والآن، ترى هل حقق الخطاب الصهيوني القديم أغراضه، بفعل أصحاب الخطاب الصهيوني الجديد؟ سؤال لا يجيب عليه إلا الزعماء العرب المؤتمرون في مدريد ... يحلمون بنبوءة «إشعيا» بالعصر السعيد. (2) المصريون والإسرائيليون في التوراة وفي التاريخ
2
من استهلاك الوقت أن نتحدث عن مصر في التاريخ ، والكلام بشأنها من نوافل القول؛ فشأنها معلوم وأنشر من أي حديث حتى أصبح من فساد الرأي أن يؤرخ باحث لأي علم من العلوم دون الرجوع إلى أصول تلك العلوم في مصر القديمة، هذا في مجال العلوم، وفي ميدان التاريخ كعلم. أما في ميدان الاعتقاد، وفي الصحائف المقدسة، فلها شأن عظيم أيضا، لكن بوصفها ذلك البلد الضال أهله، الذي تأله حاكمه، فكفر، فوصم مع شعبه بأنهم من المجرمين؛ لذلك استحقوا أن يكونوا من المغرقين، بقرار من «يهوه» رب التوراة، وبضربة من عصا إعجازية دمرت الزرع والضرع في وادي النيل قبل أن ينطبق البحر المفلوق على من بقي منهم، أليسوا مجرمين؟
أما إسرائيل فهي عمدة المقدس وعقدته الجامعة، هي المحور منه والقلب الخافق؛ فهي شعب مقدس فضله الله على العالمين. سلسلة من النجباء الأنبياء المطهرين فالأب نبي ينجب نبيا، في سلسال توارث النبوة كما توارث أرض فلسطين، خير خلف عن خير سلف ، فكانوا في المقدسات هم المقدمين على غيرهم من الأمم الضالة، جدهم البعيد هو إبراهيم الخليل، وآباؤهم إسحاق ويعقوب الملقب بإسرائيل، وبنوه بنو إسرائيل الأسباط المكرمون، ومنهم يوسف الصبي الفاتك الجمال الذي توزر على خزانة المصريين، وعلم خبراء الزراعة ومهندسيها في مصر، كيف يواجهون قحط السنين، ومن بعده جاء «موسى» أعظم أنبياء إسرائيل. ويغص التاريخ المقدس بعد ذلك بسيرة أولئك الهداة المطهرين فهذا «شاءول» يقيم لهم دولة في فلسطين ليترك تأسيسها وتعميدها لداود الملك وولده سليمان، بينما أصبح ذلك الأخير سيدا على مملكة عظمى تغنت بها كتب الدين وكتب الأساطير، فتسلط على الوحوش والهوام والجن والعفاريت. وأصبحت إسرائيل في زمانه أغنى الدول، حتى كانت الفضة في الشوارع مثل التراب (بتعبير التوراة)، أما في المأثور الإسلامي فكان أحد أربعة ملوك تملكوا على العالم الأرضي من أقصاه إلى أقصاه.
هذا شأن إسرائيل في مأثورات الدين، لكن الغريب والمشكل الحقيقي أمام هذا الرتل العقائدي والهائل، أن التاريخ كعلم، يعلم يقينا تاريخ مصر بحفائره وعلمائه وأركيولوجيته بأعلامها الآثارية الشاهدة، كما انتهى ترتيب أوضاعها الزمني عبر أسرات ودول، من مينا موحد القطرين مرورا ببناة الأهرام إلى التحامسة ثم المناتحة فالرعامسة حتى الشناشقة والطهارقة والبطالمة، فأرض مصر تفيض بالحفائر، غنية بالأحداث. لكن ذلك العلم نفسه، علم الحفائر والآثار، علم التاريخ، رغم الهوس الحفائري في إسرائيل الآن، يجد الأرض ضنينة بأي معلومة ذات شأن؛ فالتاريخ كعلم لا يعرف عظيما أقام لإسرائيل مملكة باسم «شاءول»، ولا يعلم بشأن محارب ذي بأس أسس لإسرائيل قوميتها باسم «داود»، ولم ترد في وثائقه بالمرة أية إشارة لملك حكيم حاز شهرة فلكية باسم «سليمان»، كما لم يسمع أبدا ولم يسجل في مدونات مصر ولا في مدونات الدول المجاورة، خبر جيش الدولة العظمى وهو يغرق في بحر تفلقه عصا، وإطلاقا لا يدرى شيئا عن صبي جميل فتن نساء مصر وأذهلهن بجماله فقطعن الأيادي وهن في الهيام به ساهمات. كلا لا يعلم التاريخ من كل ذلك شيئا ولو يسيرا، وكل ما يعلمه عن إسرائيل، حكايات متناثرة عن شوارد قبائل من شذاذ الآفاق باسم «الخابير، والعابيرو»، وإيماءة هنا ولفتة هناك تتحدث بإهمال عن جماعة باسم إسرائيل يحتمل، ويظن، ومن الجائز، وقد تكون: هي مملكة إسرائيل لكن الأسماء المعظمة المبجلة المفخمة في التاريخ الديني، فلا شيء منها البتة وقطعا في التاريخ كعلم. (2-1) الإسرائيليون يدخلون مصر «تقول التوراة - ولا يقول التاريخ هنا شيئا - إن أول احتكاك للبدو العبرانيين بمصر والمصريين كان زمن الأب إبراهيم، الذي هبط مصر مع زوجته سارة هربا من القحط الذي حل بأرض كنعان، فحصل هناك على فضل عظيم وخير عميم، ثم تحدثنا التوراة - ولا يحدثنا التاريخ - عن قصة الصبي الأخاذ في جماله «يوسف» ابن إسرائيل (يعقوب) وقصة بيعه في مصر، وكيف أثبت مهارة إسرائيلية أوصلته إلى كرسي الوزارة، ليصبح الرجل الثاني في مصر بعد الفرعون، وكيف أرسل يوسف يستدعي أهله لينعموا بخير مصر كملجأ للإسرائيليين كلما قحطت بهم الحياة ولحقت بهم المجاعات.»
لكن التوراة لا تخبرنا بالسبب الذي أدى إلى حنق الفرعون التالي على العرش على يوسف وأهله، إلى حد تسخيره ضيوف مصر في الأعمال الشاقة، عقابا لهم على أمر مجهول، ونحن نعلم أن «ماعت/العدالة/القانون الكوني» كانت تاج القانون المصري الدائم، ومن هنا يظن أغلب الباحثين، أن الإسرائيليين لعبوا دورا مع الهكسوس الغزاة ضد المصريين، وتعاونوا مع أعداء البلاد فحقت عليهم النقمة، وتم أسرهم مع فلول الهكسوس الأسيرة بمصر.
وبدورنا نذهب مع هذا الظن، ونحتمل دخول يوسف وأهله مصر في عهد «أسيس» آخر الحكام الهكسوس على مصر، وهو ما يلتقي مع الاسم «عزيز» الذي جاء في القرآن الكريم، خاصة أن الآيات كانت تتحدث دوما عن حاكم مصر باسم الفرعون، عدا زمن يوسف، زمن دخول الإسرائيليين إلى مصر. ناهيك عما سجلته التوراة عن سياسة يوسف في مصر أثناء السنين القحط السبع؛ حيث احتكر «الميرة» جميعا في خزائنه وباعها للمصريين الذي يموتون جوعا مقابل الاستيلاء على أرضهم ثم مواشيهم ثم أنفسهم هم ليتحولوا إلى عبيد، لصالح الحاكم الهكسوسي. أما مشاعر المصريين تجاه هؤلاء الإسرائيليين فقد تبدت بوضوح في اعتبارهم الإسرائيليين نجسا يجب اجتنابه، وهو ما ورد جميعه في نصوص توراتية من قبيل: «اشترى يوسف كل أرض مصر لفرعون؛ إذ باع المصريون كل واحد حقله؛ لأن الجوع اشتد عليهم، فصارت الأرض لفرعون، أما الشعب فنقلهم إلى المدن من أقصى حد مصر إلى أقصاه ... فقال يوسف للشعب إني اشتريتكم اليوم وأرضكم لفرعون» (سفر التكوين، 47)، وفي نفس السفر كان يوسف يقول لإخوته «جواسيس أنتم، لتروا عورة الأرض جئتم» (تكوين، 42)، وكان ينصحهم دوما بالابتعاد عن المصريين «لأن كل راعي غنم رجس عند المصريين» (سفر التكوين، 46). (2-2) الإسرائيليون يخرجون من مصر
هذه حكاية التوراة عن الدخول إلى مصر، فماذا عن الخروج؟ تقول التوراة: إن موسى قد ولد في مصر إبان أزمة الإسرائيليين بمصر، والقصة معروفة؛ فقد ربي في القصر الملكي، وتبنته ابنة الفرعون وأكرمت مثواه، لكن الصبي يكبر فيقتل مصريا تعصبا لبني جلدته، فيطلبه القصاص وتطارده العدالة فيهرب إلى مديان بسيناء، حيث يلتقي هناك برب سينائي يدعى «يهوه» على هيئة نار في عليقة، ويحمل منه أوامر صريحة لبني إسرائيل، ليخرجوا من مصر تحت قيادة موسى إلى فلسطين. وعاد موسى إلى مصر بتلك الأوامر، وبالعصا الثعبان، مع وعد إلهي يقول: «الآن تنظر ما أنا فاعله بفرعون؛ فإنه بيد قوية يطلقهم، وبيد قوية يطردهم من أرضه ... أنا أعطيهم أرض كنعان أرض غربتهم» (سفر الخروج، 6).
وتتالى الأحداث فيضرب موسى بعصاته النيل ليتحول دما، وتصير مصر خرابا، ثم يضرب بعصاته ضربات متتالية، فتمتلئ مصر بالضفادع والبعوض والذباب والطاعون والجراد مع برد وظلام، ثم يهبط الرب يهوه بنفسه لتحقيق الضربة الأخيرة بقتل أطفال المصريين وذلك في النص «وقال موسى: هكذا يقول الرب: إني نحو منتصف الليل، أخرج في وسط مصر، فيموت كل بكر في أرض مصر، من بكر الفرعون الجالس على كرسيه، إلى بكر الجارية التي خلف الرحى، وكل بكر بهيمة، ويكون صراخ عظيم في كل أرض مصر» (سفر الخروج، 11).
وفي تلك الليلة «كان صراخ عظيم في مصر؛ لأنه لم يكن بيت ليس فيه ميت » (خروج، 12). ولم ينس الإسرائيليون عادتهم في الخروج من مصر بالخير الوفير، «فقد فعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى، طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهبا وثيابا، وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم فسلبوا المصريين، فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس» (خروج، 12).
Shafi da ba'a sani ba