والمعتاد على قراءة ذلك الكتاب المقدس (؟!) لن يجد أية غرابة في تناقض الرب إذ يأمر بلعام بالذهاب مع عبيد بالاق وعندما يفعل يحمى غضب الرب عليه، ولن يعجب من حمار يتحدث مع صاحبه حديثا وديا فيعاتبه، وصاحبه يلومه؛ لأن القارئ لن يجد صفحة بالكتاب تخلو من تلك العجائب، لكن المهم أن «بلعام» بدلا من أن يلعن بني إسرائيل مدحهم وأعطاهم بركاته، وتنبأ بأن ملك إسرائيل سيتسامى على ملك «أجاج»، وأن آخرة عماليق إلى هلاك (انظر سفر العدد، 24: 30-7). وهنا يقفز «فليكوفسكي» ليمسك «أجاج» بكلتا يديه مناديا: فلتشهدوا أن هذا هو «أبوب الثاني» ملك الهكسوس، ولا بد بالتالي أن يكون الهكسوس هم العماليق، وأن هلاك العماليق قد جاء على يد بني إسرائيل، حسبما تنبأ بلعام، وذلك في الحملة التي قادها أول ملك لأول مملكة يتم فيها توحيد شراذم إسرائيل.
ولإثبات صدق «بلعام والحمار والرب»، يكتشف «فليكوفسكي» الدليل على ما حدث في مقبرة الضابط المصري «أحمس بن أبانا»، ولنقرأ كيف صاغ «فليكوفسكي» ذلك النقش الهام، الذي يقول فيه الضابط: «تابعت الملك سيرا على أقدامي حين ركب عجلته الحربية في طريقه إلى خارج الولاية، «وكانوا هم يحاصرون» مدينة حواريس.» والإشارة «كانوا هم» لا تعني سوى أن قوما آخرين هم أصحاب الفضل الحقيقي في التحرير، ««كانوا هم» يحاربون من جهة قناة المياه حواريس ... «استولوا هم» على حواريس ... «هم حاصروا» شاروهين.» الرجل بهذا الشكل محق تماما، لكن عندما نقرأ النص الأصلي سنكتشف إلى أي حد بلغت بالرجل الجرأة والقدرة على التزوير.
يقول الضابط «أحمس بن أبانا» في النص الصادق: «تبعت الملك على قدمي عندما كان يركب عجلته الحربية. إنه حاصر مدينة حواريس.» ولنقف هنا مع أمرين: الأول زمن الفعل في النص الصادق «حاصر» وزمنه في النص المزور «يحاصرون»، والذي ضبطه مع تزوير آخر، وبدلا من الصيغة المصرية للفعل الماضي «إنه حاصر» تحولت «إنه» في صيغة الإشارة المفخمة للغائب «الملك»» إلى «كانوا هم»، ولأن استكمال العبارة جميعا في صيغة الماضي ستصبح غير ملتئمة «كانوا هم حاصر مدينة حواريس»، فكان لا بد من تزوير الكلمتين لتتحول العبارة «من إنه حاصر» إلى «كانوا هم يحاصرون».
ولنقرأ النص كاملا: «تبعت الملك سيرا على قدمي عندما كان يركب عجلته الحربية. إنه حاصر مدينة حواريس ، وقد أظهرت شجاعة وأنا أحارب على قدمي أمام جلالته، ثم عينت في سفينة تسمى مشرق منف، وحاربت في قناة مياه بازدكو في حواريس، ثم حاربت ملتحما يدا بيد واستوليت على أحد الأسرى، ولما بلغ ذلك المسامع الملكية منحني الملك ذهب الشجاعة، ثم تجدد القتال مرة أخرى في ذلك المكان، وحاربت ثانية هناك يدا بيد، وحصلت على أسرى آخرين، ومنحني الملك ذهب الشجاعة ثانية.»
وأثناء انشغال الملك «أحمس» في محاربة الهكسوس، حدثت قلاقل في جنوبي البلاد، على بعد ما يزيد عن ألف كيلومتر عند «الكاب»، فسارع الملك مع بعض جنود، وبضمنهم الضابط «أحمس»، الذي يروي تلك الواقعة أيضا، ويقول: «لقد حاربت في مصر جنوبي مدينة الكاب، واستوليت على أسير حي حملته معي على صفحة الماء، ولما بلغ هذا الأمر المسامع الملكية، منحني «هو» الذهب بالمعيار المزدوج.» والسؤال الآن: هل كانت «هو» المفخمة هنا - بدورها - تشير إلى الإسرائيليين فهي تترجم حرفيا «منحوني»، وأنهم ذهبوا إلى أسوان على بعد ما يزيد عن خمسمائة كليومتر في العمق المصري مع «أحمس» الملك للقضاء على قلاقل منطقة النوبة، ومنحوا الضابط «أحمس» الأنواط الذهبية المزدوجة لشجاعته؟
وذات الأمر يكرره في قصة انسحاب الهكسوس من حواريس إلى شاروهين بفلسطين؛ حيث حاصرها الملك ثلاث سنوات حتى استسلمت ورحلوا عنها بموجب اتفاقية أبرمت بهذا الخصوص، «لقد حاصر شاروهين ثلاث سنوات ثم استولى عليها، وأسرت هناك رجلا وامرأتين.» لكن النص هنا لا يحمل اسم الإشارة المعتاد، بل الفعل «حاصر» فقط، مما يشير إلى الملك كقائد لجيش الحصار، وهي إشارة لمفرد متضمن داخل الفعل الماضي بالتقدير، ولا يشير إلى جيوش يمكن أن تكون عند «فليكوفسكي» جيوش أجداده الأفاضل، وهنا لا يجد فليكوفسكي ما يناسب النص بالتوراة، فيلجأ إلى أسطورة متداولة بين بني جلدته تحكي عن القوة البدنية الخارقة في أساطير منوعة عن «يوآب» قائد جند «داود» الذي خلف «شاول». وضمنها أسطورة تقول إنه اخترق بمفرده أسوار مدينة عماليق؛ وعليه فإن «فليكوفسكي» يعلم أن «يوآب» هو صاحب الفضل الحقيقي في هزيمة ألوف المحاربين العماليق بمفرده، وأنه وفق العادة الكريمة لبني إسرائيل، قد تركها هدية لأحمس المصري، رغم أنها تقع داخل أرض فلسطين ذاتها، وفي عمقها، وجزء من مملكة إسرائيل؟!
وتبقى هنا عدة مسائل، تثيرها استفسارات بدهية، إزاء كل ما قدم «فليكوفسكي»، لإثبات سقوط ستة قرون كاملة من التاريخ المصري وتاريخ العالم بالتالي، وإزاء ركونه الكامل إلى مصداقية مطلقة تتسم بها نصوص التوراة، وهو غرض آخر يتضمن في ثنايا الغرض الأول، من أجل تحقيق عدة أهداف «أهمها إيجاد موطئ قدم لبني إسرائيل في تاريخ المنطقة، وإثبات البراءة الكاملة والطهارة المطلقة لهذا الشعب من كل ما التبس بتاريخه من اتهامات، مع تأكيد العلاقات الحميمة بين بني إسرائيل والمصريين إزاء العرب منذ التاريخ القديم، والتي أهدرها المصريون من جانب واحد»، مع إعادة تأسيس تاريخ العالم يتزامن مع الأساس المتين بالكتاب الإسرائيلي المقدس، وبحيث يكون العمل في مجمله تنظيرا تاريخيا للقومية الصهيونية.
وهذه المسائل التي تنتج عن استفسارات، يمكن تحديدها في العناصر التالية:
إزاء المصداقية الكاملة التي يريد «فليكوفسكي» إثباتها لنصوص المقدس الإسرائيلي، والتي عمد وهو بسبيل ذلك الإثبات إلى الانتقاء من وثائق التاريخ القديم ما يراه أهلا لتحقيق غرضه، مع تزوير دلالات تلك الوثائق ، وإزاء حدث الخروج العظيم الذي انبنت عليه الكرامة القومية الإسرائيلية، وعليه أسس «فليكوفسكي» العلم كله. أقول: إذا كان الأمر كذلك فلا ريب أن الدهشة تأخذ المدقق مع استفسار بسيط تماما يتساءل: لماذا لم تذكر النصوص المقدسة بالكتاب المقدس اسم ذلك الفرعون الذي سام شعب الرب هذا العذاب التاريخي المتكرر دوما رغم كل تلك الدقة في سرد المعجزات، ورغم خطورة الحدث وأهميته واحتسابه حجر الأساس في التاريخ الإسرائيلي؟
ثم إذا كانت الكوارث التي أنزلها «يهوه» بالمصريين ليست من باب الأساطير، إنما تسجيل لوقائع حدثت بالفعل، وكان حدث انشقاق البحر هو قمة تلك الأحداث الكونية، وبعدها دخل بنو إسرائيل أرض الميعاد، فإن المدقق في التوراة سيجد أن هناك أحداثا أخرى تمت في فلسطين بعد الخروج، تدخل في عداد المبالغات الأسطورية وتهويلاتها، وغض «فليكوفسكي» الطرف عنها تماما؛ لأن الكارثة التي يتحدث عنها كانت قد انتهت، فهذا مثلا «يشوع بن نون» الذي خلف «موسى» على قيادة الإسرائيليين، وعند عبور نهر الأردن البعيد عن أحداث كارثة الخروج مكانا وزمانا، تحدث له نفس المعجزة «ولما ارتحل الشعب من خيامهم لكي يعبروا الأردن» والكهنة حاملو تابوت العهد (هو تابوت ينام فيه الرب ليحملوه معهم) أمام الشعب، فعند إتيان حاملي التابوت إلى الأردن، وانغماس أرجل الكهنة حاملي التابوت في ضفة المياه، والأردن ممتلئ إلى جميع شطوطه كل أيام الحصاد، وقفت المياه المنحدرة من فوق وقامت ندا واحدا بعيدا جدا ... والمنحدرة إلى بحر العربة بحر الملح انقطعت تماما، وعبر الشعب مقابل أريحا، فوقف الكهنة حاملو تابوت عهد الرب على اليابسة في وسط الأردن راسخين، وجميع إسرائيل عابرون على اليابسة، حتى انتهى جميع الشعب من عبور الأردن (سفر يشوع، 3: 14-17). وبعد ذلك بخمسة قرون يأتي الرب ليقابل النبي «إيليا التشبي»، «فقال أخرج وأقف على الجبل أمام الرب، وإذا بالرب عابر وريح عظيمة وشديدة قد «شقت الجبال وكسرت الصخور» أمام الرب» (ملوك أول، 19: 11)، فهل كانت تلك كارثة أخرى، وخاصة أن «إيليا» قام بمعجزة فلق الأردن هو بدوره «فأخذ إيليا رداءه ولفه وضرب الماء فانفلق إلى هنا وهناك فعبر كلاهما في اليابس» (ملوك الثاني، 2: 8). وبعدها ظل رداء «إيليا» بيد اليشع يقوم بالوظيفة التي كانت تقوم بها عصى «موسى»، «فأخذ رداء إيليا الذي سقط عنه وضرب الماء وقال أين هو الرب إله إيليا؟ ثم ضرب الماء أيضا فانفلق إلى هنا وهناك فعبر اليشع» (ملوك الثاني، 3: 14)، ومثل تلك الروايات تغص به كل صفحات الكتاب المقدس من بدئه إلى منتهاه.
Shafi da ba'a sani ba