فعجبت من أن يكون رامز قد تساهل في أمر الجمعية وأن يكون الثبات الذي تعهده فيه قد زايله، لكنها ما لبثت أن عادت إلى صوابها وتذكرت ما يقال عن دهاء عبد الحميد، وتفرست في عينيه فأدركت بشعورها النسائي أن ذلك الطاغية يخادعها، وأن رامزا لا يمكن أن يبوح بشيء، فقالت: «إني يا سيدي قد طلبت المثول بين يدي جلالة البادشاه لأتلو عليه أشياء تتعلق بالدولة ربما لم تبلغ إليه بعد، ولو علم حقيقتها لأوقع القصاص بمرتكبيها.»
فرأى عبد الحميد أن تعريضه برامز لم يغير عزمها، فأراد أن يسايرها فقال: «ماذا تعنين؟»
قالت: «أعني أن الذات الشاهانية تصل إليها أخبار الدولة على أيدي أناس يتكسبون بالكذب والرياء، فيزينون لجلالة السلطان غير الواقع التماسا لرضاه، ويكتمون الحقيقة وهم يعلمون، ويقفون سدا بينه وبين رعاياه الصادقين المخلصين.»
فوجد في نغمتها نغمة حبيبها رامز، فرأى أن يخادعها فقال: «قولي ما في خاطرك، إني أحب الاطلاع على الحقيقة.»
قالت: «إن حالة الدولة في اضطراب شديد، والجمعية التي تألفت في سلانيك لا يستهان بها، وأعضاؤها أخلص الرعايا لجلالة السلطان، فلو أن جلالته استخلصهم لأنقذ الدولة من مهاوي الانحطاط ومن مخالب الأجانب. إن مطاردة جمعية الاتحاد والترقي لا تفيد شيئا، لأن الأمة كلها ناقمة على الحالة الحاضرة لما تمكن من الفساد في جسم الدولة بما يراه الناس من استئثار رجال القصر بالأموال لا يهمهم أخربت البلاد أم عمرت، وقد أدرك هؤلاء هذه الحقيقة فأصبح همهم منصرفا إلى جمع الأموال لأنفسهم، تفانوا في اقتناء العقار، وخبأ العارفون منهم ثروتهم في مصارف أوروبا وأمريكا، وطلبوا أعلى الرتب والمناصب فنالوها، واستفادوا من الحالة الحاضرة بقدر ما أمكنهم، ولم يفكر أحد منهم إلا في نفسه وأولاده ثم في الأقرب فالأقرب من عائلته. واستماتوا في الوصول إلى السعادة ونفوذ الكلمة بالتقرب من جلالتكم، واستحوذوا على مناصب الدولة ورتبها ونياشينها وألقابها، وقد جرت العادة بإعفائهم من الخدمة العسكرية هم ومن انتسب إليهم. حتى سقط اعتبار الدولة في عيون الأجانب، وأصبح العثمانيون المقيمون في البلاد الأجنبية أنفسهم يستنكفون من الانتساب إلى الدولة العثمانية، ولا يرون علاجا لهذه الحالة إلا الرجوع إلى الحكم الدستوري لاكتساب ثقة الدول، بعد أن كانت نتيجة الحكم الاستبدادي خروج كثير من الإيالات العثمانية إلى سلطة الأجانب أو الاستقلال، كما حدث في الفلاخ والبغدان والروملي الشرقية والبوسنة والهرسك والجبل الأسود والصرب وقبرص وتونس وتساليا ومصر والسودان وغيرها، وعدد سكان هذه البلاد يزيدون على ثلاثين مليونا كلهم خرجوا من سيادة الدولة العثمانية بسوء سياسة أولئك المقربين. ولا ريب عندي أن جلالة السلطان مخدوع بما ينقله إليه المتملقون الذين لا يهمهم إلا مصالحهم الشخصية، وقد أصبحت أكثر أموال الدولة تنفق عليهم وسائر أهل المملكة في جوع حتى الجند.» •••
كانت شيرين تتكلم والاهتمام باد في عينيها، وكان صوتها في بادئ الأمر يرتجف وينقطع، ثم انطلق لسانها وفاضت قريحتها، ولم تتم كلامها حتى كلل العرق جبينها، والسلطان مطرق يسمع ما تقوله ويعجب من جسارتها، ويكاد يتميز غيظا من أقوالها، وحدثته نفسه أن يذهب بحياتها في تلك اللحظة بطلق ناري من مسدسه، لكنه كظم غيظه التماسا للوصول إلى غرضه، وهو الاطلاع على سر تلك الجمعية، فقال وهو يظهر الإعجاب بما سمعه: «يسرني أن يكون في مملكتي نساء لهن هذه المعرفة وهذه الغيرة. إن أمة فيها أمثالك لجديرة بالدستور، وكم كنت أود أن أعرف زعماء هذه الحركة لأباحثهم ونتفق على طريقة للنجاة من الخطر! وأراك مع ذلك تكتمين عني أسماءهم، وأنا ألومك على ذلك، لأنك لو أخلصت الخدمة لذكرت بعض الذين تظنين فيهم اللياقة لهذا التغيير، ولعلك تفعلين بعد الآن إذا تحققت أني أشد غيرة على هذه الدولة من سواي.» قال ذلك وأظهر عدم اهتمامه باستطلاع سر الجمعية لعل ذلك يهون عليها الإقرار.
أما هي فظلت ساكتة، وقد كادت تصدق ما قاله عبد الحميد من رغبته في الإصلاح. على أنها فضلت السكوت لأن شعورها حملها على سوء الظن بما سمعته، وعادت إلى أمر رامز وأحبت أن تحتال لمعرفة حقيقة حاله فقالت: «إني لا أعرف شيئا عن أعضاء هذه الجمعية، ولعلي إذا اجتمعت برامز أن نتعاون على خدمة جلالة السلطان في هذا الشأن.»
فأدرك عبد الحميد أنها تكذب، وأنها إنما تحتال للاجتماع به للتعاقد على الإنكار، لكنه أظهر الاقتناع بقولها وقال: «سوف أجمعك به.» ووقف ونادى: «نادر أغا»، فجاء فأشار إليه أن يأخذها إلى محبسها ويعود.
فلما عاد قال له عبد الحميد: «اخف هذه المرأة عن عيون الناس كافة، واحذر أن تعرف مكان خطيبها أو يعلم هو أنها هنا.»
فأشار مطيعا وهم بالخروج فناداه وقال: «ماذا تم في أمر القادين ج؟»
Shafi da ba'a sani ba