ويزعم الطبيب الترجمان أنه بذل جهودا مضنية لإيقاف نشر ترجمته لكتاب فليكوفسكي باسمنا، وتمكن من ذلك فعلا، لكن بعد أن كنا قد نشرنا الفصل الأول كاملا، ولأني رجل لا أرتدع عن الغي، فقد تماديت وأدرجت مقالات «مصر الفتاة» بكتابي «إسرائيل: التوراة، التاريخ، التضليل»، وأضفت إليها بعض التوابل والمشهيات في عبارة هنا وجملة هناك، لمزيد من الضحك على ذقن القارئ والمترجم، إنها إذن فضيحة بكل معنى الكلمة، وظل الرجل صامتا يمضغ أوجاعه بصمت الكبراء والكاظمين الغيظ، حتى قرر أن يتكلم الأمس فقط، فأي تسامح؟ وأية مروءة ؟ وأي ترقع؟ لكن ماذا يفعل الرجل بنفسه وهو يسوق أكاذيبه، عندما تكتشف أنه لم يجهد نفسه في صياغة الكذب المرتب؛ حيث إن دراستنا التي أشار إلى نشرها ب «مصر الفتاة»، والتي نشرناها نحن تحت عنوان «الرد على الأضاليل في تنظيره بني إسرائيل»، وكانت ردا على الصهيوني فليكوفسكي قد نشرت خلال عام 1991م أي قبل أن يلقاني سيادته بعام كامل.
يبدو أن الموضوع سينتهي عند هذا الحد، ولم أف قارئي الوعد بالمتعة المنتظرة. وحتى لا تأخذ القارئ بنا ظنون عدم الوفاء، أجد من واجبي توسيع الحكاية حسب الأصول. ومن هنا أقدم للسيد الطبيب مثالا للأمانة لعله يحتذي به في مستقبل أيامه، فأقر هنا رغم انتهاء الأمر بهذا الشكل، أن الترجمة التي اعتمدناها في ردنا على كتاب فليكوفسكي الصهيوني «عصور في فوضى»، كانت بالفعل ترجمة صاحبنا الترجمان، وهذا درس آخر في جرأة الواثقين المطمئنين، أما كيف حدث ذلك؟ فهي حكاية أخرى. (1-2) زيارة الترجمان للصعيد
أكد الطبيب الترجمان أنه قد التقاني عام 1992م، لكن لأن للشرف رجاله، فإني أصحح له المعلومة لصالحه؛ حيث إنه قد تجشم مشقة زيارتي لأول مرة في بيتي بمدينة الواسطى في شتاء 1991م، كأي زائر من قرائنا الكرام. لكن زيارة الرجل كانت بغرض آخر؛ حيث جاء يطلب منا رعايته كمبتدئ هاو، ومساعدته على نشر مخطوطة من ترجمته أحضرها معه لأن المخطوطة تواجه عقبات شديدة في نشرها، كما طلب - إذا أعجبتني - أن أكتب لها تقديما.
ووعدت الرجل خيرا، وبدأت مطالعة ترجمته لكتاب فليكوفسكي «عصور في فوضى»، ولكن لأكتشف أني أمام شرك عظيم، وأن عدم تجرؤ دور النشر على نشره، له مسوغاته وحيثياته؛ حيث وجدتني بإزاء عمل هائل وشديد الخطورة هزني هزا، حتى لحق الهز بالثوابت العلمية، ووجدت أمامي فنا عاليا وعظيما بل ورائعا ومثيرا للإعجاب، في تزوير حقائق التاريخ والعقائد، لصالح الفكر الصهيوني، كما لاحظت أن العمل قد وقفت وراءه ودعمته جامعات عالمية، وأساتذة كبار في شتى صنوف المعرفة، وهنا كان لا بد أن يطفر السؤال قافزا: إذا كان قد حدث لي كل الانبهار - مع هول الصدمة - إزاء ذلك التكنيك الصهيوني العالي الجودة والامتياز، فماذا سيكون شأن قارئ عادي دون أن يتسلح برد على ذات المستوى من الأصولية العملية والاقتدار؟ بينما الكتاب يتألق تحت ستار براق من العقلانية والعلمية والصرامة الظاهرة، لينقض نهشا على تاريخ مصر وتاريخ العرب، ليؤسس لإسرائيل مكانها في التاريخ وفي العلم وفي العقول وفي القلوب. وكانت الدهشة أكثر عندما علمت أن أول طبعة للكتاب بالإنكليزية كانت عام 1952م، ومع ذلك لم نسمع في بلادنا ولو ردا واحدا على ذلك الكتاب، بل اكتشفت أن العكس هو ما قد حدث بالضبط؛ حيث استعان به كتاب عرب كمصدر في كتبهم لكن غفل من الإشارة لمصدرهم وهم كتاب مفترض أنهم مهمون أشرت إليهم في حينه.
هنا وجدت معركة حقيقية، وقررت فضح كل هذا الكم من التزييف التاريخي وتزوير الحقائق، لكن اللياقة الريفية اللعينة دعتني إلى عدم تجاوز الترجمان الطبيب، خاصة وأنه كان السبب في تعريفنا بذلك الكتاب الخطير، وعليه طلبت من السيد الترجمان الحضور إلى بيتي المتواضع، وأحطته علما بقراري الرد الفوري والسريع دون إبطاء على ذلك الزيف المخيف الذي تأخر الرد عليه طويلا.
وبالفعل حضر السيد الترجمان يركب سيارته المرسيدس الفاخرة، واستمع إلى جزء طويل من ردودي على فليكوفسكي، بينما وجهه يتلون ويتبدل، ثم انحدر فجأة إلى حالة عصبية دفاعا عن طروحات الكاتب الصهيوني، مما أشعرني أن وراء الأكمة ما وراءها؛ ومن ثم كان ردي الفوري هو أني سألجأ إلى ترجمة النصوص التي سأرد عليها من جانبي ومباشرة بالصحف، من النسخة الإنكليزية التي كان قد أحضرها لي لتدقيق ترجمته، وسافر الرجل ليعمل تفكيره في قراري الحاسم والقاطع، لكن لتختفي من على مكتبي النسخة الإنكليزية مع مغادرته (؟!) لا بأس ... يمكن الحصول عليها، لكن في ذات الليلة اتصل بي السيد الترجمان ليقدم لي اقتراحا يقول: ما المانع أن أستثمر ترجمته الموجودة لدي الآن ما دمت متعجلا؟ على أن أشير إليه كمترجم لنص فليكوفسكي بشكل واضح ومميز مع نغمة نفعية عالية الصراحة ، مفادها أن ذلك سيكون دعاية لترجمته تسمح بنشرها، وإزاء تلك النفعية الواضحة، تراجعت ظنوني في طبيعة علاقة الترجمان بمنظومة الكتاب، وقررنا العمل باقتراحه.
وقمت بالرد على تأسيسات فليكوفسكي التي أوردها بفصله الأول؛ حيث إن بقية الفصول كانت إعادة لتوزيع المعزوفة التأسيسية حسب نوتات أخرى، وقد قلت ذلك واضحا في مقالي الأول بمصر الفتاة وتم نشرها، وأنجزت ذلك الرد في عشر مقالات سلمتها كاملة للأستاذ مصطفى بكري رئيس تحرير مصر الفتاة آنذاك، ونشرت على التوالي كاملة دون توقف، هذا بينما يقول السيد الترجمان إن ما نشرناه كان ترجمته هو، وإننا كنا نزمع الاستمرار بنشر الكتاب كاملا لولا تدخله لإيقاف نشر بقية الفصول، ولعل الأستاذ مصطفى بكري يقرأ معنا الآن ليدلي بشهادته حول هذه الجزئية؛ أي إن السيد الترجمان لم يتدخل ويوقف نشر بقية ترجمته المسروقة كما زعم؛ حيث لم يتسلم الأستاذ بكري سوى تلك الحلقات العشر فقط وقد نشرت كاملة. (1-3) حقوق الترجمان
وعملا بالأصول العلمية، واتباعا لشروط الأمانة البحثية، قمنا بتصدير الحلقة الأولى بالبنط العريض برأس المقال، بإشارة واضحة إلى أن العمل الذي سنرد عليه هو من ترجمة الطبيب رفعت السيد، وعدنا إلى تكرار الإشارة في الحلقة الثالثة نظرا لورود اقتباسات لنصوص كثيرة من تلك الترجمة فيها، وفي ختام المقال العاشر والأخير طلبت من الأستاذ مصطفى بكري تليفونيا أن يكتب بنفسه شكرا وتقديرا لتلك الترجمة، وقد جاء نص ذلك التنويه في مربع بلون متميز لمزيد من الإيضاح، وكان نصه: «يتقدم د. سيد القمني بالشكر إلى الزميل د. رفعت السيد الذي ترجم كتاب عصور في فوضى، وبذل فيه من الجهد والعرق ما يستحق التقدير.» «نص المنشور بصحيفة مصر الفتاة بتاريخ 24 / 6 / 1991م، والذي يؤكد كذب وافتراء السيد الترجمان وقد تم تصويره من الصحيفة مباشرة.» «نص اتهامات المترجم رفعت السيد في مقدمته لترجمة كتاب «عصور في فوضى» مأخوذ بالتصوير من الكتاب المذكور.»
وعندما قررنا توسعة الرد على تلك المدرسة الصهيونية، أصدرنا كتابنا «إسرائيل: التوراة، التاريخ، التضليل»، وضمنه تلك الردود، وعند ورود الجزء الخاص بعرض أسس نظرية فليكوفسكي التي سنرد عليها وذلك ص97، أحلنا إلى المترجم بحاشية مستقلة واضحة تقول: «إيمانويل فيلكوفسكي: عصور في فوضى، عن ترجمة مخطوطة قام بها الدكتور رفعت السيد.» وهو الترتيب العلمي لعناصر معلومات الكتاب حسب الأصول الأكاديمية، أما ملحوظة الأستاذ حازم هاشم، أن تلك الإشارة لم تتكرر بعد ذلك عند ورود نصوص نرد عليها بالكتاب، فهو الأمر الذي ما كان ممكنا؛ فالترجمة حتى ذلك الحين كانت مخطوطة بلا أي معلومات نشر نحيل إليها، فلا اسم ناشر، ولا طابع، ولا بلد، ولا صفحات أيضا، فكيف نحيل إلى صفحات غير منشورة؟ وللتغلب على تلك العقبة وضعنا تلك الإشارة الواضحة في مستهل عرض طروحات فليكوفسكي، مع إبراز الاقتباسات بعلامات التنصيص أحيانا، وبالهامش الأوسع أحيانا أخرى، وهي من الأدوات الأكاديمية المعلومة في الإحالة إلى المصدر.
ولو قمنا بجمع النصوص الفليكوفسكية التي أوردناها للرد عليها، في اتصال سردي متصل، لما تجاوزت العشرين صفحة، في كتاب يمهد لها، ويناقشها، ويرد عليها، في مائتي صفحة كاملة، جهدنا عليها زمنا حتى أنجزناها، وهي الردود التي أسماها السيد الترجمان «تعليقات وحواشي».
Shafi da ba'a sani ba