإسلام وأعلنوها حربا مقدسة (وهنا المشكلة المستعصية لأن العرب ليسوا كلهم من دين واحد)، فإذا كان الحال كذلك، وكانوا يعرفون ممكنات الطرفين جيدا، فلا شك (حسب المنهج) أنهم تصوروا حدوث معجزات كمجيء الملأ السماوي، أو ظهور الطير الأبابيل، وهو الأمر الذي لم يزل منهجا سائدا في شعار يتكرر حتى اليوم: إذا كانت أمريكا معهم فالله معنا (؟!) وهناك من لا يفهم كيف يكون الله مع قوم لا ينتجون ولا يبدعون ولا يكتشفون ولا يخترعون، فقط يبسملون ويحوقلون؟
النتيجة الواضحة أن طرفا يملك أرضه منذ قرون طويلة ولم يستطع أن يصنع خلاصة، وأن طرفا آخر جاء يريد أرضا ومعه خلاصة.
وكان غياب العقل عندنا، والحريات بمعناها الصادق والكامل (وليس السياسي فقط)، وعدم إجراء حسابات المكسب والخسارة والهزيمة والنصر، العامل الأساسي الذي أدى إلى قيام دولة إسرائيل، بينما لم تقم الدولة الفلسطينية التي نص عليها قرار التقسيم، بل وكان دخول العرب المعركة دافعا لاستيلاء إسرائيل على أرض خارج خطوط التقسيم، وإهدار دماء المواطنين العرب الأبرياء من سبعة أقطار فقط للطنطنة والشنشنة، والمنافسات العربية العربية، وإكراما لذكرى عنتر بن شداد، بلا مقابل؛ لأن المواطن في بلادنا هو بين لكن الدماء كانت بلا ثمن، آخر الأمور التي يتم النظر بشأنها.
وأفضت حرب 48 إلى سلسلة انقلابات انتهت باستيلاء العسكر المحلي على الحكم. تحت قيادات لا نشك أبدا في إخلاصها وطهارة أيديها ووطنيتها الصادقة، بالضبط كما لا أشك أنا أن السيدة والدتي تتمتع بتلك الصفات بشكل مبهر ومحترم، لكن هذه الصفات بالتأكيد لا تكفي لتسليمها رئاسة الجمهورية.
إلا أن بعض القادة من هؤلاء تتمتع أيضا بالكاريزما، والقدرة على حشد الجماهير وتعبئتها، وأمكنهم عسكرة المجتمع بكامله، وأقنعونا أن إسرائيل دويلة يمكن لمصر وحدها ركلها في أيام. لكن يبدوا أن تلك الصفات بدورها لم تكن كافية؛ لأن النتيجة كانت كابوسا مرعبا مروعا بهزيمة 1967م، التي انتصرت فيها الديمقراطية الإسرائيلية انتصارها الأعظم، وأضافت إلى أراضيها أضعاف مساحتها، وهزمت فيها الفاشية العربية هزيمة شنعاء.
كل هذا واضح بالطبع، ومع ذلك لا زال مثقفونا ينتظرون إلى اليوم: القائد قلب الأسد؛ إي والله «قلب الأسد»، بعد أن تأكد الدكتور مصطفى محمود أكرمه الله (أهرام 9/16 /2000م) بتفسيره لآيات قرآنية أن «قلب الأسد» على وصول، وهو قادم آت، لكن لأن الله هو الذي سيختاره؛ فالدكتور مصطفى لا يعلم متى سيأتي ولا كيف؟ إذن انتظروا يا عرب مجيء «قلب الأسد المختار» بالعناية الإلهية، واطمئنوا يا سادة فالدكتور يجزم بصحة ما وصل إليه، ولا بأس أثناء فترة الانتظار تلك أن تبكوا أحيانا على أطفال الفلسطينيين، لكن على العقل العربي يجب أن تندبوا. وكي تندبوا بحرقة أحيطكم علما أني بينما أقول لكم قولي هذا، يتأهب حزب التحرير الإسلامي إلى إعلان الخلافة من «قرقيزيا؟ ...»
حكاية قرقيزيا «هم يضحك» والحاج مصطفى «هم يبكي».
الذي لم نره أبدا أنه كلما تصارعت دولتان إحداهما ديمقراطية، والأخرى أي شيء آخر، كان النصر حليف الديمقراطية؛ فلا نصر بدون تقدم ولا تقدم بدون ديمقراطية حقيقية. والديمقراطية بالمناسبة ليست الشورى بأي حال، وليست مجرد صندوق انتخابات نزيه فهو وحده كارثة كاملة؛ الديمقراطية هي التفكير العلمي في شئون الحياة، ويستلزم بالضرورة كي يولد، مقرطة المجتمع كله من التعليم إلى الإعلام والسلوك الحضاري واحترام العمل والإنتاج واحترام كامل للقانون المدني من جميع الأفراد مهما كانوا متباينين؛ هي أيضا دستور ديمقراطي بالأساس؛ هي حرية النقد الكاملة؛ هي حرية انتقال المعلومات؛ هي حرية التعبير والرأي والاعتقاد، مرجعية الجميع في ظلها هي العقل العلمي وليس الطاعة. هي كل لا انفصام فيه؛ لذلك لا تزدهر في مجتمعات الرأي الواحد والثوابت الأعلام، حيث يسود الجهل والتخلف. •••
لقد كره العرب عدوهم بعمق، والكراهية إزاء الكراهية مشاعر مشروعة، لكن الطرف الآخر مارس الكراهية وأعمل العقل والعلم والديمقراطية، أعمل العقل ليعرف عن أعدائه ما يريد، عبر مراكز بحثية ومؤسسات علمية أهلية ورسمية وجامعية، ليقدم أبحاثه الدقيقة والمفصلة، حتى عن أحوالنا النفسية والعاطفية، إلى وسائل إعلامه وتعليمه وجيشه بالطبع، ليتم تفعيلها لا وضعه على الأرفف. ليعرفوا كيف يفكر عدوهم وما هي ردود أفعاله وما هي سماته الشخصية والنفسية . أما الكراهية عندنا فقد أججها خطاب أوحد يمجد الزعيم الأوحد والأمة الواحدة، ويعلن دوما عن ممكناته العسكرية كأكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط، دون أن يقدم للناس أية معرفة حقيقية بإسرائيل السياسة والاقتصاد والتفكير والمنهج والمجتمع. لأن ذلك سيستدعي بالضرورة مقارنات فاضحة لمؤسساتنا الحاكمة ولمجمل مناهجه. وكان ناتج عدم المعرفة الذي نرتاح إليه من باب الكسل العقلي التاريخي المرتبط بحول منهجي بالضرورة، كل هذا كان لا بد أن يفضي بشكل طبيعي إلى كارثة 1967م، التي لا زالت توابعها الاهتزازية فاعلة حتى اليوم.
ومع هذه المعركة أدرك العالم مدى تخلف العرب الحضاري والثقافي، بل ومدى كذبهم على أنفسهم وعلى الجماهير وعلى العالمين، عندما كانت وسائل إعلامنا تصدر البيانات العسكرية المظفرة تتوالى، بانتصاراتنا الساحقة، وساعتها أعلن أحمد سعيد مذيع صوت العرب الأشهر أننا سنصلي الجمعة غدا في تل أبيب. وكان بعضنا يتعجل السفر ليشرب القهوة هناك قبل أن تبرد، وقبل أن يبرد نهر الدم المنتظر، مع نصيب كل منا في بنات صهيون في أحاديث المصاطب المشيخية. بخطاب كان طوال الوقت غرائزيا يستحث الرغبات في الدم والمكاسب الدونية. بخطاب فقط وليس أفعال. في الوقت الذي كان فيه العالم يشاهد في تلفزته عمليات التطهير التي تقوم بها إسرائيل للأراضي الهائلة التي استولت عليها، وجنود إسرائيل يشربون قهوتهم الساخنة على الضفة الشرقية للقناة.
لم يأسف المحللون علينا حتى من الدول التي كنا نعتبرها صديقة، وقالوا لا يأسف أحد على هتلر إلا أمثاله، وقال بعضهم إن العرب ليسوا فقط متخلفين بل مرضى عصابيين أيضا. وقال آخرون إن العرب في مرتبة تطورية أدنى من البشرية، في مرحلة تجاوزتها الإنسانية على سلم التطور. مجرد كائنات عدوانية لا تعقل وتحتاج إلى قوة تلجمهم.
ولم يستطع العرب تدارك هزائمهم الكونية الكامنة أصلا في المنهج وليس في العمل العسكري، حتى جاءت حرب 1973م ببعض الأمل على المستوى القتالي، لكن ليأتي الإرهاب المسلح الدموي في الجزائر ومصر، ثم يخرج صدام من مغامراته مع إيران إلى أم المعارك، ثم تظهر طالبان محسوبة على العرب فقط ؛ لأنها مسلمة لتعطي العلم بقية مساحيق التشويه ولتثبت للعالم أن الصورة التي قدمتها الصهيونية للدنيا عن العرب، لها أصولها في سجل العرب.
بعض مفكرينا القوميين أكدوا لنا قديما ولا زالوا يؤكدون أن إسرائيل ستسقط بفعل عوامل ذاتية داخلية، بعد فشلنا القومي الذريع في إسقاطها، وألبسوا الأوهام ثياب التنبؤ العلمي؛ فهي مزيج متباين المشارب لبشر مختلفين في نسق اجتماعي شديد التعدد؛ نظرا لاعتقادنا (منذ الخلافة الأموية والعباسية والشركسية والديلمية والسلجوقية والعثمانية والهاب والداب يحمل راية الإسلام)، أن الوحدة الاندماجية الكاملة في أمة واحدة متجانسة بالكامل هو القوة والنصر: الفرض الجبري للتوحد على التباينات العرقية والمذهبية والدينية والقطرية، بتفكير لا يعير التفاتا لحقوق البشر ولا الأقليات بحسبانهم مواطنين، ولا لمعنى الحريات. فقط الأمة الواحدة القوية هي الهدف ولو على حساب الإنسان. لكنها أيضا القوة المجردة بالمعنى العسكري بأرض السودان وأموال البترول وثقل مصر السكاني، هي القوة بمقاييس تجاوزها للزمن، وبفهم عشرة قرون مضت؛ فقاموس التقدم اليوم ليس فيه معنى لتعبير الثقل السكاني مثلا ولا لكل شعاراتنا.
هذا بينما أدرك المشروع الصهيوني مبكرا أن التنوع في ظل مناخ حريات تعددي هو الغنى والثروة والقوة، وكان نموذجه الواضح هو الولايات المتحدة الأمريكية، التي يجتمع فيها أكثر من ألف ديانة وعنصر. أما عندنا فإن التنوع والتمايز وحق الاختلاف في المذهب والدين والرأي في حرية متناغمة مرفوض ومجرم، إما لأنه يهدف لشق الصف الوطني، أو أنه شعوبية يدعو لها عملاء الاستعمار، وربما خيانة وطنية وتخابر مع الأعداء ... يجوز!
العالم وقف أيضا يشاهد إسرائيل تحت الحصار العربي سياسيا واقتصاديا، وهي تزيد معدلاتها التنموية سنويا بشكل مذهل، حتى بلغ دخل الفرد السنوي 15000 دولار سنويا، وهو ما يعني أن ستين مليون مصري ينتجون 45 مليار دولار في السنة وأن خمسة ملايين إسرائيلي ينتجون 75 مليار دولار في السنة.
إن هذا النموذج يفسر لنا وحدتنا وغربتنا ونحن أصحاب الحق بين العوالم نبحث عن مساند ومؤيد؛ فهو نموذج أصاب العالم بلوثة الإعجاب حتى تحول أصدقاؤنا التاريخيون إلى أصدقاء لإسرائيل، من دول أفريقيا وآسيا التي حضرت مؤتمر باندونج الأشهر، إلى الهند والصين وتركيا وإندونيسيا وماليزيا ...
النموذج الإسرائيلي أبهر العالم، لكنه أثار عند الأمريكان الوله والصبابة، بل والشعور بالمسئولية تجاهه. ليس فقط لأنه كما يعلنون واحة الديمقراطية وسط محيط من الفاشية، ولكن لأنه أيضا يعطي الأمريكي العلاج النفسي الناجع لأوجاع ضميره المثقل بدماء الهنود الحمر. وفي هذه المرحلة الرجراجة لحقوق الإنسان وهي في أزمة النضوج الختامي، أوجعت الأمريكان أثام الماضي، فجاءت إسرائيل لهم بالبلسم الشافي. فحضرت أمريكا كلها مؤتمرات ومحاضرات وتحقيقات وأفلاما وثائقية، كان نجمها اليمين الإسرائيلي واللوبي الصهيوني في أمريكا، لتأكيد أنه لا خطيئة ولا هم يحزنون؛ فالعرب والهنود مجرد كائنات، كائنات غير مسالمة بل ضارة كالعقارب والثعابين التي كان المستوطنون الأوائل يجدونها في أمريكا وإسرائيل قبل أن يعملوا فيها أدوات الحضارة؛ هم كائنات متخلفة وغبية كالهنود الحمر تماما، وكلاهما لا يستحق شفقة أو رثاء. وهو كله ما يفسر لنا الوقفة الأمريكية الكاملة ضد الحقوق العربية؛ فالأمور عندهم ليست حقوقا، بل هي استحقاقات الإنسان الحر المنتج؛ وعليه يجب أن نفهم خطاب السياسة الأمريكية ولوم مادلين أولبرايت للطفل الفلسطيني الضحية؛ لأنه يرمي الدبابة الإسرائيلية ... بحجر!
وختمها صدام بأم المعارك الكارثة، وكان مذاقها حنظلا ونتائجها رصيدا مرا يضاف إلى هزائمنا وتخلفنا وفاشيتنا. ومع ذلك لم يستخدم العرب عقلهم في هذا الدرس الذي مر عليه عشر سنين كان يمكن فيها أن نعمل الكثير ... لكننا لم نفعل. وتعالوا نحاول أن نفهم بمثال بسيط ماذا كان يمكن أن نستفيد.
نحن نعلم حسب القواعد الإيمانية أن الله قد أكرم بني آدم فكان أرقى المخلوقات جميعا. وجعل له عينين ولسانا وشفتين، وعقلا يميز به ليرتقي أكثر. لكن في الحقبة الزمنية حدثت تطورات عظيمة ارتقت بالإنسان إلى منطقة احترام قيمة الإنسان لذاته وليس لأن تلك القيمة ممنوحة له من قوة خارجية، فأصبح مقدسا بحكم القانون والدستور المدني في بلادهم. ورغم أن القدسية عندنا قد منحت للإنسان من الله فلم يحترم الإنسان في بلادنا أحد، ولم يجعل هذا الإيمان من مواطنينا مواطنين كرماء في أوطانهم؛ فالكرامة هي فعل المواطنة المدني الناضج، الكرامة ليست نصا ...! المهم أن ظهور قيمة الإنسان لذاته تبعها ضرورة الحفاظ على حياته التي هي أثمن من كل شيء بحق المواطنة في وطن منتج لكن التاريخ مر خارج حدودنا؛ هكذا كان الأمريكي يفكر وهو مقبل على أم المعارك: حياة المواطن أثمن من كل شيء، بينما كان صدام يحشد لأول مرة في تاريخ العرب أعظم آلة عسكرية (حصلوا عليها ... لم ينتجوها)، ويحشد من بني الإنسان ذي العينين واللسان والشفتين أكثر من مليون إنسان ومع أول طلعة للطائرات الغربية انتهت أم المعارك على نسق الخامس من يونيو، بعدما ضربت الطائرات مراكز الاتصالات العراقية وتركت حشود بني الإنسان ذي العينين على جبهات القتال عمياء ... صماء ... بعد أن فقدت اتصالها بقيادتها. لا تعرف ما المفروض أن تفعل، إزاء رعب آخر غير رعب المعركة نابع من تخوف ضباط الجبهة من اتخاذ قرارات قد لا تعجب الرفيق القائد المهيب الركن ... إلخ.
في ذات اللحظات كانت قطع من الحديد الضخم تعبر أجواء العراق (كروز وأخواته)، تعلو فوق بناء عال وتمر فهو ليس المطلوب، وتنحرف عن شجرة تعترضها، لتنفجر فقط عند هدفها المحدد. لقد قرر الإنسان الراقي أن يحمي إنسانه الراقي ومواطنه المنتج؛ لأن قيمة الإنسان أثمن من كل مال؛ لذلك أرسل بدلا منه قطع الحديد التي تكلفت المليارات، بعد أن وضع لها العينين ومنحها الذكاء والفهم، وكان الدافع لاختراعها أصلا هو الحرص على قيمة الإنسان، فهلا تساءلنا في بلادنا عن قيمة الإنسان؟ وعن الإنسان في بلادهم، وعن الإنسان في إسرائيل التي لا تهدأ حتى تحصل على مواطنيها الموتى لتكرمهم؛ فهو إنسان كريم في حياته كريم في مماته؛ فهو الصانع المنتج الحر، هو الأمة في واحد. هذا بينما المهيب الركن يحتفل بعيد ميلاده ودماء مواطنيه لم تجف بعد، فالمواطن يمكن تعويضه دوما، أما العرش فصعب؟! ثم كيف بالزعيم الملهم إذا أزعج نفسه لا قدر الله وتكدر لمصاب شعبه؟
كذلك يمكن تعويض محمد الدرة ورفاقه من أطفال وصبايا وشباب وشيوخ الانتفاضة، هم في نظرنا أدوات رجم تثبت أننا صامدون أمام العدو المتغطرس من باب الراحة النفسية. ليسوا أبدا قيمة عظمى في ذاتهم يمكن استثمارها لنبني بهم مستقبلا أفضل حين نقرر احترام الإنسان لذاته، وأن نفتح عليه أبواب العلم ونوافذ الحرية.
لقد درسنا الإسرائيليون درسا عميقا وعرفوا كيف نفكر وما هي ردود أفعالنا، ومن هنا دفع اليمين بشارون بالتحديد وبالذات لزيارة المسجد الأقصى مستغلا قانون حماية الوزراء، في حراسة ألف جندي، أو أربعة آلاف في رواية أخرى، والله أعلم ... بعد أن تمكن الفلسطينيون من الوصول مع الإسرائيليين إلى بحث قضايا اللاجئين والحدود والمستوطنات، وقبلها مبدأ قيام دولة فلسطينية، مع اعتراف إسرائيلي مواز بها، وتراجع إسرائيل عن استخدام تعبير «يهوذا والسامرة»، مع الانسحاب على مراحل، إلى التفاصيل الدقيقة بشأن الحدود وتوزيع المياه وغيرها. وهو ما ألهب اليمين الإسرائيلي الذي يرى منافعه مع الغرب المتقدم، ولا يرى أية ميزة في سلام أو علاقات مع العرب، من حزب شاس إلى ليفي إلى المفدال. ومع بدء باراك المحادثات بعد فوزه الديمقراطي من أجل السلام أو الأمن، قدم اليمين السلفي عدة مشاريع لحجب الثقة عن حكومته حتى انتهت بلا أغلبية برلمانية. لقد أنجز اليمين الإسرائيلي خطته بزيارة شارون للمسجد وترك الباقي للعرب يتكفلون به. وعندما حدث رد الفعل العربي، وقف عالم العرب والإسلام عند المسجد الأقصى يزأر (يزأر فقط)، بينما لجأ باراك للقمع العنيف إنقاذا لحكومته كما فعل سلفه بيريز في قانا فسقط، ويبدو أن باراك سيلحق به ليطل علينا شارون القبيح، وساعتها نكون قد جلبنا لأنفسنا النكسة الكبرى.
يا سادة إن لم يكن التغيير في بلادنا ممكنا الآن من أجل إنسان كريم في وطن عزيز ومن ثم قوة وتقدم، فلا يمكن ترك الفلسطينيين يذبحون بلا ثمن. ومن هذا الفهم لا بد من العمل العاقل الرشيد والدءوب باستخدام الديمقراطية الإسرائيلية في الداخل لتأتي لنا بأنصار السلام على رأس الحكومة. إلى أن نتمكن من إقامة حلمنا في مجتمعاتنا المدنية على المدى البعيد. وحتى يحدث ذلك فقضية فلسطين قائمة والانتفاضة تستنزف دماء أبناء فلسطين ومن هنا لا مناص من العودة بشكل منظم ومدروس إلى طاولة المفاوضات، لنمارس المعادلة الموجعة المضطرة؛ فيجب ألا تتوقف الانتفاضة وبمعنى آخر يجب ضبط إيقاع الانتفاضة وفق الاجندة الفلسطينية للمباحثات، وأن يتم توزيع الأدوار بين الفصائل والسلطة بذكاء وحصافة، حتى يكون لكل نقطة دم ثمنها المناسب.
لا مفر يا سادة من العودة إلى طاولة المفاوضات حتى لا نترك القرار لإسرائيل وحدها تنفذه حسب مشيتها ولو كره المسلمون. مفاوضات تستند إلى قوة الشارع الفلسطيني وإرادته وتصميمه الذي لا يجب أن يخمد أبدا، قبل الاستناد إلى شرعية دولية لا نملك قوة تفعيلها.
أما الدعوة إلى الحرب فقد أجاب عليها الرئيس مبارك بصدق ووضوح كاشف وأمانة وشفافية تامة، وهي جرأة لزعيم وقائد يعرف معنى الحرب الآن وفي ضوء الظرف المحلي والدولي. رؤية تفتح باب الأمل في الاعتراف العربي بالأخطاء ومراجعة الأمراض الدفينة في مناهجنا، قبل التفكير في البناء السليم، فما بالكم بالحرب؟! (7) أدلتنا التاريخية
كتب الدكتور «عز الدين عناية» في صحيفة القدس العربي (12 / 10 / 2000م) يقول: «إذا حضرت الأيديولوجيا وغاب الإنسان، تجد النواة الأولى التي ينبني عليها التاريخ - الفرد الإنسان - أكثر الأشياء دونية وترزيلا عندنا، مع أكثر ممارسات التفنن في اغتيالها، مما حول الإنسان إلى منسي. لذلك فالشيء الوحيد الذي يتخلف عندنا هو التقدم، حتى أصبح المجتمع العربي بمقتضى ذلك، يحتل أدنى درجات التردي. ليس بفعل قصور حضاري ذاتي، بل نتاج تأهيل خاطئ مورس عليه، مضاد لكافة أشكال النماء والتقدم ... من كذب الذات على نفسها، إلى كذبها على الآخرين، والتي تقف فيها ال... نحن ... عارية سافرة أمام التاريخ. طارحة السؤال الثقيل على نفسها، سؤال ضياع الكينونة ولفظ التاريخ لها.»
وتصديقا لكلام الدكتور عناية، ومصداقا له، نحاول أن نبحث عبثا عن الإنسان في الخطاب العربي السائد الآن، مع انتفاضة التحرير المسماة انتفاضة الأقصى، فلا تجد الإنسان أبدا قدر ما تجد نهاية طرف الخيط للخطاب القديم في تاريخنا التليد سنحاول هنا اختيار أكثر الأقلام وسطية في صحفنا، لاكتشاف بنية التفكير إزاء عدو غاشم واحتلال أغشم.
بعد أن يقدم لنا الأستاذ «صلاح الدين حافظ» في الأهرام (6 / 9 / 2000م) أدلته على حقوقنا التاريخية الدينية في القدس وفلسطين، يثني بالقول: «إن الحكم اليهودي للقدس خلال الثلاثة آلاف عام الأخيرة لم يستمر سوى 600 عام متقطعة. بينما أسطورة الهيكل المقدس ... كانت قد انتهت منذ ألفي عام، وتحديدا منذ عام 70 ميلادية، عندما هدم جنود الإمبراطور الروماني هيرودس ما كان اليهود يعتقدون أنه الهيكل. ولكنهم ظلوا معلقين بالأسطورة التلمودية فجعلوا من الحائط الغربي للمسجد الأقصى - حائط الدراق - أثرا باقيا من آخر آثار الهيكل، أسموه حائط المبكى. وادعوا أن أساسات الهيكل تقع تحت المسجد الأقصى.»
وبغض النظر عن خطأ الأستاذ صلاح حافظ في تسمية الشخصية التاريخية التي قامت بتدمير الهيكل (والمرجح أنه لون من السهو المباح)؛ حيث كان مدمر الهيكل هو القائد الروماني طيطس، أما هيرودس فشخصية تاريخية أخرى حكمت في فلسطين منوبة من الرومان زمن المسيح عليه السلام فإن هناك أسئلة أكثر شرعية تطرح نفسها إزاء هذا الخطاب، ومن بينها: هل تعود مشروعية امتلاك الأرض إلى مدة حكم طائفة بعينها أو عرق من عروق سكان الأرض أو من خارجها؟ وما موقف مصر التي لم يحكمها مصري واحد لأكثر من ألفي عام؟ أم إنه يجب نسبة الأرض لشعبها وناسها الذين منحوها عرقهم ودمائهم وجعلوها أرضا منتجة بغض النظر عن الطائفة أو العنصر، حاكما أو محكوما أم دخيلا؟
وإذا وصفنا المعبد الذي أقامه الملك سليمان المعروف بالهيكل بأنه أسطورة انتهت منذ عام 70 ميلادية، فالمعلوم أيضا أن وصف «أسطورة»، يصف به طرف طائفي يؤمن به طرفا طائفيا آخر من معتقدات وأحداث تخرج عن نواميس الطبيعة وقوانين العقل السليم بينما تكون في نظر المؤمنين بها معجزات. فإذا كان حديثنا عن حقوق دينية لنا هناك بسبب حادثة الإسراء والمعراج، وهي حدث يخرج بالتمام عن كل قوانين الطبيعة والعقل لأنه محل إيمان فقط أفلا يحق لهم أن يصفوا معتقداتنا بالأساطير؟ ونقف نهتف لبعضنا: أساطير، خرافات، هاتوا الأرض!
وقد يتساءل يهودي ساذج: إذا كان هيكل سليمان وهو المعبد الذي بناه لله أسطورة فلماذا تؤمنون به كنبي؟ بل وتؤمنون بحكايات تفوق ما ورد عنه بالكتاب المقدس، من حيث كسرها لكل قواعد العقل وقوانين الكون؟
نكتب نحن لا نلتفت إلى أن الإيمان مسألة قلبية، وليس أداة من أدوات الصراع اليوم؛ لأنه لم تخترع بعد أجهزة لقياس كمية الإيمان ووزنه ومساحته ومصداقيته وما يدعيه كل مؤمن من حقوق؛ فالحقوق أمور عينية ووثائق ومدونات، وبعضها يصبح لا لزوم له (حتى لو كان بالحق حقا) أمام تغير المفاهيم بدوران الأزمان وتغير القواعد الحقوقية، وأحيانا لا يصبح لحديث الحقوق هذا أية قيمة أمام فلسفة القوة والضعف.
مع ذلك يتقدم الأستاذ محمد سلماوي في أهرام (23 / 10 / 2000م) - مع كامل احترامي لشخصه - ليمد العرب والمسلمين بالدليل المادي على حقوقهم الدينية في القدس، والدليل منذ زمن الدعوة الإسلامية، حيث كان الأستاذ سلماوي يدلل على أن تعبير (حائط المبكى) تسمية تهويدية للحائط الذي يحمل اسم (حائط البراق)، أو كما قال بالنص: «لأنه المكان الذي حط فيه البراق الذي حمل النبي
صلى الله عليه وسلم
ليلة الإسراء والمعراج، «والذي تولى فيه جبريل ربط البراق في الحلقة الحديدية التي ما زالت قائمة في السور»، أو هكذا كانت حتى يونيو 1967م.»
هاكم إذن الدليل الملموس والتاريخي الديني على حقوقنا في القدس ... حديدة؟! ... دليلنا على حقنا الديني بالمحسوس الملموس موجود إذن يؤكد هذا الحق، حلقة من الحديد في الجدار الخارجي للمسجد الذي هو جزء من السور الهائل الغربي للحرم. ويتوجس الأستاذ سلماوي شرا من مكائد اليهود، الذين ربما كانوا يعلمون سر الحديدة، وربما قاموا بإزالتها بعد 1967م، لمحو الأثر الواضح الفصيح البين لرحلة الإسراء والمعراج، تلك الرحلة التي تعطي المسلمين حقا قدسيا في المسجد الأقصى.
إنه الخلط بين الحق الوطني في أرض محتلة بالاغتصاب وبالقوة المسلحة، وبين الدين، الذي يؤدي إلى خلط آخر بين المسلمين المنتشرين في الدنيا بحسبانهم أصحاب هذا الحق (وهو أمر غير حقيقي وإلا كان للمسلم الصيني حقه في أرض الحجاز)، وبين الفلسطينيين الذين هم أصحاب هذه الأرض مسجدا أم كنيسة أم هيكلا أم معبدا بوذيا؟ إنها أرض يوجد بشأنها وثائق ملكية ووثائق وقفية مدونة ومسجلة ومشهرة ومعلومة، وبلغة حقوقية تفهمها قوانين العالم اليوم. لكننا نأخذها بأيدينا من الملف الحقوقي الصادق لنلقي بها في رحم عميق عقيم.
وبفرض أن الحديدة لا زالت موجودة، ولم يلتفت الإسرائيليون لكلام الأستاذ سلماوي ليزيلوها بسرعة، وغفلوا عن خطورة تأثيرها على قرارات مجلس الأمن والرأي العام العالمي، فماذا الذي يعنيه هذا الأمر برمته في النهاية؟
هذا مع عدم الالتفات إلى يهودي آخر من النوع الخبيث قد يلقي علينا السؤال: ولماذا ربط جبريل البراق في الحلقة الحديدية؟ هل خشي أن يبرطع فارا أثناء تواجده مع ضيفه في السماء؟ وهل كانت تلك الحديدة وهذا السور مخصصا للبراق وحده منذ بناء السور (بالمناسبة باني السور هم العثمانيون)، وحتى يأتي جبريل ليربطه في هذه الحديدة لمرة واحدة في التاريخ، ليختفي ذكر هذا الكائن بعد ذلك من كتبنا التراثية جملة وتفصيلا على كمها الهائل وثرائها الهائل وتفاصيلها الجمة؟ حتى تبقى الحديدة لنا دليلا عبر الأزمان؟ أم إنها كانت مربطا للبراق في رحلات أخرى لم نعلم منها سوى رحلة الإسراء؟ أم إنها كانت مربطا عموميا؟
من وجهة علماء الأركيولوجيا، أبدا لن يجدوا في الحديدة - إن وجدوها - ما يشير إلى الحدث الجليل ولا إلى تاريخه؛ فهي مجرد حديدة، قد تخص أي شخص في أي زمن؛ لأن قيمة الأثر التاريخي عند هؤلاء العلماء لاحتسابه دليلا، تبدأ من التدوين وتنتهي بالسمات التي تنسب الأثر إلى عصره إذا كان خاليا من التدوين. كالفرق بين التشكيل الفني للفخار الذي ساد في عصر البرونز وبين التشكيل الذي اتسم به في العصر الهليني ... وربما سلم لنا الإسرائيليون الحديدة دون حرب ولا حتى مفاوضات (عايزين حديدتكم؟ ... خذوها).
هذا بينما يورد الأستاذ سلماوي بذات الموضوع، تقرير اللجنة البرلمانية البريطانية إبان الانتداب، للتحقيق في ملكية الحائط الغربي من سور الأقصى، إبان النزاع الذي نشأ بين المسلمين واليهود حوله. يقول التقرير (ولننصت بدقة إلى لغة التقرير): «للمسلمين وحدهم الحق العيني فيه، لكونه يؤلف جزءا لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي أملاك الوقف. وللمسلمين أيضا تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط، وأمام المنطقة المعروفة بحارة المغاربة باعتباره موقوفا.»
هنا لغة وثائق حقوقية، بعد رجوع اللجنة البرلمانية البريطانية للوثائق والمحفوظات والخرائط والتوقيعات والتصديقات، لكنها بدورها تضمنت خطأ فادحا، عندما قالت: إن الحائط ملك للمسلمين هكذا على التعميم؛ فهذه بدورها لغة طائفية تسمح بتمييع الحقوق وسيولتها، ولا تعطي الحق لأصحابه بلغة قاطعة إنما تمنحه لملاك هلاميين، وربما لو قالت لمسلمي فلسطين لكان أوقع (لكنه أيضا ليس أحق).
فالحائط والسور وكل ما هو داخل السور المحيط بالحرم مثله مثل أي قطعة أرض فلسطينية أخرى خربة كانت أو عامرة؛ فهو في المقام الأول وفي أي مقام، وفوق وتحت وقبل وبعد كل المقامات، هو أرض فلسطينية. بهذا الخطاب نجد للأرض أصحابا لهم كامل الحقوق، أما التعبير «ملك المسلمين» فإنه يحيل الحق إلى مشاع هائل لا محدد، فتصبح حقا ضائعا تشبه الدعوة لجعل القدس ملكا لله حتى لا يتصارع حولها المؤمنون من كل دين؟ فإذا كان ذلك كذلك، وتلك لغة الحقوق، فلماذا لا تتركون المسجد لله يدافع عنه، وتفعلون فعل عبد المطلب بن هاشم صادق اليقين وهو يقول لأبرهة الحبشي «رد علي إبلي فللبيت رب يحميه»؟!
إن تديين القضية بالقول إن للقدس وضعا خاصا بسبب قدسيتها الإسلامية، يعطي للطرف الآخر ذات الحق والمبرر بجعلها ذات وضع خاص بسبب قدسيتها اليهودية. خاصة وأن هذا الآخر لديه حقوق أوضح من وجهة نظر عالم اليوم؛ فمقدسنا ولشديد الأسف لا يفهمه أحدا سوانا. أما عندما يتحدث اليهود رطانة الدين فإن هذا العالم يسمع ويفهم ويتفهم، خاصة مع النجاح الذي حققه التواجد اليهودي على خريطة الإعلام العالمي، واجتهاده الذي يفضح قصور الإعلام العربي ويخزيه ... هذا إضافة لما هو أهم وأخطر بكثير (؟).
إن خطاب الحق الديني المرفوع الآن في مظاهرات الشارع العربي، بتوجيه أحمق من وسائل التثقيف، من التلفاز، إلى الصحافة، إلى كافة المنابر الإعلامية، ينسى أمرا شديد الأهمية وهو في دروشته الدينية وخطاباته المسجوعة البلاغية. وهو أنه في الوقت الذي كان يقوم فيه الإسرائيليون من المهاجرين الأوائل بمذابحهم الرهيبة في فلسطين (من مذبحة بلدة الشيخ إلى قرية سعسع إلى أبي كبير إلى دير ياسين إلى أبي شوشة إلى اللد إلى عيليون إلى دير الأسد إلى قبية إلى كفر قاسم إلى خان يونس) ... هرب الفلسطينيون العزل أمام الرعب ونهر الدم. لكن هناك آخرون أصروا على البقاء، فقدوا الأحبة لكنهم استماتوا هناك يعضون على الأرض. هم عرب الداخل الذين يسميهم الأعلام «عرب إسرائيل»، الذين يشكلون لإسرائيل مشكلة مزمنة متفاقمة. وبين تلك القلة الباقية حوالي ربع مليون مسيحي فلسطيني، فقدوا من هاجر ومن تشتت ومن استشهد مع إخوانهم المسلمين إبان المجازر الصهيونية؛ لأن القنبلة الإسرائيلية عندما كانت تنطلق من المدفع أو الدبابة لم تكن تميز بين المسلم الفلسطيني والمسيحي الفلسطيني. ترى أين نضع المسيحيين الآن من أهل فلسطين أو من العرب عموما على خريطة خطابنا الإسلامي الديني الحقوقي في القدس؟ وهم من سجل قبل ذلك مواقف وطنية شجاعة، من المطران كابوتش إلى بابا الكنيسة المصرية صاحب الموقف المعلن الواضح. لقد اختار المسيحيون الوطن، رغم أن مقدسهم الإنجيلي يلزمهم تقديس كتاب اليهود (العهد القديم)، حتى إنهما يجمعان في كتاب واحد هو المقرر المسيحي المقدس. ولأن المسيح قال «ما جئت لأنقض الناموس، بل جئت لأكمل.» وهذا الناموس هو ناموس الحق الديني اليهودي في فلسطين يوما بيوم وسردا لملوكهم ملكا ملكا عبر أسفار الملوك وحتى مجيء المسيح الذي وصف في الأناجيل بأنه «ملك اليهود» (متى، 2: 2)، و«ملك إسرائيل» (يوحنا، 1: 49)؛ فقد وقف المسيحيون العرب موقفا حداثيا مدنيا من قضية الوطن رغم أن الكتاب المقدس لا يعطي اليهود فلسطين وحدها بل «من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات» بالنص.
وها نحن نرفع في وجوههم خطابنا الطائفي العنتري الذي يتجاهل وجودهم تماما، ليشعروا أنهم غرباء في وطنهم مرتين، مرة بالاحتلال البغيض، ومرة باستلابهم التاريخي من قبل إخوانهم المسلمين على أرض فلسطين.
هو الخطاب الذي وقف صريحا واضحا لا يكن ولا يحتشم ولا يخزى عند الملتحين من مسلمي الداخل الفلسطيني، الذين أصروا على بناء مسجد شهاب الدين في حوم أرض مسيحية مقدسة منذ زمن المسيح هي كنيسة المهد؛ لنستعدي العالم المسيحي كله ضدنا، ولأننا حسب المثل الشعبي المصري (لم يقدر على الحمار فانهار ضربا على البردعة). ودون أن نتساءل عن موقفنا لو أراد المسيحيون العرب (من باب التجاوز والمحبة كما قال الخطاب اللئيم في أزمة كنيسة المهد) أن يقيموا كنيسة في مكة أو في المدينة؟ اللطيف في الأمر وغير المدهش أبدا أن إسرائيل أعطت للمسلمين حق الترخيص ببناء المسجد بينما تحرمهم من تراخيص بناء بيوت للمأوى (؟).
أما بقية العالم، فهو إن اعتاش على الدين كل ساعات حياته مثلنا وتراجع عن الحداثة، فإنه سيعطيها كاملة خالصة ليهود على أي مساحة بين نهر مصر وبين نهر الفرات، وبضمير مرتاح؛ لأن معظم العالم القوي الآن يدين بالمسيحية التي تدين أيضا بالعهد القديم مقدس يهود، ناهيك عن انتشار المسيحية الصهيونية وتوغلها الآن في الغرب المسيحي . (8) وخطاب مولانا أيضا
ليس بيني وبين شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي إلا كل المودة والاحترام بل والإجلال من جانبي لشخصه ولمواقفه من قضايا الوطن، بحسبانه بين أكثر من جلس في هذا المكان الرفيع استنارة. لكن ذلك كله لا يمنعني من نقد خطابه عندما لا يكون في إطار المصالح التي نرجوها، وهو خطاب خرج فيه مولانا عما يعلم إلى ما لا يعلم.
كتب الإمام الأكبر مقالا مطولا في (أهرام 2 / 11 / 2000م) ليجيب عن السؤال الذي جعله عنوانا لمقالة «هل المسجد الأقصى تحته هيكل سليمان عليه السلام؟» والهدف منه كما قال فضيلته دحض «لأقوال لا أساس لها من الدين القويم ولا من العقل السليم ولا المنطق القويم».
أول الملاحظات أن خطاب مولانا لا يصلح لسوانا، وأن مسألة الدين القويم هذه سيخالفه فيها مليارات البشر من مختلف الملل والنحل؛ ومن ثم فإن بناء استنتاجات حول حقوقنا المبنية على مصادرها في الدين القويم من وجهة نظرنا، لن تقنع أحدا سوانا، ونحن مسلمون ومؤمنون سلفا.
هو ذات الخطاب الذي يقوم بتديين القضية، خطاب ذاتي يرى أنه يستند إلى الدين القويم بين أديان البشر، يملك الحقيقة الكاملة والنهائية والمطلقة، التي تفرض نفسها على جميع الناس بقدراتها الذاتية. وإن خالفونا حولها فإن علينا فرضها عليهم اتباعا لأوامر الدين القويم، حيث قال خاتم المرسلين
صلى الله عليه وسلم : «بعثت لأقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله ...» لكن سيصبح كلامنا هكذا بدون قوة تدعمه وتحققه مجرد كلام، وتقف حقيقتنا عارية من إمكانات القبول والتحقق.
ثم يقول فضيلته: إن الثابت في الحديث الشريف أن المسجد الحرام بمكة هو أول بيت وضع في الأرض، وأن الثاني هو الأقصى، وجاء بعده بأربعين عاما ... شكرا! ...
وماذا بعد؟
نتابع، نستعجل المنطق والنتائج القويمة، لنقرأ قوله: «وقد أجمع المحققون من أهل العلم على أن المؤسس والمنشئ للمسجد الأقصى، هو يعقوب عليه السلام ... وهو نبي بن نبي بن نبي ... وإذا كان إبراهيم عليه السلام هو الذي رفع قواعد البيت الحرام الذي بمكة، فإنه من المعقول أن يكون حفيده يعقوب هو الذي أسس وأنشأ بأمر ربه الأقصى، وأن تكون المدة الزمنية بين الجد وهو إبراهيم عليه السلام وبين حفيده عليه السلام هي أربعين سنة ... ويعقوب عليه السلام أطلق عليه القرآن الكريم أيضا اسم إسرائيل.»
هنا يقف العقل دهشا يتساءل لأنه بالأساس «عقل» لا يهضم أي شيء بمجرد الإلقام، ولا يتزحزح يريد مقصد مولانا ب «المحققين من أهل العلم الذين أجمعوا» أولا، حتى نهتم بما أجمعوا عليه ثانيا. خاصة وهو خطاب يتناسل أو يتناسخ ذاتيا ومن داخله فقط؛ فالمقدمة حديث للنبي والاستنتاجات المعقولة المبنية عليه مصادرات إسلامية بدورها.
إذا كان يقصد ب «المحققين من أهل العلم الذين أجمعوا» المؤلفين الإسلاميين أو حتى رواة السير والأخبار، فلا بأس. لكن ذلك لن يغير شيئا في أي شيء؛ فهو لا يقنع سوانا كما اتفقنا، ونحن بحمد الله ونعمته مسلمون، بل إن الإسلام هو أشد الأمور وضوحا في بلادنا، من مناهج التعليم إلى الإعلام، إلى ألوف المآذن إلى الميكرفونات المتجاورة، إلى سلوك الناس اليومي ، إلى مصطلحاتهم وتعبيراتهم، إلى مواقفهم، إلى فهمهم للأشياء وللدنيا ... إلى آخره.
إذن هل قصد بهم أهل التوراة مثلا؟ إنهم أبدا لا يقرون مولانا على ما قال، بل يؤكد مقدسهم أن في فلسطين كان هناك عدد من بيوت الآلهة المعبودة من بيت إيل إلى بيت لحم إلى بيت يراه إلى بيت شماس إلى بيت البعل، حتى جاء الغزو الإسرائيلي لها، وأسس أحد ملوكهم «سليمان» معبد الرب اليهودي «يهوه» الذي يعرف في التاريخ باسم الهيكل. وأنهم قبل ذلك لم يكن لهم بيوت مقدسة هناك وإلا أصروا على تأكيدها إمعانا في إثبات حقهم في عمق التاريخ، «لكن مولانا يجد لهم هذا العمق نيابة عنهم زمن يعقوب قبل سليمان بست قرون». المهم حسب التوراة (العهد القديم) كان الهيكل أول معبد أو هيكل أو مسجد يسجدون فيه في فلسطين، بعد أن تحولوا عن البداوة إلى الاستقرار في فلسطين. وخلال تجوالهم الطويل كانوا يحملون الرب معهم في تابوت يرقد فيه، وعندما استقروا بنوا الهيكل ووضعوا فيه تابوتهم. وقد وردت إشارة للتابوت في القرآن الكريم في قوله تعالى:
إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم (البقرة: 248).
والمعلوم في أسفار الكتاب المقدس أن أول ملك لهم في فلسطين هو شاءول، وتبعه داود المؤسس للدولة ثم ولده سليمان الذي أصبح أشهر ملوك الروايات المقدسة.
والكتاب المقدس يعترف صراحة أنهم قد أخذوا أرض فلسطين اغتصابا باحتلال استيطاني، ولديهم مبررهم العقائدي، فالأمر ببساطة «أن الرب قال لهم خذوها» ... فأخذوها. وما دام قد منحها لهم فقد سمح لهم بالقتل المحاذر حسب الشريعة بما تكتظ به التوراة من أخبار حروبهم الطويلة مع أصحاب الأرض الكنعانيين في الداخل والفلسطينيين على الساحل. وهو منطق أول من يجب عليهم تفهمه هم المسلمون؛ لأنهم أيضا قد فتحوا البلاد بأمر الله ليخرجوها من الظلمات إلى النور ويضموها إلى تبعيتهم أيضا وأخذوها واستوطنوها وأسلموها ... إلخ.
وهنا لا بد أن يطفر السؤال المستغرب يطرح نفسه ببراءة: هل علينا مثلا أن نرتاح لقيام مملكة إسرائيلية على أرض مغتصبة إذا آمنا أن داود وسليمان كانوا مسلمين؟ ولا نرتاح لهذا الاغتصاب إذا كانوا إسرائيليين؟ أو يمكن التساؤل بذات المعنى لكن على الوجه الآخر للعملة: هل لو كان الذين ارتكبوا المجازر في فلسطين مسلمين (أتراكا أو إيرانيين أو أفخازيين أو أفغانا مثلا) كان من الممكن ألا تهتز ضمائرنا لمجازرهم؟ أو هل كان الحزن العربي سيهبط إلى مستويات أقل مما هي عليه الآن؟
لقد كان موسى قائدا لليهود في الخروج إلى فلسطين، وأكمل يشوع ما بدأه موسى، حتى تمكنوا من إقامة مملكة يهودية حكمها سليمان، واستخدم اليهود إبانها - حسب التوراة - وسائل قتل أشد بشاعة مما نراه اليوم، المجازر التي تحتاج للقلب البارد والقاسي؛ فاليوم هناك منطق حقوقي عالمي يضمن بعض الحماية الإنسانية، وليس الإبادة كما تقرؤها من أوامر الرب بالكتاب المقدس في نصوص تحتشد بها بالذات أسفار الخروج والتثنية ويشوع، ولنا بهذا الشأن دراسات مطولة منشورة.
وقبل دخولهم مصر وخروجهم منها، كانوا قد جاءوا فلسطين أغرابا على أهلها، وهو ما تردده التوراة ببساطة. الإيمان بأن دينهم قويم أيضا وما أمر به الرب هو الحق كله، لقد منحهم أرض فلسطين وهم أغراب عليها. وهو ما تردده التوراة في أكثر من موضع نضرب منها مثلا واحدا فقط بين مئات الإشارات، وهو قول الرب لخليله إبراهيم: «وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك وأعطي لك ولنسلك من بعدك «أرض غربتك أرض كنعان» ملكا أبديا وأكون إلههم» (سفر التكوين، 7: 7-8).
هل يرى أصحاب خطاب الحق الديني أين يكمن لهم فخ التاريخ الديني؟
إن مشكلتنا لم تعد أبناء فلسطين المشردين في العالم أو المحاصرين بالقتل والتدمير، لأننا رحنا ندافع عن مسجد له رب يحميه، ولم تحركنا الأرض فهي محتلة منذ 67 وقبلها منذ 48، أما انتفاضة التحرير فقد حولناها إلى انتفاضة الأقصى. المسجد أصبح هو الموضوع والشاغل؛ لذلك أصبح همنا أن نثبت للعالم أن الهيكل مجرد خرافة كما أراد الأستاذ صلاح حافظ، أو أن نثبت أن بانيه ليس سليمان إنما بانيه هو يعقوب ... ما الفرق يا سادة بين يعقوب وسليمان؟ أليس يعقوب هو من حمل اسم إسرائيل وأصبح أبناؤه من بعده بني إسرائيل الموعودين بأرض غربتهم في القصص التوراتي معضدا بالقصص الإسلامي؟ ثم نفهم بعد ذلك أننا أصحاب الحق الديني؟ ... كيف؟! سيصبح حقنا محصورا في ليلة واحدة من التاريخ هي ليلة الإسراء والمعراج التي لا يؤمن بها سوانا، بل ربما لحظة في تلك الليلة حيث عاد الرسول عليه الصلاة والسلام منها ليجد فراشه بعد دافئا.
هل ترون أيها الناس إلى أين تذهبون بخطاب الحق الديني؟ هل تدرون أنه مهما قلتم عمن أقام المكان المقدس إن كان آدم أو يعقوب أو سليمان، فإن من أقامه لو سألت أي رجل في شوارع الدنيا أو طفل لأجابك بأن بانيه هو سليمان.
وتقول كتبنا الإخبارية إن الخليفة عمر بن الخطاب عند فتح فلسطين رفض أن يصلي في كنيسة القيامة حتى لا يحولها المسلمون من بعده إلى جامع، لكنه صلى عمدا فوق الصخرة وأمر ببناء مسجد عليها أتمه عبد الملك بن مروان من بعده، وكان الخليفة عمر قد منع أي يهودي من دخول المدينة ... وهذا هو بالتحديد ما يأخذه الباحثون الإسرائيليون من تراثنا ويعرضونه على العالمين.
يا سادة يا كرام، إن حائط المبكى كان - أو حائط البراق إن شئتم أو الأقصى أو بقايا الهيكل كما تقول يهود - وسواء كان هيكل سليمان خيالا أو حقيقة موجودة في التوراة وكتبنا التراثية جميعا، وسواء كان هذا الخيال أو الحقيقة تحت المسجد الأقصى أو تحت مسجد القبة أو في موضع خال بساحة الحرم أو خارج الأسوار، فهو ما دام يقع في فلسطين فهو أرض فلسطينية، كما أن مكة أرض سعودية، وكما أن قم أرض إيرانية، وكما أن النجف أرض عراقية. هي أرض فلسطينية تم احتلالها بالقوة المسلحة قوة واقتدارا، ولا حق ليهود فيها إلا قلبيا، كما لا حق لمسلم غير فلسطيني فيها إلا قلبيا، واختصار القضية جميعا في القدس وتحويلها إلى فضاء الدين ضياع لكل الحقوق؛ لأن حقوق اليهود بمنطق الدين أوضح في نظر العالم المسيحي من أي حقوق ندعيها، والأطرف أنها أكثر وضوحا في خطابنا الديني وفي مأثورنا الإسلامي بالجملة.
إذن ... ولا زلنا نتساءل ...
هل قصد فضيلته ب «المحققين من أهل العلم الذين أجمعوا» مدارس نقد الكتاب المقدس المنتشرة في العالم، بحسبان محققيها من أهل العلم، هم أشهر وأعلم من سلك هذا الدرب؟ وأصبح لها كراسي أستاذية في جامعات العالم المتقدم، دون غضاضة، ولا محاكمات تكفير وخروج عن المعلوم من الدين بالضرورة، وليس عندهم مجمع كمجمعنا الأزهري ليصادر الفكر ويجرم الرأي ويحرم الكلمة، رغم أن هذه المدارس تستخدم المنهج العلمي بمنتهى الصرامة مع الكتاب المقدس دون أن تجامل أو تحذر. وقد أحال معظمها حكايا الكتاب المقدس إلى فضاء الخرافة.
هنا لن نجد بالطبع مقصد مولانا ب «المحققين من أهل العلم الذين أجمعوا»؛ لأنهم إن أجمعوا أو لم يجمعوا فهو فكر مستنكر من أصحاب خطاب الحق الديني المسلمين قبل اليهود، بل إن بين هؤلاء الأساتذة المحققين نقاد المقدس في الجامعات العالمية عددا لا يستهان به من اليهود أنفسهم؛ فقد تحرك التاريخ بالإنسان في العالم المتقدم في الشمال، وتركنا في زمن غير زمانهم رغم أننا نعيش على كوكب واحد. وبينما نردد مقولات العزلة والخوف على الهوية من الغزو الثقافي، تحولنا إلى «جيتو» مغلق يتحدث إلى نفسه، وبينما انفتح الجيتو اليهودي على العلم والحداثة والعالم، وبينما نحكم نحن الأقفال على الأدمغة خشية الفيروسات القادمة من البلاد المتقدمة، تحركت الدنيا إلى فضاء معرفي ومنهجي جعل الهوة بين زماننا وزمانهم سحيقة.
إذن فهل قصد مولانا المؤرخين بالمعنى العلمي والدقيق للكلمة؟ لكن في علم التاريخ كعلم لن نجد مبتغانا بالمرة؛ لأنه حسب قواعده الدقيقة وما بيده من معرفة هائلة أكثرها مدته به منطقة الشرق الأوسط، لن نجد لديه وثيقة تاريخية واحدة ولا مدونا على حجر أو على خشب، ولا في حفائره الأركيولوجية (رغم الهوس الحفري الأركيولوجي الإسرائيلي بهذا الشأن)، لا شيء عن قصة يعقوب، ولا داود ولا سليمان ولا أبيهم الأبعد إبراهيم. ورغم الإسهاب الشديد الذي لحق بملك سليمان وحديث مأثورنا الإسلامي عن خضوع الأرض كلها لحكمه من الطيور إلى الوحوش إلى الإنس والجن والعفاريت والحشرات، فإن التاريخ المدون بوثائقه لا يعرف عن هذه الأمور شيئا البتة بينما تجد لأجدادنا الملعونين بالمقدس بدل الصرح الشاهد آلافا، هذه لغة العلم لكنك لو صرحت بها في مواجهة الإسرائيليين «سيواجهك المسلمون نيابة عنهم» وتصبح من المارقين، وسيحاكمك الأزاهرة كما سبق وحاكموا صاحب هذا القلم أمام محاكم الدولة؛ لأنه قام يرد على الصهاينة بمنطق العلم وحده.
أترون إلى أين وصل الالتباس؟ يبدو أننا بداية نحتاج إلى فض اشتباك بين المقدسين اليهودي والإسلامي، وحتى نفعل ذلك، أو لا نفعل، فإن علماء إسرائيل يدركون حقيقة علم التاريخ وأنهم لا يملكون دليلا ماديا واحدا على مزاعمهم؛ لذلك يسحبوننا إلى المنطقة التي يكسبون فيها بالنقاط وبالقاضية، منطقة الحقوق الدينية والتاريخية التي هي أوضح عند العالم من حقوقنا. وحتى يتم إفراغ القضية من محتواها الحقيقي؛ الناس، والإنسان، صاحب الأرض المطرود من بيته وأرضه وناسه، ينفخ يديه في هذا البرد القارص، برد انصراف الدفء الإنساني من حوله، حتى ممن يتصورهم أهله وأصحاب قضيته، إلى الدفاع عما يقولون إنه من أملاك الله، والله غالب.
مصادر استشهادات البحث
الكتاب المقدس.
القرآن الكريم. (1)
سوسة (د. أحمد): «العرب واليهود في التاريخ»، دار العربي للإعلان والطباعة والنشر، دمشق، د.ت. (2)
شلبي (د. أحمد): «مقارنة الأديان، اليهودية»، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1983م. (3)
إرمان (أدولف): «ديانة مصر القديمة»، ترجمة محمد عبد المنعم أبو بكر، ود. محمد أنور شكري، نشر مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، د.ت. (4)
اسبينوزا: «رسالة في اللاهوت والسياسة»، ترجمة د. حسن حنفي، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1981م. (5)
ذكري (أنطون): «مفتاح اللغة المصرية القديمة وأنواع وأهم إشاراته»، د.ت. (6)
فريحة (د. أنيس): «دراسات في التاريخ»، دار النهار، بيروت، 1980م. (7)
إيمار وإبوايه: «الشرق واليونان القديم»، ترجمة فريد داغر، وفؤاد أبو ريحان، دار عويدات، بيروت، د.ت. (8)
باقر (طه): «الوجيز في تاريخ حضارة الرافدين»، دار الشئون الثقافية العامة بغداد، 1986م. (9)
برستد (جيمس هنري): «كتاب تاريخ مصر منذ أقدم العصور إلى الفتح الفارسي»، ترجمة د. حسن كمال ، وزارة المعارف المصرية، ط1، القاهرة، 1929م. (10)
بريتشارد (جيمس): «نصوص الشرق الأدنى القديم المتعلقة بالعهد القديم»، ترجمة وتعليق د. عبد الحميد زايد، هيئة الآثار المصرية، القديمة، القاهرة، 1987م. (11)
جاردنر (آلن هنري): «مصر الفراعنة»، ترجمة د. نجيب ميخائيل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط2، 1987م. (12)
حتي (فيليب): «خمسة آلاف سنة من تاريخ الشرق الأدنى»، الدار المتحدة، القاهرة، 1990م. (13)
روبنسون (تيودور): «إسرائيل في ضوء التاريخ»، ترجمة عبد الحميد يونس، المجلد الثاني من تاريخ العالم، النهضة المصرية، القاهرة، د.ت. (14)
ريجسكي (م): «أنبياء التوراة والنبوءات التوراتية»، ترجمة آحو يوسف، دار الينابيع، دمشق، 1993م. (15)
السواح (فراس): «الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم»، دار علاء الدين، دمشق، ط2، 1983م. (16)
الشهرستاني: «الملل والنحل»، تحقيق محمد سيد كيلاني، نشر مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1961م. (17)
صالح (د. عبد العزيز): «الشرق الأدنى القديم»، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، القاهرة، 1972م. (18)
طعيمة (د. صابر): «التاريخ اليهودي العام»، دار الجيل، بيروت، ط2، 1983م. (19)
علي (د . جواد): «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، المجمع العلمي العراقي، بغداد، د.ت. (20)
علي (د. فؤاد حسنين): «التوراة الهيروغليفية»، دار الكاتب العربي، القاهرة، د.ت. (21)
عوض (د. لويس): «مقدمة في فقه اللغة العربية»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1980م. (22)
الفرح (محمد حسين): «الحضارات العربية الكبرى في العصور القديمة»، مجلة المنابر، بيروت، الأعداد من 32: 40. (23)
فليكوفسكي (إيمانويل): «عصور في فوضى»، ترجمة رفعت السيد، دار سينا، الطبعة الأولى، القاهرة. (24)
القمني (سيد محمود): «الأسطورة والتراث»، دار سينا، القاهرة، 1992م. (25)
القمني (سيد محمود): «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول»، دار سينا، القاهرة، 1990م. (26)
القمني (سيد محمود): «أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة»، دار الفكر، القاهرة، 1988م. (27)
لانجر (وليم)، مع سبعة عشر عالما: «موسوعة تاريخ العالم»، ترجمة د. مصطفى زيادة وسبعة مترجمين، دار النهضة المصرية، د.ت. (28)
ماكلستر (راس): «الأقوام الجدد»، ترجمة عبد الحميد يونس، مجلدات تاريخ العالم، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د.ت، المجلد الثاني. (29)
موسكاتي (سبتينو): «الحضارات السامية القديمة»، ترجمة، د. السيد يعقوب بكر، دار الكاتب العربي للطباعة، القاهرة، 1957م. (30)
موسى (محمد العزب): «أول ثورة على الإقطاع»، دار الهلال، القاهرة، 1966م. (31)
هومل (فرتز): «التاريخ العام لبلاد العرب الجنوبية»، ضمن كتاب التاريخ العربي القديم بإشراف «نيلسن»، ترجمة د. فؤاد حسنين علي، د.ت. (32)
ولسن (جون): ضمن كتاب «ما قبل الفلسفة»، بمشاركة آخرين، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، مكتبة دار الحياة، بغداد، د.ت.
Shafi da ba'a sani ba