وأن يعلم أن الاستدلال هو: نظر القلب المطلوب به علم ما غاب عن الضرورة والحس، وأن الدليل هو: ما أمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى معرفة ما لا يعلم باضطراره، وهو على ثلاثة أضرب: عقلي: له تعلق بمدلوله، نحو دلالة الفعل على فاعله، وما يجب كونه عليه من صفاته. نحو حياته، وعلمه، وقدرته، وإرادته. وسمعي شرعي: دال من طريق النطق بعد المواضعة، ومن جهة معنى مستخرج من النطق، ولغوي: دال من جهة المواطأة والمواضعة على معاني الكلام، ودلالات الأسماء والصفات وسائر الألفاظ، وقد لحق بهذا الباب: دلالات الكتابات والرموز، والإشارات والعقود، الدالة على مقادير الأعداد ، وكل ما لا يدل إلا بالمواطأة والاتفاق. والدال هو ناصب الدليل: فالمدلول هو ما نصب له الدليل. والمستدل الناظر في الدليل، واستدلاله نظره في الدليل وطلبه به علم ما غاب عنه.
وإن يعلم أن المعلومات على ضربين: معدوم وموجود، لا ثالث لهما ولا واسطة بينهما. فالمعدوم: هو المنتفي الذي ليس بشيء. قال الله عز وجل: " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " . وقال تعالى: " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا " فأخبر أن المعدوم منتف ليس بشيء، والموجود هو الشيء الكائن الثابت. وقولنا شيء إثبات، وقولنا ليس بشيء نفي. قال الله تعالى: " قل أي شيء أكبر شهادة قل الله " وهو سبحانه موجود غير معدوم.
وقول أهل اللغة علمت شيئا، ورأيت شيئا، وسمعت شيئا؛ إشارة إلى كائن موجود، وقولهم: ليس بشيء هو واقع على نفي المعدوم، ولو كان المعدوم شيئا كان القول ليس بشيء نفيا لا يقع أبدا إلا كذبا، وذلك باطل بالاتفاق.
وأن يعلم أن الموجودات كلها على قسمين. منها: قديم لم يزل وهو الله تعالى، وصفات ذاته التي لم يزل موصوفا بها ولا يزال كذلك. وقولهم: أقدم، وقديم موضوع للمبالغة في الوصف بالتقدم وكذلك أعلم وعليم، وأسمع وسميع.
والقسم الثاني: محدث، لوجوده أول، ومعنى المحدث ما لم يكن ثم كان، مأخوذ ذلك من قولهم: حدث بفلان حادث. من مرض، أو صداع؛ وأحدث بدعة في الدين، وأحدث روشنا، وأحدث في العرصة بناء، أي فعل ما لم يكن من قبل موجودا.
وأن يعلم أن المحدثات كلها على ثلاثة أقسام: جسم، وجوهر، وعرض. فالجسم في اللغة هو: المؤلف المركب. يدل على ذلك قولهم: رجل جسيم، وزيد أجسم من عمرو، وهذا اللفظ من أبنية المبالغة، وقد اتفقوا على أن معنى المبالغة في الاسم مأخوذ من معنى الاسم؛ يبين ذلك أن قولهم: أضرب إذا أفاد كثرة الضرب كان قولهم: ضارب مفيدا للضرب، وكذلك إذا كان قولهم: المؤلف المركب مفيدا كثرة الاجتماع والتأليف، وجب أن يكون قولهم جسم مفيدا كذلك.
والجوهر : الذي له حيز. والحيز هو المكان أو ما يقدر تقدير المكان عن أنه يوجه فيه غيره.
والعرض: هو الذي يعرض في الجوهر، ولا يصح بقاؤه وقتين، يدل على ذلك قولهم: عرض لفلان عارض من مرض، وصداع إذا قرب زواله، ولم يعتقد دوامه. ومنه قوله عز وجل: " تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة " وقوله، " هذا عارض ممطرنا " فكل شيء قرب عدمه وزواله، موصوف بذلك، وهذه صفة المعاني القائمة بالأجسام، فوجب وصفها في قضية العقل بأنها أعراض.
وأن يعلم أن العالم محدث، وأنه لا ينفك علوية وسفلية من أن يكون جسما مؤلفا، أو جوهرا منفردا، أو عرضا محمولا. وهو محدث بأسره. وطريق العلم بحدوث أجسامه وحدوث أعراضه. والدليل على ثبوت أعراضه: تحرك الجسم بعد سكونه، وتفرقه بعد اجتماعه، وتغير حالاته، وانتقال صفاته، فلو كان متحركا لنفسه، ومتغيرا لذاته لوجب تركه في حال سكونه، وتغيره واستحالته في حال اعتداله، وفي بطلان ذلك دليل على إثبات حركته، وسكونه، وألوانه، وأكوانه، وغير ذلك من صفاته، لأنه إذا لم يكن كذلك لنفسه وجب أن يكون لمعنى ما تغير عن حاله واستحال عن وصفه.
Shafi 2