تأليف
عباس محمود العقاد
عصر المرأة
وقفت على آراء في المرأة للفيلسوف الألماني آرثر شوبنهور، فأعجبني حذق الرجل وجرأته على المجاهرة بأقوال يعد قائلها في أوروبا خلوا من التهذيب وسلامة الذوق. وإن كنت أراه قد غلا في مذهبه إلى حد ربما كان الدافع به إليه غلو المدنية العصرية في نظرها إلى المرأة ورعايتها إياها.
فإنا لفي عصر خليق بأن ندعوه عصر المرأة، فإنك لا ترى إلا أثرا من آثارها حيث ذهبت، وقليلا ما تجد عقلا لا يشتغل بأمرها أو قلبا لا يشتغل بها، حتى لقد بلغ بهذا العصر الظريف أن يرغب الناس بصورها ورسومها في أوراق التبغ وعلب الثقاب وحلوى الأطفال وإعلانات المتاجر والسلع، وحتى لقد أصبحوا ينصبونها أحبولة يتصيدون بها الناس إلى حفلات البر ومجالس الإحسان.
ففيم ذلك كله يا ترى؟ ألعله بلغ من صلاح النفوس البشرية ورفقها بالضعفاء في عهدنا هذا ما نرى بعض علائمه في معاملة النساء المستضعفات، والتلطف مع هذا الجنس اللطيف؟ لو كان ذلك لقلنا قد تحقق الحكم الذي رآه الفلاسفة في دياجي القرون الأولى. ولكننا ننظر إلى سابق العهود، ونستعرضها واحدا واحدا فلا يعرض لنا عهد كان أقسى على الضعفاء وألين للأقوياء من هذا العهد الذي نحن فيه، والنساء أول من تصيبهن جرية الضعف، إذا هن لم يعرفن موضع القوة منهن بعرفانهن موضع الضعف من نفوس الرجال.
إنما نحن في عصر شهوة، لا شأن له في صلاح أو نخوة، والنفوس باقية على ما جبلت عليه وإن لم يكن قد تدلى بها الحرص والضنك. ولا شيء أصلحه رقي العالم - اللهم إلا الحديد والمعادن فإنها تصاغ اليوم بواخر وقواطر، ومدافع وقذائف أجود صنعا وأسطع وميضا من آلات الزمان القديم.
المدنية والفجور
ترسخ أساس الدولة وتتوطد دعائمها، فينصرف أهلها آمنين إلى طلب الثراء، ويتفننون في جلب المال من وجوه المكاسب، وإنفاقه في أسباب الرفاهة والملاذ؛ وهنا يأتي دور المرأة ويكثر الالتفات إليها، فتعلم مكانتها ويعرف لها القوم دالتها، وما إخال ظرفاء النوادي ومجانها في باريس قد بلغوا من الرقة والكياسة في مخاطبة النساء ما بلغه ظرفاء العباسيين والأندلسيين من أبناء أجلاف الصحراء وائدي البنات، وقد شمخ بنيانهم، وامتد سلطانهم. فكانوا يدعونها حينا ملكا كريما، وحينا كوكبا منيرا، وإذا أرادوا عشقها واشتهاء قربها قالوا عبادتها والفناء في حبها، وقد تلطف بعضهم فبسط صفحة خده وطاء لنعلها. وإنه لأغلظ شسعا وأخشن مسا من حذاء تلبسه غادات اليوم، يكاد يحسب لابسه حافيا!
ولا أنكر أن المدنية العصرية أرفق بالمرأة مع هذا من المدنيات الغابرة، ولكنه رفق جاء به تحدد الواجبات والحقوق الذي اقتضته طبيعة اجتماعنا، وروح التعميم التي لا بد منها في شرائعنا.
Shafi da ba'a sani ba