أبطال الرواية
شيرين ورامز
بين شيرين وصائب
اختفاء شيرين
رامز في السجن
الأستانة
السلطان عبد الحميد
في سبيل الدستور
السلطانة الوالدة
في قصر مالطة
شيرين وعبد الحميد
جمعية الاتحاد والترقي
مدحت وسعيد
في حريم يلدز
العصابات الألبانية
إعلان الثورة
الفوز الأكبر
أبطال الرواية
شيرين ورامز
بين شيرين وصائب
اختفاء شيرين
رامز في السجن
الأستانة
السلطان عبد الحميد
في سبيل الدستور
السلطانة الوالدة
في قصر مالطة
شيرين وعبد الحميد
جمعية الاتحاد والترقي
مدحت وسعيد
في حريم يلدز
العصابات الألبانية
إعلان الثورة
الفوز الأكبر
الانقلاب العثماني
الانقلاب العثماني
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
عبد الحميد خان:
السلطان العثماني.
أحمد نور الدين:
ابن السلطان عبد الحميد.
نيازي بك:
من زعماء الأحرار.
أنور باشا:
من زعماء جمعية الاتحاد والترقي.
ناظم بك:
قائد جند سلانيك.
نادر أغا:
رئيس أغوات يلدز.
شيرين:
فتاة تركية.
طهماز:
والد شيرين.
توحيدة:
والدة شيرين.
رامز:
من زعماء جمعية الاتحاد والترقي.
صائب:
جاسوس عثماني.
سر خفية:
رئيس جواسيس السلطان.
القادين ج:
من جواري السلطان.
والدة سلطانة:
رئيسة دور الحريم.
فوزي بك:
أحد قواد الحرس الألباني.
سعيد بك:
من زعماء جمعية الاتحاد والترقي.
شيرين ورامز
سلانيك أو سالونيك من أكبر مدن المملكة العثمانية، وقد اشتهرت بنيل الدستور على أيدي أحرارها. وهي واقعة على البحر، وسكانها نحو 150 ألفا، منهم ستون ألفا من اليهود، والباقون من الأتراك والأروام والمقدونيين والألبان وسائر الأجناس. والسبب في كثرة يهودها أنهم نزحوا إليها من إسبانيا، كما نزحوا إلى الأستانة وغيرها، ولا يزالون يتكلمون لغة الإسبان. وللمدينة رصيف عريض يمتد على شاطئ البحر قد غرست الأشجار على جانبيه، تحده المنازل الفخمة من جهة والبحر من الجهة الأخرى، وهو أجمل متنزهات سلانيك، يؤمه الناس ساعات النزهة في العربات أو الترام أو مشاة على الأقدام.
وفي سلانيك حديقة للبلدية هي أحسن متنزه لتمضية الأوقات في المنادمة والمحادثة، وهي كبيرة واسعة، فيها كل أنواع الأشجار والرياحين والأزهار، وفيها مطاعم ومقاه ومسرح، وتشبه إلى حد كبير حديقة بتي شان في الأستانة وحديقة الأزبكية في مصر، يقصدها طلاب التنزه أو اللهو نهارا وليلا، أفرادا وجماعات، وفيهم الشاب والشيخ والصبية والعجوز من مختلف الأديان والأجناس من الإفرنج واليهود والأتراك على تباين عاداتهم وأخلاقهم، فيجلس بعضهم إلى موائد يتعاطون المشروبات، ويتمشى بعضهم في طرقات الحديقة بين الأشجار، وكل منهم في شاغل بنفسه أو بعائلته وأولاده يراعيهم ويهيئ لهم ما يطلبون، أو يتحدثون بما يطيب لهم بلا مراقبة ولا حذر.
أما في زمن الاستبداد، على عهد عبد الحميد، فكان الناس إذا دخلوا الحديقة أو غيرها من أماكن الاجتماع لا يتخاطبون إلا همسا، خوفا من جاسوس أو واش يغتنم لفظة يسمعها فيبادر بنقلها إلى أولي الشأن فيعرض قائلها للموت أو السجن، وقد لا يكون لذلك القول غرض أو مغزى، ولكن الجاسوسية في زمن ذلك السلطان بلغت مبلغا لم يكن له مثيل في زمن من الأزمان، ولا سيما في أواخر أيامه إذ تبدأ روايتنا هذه.
ففي أصيل يوم من ربيع سنة 1907 كانت حديقة البلدية في سلانيك قد كستها الطبيعة حلة خضراء مزركشة بالأزهار والرياحين، وانتشر عبيرها وصفا الجو، وتقاطر الناس إليها من كل جهة وفيهم بالزي الإفرنجي أو التركي، والتركيات إذا أتين الحديقة اخترن ناحية منها منفردة يجلسن إليها حتى لا يكن عرضة لعيون المارين. وهناك تحت شجرة كستناء غضة الأغصان جلست امرأة متوسطة العمر على مقعد من مقاعد الحديقة، وإلى جانبها فتاة في مقتبل الشباب ذات جمال وأدب وذكاء وكمال. وكان لباس المرأتين تركيا لا يظهر منه إلا رداء بني اللون يكسو الجسم كله كالجبة الواسعة، وعلى الرأس خمار شفاف يكسوه كله إلا بعض الوجه. وكان شعر المرأة الكهلة مضفورا على النمط القديم، أما الفتاة فقد ضفرته على النمط الإفرنجي وغطته بالنقاب الشفاف. ولا يحتاج الناظر إلى إمعان كثير في وجهيهما ليتبين أن الفتاة ابنة الكهلة لشدة ما بينهما من المشابهة.
وكان في يد الفتاة جريدة فرنسية تطالع فيها وهي تحاذر أن يراها أحد، وقد طوتها طيات كثيرة حتى يصغر حجمها ولا ينتبه لها الناس، فتقرأ ما يظهر منها ثم تديرها لقراءة ما بقي. وكانت والدتها تنتظر أن تترجم لها ابنتها بعض المقالة التي تقرؤها، فلما طال انتظارها قالت بلسانها التركي: «ما بالك لا تقرئين يا شيرين؟»
فرفعت الفتاة رأسها ونظرت إلى ما حولها كأنها تحاذر أن يسمعها أحد، وقالت بصوت منخفض: «ماذا أقرأ يا أماه؟ إني أرى رامزا قد شدد اللهجة كثيرا هذه المرة.»
قالت: «أكنت تقرئين مقالة رامز؟ وكيف عرفت أنها له؟ هل وقعها باسمه؟ ألا يخاف الرقباء؟»
قالت بحذر وهدوء: «إنه لا يوقع المقالات باسمه، وإنما يرمز إليه بحرف
A ، وكل مقالة في هذه الجريدة موقعة بهذا الحرف هي له، ولا يعلم ذلك أحد سواي وسوى صاحب الجريدة. ولو اطلع رجال الحكومة على فحوى هذه المقالة لأخذهم الغضب.»
قالت: «وما فحواها؟»
فاقتربت منها وقالت همسا: «إنه يشدد النكير على عبد الحميد ورجاله، ويهددهم بزوال ملكهم، ويحتج عليهم، وينسب إليهم الظلم والنهب. إنها لهجة شديدة، ولكنهم يستحقون أشد من ذلك.»
فقالت والدتها: «ولكننا نخاف على عزيزنا رامز من غدرهم.»
وكانت شيرين ذات جمال ساحر فتان وفي عينيها ما ينم على الذكاء وسرعة الخاطر وشدة عاطفة الحب. وكانت طويلة القامة مع اعتدال وتناسب، والصحة بادية في محياها، وقوة الإرادة ظاهرة حول فمها، لا ينظر إليها ناظر إلا هابها. وقد زادها العلم رونقا وطلاوة، لأنها تثقفت أحسن تثقيف، وهي تحسن التركية والفرنسية والرومية تكلما وكتابة. والفضل في ذلك إلى والدتها، فقد كانت من فضليات النساء وأقواهن عقلا، وقد ربت ابنتها على الحرية وصدق اللهجة، فشبت شيرين كبيرة النفس قوية العزيمة تكره الظلم والظالمين. وقد أحبت رامزا كاتب تلك المقالة وأحبها منذ الصغر، وهو ابن خالتها، وقد ماتت أمه وهو صغير فعني أبوه بتربيته، وغرس في قلبه حب الحرية وكره الظلم والظالمين.
وقد نشأت شيرين ورامز معا، فتحابا وامتزجت روحاهما، وتعاهدا على الاقتران، وكان هو من أرباب الأقلام يكتب الفرنسية كما يكتب لغته التركية، واشتهر بين معارفه بحب الحرية، فلم يجد سبيلا للعمل في الحكومة، وربما سعى له بعض ذوي النفوذ ليلحق بعمل ما فلا يلبث أياما حتى يخرج منه، وأخذ يعيش من مكاتبة الصحف التركية في الأستانة والفرنسية في باريس بتوقيع مستعار، وأكثر ما يكتبه في تلك الصحف انتقاد لأعمال الحكومة.
والكتابة لذيذة، وكانت تلذ رامزا على الخصوص، لأنه كان يجعلها وسيلة للاجتماع بشيرين، فإذا كتب مقالة وأعجبته قرأها لها وسمع ملاحظاتها عليها، وكثيرا ما كانت ترشده إلى الصواب في بعض الموضوعات، لأنه كان شديد الوطأة سريع الاندفاع فيقوده ذلك إلى التطرف، وكانت هي أعدل منه مزاجا وأربط جأشا فتنتقده وتباحثه، فيلذ له الرجوع إلى رأيها. أما المقالة التي كانت تقرؤها في ذلك اليوم فلم يكن قد أطلعها عليها قبل إرسالها فجاءت شديدة اللهجة.
فلما قالت لها أمها: «ولكننا نخاف على عزيزنا رامز من غدرهم»، ظهرت البغتة عليها كأنها انتبهت لشيء فاتها، وتصاعد الدم إلى محياها، ونظرت إلى أمها وقالت: «صدقت يا أماه، إن رامزا يعرض نفسه للخطر، ولو أطلعني على هذه المقالة قبل إرسالها لعدلت لهجتها. سأعاتبه على ذلك متى جاء. لكنه قد تأخر والشمس كادت تغيب!» قالت ذلك والتفتت إلى باب الحديقة فرأت الداخلين يتزاحمون وليس بينهم رامز. ثم وقع بصرها على شاب بهي الطلعة منتصب القامة رشيق الحركة تنجلي الحماسة في وجهه، ورأت أمها تنظر إليه وتبتسم، فقالت: «من هذا يا أماه؟ أراك تعرفينه.»
قالت: «ألم تعرفيه يا شيرين؟ هذا نيازي بك صديق رامز ورفيقه في المدرسة.»
قالت: «عهدته ضابطا.»
قالت: «نعم، ولكن يظهر أنه جاء متنكرا.»
ولم تكد شيرين تعيد النظر إلى نيازي حتى خفق قلبها خفقة الغبطة، لأنها رأت رامزا بجانبه وقد قبض على ذراعه وجعل يقوده نحو تلك الشجرة ونيازي يلتمس التخلص والرجوع. ولما اقتربا من مجلس شيرين وأمها سمعتا نيازي يقول: «دعني يا رامز فقد اقترب موعد سفري.» ولكن رامزا أخذ يجره من ذراعه وهو يضحك ويقول: «دقيقة واحدة فقط.»
ووقع نظر نيازي على شيرين وأمها فأسرع إليهما وحيا الوالدة باحترام، ثم حيا شيرين تحية صديق قديم لأنها عرفته من قبل، وقد خطب إحدى صديقاتها من بنات مناستير. وتقدم رامز وألقى التحية، وابتدر شيرين بالاعتذار فقال: «لقد تأخرت ولكن الحق على صديقي نيازي»، وضحك.
فقال نيازي: «اسمحوا لي أن أودعكم الآن لأني جئت خلسة، ولا بد من رجوعي الليلة إلى بلدي، وإني أتأسف لضياع هذه الفرصة فإن هذه الجلسة تلذ لي كثيرا، ولكنني لا أحب أن أترك للقوم بابا للانتقاد حتى يأتي الله بالفرج.» وابتسم.
فقالت توحيدة والدة شيرين: «تسافر الليلة؟ إلى أين؟»
قال: «إلى مناستير يا سيدتي، ومنها إلى رسنة. استودعكم الله، إلى اللقاء. كم كنت أحب أن أبقى معكم! ولكن ...» قال ذلك وحياهم وانصرف.
وتقدم رامز نحو شيرين وهو يبتسم ابتسام الاعتذار وقال: «أظنني أقلقت بالك لتأخري، ولكنني شغلت بصديقي نيازي، وأنت تعلمين صداقتي القديمة له.» وخفض صوته وقال وهو يحاذر أن يسمعه أحد: «قد جاء اليوم لمقابلة بعض أعضاء الجمعية، فاجتمعنا بصديقنا الشهم أنور بك.» قال ذلك وهو يقعد على كرسي.
فقطعت شيرين كلامه قائلة: «هل أدخلتم نيازي أيضا في الجمعية؟»
قال: «أدخله أنور بك، وقد أحسن بذلك، لأن نيازي من خيرة الضباط أهل المروءة والنجدة، وممن يرجى نيل الدستور على أيديهم.»
ولما لفظ كلمة الدستور تنهد وانقبضت نفسه وأطرق، فأدركت شيرين ما جال بخاطره فقالت: «لا تتنهد، إن أباك سيأتي ولو طال غيابه.»
فهز رأسه وقال: «يا حبذا ذلك! كيف أرجو رجوعه بعد دخوله ذلك القصر الجهنمي، وقد مضت سنوات ونحن لم نسمع عنه خبرا؟ إن أحدا من الأحرار الذين دخلوا يلدز الملعونة لم يرجع منها حيا، وما أحسبه إلا أغرق في البوسفور كما أغرق مئات قبله، لكنني سأنتقم له.» قال ذلك وصر بأسنانه وكاد الدمع يتناثر من عينيه.
فأحبت شيرين أن تشغله عن ذلك فقالت: «سامحك الله يا رامز على هذه المقالة! إنها النار المستعرة.»
قال: «إنها أقل ما يستحقه أولئك القوم الأنذال. قد آن الوقت يا شيرين ولا تلبثين أن تري الدماء تجري أنهارا.»
فأجفلت شيرين عند سماع قوله وتصاعد الدم إلى وجنتيها، وقالت: «إني أتمنى أن يظهر الحق ويزهق الباطل دون أن تجري الدماء.»
قال: «وأنا أتمنى ذلك أيضا، ولكنهم لا يريدون الإذعان، وهذا ناظم بك (وخفض صوته) قائد جند هذه المدينة وصنيعة ذلك الطاغية وأحد ياورانه قد تلقى الأوامر بالتشديد في البحث عن أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، والقبض عليهم والتنكيل بهم بلا شفقة، لأن ظهور هذه الجمعية في سلانيك أدهشهم، وهم يبحثون عن زعمائها ليفتكوا بهم.»
فبغتت وتوردت وجنتاها، والتفتت إلى ما حولها كأنها تخشى أن تكون لتلك الشجرة آذان تسمعهم وتشي بهم وقالت: «صحيح؟! من قال لك ذلك؟»
قال: «جاءنا الخبر من جاسوس لنا في يلدز، وقد علمنا منه أن الرعب ملأ قلب عبد الحميد لما علم أن الضباط ينتظمون في هذه الجمعية المقدسة، وأيقن أن الجيش لا يلبث أن ينقلب عليه، فعمد إلى التنكيل بهم فاستقدم ناظم بك إليه ورفع رتبته وزاد راتبه وزوده بالأوامر المشددة للبحث عن رئيس الجمعية وأعضائها العاملين، ووعده بهبات جزيلة إذا هو استطاع كشفها.»
وهنا قالت له توحيدة والدة شيرين: «اسكت يا عزيزي، إن للشجر آذانا، وقاك الله كيد الكائدين!»
فقالت شيرين: «لله در أبيك! فلولاه لم تعمد الجمعية إلى هذه الخطة.»
قال: «بل لله در ذلك الثاوي في الطائف المقتول ظلما وعدوانا! إنها وصيته قبل موته أودعها أذن أبي فحملها إلى الأحرار، ولكن آه! أين أنت يا أبي؟! وأين بقية الوصية، لعلها تنفعنا اليوم؟»
فقالت توحيدة: «يكفي يا بني. إن الحديث قد طال فاحتفظ بسرك، وإني أنبهك إلى شيء طالما نبهتك إليه، احذر أن تذكر شيئا من هذا القبيل أمام طهماز والد شيرين، فإنه ضعيف الإرادة بسيط القلب إلى حد لا يؤمن معه أن يستميله بعض الجواسيس ويعرف منه خبرك. إن طهماز قوي البدن لكنه ضعيف الإرادة.» قالت ذلك وتنهدت. •••
كانت الشمس قد غربت وأخذ خدم الحديقة في إنارة القناديل، والناس يتزاحمون دخولا وخروجا، ولاحت من شيرين التفاتة فرأت أباها قادما فصاحت: «هذا أبي قد جاء!»
قالت ذلك مظهرة البغتة لتنبه رامزا إلى قدوم أبيها، فالتفت رامز فرأى طهماز ومعه شاب يعرفه من أيام المدرسة حسن البزة قد أرخى لحيته على الطراز التركي، وعلى عينيه نظارة مذهبة، وقد ارتدى ثوبا أسود تعلوه «الستامبولينا» التي يلبسها الأتراك في المواقف الرسمية. ورأى طهماز يحادث الشاب ويلاطفه، فلما اقتربا منه تقدم رامز لملاقاة صديقه ورحب به وقدمه لشيرين ووالدتها قائلا: «صديقي صائب بك.»
فلما رأته شيرين نفرت منه وبان الانقباض في عينيها، لكنها تجلدت تأدبا وحنت رأسها احتراما. أما أبوها فكان كبير الجسم كبير الرأس، واسع الفم غليظ الشفتين معروفا بين أهله ومعارفه بقوة الساعدين، يلبس ثوبا واسعا أشبه بما يلبسه أهل الأناضول، وقد بلغ من قوته أنه يستطيع أن يرفع الرجل بيده الواحدة ويرميه إلى الأرض، وكان كثير الإعجاب بقوته، وهي الهبة الوحيدة التي وهبته إياها الطبيعة لأنه كان ضعيفا فيما خلا ذلك. وكان بطينا نهما لا تكاد تراه إلا وفي فيه شيء يمضغه، وكان ساعتئذ يأكل كعكة ابتاعها في الطريق. فلما دنا من امرأته وابنته ألقى التحية ببرود، ولم يسلم عليهما إلا ليقدم لهما صديقه صائب بك، فرحبتا به. فصفق صائب بك لخادم الحديقة طالبا أن يأتي ببعض المشروب، فاعتذر رامز بأنه لا يشرب شيئا وكذلك فعلت شيرين وأمها، فأبى إلا أن يفتح زجاجات البيرة والكازوزة ويدعوهم أن يشربوا فكان أكثرها من نصيب طهماز.
وفي أثناء ذلك اجتهد صائب بك أن يستلفت انتباه شيرين إلى حديثه بما أخذ يقصه من أحاديث نفوذه في دوائر الحكومة، وما أتاه من الجرأة على كبار المقربين مثل عزت باشا وتحسين باشا وغيرهما، وأنهم يخشون بأسه ويهابون جانبه، وأنه طالما انتقد رجال الحكومة على مسمع منهم.
على أن شيرين لم تزدد إلا نفورا منه، ثم تظاهرت أنها أحست بالبرد فوافقتها والدتها على ذلك التماسا للنهوض، فاستاء طهماز وقال: «ألم تشعروا بالبرد إلا الآن، وأنتم هنا من ساعات؟!» قال ذلك بخشونة تعودتا سماع مثلها منه، فلم تنبسا بكلمة.
أما صائب فالتفت إلى رامز وقال له: «إني لا أنسى الأيام التي قضيناها معا في المدرسة. إن أيام الصبا ألذ أيام الحياة. هل تذكر من كانوا معنا؟»
فلم ير رامز بأسا من مسايرته فقال: «كان معنا كثيرون، أذكر منهم نيازي و...»
فقطع صائب كلامه قائلا: «نيازي؟ أظنه الآن ضابطا في الجندية.»
قال: «نعم.»
قال: «ولماذا لم تنتظم أنت فيها؟»
قال: «لأني لم أوفق إلى ذلك، وليس في استعداد لها على ما أظن.»
قال: «إذا شئت فإني أتوسط لك في خدمة، إن لم تكن في الجندية ففي غيرها. أنت تحب العلم والأدب، ولك معرفة جيدة باللغات، لأني أذكر تقدمك على أقرانك، فإذا شئت وجدت لك منصبا في المدارس أو في الداخلية أو غيرها. لا يثقل عليك أن تطلب مني كل ما تريده، إن هذا هين علي، ونحن أخوان لا تكليف بيننا، وقد وعدت سيدي طهماز بك برتبة ستأتيه بعد أيام قليلة.»
فلما سمعت شيرين ذلك شعرت كأن أحشاءها تتمزق، فوقفت وهي ترتعد وتظهر أنها ترتجف من شدة البرد، والحقيقة أنها ترتعد غيظا من ذلك الثقيل، فوقفت ووقفت والدتها معها ووقف رامز، فلم يجد صائب بدا من الإذعان، وضرب على المائدة بعصا قبضتها من ذهب تلمع في النور، فأتى الخادم (الجارسون) فدفع إليه ليرة عثمانية ولم ينتظر أن يرد إليه الباقي، فانحنى الجارسون إلى الأرض. ونهض صائب وطهماز، ومشوا يلتمسون الخروج من الحديقة، وقد دنا وقت العشاء وأخذ الناس ينسلون من الحديقة. •••
انصرف صائب على أثر خروجهم من الحديقة، بعد أن ودعهم وأطال النظر إلى شيرين وهي تتجاهله، وودعه طهماز وداع الصديق الحميم. أما رامز فرافق شيرين وأبويها، وفي أثناء الطريق خاطبته شيرين بالفرنسية وشكت له نفورها من صائب، وأوصته أن يبتعد عن صحبته، فقال: «وما الذي يهمني منه؟»
قالت: «إني شعرت بنفور منه، ورأيت الشر ينبعث من وراء نظارته، ولا يبعد أن يكون جاسوسا.»
قال: «فليكن ما شاء.»
وبعد قليل وصلوا إلى طريق عرج منه رامز إلى منزله بعد أن ودعهم، وقال لشيرين بالفرنسية: «إني ذاهب إلى المنزل لأكتب مقالة الليلة.» فقالت له: «سر في حراسة الله!» وتواعدا على أن يأتي في الغد ليقرأ لها ما كتبه ويتغدى معهم.
أما صائب فلم يفته ما أضمرته شيرين من بغضه فشبت الغيرة في قلبه، وركب مركبة سارت به إلى الفندق الذي كان نازلا فيه. وقضى معظم الطريق مستغرقا في الهواجس وقد أخذت شيرين بمجامع قلبه، وكان قد لمح إلى أبيها بإعجابه بها، فأظهر هذا ارتياحه لذلك طمعا فيما وعده به من الرتب.
ووصلت به المركبة إلى الفندق وهو لا يزال تائها في بحار الفكر، فلما وقفت انتبه لنفسه وتحول وهو يفكر في رامز وشيرين، وكلما تصور عيني شيرين ومبسمها خفق قلبه. وكان قد شاهدها مرارا من قبل وافتتن بجمالها فصبر حتى لقي أباها وملكه بأسلوبه ودهائه وصار له أمل في نيلها، فذهب معه وهو يرجو أن يرى منها انعطافا، فلما رآها تجافيه وتلاطف رامزا شبت نار الغيرة في قلبه.
ولم يصل إلى غرفته في الفندق حتى كان رأيه قد استقر على التنكيل برامز، فأخذ يخلع ثيابه وهو يحدث نفسه قائلا: «أراها تستخف بي، وما علمت أني قادر أن أحرمها من ذلك الشاب المغرور الذي يعد نفسه من الأحرار. إنه يحسب أمره مجهولا وفاته أني أعلم الناس به، وأني أقدر بكلمة أخطها على أن ألحقه بقاع البوسفور، أليس عضوا في الجمعية السرية الناقمة على السلطان؟ ماذا يكون شأنه لو رفعت ذلك إلى أولي الأمر؟ إني فاعل الساعة.»
وكان قد فرغ من تبديل ثيابه، فتناول قرطاسا وقلما وأخذ يكتب تقريرا عن رامز وأعماله ضد الحكومة، وأنه من أعداء الذات الشاهانية. وقضى الليلة في كتابة ذلك التقرير، ثم خرج في الصباح مبكرا فقصد إلى ناظم بك ذي العلاقة المتينة بالقصر وقال له: «قد كشفت للذات الشاهانية عن شاب عنده كل أسرار الجمعية، وهذا تقريري الذي كتبته في هذا الشأن، فأطلب إليك باسم جلالة البادشاه أن تقبض عليه وتحبسه وتبعث إلى القصر بخبره تلغرافيا، وهذه صورة التلغراف: عثر صائب بك على أحد كبار أعضاء الجمعية الجهنمية، وقد قبضنا عليه وننتظر الأمر في شأنه ...»
فبعث ناظم بك إلى سامي بك رئيس البوليس ليقبض على رامز ويضبط أوراقه حالا، وأرشده إلى منزله، وبعث صائب بك بتقريره مسجلا إلى القصر.
وكان رامز قد قضى ليله في كتابة المقالة المشار إليها، وتأخر في الفراش فما شعر إلا والبوليس يحيط بمنزله، فأيقظوه ودخلوا الغرفة وقبضوا عليه وعلى خادمه، وجمعوا ما عنده من الأوراق فجعلوها في ظرف كبير وختموها وقادوه إلى القصر وحجزوه فيه، فتأكد رامز أنها فعلة صائب فلم ير بدا من الصبر.
أما صائب فكان على موعد مع طهماز في ذلك الصباح في أحد المقاهي، فذهب في الوقت المعين كأنه لم يفعل شيئا، فوجد طهماز في انتظاره، فقال له: «كيف فارقت رامزا؟»
فهز رأسه وقال: «فارقناه بعد ذهابك بقليل.»
فأصلح صائب نظارته على عينيه، وحك لحيته، ثم أخذ يلاعب عصاه بيده، وقال: «إنه شاب لطيف، لكنه كثير الغرور بنفسه، فعسى ألا يجر غروره ضررا عليه أو عليكم، لأن الجاهل عدو نفسه. وقد كنت ولا أزال راغبا في مساعدته إكراما لبيتكم، لأنه ينتسب إليكم على ما أظن.»
قال: «نعم، هو ابن أخت توحيدة، ولكنه كما قلت طائش.»
قال: «إذا كان طيشه يقتصر على ضرر نفسه فذلك هين.»
قال طهماز: «وما الذي يهمنا منه؟»
قال: «أراه يحب التقرب منكم فوق القرابة التي ذكرتها.»
فضحك طهماز، وكان خادم المقهى قد أتاهما بالقهوة، فتناول الفنجان ونهل منه نهلة وقال: «يظهر أنه يطمع في شيرين، ولكنني لا أزوجها لرجل لا عمل له.»
فمد صائب يده إلى جيبه وأخرج علبة للسجائر مذهبة، وأخذ منها سيكارة مذهبة من أحد طرفيها ودفعها إلى طهماز وهو يقول: «إن شيرين تستحق رجلا نبيلا، فإنها والحق يقال كاملة الأوصاف.»
فتناول طهماز السيكارة بكف كالمدراة، وقال وهو يشعلها من عود قدمه له صائب بك: «وأنت كامل الأوصاف يا صائب بك»، وضحك.
فتنصل صائب بك من مغزى هذا التعريض وقال: «إني أجل الفتاة، وأراها تستحق من هو أحسن مني.»
فقال طهماز: «إنها لا تطمع في أحسن منك يا سيدي .»
فأجابه صائب بك: «كل شيء نصيب.» وأظهر أنه يريد تغيير الحديث تواضعا فقال: «قد أرسلت تلغرافا إلى صديقي عزت باشا أطلب منه رتبة تليق بشأنك، وإذا رأيت رامزا يرضى خدمتي فإني أوصي به ليحصل على منصب.»
فأعجب طهماز بأريحية صائب وقال: «سأخاطبه في ذلك لعله يرضى، وهو مدعو عندنا للغداء، تعال لنتغدى معا.» فقبل صائب الدعوة شاكرا.
بين شيرين وصائب
باتت شيرين تلك الليلة ونفسها تحدثها بشر تتوقعه. وكذلك شأن المرأة، فإنها كثيرا ما يدلها شعورها على أمور لا يدركها الرجل إلا بإعمال الفكر والقياس العقلي، أما هي فتشعر وتحكم بناء على شعورها بلا برهان، ويصدق حكمها في أكثر الأحيان.
قضت معظم الليل في الهواجس وما طلع النهار حتى أخذت تنتظر مجيء رامز، وقد سرها خروج أبيها مبكرا ليحلو لهما الاجتماع، ولم يكن وجود والدتها يعكر عليها صفو ذلك الاجتماع لأنها كانت مستودع أسرارها، وهي تحب رامزا حبا كثيرا وتعده بمنزلة شيرين لأنه ابن أختها.
ودقت الساعة العاشرة ولم يأت رامز، فزادت دقات قلب شيرين، وصارت تنتقل من النافذة إلى الشارع، ومن الباب إلى الدهليز، ثم تعود فتقعد، فإذا سمعت مشيا نهضت تظن رامزا قادما مع أنها تعرف خطواته دون خطى سائر الناس، ولكن القلق أذهب رشدها. فلما دقت الساعة الحادية عشرة ذهبت إلى والدتها، وكانت تساعد خادمتها في شئون المطبخ ليكون الطعام حاضرا في الظهر، وإلا غضب زوجها وأسمعها كلاما فظا. فلما رأت شيرين داخلة بادرتها قائلة: «هل أتى رامز؟»
فكان لهذا السؤال وقع شديد انفجرت له عواطفها فقالت: «لا، لم يأت»، وغصت بريقها.
فاستغربت توحيدة اضطرابها وقالت: «لم يفت الوقت، إن الظهر لا يزال بعيدا، لا تقلقي.»
قالت: «أعلم ذلك، ولكن ...» وسمعت حركة في الدار فأصغت فإذا هي خطى أبيها، فأملت أن يكون رامز معه، فخرجت لملاقاته فوجدت أباها وحده داخلا يتمايل عجبا بقوته وقد زادته مواعيد صائب بالرتب إعجابا بنفسه، فلما أقبل على شيرين حيته فرد التحية وابتدرها قائلا: «ألم يحضر الغداء؟ أين والدتك؟»
قالت: «هي في المطبخ تعده.» وهمت أن تسأله عن رامز فغلب عليها الحياء، فذهبت إلى والدتها وحرضتها على سؤاله.
فخرجت توحيدة من المطبخ وهي تجفف يديها بمئزرها وتصلح ذيل ردائها، وتأمر الخادم أن يهيئ المائدة لأن الطعام قد أعد، لعلمها أن ذلك يشرح صدر زوجها، فقابلها ضاحكا فقالت: «ألم يأت رامز معك للغداء؟»
قال: «لم أره اليوم.»
قالت: «دعوته أمس للغداء معنا، وها هي ذي الساعة قد دقت الثانية عشرة ولم يأت!»
قال: «لعله استغرق في النوم وبعد قليل يأتي، لا تخافي.»
قال ذلك وهو يحل سيور حذائه، وقد أسرع إليه الخادم يساعده.
فلما سمعت شيرين قوله «لا تخافي» أدركت أنه يقول ذلك تهكما، فالتفتت إلى والدتها فرأتها تفهم مرادها، فقالت توحيدة: «لست خائفة، وما الباعث على الخوف؟»
قال: «أما الباعث على الخوف فإنه موجود، لأن رامزا يتعرض لأمور كثيرة لا تعنيه ولا تنفعه وقد تضره، وإذا خاطبه أحد في سبيل مصلحته استخف به.»
ففهمت شيرين أنه يشير إلى حديث أمس، وأن أباها ناقم على رامز استخفافه بصائب، فتحولت من بين يدي أبيها إلى غرفة قريبة، وجلست تسمع صوته ولا تراه، فسمعت والدتها تقول له: «هذا شأنه، وهو يعرف حسابه.»
فقال بصوت عال: «ولكن تردده إلى بيتنا يوقع الشبهة علينا.»
فعلمت توحيدة أن الكلام مع زوجها في هذا الشأن أصبح عبثا بعد أن رفع صوته، وقد تعودت طباعه وعرفت كيف تتجنب غضبه لأنها كانت عاقلة حكيمة، والمرأة إذا عاشرت زوجها زمنا طويلا يجدر بها أن تعرف ما يرضيه وما يغضبه، فسكتت توحيدة وأظهرت أنها مشغولة في المطبخ، فلحقت بها شيرين والدمع ملء عينيها وصاحت بها: «أماه! يا أماه، إن قلبي على مثل الجمر ...!»
فأشارت بأصبعها على فمها أن «اسكتي»، والتفتت إلى الخادم وأمرته أن يذهب إلى مسكن رامز يسأل عنه، فذهب الخادم مسرعا وما عتم أن عاد وقص عليهم أن ناظم بك أرسل جندا للقبض عليه، وأخذه مع أوراقه إلى القصر.
فلم تتمالك شيرين أن لطمت خدها وقالت: «ويلاه! إن قلبي دلني على شر متوقع منذ أتانا ذلك الجاسوس، وها قد صدق ظني.»
أما والدتها فأخذت تخفف عنها لئلا يسمعها أبوها الذي كان في غرفة المائدة واقفا يتناول قدحا من الكنياك قبل الطعام، فلما سمع التهامس صاح بصوت كالرعد: «ما بالكم؟! ماذا جرى؟! هل أتى رامز؟»
فأسرعت إليه توحيدة وقالت: «إن ناظم بك قبض عليه وسجنه وصادر أوراقه.» قالت ذلك وهي تفرك يديها حسرة وأسفا.
فضحك طهماز وقال: «هذا ما كنت أخافه عليه لتهوره، ولكن لا تخافي إن صديقي صائبا يقدر أن يخرجه من السجن، لأن ناظم بك يراعي جانبه لنفوذه، وسيأتي صائب بك بعد قليل فقد دعوته للغداء معنا.» •••
وكانت شيرين منزوية في غرفتها، وقد استغرقت في البكاء لعلمها بالخطر الذي يهدد حبيبها، وهي تعلم أعمال رامز ضد عبد الحميد، فأيقنت من تلك اللحظة أن رامزا مقتول لا محالة، فأخذت تندبه. فلما سمعت أباها يطمئن أمها ويذكر صداقة صائب لناظم تنفست الصعداء لحظة، ثم تذكرت أن صائبا أصل هذه المصائب فعادت إلى البكاء. ولكن والدتها أظهرت التصديق، فدخلت عليها وجعلت تخفف عنها قائلة: «يقول أبوك إن صديقه صائبا ينقذه بكل سهولة، وبعد قليل يأتي ونسأله.» قالت ذلك وأمسكت بيد شيرين كأنها تشغلها عن البكاء وهي تعتقد اعتقاد ابنتها، ولكنها أرادت تخفيف حزنها، وهي خائفة عليها لعلمها أن بين أوراق رامز أوراقا لها لا تقل خطرا عن أوراقه، لأنها كثيرا ما كانت تساعده أو تكاتبه بمعنى الحرية والنقمة على عبد الحميد ورجاله.
فاجتذبت شيرين يدها من يد أمها، وغطت بها عينيها وهي تقول: «تسألون صائبا إنقاذه وهو الذي أوقعه، دعيني ... لا أغير اعتقادي فإن قلبي قد دلني.»
وبينما هما في ذلك إذ سمعا وقع حوافر أفراس وقفت عند باب منزلهم، وهرع الخادم لاستقبال القادم، وكان هو صائب بك.»
فقالت توحيدة: «أتى الرجل. تجلدي وقومي للغداء لعله قادر على إنقاذه، وعهدي بك حكيمة واسعة الصدر، فما لي أراك تغيرت؟! لا يبعد أن يكون له نفوذ عند أولئك لأنهم من طينة واحدة. قومي، تجلدي.»
فنفرت وهي تهز رأسها هز الإنكار قالت: «قد فارقني جلدي، دعيني ولا تطلبي مني أن أرى هذا الشيطان وآكل معه، أأستبدله برامز؟!» ونهضت وأخذت تحل أزرارها وهي تقول: «إني مريضة لا أستطيع الجلوس.»
فاستحسنت والدتها أن تمكث شيرين في الفراش لئلا يشاهدها أبوها على هذه الحال فيغضب، وخرجت هي لملاقاة الضيف والترحيب به مراعاة لحق الضيافة وخوفا من غضب زوجها وأملا في النفع على يده، فوجدته قد دخل الدهليز وأخذ يضع عصاه الذهبية على الحامل، فلما رآها أسرع إليها متأدبا وحياها بلطف وانحناء وقد قبض على قفازه بيده الأخرى، ثم تقدم إلى طهماز فحياه وتلطف معه. فدعتهما توحيدة إلى غرفة الاستقبال وهي مفروشة على الطراز الإفرنجي فدخلا، وجعلت توحيدة ترحب به وتجامله.
واجتذبت شيرين يدها من يد أمها، وغطت بها عينيها.
ثم افتتح طهماز الحديث عن رامز قائلا: «إن خوفنا على رامز كان في محله، وقد بلغني أنهم قبضوا عليه في صباح اليوم وأخذوه إلى السجن، ألم تعلم بذلك؟»
فأظهر صائب البغتة وقال: «هل الذي قبضوا عليه اليوم هو رامز؟! كنت عند ناظم بك منذ ساعة وأخبرني بالقبض على رجل من أعضاء الجمعية السرية، ووجدوا معه أوراقا مريبة أرسلوها إلى يلدز، كما أرسلوا تلغرافا بخبرها، ولم يخطر لي أن الرجل هو صديقي رامز، لا حول ولا قوة إلا بالله!»
وكانت غرفة شيرين بجانب حجرة الاستقبال، فكانت تسمع كل كلمة من الحديث، فسمعت أباها يقول: «ولكن رامزا ابننا، وأنا أعد نفسي بمنزلة أبيه، وهو أيضا صديقك، ألا تقدر على تخليصه من هذه الورطة؟»
فقال وهو يمشط لحيته: «لو أخبرتموني في الصباح لكان ذلك هينا علي، أما الآن وقد بلغت أخباره القصر وأرسلت أوراقه إلى الأستانة، فكيف السبيل إلى إنقاذه؟»
قال طهماز: «أنت تقدر يا بك.»
فأطرق صائب حينا يفكر ثم قال: «أما إخراجه من سجن سلانيك فقد أصبح مستحيلا، لكنني أبذل جهدي لتخفيف جرمه في الأستانة إذا أمكن، ولكنه سامحه الله لم يدع بابا للمصالحة، أخبرني ناظم بك أن بين أوراقه ما يدخل كثيرين في الخيانة معه، وفيهم امرأة.»
فلما سمعت توحيدة قوله صعد الدم إلى وجهها وظهرت البغتة عليها، لعلمها أن هذه المرأة إنما هي ابنتها وأنها واقعة في الفخ لا محالة، ولكنها تجلدت وأصغت لعلها تسمع شيئا جديدا، وودت لو أن ابنتها مستغرقة في النوم حتى لا تسمع ذلك. ونهضت تظهر أنها تريد مخاطبة الخادم لإعداد المائدة ودخلت إلى غرفة ابنتها، فرأتها مستلقية وقد أصاخت بسمعها، فحالما أقبلت عليها قالت شيرين: «لقد سمعت كل شيء.»
قالت: «هل سمعت آخر فقرة؟»
قالت: «تعنين اتهام امرأة مع رامز؟ نعم، سمعت ذلك، وهذا عزائي الوحيد، لأني عند ذلك أحمل إليه فإما أن نموت معا وإما أن نعيش معا، هل أنا خير منه؟»
فيئست أمها وازداد حزنها لأنها كانت تحسب اتهام ابنتها، والأمل في النجاة على يد صائب، مما يجعلها تلين وترضى بمخاطبته لعله ينقذها. ولا شك في أنها تحب رامزا ولكن حبها لابنتها في المكان الأول، فقالت: «نعم، يشق علينا وقوع عزيزنا رامز في الخطر، ولكن هل نلقي بأيدينا إلى التهلكة؟ وإذا كان في إمكاننا تخليصك فكيف لا نفعل؟ ولعلنا ننجي رامزا أيضا.»
فقطعت شيرين كلامها قائلة: «تريدين إنقاذي على يد هذا الجاسوس؟ وهل صدقت زعمه أنه لم يكن يعلم وهو الذي وشى به؟ أنا لا أريد نجاتي على يده، بل أريد أن يؤكد تهمتي لأشارك رامزا في حظه.» قالت ذلك واستلقت على سريرها وغطت وجهها بزندها، فتركتها والدتها وتوجهت إلى المطبخ وأمرت الخدم بإعداد المائدة، وأتت إلى زوجها فوجدته يتهامس مع صائب وهو يضحك، فلما رآها سألها عن الطعام فقالت: «تفضلوا إلى المائدة.»
فنهضوا فغسلوا أيديهم، وصائب يتوقع أن يرى شيرين قادمة إلى المائدة، فلما جلسوا ظل كرسيها فارغا فقال: «إني لا أرى شيرين معكم، أرجو أن تكون في خير حال.»
فقالت والدتها: «إنها تشكو صداعا أليما لم يفارقها من الصباح.»
فقالت طهماز: «ادعيها، لا بأس عليها!»
قالت: «ألححت عليها كثيرا، وأنا آتية من عندها الساعة، فلم تقدر أن ترفع رأسها، واستولى عليها البكاء من شدة الألم.» قالت ذلك حذرا من أن ينهض أبوها فيراها باكية ويتهمها بشيء آخر.
فقال صائب: «لا بأس عليها! هل علمت بحادث رامز؟ لا شك أنها تأسف كثيرا له. سامحه الله! ما كان أغناه عن تلك الأعمال الصبيانية.»
وكان الطعام قد حضر وصب في الأطباق، واستغرق طهماز في الالتقام والمضغ فوضع صدر دجاجة كما هو في فيه، ولما سمع كلام صائب هم أن يجاوبه ولكن فمه مملوء، فاستمهله بأصابعه ريثما يبلع بعض اللقمة، ثم قال وهو يقطع الخبز ويهيئ لقمة أخرى: «كثيرا ما نصحته فلم ينتصح. إن شبان هذا الزمان لا يعجبهم العجب، لا يعجبهم سلطاننا - أيده الله - مع أنه من أحسن سلاطين آل عثمان، هل كان عبد العزيز أحسن منه؟ إنه لا يفوته وقت الصلاة مطلقا، وفي الأستانة ألوف من الناس عائشون من بقايا مطبخه، فلو أقفلت يلدز الآن لمات هؤلاء جوعا. ثم كيف يستطيعون مقاومة خليفة الرسول؟ كان ينبغي أن يكون لهم عبرة بالذين تقدموهم من أمثالهم الشبان المغرورين وكيف كانت عاقبة أمرهم، ماذا ينالهم من هذا العناد غير العذاب؟ ألا يرضون أن يعيشوا كما عاش آباؤهم وأجدادهم؟» وقد اختصر طهماز خطبته البليغة لئلا تضيع عليه لقمة وعاد إلى الأكل.
فقال صائب: «أنا لا ألوم الأحرار على التشكي من الخلل فإنه موجود، لكنني ألومهم لاستعمال العنف في مساعيهم كعمل المكايد لقتل الخليفة أو أعوانه والكتابة الشديدة في الجرائد الأجنبية. هذا لا يفيد، ولا بد من استعمال التؤدة.»
وكانت شيرين تسمع قوله، وتكاد تثب من السرير لتجاوبه، لكنها صبرت نفسها وسكتت. •••
ولما فرغوا من الطعام تناولوا القهوة، ونهض صائب للانصراف فودع طهماز وزوجته ودعا لشيرين بالسلامة، وركب عربته وانصرف.
ودخل طهماز لمشاهدة ابنته فرآها نائمة فتركها وذهب للقيلولة، ولم تمض بضع دقائق حتى ملأ شخيره البيت. أما توحيدة فلم تنم لما تولاها من القلق على ابنتها، فضلا عن خوفها على رامز.
وفي الأصيل نهض طهماز، وبعد أن تناول القهوة نادى امرأته إلى غرفته فأتت وهي تقول في نفسها: «ما الغرض من هذا الطلب يا ترى؟» فلما دخلت عليه دعاها للجلوس إلى جانبه فجلست، فقال لها: «بعد قليل يأتي صائب بك، ماذا نقول له؟»
فلم تفهم مراده فقالت: «عن أي شيء؟» قال: «عن شيرين».
ففهمت أنه يريد خطبتها له، ولكنها تجاهلت وقالت: «من أي جهة؟»
قال: «ألم تفهمي؟ لا يخفى عليك أن رامزا المسكين لن ينجو من هذه الوقعة، وهو الذي رمى نفسه فيها، ولا شك أن شيرين تكون طائشة مثله إذا لم تفهم حقيقة مركزها. وقد تقدم صائب بك لخطبتها، وهو رجل وجيه صاحب نفوذ وثروة، وإذا صاهرناه نلنا العز على يده، وربما استطعنا بوساطته أن ننقذ رامزا. لا يخطر ببالك أني أكره هذا الشاب، إن رامزا بمثابة ابني كما تعلمين، لكنه طائش تأخذه الحدة ويتطاول إلى ما هو فوق طاقته حتى ألقى نفسه في ورطة لا نجاة له منها، وأخشى - والكلام في سرك - أن تقع الشبهة علينا غدا لكثرة تردده إلى منزلنا فنقع في الشرك، فإذا كان صائب بك صهرنا كنا في مأمن من ذلك كله.»
فرأت في كلامه تعقلا لم تعهده من قبل فقالت: «أرى الحق في جانبك، ولكن هل نفعل ذلك دون استشارة شيرين؟»
قال: «نسألها، ولا أظنها تخالف رأي والديها.»
قالت: «لا نقدر أن نزوجها لأحد إلا بإرادتها.»
فهز رأسه وقال: «إن بنات هذا العصر مثل شبابه لا يعملن إلا ما يخطر لهن، في حين كنا في زماننا نلقي اتكالنا على آبائنا. وهذا هو سبب الشرور التي نراها تنتابنا الآن من كل ناحية، لم يعد يعجبنا العجب ... نريد أن نتدخل في كل شيء، ونعمل على هوانا، حتى صرنا نطلب أن نشارك سلطاننا في الحكومة، وإذا أبى علينا ذلك نقمنا عليه وأردنا قتله، ما لنا ولذلك؟ فاذهبي الآن إلى شيرين وأقنعيها بوجه الحق، وأفهميها مركز صائب وأهميته.»
فنهضت توحيدة وهي على ثقة من رفض ابنتها، لكنها أطاعت زوجها ودخلت على شيرين وكانت قد تولاها الوسن لحظة، فلما سمعت وقع أقدام والدتها استيقظت مذعورة وجلست وهي تنظر إلى ما حواليها وتفرك عينيها لتتحقق أنها في يقظة، فلما رأت والدتها صاحت: «أماه أين رامز؟! أين رامز؟! ويلاه! إني في منام ...» وعادت إلى فرك عينيها.
فأدركت والدتها أنها رأت رامزا في المنام لفرط تفكيرها فيه، وتقدمت إليها وضمتها إلى صدرها وطبعت على عنقها قبلة طويلة، فأحست شيرين بالدمع يتساقط على عنقها سخينا فأسفت لأنها سببت لأمها هذا الحزن، فتباعدت عنها قليلا وتفرست في وجهها، وتوحيدة تحاول إخفاء دموعها بالابتسام فلم تقدر، فقالت شيرين: «قد سببت لك حزنا وتعبا يا أماه.»
قالت: «كلا يا حبيبتي، إن التعب لأجلك راحة، ولكنني لا أحب أن يستولي عليك اليأس، وعهدي بك عاقلة حازمة ... اصبري ولا تستسلمي للحزن.»
فقالت شيرين: «صدقت يا أماه، لا بد من الصبر.» ومسحت عينيها وتنهدت تنهدا خفيا وهي تصلح شعرها وتنظر إلى مرآة معلقة بالحائط المقابل لباب الغرفة المستطرق إلى الدار، فرأت خيال أبيها في المرآة يمشي حافيا على رءوس أصابعه مسرعا، فأجفلت عند رؤيته وظهرت البغتة في وجهها، ولحظت والدتها فيها لذلك فقالت: «ما بالك يا شيرين؟ ما الذي تفكرين فيه؟»
فأجابتها بصوت منخفض: «لا أفكر في شيء، لكنني رأيت أبي مارا من هنا، لعله استيقظ؟»
قالت: «نعم يا عزيزتي، وكنت معه الآن نشرب القهوة في غرفته، وإني قادمة من عنده.»
فدلها قلبها على شيء تكتمه والدتها، لأنها دقيقة الشعور إلى درجة التنبؤ فلا يكاد جليسها يهم بالكلام حتى تفهم مراده، لكنها كانت تسكت عن التصريح بما يجول في خاطرها فقالت: «لأمر ما أتيت إلي؟ خيرا إن شاء الله؟»
فمدت توحيدة يدها إلى شعرات مسترسلة على جبهة ابنتها وجعلت تعبث بها كأنها تضفرها، وقالت: «لم آت إلا لخير يا حبيبتي.» وغصت بريقها، وتلألأ الدمع في عينيها، فتداركت نفسها بالكلام فقالت: «قد كلمني أبوك في شأن صائب بك، إن الرجل سيعود إلينا بعد قليل.»
فأجفلت شيرين عند ذكر اسمه، وحولت وجهها نحو الحائط وقالت: «ما لي وله عاد أم لم يعد؟ إني لا أريد أن أراه .»
قالت: «ليس الأمر أن تريه أو يراك فقط.»
ففهمت مرادها، لكنها استبعدت أن يقدم صائب على خطبتها بعد ما لاحظه من جفائها وتباعدها فقالت: «ما الذي يبغيه إذن؟»
قالت: «إن أباك خاطبني في شأنه، وكلفني إقناعك بقبول خطبته لك، إنه شاب وجيه غني مقدم عند رجال الدولة، وهو الآن صاحب النفوذ الأكبر، فمثله لا يرد طلبه.» قالت توحيدة ذلك وهي لا تعنيه، لكنها تعلم أن زوجها لا بد أن يتلصص لسماع ما تقوله لابنتها لسوء ظنه بها، وتحققت ذلك مما قالته شيرين، فإنه دخل غرفة الاستقبال ليسمع ما يدور بينهما، وهي مع ذلك على ثقة من أن ابنتها سترفض ذلك الطلب بتاتا.
أما شيرين فاستغربت كلام والدتها بهذه اللهجة مع علمها بما في قلبها من حب لرامز، فلاحظت أنها تقوله كأنها على مسمع من أبيها تتجنب به غضبه وفظاظته، فرأت أن تجاريها بالملاطفة للسبب نفسه فقالت: «فليكن كما يشاء، ما الذي يعنيني من أمره؟ إنه لا يعنيني.»
قالت: «إن أباك ألح علي أن أقنعك بأنه شاب يليق بك، وأنه قد يكون واسطة لإنقاذ رامز بنفوذه إذا قبلته.»
فأحبت شيرين أن تبقى على تجلدها، لكنها غلبت على صبرها فقالت: «إنقاذ رامز؟! أهو ينقذه؟ وإذا أنقذه فماذا يفيدني ذلك إذا كنت عند هذا الجاسوس؟ بل كيف ينقذه وهو الذي رماه في هذا الفخ؟ و...» فوضعت توحيدة يدها على فم شيرين، وأشارت بوضع سبابتها الأخرى على فمها إشارة السكوت خوفا من سامع أو متلصص.
فأزاحت شيرين كف والدتها عن فمها وقالت: «ولماذا أسكت؟ بأي قلب تخاطبونني في هذا الشأن؟!» وغلب عليها البكاء. فلم تر والدتها خيرا من تركها لئلا تقول ما يكدر أباها، وهو إذا غضب لا يقدر عواقب ما يقوله، فتنحت عن سرير ابنتها وهي تقول لها: «إني تاركتك الآن ريثما تفكرين في الأمر، وسأعود إليك بعد قليل»، وأشارت بعينيها أنها تفعل ذلك محاذرة من طهماز. وخرجت وأغلقت باب الغرفة وراءها، وأظهرت أنها ذاهبة إلى غرفة زوجها لتخبره بما جرى، وهي تعلم أنه في حجرة الاستقبال، فما مشت خطوتين حتى رأته يمشي في أثرها فتظاهرت بالبغتة، وأومأت إليه أن يتبعها فدخلا غرفته وقالت له: «لا بد من الصبر يا سيدي، إن شيرين لا تزال منحرفة الصحة فلنتركها الآن.»
قال: «نتركها! ولماذا؟ وبعد قليل يأتي البك، ويجب أن نجيبه سلبا أو إيجابا، وأنا وعدته بالإيجاب فهل أكذب عليه أم كيف تريدين يا هانم أفندي؟» قال ذلك بتهكم وجعل يعبث بأخمص رجله اليسرى بأصابع يده اليمنى.
فاهتمت توحيدة بالأمر لعلمها أن زوجها لم يعط الثبات والحزم إلا في معاكستها، فهو ضعيف مع كل إنسان، كثير الإصغاء والإذعان لأهل الدسائس، يدار بكلمة ويقاد بشعرة، إلا مع امرأته فإنه عنيد لا يرجع عن قوله لأنه يعد رجوعه ضعفا، وكيف وهو رجل البيت لا يكون كلامه نافذا؟ فلما رأت توحيدة تصميمه قالت: «لا بد من التأني يا سيدي، لأن شيرين مشغولة الخاطر على رامز مثلنا، فاتركني ريثما أخاطبها في فرصة مناسبة.»
قال: «بل هي منشغلة الخاطر عليه أكثر منا جميعا، لأنها تريد أن تكون من الأحرار، ما شاء الله! هل تظنين سكوتي عنها في الماضي كان عن رضى وقبول بما كانت تأتيه؟ ولكني كنت أغتفر ذلك أحيانا لأن رامزا ابن خالتها، وكنت أتوقع أن ترعوي من نفسها فإذا هي لا تزداد إلا تماديا حتى كادت توقعنا في ورطة لا خلاص لنا منها إلا على يد صائب بك، وقد تفضل علينا الرجل وحذرنا، بارك الله فيه! فكيف نقابله بالكذب أو الجفاء؟! ها أنا ذا قد صرحت لك بكل شيء، فهمت؟» قال ذلك وهو يشير بيديه متحمسا، ثم أخرج سيكارة من صحن بين يديه وأشعلها، واتكأ وأخذ يدخن ولسان حاله يقول: «قد فعلت ما علي، فافعلي ما عليك.» •••
لم يبق شك عند توحيدة في حرج مركزها، فاستندت إلى الحائط وأخذت تفكر في الأمر، وقد بدا القنوط في محياها خوفا على شيرين من دناءة ذلك الجاسوس واستبداد والدها، وهي تعلم جيدا أن ابنتها لا تقبل غير رامز، فكيف إذا كان البدل مثل صائب؟ لكن خوفها على حياتها وحياة رامز هون عليها الاقتناع برأي زوجها وهم في عصر كل شيء فيه جائز، عصر الجاسوسية والظلم، وقد أصبحت الأرواح والأعراض والأموال في أيدي الجواسيس يضعون من شاءوا ويرفعون من شاءوا، لا يتكلفون في ذلك إلا كلمة يقولونها بتقرير يرفعونه إلى ذلك الطاغية السفاح، وقد عرفت أناسا ذهبوا غرقا في البوسفور أو قتلا بحد السيف أو بالسم وهم أبرياء، فخافت أن يصيب ابنتها شيء من ذلك وهي متهمة بالتشيع للأحرار، ولا بد أنهم عثروا على أوراق لها في جملة أوراق رامز فيها ما يكفي لإثبات التهمة عليها، وإذا أغضبت صائبا تمت أسباب التعس لأنه يسعى في الانتقام لنفسه من رامز ومنها.
مرت تلك الخواطر أمام مخيلة توحيدة وهي مسندة كتفها إلى الحائط وقد أطرقت واستغرقت في لجج الأفكار، وزوجها مشتغل بالتدخين يتلهى بمراقبة حلقات الدخان وهي صاعدة، أو ينفض الرماد عن طرف السيكارة وإن لم يكن هناك رماد.
وبينما هي في ذلك إذ سمعت جرس الدار يدق، فاستيقظت من هواجسها وأسرعت دقات قلبها خوفا من أن يكون القادم صائبا فأصغت ريثما يفتح الخادم الباب، ولم يمض يسير حتى جاء الخادم مسرعا وهو يقول: «أتى البيك، صائب بك.»
فهب طهماز من مجلسه حائرا ولم يعرف كيف ينتعل حذاءه من البغتة والدهشة، وانصرفت توحيدة إلى بعض مهام البيت وهي تريد أن تعود إلى ما كان يريده زوجها من التحجب عن كل زائر لتخلص من رؤية هذا القادم، مع أنها التي حملته على التساهل في أمر الحجاب جريا على مقتضى التمدن الحديث، على أن الأتراك ولا سيما في سلانيك كانوا قد خففوا الحجاب على الإجمال، فالمرأة تجالس الرجال وتمشي في الأسواق، ولكن طهماز لم يكن يأذن أن تلاقي زوجه غير الأخصاء مثل صديقه صائب.
فودت توحيدة في تلك الساعة أن تكون محجبة، لأنها كرهت أن تعود إلى موضوع خطبة هذا الرجل لابنتها على رغم اهتمامها بأمره بعد ما سمعته من التهديد، فتولتها الحيرة وأخذت تنتقل بين غرف الدار وهي تسمع قرقعة عصا صائب وهو يضعها على الشماعة. ثم سمعت طهماز يرحب بضيفه العزيز ويدعوه إلى حجرة الاستقبال، فخطر لها أن تتفقد ابنتها لترى حالها بعد سماع جرس الدار وعلمها بقدوم صائب، فدخلت عليها فوجدتها قد توسدت الفراش وأحاطت رأسها بعصابة كأنها تشكو صداعا، فهرعت إليها وأخذت تجس يدها لئلا تكون محمومة فلم تجد بها بأسا، فضمتها وقبلتها وهي تقول: «ما لك يا عيوني؟ مم تشكين؟»
فأجابت شيرين بصوت ضعيف: «أشكو من صداع خفيف، لا تخافي.»
فقبلت جبينها وكأنها تجسه بشفتيها لتتحقق خلوه من السخونة، ثم قالت: «توسدي يا حبيبتي، نامي إن النوم يخفف الصداع»، فقالت: «أنا أحاول النوم جهد طاقتي.»
وأرادت توحيدة بإغراء شيرين بالنوم ألا تسمع ما قد يدور بين أبيها والضيف من الحديث الذي يؤلم عواطفها لقرب غرفتها من حجرة الاستقبال، فسرها أنها أذعنت حالا ونامت بدون أن تبدل ثيابها. وخرجت توحيدة وهي تسمع صوت زوجها يناديها، فأصلحت من شأنها ووضعت الخمار على رأسها ودخلت، فوقف صائب بك يهش لها ويرحب بها وقال: «إني في غاية الامتنان للطف سيدي طهماز بك وأنسه، فإنه يعدني من أهل المنزل كأحد أولاده، وأنا أعلم أنه لا يفعل ذلك مع كثيرين، وهذه هي المرة الثانية التي أجيء فيها إليكم. تفضلي اجلسي.» قال ذلك وجلس.
فجلست باحترام وهي ترحب به مجاملة، فوقع نظرها على ورقة في يد طهماز يتصفحها وهو يبتسم ولسان حاله يقول: «اسألوني عن فحواها.»
فأدركت توحيدة غرضه فقالت: «ما هذا يا سيدي؟» وأشارت إلى الورقة.
فقال: «تلغراف من الأستانة.» وأبرقت عيناه.
فتبادر إلى ذهنها أنه تلغراف بإطلاق سبيل رامز، فتسارعت دقات قلبها وهمت أن تخطفه من يده لتقرأه، لكنها أمسكت نفسها تأدبا وقالت: «لعله عن رامز؟» فهز كتفيه وقال وفي صوته غنة دلال أو مداعبة: «لا، ولكنه لشأن آخر لا أقوله لك.»
فلم يرق لها ذلك الدلال، ولكنها تجلدت وقالت: «أي شأن يا سيدي؟ هل يهمني أن أعرفه؟»
فضحك وقال: «طبعا يهمك، لأنه شأن زوجك. لا تخافي ليس فيه أمر بالنفي أو السجن والحمد لله.»
فتناول صائب الحديث وهو يتواضع وقال: «طبعا لا ينبغي أن يكون فيه شيء من ذلك، لأن المخلصين للذات الشاهانية يعاملون غير معاملة الخوارج المارقين»، وتشاغل بإصلاح نظارته لحظة وتنحنح ثم قال: «هذا تلغراف يا سيدتي من أحد أصدقائي بالقصر ينبئني فيه بأن مولانا الخليفة - أعزه الله - قد أنعم على سيدي طهماز بك برتبة سنية بناء على ما تحققوه من صدق ولائه للذات الشاهانية.»
فقطع طهماز كلامه قائلا: «ومن أين عرفوا ذلك لو لم يتفضل سعادة البيك بإبلاغه إليهم؟ فأنت صاحب الفضل في هذه الرتبة.»
فأخذ صائب يتلطف ويتواضع ويتظاهر بأنه لم يفعل شيئا، وأن طهماز إنما نال تلك الرتبة عن استحقاق لإخلاصه ولما يرجوه أمير المؤمنين من الخدمات النافعة على يده. وطهماز يجيب معتذرا متواضعا، وتوحيدة بينهما جامدة كالصنم لاشتغال خاطرها بما تخافه من حديث زوجها بشأن الخطبة أو ما يجري مجراها، فأحبت أن تشغلهما عن هذا الموضوع فقالت: «ألم يعلم صائب بك شيئا عن رامز؟»
فتزحزح صائب عن كرسيه وهو يظهر الاحتفاء بحديث توحيدة وقال: «نعم يا سيدتي، إن أمر هذا الشاب أهمني كثيرا نظرا لما علمته من علائق القربى بينكم وبينه، وقد سألت ناظم بك عما جرى في شأنه فقال: إنه جاءه تلغراف من القصر يطلبون فيه توجيه رامز إلى الأستانة، وأظنهم يحملونه إليها بقطار الليلة.»
فأجفلت توحيدة وندمت لأنها فتحت هذا الحديث وخافت أن تسمعه ابنتها، فأرادت تحويله فلم تجد غير الرجوع إلى حديث الرتبة فقالت: «ينبغي أن نشكر لك سعيك في هذه الرتبة.»
فقطع طهماز كلامها قائلا: «وسنشكر فضله أكثر من ذلك متى نجح سعيه في سبيل رامز، لا أظن ذلك يصعب عليه، أين ابنتنا شيرين؟»
قالت: «لا تزال مريضة، وقد مررت بها قبل مجيئي إلى هنا فوجدتها نائمة مشدودة الرأس من صداع طرأ عليها.»
فقال وهو يتناول سيكارة من علبة بين يديه ويقدمها إلى صائب: «طبعا أصابها الصداع من الحزن، ولكن ...»
فقطع صائب كلامه قائلا: «ألا يحق لها أن تحزن والشاب ابن خالتها وقد تعاشرا كالأخوين؟ إني قاسيت كثيرا ومرت بي أحوال عديدة، ومع ذلك فإن أمر رامز أقلق راحتي، مسكين! سأبذل جهدي في التخفيف عنه، وأنا أعد ذلك واجبا علي بالنظر لما لاقيته من مؤانسة سيدي البيك وحضرة هانم أفندي (وأشار إلى توحيدة)، وأود لو أستطيع أن أفعل شيئا يخفف عن شيرين، لأني أشعر بانعطاف خاص نحوها بعد ما آنسته من آدابها ولطفها وحسن تربيتها حفظها الله!»
قال ذلك ومد يده إلى جيبه وأخرج علبة مكسوة بالمخمل المزركش، وقال وهو يفتحها: «وأظن مما ألاقيه من لطفكم أن شيرين تشعر نحوي بمثل ما أشعر به نحوها، فإذا قبلت هذه الهدية مني تحقق ظني، وعندئذ أعد نفسي سعيدا.»
ثم وجه خطابه إلى توحيدة وقال: «لا تستغربي يا سيدتي هذه الجرأة مني، فإن سيدي طهماز بك جرأني على ذلك.» وقدم العلبة مفتوحة إلى توحيدة، فوقع بصرها فيها على قطعة من الحلي على هيئة الطائر، مرصعة بحجارة من الماس والياقوت، يأخذ لمعانها بالبصر، لا يقدرها العارفون بأقل من خمسمائة جنيه. فتناولت العلبة ويدها ترتجف من الارتباك، لعلمها أن شيرين لا يرضيها شيء من ذلك، ولم تعرف بم تجيب، فأجاب طهماز عنها قائلا: «إن شيرين عاقلة، وهي من بنات هذا العصر اللواتي اختبرن وطالعن، فهي لا تجهل مركز صائب بك، وستقبل هديته مع الامتنان»، وتناول العلبة وجعل يتفرس في أحجارها ولمعانها وقال: «أنا أقدم لها هذه الهدية عنك.» قال ذلك ونهض وهو يتهادى في مشيته والعلبة في يده، فتبعته توحيدة وقلبها يختلج خوفا مما تخشى وقوعه على أثر تلك المقابلة.
وكانت شيرين متوسدة الفراش وأذناها مصغيتان لما يدور من الحديث في حجرة الاستقبال فلم تفتها كلمة قيلت هناك، فلما سمعت قول أبيها وعلمت أنه مشى نحو غرفتها ارتعدت فرائصها وغلب عليها الغضب، وودت لو أنهم أعفوها من تلك المقابلة، لكنها ما لبثت أن سمعت سعال والدها بالباب. وأسرعت والدتها أمامه تسترق الخطى نحو سريرها وهي تحسبها نائمة، فإذا بشيرين قد جلست وأخذت تفرك عينيها فقبلتها والدتها وقالت لها: «بم تشعرين الآن يا شيرين؟»
فلم تجبها، لكنها تجلدت وحولت نظرها نحو الباب فرأت أباها داخلا وقد أخرج الحلية المرصعة من العلبة، وتقدم نحوها بلطف لم تعهده فيه من قبل، حتى إذا دنا من السرير تبسم وهو يتجشأ وقدم الحلية إليها قائلا: «كيف تجدين هذا الطائر يا بنية؟ ألا تستلطفينه؟»
فتباعدت شيرين عن الحلية كأنها تخاف أن تلسعها، ولم تجب. فتفرس أبوها في وجهها وهو يضحك وقال: «لا تخافي، إنه لا يعض بل هو حلية ثمينة تليق بعنقك الجميل»، وقربه نحو صدرها.
فتراجعت وهي لا تنظر إليه ودفعت يده عنها بلطف، فقال: «ما بك؟ ألا تزالين مريضة؟»
فسرها سؤاله لأنه فتح لها بابا للكلام فقالت: «نعم يا أبي، إني أشكو صداعا شديدا»، وأظهرت ميلها إلى الرقاد.
فأمسكها بذراعها ليمنعها من النوم وقال: «إذا كنت تشكين صداعا فضعي هذا الطائر على رأسك فإنه يشفيه.» ورفعه إلى رأسها.
فردته وأظهرت التمنع، فأظهر أنه عاتب عليها وقال: «أقدم لك هدية وترفضينها يا شيرين؟!»
فنظرت إليه نظر الاستعطاف وقالت: «إنك أبي وتقدر أن تأمرني بما تريده فأطيعك إلا هذا الأمر، فإني لا طاقة لي به.»
فقال: «لا أظنك فهمت مرادي، إني أقدم لك هدية ثمينة جاءنا بها صديقنا صائب بك.»
قالت وصوتها يرتجف: «إذا كان صديقك قدمها لك فالبسها أنت وأعفني منها.»
قال: «إنها هدية لك وليست لي.»
قالت: «لا أعهد بيني وبينه ما يسوغ له تقديم هدية من هذا النوع.»
قال: «إن الرجل ذو فضل علينا وقد أراد إكرامنا، أيليق بنا أن نرفض إكرامه؟»
قالت: «يمكنك أن تقبل ما يقدمه لك، أما أنا فلا.»
فأظهر الغضب وقال: «أنا أقول لك اقبليها.»
فلم تعد تستطيع صبرا على الكظم، فقالت وقد ارتفع صوتها رغم إرادتها: «لا، لا ... لا يمكنني قبولها يا سيدي.»
وكانت والدتها واقفة وقد تولتها الحيرة، ونظرا إلى لهفتها على ابنتها وأملها في إنقاذ رامز بمساعدة صائب مالت إلى أن تقبل شيرين ما يعرضه عليها أبوها فقالت: «لا تتشبثي برأيك يا شيرين يا حبيبتي، افهمي المقصود أولا ثم قولي ما يبدو لك.»
فالتفتت إلى والدتها لفتة العتاب وقالت: «وأنت أيضا يا أماه؟!» وغصت بريقها وبان الدمع في عينيها، فكان لذلك المنظر وقع شديد على قلب والدتها فسكتت. فعاد أبوها إلى الكلام فقال: «ألا ترينني أطيل صبري عليك وأتلطف في محادثتك؟ أصغ لما أقوله لك، أنا أعلم أنك غاضبة مما أصاب عزيزنا رامزا اليوم، ولكن ...»
فقطعت كلامه ولم تعد تملك حبس نفسها عن البكاء، فأدارت رأسها نحو الحائط وأكبت على ذراعها فوق الوسادة وبكت همسا، لكن والدها عرف بكاءها من اهتزاز كتفيها فغضب لأنها قطعت كلامه بالبكاء وقال: «وتبكين أيضا وأنا أتزلف إليك وأراعي خاطرك؟ تبكين لذكر رامز وهو الذي جر البلاء على نفسه وعلينا وأنا أسعى في ترقيع ما مزقه بطيشه؟ ألا تعلمين أنه أوقع نفسه في غضب البادشاه؟ وأخشى أن يكون أوقعنا معه. وقد وفقت بمعونة الله إلى من ينقذنا من هذه الشرور عند الحاجة، أعني صديقي صائب بك، وهو مع ذلك يعرض علينا مودته فكيف ترفضينه بهذه الفظاظة؟ قومي، اجلسي ...» وأمسكها بذراعها يريد إجلاسها، فانطوت على نفسها وظلت مكبة على ذراعها وقد أغرقت في البكاء.
فالتفت طهماز إلى توحيدة وهز رأسه استنكافا من تصرف ابنته، فوقعت توحيدة في حيرة وخافت الفضيحة فأشارت إلى زوجها إشارة الاستمهال، وأومأت إليه بعينيها أن يخرج ويتركها معها على انفراد فربما استطاعت إقناعها، فتنحى إلى بعض جوانب الغرفة ثم خرج، فعلمت شيرين بخروجه من صوت مشيه ومن سعاله وهو خارج، ثم سمعت والدتها تهمس في أذنها قائلة: «لا يليق يا حبيبتي أن تجيبي أباك على هذه الصورة، ولو علمت ما فعلوه برامز بعد القبض عليه لما ...»
فقطعت كلامها قائلة: «لقد علمت بكل شيء.»
فقالت: «هل علمت أنهم سيأخذونه الليلة إلى الأستانة بأمر من السلطان؟»
قالت: «نعم، وأنا أتوقع أعظم من ذلك.»
قالت: «فتبصري إذن المركز الحرج الذي نحن فيه، وأنا على يقين أننا إذا سايرنا صائب بك فإنه ينقذ رامزا وينقذنا إذا لحقتنا تهمة بسببه. بالله ألا خففت من جفائك وسايرت أباك بحسب الظاهر لنرى ما يكون! قومي قبلي يده وخذي الهدية فإنها لا تقدم ولا تؤخر.»
فرفعت شيرين رأسها عن الوسادة وقد احمرت عيناها كأنها محمومة، وتكسرت أهدابها من فرط البكاء وقالت: «لم أكن أحسبك تصدقين الأكاذيب أو تنخدعين بأقوال المنافقين. وهبي أن الرجل صادق فيما يقول فإني لا أستطيع أن أتصوره ولا أقبل شيئا منه، لا تتعبي نفسك.»
قالت: «أخاف أن تندمي يا شيرين إذا علمت بعدئذ أنه كان في إمكانك أن تنقذي رامزا من الخطر ولم تفعلي.»
فصرت بأسنانها وهي تتنهد وقالت: «لا، لن أندم لأن هذا الرجل الذي يدعي الغيرة علينا وعلى رامز هو الذي رماه في ذلك الفخ.»
فغطت توحيدة فم شيرين بكفها مخافة أن يسمعها أحد، وقالت بصوت ضعيف: «لا نقدر أن نثبت هذه التهمة، وما علينا إلا أن نتبع الكاذب إلى باب الدار.»
فبادرتها قائلة: «كفى يا أماه، إني لم أعد أستطيع صبرا على هذا الجدال، إن موتي وموت رامز أهون علي من قبول هذا الرجل.» قالت ذلك وشرقت بريقها وعادت إلى البكاء.
وبينما هما في ذلك إذ سمعا وقع أقدام طهماز داخلا الغرفة وهو يقول: «اسمعي يا توحيدة إن صائب بك يحب أن يكلم شيرين رأسا، لعلها تقتنع بكلامه.»
فلما سمعت شيرين قوله وثبت عن السرير ووقفت وأسندت يدها إلى إحدى قوائمه وقد حولت وجهها عن باب الغرفة، كأنها تحاذر أن يقع بصرها على ذلك الرجل الذي لا تقدر أن تتخيله.
فأعاد طهماز كلامه قائلا: «إن صائب بك يريد أن يكلم شيرين على انفراد.»
فارتبكت توحيدة من هذا الاقتراح لأنه يخالف العوائد المألوفة، ونظرت إلى زوجها كأنها تستشيره فقال: «دعيهما فربما كان صائب بك أقدر على إقناعها منا، وهو لم يقدم على ذلك طبعا إلا لشدة محبته. وأظن شيرين لا ترفض هذا الطلب مني أيضا.»
أما شيرين فاستجمعت رشدها وتجلدت، وأحست بميل إلى مخاطبة غريمها وهي في تلك الحال من الغضب، لتقول له في وجهه ما تعتقده فيه وتشفي غليلها بتوبيخه وتعنيفه، والتفتت إلى أبيها وقالت: «لا بأس من دخوله.»
كان صائب واقفا بالباب ينتظر الإذن في الدخول، فلما سمع كلام شيرين استبشر كما استبشر أبوها أيضا. ثم خرج أبوها من الغرفة ودخل صائب وهو ينظر إلى شيرين نظر المحب الولهان، ويتشاغل بإصلاح نظارته بإحدى يديه وقد حمل بيده الأخرى العلبة وفيها الحلية المرصعة. فلما دنا منها وهي واقفة بجانب السرير التفتت إليه شزرا وقالت: «ما الذي تريده يا سيدي؟»
فتقدم بلطف كأنه يحاذر أن يدنو منها وقال: «أريد رضاك.»
قالت: «وما الذي يهمك من رضاي؟»
قال: «ذلك كل ما يهمني، فإذا حصلت عليه فقد حصلت على السعادة، وتكونين أنت سعيدة أيضا، بل تكونين أسعد مخلوقة على وجه الأرض.» قال ذلك بنغمة التذلل والتودد.
فقالت: «أية علاقة بين سعادتي وسعادتك؟»
فابتسم وقال: «لأنك إذا رضيت وقبلت هذه الهدية الحقيرة بذلت نفسي في سبيل سعادتك.» وقدم العلبة إليها فتباعدت هي عنه، وخبأت يدها وراء ظهرها وهي تقول: «أنت لا تقدر أن تجعل أحدا سعيدا.»
فاستبشر بذلك التوبيخ وقال: «جربي يا شيرين وانظري، فإنك ترين مني خادما مطيعا أصدع بأوامرك وأكون طوع إرادتك، فأبذل جهدي في كل ما تريدينه.»
فقالت: «أصحيح ما تقول؟»
فسره سؤالها وتأكد رضاها، فقال بلهفة: «أقسم لك أني أفعل ما تريدينه.»
فقالت: «إن غاية ما أريده أن تكون بعيدا عني، فإذا كنت صادقا فيما تقول فانصرف بسلام.»
فنظر إليها نظر العتاب وقال: «أبمثل هذا الجواب تقابلين توددي؟ ثقي يا شيرين أني مفتون بك، لا أدخر وسعا في سبيل نيل رضاك.»
فقطعت كلامه قائلة: «أكان من عظم حبك لي وشغفك بي أنك رميت ذلك الشهم الحر في أعماق السجن؟»
فتحمس عند سماع كلامها وقال: «أنا رميته في السجن؟! أعوذ بالله! أنا رميته؟! إنما رماه طيشه وسوء تدبيره. ولكني مستعد أن أنقذه من الفخ إكراما لعينيك.»
قالت: «تنقذه من الفخ! ومن رماه فيه سواك؟»
فبالغ في الاستغراب وقال: «أنا؟! أنا رميته؟! ارجعي إلى رشدك»، وأظهر الاستخفاف بقولها ليبعد التهمة عنه. وقرب يده والعلبة فيها وقال: «دعي الأوهام عنك وارجعي إلى رشدك واقبلي هذه الهدية، واعلمي أن ذلك الغلام ليس أهلا لك، بل لقد أوشك أن يوقعك في خطر لا ينجيك منه أحد، أوشك أن يجعلك سجينة مثله لتهمة مثل تهمته. ولولاي، ولولا حبك لكنت الآن سجينة مثله، صدقيني يا شيرين أني خدمتك خدمة لا تقدر بالأموال.» قال ذلك والعلبة لا تزال مرفوعة على كفه يقدمها نحوها وهو ينظر في عينيها نظر العاشق المفتون، فاختطفت العلبة من يده ورمتها إلى الأرض وهي تقول: «دعني من هديتك الملطخة بالدم، وقل لي كيف أنقذتني من الهلاك، إن حبل الكذب قصير.»
فشق عليه عملها، ولكنه تجلد والتقط العلبة فوضعها في جيبه وقال: «إني أعذرك لجنونك، ولا أعاملك بالمثل. لكنني أنصح لك أن تصدقيني، صدقيني يا شيرين لقد أنقذتك من الهلاك.»
قالت: «كذبت، إن مثلك لا يستطيع غير إيقاع الناس في المهالك.»
قال: «ولكن الذي يقدر أن يوقع الناس في المهالك يقدر أن يخلص الناس منها»، ومد يده إلى جيبه وأخرج ورقة قبض عليها وقال بلحن التهديد: «اعلمي أن حياتك وموتك في قبضة يدي هذه.»
فضحكت ضحكة الازدراء وقالت: «خسئت! يكفيك تمويها، يكفيك ما ارتكبته بإيقاع ذلك الشاب الحر في أيدي القوم الظالمين، أوقعته بين مخالب الموت لترضي ذلك الطاغية السفاح. قبحكم الله من أشرار! ويل لكم من موقفكم يوم الحساب!» وغصت بريقها على رغم إرادتها، ثم تجلدت وقد أحست بقوة وبسالة لم تشعر بمثلهما من قبل، وحولت وجهها عنه وجعلت تمشي في الغرفة مشية الأسد الظافر.
فأخذ الحنق من صائب مأخذا عظيما وصر بأسنانه، ومد يده وهو قابض بها على تلك الورقة وقال: «لا أراك فهمت ما أقوله لك، قلت إن موتك وحياتك في قبضة يدي هذه، فإذا أطعتني ورجعت إلى رشدك ورضيت بما عرضته عليك كنت سعيدة، وإلا فإني ...»
فقطعت كلامه وقالت: «إنك أقصر باعا مما تشير إليه!»
فتقدم نحوها وقد أخرج تلك الورقة وأمسكها بسبابته وإبهامه حتى ظهرت كلها، وانحنى مظهرا التهكم وقال: «ألا تعرفين هذه الورقة؟»
فلما وقع بصرها عليها علمت أنها من الورق الذي كانت تكاتب به رامزا أحيانا فأجفلت، ولكنها كظمت وقالت: «وما عساها أن تكون؟»
قال: «أنا أقول لك ما هي، هي كتاب منك بخط يدك وجدته بين أوراق ذلك الطائش الغر. أتذكرين ما قلت له فيه؟»
فأوجست خيفة لعلمها أنها كانت تكتب إلى رامز دون حذر وقد يكون فيها ما تؤاخذ عليه، لكنها أدارت رأسها وقالت: «لا أعلم ما بها، ولا يهمني أن أعلم!»
قال: «ألا يهمك إذا كنت قد ذكرت له فيها أنك تعدين بقاء الذات الشاهانية جلالة مولانا أمير المؤمنين مصيبة على الأمة العثمانية؟!»
قالت: «أليس ذلك حقا؟»
قال: «لا أدري، ولكنني أعلم أن وصول هذه الورقة إلى يدي جلالته يجعلك تندمين ساعة لا ينفع الندم، وإذا كنت لم تصدقي ما أقوله فهذا خطك فاقرئيه.» قال ذلك وفتح الورقة فوقع بصرها عليها فعرفت خطها، فلم يبق عندها شك في وقوع الخطر، لكنها ظلت تظهر الاستخفاف.
أما هو فقال: «هل تظنين هذه الورقة لا تحوي غير ما ذكرته لك؟ لو قلت لك فحوى ما بقي منها لتراميت على قدمي تلتمسين كتمان هذا الكتاب؛ لقد ذكرت له أيضا أنك تستغربين صبر الأحرار على بقاء هذا السلطان حيا، فهل في الدنيا ذنب أعظم من هذا؟ هل تجدين سبيلا للإنكار؟»
ثم خفض صوته وقال: «هل تحققت الآن أن حياتك وموتك في قبضة يدي؟» قال ذلك وشمخ بأنفه، ووقف وهو يتوقع أن تترامى شيرين على قدميه كما قال، لكنه رآها لا تزال مستخفة به كأنه لم يقل شيئا، فتقدم نحوها وقال: «ومع ذلك فأنا حتى الساعة أعرض عليك حياتك، أي إني أهبها لك على أن ترجعي عن غيك وتعتذري عما مضى وتعتقدي أني أحبك، وإلا ...»
فحولت وجهها عنه وهي تنظر إليه بطرف عينيها ازدراء، وتمتمت متسائلة: «أعتذر عما مضى؟!» ثم التفتت إليه وقالت: «اسمح لي أن أثبت كذبك قبل كل شيء، لقد تنصلت من أنك ألقيت رامزا في السجن بوشايتك، ولكنك ذكرت الآن أنك أخذت هذه الورقة من بين أوراقه، فكيف حصلت عليها إن لم تكن أنت الواشي به. ثم اعلم أن الحياة ليست هي وحدها غاية الإنسان في دنياه، هل تحسب السعادة بالطعام والشراب أو باكتساب الأموال؟ إذا كنت تعد ذلك سعادة فاعلم أنها سعادة حيوانية رخيصة، وإنما السعادة الحقة سعادة الضمير الحر، سعادة القلب السليم، سعادة النفوس الأبية نفوس طلاب الحرية، ولكنك لم تذق هذه السعادة ولن تذوقها. إنك وأمثالك تحسبون الغرض من الحياة أن تجمعوا الأموال بأية وسيلة، ولهذا تبيعون ضمائركم بالجاسوسية وتخربون البيوت العامرة وتقتلون النفوس البريئة ... لكن تمتعوا ما شئتم واقتلوا من شئتم، فلن يؤثر ذلك في عقيدة الأحرار الصادقين. والآن وقد علمت ذلك فافعل ما تراه، فما أنا بخير ممن سبقوني إلى التضحية والفداء!»
وكانت تتكلم كأنها تخطب في جمهور، أما صائب فكان يسمع كلامها ويهز رأسه تارة ويقلب شفته تارة أخرى، ولسان حاله يقول: «هذا هو الجنون بعينه.»
فلما فرغت من كلامها سكت هنيهة مطرقا وقد أخذته الحيرة، ثم رفع بصره إليها وقال: «أراك تتكلمين كلام أهل الطيش الذين يضيعون أيامهم في الكلام الفارغ، وقد كان يجدر بي بعد ما سمعته منك أن أكتفي برفع أمرك إلى صاحب الأمر، لكنني لا أزال ضنينا بحياتك شفيقا على شبابك إكراما لأبيك ... ولأني أحبك. فأنا أعرض عليك الحياة مرة ثانية، وأجيبك بأن ما ذكرته من الألفاظ الضخمة كالضمير والحرية والنفس الأبية إنما يلجأ إليها أهل الفاقة الذين تضيق دونهم سبل الرزق، فإذا عجزوا عن اكتساب المال عدوا اكتسابه رذيلة! أي فائدة لأصحاب تلك النعوت إن لم يكن لديهم من المال ما يدفعون به الجوع والبرد؟ وما هي الحرية أو ما الفائدة منها لمن خلا جيبه وخوى جوفه؟ هل تجدين بين أولئك الذين يسمون أنفسهم أحرارا من يستطيع أن يعيش من ماله؟ لقد أصبح لفظ حر لقبا لأهل الطيش الأفاقين الذين يضربون في الأرض لخلو أيديهم من المناصب، فيزعمون أنهم تخلوا عن الخدمة رغبة في الحرية، ولكنهم يفعلون ذلك عن عجز، ولو أعطيت لهم المناصب لنبذوا الحرية وركنوا إلى العبودية كما فعل كثيرون منهم كنت سببا لردهم إلى الولاء للذات الشاهانية. ولكن ما لنا ولذلك الآن؟ هذه آخر كلمة أقولها لك ثم يكون دمك على رأسك ... إني أعرض عليك النجاة من خطر الموت، ولا أزال أقول إني أعدك بإنقاذ رامز أيضا، ولا أشترط شيئا غير رضاك بي، وإلا فلا تلومي إلا نفسك!» قال ذلك بلهجة التهديد ثم تحول إلى الباب وهو يتوقع أن تندم فتستوقفه وتباحثه، فلم يسمع منها إلا قولها: «افعل ما بدا لك، وإذا كانت الحياة لا تكون إلا على يدك وأيدي أمثالك فلا حاجة لي بها!»
وهنا عاد إليها مسرعا وهو يشير بيديه إشارة الوعيد والتعنيف، وقال: «تزعمين أنك تحبين رامزا، وها أنت ذي تقتلينه بيدك، قد سنحت لك فرصة لإنقاذه فلم تفعلي!»
فأجابته: «إن حبي رامزا لا دخل لك فيه، وإن رامزا لا يرضى أن تكون حياته منة من جاسوس منافق. وأما أنا فإني أفضل أن يموت رامز وأموت أنا معه ضحية الحرية وقول الحق، ولا نعيش عيشة المتملقين المنافقين. وزد على ذلك أن يدك أقصر من أن تستطيع خيرا، إنك لا تقدر على غير الشر، فانصرف عني ودعني.»
فضحك صائب ضحكة طويلة مغتصبة، وتحول وخرج وهو يردد قولها باستهزاء: «نموت ضحية الحرية وقول الحق! ما شاء الله!» •••
وكان طهماز وامرأته جالسين في حجرة الاستقبال يسمعان ما دار بين شيرين وصائب، وكانا يتوقعان أن تذعن شيرين خوفا، فلما رأيا عنادها قال طهماز: «قبح الله هذه الفتاة! ما أشد جنونها! إذا كانت لا تخاف على حياتها فإننا نخاف على حياتنا بسببها.»
وما خرج صائب حتى خف طهماز إليه وأخذ يستعطفه ويرجوه ألا يعجل بالانتقام، وأن يعذر شيرين على طيشها ويتمهل ريثما يقنعانها. ورفض صائب في بادئ الأمر، وطهماز يبالغ في استعطافه، ثم وعد بأن يصبر يوما أو يومين إكراما لخاطره، وودعه وانصرف وهو ينتفض من شدة الغيظ لما سمعه من شيرين، وكان يتوقع استسلامها له فور اطلاعها على ذلك الكتاب الذي وجده بين أوراق رامز فاحتفظ به ليتخذه ذريعة لإذلالها. فلما رأى جفاءها حدثته نفسه بأن ينتقم منها، لكنه خشي أن يفقدها إلى الأبد، فلما استمهله أبوها ووعده بإقناعها تربص ليرى ما يكون من أمرها.
أما توحيدة فأصبحت لا تعلم ماذا تعمل، وقد لامت ابنتها على ما بدا منها، وصممت على إقناعها بالرجوع عن عنادها، وأشارت على طهماز بأن يعول عليها في إقناع شيرين، وأن يلحق بصائب ليعاود استعطافه والاعتذار إليه، فلبس ثيابه وسار في أثره.
وكانت شيرين بعد أن خرج صائب من غرفتها قد أغلقت الباب بعنف، وأظهرت أنها تلتمس الانفراد والراحة في الفراش، فتركتها والدتها وذهبت إلى غرفتها لتعمل فكرها في حيلة تخترعها لإقناعها.
فلما خلت شيرين إلى نفسها فكرت فيما سمعته ورأته، فتحققت فداحة الخطر عليها وعلى رامز، وأيقنت أنهما مقتولان. وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، وهي ساعة تستولي فيها الوحشة على قلوب البشر كأنهم يشاركون الطبيعة أسفها على فراق الشمس، فتنقبض القلوب وتستوحش النفوس وتتسلط السويداء على العقول فلا يرى الناس من الدنيا إلا وجهها المظلم، فكيف بمن كان في مثل حال شيرين من اليأس، بعد أن قضت نهارها بين جدال وبكاء وحزن وخوف؟
على أن شيرين بعد أن أغلقت غرفتها وجاش الحزن في خاطرها، عادت فتذكرت حبيبها وكيف كان يأتيها في مثل تلك الساعة فيخفف أحزانها ويذهب وحشتها بلطف حديثه، ثم تصورت ما هو فيه من الضيق، وكيف أنه لا يلبث أن يذهب ضحية لذلك الظالم، وقد يسجن ويعذب أو يقتل أو يلقى في البوسفور فيذهب فريسة للأسماك. فلما تصورت ذلك اقشعر بدنها وغلب الحزن عليها ولم تجد ما يفرج كربتها غير البكاء، فأطلقت لنفسها العنان وأخذت تندب سوء حظها وتبكي وتشهق كالطفل، وجعلت تناجي نفسها قائلة: «رامز ... حبيبي رامز، أين أنت الآن يا ترى؟! إنك مسجون، وعما قليل يحملونك إلى يلدز قبر الأحرار ومدفن الحرية ... لا تخف ، لا تبال الموت في سبيل الحق والحرية ... ولكن أيموت رامز؟! أيموت الحر الصادق ويبقى هذا الجاسوس وأصحابه على قيد الحياة؟!»
قالت ذلك وصرت بأسنانها، ووثبت من فراشها وقد أظلمت الغرفة، واتسع مجال الخيال، فتصورت رامزا في ضنك، وأنه لا شك يفكر فيها ويخاف عليها ويخشى أن يحظى صائب بها بعده، فقالت: «لا تخف يا حبيبي، إني ثابتة على ودادك متفانية في حبك، وإن يد ذلك المنافق لأقصر من أن تنال مني شعرة، وأن يحظى مني بنظرة ... لكن آه ما الفائدة من ذلك وأنت في خطر القتل الشنيع؟! ما العمل الآن يا شيرين؟!»
وكانت تقول ذلك وهي تتمشى في الغرفة وقد أصبحت في غفلة عما يحيط بها ونسيت موقفها، ثم أخذت تستجمع قواها فرجعت إلى السرير واستلقت عليه وأطلقت لتصورها العنان، فسمعت وقع خطوات في الدهليز عرفت أنها خطوات أمها، ثم سمعت نقرا على الباب فعلمت أن والدتها تطلب الدخول عليها فتظاهرات بالنوم ولم تجب، فألحت والدتها في قرع الباب خوفا على ابنتها من أن يصيبها إغماء أو أي سوء في وحدتها، فلم تجد شيرين بدا من النهوض، فنهضت وفتحت الباب وهي تتجلد لتخفي ما في نفسها، فدخلت والدتها وفي يدها مصباح وقد بلل الدمع عينيها، فتأثرت شيرين بحنوها وحنانها. وكانت الرابطة بينها وبين والدتها أشد من رابطة سائر البنات بأمهاتهن، لأن شيرين كانت مستودع أسرار تلك الوالدة التعسة التي خانها الحظ وصارت زوجة لذلك الرجل الجاهل، فاحتملت فظاظته وحماقته إكراما لابنتها فربتها أحسن تربية، ولما كبرت اتخذتها صديقة تشتكي إليها همومها ومصائبها، وهي التي سهلت لها الاجتماع برامز، وكانت تسر باجتماعهما وينشرح صدرها لتحابهما، وتعد الأيام ليتم قرانهما. وقد أحبت رامزا محبة الوالدة لولدها، فكان وقوعه في هذه الورطة من أكبر أسباب شقائها، وزاد بلبالها لما علمت - مما دار بين شيرين وصائب - أن ابنتها عرضة لذلك الخطر إلا إذا رجعت عن عنادها ورضيت بصائب مع كرهها له واستنكافها دناءة أخلاقه، ولكن حنو الأمهات غلب عليها فاختارت أهون الشرين لعلمها أن صائبا إذا لم ينل رضاء شيرين وشى بها وعمل على قتلها.
كل هذه الهواجس مرت بخاطر توحيدة في غرفتها بعد ذهاب صائب، وكانت تنوي أن تؤجل مخاطبة شيرين إلى الصباح، لكنها لما تراكمت عليها الهواجس لم تعد تصبر عن رؤيتها لتطمئن عليها ولعلها تستطيع إقناعها بالقبول، وكان زوجها قد غادر البيت فرحا برتبته ليقضي السهرة مع صائب ويطمئنه إلى نيل بغيته.
اختفاء شيرين
لما دخلت توحيدة على ابنتها ابتسمت كل منهما للأخرى تخفيفا عنها والدمع يتقطر من أعينهما، وغلب حنو الوالدة فوضعت المصباح من يدها على نضد هناك وأكبت على ابنتها تضمها إلى صدرها وتقبلها وهي تقول لها: «أين كان هذا البلاء مخبأ لنا؟ قبحك الله يا صائب! قد كنا في نعيم وراحة فأتيت تكدر عيشنا.» ثم رفعت رأسها عن عنق شيرين وقالت: «سامحك الله يا طهماز!» وأمسكت بيد شيرين وأجلستها على المقعد وهي تقول لها: «لا تحزني يا عزيزتي ولا تيأسي، إن الله لا يتركنا.»
فظلت شيرين ساكنة وقد أطرقت وعيناها مغرورقتان بالدمع، فأخرجت توحيدة المنديل من جيبها ومسحت عيني ابنتها وهي تقول: «لا بأس عليك يا حبيبتي! تكلمي فقد خرج أبوك وأتيت أنا لأخفف عنك، ما من علة إلا لها دواء.»
فتنهدت شيرين تنهدا عميقا ولم تجب.
فقالت توحيدة: «إن الأمر صعب، ولكن نجاتك في يدك»، وسكتت وهي تراعي ما يبدو من شيرين فإذا هي لم ترد، على أنها نظرت إلى والدتها بطرف عينها، فقالت توحيدة: «ألا ترين الحق معي يا حبيبتي؟ أليس خلاصك في يدك؟»
فتنهدت شيرين ثانية وقالت: «إذا كنت تعنين خلاصي من الموت فنعم.» فقالت: «إذن فافعلي، ارجعي عن عزمك وقولي كلمة فتنقذي حياتك وحياة رامز أيضا.»
فقالت: «ولكن إذا رضيت أنا بإنقاذه على هذه الصورة - لا سمح الله - فإنه لا يرضى.»
فاستبشرت بقرب رضاها فقالت: «أما رامز فأنا أضمن أنه يرضى. ولست أعني أن تقبلي ما عرضه صائب على طول الخط، بل أعني أن نسايره ونعده ريثما نرى ما يكون من أمره ... فإذا أنقذ رامزا فليفعل رامز به ما يشاء، ونكون نحن قد نجونا من الخطر الذي يهددنا به.»
فقالت وهي تهز رأسها هزة الإنكار: «كلا، وإن رضي رامز بذلك فأنا لا أرضى.»
قالت: «بالله عليك أشفقي على والدتك إذا كنت لا تشفقين على شبابك، إن هؤلاء القوم لا يخافون الله، فدعينا نخادعهم مرة واحدة التماسا لحياتك وحياة حبيبنا رامز وحياتي.»
فتململت شيرين وبلعت ريقها كأنها تهم أن تقول شيئا وتمسك نفسها، فعادت توحيدة إلى الكلام قائلة: «شيرين، قولي إنك أصغيت لتوسلي.»
فقالت: «دعيني الآن يا أماه، إني لا أملك نفسي.»
قالت: «سأتركك لتفكري في الأمر الليلة، وأرجو أن تتحققي صواب رأيي وتطيعيني، وسأعود إليك في الغد إن شاء الله. هل آتيك بالطعام؟ إنك لم تأكلي شيئا اليوم!»
فأشارت برأسها ألا حاجة لها إلى طعام، ولكن أمها ألحت عليها في أن تأكل، فردت قائلة: «لا أشعر بالجوع الآن، وإذا جعت فإني أعرف مكان الطعام.»
فاطمأن بال توحيدة ونهضت وأنهضت شيرين معها، وساعدتها في خلع ثيابها، وبقيت معها حتى أوت إلى فراشها، ثم مضت وقد أنعشها الأمل. •••
نهضت توحيدة في الصباح مبكرة قبل أن ينهض زوجها، وذهبت إلى غرفة شيرين فوجدت الباب مفتوحا وليس في الغرفة أحد، فظنتها في مكان آخر من البيت ولكنها لم تجدها بعد طول البحث، فعادت إلى غرفة شيرين وفكرت في الأمر مليا، فأيقنت أنها غادرت البيت، وذلك لعدم وجود حذائها وثوب خروجها. وفكرت في المكان الذي يمكن أن تذهب إليه، فتذكرت صاحبة لها كانت مستودع أسرارها تسكن على مقربة من بيتهم، فنادت الخادم لترسله يسأل عنها فلم تسمع جوابا فظنته لا يزال نائما، فأسرعت إلى حجرته فوجدتها مفتوحة وليس فيها أحد، فوقعت في حيرة وترقرق الدمع في عينيها. ولكنها ما زالت ترجو أن تقف على خبرها، فلم تشأ أن تبكي وعادت إلى غرفة شيرين وجلست على المقعد خائرة القوى وأسندت رأسها بين كفيها وأخذت تفكر في خروج ابنتها على تلك الحالة خلسة. وأول خاطر بدا لها أنها هربت خوفا من غضب السلطان عليها إذا علم بكتابها الذي يحتفظ به صائب، وفكرت فلم تجد سببا آخر لفرارها خلسة. ولم تهتد إلى مكانها، فتذكرت الخادم وهو ألباني الأصل متقدم في السن، وقد ربى شيرين في صغرها وكان يتفانى في سبيل مرضاتها. وهو نشيط همام يحب الحرية ويكره أهل الاستبداد، وكان يزداد احتراما لشيرين وتفانيا في خدمتها كلما رآها تحب الأحرار وتخدم مصلحتهم، فظنت توحيدة أنه أغرى شيرين بالفرار إلى بلده.
على أنها لم تجد باعثا على فرارها دون استشارتها. وبينما هي في حيرتها إذ سمعت سعال زوجها وهو خارج من غرفته، ثم رأته وعليه لباس النوم وقد انتفش شعر رأسه ولحيته، وحمل على كتفيه منشفة واتجه نحو المغسل وهو يحك رأسه ويفرك عينيه. فلم تشأ أن تباغته، لكنها سمعته ينادي الخادم ويلح في المناداة، فتقدمت نحوه وقالت: «إن خريستو ليس هنا.»
فالتفت إليها وقال: «إلى أين أرسلتموه في هذا الصباح؟»
قالت: «لم نرسله إلى مكان، ولكن شيرين أيضا ...» وغصت بريقها وبكت.
فاستغرب بكاءها وقال: «ما بالك تبكين؟ ماذا فعلت شيرين؟ إنها لا تزال تتعبنا بأعمالها وعنادها.»
فتجلدت توحيدة وقالت: «شيرين ليست هنا، ولا أدري إلى أين ذهبت!» وكانت تتوقع أن يشاركها طهماز الدهش والحيرة، فإذا هو تحول إلى الصنبور وأخذ يعالج الصابون ليغسل وجهه وهو يقول: «ولا أنا أدري، يظهر أنها توجهت إلى بعض صواحبها اللواتي يوافقنها على التحدث بالحرية والطعن في السلطان وأعوانه ... إنها سترمينا في ورطة لا خلاص لها منها.» وأخذ في غسل وجهه كأن الأمر لا يهمه، فخفف استخفافه هذا بغياب ابنته دهشة توحيدة، وظنت نفسها مبالغة في الخوف، فقد تكون شيرين في زيارة بعض صواحبها كما قال. على أنها لم يطل صبرها على هذا الاعتقاد، فعادت إلى الوجل وأحبت أن تبعث من يفتش عنها في مظانها، وليس عندهم أحد، ولم تجسر أن تطلب إلى زوجها أن يذهب بنفسه فأخذت تستعد للذهاب فلبست ثيابها، ولم تقل شيئا حتى فرغت من اللبس. وكان طهماز قد فرغ من غسل وجهه، وهي تعلم أنه سيطلب القهوة ثم الطعام فإذا وافقته ضاع الوقت، فغافلته وخرجت إلى الأماكن التي تظن شيرين ذهبت إليها وهي قريبة من المنزل، فغابت نصف ساعة ثم عادت دون أن تقف لها على خبر هناك، فوجدت زوجها قد صنع القهوة لنفسه وأخذ في لبس ثيابه.
فقالت: «ذهبت للبحث عن شيرين عند صواحبها فلم أجدها.»
فقال: «ستجدينها بعد قليل، ولكن يظهر من ذهابها مع خريستو أنها هربت، وكم من مرة أردت إخراج هذا اللعين من بيتنا وأنت لا تريدين! إنه من أسباب تمسك شيرين بعنادها ومتابعة أولئك الأغرار الذين يسمون أنفسهم أحرارا، لأنه من أهل ذلك الجنون أيضا. إذا كنت تظنين شيرين قد هربت فلا حيلة لنا فيها ولا ذنب لنا، لأننا نصحنا لها وكدنا نقبل يدها لترجع عن غيها وتوافق على طلب صائب بك لتنجو وتنجينا من الخطر، لكنها لم ترض. وها قد هربت وتركت الخطر محدقا بنا، فالحكومة إذا طلبتها ولم تجدها سوف تتهمنا، وأخاف أن يكون صائب بك قد دفع كتابها إلى ناظم بك رغم التماسنا ألا يفعل.»
قال ذلك وهو يلبس ثيابه وتوحيدة واقفة بباب الغرفة مطرقة لا تدري ما تقول، ولما ذكر صائبا وكتاب شيرين خافت أن يصح قول طهماز ويكون صائب قد بعث بالكتاب إلى أولي الأمر غيظا من شيرين، فقالت: «صدقت، إني أخاف أن يفعل صائب بك ذلك، فما العمل؟»
قال: «لقد وعدني أمس بأنه يصبر إلى صباح اليوم، فإذا لم ترض شيرين بعث بالكتاب. وتواعدنا على أن يأتي إلينا في الصباح، فلا يلبث أن يكون هنا. أعدي لنا الفطور.»
فنهضت إلى المطبخ وأخذت في إعداد الطعام وركبتاها ترتجفان من شدة التأثر، وتعجبت كيف يخطر لزوجها أن يطلب الأكل وهم في تلك الحال من الاضطراب!
وبعد ساعة سمعت توحيدة قرقعة مركبة تقف بجانب البيت فعلمت أنها مركبة صائب، فأخذتها الرعدة غير أنها تشاغلت بإعداد المائدة ريثما يدخل، ثم سمعت وقع خطواته وطرق عصاه على السلم، وما لبث أن صار في الدار ووضع عصاه على الحامل، وخف طهماز لاستقباله وهو يهش له. فتصافحا ودخلا حجرة الاستقبال وصائب يمشي مرحا مشية الظافر، ويتكلف التواضع والتلطف. وجاءت توحيدة بعد قليل للسلام عليه، فلحظ دمعا في عينيها فسأل عن السبب، فقال له طهماز: «لا شيء، ولكننا أصبحنا اليوم فلم نجد شيرين في البيت فاضطرب بالنا قلقا عليها.»
فأجفل صائب، وكان أول شيء خطر بباله أنها هربت فصاح: «إلى أين تهرب؟!» ونهض كأنه يهم بالخروج وقد بدا الغضب في عينيه، فاستوقفه طهماز قائلا: «تهرب؟ لا نظنها تفعل ذلك، إنها لا تلبث أن ترجع إلينا. أفرض أنها اختبأت عند بعض صواحبها يوما أو يومين ثم ...»
فابتدره صائب قائلا: «كيف تذهب وحدها؟!»
قال: «يظهر أنها ذهبت مع خريستو الخادم، لأننا لم نجده في البيت.»
فجلس وهو يهز رأسه مهددا وقال: «مع خريستو الألباني؟ ها ها ...» وأخذ يفتل شاربيه ويعمل فكرته، ثم أخرج علبة السجائر وأخذ سيكارة فأسرعت توحيدة إلى إشعالها بعود من الكبريت قدمته له ويدها ترتجف، فأشعل سيجارته وأخذ في تدخينها وهو ينظر إلى صورة معلقة بالحائط كأنه يتشاغل عن الغضب الذي تولاه، فابتدرته توحيدة قائلة: «إن شيرين لا يمكن أن تهرب يا سيدي، لعلها عند بعض صواحبها، وإن كانت لم تفعل ذلك من قبل.»
فقال: «وكيف تهرب؟ إننا نسد الطرق دونها. وإذا هربت فإنها تطلب مناستير أو غيرها، أو لعلها تذهب إلى رسنة لأن لكم أهلا بها. ولو أنها فرت مع خادمها إلى ألبانيا بلده فإنها تحمل إلينا صاغرة.»
فصاحت توحيدة بلهجة الاستعطاف: «أتوسل إليك يا سيدي أن تساعدنا في استرجاعها!»
فقال: «ولكني لا أستطيع ذلك إلا إذا أبلغت الحكومة ذنبها، فتبعث الرسائل البرقية إلى محطات السكك الحديدية للقبض عليها.»
قالت: «لا، لا يا سيدي، ليس هذا ما نطلبه، وأخاف حينئذ أن نقع نحن فيما هو شر من ذلك، وأنت لا ترضى أن تلحق بنا هذا الأذى إذ لا ذنب لنا، ولا لشيرين أيضا فإنها مغرورة. ولو صبرنا عليها يوما أو يومين وأخذناها بالتؤدة لانصاعت إلى ما نريد، ولكننا تعجلنا رضاها وهي في إبان غضبها فلم تطع. ومع ذلك لا أعتقد أنها خرجت من سلانيك، لأنها لم تتعود الخروج من المنزل، فكيف تطلب موناستير أو غيرها؟! فلنصبر هذا اليوم فقط ريثما نبحث عنها في بعض الأماكن التي نظنها توجد فيها، فإذا لم نجدها تباحثنا في الأمر.» قالت ذلك وعيناها تذرفان الدمع وصوتها مختنق، ولم تستطع الوقوف فانصرفت إلى غرفتها.
فلما خلا طهماز إلى صائب قال له: «لا تخف، إنها لا تهرب ... وكيف تهرب ولا نقود عندها؟ إنها سترجع صاغرة مطيعة وتعترف بخطئها، وقد صدقت توحيدة في أننا أخطأنا بمباغتتها وتعجيل رضاها. أنا وعدتك بها وأنا مطالب بوفاء الوعد. قبحها الله! أين تجد أحسن من صائب بك في كل الذين حولنا؟!»
فقال صائب: «لا يهمني الآن رضيت أم لم ترض بعد الذي شهدته من فظاظتها وعنادها، لكنني أصبحت مطالبا ألا أخون ولي نعمتي.»
فأدرك طهماز أنه يشير إلى كتابها الذي عنده، وأنه ينوي تبليغه إلى الحكومة، فقال: «إنك إن بلغت نبأ كتابها إلى الحكومة ولم تجدها وقع غضبها علينا ولا ذنب لنا كما تعلم، فنحن من أشد الناس إخلاصا للذات الشاهانية. فهل تريد أن نؤخذ بذنب سوانا؟!»
قال: «أنت والحق يقال مخلص لأمير المؤمنين، ولو كان الكل مثلك لخلصت البلاد من القلاقل، وستنال المكافأة على إخلاصك، ولا ريب عندي أنك إذا أطعتني وذهبت معي إلى القصر لقيت ما يسرك.»
فبرقت أسارير طهماز إعجابا بنفسه وقال: «إذن فلننتظر يوما أو يومين، ولا بد من ظهور الفتاة بعد أن تكون قد قاست الهوان والعذاب، فترجع عن غيها وتثوب إلى رشدها وتعلم أنك نصحت لها. ولا ينبغي لنا أن نحاسبها على ما فرط منها، فإنها لم تخرج عن كونها امرأة، وهل تحاسب النساء عن أعمالهن وهن ناقصات العقل، ولا سيما في هذا العصر الذي أصبح رجاله لا يحاسبون على غلطهم لشذوذهم عن المألوف؟! إنهم يخرجون على الخليفة ويطلبون قلب الحكومة أليس هذا من الطيش؟ وهل يحاسب المجنون على عمل يعمله؟ فكيف إذا كان فتاة والنساء لم يخلقن إلا للطبخ والخدمة وتربية الأولاد؟! ولكن الزمان تغير، وقانا الله عاقبة أعمالنا!»
فصادق صائب على ما قاله طهماز ووافقه على الانتظار. وكانت المائدة قد أعدت فنهضا للطعام.
رامز في السجن
سيق رامز إلى دار التحقيق بعد القبض عليه في مركبة مقفلة يحرسها اثنان من الضباط، وحملوا معه أوراقه في محفظة كبيرة قد ختموها في غرفته بوجود ناظم بك. فكان وهو في المركبة مستغرقا في تصوراته وقد علم أنه صائر إلى أشد الأخطار، فلم يبال شيئا منها لولا شيرين، لأنها كانت مستقر آماله وينبوع مسراته، يكفيه منها نظرة تودد أو كلمة إعجاب بما يكتبه لكي يستفزه الطرب وتهب فيه الحماسة، فينشط إلى مواصلة الأخذ بناصر الأحرار. وكانت هي التي زادته تمسكا بأذيال الحرية والدفاع عنها، حتى تهور وألقى بنفسه في ذلك الخطر.
وللمرأة روح تبثها في قلب الرجل فتنبه عقله وتثير همته ويصبح طوع إرادتها، يحب ما تحب ويتفانى في سبيل ما يرضيها. فإذا كانت قوية المبدأ سامية الخلق شريفة الإحساس، صعدت به إلى سماء المجد، وأصبح همه التخلق بتلك الأخلاق. وكانت شيرين مفطورة على حب الحرية، فكيف لا يعشقها رامز ويتفانى في نصرتها؟ وكم من قائد يخوض ساحة الوغى ويعرض حياته للخطر، وهو لا يرجو من وراء ذلك إلا ابتسامة أو كلمة إعجاب من حبيبته! وكم من عالم أو كاتب أو جواد أو مصلح يشقى في جهاده التماسا لرضى حبيبة عاقلة فطرت على حب هذه الفضائل! فيا لسعادة الأمة التي تسمو فيها أخلاق المرأة حتى تعشق الفضائل، فتكون عونا للرجل على المبرات أو الحسنات أو السعي في سبيل الحق والحرية! إذ تكون محرضة له تستنهض همته بنظرة أو كلمة. وويل للأمة التي انحطت فيها أخلاق المرأة فاقتصر همها على الأكل والشرب، وانحصرت أحاديثها في الخرافات والأوهام!
قضى رامز مدة الطريق من منزله إلى دار التحقيق وهو غارق في بحار الهواجس، لم تبرح صورة شيرين مخيلته، وتذكر نصيحتها له بألا يستخلص صائبا، فقال في نفسه: «لا بد أن تكون هذه الوشاية منه.» ثم أكبر أن يرتكب صديق مثل هذه الرذيلة.
ولم يتنبه لنفسه إلا وقد وقفت المركبة به وفتح بابها، فنزل وهو يتجلد ويظهر عدم المبالاة. فاستقبله ضابط كان واقفا هناك وأشار إليه أن يمشي في أثره، فتبعه حتى دخل قاعة ناظم بك القومندان.
وكان رامز طويل القامة، جميل الطلعة، متناسب التكوين، وفي عينيه ذكاء ومهابة، حسن الهندام نظيف الثوب، لكنه لم يستطع إصلاح شأنه في ذلك الصباح لأنه نسي نفسه وانصرف بكليته لما هو فيه. فلما دخل قاعة ناظم بك وجده جالسا في صدرها بلباسه العسكري وبين يديه المحفظة المختومة وبجانبه صائب بك، فلما رأى صائبا أجفل وتحقق ظنه، فارتعدت فرائصه من الغيظ لكنه تجلد، فابتدره ناظم بك قائلا: «كيف ترى نفسك يا رامز أفندي؟»
قال: «لا أرى شيئا.» وهز كتفيه ازدراء.
فتصدى صائب للكلام بلطف وهو يظهر الأسف، وقال مخاطبا ناظم بك: «إن رامز أفندي مغشوش في الطريق الذي سار فيه، وإنما أغراه أهل الطيش والخداع، ولا شك عندي في أنه حمل على ما فعله مراعاة لأصدقائه.»
فقال ناظم بك: «كيف يكون كذلك وهذه الأوراق تؤيد أنه خائن، وهذه كتاباته في الجرائد التركية والفرنسية تشهد عليه؟ وأظنك تدافع عنه لأنه من أصدقائك.»
فقال صائب وهو يظهر الاهتمام: «نعم، إن رامزا صديقي لكني أقول الحق، وأنا أعرف أخلاقه فإنه مغرور.» ثم حول خطابه إلى رامز وقال: «أليس كذلك؟»
فهز رأسه بأنفة ورفعة وقال: «لا.»
فقال ناظم لصائب: «إن هؤلاء الغلمان المتهورين الخارجين على جلالة السلطان ينبغي أن نجتث أرومتهم، ونعلمهم كيف تكون عاقبة الخائنين.»
وهم أن يأمر بأخذ رامز إلى السجن، فوقف صائب وأظهر أنه يبذل وسعه في الدفاع عن صديقه رامز، وقال: «تمهل يا سيدي، إني أعرف رامزا من الصغر، وكنا معا في المدرسة. إنه مغتر، ومن غروره إنكاره ذلك بين يديك.»
ثم تحول نحو رامز وقال: «لا يغرنك الغلمان الذين يزعمون أنهم ينصرون الحرية فإنهم إنما يطلبون وظيفة، ومتى حصلوا عليها تركوك في الخطر ، وقد سبق أن خدعوا كثيرين من أمثالك ثم رجعوا إلى صوابهم ونالوا رضى الذات الشاهانية وتنعموا بخيراتها. والمطلوب أن نعرف الأشرار الأصليين الذين يحركون هذه الشرور، وهم قليلون وأكثر الذين معهم مغشوشون مثلك. فأنت الآن إذا دللتنا على رؤساء هذه العصابة التي تسمي نفسها جمعية الاتحاد والترقي أو دللتنا على محل اجتماعها فقط؛ فأنا كفيل بإطلاق سراحك، وأحفظ هذه المحفظة بما فيها من الأوراق، وأضمن لك مكافأة عظيمة بالرتب السنية والرواتب العلية.» ثم بلع ريقه وتشاغل لحظة ليرى ما يبدو في أثنائها من رامز، فلما وجده ساكتا مطرقا خيل له قرب قبوله، فعاد إلى الكلام فقال: «واعلم أنه لا يمكن أن يعجزنا الوصول إلى سر هذه العصابة ومكانها من أحد أعضائها، فلا بد من أن يعضهم الجوع ويتعبوا من مناطحة الصخر فيرجعوا إلى مراضاة مولاهم ومولانا جلالة أمير المؤمنين، كما فعل الذين سبقوهم في باريس وجنيف ومصر وغيرهم، ولا بد أن ينال المكافأة الكبرى من يبلغ خبر هذه الجمعية، ويقع الغضب على الباقين. فكن أنت ذلك المبلغ ونحن نوافقك على إخراج من شئت من الأعضاء الذين تعتقد أنهم مخدوعون مثلك. يكفي أن تخبرنا عن المكان الذي يجتمع فيه أولئك العصاة الخوارج.»
وكان ناظم بك يسمع كلام صائب وعيناه تراعي رامزا وما يبدو منه، واستبشر حين طال سكوته. فلما فرغ صائب من كلامه رفع رامز بصره إليه وقال: «إن عزة النفس والحرية الشخصية وشرف القول ألفاظ لا معنى لها عندك ولا تقدر أن تتصورها، فالكلام معك عبث. أنا لست مغرورا، وليس رفاقي مغرورين، وإنما المغرورون أنتم الذين تبيعون وطنكم وتسوقون أهله إلى الخراب طمعا في المال. فإذا كان عندك كلام مفيد غير هذا فقل وإلا فافعلوا بي ما تشاءون.»
فرجع صائب وهو يهز رأسه استغرابا وجلس على كرسيه، وتناول ناظم بك الكلام قائلا: «إن صائبا أخلص لك النصح ... فكيف تخاطبه بهذا الأسلوب؟ إن غاية ما يطلب منا أن نرسلك مغلولا إلى الأستانة مع هذه الأوراق، وأنت تعلم مصيرك. لكن صائبا بك أراد أن ينجيك، فعرض عليك هذا الأمر فأجبته بكلام قبيح تستوجب عليه القصاص.»
قال: «لا حاجة لي بنصحه فافعل ما تشاء.»
قال: «خذوه إلى السجن.»
فمشى رامز بقدم ثابتة وهو لا يبالي. وبعد انصرافه اتفق صائب وناظم على إرسال تلغراف إلى القصر بخبر القبض على أحد أعضاء الجمعية وضبط أوراقه، والسؤال عما يجب أن يفعلوا به.
الأستانة
كانت الأستانة دار الخلافة ومصدر متاعب الأحرار ومرجع آمالهم، وفيها قصر يلدز مدفن الأفكار الحرة وبؤرة الجواسيس ومسرح أهل المطامع والأغراض، وقد خصها الله بموقع طبيعي لا مثيل له، لأنها موصلة بين القارتين، ووسط بين البحرين، تمنعها المضايق، وتصونها البواغيز. وكانت في أول أمرها تسمى بيزنطة، ثم سميت القسطنطينية نسبة إلى قسطنطين الأكبر الذي جعلها عاصمة المملكة الرومانية الشرقية سنة 330م.
وهي ثلاثة أقسام: اثنان في أوروبا والثالث في آسيا، كأنها تتجاذب للمعانقة فتحول بينها المياه. أو هي ثلاث مدن برية تفصل بينها ثلاثة أبحر، فالأقسام البرية هي إستانبول في الجنوب، وبك أوغلي أوبيرا في الشمال، وكلاهما في أوروبا، وأسكودار في الشرق، وهي في آسيا، يفصل بينها البوسفور في الشمال الشرقي، ومرمرة أو الدردنيل في الجنوب، وقرن الذهب في الغرب الشمالي. تلك هي أقسامها اليوم، أما قبل الفتح العثماني فلم يكن عامرا منها إلا إستانبول التي جعلها العثمانيون مقر حكومتهم، وفيها أبنية الحكومة والمساجد والمدارس، وأكثر سكانها من المسلمين، وفيها أكثر الآثار التاريخية. وكانت بيرا عند الفتح ضاحية يقيم بها بعض الأجانب إذا نزلوا الأستانة، ثم عمرت فصارت بلدا أكثر سكانه من الإفرنج. ويوصل بين إستانبول وبيرا جسران: أحدهما جسر غلطة القديم وهو أقربهما إلى البوسفور، والآخر الجسر الجديد إلى غربيه. أما أسكودار فإنها بلد إسلامي تركي يتفاءل به الأتراك خيرا، لأنهم نزلوه قبل الفتح، ومنه انتقلوا إلى أوروبا ومدوا سلطانهم فيها.
ويمتد البوسفور من الأستانة شمالا إلى البحر الأسود على مسافة 27 كيلومترا، فهي موصل بين البحر الأسود في الشمال وبحر الدردنيل في الجنوب، وعرضه عند مدخله نحو كيلومتر ونصف، وأضيق المسافات فيه عند روملي حصار وأناضول حصار نحو 500 متر، وأوسعها عند بيوك دره فإن المسافة بين الشاطئين هناك 3500 متر. وتتألف هذه المنطقة من قرى متقاربة تمتد على ضفتي البوسفور شرقا وغربا، يهمنا منها مما على شواطئ أوروبا محلة بشكطاش التي فيها يلدز وقصورها وحدائقها.
وفي جنوب الأستانة قرى عدة على شاطئ أوروبا وراء سور إستانبول والبعض الآخر على شاطئ آسيا. وهناك خط آخر بحري تكتنفه القرى من الجانبين في قرن الذهب وهو يعد من الأستانة نفسها. وهي كثيرة الشواطئ عليها الأغراس والأشجار بينها الأبنية، ثم إن هذه الشواطئ سلسلة تلال أو هضاب بينها الأودية. والأستانة نفسها مؤلفة من هضاب تكسوها القصور والجوامع والشوارع، إذا أطل عليها القادم بالبحر رأى تلك الأبنية تتدرج صعودا من الشاطئ إلى قمم الهضاب وتتخللها الحدائق. فإستانبول مثلا مؤلفة من سبع هضاب متصلة العمارة ممتدة على شاطئ قرن الذهب لا تظهر جليا للمتأمل؛ أولاها: تشرف على الدردنيل، وعليها بناية الطوبخانة والسراي القديمة (طوب قبو) وجامع أيا صوفيا وجامع السلطان أحمد. وعلى الهضبة الثانية جامع نوري عثمانية. وعلى الثالثة سراي السر عسكرية وجامع السلطان سليمان أو السليمانية. وعلى الرابعة جامع السلطان محمد الفاتح أو المحمدية. وعلى الخامسة جامع السلطان سليم أو السليمية وحي الأروام المعروف بالفنار، وفيه بطريركية الروم. وعلى السادسة أبنية سراي لكفور عند محطة بلاطه وبعدها. وعلى السابعة جامع أيوب وغيره.
وبين هذه الأبنية كثير من القصور والمنازل والأسواق والبساتين وغيرها وغيرها متلاصقة أو متقاربة، تظهر للناظر إليها من البحر كأنها معرض منضد بعضه فوق بعض على هيئة مدرج. أما بيرا الواقعة تجاه إستانبول على قرن الذهب فمؤلفة من تلال متقاربة، وهكذا أيضا ضفتا البوسفور وشواطئ الدردنيل فإنها تلال متحاذية على الشاطئ، يتراوح طول قاعدة كل منها بين نصف كيلومتر وكيلومترين، وعلوها بين مائة متر وبضع مئات من الأمتار، وأجملها القرى التي على ضفاف البوسفور، فكل منها تبدو أشبه بمعرض من الخمائل والقصور تتدرج بعضها وراء بعض من الشاطئ إلى قمة التل، وبينها بساتين بعضها من الشجر القديم كالسنديان والصنوبر والدلب ونحوها، وقد تقادم عهدها وأهملت فنمت على الفطرة بلا تعهد ولا تقليم فاشتبكت أغصانها وتعانقت، ثم أقيمت بينها قصور متفرقة أو بيوت صغيرة من الخشب سقفها من القرميد، وإنما عمدوا إلى الخشب دون الحجر لأنه أقل كلفة وأبعد عن خطر الزلازل فوقعوا بذلك في خطر الحريق.
فالمتوغل في البوسفور على الباخرة يرى نفسه في بحيرة تحيط بها الهضاب المكسوة بالخمائل والحدائق، بينها الأبنية مختلفة الألوان والأشكال مما يشرح الصدر ويطلق عنان الخيال. وأجمل ما تشاهده من مناظرها قبيل الغروب انعكاس أشعة الشمس عن زجاج النوافذ من منازل الشاطئ الآسيوي لامعة تبهر النظر كأنها منعكسة عن الماس، ثم تحمر فيخيل لك أن النار شبت في الغرف حتى كاد لسان لهيبها يندلع من نوافذها، فإذا غابت الشمس وخيم الظلام ارتسمت السماء على صفحات الماء. والجالس في أي منزل من منازل تلك القرى، سواء أكان على الشاطئ قرب الماء أم في سفح الهضبة أم على قمتها، يشرف على المياه والبواخر تسبح فيها ويرى وراءها التلال المكسوة بالأشجار والأبنية.
وإذا أوغلت في البر وراءها لا يقع نظرك إلا على واد خصيب أو غابة غضة أو جبل مكسو بالأشجار الكثيفة، بينها ينابيع باردة مثل ينابيع لبنان تجرى صافية كالزلال. وقد أقيمت هناك أماكن للنزهة يقصدها الناس ليقضوا الساعات والأيام كما يفعل المصطافون بلبنان في خروجهم إلى الينابيع المشهورة كعين الرمانة وعين حمانا ونبع العسل ونبع اللبن وغيرها، وإن كانت هذه أشد برودة من ينابيع الأستانة إلا أن هذه أجمل منظرا وأكثر خضرة، لأن معظمها يجري في جبال تكسوها أشجار هائلة تعانقت أغصانها وتكاثفت أوراقها حتى تحجب أشعة الشمس، لكنها لا تضيق الصدر لأنها عالية وبين جذوعها منفرجات، وقد تعاظم جرمها لقدم عهدها ويندر أن تكون للإنسان يد في إصلاحها. وهذه الينابيع كثيرة بعضها في شاطئ الأناضول والبعض الآخر في جهات الروملي. وأشهر المياه في الروملي: نبع الكاغدخانة في آخر قرن الذهب، وهو منتزه جميل مساحته عشرات من الأفدنة مكسوة بالأشجار والأعشاب وتجري فيها المياه، فيقصدها الناس زرافات ووحدانا في فصل الربيع. ونبع جرجر، وبالقرب منه نبع خونكار صو، وهو أعلى منه كثيرا لا يمكن الصعود إليه إلا بالمركبات ويصعب تسلقه على الدواب.
فالطبيعة وهبت الأستانة هبات يعز مثالها في مشارق الأرض ومغاربها، ولكن هذه الهبة لم يحسن الحكام استخدامها في عصر روايتنا هذه، فمنازل الأستانة متراصة بعضها وراء بعض تشرف على البحر وعلى ما جاورها من المنازل، ولكن شوارع المدينة ودروبها تكاد تكون خرابا لتقلقل بلاطها وقلة العناية بإصلاحها، فضلا عن ضيقها. وذلك لأن حكام العصر الماضي لم يكن يهمهم إلا منافعهم الشخصية، فكانت منازلهم على أتم نظام وحدائقهم على أجمل ترتيب يتعهدون أشجارها بالتهذيب ويرصفون الطرق بين المساكب بالحصى الملونة على شكل الفسيفساء، وكانوا ينفقون الملايين على بناء منازلهم ومنتزهاتهم ويضنون بالقروش على الأماكن العامة.
أما يلدز فليست قصرا واحدا فخما كما يتبادر إلى الذهن، وإنما هي قصور عدة تتفاوت قدرا وجمالا، متفرقة بين الخمائل والغابات والبساتين والبحيرات على غير نظام. وليس في وصف هذه القصور ما يدهش القارئ، ولكن العبرة بما هنالك من المخبآت الغريبة، فإن البقعة التي أقاموا فيها قصور يلدز واسعة تزيد سعتها على مساحة بلد كبير، أكثرها غابات كثيفة الأشجار، بينها حدائق غناء وبحيرات تجري فيها القوارب، وهي مؤلفة من قسمين كبيرين؛ الحديقة الداخلية والحديقة الخارجية. وليلدز باب خارجي كبير تدخله المركبات إلى بقعة فيها طريقان؛ أحدهما إلى اليسار يؤدي إلى طريق الحديقة الداخلية، والآخر إلى اليمين يؤدي إلى طريق الحديقة الخارجية، وفي كل من الحديقتين قصور وأبنية عدة. فالحديقة الداخلية بستان كبير محاط بسور عال أشبه بأسوار الحصون منه بالحدائق يفصله عن الحديقة الخارجية، ولها باب كبير مذهب يؤدي إلى القصور الداخلية، وهي: قصر المابين الصغير مسكن السلطان، وقصر جيت، وقصر مالطة، وقصر جهان نما، ومعرض الحيوان، وهذه القصور متقاربة كل منها يستطرق إلى الحديقة الداخلية. وفيها بحيرات تجري فيها القوارب ومسارح للطير مؤلفة من عشرات من الغرف مصنوعة من الخشب المزخرف ملاصقة لجدار الحديقة الشرقي ، ولها واجهات من الزجاج ونوافذ من الأسلاك، وبعض الغرف كلها من الزجاج يسرح فيها الحمام كل نوع في غرفة أو بضع غرف متقاربة، وبينها الحمام الأبيض والأسود والمرقط وذوات العرف الطويل أو الذيل العريض وغيرها، ولها في مسارحها مجالس تأوي إليها وتبيض أو تفقس فيها على أبدع نظام. ويلي مسارح الحمام غرف لتربية الأزهار الشتوية التي يضر بها البرد، مصنوعة من الزجاج المضبوط التماسا للدفء. ويلي ذلك أقفاص فيها بنات آوى أو بعض الكلاب الضخمة، وفي بعض جوانب هذه الحديقة إسطبلات للخيل في كل منها موقف لجواد خاص.
وأهم القصور الداخلية في يلدز قصر جهان نما، وهو صغير لكنه غاية في الإتقان يشرف على البوسفور إشرافا رحبا. ويليه قصر جيت، وقد سمي بذلك لأنه مبطن بالأنسجة، بابه خارج باب الحديقة الداخلية لكنه يعد منها لأنه من جملة أبنيتها وقد يدخل إليه من باب سري، وبه معرض للحيوانات فيه أنواع الطيور وغيرها محنطة. ثم قصر جادر، وقصر مالطة، وقصر مراسم في الحديقة الخارجية وهو أجملها كلها وأفخمها، وفيه من التحف ما يعجز القلم عن وصفه. ثم قصر المابين الكبير والجامع الحميدي، ثم المابين الصغير أو مسكن عبد الحميد، وهو أول قصر يستقبله الداخل من باب الحديقة الداخلية إلى يمينه، ويرقى إليه على بضع درجات بسيطة، ومدخله باب اعتيادي يؤدي إلى ردهة صغيرة، ومنها إلى الدهاليز والغرف على غير نظام، وفيها غرف المائدة والاستقبال والكتابة وغيرها. •••
كان أهل الأستانة قد ناموا واستغرقوا في أحلامهم - والأحلام يقظة ثانية يكابد فيها الناس شقاء ثانيا في عالم آخر - وكانت الليلة مقمرة، وقد سطعت أشعة القمر على الأستانة وضواحيها وانعكست على مياه البوسفور فأصبح سطحه كالصحيفة البيضاء لا يخترقه قارب ولا تمخر فيه سفينة، خوفا من غضب رب يلدز الذي أمر الناس ألا يعكروا ماءه ليلا وإلا أرسلهم إلى قاعه جثثا هامدة.
حتى الريح لم تهب في تلك الليلة، فظل سطح البوسفور هادئا لا تتلاطم فيه أمواج ولا يتحرك فيها ساكن، أو لعله شارك أهل الأستانة في رقادهم فإنه كان رفيقا بهم، وقد عاصر أجيالا منهم فلم يمر به جيل أتعس حالا من ذلك الجيل حتى في أقسى أزمنة الاستبداد، شاهد اليونان والرومان والفرس والعرب والأتراك، واخترقه داريوس وقسطنطين ومحمد الفاتح وغيرهم من كبار الرجال، وقطعه الصليبيون في طريقهم إلى الحرب المقدسة، فلم ير بين هؤلاء وأولئك من أشبع جوفه من الجثث كما فعل عبد الحميد.
نام أهل الأستانة وهم ما بين كهل يحرق الأرم أسفا على ما ذهب من شبابه عبثا في معالجة باب الرزق فلم يجد له فيه مدخلا، وسجين يدعو ربه خلسة أن يقتص له من القوم الظالمين، وأرملة أغرق بعلها في مياه البوسفور ضحية الجواسيس، ويتامى يتضورون جوعا ولا ذنب لهم إلا أنهم ولدوا في عصر طاغية لا ينام عن الأذى، تنتابهم المخاوف حتى في الأحلام، فتصور لهم عبد الحميد كالتنين فاغرا فاه أو كالثعبان ينساب بين أسرتهم ينفث سمه في جراحهم.
حتى يلدز، وهي الجنة بأغراسها وقصورها ومياهها، قد صارت نارا بمن ضمتهم من أعداء الإنسانية الذين تغمض عيونهم ولا تنام أفكارهم عن نصب الحبائل، وهكذا يمضي النهار بنوره ويقبل الليل بديجوره، وتتبدل مظاهر الوجود ولا يتغير ما في نفوسهم. فإذا خيم الظلام وسكنت الطبيعة وتجلت هيبتها اتسع مجال الخيال وانقشعت بهرجة النور عن وجه الحقيقة، فيرى العقل من مساوئ النفس ما لا يراه في رابعة النهار، كالسكوت إذا استولى على المكان أسمعك أخفت الأصوات. فالليل بديجوره يكشف لأهل الأرض سيئاتهم ويجسم أعمالهم، فإذا نظروا إلى السماء رأوا نجومها كالعيون المحدقة إليهم تراقب أعمالهم، وكأن النوم يجرد النفوس من الأجساد فتتقايل وتتوالى لا فرق فيها بين الملك والصعلوك والظالم والمظلوم كأنها في حضرة الديان العظيم. إن الظلمة تكشف لأهل الظلم موبقاتهم فيرونها مكبرة في ذلك السكوت المهيب، كأن الطبيعة صامتة غضبا من أعمالهم.
ذلك موقف يريك فضل الحيوان على الإنسان، إن الحيوان لا يؤذي أخاه إلا إذا جاع فيتنازعان على الفريسة، فإذا شبعا تآلفا وتكاتفا. أما الإنسان فكلما زاد شبعا زاد طمعا، وكلما زاد ثروة زاد جشعا، إذا شبع قتل أخاه الجائع ليقال إنه شجاع جريء، وقد يقتل المئات ويستعبد الألوف ليسمي نفسه الحاكم، فيموت هو من التخمة وأخوه بجانبه يموت من الجوع!
وكما نام أهل الأستانة نام أهل يلدز، ناموا ملء جفونهم بعد أن تآمروا وتجسسوا وتخادعوا وتواطئوا على خراب بيت أو تعذيب نفس أو ابتزاز مال. ولو اطمأنت نفوسهم وهدأت ضمائرهم لم يركنوا إلى الأسوار العالية والأبواب الموصدة، يقيمون عليها الحفظة سبعة آلاف رجل من الألبان والشراكسة.
هناك الحدائق الغناء والقصور الزهراء، يعيش من فضلات طعامها ألوف من المتزلفين، وقد أبيح دخولها للدواب تسرح في ساحتها والطيور ترفرف في أكنافها، ولم يمنعوا الأفاعي من الانسياب بين أغراسها ... حتى الحشرات والديدان وأدنى أنواع الحيوان وجدت فيها مقيلا أو مسرحا، ولكن أبوابها أوصدت في وجوه طلاب الرحمة من بني الإنسان.
وهذه القصور التي أنفقت الأموال لتشييدها بغير حساب، وأريقت في سبيل بنيانها وزخرفها الدماء؛ قد أقيم على أبوابها وفي طرقاتها وحول أسوارها ألوف من الرجال الأشداء بأسلحتهم وأفراسهم، وعيونهم كالشهب، وقلوبهم كالرجم، وقد جردوا السيوف وأغمدوا الضمائر، وباعوا الآخرة بالدنيا لحماية رجل واحد، لا تقع العين عليه إلا بعد اختراق الأبواب وتسلق الأسوار، يحسبه غير العارف متمتعا بأشهى ملاذ الحياة وهو محروم مما يتمتع به أحقر رعاياه مع مخاوفهم ومظالمهم ... إنهم ينامون بلا حراس، وإذا خافوا نزحوا وبلاد الله واسعة، أما هو فلا يستطيع نزوحا لأنه يخاف على حياته من كل أحد حتى من أعوانه وحراسه ومن أولاده ونسائه، يخاف من طعامه وشرابه، يخاف من فراشه ووساده، لا يستقر به مضجع ولا يهدأ له بال، ويقضي ليله ساهرا حذرا، وإذا غلبه النعاس توسد كرسيا ونام غرارا يتقلب على أشواك المخاوف.
السلطان عبد الحميد
كذلك كان عبد الحميد سلطان البرين وخاقان البحرين، الذي دانت له الرقاب، وكاد يسيطر حتى على عناصر الطبيعة فإذا غضب غضبت، وإن رضي ابتسمت. على أن ذلك كله لم ينفعه بعد ما ارتكبه من الشطط في تلك السيادة ، وتجاوز بها الحد، فتولاه الخوف والقلق كما كانت حاله في ذلك الليل.
ولو أنك أوتيت المعجزة فاستطعت أن تدخل ذلك القصر الفخم في غفلة من الحراس، ثم أقبلت على مسكنه الخاص في الساعة الثالثة بعد نصف الليل، لعلمت أن أهل تلك القصور قد استغرقوا في نومهم، ولرأيت الحراس الموكلين بالسهر والحذر قد غلب عليهم النعاس أيضا فناموا، ولم يبق أحد ساهرا هناك إلا صاحب ذلك القصر وسيده، الذي أوصدت الأبواب لوقايته وأقيم الجند لحمايته، فإنه ما زال ساهرا يتقلب على كرسي طويل توسده وقد التف بملاءة من الصوف، وأخذ يقرأ تقريرا جاء من بعض جواسيسه فأقلق راحته وحرمه النوم، وقد غلب عليه التعب والأرق وهو يطلب الرقاد ليريح جسمه ويبعد مخاوفه فلا يجد إليه سبيلا.
فلما دقت الساعة الرابعة أطبقت أجفانه وأصبح كالنائم، ولكنه ساهر مستيقظ بما انتابه من الأحلام المزعجة، ففضل اليقظة لأن النور يؤنسه والاستغراق في الأفكار المتضاربة أولى من الذهاب فريسة تلك الأحلام، فعمد إلى كتاب لماكيافلي تعود أن يلهو بقراءته ففتحه وقرأ فيه هنيهة، ثم تركه وخطر له أن يلهو بالنجارة، وعنده في ذلك القصر غرفة فيها كل معدات هذه الصناعة، ولكنه تكاسل.
وظن العلة من الفراش فغادر الكرسي في غرفة المائدة إلى كرسي في غرفة البيانو فلم يجده التغيير نفعا، فرمى الورق من يده ومشى يطلب رقادا في غرفة أخرى، ثم ندم فعاد والتقط تلك الأوراق المتناثرة فجمعها ورتبها واحتفظ بها وضمها إلى صدره، وذهب إلى كرسي آخر في غرفة الكتابة، وطفق يقرأ وهو لا يفهم ما يقرأ لفرط التعب، فغلبه النعاس فنام حتى طلع الفجر، وكأن صياح الديك نبهه فنهض، ودقت الساعة السادسة، ثم سمع صوت المؤذن فخرج للوضوء، فرأى صاحب الوضوء ينتظره فهرع إلى حمامه الخاص وفيه الأجران الرخامية المعرقة بالذهب والحنفيات المذهبة، وأفكاره تائهة. وأدى فرض الصلاة، وعاد إلى التقرير فتأبطه ومشى نحو باب من ذلك القصر يستطرق إلى الحديقة الداخلية، وقد التف بعباءة كستنائية اللون واسعة الأردان تكسو أثوابه.
وهو نحيف الجسم ربعة، أو دون الربعة، لا يزيد طوله على خمس أقدام، عصبي المزاج، وكان في شبابه طلق المحيا مستدير الوجه، فأصبح يومئذ وقد تغيرت سحنته لفرط ما عاناه من بواعث الحذر على حياته، لأنه قاسى عذاب الموت خوفا من الموت، وكابد مرارة الاستعباد رغبة في الاستبداد. فمن عرفه في شبابه ينكره الآن، فقد برز فكاه ووجنتاه وأنفه، وخفت لحيته، وغارت عيناه لارتخاء الجفن العلوي من الشيخوخة، وظهرت غضون وجهه، وتساقط شعر رأسه، فصار يغطي صلعته بطربوش كبير ينزل إلى أذنيه، وقد لبسه في ذلك الصباح فبان امتقاع وجهه من تحته.
وأصبح في شيخوخته سوداوي المزاج، فإذا رأيته تحسبه مثقلا بالهموم ولو كان في أسعد أحواله، فكيف وهو في قلق مقيم مقعد؟!
دخل الحديقة وهو ملتف بالعباءة وقد تأبط ذلك التقرير تحتها. وكانت الشمس قد أطلت من وراء جبال آسيا فأصابت أشعتها أطراف الأغصان، فاستيقظت العصافير وأخذت ترفرف وتزقزق، وابتسمت الأزهار وصفقت الأوراق وسرح الإوز في البحيرة حول القوارب، وتطاير الحمام في أبراجه وأخذ يتداعب، وبسط الطاووس ذيله ومشى في قفصه مرحا مزهوا، وتجاوبت الكراكي والحساسين وصهلت الخيول. وأصبح كل حي في تلك الحديقة ضاحكا مسرورا إلا عبد الحميد، فإنه مشى في أكنافها مقطب الوجه منقبض النفس في غفلة عن كل ذلك، والقهوجي باشي يسير في أثره ومعه أدوات القهوة لعل سيده يطلبها. ولم يكن هناك سواهما، مع كثرة من في تلك القصور من النساء والرجال، وعددهم يزيد على خمسة آلاف، لكنهم لا يجسرون على الظهور في حضرته إلا بطلبه، على أنهم كانوا يتشوفون إليه من النوافذ يراقبون حركاته خلسة. •••
جال السلطان عبد الحميد في الحديقة هنيهة، ثم مضى إلى كشك من الخشب بجانب البحيرة وجلس على مقعد فوق وسادة من الحرير، وأشار إلى القهوجي باشي أن يهيئ له القهوة، ثم تناولها وهو يعمل فكره فيما قرأه، وإذا هو يسمع ضحكا عرف من طوله وإطلاقه أنه ضحك ابنه أحمد نور الدين أفندي، وهو يومئذ في السابعة من عمره، وليس هناك من يجرؤ على الضحك في حضرة البادشاه سواه. فالتفت إلى جهة الصوت فرأى الغلام يلاعب ببغاء جميل اللون بين يدي مربيته ويضحك ابتهاجا بذلك.
والتفت عبد الحميد إلى المربية وأومأ إليها أن تعيد الببغاء إلى قفصه.
ولم تكن المربية عالمة بوجود السلطان هناك، فتركت الغلام مسترسلا في ملاعبة الببغاء، وما لبثت أن سمعت نحنحة السلطان فأجفلت وهمت بالفرار، لكنها سمعته يناديها فتجلدت وقادت الغلام إلى الكشك لتعتذر من جرأتها بوجوده معها، فأفلت الغلام من يدها، وأسرع بدالة الطفل إلى أبيه ورمى نفسه عليه، فاستقبله أبوه وقبله وأراد أن يخفف ما به بمحادثته، فأقعده على حجره وسأله عن سبب قدومه إلى الحديقة في تلك الساعة.
قال الغلام: «جئت لأكلم الببغاء!» وضحك بسذاجة وأشار إلى الببغاء في يد المربية الواقفة في الخارج، وكان قلبها يختلج خوفا من غضب السلطان لئلا يظن بها سوءا فيقتلها، وقد عرفت كثيرا من أمثال هذه الفظائع في يلدز: يقتل فيها الرجل أو المرأة بطلق ناري من يد عبد الحميد لمجرد التوهم أنه جاء بدسيسة. فظلت واقفة في الخارج وودت لو أن الأرض تبتلعها وتخفيها، ولولا علمها بأن عبد الحميد يكون في مثل ذلك الوقت منزويا في مكتبه يقرأ التقارير ما رافقت الغلام إلى الحديقة.
فلما أشار الغلام إلى الببغاء التفت أبوه إلى المربية وأومأ إليها أن تعيد الطير إلى قفصه، وكان قفصه معلقا بشجرة من الدلب قريبة من الكشك، فما صدقت أنه أمرها بذلك حتى مشت إلى أحد البستانيين فأعانها على إدخال الببغاء إلى القفص، وانزوت في بعض جوانب الحديقة.
وأخذ عبد الحميد في مداعبة ابنه فقال له: «أتحب الببغاء كثيرا يا نور الدين؟»
قال: «نعم يا بابا.»
فقال السلطان: «تحبه أكثر مني؟»
فاهتم الغلام بذلك السؤال رغم طفولته، لأن تعظيم شخص عبد الحميد كان قاعدة متبعة يتدارسها الكبار والصغار، ولعله آنس في عيني أبيه ما بعثه على الاهتمام، فقال: «العفو أفندم، لا ينبغي أن نحب أحدا في الدنيا أكثر من الذات الشاهانية.»
فأدرك عبد الحميد أن مثل هذه العبارة لا يقولها الغلام من عند نفسه، فقال له: «ومن علمك ذلك؟»
فخاف الغلام أن يكون قد أخطأ فبدا الخوف في وجهه مع التردد ولم يدر بماذا يجيب، فضحك أبوه تشجيعا له على الكلام، فقال الغلام: «علمتني إياه قادين ج الوصيفة.»
فبدا الغضب في وجه عبد الحميد عند سماع ذلك الاسم، وتمتم قائلا: «إنها تحتال في استرضائي، يا لها من خائنة! وتظن هذه الحيلة تنطلي علي.» ثم تجاهل وعاد إلى مداعبة ابنه، فأخرج من جيب عباءته سبحة دفعها إليه وجعل يلاعبه بها ويداعبه، والغلام يضحك وأبوه يتضاحك ويتلاهى. فتحرك الغلام حركة أوقعت التقرير من حجر السلطان، فحاول أن يلتقطه فاضطر لذلك أن ينهض من مقعده فتحول وجهه نحو الببغاء في القفص، فرأى أن يعود إلى مداعبة ابنه فقال: «هل تعطيني الببغاء وتأخذ هذه السجادة الجميلة؟»
قال: «إن الببغاء لك أيضا، ألسنا جميعا ملكا لك تفعل بنا ما تشاء؟»
فعلم أن ذلك الجواب من دروس تلك القادين أيضا فلم يعبأ به، ولكنه أشار إلى بستاني أن يأتي بقفص الببغاء بين يديه، فجاء به ووضعه على مقعد خارج الكشك، فخرج الغلام وطفق يكلم الببغاء وهذا يقلد كلامه. وشغل عبد الحميد باختلاس النظر إلى ما يحيط به، فرأى نادر أغا - رئيس الخصيان وصاحب النفوذ الأكبر في تلك القصور - خارجا من مكان لم يكن يتوقع أن يراه فيه، فلما وقع نظره عليه صاح به بنغمة الآمر المستبد: «نادر أغا! نادر أغا!» فأسرع نادر حتى وقف بين يديه وسلم بالاحترام اللازم والدعاء، فقال له: «من أين أتيت الآن؟»
قال: «من حوالي قصر مولاي.»
قال: «وما الذي كنت تفعله؟»
قال: «كنت ساهرا على راحة مولاي لأني شعرت بما أصابه من الأرق، وليتني أستطيع نفعه بشيء!»
فتحقق عبد الحميد صدق قوله، وكان حسن الظن به ويرى سواد جلده بياضا، وكثيرا ما جعله عينا على حرسه الخاص الموكل بحراسته لأنه كان سيئ الظن بهم. فانبسطت نفس عبد الحميد وأثنى عليه ثم قال: «ادع سر خفية (رئيس الجواسيس ) ليقابلني في القصر ويتناول الفطور معي.» فألقى تحية الاحترام وانصرف.
وهم عبد الحميد بالنهوض وإذا به يسمع صوتا مثل صوته تماما ينادي: «نادر أغا، نادر أغا»، وفيه نغمة الاستبداد مثله، فأجفل وما لبث أن رأى نادر أغا عائدا يكاد يتعثر بساقيه لطولهما، فقال عبد الحميد: «من دعاك؟!»
قال: «ألم يدعني مولاي؟ إني سمعت أمره بأذني.»
وكان نور الدين أفندي واقفا بإزاء قفص الببغاء وقد أغرب في الضحك، فقال له أبوه: «ما يضحكك؟ من دعا نادر أغا؟»
فأشار الغلام إلى الببغاء متوقعا أن يبدو سرور الإعجاب في سحنة أبيه لإتقان الببغاء التقليد، ولكنه رأى عكس ذلك، فبان الغضب في عيني عبد الحميد وصاح: «أخرجوا هذا الطير من قصري أو اقتلوه، فإني لا أطيق أن أسمع صوتا يأمر وينهى غير صوتي.» قال ذلك بلحن الحنق والاستبداد حتى سمعه كل من في الحديقة من الحاشية والنساء والسياس، وتولاهم الرعب من شؤم ذلك النهار الذي ظهر غضب السلطان في أوله، وبادر البستاني فأخذ القفص ومضى به، وتبعه الأمير أحمد نور الدين يتوسل إليه أن يستبقي ذلك الطير، ولم يعد يجرؤ أن يخاطب أباه في شأنه.
ومشى عبد الحميد إلى قصره، ونظر إلى القهوجي نظرة فهم منها أنه يريد التدخين فقدم له سيكارا وبادر إلى إشعاله، فسار وهو يدخن في دهليز يستطرق إلى باب القصر الرئيسي حيث يقف الحرس الألباني بالأسلحة، فمر بين صفوفهم وهم يحيونه التحية العسكرية، وهو يرمقهم خلسة ويلاحظ حركاتهم ويده في جيبه تحت العباءة على المسدس لئلا يكون هناك من يتربص له لقتله فيسبقه هو إلى قتله، وكان من أمهر الناس في الصيد بالمسدس. حتى وصل إلى الباب، وكان نادر أغا واقفا في انتظاره هناك، ففتح له الباب فدخل يطلب غرفة اللبس، ومر بطريقه إليها في ممر قد كسيت جدرانه بالخزائن المملوءة بالتقارير السرية، وفيها ألوف منها جمعت بتوالي السنين. فلما وصل إلى غرفة اللبس ساعده نادر أغا في تبديل ثيابه فلبس «الاستمبولينا» السوداء كالعادة، وسأل نادر أغا: «هل دعوت السر خفية؟»
فقال: «نعم أفندم، هو آت حسب الأمر ومعه بريد الصباح.»
فلما سمع لفظ البريد تذكر التقرير الذي كان معه فتفقده فإذا هو على مائدة هناك. وبعد أن فرغ من اللبس توجه إلى غرفة المائدة، وهي قاعة واسعة في أرضها بساط واحد فيه رسوم جميلة تشبه رسوما مثلها في السقف بألوانها وأشكالها، وفوق البساط مائدة كبيرة تسع حولها عشرين رجلا ونيفا، وفي صدر الغرفة موقد التدفئة من «البورسلين» الأبيض المذهب، عليه حرف
H
مرسوما بالذهب، وتجاه الموقد ساعة كبيرة على نضد متقن الصنعة. ولا تخلو غرفة من غرف ذلك القصر من ساعة وترمومتر وبارومتر، لأن عبد الحميد كان شديد الولع بهذه المقاييس.
وإلى كل من الجانبين خزانة من الخشب الثمين إذا فتحت ظهر أنها بيانو من أعلى طراز، وهي هدية من إمبراطور الألمان.
دخل عبد الحميد غرفة المائدة والتقرير في يده فوضعه على طرف المائدة، وكان الطعام قد أعد على الطرف الآخر منها، وهو بسيط مؤلف من اللبن والبيض وبعض المربات والفاكهة. ونظر إلى الساعة فرأى وقت مجيء رئيس الجواسيس لم يحن بعد، فقام إلى غرفة البيانو حيث بادر نادر أغا إلى فتحها، لعلمه أن سيده يحب العزف على تلك الآلة أحيانا ولا سيما إذا كان قلقا.
فجلس عبد الحميد إلى البيانو والسيكار في يده فوضعه على منفضة بجانبه، وأخذ يوقع لحنا تعود الارتياح إليه، ونادر أغا واقف ينتظر أمره. ثم شعر عبد الحميد بخطوات في الردهة الفاصلة بين تلك الغرفة وباب القصر فأمسك عن العزف والتفت، فأسرع نادر أغا إلى الباب ثم عاد وقال: «إن السر خفية جاء ومعه حقيبة البريد وضعها على النضد في الردهة.»
ثم دخل السر خفية، وهو كهل قصر القامة، فألقى التحية وانحنى إلى الأرض ووقف بالباب، فتبسم عبد الحميد وأشار إليه أن يدخل، فدخل باحترام وهو يتلملم ويتأدب كالعادة المتبعة.
فجلس عبد الحميد إلى المائدة وأشار إليه أن يجلس تجاهه، وأمر نادر أغا بالانصراف وأن يقف في مكانه خادم للمائدة أصم أبكم معين للخدمة في الجلسات السرية التي لا يريد السلطان أن يسمع الخدم شيئا مما يدور فيها، فأتى ذلك الخادم لتقديم ما يلزم للمائدة، والسلطان يخاطبه بما يحتاج إليه بالإشارة.
أما السر خفية فقعد وهو يعلم أن دعوته إلى المائدة شرف عظيم قل من يناله من الأخصاء، وشعر بأن عبد الحميد لم يكرمه إلى هذا الحد إلا لأمر مهم، فلم يتناول من الطعام إلا قليلا وذلك من قبيل التأدب في مثل تلك الحال، وبالغ السلطان في إكرامه فقدم له سيكارا فتناوله ولم يدخنه.
ثم فتح السلطان الحديث وقد بدل سحنته كأن لم يكن به قلق - ومن مزايا عبد الحميد اقتداره العجيب على إخفاء ما به والظهور بالحالة التي يريدها - وقال: «كم ينشرح صدري بمجالسة الأمناء من أعواني!»
فقال: «إننا عبيد مولانا أمير المؤمنين، والأمانة فرض علينا.»
فتناول فنجان اللبن وأدناه من فيه وهو يقول: «نعم، ولكن الأمناء قليلون، وأنت واحد منهم.» ورشف رشفة من الفنجان وأعاده إلى الصحن وقال: «بل أنت موضع ثقتي وعليك المعول في استطلاع دسائس الخوارج من رعيتي وهم كثيرون.»
فقال: «إن أكثر رعايا أمير المؤمنين صادقون في عبوديتهم، وإنما الخائنون شرذمة قليلة قادها فساد التربية إلى الدسائس.»
فقطع عبد الحميد كلامه قائلا: «إنهم كثيرون على ما يظهر»، وأشار بيده إلى التقرير الذي كان يطالعه.
فتناول السر خفية التقرير وهو يقول: «أرى مولاي البادشاه - أيده الله - قد أعار دسائس أولئك الأغرار اهتماما.»
فقال: «هل قرأته؟» وأشار إلى التقرير.
قال: «نعم أفندم.»
قال: «ألم تقرأ ما فيه عن الجمعية التي أنشئوها في دمشق؟ إن العرب ... آه من العرب! قد ذهب إحساني إليهم عبثا!»
قال: «لم يذهب الإحسان عبثا يا سيدي، فقد جاء في هذا التقرير أن بعض الأغرار من أهل دمشق أخذوا في إنشاء جمعية جديدة، ولكن أولئك قليلون لا ينبغي لمولاي أن يعتد بأعمالهم، فكم أنشئوا من الجمعيات السرية! وكم كتبوا ونشروا! لكن توفيق جلالة السلطان غلب كيدهم لأن الله معه.»
فقال: «ألا ترى أنهم اتخذوا في جمعياتهم خطة جديدة ؟»
قال : «أظن جلالة البادشاه يعنى دخول الضباط فيها.»
فكادت تظهر البغتة في وجه عبد الحميد عند ذكر الضباط، ولكنه تجلد وقال: «ألا تظن دخول الضباط في هذه الجمعية يعظم أمرها؟»
قال: «إن العمدة في الجند على العساكر وهم السواد الأعظم، ونحن على ثقة بأنهم يتفانون في الدفاع عن أمير المؤمنين ظل الله على الأرض.»
فأثر ذلك الإطراء في نفس عبد الحميد وقال: «أنا أعلم أن الخونة لا يقوون على شيء طالما كنا على بينة من أغراضهم، لكن لا أكتمك ما يجول في خاطري لأني عظيم الثقة بأمانتك وصداقتك.» قال ذلك وتناول تفاحة وأخذ في تقشيرها، وأشار إليه أن يأخذ تفاحة لنفسه، وقال بصوت خافت: «لا أكتمك اهتمامي بأمر العرب لا سيما أهل الشام، لا أعني أنهم يقدرون على شيء ولكنهم أصحاب أقلام وفيهم همة ولهم يد في أوروبا بما يعرفونه من الألسنة الإفرنجية، وهل نسيت ما كانوا يكتبونه في الصحف الأوروبية من المقالات المحرضة على التمرد والعصيان؟» وسكت.
فقال: «لم أنس ما كان من الضجة التي أحدثوها في أوروبا، ولكنهم غلبوا على أمرهم وسكتوا.»
فابتدره السلطان قائلا: «نعم، سكتوا حينذاك، ولكن حركتهم الأخيرة تختلف عن تلك، إنهم الآن على ما يظهر في هذا التقرير داخلون مدخلا جديدا ليس فيه ضجة، فهم عازمون على إنشاء جمعية يجرون إليها ضباط الجند وهم يدعونهم باسم الأمة العربية ويزعمون أنهم مادة الإسلام وأصله، وربما حدثتهم أنفسهم باسترجاع مجدهم. وقد يستطيعون خداع بعض ضباط جندنا بهذه الحيلة، وإذا فعلوا ذلك ...» وسكت ووضع قطعة من التفاحة في فيه.
فتبسم السر خفية تبسم الاستخفاف وقال: «إذا أذن لي مولاي البادشاه قلت ما يخطر لي وهو ما تدعوني إليه عبوديتي.»
فاستبشر السلطان بشيء جديد يسمعه، وإن لم يفته شيء يخطر ببال محادثه لفرط دهائه وسرعة خاطره وحذره، فأظهر الإصغاء وقال: «قل ما يخطر لك.»
فقال: «هب يا مولاي أن العرب في الشام عزموا على إنشاء جمعية سرية يدخلون فيها ضباط الجيش، لنفرض ذلك ممكنا وأنهم نجحوا - لا سمح الله - وتكاثر عددهم، ففي الإمكان إرجاعهم أو إسكاتهم كما أسكتنا غيرهم قبلهم بالمال أو بالاسترضاء أو بقوة الجند، أو على يد بعض المخلصين للعرش العثماني من عبيد مولانا السلطان، لأنهم في داخل المملكة لا يرجون نصرة أعدائنا دول أوروبا.» قال ذلك وبلع ريقه وبان الاهتمام في وجهه كأنه يكتم شيئا مهما. •••
كان السلطان عبد الحميد يستمع لحديث رئيس الجواسيس متشاغلا بفتات من لب الخبز يعركه بين الإبهام والسبابة، فلما لحظ فيه الاهتمام - بعد أن ذكر دول أوروبا- أدرك ما يشير إليه فقاطعه قائلا: «فهمت مرادك، صدقت، إن العرب لا ينبغي أن نخافهم. هل حدث شيء جديد في سلانيك؟ إن أشقياء هذه المدينة لا يركن إليهم لقربهم من أعدائنا.» وبان الغضب في وجهه، فوقف ومشى نحو الباب، فوقف السر خفية ومشى في أثره، وقد أدرك أنه يقصد حجرة الاستقبال التي جرت العادة أن يقابل فيها كبار موظفيه كالسر خفية والباشكاتب والسر عسكر وغيرهم ليطلع على ما جاء به البريد، فقال السلطان: «اقصص علي ما تعلمه من أمر تلك المدينة الجهنمية، هل أتاك شيء بشأنها؟»
فقال: «أرجو أن نجد شيئا في هذا البريد.»
فدخلا الحجرة، وكان في وسطها منضدة مستديرة عليها غطاء من المخمل المزركش حولها مقعد وكراسي، وليس على جدرانها إلا إطار معلق في صدرها وقد كتب في وسطه بخط جميل هذه الآية:
إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، وتحتها «أمان يا رسول الله.»
وجلس السلطان على المقعد وحقيبة البريد بين يديه على المنضدة وأشار إلى السر خفية أن يقعد، فقعد على كرسي وبادر إلى فض الحقيبة وأخرج منها أوراقا وأغلفة وظرفا، والسلطان يساعده في قراءة العناوين. فأفرد السر خفية ظرفا كبيرا عليه خاتم سلانيك، فتناوله السلطان وهو يقول: «هذا من ناظم بك، إني أتوسم في هذا الشاب خدمة صادقة، ألا تعرفه؟»
قال: «كيف لا؟ إنه حقيقة من العبيد المخلصين للسدة الشاهانية، عرفت ذلك من بعض رجالي الذين بعثت بهم إلى تلك المدينة.»
فقال السلطان وهو يفض ذلك الظرف: «ماذا قال لك رسولك ؟»
قال: «أكد لي صدق خدمة ناظم بك مما يكابده في البحث عن أعضاء تلك الجمعية.»
فلما قال السر خفية ذلك تغير وجه السلطان، وأبرقت عيناه غضبا وقال: «كانت تلك الجمعية الملعونة - التي تسمي نفسها جمعية الاتحاد والترقي - في باريس ضعيفة، ولو لم ينشطها الداماد محمود وأولاده لزال أثرها.»
فقال السر خفية: «قد زال أثرها يا مولاي من وقت طويل، ولكن بلغني أنهم أعادوا الكرة واستأنفوا السعي، ولعل في كتاب ناظم بك ما يكشف الحقيقة.»
وكان السلطان يسمع وعينه على تقرير ناظم بك، ثم وقف بصره على فقرة أخذ يقرؤها ويعيد قراءتها، والسر خفية ساكت ينتظر ما يقوله السلطان، فإذا به يناوله التقرير ويقول: «تحقق ظنك، إنك مجتهد في البحث وقد صدقك مخبرك، خذ واقرأ.»
فتناول السر خفية التقرير وقرأ فيه ما معناه: «إن الجمعية الملعونة التي رفعت إلى أعتاب مولانا البادشاه خبرها على سبيل الظن، قد تحقق لي الآن أنها تألفت وانتظم في سلكها كثيرون من ضباط الجيش وغيرهم، وأنا ساع في كشف أمرها والاطلاع على مكان اجتماعها ... ولكنني علمت من بعض المخبرين أن مثل هذه الجمعية في الشام تضم الضباط أبناء العرب، وأن بعضهم جاء سلانيك للاشتراك في هذه الجريمة، ويقال إنهم اكتفوا بجمعية سلانيك ووضعوا كل قوتهم فيها وغضوا النظر عن دمشق، فإذا وفقنا إلى كشفها قطعنا دابر المفسدين. ولكنني أؤكد لمولاي البادشاه ملجأ الخلافة الأقدس أن عبده ساهر على مصلحة الدولة وخدمة الذات الشاهانية، ولا ألبث أن أكتشف مكايد الخائنين وأطهر الأرض من وجودهم.»
في سبيل الدستور
كان رئيس الجواسيس يقرأ التقرير والسلطان يتشاغل بتقليب السيجار بين أنامله ويدخن بسرعة وبلا نظام، وأدرك رئيس الجواسيس قلقه فقال: «صدق ناظم بك، إن سلانيك أعظم خطرا من سائر مدائن المملكة، وقد عرفت ذلك من قبل فأرسلت إليها رجلا من جواسيسي منذ بضعة أسابيع، وعهدت إليه في البحث والتنقيب عن جمعية جديدة تألفت هناك من ضباط الجيش. وقد عرفت ذلك من بعض الأعوان في دمشق، فقد كتب إلي أحدهم أن بعض المغرورين سافروا من دمشق إلى سلانيك لهذا الغرض، فإذا كانوا قد جمعوا كيدهم كله في سلانيك فسيرتاح بالنا من جهة الشام ونوجه اهتمامنا لمطاردتهم في مركزهم الجديد.»
فقال السلطان: «هل أنت على ثقة من جاسوسك الذي أرسلته إلى سلانيك؟»
قال: «نعم يا مولاي، إنه شاب ذكي اسمه صائب بك، من أشد الأمناء غيرة على الجناب الملوكي الهمايوني. وقد جاءني منه أمس أنه أوشك أن ينجح في كشف خيانة الخائنين.»
فهز عبد الحميد رأسه وقد تولاه الحنق وقال: «ويل للخائنين ناكري الجميل! حتى الجنود تمردوا علي وأنا الذي لم أدخر وسعا في التوسعة عليهم؟! إني سأنتقم منهم شر انتقام!»
فتهيب السر خفية من غضب السلطان وقال: «إن الجنود الشاهانية - كما قلت لمولاي - لا يزالون على ولائهم، وكذلك الضباط كلهم على الولاء إلا نفرا قليلين أغراهم أولئك الخوارج على نبذ الطاعة، وهم يزعمون أنهم يجاهدون في سبيل الدستور.»
فأجفل السلطان من ذكر الدستور وصاح: «الدستور! لماذا يطلبونه؟!»
قال: «إنهم مغرورون يا مولاي. وأنا أعلم أن أمير المؤمنين من أرغب الناس في منح رعاياه الدستور متى رأى فيهم الاستعداد له، ولكن متى كان أهل الشرق يحكمون بالدستور، وقد تكرم جلالة البادشاه فمنحهم إياه فلم يفلحوا ولا عرفوا كيف يستخدمونه؟!»
فسري عن عبد الحميد وقال: «قد أعطيناهم الدستور فأفسدوه، إنهم لا يصلحون له.»
فقال السر خفية: «على أن الدستور يا مولاي يخالف الشرع الشريف، أليس جلالة السلطان خليفة الرسول
صلى الله عليه وسلم
وينبغي أن يقتدي به؟ هل كان الخلفاء الراشدون يحكمون بالدستور؟ إنه من بدع النصارى أهل أوروبا، ولو كان ملكهم خلافة دينية ما سلموا بالدستور ولا عملوا به، ولكن بعض المغرورين اللئام من رعايا جلالة السلطان فسدت طباعهم بمعاشرة الإفرنج فأرادوا أن يقلدوهم في الحكومة كما قلدوهم في اللباس والطعام والسكر والمقامرة، فأغفلوا قواعد الدين الحنيف وعصوا أوامر النبي
صلى الله عليه وسلم
ويريدون أن يعصوا أوامر خليفته فخرجوا عليه و...»
فقطع السلطان كلامه قائلا: «والخوارج الملاعين؟! ما الذي حملهم على الخيانة؟ وما العمل الذي أوجب خروجهم؟ هم يطلبون المناصب ويطمعون في الترضيات المالية وقد تعبت في مرضاتهم. من أين آتيهم بالمناصب التي يطلبونها؟ أمن الإخلاص أنهم إذا جاعوا خرجوا على مولاهم؟!»
فأخذ السر خفية يخفف عنه قائلا: «إن مساعيهم ستعود وبالا عليهم، وما أظنهم إلا نادمين عما قليل. وما هذه أول مرة رجعوا فيها صاغرين، لم يكن فيهم أشد وقاحة من مراد الداغستاني وأنصاره، وقد ندموا ورجعوا فأكرم جلالة السلطان مثواهم وأغدق عليهم النعم. ولعل ملجأ الخلافة أيد الله ملكه قد بالغ في الإحسان إليهم والإصغاء إلى صراخهم، ولو أنه أهملهم واستعمل القسوة في عقابهم لكانوا عبرة لسواهم، ولكنه عاملهم بالرفق والإحسان فطمعوا وتمردوا، وقد آن الوقت الذي يدركون فيه شططهم وخطأهم.»
فابتدره السلطان قائلا: «بل آن الوقت للاقتصاص منهم والفتك بهم.» وصفق فدخل أحد الحجاب فقال له: «ادع الباشكاتب.»
فخرج ولبث السلطان ساكتا وهو يرتعد من الغضب، وتهيب السر خفية من رؤيته في تلك الحال. وبعد قليل دخل الحاجب يستأذن للباشكاتب، فلما أذن له دخل وحيا ووقف، فأومأ إليه السلطان أن يقعد فقعد، فقال له: «اكتب إلى ناظم بك قومندان سلانيك أن يستعمل الدقة في البحث عن الخونة الذين يزعمون أنهم يقفون في سبيل إرادتي الشاهانية بتأليف الجمعيات السرية. اطلب منه أن يستعمل الشدة بأية وسيلة كانت، وليبادر إلى إيفاء الوظيفة الموكولة إليه بما يليق بالشرف العسكري رغبة في صيانة الدولة من الأدران الضارة!»
فقال الباشكاتب: «سمعا وطاعة أفندم. وقد كتبت بأمر مولانا إلى ناظم بك بهذا المعنى أمس.»
فقطع كلامه قائلا: «اكتب أيضا وقل له أن يجرد السيف ويقطع الرقاب ويقتل ويفتك.» قال ذلك وهو ينتفض. وتزحزح من مقعده فنهض الباشكاتب والسر خفية واستأذنا في الانصراف، فأذن للباشكاتب واستبقى السر خفية.
وبعد خروج الباشكاتب ظل السلطان مطرقا دقيقة ريثما هدأ روعه، ثم خاطب السر خفية قائلا: «كيف ترى تحسينا الباشكاتب؟»
قال: «أراه مخلصا يا مولاي.»
فتنهد تنهدا طويلا فهم منه السر خفية ألف معنى، وهو يعلم سوء ظن عبد الحميد بكل أحد، ثم قال: «هب أنه غير مخلص فإني لا أغفل عن كشف أسراره، وقد خصصت له جاسوسا من أنبه رجالي لاستطلاع حقيقته.»
فقال: «أما وقد فهمت مرادي فكفى، إني لا أثق بأحد سواك.» وأحس السر خفية أنه قد آن وقت انصرافه فاستأذن وخرج. •••
نهض عبد الحميد ومشى والغضب ظاهر في وجهه حتى دخل غرفة الكتابة، وفيها كرسي ونضد من الزجاج اصطنعهما للجلوس عليهما إذا تكهرب الجو وخاف وقوع الصواعق، لأن الزجاج لا يوصل الكهرباء. فجلس على الكرسي لحظة بغير تعمد، ثم نهض وتحول نحو منضدة عليها أوراق في محفظة فتذكر التقرير الذي أتاه من الشام، فهرع إلى غرفة المائدة وأخذه وأضافه إلى ألوف التقارير التي ذكرناها في خزائن الدهليز. وكأنه تعب من شدة القلق فتوسد مقعدا من المقاعد التي ينام عليها واستغرق في الأفكار ثم جعل يناجي نفسه قائلا: «تبا لكم من خونة! إنكم لا تخدمون عبد الحميد إلا بالمال، حتى السر خفية نفسه لا يخلص لي وإنما يداهنني رغبة في المال، وأنا أخادعه وأغريه بالآخرين ليطلعني على أسرارهم، وأغريهم به ليطلعوني على سره. لا أخاف غدر هؤلاء وهم بالقرب مني، لأني أملأ قلوبهم بالوعود وجيوبهم بالأموال وأجعل بعضهم على بعض جواسيس، وأقيم السراري عيونا عليهم أجمعين ... إن عبد الحميد أدهى منكم جميعا، فمن شككت فيه قتلته سرا أو جهرا. وإنما أخاف البعيدين الذين يتعذر التجسس على أعمالهم، ولكنني قاهرهم. وهذا الملك لا يخرج من يدي، ولن يخرج إلا إلى بعض أبنائي، أنا السلطان عبد الحميد، أنا وحدي الآمر الناهي، أنا وحدي مالك الرقاب.»
وسكت هنيهة متشاغلا بتأمل رقاص الساعة وهو يتحرك يمنة ويسرة، وأخذ يراجع في ذاكرته ما دار بينه وبين السر خفية، حتى إذا وصل إلى ما دار بينهما بشأن العرب عاد إلى مناجاة نفسه قائلا: «إن السر خفية قلل من أهمية العرب في نظري وظنني صدقته، ولكنني خدعته بسكوتي لئلا أريه مقدار خوفي من أبناء العرب، هل أنسى ما رماني به غانم والكواكبي وأرسلان وغيرهم، وما أنشئوه من الصحف في مصر وباريس وجنيف؟ آه منهم! إني أخافهم لأنهم أكثر عددا في مملكتي من سائر العناصر، وفيهم كتاب في أكثر اللغات الإفرنجية، وهم يكتبون في جرائد أوروبا ويجتمعون بدول أوروبا، ولا يسهل علينا إسكاتهم، هذا شأن المسيحيين منهم، فهم لا يقلون أهمية في نظري عن الأرمن الملاعين. على أن هؤلاء قد سحقتهم وقتلتهم وسبيلي إليهم سهل، وأما العرب فالمسيحيون منهم تحميهم الدول، أما المسلمون فإنهم أصل الإسلام ومادته، ولا يزالون حتى الساعة ينكرون علينا حق الخلافة لأننا غير عرب، فكيف لا نخشى بأسهم؟ إن هؤلاء المتملقين يموهون الحقائق، غير عالمين أني أموه عليهم وأظهر أني صدقتهم، ولولا ذلك ما قربت عزت وأبا الهدى وغيرهما من المشايخ الذين يتوهمون أنهم يخدعونني، وما يخدعون إلا أنفسهم.»
وتنحنح ومد يده إلى علبة السيكار فأشعل سيكارا وعاد إلى المناجاة قائلا: «هم يحسبون أنهم يحتالون في التقرب منى ليكتسبوا المال والجاه، وأنا لا غنى لي عنهم لتوازن الأحزاب والعناصر، ولكني مع ذلك أخافهم ولا أثق بهم.»
ثم خطر له أن يطلب الرقاد في سريره فنهض ومشى إلى غرفة النوم، فمر بالحجرة التي تستطرق إلى دار الحريم من باب كله مرآة وهم بفتحه، فوقع نظره على صورته فيه فوقف يتأمل سحنته ويصلح من شأنه. وكان شديد الرغبة في مظاهر الشباب، يستخدم في ذلك الخضاب والتزجيج والتخطيط، وكان لرغبته في الحياة ينكر على نفسه الاقتراب من الشيخوخة ويلتمس تعليلا لما في وجهه من غضون حتى لا يعترف بأنه صار شيخا.
وفيما هو ينظر في المرآة وقعت عينه على صورة زيتية معلقة بجانب ذلك الباب تمثل قاربا عند الشاطئ، وقد وقف فيه نحو عشرة رجال عليهم ألبسة سوداء وقبعات سوداء يقرب شكلها مما يلبسه الرهبان اليسوعيون، وفي يدي كل منهم آلة موسيقية كالناي أو العود أو المزمار يعزف عليها، وهم جميعا في حال عربدة أو سكر، وأمامهم على الشاطئ نحو عشر نساء عاريات يرقصن أو يتخالعن. وهي صورة أهداها إلى عبد الحميد بعض المتملقين، وفيها يظهر مدحت ورجاله الأحرار بما يحقر دعواهم، ويدل على أنهم يتظاهرون بطلب الحرية والدستور تمويها على العقول، وهم في الحقيقة يريدون الخروج على الآداب الدينية والاقتداء بالنصارى في خلاعتهم وسكرهم!
فلما وقع نظره على تلك الصورة حرق أسنانه وهز رأسه وتضاحك مستهزئا، وقال كأنه يخاطب مدحت: «أتطلب الدستور؟! ما هو الدستور؟ أتريد أن تقيد إرادتي ليسمع في الدولة صوت غير صوتي؟ ... لا، لا ينبغي أن يسمع غير هذا الصوت، هكذا كان عمي وأبي وهكذا ينبغي أن أكون أنا. أغرك ما قدرت عليه أنت وأعوانك حتى خلعتم عمي رغبة في الدستور؟ الدستور؟! إنني أنا الدستور، وإرادتي هي الشريعة، وقد نلت جزاء غرورك، مت واشبع موتا! آه لو أستطيع أن أميتك ثانية! وهكذا سأفعل بمن يقولون قولك ويسعون سعيك، سأسحقهم سحقا وأقتلهم قتلا!»
قال ذلك ودخل دار الحريم يطلب الرقاد للراحة وهو ينتفض من الغيظ، وقد توسط النهار ولم يشته الطعام لفرط ما حل به من هياج العواطف المتضاربة بين الغضب والخوف والرجاء واليأس والانتقام. •••
ما كاد عبد الحميد يدخل دار الحريم حتى سكن ما كان فيها من حركة الجواري والخصيان، فاستولى عليها الصمت والجمود ولا سيما أنه كان قلما يدخل تلك الدار في مثل تلك الساعة، لأنها ساعة قراءة التقارير في القصر الصغير.
وكان نادر أغا أول من خف لاستقباله، فوقف له باحترام وألقى السلام وقد توسم الاضطراب والغضب في عينيه، ولم يكن يفوته شيء من أحواله لما علمت من تقربه ودخوله في كل أمر لموقعه من نفس عبد الحميد، ولعله أكثر ثقة فيه من سائر المحيطين به.
ووقف نادر أغا ينتظر إشارة البادشاه إلى ما يطلبه أو يختاره من غرف الجواري فإذا هو قد سار إلى غرفة الرقاد، فأسرع نادر أغا لخدمته فيما قد يحتاج إليه هناك فأومأ إليه أن يتركه وحده، فانصرف وقد أدرك مقدار ما في نفس عبد الحميد من القلق.
توسد عبد الحميد سريره في غرفة أغلق بابها من الداخل بيده، وأخرج المسدس من جيبه ووضعه تحت الوسادة كأنه في الصحراء على موعد من هجوم أهل البادية عليه! وكان رغم ما يظهره من الثقة بأعوانه ورجاله يخاف كلا منهم، وقد تمكن في خاطره أن الإنسان خلق شريرا، وأن أول أغراضه في هذه الحياة أن يغتال إخوانه ويسلبهم مالهم بأية وسيلة كانت.
وقد نشأ عبد الحميد من صغره حذرا سيئ الظن، وشاهد بعينيه خلع عمه ثم موته، ومقتل عوني على يد حسن الشركسي، ثم خلع أخيه مراد. فلما تولى السلطنة رأى حياة السلطان ليست أكثر صيانة من حياة العامة، أو هي أكثر تعرضا للخطر منها، فزاد تعلقا بالبقاء واشتد خوفه على نفسه حتى بلغ درجة الهوس، فأصبح لا يسمع حديثا أو يرى مشهدا أو يقول قولا أو يعمل عملا إلا وهو ينظر من وراء ذلك إلى علاقته ببقائه، واضطر للمحافظة على نفوذه واستبداده في أول سلطنته إلى أن يسيء إلى بعض الأحرار بالإبعاد أو القتل بدسائس أشرك فيها بعض خاصته، فأصبح يخاف نقمة أهل القتلى، ويخاف دسائس أولئك الخاصة. ولعله كان يقيس شعور الناس على شعوره، فيتصور أنه لو توسم نفعا بقتل بعض أصدقائه أو محبيه لا يرى بأسا من قتله، فأصبح يخاف أن يستولي أعداؤه الكثيرون على قلب بعض خاصته فيغريه بالمال أو غيره ليقتله، ولذلك فهو لا يثق بأحد أو يستسلم له كما يستسلم الصديق لصديقه أو الابن لأبيه كما يفعل أكثر الناس، لأنه يرى كل شيء عدوا له.
ولم يلق رأسه على الوسادة حتى تصور ما مر به في ذاك اليوم من الطوارئ، وأخذ يفكر فيما عساه أن يطرأ في الغد بشأن تلك الجمعية، ويقدر الوجوه التي يمكن أن تقع ويدبر حيلة يتلافاها بها. ومع كثرة هواجسه غلب عليه النوم لفرط التعب، فنام وأهل القصر جميعا كأنهم في سبات مخافة أن ينغصوا عليه رقاده فيغضب.
نام والغرفة مغلقة ونادر أغا جالس ببابها ينتظر ساعة اليقظة ليقوم بالخدمة اللازمة، ولكي يعلم أهل القصر بوجود البادشاه هناك فلا يخطرون ولا يتكلمون.
وفي الساعة الرابعة بعد الظهر سمع نادر أغا نحنحة السلطان فعلم أنه استيقظ فوقف، وما عتم أن فتح الباب وأطل عبد الحميد فأشار إلى نادر أغا أن يدخل فدخل، فقال له: «سمعت مشيا في هذا الدهليز.»
فاستغرب نادر أغا قوله وأكد له أنه لم يمر أحد، ولم يكن عبد الحميد قد سمع شيئا لكنه قال ذلك لسوء ظنه على سبيل الاستطلاع. ثم أشار إليه أن يأمر رئيس الإسطبل بإعداد الجواد الأبيض للتجول عليه في الحديقة، فأسرع نادر أغا وبلغ الأمر لتخلو الطرق من المارة، وبعد قليل نزل السلطان فركب الجواد وسار بين اثنين من ياورانه، وهما مفوضان أن يقتلا كل من يجدانه في الطريق.
طاف الحديقة الصغرى والكبرى على هذه الصورة وهو يتلفت ذات اليمين وذات اليسار، فلاح له أن يلهو بزيارة المعامل، ومنها: معمل للترميم، وآخر لصنع البورسلين، وترسانة لصنع الأسلحة من كل نوع حتى المدافع والبنادق. وزار أيضا ما هناك من المتاحف الصناعية والملاعب المختلفة، ثم تحول إلى الإسطبلات وفيها الجياد على اختلاف أشكالها، حتى وصل إلى أبراج الحمام في الحديقة الصغرى.
وكان ينزل عند كل معمل أو متحف أو إسطبل ويلهو ويتفقد ما فيها، وعمالها يبذلون جهدهم في عرض ما تفننوا فيه من ضروب الصناعة، وهو يظهر أنه مهتم بكل ما يقولونه ولكنه في الحقيقة مشتغل بهواجسه.
فلما وصل إلى الحديقة الصغرى دخل الكشك فتذكر ما كان من حاله فيه في صباح ذلك اليوم. ووقع نظره وهو داخل هناك على شيء أذكره بالمهرج المضحك وهم يسمونه في اصطلاحهم «كاغدخانه أمامي»، فأشار إلى نادر أغا أن يأتيه به.
وبعد قليل جاء المضحك، واسمه علي أفندي، وهو كهل منظره يضحك الثكلى، وكان قصير القامة كبير الرأس عظيم الأنف، وقد لاث حول رأسه عمامة كبيرة وليس جبة طويلة تزيد منظره غرابة. جاء وهو يستعيذ بالله من تلك الدعوة لأن السلطان كان يبالغ في تعذيبه التماسا للضحك. فحالما أقبل على السلطان وقف مطرقا بعد أن قبل الأرض، فأشار السلطان إلى نادر أغا إشارة فهمها ، فأمر بعض الوقوف من الخدم أن يطلوا وجه المضحك بالسواد ففعلوا، ولما تم الطلاء وقف علي أفندي وألقى التحية فضحك السلطان من منظره. وأشار إلى نادر أغا إشارة أخرى، فقبض على ذلك المسكين وحمله بين يديه وألقاه في البحيرة فقهقه السلطان، ولكن الناظر في ملامح وجهه يعلم أنه يتكلف ذلك. فجعل علي أفندي يخوض الماء وقد وقعت عمامته عن رأسه وعامت جبته على سطح الماء وهو يصيح ويستغيث والسلطان يضحك. ثم أمر بإخراجه فأخرجوه والماء يقطر من أردانه وقد أعدوا له ثيابا أخرى في مكان آخر، فمضى فبدلها وعاد وهو يتظاهر بالسرور والمجون ويده على أنفه يضربه ضربا متواليا، فأغرب السلطان في الضحك وابتدره قائلا: «ما الذي أصابك؟ ولماذا تضرب أنفك؟»
فقال: «أضربه لأنه أصل هذا البلاء علي، أنا أعلم أن شكل هذا الأنف هو السبب فيما أقاسيه من العذاب!»
فأدرك السلطان أنه يعني الإشارة إلى الأرمن الذين هم كبار الأنوف وقد اشتهروا بعداوة السلطان، ولكنه تجاهل وقال: «هل نقطع لك هذا الأنف؟»
فابتسم المضحك وقال: «إذا كان البادشاه يريد أن يزيدني جمالا فليفعل.»
فضحك السلطان وقال: «نادر أغا، اقطع أنفه.»
فأظهر نادر أغا أنه يهم بذلك، فصاح المضحك: «أمان أفندم! أمان!»
فأشار بالعفو عنه وهو يضحك، وقال: «قد عفونا الآن عن أنفك، وأما بعد الآن فلن نعفو!»
فقال: «الأمر لولي النعم، إذا أراد أن يقطعني إربا إربا فهو صاحب الأمر. ولكن لا يخلو كبر الأنف من فضيلة، فإن بين أصحابه من يتفانى في رضى جلالة البادشاه، وفيهم من يعشقه ويتمنى الموت تحت قدميه.»
فتبدلت سحنة السلطان من المجون إلى الجد، وأومأ إلى الحضور أن ينصرفوا إلا علي أفندي، فذهبوا جميعا وظل هذا منتظرا يحسب لهذه الخلوة ألف حساب.
فلما انفرد السلطان به أومأ إليه أن يقعد بين يديه، فقعد على العتبة جثوا وأطرق ولبث ينتظر ما يكون، فالتفت السلطان يمنة ويسرة ولما تأكد خلو الحديقة من الناس التفت إلى المضحك وقال له جادا: «انزع عنك المجون وخاطبني.»
فأظهر الجد والاحترام وقال: «أنا عبد مولاي البادشاه وطوع إرادته.»
قال: «أنت تعلم منزلتك عندي.»
قال: «يا سيدي، إن نعم أمير المؤمنين قد غمرتني وأنا أخلص عبيده له.»
قال: «هذا عهدي بك، ولا شك أنك تعرف اعتمادي عليك.»
فقبل الأرض وقال: «نعم أفندم، وهذا شرف لي.»
قال: «هل عندك شيء جديد ترفعه إلي؟ يظن نادر وغيره من كبار الخصيان وسائر أهل القصر أني أقربك للهو والضحك وجعلتك لهذا نديمي!» وسكت ينتظر ما يقوله المضحك.
فسري عن علي أفندي فقال: «أنا أفتخر بهذه الثقة، وأؤكد لمولاي البادشاه أني ساهر على راحته وأقف بالمرصاد لكل من ينحرف عن واجب العبودية، لأن الناس أشرار لا يعرفون حقوق النعمة.»
قال: «كيف تجد نادر أغا؟»
فطأطأ المضحك رأسه وقال: «إنه نعم العبد الأمين!»
قال: «وغيره؟»
قال: «لم ألحظ شيئا جديدا هذين اليومين.»
قال: «أفصح، لا أظنك إلا فهمت مرادي ...»
قال: «يا مولاي، إن نادر أغا ساهر على هذه القصور ومن فيها.»
قال السلطان: «والوصيفة ج؟»
فأظهر علي أفندي الاهتمام والاحترام وقال: «من أين لي أن أراها؟»
قال: «لا تخف، قل الحقيقة، إنك تراها، وأنا أذنت لنادر أغا أن يتمتع المحظيات والوصائف بمجونك، وكان ينبغي أن تعرف غرضي من ذلك، أها!»
فأجفل المضحك من هذا التهديد وقال: «نعم يا سيدي، أنا فهمت الغرض لكن هيبة البادشاه أمير المؤمنين بعثتني على التكتم.»
فضحك عبد الحميد ضحكة متكلفة وقال: «طيب، فماذا تعرف عن ... ج؟ قل لا تخف.»
قال: «إنها يا سيدي في حالة يرثى لها، لا تكف عن البكاء.»
فاستغرب السلطان قوله وقال: «إني لم أرها تبكي قط!»
فقال: «نعم، هي لا تبكي في حضرة أمير المؤمنين لأن رؤيته تذهب كل حزن، مسكينة!»
فقطب السلطان حاجبيه وقال: «وتقول مسكينة؟!»
قال: «إذا أباح لي مولاي أن أقول ما أعرفه وأمنني قلت.»
قال: «قل، لا بأس عليك.»
قال: «إن هذه المرأة سيئة الحظ.»
فتطاول عبد الحميد بعنقه وحملق بعينيه وقال: «تكون في قصري وتعد من نسائي وتزعم أنها سيئة الحظ؟!»
قال: «ألتمس حلم جلالة السلطان، إن سوء حظها مبني على وجودها في هذا القصر.»
قال: «وكيف ذلك؟»
قال: «لأنها تتفانى في حب جلالة البادشاه وهو يعاملها بالجفاء.»
فأطرق السلطان لحظة تشاغل فيها بإصلاح لحيته، وعيناه البراقتان يكاد الشرر يتطاير منهما، ثم نهض فجأة فأجفل المضحك ونهض، وخاف أن يكون قد أغضب السلطان بما قاله ووقف متأدبا وركبتاه تصطكان، وكان السلطان قد اتجه إلى قصره لكنه بعد أن مشى بضع خطوات التفت إليه وابتسم تخفيفا لما حل به من الرعب فخف اضطرابه.
السلطانة الوالدة
دخل عبد الحميد إلى القصر الصغير من بابه السري وهو يتعثر بذيل جبته، وأزاح طربوشه عن جبهته كأنه يلتمس تفريج كربته من قمة رأسه، فلما صار في غرفة المكتب تنفس الصعداء واستلقى على الكرسي وهو مستغرق في الأفكار، وتناول سيكارا أشعله وجعل يدخن بعنف ويتنقل بنظره على ما في الغرفة من الخزائن والكراسي بغير انتباه. ثم أخذ يناجي نفسه قائلا: «أنا أعلم أنها تحبني وتتفانى في مرضاتي، ولكن كيف أحبها وهي ستكون سبب بلائي؟»
ثم نهض عن الكرسي ومشى نحو منضدة فتح درجها وأخرج ورقة من محفظة هناك وأخذ يقرؤها ويعيد قراءتها، ثم عاد إلى الكرسي والورقة في يده وهو يقول: «كيف أحبها وقد ظهر في هذا المندل أنه إذا جاءني منها غلام سيكون شؤما علي؟ لا ينبغي أن أقترب منها ... إن الحب شيء والملك شيء آخر. وأخاف مع ذلك أن تكون قد خدعتني.» وأعاد الورقة إلى المحفظة ومشى إلى دار الحريم، فلقي نادر أغا فقال له: «أين السلطانة الوالدة؟»
قال: «هي في غرفتها يا مولاي.»
فمشى وهو يقول: «أحب أن أراها.»
فأسرع نادر أغا حتى بلغها رغبة السلطان في مقابلتها فتأهبت لاستقباله، لكنها ابتدرت نادر أغا بالسؤال قائلة: «ما هو لون ثوبه اليوم لألبس مثله؟» وكانت العادة الجارية في آداب بلاط عبد الحميد أن يلبس نساؤه عند مقابلته ثوبا لونه مثل لون ثوبه.
فقال نادر أغا: «إنه بثوبه الأسود الرسمي فلا حاجة إلى لون معين.» ولم تكن هي والدة السلطان حقيقة لكنها تقوم مقامها في إدارة دور الحريم، وكانت قبلا «خزندار أوصته» أي خازنة دور النساء، فلما ماتت والدة السلطان تولت تلك الإدارة، وإليها يرجع تدبير أمور نسائه وسراريه. وكانت كبيرة السن، ولكن الجمال ما زال يتجلى في وجهها، وفيها ذكاء ونباهة. فلما علمت بقدوم السلطان خفت لاستقباله ورحبت به، وعليها ثوب يجللها، وفي يديها الأساور وعلى صدرها الحلي الثمينة. ولحظت في وجه السلطان القلق، ولكنها تعرف منزلتها عنده فابتسمت له وقالت: «هل من أمر أقضيه لجلالة البادشاه؟»
فجلس على المقعد وأشار إليها أن تقعد وقال: «جئتك في أمر يهمني.»
فقالت: «روحي فداء مولاي.»
قال: «كيف حال القادين ج؟»
فتغير وجه المرأة عند سماع ذلك الاسم، وقالت والبغتة ظاهرة في عينيها: «إنها في خير.»
قال: «لا أسألك عن صحتها، ولكن هل قامت حاضنتها بما عليها؟»
فأدركت غرضه وتلعثم لسانها عن الجواب، لكنها غالبت نفسها وقالت: «إنها لا تغفل عن رعايتها.»
قال: «بل أسألك عن شيء آخر، هل خبرت أمرها من عهد قريب؟»
فلم يعد في إمكانها الصبر على التجاهل فقالت: «أخبرتني الحاضنة أنها ربما تكون حاملا.»
فأجفل السلطان ونهض ولم يتمالك أن صاح: «حامل؟!»
فنهضت احتراما له وقالت: «هكذا أظن.»
قال: «كيف تغفل الحاضنة عن واجباتها؟ إنها إذا كانت كما تقولين فالذنب يقع على تلك الحاضنة الملعونة! أليس من واجباتها أن تمنع الحمل، وقد خولتها أن تمنعه بأي طريقة كانت؟»
فتحيرت في أمرها وأرادت أن تخفف غضب السلطان فقالت: «لماذا يغضب مولاي من حملها؟ أليست من نسائه؟»
فأمسك السلطان غيظه وتجلد وعاد إلى القعود، وأشار إليها أن تقعد وقال: «قد جعلتها من نسائي مكافأة على خدمة قامت بها.» ثم تمالك وتجلد وقال بصوت منخفض: «نعم، إن القاعدة كما تعلمين أن الجارية بعد أن تكون «كوزده» عند دخولها قصرنا ترتقي إلى رتبة «إقبال»، فإذا حملت منا صارت «قادين». ولكني جعلت «ج» في هذه الرتبة لأنها تجسست لي أخبار أحد الخونة في حوادث الأرمن وكنت في ريب من أمره، فأنفذتها إليه في جملة الجواري اللائي أهديتهن إلى الباشوات يومئذ ليكن لي عيونا عليهم، وقد كشفن لي خيانات كثيرة. ولكن «ج» هذه كلفتها مهمة فوق العادة فعرضت نفسها للخطر على وعد مني أنها إذا أفلحت جعلتها قادين وإن لم تلد مني، وقد أفلحت فأنجزت وعدي.»
فلما رأته يخاطبها بهدوء تجرأت على مباحثته في الموضوع فقالت: «فإذا كنت قد أنعمت عليها بهذه الرتبة فما المانع من حملها؟»
قال: «وما الفائدة إذن من كثرة الحواضن اللائي يتولين اتخاذ الوسائل لمنع الحمل؟ وقد أوصيتك على الخصوص بهذه.»
فتذكرت السلطانة الوالدة أنه كان قد اختص ج بالوصاية، وهي أوصت الحاضنة بما يلزم لكنها أخفقت، فقالت: «ولكن لا تفلح الوسائل دائما. إن في عصمة أمير المؤمنين الآن أربع نساء شرعيات، و12 قادين مثل ج وأكثرهن يحملن، فلا بأس إذا حملت هذه أيضا.»
فقال: «لا، هذه لا ينبغي أن تلد، فإذا كنت تأكدت حملها فيجب أن تموت.»
وكانت السلطانة الوالدة تحب القادين المذكورة لجمالها وذكائها ولأنها تحب السلطان إلى حد الكلف - وذلك نادر في قصور الملوك - فأسفت لتشديد عبد الحميد في أمرها، فأخذت تخفف الأمر عليه فقالت: «في قصر مولاي السلطان 300 جارية، هب أن واحدة منهن حملت فماذا كنا نفعل؟»
فنهض وعلى وجهه علامات الغضب وقال: «لا تجادليني، إن هذه المرأة إما أن يذهب حملها أو تموت، وقد قلت لك ذلك وكفى.» قال هذا وتحول نحو القصر الصغير، وقد أزفت الساعة السادسة وآن وقت العشاء ولم يكن قد تغدى فوجد المائدة مهيأة.
وعشاؤه بسيط، وفي تحضير طعامه على بساطته مشقة كبرى لشدة خوفه على حياته وسوء ظنه بمن حوله. ومن الاحتياطات التي اتخذها لوقاية نفسه أنه أبعد الطاهي الذي يصنع له الطعام عن كل علاقة بأهل الدولة، وأمره أن يقيم في حجرة بابها من الحديد على يسار باب القصر المسمى باب السلطنة (سلطنة قبوسي)، فيضع الطعام تحت مراقبة الكلارجي باشا، وكان لعبد الحميد ثقة شديدة فيه. فمتى نضج الطعام حمله إلى غرفة المائدة اثنان من الخدم بلباس أسود على مائدة أشبه بصندوق مقفل طوله 80 سنتيمترا عليه كساء من السجاد، ويمشي وراءهما خادم يحمل طبقا مغطى بكساء أسود وقد ضمت أطرافه وختم عليه الكلارجي باشي، ويأتي بعد ذلك خادم يحمل وعاء الخبز، ثم خامس يحمل زجاجة الماء مختومة أيضا. يسير هذا «الوفد» من المطبخ إلى غرفة المائدة باحترام، فإذا لقيهم أحد في أثناء الطريق انحنى احتراما لصاحب الطعام، حتى إذا بلغوا المائدة أدخل الكلارجى باشي الطعام وفض الأختام عنه بين يدي السلطان، وقدم له الأطباق وعليها الألوان فيتناول ما شاء.
فلما وصل عبد الحميد غرفة المائدة وجد الطعام قد وصل بأطباقه المختومة ففضها، وأكل وحده كعادته وهو غارق في بحار الهواجس. وكان القصر قد أنير كله كالعادة فانتقل إلى غرفة المطالعة وأخذ في مطالعة التقارير وهي كثيرة، لكنه أصبح بعد أمر سلانيك وجمعيتها لا يهمه غير الوقوف على خبرها فترك التقارير، ولم يشعر بالنعاس لأنه نام في أثناء النهار، فأراد أن يلهو بحضور التمثيل في مسرحه الخاص.
وكان له في يلدز مسرح للتمثيل وعرض الصور المتحركة لا يحضره إلا خاصته، فبعث إلى الفرقة أنه عازم على الحضور في المسرح تلك الليلة فاستعدوا للتمثيل، وأشار بمن ينبغي أن يحضره من خاصته، وفي جملتهم كبار رجال القصر. ولما ظهر السلطان في مقصورته وقف الحضور وصاحوا: «بادشاه مزجوق يشا»، وعزفت الموسيقى سلامه الخاص، ثم دار التمثيل. واتفق أن الرواية التي مثلت تلك الليلة فيها حكاية امرأة خانت زوجها وأغرت ابنها بقتله، فهاجت هواجس السلطان وتذكر حاله مع القادين ج، وتشاءم من الرواية واتخذها دليلا على صدق تخوفه، وبعث إلى مدير الفرقة يعاتبه لأنه لم يسأله عن الرواية التي يريد تمثيلها، وأمره أن يمثل رواية أخرى بطلها ملك يفوز على مكايديه كثيرا ما كان يحضرها ويسر من حوادثها، ولو لم يكن مدير تلك الفرقة أجنبيا لأمر بقتله، لكنه كان يخاف تدخل الأجانب.
وكان الحضور مشتغلين بأحاديثهم وعبد الحميد غارق في هواجسه، ولاحت منه التفاتة فرأى نادر أغا واقفا في مكان من المسرح تعود أن يقف فيه إذا أراد مخاطبة السلطان في أمر، فأومأ إليه فجاءه بخفة حتى دخل المقصورة فأمره أن يجلس، وسأله عن غرضه فقال: «إني أتمنى هناء مولاي، وقلت لعله يحتاج إلي في شيء.»
قال: «قد أصبت، إني في حاجة إليك، هل لقيت السلطانة الوالدة؟»
قال: «نعم يا مولاي، وقصت علي خبر غضب الذات الشاهانية.»
قال: «أرأيت ما فعلته تلك الحاضنة؟ إنها لم تفعله عن إهمال كما توهمت الوالدة السلطانة لكنها تعمدته بالرشوة، أغراها بذلك أعدائي قبحهم الله!» قال ذلك وصر بأسنانه وهز رأسه.
فقال نادر: «لم أفهم سبب غضب سيدي من حمل هذه القادين، فافرض أنها إحدى الجواري الكثيرات في يلدز و...»
فقطع السلطان كلامه قائلا: «لا ألومك على استغرابك غضبي، ولذلك فأنا أسر إليك السبب برهانا على ثقتي بك واعتمادي عليك.»
فأومأ نادر أغا شاكرا تلك النعمة، فأشار السلطان أن يرخي ستارة المقصورة حتى يختفيا عن الجلوس ففعل، ثم قال السلطان: «هلم بنا إلى القصر.» ونهض فأسرع نادر بين يديه من باب سري يؤدي إلى القصر، ولم يشعر بهما أحد من الجلوس.
مشيا توا إلى غرفة المطالعة وهي لا تزال مشعشعة بالأنوار، فقعد السلطان وأشار إلى نادر أن يقعد فقعد، فتناول السلطان سيكارا أشعله ونفخ الدخان من فيه مع زفرة طويلة، وكرر ذلك مرتين فامتلأت الغرفة من الدخان، وهو مطرق ونادر بين يديه جامد كالصنم، ثم رفع السلطان بصره إلى نادر وقال: «ألا تعرف القادين ج من يوم مجيئها قصرنا؟»
قال: «لم أكن أعرف عنها شيئا كثيرا، ولكني كنت أسمع قزلر أغاسي (قيم الجواري) يثني على ذكائها وجمالها.»
قال: «ألا تعرف أنها أرمنية الأصل؟»
قال: «يظهر ذلك من شكل أنفها وملامح وجهها، وأظن هذا هو السبب في نفور مولاي البادشاه منها.»
قال: «لا، لا، ليس السبب في ذلك أنها أرمنية أو أنني أكره هذه الطائفة بعدما كان من تمردهم ودسائسهم، ولكن ...» وعاد إلى التدخين ونفض رماد السيكار في منفضة بين يديه وهو مطرق، كأنه يتردد في هل يطلع نادر أغا على ذلك السر الذي لم يطلع عليه أحدا بعد ... ونادر جالس متأدبا لا يبدي حراكا لئلا يشوش على السلطان مجاري أفكاره.
ونهض السلطان عن الكرسي الطويل الذي كان جالسا عليه فقصد المكتبة، وفتح الدرج وأخرج منه تلك الورقة من محفظتها، وقبض عليها بكفه وعاد إلى مقعده والسيكار في فيه وقال: «اسمع يا نادر أغا يقولون إن والدتي أرمنية الأصل؟»
قال: «نعم يا سيدي، هكذا يقولون.»
فقال السلطان: «فكان ينبغي أن أحب الأرمن من أجلها.»
قال: «نعم أفندم.»
فأخرج السيكار من فيه وتنهد وقال: «ولكنني أكرههم لأنهم ألد أعدائي.»
قال: «إنهم يستحقون الغضب لعقوقهم وتمردهم.»
فقاطعه السلطان قائلا: «إني أكرههم وأخافهم من صباي، أتعلم لماذا؟»
فتطاول نادر أغا بعنقه ولم يجب اكتفاء بالإصغاء، فقال السلطان: «كرهتهم من صباي لأن المنجم الذي تنبأ لي بأن العرش سيفضي إلي ... هل تعرفه؟»
فبغت نادر أغا لأنه لم يكن يتوقع سؤالا فقال: «خيرا أفندم.»
فقال: «كنت في صباي أحضر مجلس التنجيم والمندل بين يدي السلطانة الوالدة، وهي يومئذ والدة عمي السلطان عبد العزيز، وكان عندها جماعة من مهرة المنجمين نبوءاتهم صادقة. ثم عرفت منجما اسمه الشيخ عبد الرحمن من أهل صيدا، جاءني به نجيب باشا أحد رجال الدولة عند رجوعه من منفاه في قبرص وأطرى مهارته في استطلاع الغيب، فطلبت إليه أن يكشف لي عن مستقبلي فذكر أني سأتولى العرش قريبا وأبقى عليه مدة طويلة، فاعترضت بوجود عمي عبد العزيز حيا ثم أخي مراد، فأكد لي أن طالعي يدل يقينا على ما قاله. لكنه أسر إلي أنه يرى ظلا أسود يحوم حول سعدي، وأنه إذا كان علي خوف فهو من عشيرة أمي، وهو يعتقد أنها أرمنية. فلم تمض مدة طويلة حتى صدق المنجم وتوليت العرش وكافأت الرجل مكافأة حسنة، ثم خدمني خدمات جليلة في شأن حفظ السلطنة ... فلما رأيته صدق في بعض نبوءاته خفت أن يصدق في الباقي، ولذلك رأيتني أطارد الأرمن وأحاذرهم.»
وسكت ريثما سحب نفسا طويلا من السيكار وفي ملامح عينيه أنه لم يتم حديثه بعد، وظل نادر أغا مصغيا، فعاد السلطان إلى الكلام قائلا: «قد علمت سبب نقمتي على الأرمن إجمالا، ولم تعلم بعد سبب حذري من هذه المرأة على الخصوص ... فاعلم أني شديد الإعجاب بهذه الجارية منذ عرفتها لذكائها وسداد رأيها، وكثيرا ما كنت أقضي الساعات في مجالستها حتى شغلتني عن سواها لما لها من الاطلاع على مختلف الكتب، وهذا ما جعلني أثق بها حتى كلفتها بمهمة ذات شأن في أثناء دسائس الأرمن التي انتهت بذبحهم في الأستانة منذ عشرة أعوام.»
واعتدل السلطان في مقعده وتنحنح، وقد أبرقت عيناه سرورا بما كان من نجاحه في تلك المذبحة وقال: «كنت أسمع يومئذ أن بعض رجالي المسلمين ممن قدمتهم ورقيتهم ووليتهم المناصب موالون لأولئك الكفار في تمردهم علي، فلكي أتحقق ذلك بعثت بعض السراري النبيهات إلى بعضهم على سبيل الهدية - وهم طبعا يفرحون بالهدية السلطانية ولا يجسرون على ردها - فأطلعني أولئك الجواري بعد ذلك على أسرار مهمة. وكانت القادين ج يومئذ لا تزال من جملة السراري، فكلفتها بكشف أسرار «ع. باشا» لأني كنت أظن أنه يتظاهر بالإخلاص. وحرصا على استرجاعها إلي، وخوفا من أن تنحاز لأبناء جلدتها لأنها أرمنية؛ وعدتها إذا قامت بتلك المهمة أن أجعلها قادين، واشترطت عليها شروطا خاصة تجيز رجوعها إلى قصري وأنا واثق بصدقها. والحق يقال إنها أخلصت الخدمة، وعادت بأهم الأخبار عن الأرمن أنفسهم أيضا، فجعلتها قادين وأمرت لها بدائرة خاصة تقيم فيها، وعندها الخازنة والباشكاتبة والمهردار والأسفنجي، فضلا عن الخدمة والجواري والخصيان مثل زميلاتها، ولم أميز واحدة منهن عنها في شيء، ولكن ... آه!» وتنهد.
وكان نادر أغا كثير الشفقة على تلك القادين ويحب أن ينقذها من الخطر إذا استطاع، فأصغى بكليته إلى حديث السلطان فلم يجد في كل ما سمعه شيئا يوجب الغضب، فلما رآه يتنهد توقع أن يسمع ما يكشف له القناع عن السبب الصحيح.
أما السلطان فبعد أن تنهد رمى بقية سيكاره في المنفضة وقال: «إنك لا تجد في حديثي عن هذه المرأة حتى الساعة ما يوجب الغضب عليها، ولا أنا أيضا. ولكنني رأيت في المنام بعد ذلك رجلا أرمنيا اسمه مهران بك كنت أراه في مجلس أبي، ولم أكن أحبه لأنه كان يفضل إخوتي علي، وربما أوعز إلى أبي بذلك، وكنت ألاحظ أن أبي يسايره وينتهرني، فنشأت على كره هذا الأرمني. وقد مات من زمن طويل ولم يخطر ببالي ذكره إلا في تلك الليلة، فرأيته في المنام بهيئته التي أعرفه بها وبيده سيف يشير به إشارة التهديد، فأجفلت واستيقظت وانتبهت إلى الخطر الذي يحدق بي من الأرمن وقلت: «ينبغي أن أحترس منهم.» وحدث ذات يوم أن أمرت الشيخ أن يعمل مندلا على ما في ضميري ولم أذكر له شيئا، فكتب لي نتيجة المندل في هذه الورقة، فحفظتها عندي من ذلك الحين وتيقظت لنفسي، وأوصيت الحاضنة أن تتيقظ جيدا للقادين ج. وقد علمت اليوم أنها حامل.» قال ذلك ودفع إلى نادر أغا الورقة ليقرأها.
ففتحها واقترب من المصباح وقرأ فيها: «لا ينبغي للسلطان أن يطمئن لأهل أمه بعد أن طاردهم وذبحهم، فإن ما كتب في صحائف الدهور كائن، والخطر سيأتي من طفل أمه أرمنية وأبوه السلطان.»
فلما فرغ نادر أغا من تلاوة الورقة اقشعر بدنه لأنه يعتقد في التنجيم مثل سيده، وأطرق مفكرا فابتدره السلطان قائلا: «ألا تراني معذورا؟ ألا توافق على رأيي؟ هل يجوز الإغضاء عن تلك المرأة إذا صح أنها حامل؟ قل.»
فقال: «إن سيدي البادشاه صاحب القول. لا شك أن بقاءها على هذه الصورة خطر، ولكن هل ثبت حملها؟»
قال: «يكفي الشك للتعجيل بالقتل. قد نكون مصيبين وقد نكون مخطئين، فإذا صبرنا ووضعت غلاما أصبح التخلص منه شاقا وتحوم حولنا الظنون. أما الآن فالإنسان عرضة للمرض والموت في كل ساعة، والأطباء يرسلون الإنسان إلى العالم الآخر بجرعة لا يشعر معها بألم ولا عذاب، فأحب إرسال هذه المخلوقة من هنا وإن كنت آسفا لذلك، لأن المسكينة كانت تحبني.»
فقال نادر أغا: «لا فضل لها في حبها، ومن الذي لا يحب مولانا الخليفة ظل الله على الأرض؟ إن المحافظة على سلامته فرض لا بد منه ولو قتل الألوف في سبيله، وأنا أول من يضحي نفسه في هذا السبيل، أطال الله بقاء أمير المؤمنين!»
قد نجل ذكاء عبد الحميد عن أن ينطلي عليه هذا الإطراء أو يعتقد صدقه، ولكن الإنسان ضعيف، وقد يكون قويا من كل جهة إلا من جهة اغتراره بنفسه فيكون غاية في الضعف، يقبل الإطراء ولو كان بعيد التصديق ولا سيما إذا كان لا يسمع غيره، وكل الذين حوله يتسابقون إلى استنباط عبارات الإطراء تملقا له وتقربا منه، فلا عجب إذا صدق عبد الحميد مثل قول نادر أغا ثم قال له: «إنني أكل أمر هذه المرأة إليك.»
وكان نادر مخلصا لمولاه وإن لم يعرف كيف يؤكد إخلاصه، فلما وكل السلطان إليه هذا الأمر أشار مطيعا. ثم تحفز السلطان للنهوض في طلب الرقاد، فنهض نادر أغا وخرج بعد أن قام بواجب الاحترام.
أما عبد الحميد فهاجت أشجانه في ذلك المساء على أثر ما تحدث به عن المنجمين والأرمن والقتل، فزادت مخاوفه وغلب عليه ميله إلى التستر والاختفاء. فأظهر أنه ذاهب للرقاد في دار الحريم، وبعد أن خلا إلى نفسه طلب النوم في غرفة المائدة على كرسي طويل فوقه ملاءة من الصوف، يوجد مثله في كل غرفة بالقصر لينام السلطان متى شاء دون أن يعرف أحد مقره. •••
نام عبد الحميد في تلك الليلة نوما متقطعا كالعادة، ولما أفاق في الصباح هرع إلى الحمام وقام ببعض الحركات الرياضية، ثم لبس ثيابه العادية وانصرف إلى غرفة المطالعة، وكان القهوجي باشي قد وقف هناك وأعد الأدوات اللازمة لطبخ القهوة بين يديه.
فقعد عبد الحميد ينظر إلى القهوجي باشي وهو يهيئ القهوة، وتناول سيكارا فأشعله وشرب القهوة بلذة، وفكره مشغول بما عساه أن يأتيه من الأخبار الجديدة في ذلك اليوم.
ثم انصرف القهوجي باشي، وجاء الخبر بأن المائدة معدة للفطور، فنهض عبد الحميد إليها وتناول فطورا خفيفا من البيض واللبن، وهو يتوقع دخول الحاجب بمجيء البريد أو السر خفية.
وما عتم أن سمع رنين جرس الباب الخارجي، فعلم أنه الحاجب جاء بخبر جديد، فنهض ومشى إلى غرفة الاستقبال التي يطالع فيها التقارير، فلقيه الحاجب وألقى التحية المعتادة وقال: «إن الباشكاتب بالباب.»
فعلم عبد الحميد أن الباشكاتب لا يبكر على هذه الصورة من عند نفسه إلا لخبر مهم، فخفق قلبه تطلعا إلى ما عساه أن يكون وأشار إلى الحاجب أن يأذن للباشكاتب بالدخول.
وبعد هنيهة دخل الباشكاتب والسلطان قد جلس إلى المنضدة التي يقرأ عليها التقارير، فحيا وهو يبتسم دلالة على طيب الأخبار التي جاء بها فاستبشر السلطان، وإذا بالباشكاتب يقدم له ظرفا عرف من شكله أنه تلغراف فتناوله بلهفة وفضه وقرأه، فبانت الدهشة في وجهه وأغرق في الضحك وفي عينيه ملامح الشماتة والاستهزاء، ثم انتبه لوقوف الباشكاتب فأومأ إليه أن يقعد فقعد.
فأعاد عبد الحميد نظره في التلغراف كأنه يتفهم معناه، ثم قال: «عفارم ... عفارم ناظم!» والتفت إلى الباشكاتب وقال: «متى جاءك هذا التلغراف؟»
قال: «في هذه الساعة يا مولاي.»
فدفعه إليه وقال: «اقرأ».
فقرأ ما ترجمته: «قد تمكنا ببركة الذات الشاهانية المقدسة وهمة الجاسوس صائب بك من القبض على رامز أحد أعضاء الجمعية الجهنمية ومعه أوراق مهمة تكشف عن خيانات كثيرة، وننتظر الأمر بما يلزم، والأمر لصاحب الأمر (ناظم).»
فقال السلطان: «من هو صائب هذا؟»
قال: «هو من الجواسيس الذين أرسلهم السر خفية إلى سلانيك، وقد سمعته يثني على إخلاصه واجتهاده.»
فاعتدل السلطان في مجلسه وقال: «كيف ترى هذا الرجل، أعني السر خفية؟ أحب أن أعرف رأيك فيه لأني لا أثق بسواك كما تعلم.»
قال: «هو من العبيد المخلصين يا سيدي، ونجاح رسوله في هذه المرة من أكبر الأدلة على ذلك. وكيف لا يكون مخلصا والذات الشاهانية وضعت ثقتها فيه؟»
فأظهر السلطان أنه اكتفى بهذه الإشارة، واعتمد على فطنة السامع لفهم ما يقتضيه هذا السؤال من مراقبة حركات السر خفية، وقال: «ما هو رأيك؟ هل نستقدم ذلك الخائن المقبوض عليه إلى هنا؟»
قال: «الأمر لأمير المؤمنين. ولعله إذا جيء به إلى هنا يطلعنا على أشياء جديدة ... لله ما أجهل هؤلاء الغلمان!»
فصفق السلطان فجاء الحاجب فأمره باستدعاء السر خفية، وقال للباشكاتب: «قل لناظم أن يبعث بالخائن وأوراقه حالا.»
فنهض الباشكاتب وأشار إشارة الطاعة وخرج، وعاد عبد الحميد إلى سيكاره فأشعله وهو يعيد نظرة إلى التلغراف، حتى أنبئ بمجيء السر خفية فأمر بدخوله. وكان السر خفية قد علم بمجيء التلغراف في ذلك الصباح وبفحواه، فلما دخل على السلطان حيا تحية الاحترام وأظهر أنه لم يكن يعلم بذلك، فقرأ أمارات السرور في عيني عبد الحميد فشاركه ابتهاجه. فمد السلطان يده ودفع التلغراف إليه وهو يأمره بالجلوس، فجلس وتناول التلغراف وهو يقول: «إذا كان هذا التلغراف من سلانيك ففيه خبر القبض على أحد الخونة.»
فأظهر السلطان الإعجاب بتيقظه وقال: «نعم، إنه من سلانيك، وقد قام بهذه المهمة أحد رجالك مع ناظم بك.»
فتناول السر خفية التلغراف وقرأه وقال: «نعم يا سيدي، إن صائب بك من العبيد المخلصين.»
فقال السلطان: «إن الإخلاص منك، وقد توسمت فيك صدق المودة منذ عرفتك، ولولا ذلك لم أضع ثقتي فيك وأجعلك عيني الباصرة. إنك معتمدي الوحيد في مراقبة الخونة المارقين وهم كثيرون حتى في هذا القصر، ولذلك فأنا أخاطبك رأسا.»
وتنحنح وسحب نفسا من السيكار، وقال: «أمرنا الباشكاتب أن يستقدم ذلك الخائن وأوراقه. ألم نفعل حسنا؟»
فانشرح صدر السر خفية من ذلك الإطراء وقال: «كيف لا؟ إنه متى جاء استطلعنا منه سر تلك الجمعية وبددناها.»
فقال: «نعم، قد آن الاقتصاص من سلانيك وأهلها، وكل آت قريب!» قال ذلك بلحن التهديد ونهض، فنهض السر خفية واستأذن في الانصراف.
فلما خلا السلطان إلى نفسه مشى إلى غرفة النجارة وأخذ يتلهى بصنع إطار من الآبنوس كان قد بدأ بصنعه منذ أيام، وأفكاره تائهة فيما سيكون من أمر رامز متى جاء، وكيف يحتال في كشف سر الجمعية، فطرأ على ذهنه رأي فمشى إلى موقف التليفون وخاطب الباشكاتب وسأله: «هل أرسلت التلغراف إلى ناظم بك؟» فقال: «نعم، أرسلته .»
قال: «ماذا قلت له فيه؟» قال: «طلبت أن يرسل المقبوض عليه وأوراقه حالا.»
قال: «متى جاء هذا الخائن فأرسله إلى السر خفية، فهمت؟»
قال: «سمعا وطاعة يا سيدي.»
وعاد السلطان إلى غرفة النجارة. وبعد هنيهة خطر له رأي جديد فعاد إلى التليفون وخاطب الباشكاتب ثانية قائلا: «إذا جاء الخائن فأرسله إلى عزت وأرسل أوراقه إلي.» فأجاب بالسمع والطاعة.
وعاد السلطان إلى عمله، وقد غلب عليه التردد في هذا الأمر لشدة القلق، ولاح له أن يكون هو أول من يرى رامزا، فعاد إلى التليفون للمرة الثالثة وقال للباشكاتب: «أرى أن ترسل الرجل وأوراقه إلي.»
فقال: «سأفعل يا سيدي.» ولم يستغرب الباشكاتب هذا التردد فقد تعوده.
أما السلطان فبعد أن رجع إلى عمله عاد إلى التفكير في الأمر، فرأى أن استقدام الرجل إليه رأسا لا يخلو من الخفة، فعاد إلى التليفون وأمر الباشكاتب إذا جاء المقبوض عليه أن يبقيه عنده ويظهر الاستخفاف به مكتفيا بإرسال أوراقه إليه، فأجاب مطيعا.
قضى عبد الحميد بقية ذلك اليوم كأنه على الجمر من شدة قلقه في انتظار رامز وأوراقه، وفي صباح اليوم التالي لم يعلم عبد الحميد كيف يستحم ويبدل ثيابه ولا كيف يتناول الفطور من قلق الانتظار، وظل يتنقل من غرفة إلى غرفة وقد نسي القادين ج ونادر أغا وما كان من أمرهما.
وبينما هو واقف أمام خزانة الأسلحة يتأمل ما فيها من المسدسات والخناجر إذ سمع صرير الباب، فمشى نحو قاعة الاستقبال وهو يتجلد ويخفي لهفته، فرأى الحاجب داخلا ومعه محفظة كبيرة مختومة، علم السلطان حالا أنها محفظة رامز، فأشار إليه أن يضعها على المنضدة ويستدعي السر خفية. ولم يكد يقعد حتى كان السر خفية أمامه، فأومأ إليه أن يقعد، وأخذ في فض المحفظة وإخراج ما فيها من الأوراق والظروف، وبينها خطابات ومراسلات بالتركية والفرنساوية، وبعضها بالأرقام السرية (الشفرة).
وقضيا ساعة استغرقا خلالها في القراءة صامتين، ثم قطع السلطان حبل السكوت بأن سعل ومد يده بورقة إلى السر خفية وقال: «اقرأ هذا جيدا.»
فقرأها وأعاد قراءتها ثم قال: «يظهر أن الملاعين ماضون في سعيهم الشيطاني، ويعملون على بث تلك الروح الخبيثة في أنحاء مقدونية يجمعون بين عناصرها ومذاهبها.»
فتكلف السلطان الابتسام وقال: «إنهم يطلبون مستحيلا إذ يريدون أن يجمعوا النصارى والمسلمين ليتحدوا علي، خاب فألهم كيف يجمعون بين البلغاري والصربي والمقدوني والتركي والعربي وقد فرقنا بينهم ومزقنا جامعتهم تمزيقا؟!»
وكان السر خفية في أثناء ذلك يقلب الأوراق، فوقع نظره على عريضة كبيرة باللغة الفرنسية فأخذ يقرؤها والسلطان ينظر إليه فرأى وجهه يتغير فبادره قائلا: «ماذا تقرأ؟»
قال: «هذه يا سيدي صورة مذكرة مقدمة من تلك الجمعية الشيطانية إلى وكلاء الدول!»
فبغت السلطان وقال: «إلى وكلاء الدول؟! أبلغت قحتهم إلى هذا الحد؟ ما شأن الدول في هذا الأمر؟ لا يجوز للدول أن تتعرض لأوامري في مملكتي. وهب أنها تستطيع ذلك فإنها لا تفعل، وما أظنها تعبأ بأقوال أولئك الأغرار المتشردين. ماذا يقولون لهم في هذه المذكرة؟»
قال: «إنهم يقولون كثيرا، ولكن ما الفائدة والدول لا تعبأ بأقوالهم بعد أن رأت فشلهم مرارا، وهذه جرائد فرنسا قد دافعت عن الذات الشاهانية وبينت للملأ أن الذين يسمون أنفسهم أحرارا قوم خوارج يباعون بدريهمات قليلة؟»
ثم جعل السر خفية يترجم له بعض الفقرات المهمة، من ذلك قولهم يخاطبون الدول: «إن المرض المستولي على بلاد العرب أو طرابلس الغرب هو عين المرض المستولي على مقدونيا، فكل الأقوام المؤلفة من الترك والعرب والألبانيين والجركس والكرد والأرمن والفلاخ واليهود والصرب والروم والبلغار ممن يشملهم الحكم العثماني؛ يكابدون تلك المشاق ويئنون تحت تلك المظالم. فليس بمقدونيا ولا بأي ولاية من الولايات العثمانية نوعان من الناس أحدهما ممتاز والآخر مظلوم، كلنا بلا استثناء مشتركون في الظلامة، كلنا رازح تحت استبداد واحد.»
وكان السر خفية يقرأ والسلطان مطرق يتلهى بالتدخين وعروقه تنتفض من الغيظ، فلما أتى السر خفية على آخر الفقرة أظهر السلطان الاستخفاف وقال: «إنهم سلكوا الآن مسلكا جديدا، ولكنهم لا يفلحون ... كلهم رازحون تحت استبداد واحد؟! سيبقون تحت تلك الأثقال إلى ما شاء الله . أهكذا يفعل أبناء الدولة الصادقون؟! تبا لهم! ولكن الدواء عندي. ماذا ترى؟»
فقال: «أرى ما رآه أمير المؤمنين، وقد تفضل الساعة فقال إن الجمع بين هذه العناصر مستحيل، ولا سيما أن كل عنصر يحقد على العناصر الأخرى و...»
فقطع السلطان كلامه قائلا: «تبا لهم! كيف يجمعون هذه العناصر؟! بل كيف يجمعون بين المسلم والمسيحي واليهودي، والمسلمون طوع إرادتي أنا خليفة النبي
صلى الله عليه وسلم
ولا يفعلون غير ما أريده، ليس في مملكتي فقط بل في سائر أنحاء العالم؟! كأنهم يحسبون المسلمين قد مرقوا من دينهم كما فعلوا هم.» وضحك وعاد إلى التدخين، وتناول سيكارا دفعه إلى السر خفية فتناوله وقبله ووضعه في جيبه، وأدرك من ذلك أن السلطان يستحث غيرته لينبه قريحته لاختراع حيلة لمقاومة تلك المساعي، فأطرق هنيهة ثم قال: «إن رأي مولاي البادشاه فوق كل رأي، ولكني أستأذنه في كلمة.»
قال: «قل، إني أحب آراءك وأعتقد محبتك، فأنت صديقي الوحيد لا أعول على سواك، ونحن شركاء في الأمر لأن ما يمس الدولة يمسسك وما ينفعها ينفعك. هل نترك أولئك الأغرار يغلبوننا بصياحهم وعندنا السلطة الدينية والسياسية وعندنا الأموال ...؟» قال ذلك بلحن التهديد.
فسر السر خفية بذكر المال وقال: «إني أرى أن يكون الجزاء من جنس العمل، هم يحاربون الدولة بجمع العناصر ونحن نحاربهم بتفريقها، ولا وسيلة لذلك أنفع من الدين.»
فقال السلطان وهو يحك ذقنه بسبابته: «أصبت. هكذا الأمر.»
فقال: «هم يزعمون لأوروبا أنهم جميعا مظلومون، ويسعون في تفهيم الرعايا أن الوسيلة الوحيدة لخلاصهم أن يجتمع المسلم والمسيحي، وسنبين للمسلمين أن هذه المساعي إنما يراد بها ضياع دينهم وإدخالهم في زمرة الكفار ...»
فقطع السلطان كلامه بقوله: «حسنا، إن شعبي المؤمن شديد الغيرة على الإسلام. وأزيد على ذلك أن السير على هذه الضلالات والإصغاء إليها يقود إلى خروج نساء المسلمين حاسرات الوجوه كنساء الإفرنج الكفار، وأنا أعلم تمسك عامة المسلمين بالحجاب.»
فأخذ السر خفية في إطراء ذكاء السلطان ودهائه، ثم قال: «الواقع أن هدف ذلك الاتحاد ليس سوى هذه النتيجة، وهؤلاء الأغرار أنفسهم يقلدون المسيحيين في كل حركاتهم فيعاقرون الخمر ويجالسون النساء ويفعلون كل محرم ... لله در ذلك العبد المخلص الذي صور مدحت ورجاله تلك الصورة! فإنه قد أصاب كبد الحقيقة.»
فلما سمع السلطان اسم مدحت اقشعر بدنه ولكنه تجاهل وقال: «هذه أفضل السبل، اكتب إلى رجالك بهذا المعنى. ولا حاجة بي إلى أن أوصيك بأن يبقى هذا الحديث مكتوما عن كل إنسان حتى الباشكاتب وعزت وغيرهما، فإني أعول عليك فقط. أنفق ما استطعت في هذا السبيل، ومتى عرفنا أعضاء تلك الجمعية نجعل جزاءهم القتل!» قال ذلك وتناول ورقة بجانبه وكتب عليها بيده أمرا إلى وزير المالية أن يدفع إليه عشرة آلاف ليرة عثمانية حالا، ودفع الورقة إليه وقال: «وخوفا من تأخير الدفع سأعطيك الآن دفعة مستعجلة.» ومد يده إلى جيبه وأخرج ورقة مالية بألف ليرة إنكليزية سلمه إياها، فتناولها وقبلها وجعلها في جيبه. وأشار إليه السلطان أن يجمع تلك الأوراق في المحفظة حتى يعيد نظره فيها مرة أخرى، ثم قال: «وصائب بك ينبغي أن نكافئه، لا تنس ذلك.»
فقال السر خفية: «هو مغمور بنعم أمير المؤمنين، ولكنه بعث إلي تلغرافا بطلب رتبة لواحد من المخلصين ساعده في كشف ذلك السر.»
فقال السلطان: «حسنا، قل للباشكاتب يعرض اسمه فنكافئه على إخلاصه، إننا لا نبخس المخلصين الأمناء حقهم.»
وبينما هما في ذلك إذ دخل الحاجب وقال: «إن الصدر الأعظم بالباب.» وأدرك السلطان عبد الحميد أن الصدر الأعظم لم يأته رأسا إلا لأمر يهم الدولة وله علاقة بالدول الأخرى، ولهذا لم يستطع رده رغم أنه مشغول بما كان فيه، فأشار إلى السر خفية أن ينصرف وأذن للصدر الأعظم في الدخول، فدخل وحيا ووقف حتى أشار السلطان إليه أن يجلس، فجلس متأدبا ينتظر أن يفتح السلطان الخطاب إذ ليس من آداب مجالس الملوك أن يخاطبهم أحد قبل أن يبدءوا هم الكلام. فتجلد السلطان كأنه لم يكن في شيء مما كان فيه وقال: «كيف الأحوال؟»
قال: «إن الأحوال حسنة، لكنها تحتاج إلى نظرة من مولاي البادشاه.»
ففهم أن الصدر لا يقول ذلك إلا لأمر مهم، فقال: «ما وراءك؟»
فأخرج الصدر ورقة من جيبه ودفعها إلى السلطان وقال: «هذه خلاصة ما جاءنا اليوم، إن الدول الأجنبية تستخف بنا!»
فتناول السلطان الورقة فقرأها وأعادها إلى المنضدة وقال: «أراك قد علقت على هذا الخبر أهمية كبرى.»
قال: «كيف لا يا سيدي وهذا قيصر روسيا وملك إنجلترا قد اجتمعا في «روال» وقررا ما يؤدي إلى ذهاب تركية أوروبا من أيدينا؟»
فهز السلطان رأسه وتكلف الابتسام وقال: «كثيرا ما قرروا مثل هذه القرارات وقد عرقلت مساعيهم.»
فامتعض الصدر من تعبير السلطان في هذا الموقف بصيغة المفرد كأنه هو الفاعل لكل شيء، ولم يهمه هذا بقدر ما أهمه استخفافه بالأمر فقال: «لا شك أن حكمة أمير المؤمنين تتغلب على كيد الكائدين، ولكن ذلك يفتقر إلى المال والخزانة تشكو الفراغ.»
فلما سمع قوله أظهر الاستغراب وقال: «عجبا! لقد عهدت إليك في أمر الصدارة لتتلافى ما وقع فيه أسلافك. إن مملكتي الواسعة كثيرة الإيراد، أين تذهب الأموال؟»
ولو أراد السلطان أن يفهم مصير الأموال لعلم أنها تذهب بسبب دخول رجاله وخاصته في كل فروع الحكومة، يتسلطون عليها ويستولون على الإيراد أو يضيعونه بسوء إدارتهم، ولا تستطيع الصدارة أن تعارضهم حتى لا يقع الغضب عليها. على أن الصدر لم يجرؤ على التصريح بذلك، فاكتفى بأن قال: «إن مملكة جلالة السلطان واسعة، زادها الله سعة! ولكن الإيراد يذهب من سوء الإدارة و...»
فقطع السلطان كلامه بصوت عال قائلا: «وأنت المسئول عن ذلك، فهمت؟»
فعلم الصدر الأعظم ألا فائدة من الكلام، وعاد إلى مسألة روال فقال: «ولكن مسألة روال؟ ألا يرى مولاي الاهتمام بشأنها؟»
فقال السلطان: «ما روال هذه؟ دعنا منها الآن. ولا بد من تدبير النقود، فإني في حاجة إليها لمساعدتكم في إدارة هذه الحكومة، ولولا سهري وتعبي لذهبت دولتنا هباء منثورا، تقعون في الخطأ فأضطر أنا إلى إصلاحه وهذا يقتضي الأموال.» وحملق بعينيه وتشاغل بنفض رماد السيكار في المنفضة وسكت.
فتهيب الصدر، وهو يعلم أن غضب السلطان لا يرد، ولكنه لم ير بدا من الرجوع إلى الموضوع فقال: «إن مسألة روال لولا أحوال أخرى لم يكن لها أهمية.»
قال: «أراك عدت إلى الشكوى من قلة المال!»
قال: «يا سيدي إني لا أطلب المال لغير الجند، إن معولنا على الجنود وهؤلاء ينبغي أن يستولوا على مرتباتهم و...»
فنهض السلطان غاضبا وقال: «الجنود؟! لقد أنفقت مالي وراحتي في سبيل إرضائهم وهم يتذمرون! أعطوهم رواتبهم. من أين آتي بالمال؟ إن إيرادات الحكومة في أيديكم، وأنا لم أستول على راتبي منذ أشهر، وإذا احتجت إلى المال فذلك لأنفقه في سبيل مصلحة الدولة، وكثيرا ما أطلبه فلا أجد منه شيئا! لا، لا، هذا شيء لا يحسن السكوت عليه بعد الآن. وقد طلبت الآن صرف مبلغ زهيد لمصلحة الدولة، فادفعوه لحامل أمري حالا!»
ورأى السلطان أنه بالغ في التعنيف بغير حق، فخفض صوته وأظهر التلطف وقال: «ومع ذلك لا بد من اتخاذ التدابير لزيادة الإيراد، وأنا أكلفك أن تضع لائحة في هذا الشأن. لا ينبغي لنا أن نجعل للأجانب سبيلا إلى انتقاد أعمالنا.»
وكان الصدر مخلصا في خدمة الدولة، لكنه لم يؤت من الجرأة ما يكفي للتصريح بفكره، ولو أوتيها ما عادت بفائدة! فلما رأى غضب السلطان نهض ووقف مصغيا لكلام السلطان، حتى إذا فرغ منه أشار مطيعا وانصرف وهو يقول في سره: «لا يرجى إصلاح هذه الدولة وهذا الرجل سلطانها!»
وما خلا عبد الحميد إلى نفسه بعد انصراف الصدر حتى نهض وأخذ يتمشى في الحجرة ويتمتم قائلا: «تطلبون المال مني؟ لكن إذا أعطيتكم ما عندي فكيف أدافع عن حياتي؟ كلكم تحتفظون بالمال لأنفسكم، ألا يحق لي أن أفعل مثلكم؟»
ثم مشى مستطرقا من غرفة إلى أخرى وهو يتلفت كأنه يحاذر أن يتبعه أحد، حتى أتى غرفة صغيرة مهملة لا يدخلها أحد وضغط على زر وراء بابها، فانفتح في الحائط المقابل باب دخل منه في دهليز إلى حجرة فيها خزانة من الحديد، فأخرج من جيبه مفتاحا فتحها به، وإذا هناك أكداس من المال والذهب والجواهر، فلما وقع بصره عليها أشرق وجهه وانبسطت أسرته، وجعل يقلب ما هنالك من الأوراق المالية الكثيرة ويقول: «أتريدون أن أعطيكم هذه الأموال التي هي عدتي في محاربتكم ولولاها لم تأتوا إلي صاغرين؟ كيف أعطيكم إياها؟! وبماذا أغري بعضكم ببعض حتى لا تجتمعوا علي؟ لولا هذا المال لكنتم أنتم أصحاب السلطة، فأنتم تخادعونني طمعا في المال، وأنا أخادعكم ولا أعطيكم إياه، إنه سلاحي وبه حياتي!»
قال ذلك وعاد فأغلق الخزانة وباب الحجرة وهو يقول: «ليس هذا كل مالي، وهل جننت لأضع كل ثروتي في مكان واحد وأنا محاط باللصوص والجواسيس؟»
ومشى حتى أتى غرفة النجارة ففتح درجا في مكان لا يخطر لأحد وجود المال فيه، وأخرج منه ظرفا فيه مئات من الأوراق المالية ربما زادت قيمتها على نصف مليون جنيه، وجعل يقلبها ويقول: «هذا من مالي، ومثله كثير في هذه الخبايا.» •••
عاد السلطان عبد الحميد إلى قاعة الاستقبال ورجع إلى مطالعة أوراق رامز، فرأى بينها كتبا من شيرين فيها مداعبة ومشاكاة. وبينما هو يقرؤها سبح فكره فجأة ولاحت أمامه صورة القادين ج فأجفل وتحولت هواجسه إلى دار الحريم، فأراد أن يشغل نفسه بقراءة جريدة فرنسية فيها مقالة لرامز، وأخذ يحاول أن يتفهم فحواها لكن صورة القادين لم تبرح ذهنه، فرمى الجريدة على المنضدة واسترخى في مجلسه على المقعد وتنهد تنهدا طويلا ثم قال لنفسه: «ماذا جرى لتلك المرأة؟ هل تحقق حملها؟ ويلاه! بماذا ينبغي أن أشتغل، أبالخوارق المارقين أم بالنساء في دار الحريم، أم بمطالعة التقارير من الجواسيس وعلى الجواسيس؟!»
ثم مد يده إلى صندوق السيكار وتناول سيكارا وأشعله وهو ينظر من خلال الدخان إلى الساعة التي أمامه، ثم نهض متجلدا وقال: «ولكن هذا العمل لا يصعب على همة السلطان عبد الحميد! لم ير عرش آل عثمان سلطانا عاملا مثلي، إني قابض على مملكتي ودولتي وقصري بيد من حديد!» وصفق فجاء الحاجب فصاح به: «ادع نادر أغا!» ثم مشى في الدهليز بين خزائن التقارير السرية نحو دار الحريم وهو لا يلتفت يمنة ولا يسرة. وإذا بنادر أغا قادم عليه من الباب السري المؤدي من دار الحريم إلى القصر فحيا ووقف، ولو كان أبيض اللون لظهرت دلائل البغتة في امتقاع لونه، ولكنها ظهرت في عينيه رغم ما كان يحاوله من التستر. وأدرك عبد الحميد ذلك فقال وهو يتحول إلى حجرة النجارة ليلهو بالحفر: «ماذا جرى؟ هل أرسلتموها؟» يريد هل قتلوا القادين ج طبقا لمشورته، فقال نادر أغا: «خيرا أفندم»، فحملق السلطان فيه وقال: «ماذا؟ ألم ترسلوها؟!» فقال: «لم نتحقق بعد أنها حامل ...»
فقطع عبد الحميد كلامه وقال: «إن الشك وحده كاف لتنفيذ أوامري، ولولا ما تعلم من منزلتك عندي لكنت ...» وسكت والتهديد ظاهر في نظراته وحركاته.
فقال نادر أغا: «ليس في الدنيا من هو أسبق من عبدكم إلى تنفيذ أوامر الذات الشاهانية المقدسة، ولكنني كنت أحسب أمير المؤمنين يفضل بقاءها ما لم يثبت حملها.»
ولما لاحظ الإنكار في وجه السلطان قال: «على أنه ينبغي ألا أكتم شيئا عن سيدي وولي نعمتي ...»
فقال: «قل ما عندك.»
قال: «لا أثق أن الحاضنة المكلفة بمثل هذه المهام تفعل ذلك بأمانة، وربما كنت مخطئا في ظني ...»
فقطع عبد الحميد كلامه قائلا: «فهمت مرادك، صدقت. لأن تلك الحاضنة تعرف لتلك القادين جميلا أسدته إليها بتوسطها لها عندي، ولكن لا بد من التنفيذ.»
فأطرق ذلك الخصي هنيهة وهو ينظر إلى خفة يد عبد الحميد في الحفر على الآبنوس كأنه من أمهر النجارين، ثم قال: «أعرف طبيبا يتزلف إلى القصر منذ حين ويتوسل في طلب منصب، وهو لا يعرف تلك المرأة، فلا يشفق ولا يرحم. وهو أيضا جائع يطلب رزقا، وإذا علم أن جلالة السلطان يكافئه على تنفيذ أمره بأن يجعله من أطباء القصر الملكي فعل ما نريد.»
فضحك عبد الحميد وقال: «تعجبني آراؤك يا أبيض الخصال، إن ترقية الصغار لتسهل الاستفادة من أمانتهم، إذ يحرصون على استبقاء النعمة التي نالوها ... ولكن هل يستطيع ذلك؟»
فقال نادر: «أنا أخاطبه وأجعل ذلك شرطا لتقدمه وليتدبر الأمر، وإذا لم يحسن الأسلوب عددنا ذلك ذنبا حاسبناه عليه.»
فتبسم عبد الحميد وأشار إلى نادر بالانصراف، ومكث هو يفكر في رامز ويود لو يراه لعله يستطلع أسرار الجمعية منه، ولكنه رأى من الحكمة أن يصبر.
في قصر مالطة
كان رامز قد وصل إلى الأستانة في ذلك الصباح بعد أن حمل إليها مع أوراقه من سلانيك، فساروا به إلى دائرة الباشكاتب، فأرسل هذا أوراقه إلى عبد الحميد واستبقاه عنده في حجرة خاصة ليس فيها أحد. فجلس رامز على مقعد هناك، ولم يهمه ما يهدد حياته من الخطر بقدر اهتمامه بشيرين وتفكيره في حالها بعده، ولا سيما لعلمه بأن أباها لا شفقة في قلبه عليها وأن صائبا ربما طمع في زواجها فوافقه على ذلك.
وبعد قليل جاءه الباشكاتب بنفسه فحياه وتلطف في خطابه، وسأله عن سبب القبض عليه سؤال من لا يهمه الأمر وإنما يسأل على سبيل حب الاطلاع، فقال رامز: «لا أعلم السبب.»
قال: «لعلك متهم باشتراكك في إحدى الجمعيات السرية؟»
قال: «نعم، ولكن هذا ليس ذنبا.»
فقال الباشكاتب وهو يظهر الاستغراب: «إذا كنت تعترف باشتراكك في تلك الجمعية فإنك تعرض نفسك لخطر شديد، لأن جلالة السلطان يشدد في منع تلك الاجتماعات الضارة، وما كان أغناك عن الاعتراف بذلك. أقول هذا شفقة عليك إذ يظهر لي أنك من أبناء النعم وأهل الذكاء، ولكنك قليل الخبرة فربما أغراك بعض المتهوسين الذين يسمون أنفسهم الأتراك الأحرار فأدخلك في الجمعية التي سموها جمعية الاتحاد والترقي. وأظنك لو عرفت تاريخ هذه الجمعية لعدلت عنها، إن بعض المحرومين من الوظائف اتخذوها وسيلة للارتزاق بالتهديد، وكان أمير المؤمنين يقطع ألسنة الصائحين أحيانا بالوظائف، وأكثرهم كانوا يبيعون أصواتهم بدريهمات قليلة، فتكاثر أدعياء الحرية. وما أظنك من هؤلاء الأدعياء فالظاهر أنك حر الضمير تقول ما تعتقد، ولكنهم خدعوك حتى أوقعوك في الخطر، ولو أن أحدهم وقع فيه ورأى خلاصه في أن يوقعك مكانه ما تأخر عن ذلك، وقد فعلوا ذلك مرارا. وعلى كل حال ما لنا ولهؤلاء؟ أظنك لم تتناول الفطور بعد؟» ومد يده إلى جيبه فأخرج علبة سجائره ودفع إليه سيكارة، وخرج تاركا إياه يفكر فيما سمعه لعله يبوح بسر الجمعية ليتخلص من الخطر.
وبعد قليل جاءه بعض الحجاب يدعوه إلى الطعام، فنهض وتناول قليلا منه وهو مستغرق في هواجسه، ولم تبرح شيرين فكره. ثم أتوه بالجرائد للمطالعة فأخذ يقرأ وهو لا يفهم ما يقرؤه، حتى إذا آن الغداء تناوله وقد مل الانتظار وأصبح شديد الرغبة في معرفة ما يكون من أمره في ذلك القصر، الذي لا يدخله غريب إلا تهيب من كثرة من فيه من رجال العسكرية وكلهم من أهل الرتب العالية ولا سيما الياوران، ولهم دائرة خاصة يقال لها دائرة الياوران، وفيهم فحول القواد وقروم الأبطال، وهم ثلاث طبقات: ياور، وياور أكرم، وياور فخرى، والياور الأكرم فوق سائر المراتب قدرا. وكانوا يمرون به وعليهم أمارات الشرف والأبهة رءوسهم تكاد تناطح السحاب.
أما دائرة الباشكاتب نفسها فكانت تحتوي عداه على عشرين كاتبا من ذوي الرتب الرفيعة، وهم من الشبان الناشئين على الأخلاق الجديدة، وكلهم عيون على الباشكاتب كما أنه عين عليهم، وقد باعد الشقاق بينهم فتراهم جميعا وقلوبهم شتى. والباشكاتب هو الواسطة بين السلطان والحكومة، أي يبلغ إرادته وأوامره إلى الصدر الأعظم أو شيخ الإسلام.
وعلى الباشكاتب ترد الأوراق الرسمية من الباب العالي ومن شيخ الإسلام والنظارات والولايات، كما تصدر عنه إلى الباب العالي وجميع الجهات. وهو يبعث بملخصاتها لتوضع على المكتبة السلطانية، فيتلقى عنها الإرادات بتبليغ الأمناء أوامر يأمرهم السلطان بالتبليغ من موظفي الحضرة الشاهانية. والباشكاتب يبعث بالإرادات السنية بإمضائه في أوراق صغيرة إلى الصدر الأعظم أو إلى من تخصهم من الوكلاء والوزراء.
وحين يتسلم الصدر الأعظم أو غيره تلك الإرادات يكتب على كل منها تاريخ تسلمها باليوم والساعة والدقيقة. ولدى الباشكاتب دفتر يكتب فيه صورة ما يبلغ من الإرادات وتاريخها ويوقع عليها، وهذه عادة جديدة دعا إليها ما تبين من تبليغ إرادات لا أصل لها.
وكان الباشكاتب يعد ركنا عظيما من أركان الجواسيس في السراي، وهو يعرض فوق وظيفته الرسمية العليا أوراق الجواسيس التي ترد عليه منهم، ويوليها النصيب الأوفر من عنايته واهتمامه، فلا تلبث في يده إلا ريثما يتناولها فيبعث بها إلى الحضرة الشاهانية فتذهب أسرع من منحدر السيل، فيتلقى عنها الإرادة في الحال سواء أكانت للاستجواب أو الاستيضاح أو الالتفات والإحسان. وهذا عدا الأوراق الرسمية أو أوراق ذوي الحاجات، فإن لها طريقا في العرض لا يتغير، وربما تأخرت شهورا وربما ضاعت ولا ينفع البحث عنها.
على أن السلطان كثيرا ما كان يدعو رئيس الجواسيس إليه رأسا متى شاء للنظر في شأن يهمه، كما فعل في مسألة رامز. وقد يأتيه الصدر الأعظم رأسا لأمر مهم خوفا من اشتغال الباشكاتب عن مطالبه المهمة بتلبية مطالب الجواسيس. •••
ظل رامز في الحجرة التي أفرد فيها إلى المساء، ثم جاءه الباشكاتب وسأله أهو في حاجة إلى شيء، وقال له: «إنما أتيتك بنفسي لكي تستأنس بي لأني أشفقت عليك، فهل رأيت أن تسمع نصيحتي قبل أن أسلمك إلى المحققين؟»
فقال رامز وهو رابط الجأش: «لم أفهم مرادك يا سيدي.»
فقال: «نصحت لك أن ترجع إلى رشدك وتعدل عن الغرور وأنا أضمن لك السعادة. المطلوب أن تخبرنا عن أسماء الأشخاص الذين أغروك بالدخول في تلك الجمعية، إن الاطلاع على خبرهم لا بد منه لأن الذين سيأتون إلينا منهم كثيرون، ولكنني أحببت أن يكون ذلك على يدك لتنال الجزاء الحسن.»
فهز رامز رأسه هزة الإنكار وقال: «إن مثلي لا يخاطب بمثل ذلك يا حضرة الباشكاتب!» وسكت.
فأظهر الباشكاتب الامتعاض من جفاء عبارته، وتحول عنه وهو يقول: «لقد أخطأ ظني فيك.»
وبعد قليل دخل على رامز ضابط أومأ إليه أن يتبعه، فنهض وخرج معه فوجد بضعة رجال من الجند ببنادقهم ينتظرونه خارجا، فأشار إليه الضابط أن يتبعه فمشى في أثره في طريق واسع يؤدي إلى حديقة يلدز الخارجية، ولم يكن قد دخل يلدز من قبل. فرأى السور الضخم الفاصل بين الحديقتين كأنه سور مدينة حصينة، وسار به الجند بجانب ذلك السور حتى عرجوا في بعض الطرق بين الأشجار الغضة إلى قصر على بابه الحراس بأسلحتهم، فأشار الضابط إليه أن يدخل فدخل. ودخل أحد الحراس معه في دهليز القصر، ثم أصعده في سلم مغطى بالسجاد إلى الطبقة العليا، ومشى أمامه حتى أوصله إلى غرفة وقال له: «تفضل يا سيدي امكث هنا.»
فقال رامز: «ما هذا المكان؟ أين أنا؟»
قال: «لا تخف، إنك ضيفنا، وهذا القصر قصر مالطة.»
فلما سمع رامز الاسم أجفل وتهيب، إذ تذكر أن مدحت باشا أبا الأحرار حبس فيه حينا في أثناء محاكمته التي حكم عليه بعدها بالنفي إلى الطائف حيث وافته منيته، فجمد في مكانه حينا لشدة التأثر ثم انتبه لنفسه فتجلد. وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب وأقبلت طلائع الظلام فأسرع بعض الفراشين لإنارة غرف القصر وفي مقدمتها تلك الغرفة، وهي مفروشة بالبسط الثمينة وفيها مقاعد وكراسي ومنضدة. وآنس رامز في الخادم لطفا فقال له: «أليس في هذا القصر أحد سواي؟»
فابتسم الحارس وأجاب: «لا أعلم يا سيدي.»
فاقشعر بدنه من ذلك الجواب، لأنه توقع أن تكون وراءه أسرار رهيبة إذ طالما سمع بيلدز وفظائعها، لكنه تجلد وقال: «أيطلب مني أن أبقى في هذه الغرفة؟»
فأشار إليه أن يتبعه حتى دخل من باب فيها إلى غرفة أخرى فيها سرير مفروش، وقال: «هذا هو الفراش الذي ستنام عليه دولتكم.» وقد خاطبه بهذا اللقب لأن هذا القصر لا يسجن فيه إلا كبار رجال الدولة.
جلس رامز على المقعد وقد اسودت الدنيا في عينيه واستغرق في مخاوفه، وأخذ يردد في ذهنه ما مر به في ذينك اليومين من الأهوال وتحقق أنه مقتول، فجاشت في صدره عاطفة الإشفاق على شيرين وما يكون من أمرها إذا بلغها قتله. وتذكر محاسنة الباشكاتب له وما وعده به من الحسنى إذا باح بخبر الجمعية، وتذكر أناسا فعلوا ذلك ونالوا المكافأة بالأموال والرتب، فحدثته نفسه لحظة أن يستبقي حياته إكراما لشيرين، ثم غلبت عليه الأنفة وعزة النفس فصمم على الثبات.
وبعد هنيهة سمع وقع أقدام وإذا بالخادم يدعوه إلى العشاء، ولم تكن نفسه تشتهي الطعام لكنه لم يشأ أن يظهر الضعف، فمشى إلى مائدة كبيرة جلس إليها وحده لتناول الطعام وهو يفكر في حاله. ثم نهض إلى نافذة تؤدي إلى شرفة تطل على حدائق يلدز وقد خيم عليها الظلام، ولكنه رأى بعض الأنوار عن بعد في بعض قصور يلدز وما بعدها، وجلس على كرسي وقد أحس بالوحدة وغلبت عليه الوحشة وهو لا يعلم مصيره، وهل يقتل في تلك الليلة أم يسأل عن أسرار الجمعية قبل ذلك.
ثم شعر ببرد خفيف فدخل إلى غرفة الجلوس، وما استقر به المقام حتى سمع حركة ووقع أقدام فأصغى، وما عتم أن رأى رجلا دخل عليه وقد التف ببرنس يغطي أثوابه وتلثم حتى لا يبدو من وجهه شيء غير عينيه، فأقبل عليه وتناول كرسيا وجلس أمامه، فاقشعر بدن رامز وصبر ليرى ما يبدو منه.
فبادره الملثم بالسلام وسماه باسمه فأجفل ولكنه رد التحية، فقال الرجل: «قد أتيتك بنصيحة أرجو أن تقبلها.»
فهز رامز رأسه هزة الاستفهام كأنه يسأله «ما هي؟»
قال: «أنت شاب في مقتبل العمر فلا تلق بنفسك إلى التهلكة.»
فاستغرب هذه النصيحة من رجل لم يسمع صوته من قبل، فقال: «وأي تهلكة تعني؟»
قال: «أنا أعرفك وأعرف أحوالك، فإذا لم تشفق على نفسك فأشفق على شيرين.»
فلما سمع اسم خطيبته ارتعدت فرائصه وتولته الدهشة، وجعل يتفرس في عيني الرجل وفي قيافته فلم يذكر شيئا عنه وأرتج عليه، فقال الرجل: «لا تستغرب اطلاعي على حقيقة حالك، ليس في هذه القصور أحد يعرف ذلك سواي، وقد علمت ما كان من عنادك اليوم عند الباشكاتب، وعلمت أن ذلك يذهب بحياتك وحياة خطيبتك، فلا تستسلم للجهل واعلم ألا سبيل للنجاة من القتل سوى الإقرار، وإنما يطلب منك أن تذكر أسماء الشبان الذين أغروك بالدخول في تلك الجمعية، فتنال العفو مع المكافأة وتكسب حياتك وحياة شيرين!»
قال: «وما دخل تلك الفتاة في هذا الأمر؟!»
قال: «إنها شريكتك في الجريمة، وهي التي كانت تشجعك على كتابة تلك المقالات ضد الذات الشاهانية.»
فتجلد رامز وأظهر الاستخفاف وقال: «لا دخل لها في شيء من ذلك. من أنت؟»
قال: «لا يهمك من أنا، ولكن صدق ما أقوله يدلك على إخلاصي في نصحك. وإذا كنت لا تصدق فإني أطلعك على ما كتبته بيدها تشاركك في النقمة على جلالة السلطان.»
وكان رامز يعلم أن بين أوراقه كثيرا من خطابات شيرين ولكنها لم تكن تذكر اسمها صريحا، فاستغرب اطلاع ذلك الرجل على اسمها وعلى أنها خطيبته، فرأى الإنكار أولى فقال: «لا شريك لي في هذه التهمة. دع الكلام عن النساء، أما أنا فمتى سئلت عن الجمعية فسأجيب بما أراه.»
قال: «لا فائدة من الإنكار، وأنا لا أطلب الجواب منك الآن، ولكني نصحت لك حتى إذا سئلت لا يأخذك الغرور وتقتل نفسك وأعز الناس عندك، هذه نصيحتي لك وإن غدا لناظره قريب.» قال ذلك ووقف ثم غادر الغرفة وترك رامزا يتقلب على الجمر من الدهشة والاستغراب. وبقي رامز وحده وقد أحاطت به الهواجس والمخاوف وتصور أنه في حلم، وراح يسأل نفسه: من يكون ذلك الطارق؟! وكيف عرف شيرين؟! وما الذي حمله على إسداء تلك النصيحة؟! ثم غلب عليه التعب لفرط ما قاساه من القلق والاضطراب، فنهض وأوى إلى فراشه يطلب الرقاد.
وقضى اليوم التالي وحده وهو في كل ساعة ينتظر أن يأتيه من يستجوبه ويستطلع خبر الجمعية منه، ويهيئ الأجوبة ويستعد للثبات على رأيه والمحافظة على العهود التي أقسم على صيانتها. على أن سياسة القصر اقتضت التظاهر بعدم الاكتراث، ولكنهم وسوسوا له على يد الباشكاتب وذلك المتستر ما يبعثه على الخوف ويحمله على الإقرار. ولعل القارئ أدرك أن ذلك الملثم إنما هو رئيس الجواسيس نفسه، وقد اطلع على علاقة رامز بشيرين من رسالة خاصة جاءته من صائب بك، وعلم أنه إذا استطاع كشف سر الجمعية نال جزاء عظيما. •••
كان السلطان يسأل باهتمام عما تم في أمر رامز، فلما علم بأنه مصر على التكتم رأى أن يحتال لحمله على الاعتراف على يد عزت باشا، وكان هذا بالغ الذكاء والدهاء مما حمل السلطان على الاعتماد عليه في أهم شئون السياسة وجعله مشيره الأول، وهو الذي أنقذه من عواقب مذبحة الأرمن، وكان ذلك من أكبر أسباب تقريبه والوثوق به. فرأى عبد الحميد أن يكلفه استجواب رامز وإن كان ذلك خارجا عن دائرة عمله، ولم يشأ أن يطلب ذلك منه رأسا بل تطرق إليه في أثناء حديثه معه بشأن اجتماع روال فبعث إليه، فلما جاءه قال له: «أنت معتمدي في المهمات السياسية، وقد جاءني الصدر بخبر اجتماع روال فهل علمت بذلك؟»
فقال عزت: «لا أكذب جلالة مولاي البادشاه أن هذا الخبر من الأهمية بمكان عظيم، لكنني لا أتوقع تنفيذه لاختلاف الدول في المقاصد والأغراض، وإن كان ذلك لا يمنع سعينا في سبيل إفساده.»
قال: «هل دبرت لذلك شيئا؟ إني شديد الثقة بك.»
قال: «إن هذه الثقة التي لا أستحقها تجعلني عبدا رقا أبذل حياتي في مصلحة جلالة السلطان، وأنا مفكر في أمر سأعرضه بعد قليل.»
وكان السلطان جالسا على كرسيه في قاعة الاستقبال والمحفظة لا تزال أمامه، فلما سمع قول عزت تشاغل بإزاحة المحفظة إلى ما بين يديه وقال: «أنت تعلم يا عزت أنك موضع ثقتي بل أنت صديقي الوحيد، ولا أنسى الخدمات الجزيلة التي قمت بها دون سواك من رجالي وقليل فيهم الصادق المخلص، ومع كثرة الحائمين حولي قل من أعول عليه، بل أنا لا أعول على سواك. أتعلم ماذا أطلب إليك؟»
قال: «إني عبد مولاي وطوع إرادته وأفديه بروحي.»
قال: «بارك الله فيك! أنت تعلم ما نقاسيه من أولئك الغلمان الذين يسمون أنفسهم الأحرار، وكثيرا ما أنبأتني بضعفهم وعجزهم عن غير الصياح، وقد كفاني منير باشا سفيرنا في باريس مئونة كثيرين منهم حتى اضمحل شأنهم وانحلت جمعيتهم. لكنني علمت بالأمس أنهم استأنفوا أعمالهم من سبيل آخر، فألفوا جمعية في سلانيك دخل فيها كثيرون من الضباط، ولم يعرف الجواسيس أحدا من هؤلاء لأنهم شديدو التكتم. غير أن ناظم بك قومندان مركز سلانيك تمكن بواسطة أحد أعوانه من القبض على واحد منهم وحمله إلينا مع أوراقه وهي هنا في هذه المحفظة، وقد قرأتها وفهمت منها أن أولئك الملاعين يعملون بدهاء وحذر، ويهمني الآن معرفة الأعضاء العاملين في هذه الجمعية. وهذا لا يمكن الاطلاع عليه إلا من زميلهم هذا، وهو مسجون في قصر مالطة للآن، لكنه صعب المراس فلم أرد أن يستجوبه أحد سواك وإن لم أكلفك مثل هذا الأمر من قبل، وهذا يدلك على مبلغ ثقتي بك.»
وكان عزت يصغي لكلام السلطان متحفزا للرد، والذكاء ينبعث من عينيه ويخترق أقصى ضمير السلطان. فلما فرغ هذا من كلامه أجابه قائلا: «لم يكن أمر هذه الجمعية غريبا عن عبدكم، ولا أنا ساكت عنها، وإن كنت لم أذكر شيئا من أمرها لمولاي البادشاه تجافيا عن التنويه بسهري على الدولة ومقاومة المارقين الأغرار. إن هذه النهضة لم يكن منشؤها في سلانيك فقط، لكنها ظهرت في الشام وكادت تشتعل نارها لو لم أبادر بقطع دابرها من هناك.»
فنظر عبد الحميد إلى عزت نظر الرضا والارتياح، وابتسم وعيناه تتلألآن ببريق الارتياح والإعجاب، حتى ليتوهم من يراه أنه مثال الإخلاص والطيبة، وكثيرا ما خدع هذا المنظر جلساءه، بل إن عزت رغم طول اختباره وفرط دهائه كثيرا ما كانت هذه النظرات تؤثر فيه. وهم بأن يتم حديثه فقطع عليه عبد الحميد كلامه قائلا: «بورك فيك من صديق مخلص! قد علمت ذلك من السر خفية، وهذا عهدي بإخلاصك. فالآن أرجو أن تكشف لنا أمر جمعية سلانيك من هذا السجين.»
فأشار عزت مطيعا وقال: «سيكون ذلك بفضل الله وتوفيق الحضرة الشاهانية المقدسة التي أفديها بنفسي وأهلي.»
فنهض السلطان وهو يقول: «إن صدري ينشرح كلما رأيتك، وأشعر إذا كلفتك بأمر أنه مقضي.»
فنهض عزت واستأذن في الانصراف ومضى إلى قصره وخاطره مشتغل بأمر رامز وكيف يحمله على الإقرار، وراح يعمل فكره في هذا وهو شديد الرغبة في إنقاذ السلطان من تلك الجمعية الجديدة لينقذ نفسه أيضا، لأن ما يصيب السلطان من شرها يلحقه أيضا. كما أنه كان مقتنعا بأنه يخدم الدولة أيضا بهذا المسعى، لأن خشيته على حياته من نجاح الأحرار كانت تريه كل أعمالهم من قبيل الأخطاء والأخطار.
وقضى ليلته يفكر ويدبر، ثم بكر في الصباح فبعث في طلب رامز، وأوصى بأن يحمل إليه في مركبته، وكان قصر عزت في الطرف الآخر من يلدز. •••
وكان رامز قد مل الانتظار، ويئس من الوقوف على مصيره. فلما أصبح في ذلك اليوم لبس ثيابه وجلس يتناول الفطور غارقا في هواجسه، ثم سمع وقع حوافر الخيل قرب القصر فأجفل ونهض إلى شرفة تطل على الطريق فرأى مركبة يجرها جوادان، ثم سمع وقع خطوات في الدهليز، وما لبث أن دخل عليه الخادم مسرعا وقال له وهو يبتسم: «أفندم، تفضل إلى المركبة.»
فقال: «إلى أين؟»
قال: «إن مولانا عزت باشا يدعوك إليه في قصره، وهذه مركبته بالباب.»
فاستغرب تلك الدعوة ولكنه تجلد ونزل إلى الباب، فرأى جاويشا واقفا بانتظاره وأومأ إليه أن يركب فركب، وركب الجاويش بجانب السائق. وسارت المركبة إلى قصر عزت.
وبعد بضع دقائق رأى نفسه بباب ذلك القصر، فاستقبله أحد الحجاب بالإكرام ودعاه إلى حجرة الاستقبال، فدخل وهو يفتكر فيما عساه أن يترتب على تلك الدعوة، فدعاه الحاجب إلى الجلوس. وبعد هنيهة أقبل عزت باشا يمشي الهوينا وبيده جريدة يطالع فيها بدون اكتراث، فوقف له رامز ولم يكن يعرفه من قبل، فرآه كهلا ليس بالطويل ولا القصير، يلوح الذكاء والدهاء في ملامح وجهه.
ودخل عزت باشا عليه دون أن يرفع بصره عن الجريدة كأنه مستغرق في المطالعة، ثم رفع رأسه بغتة وحيا رامزا وأشار إليه أن يجلس، وجلس أمامه وبينهما منضدة، وقال: «أنت ضيفنا رامز أفندي؟»
قال: «نعم يا سيدي، ولي الشرف بذلك.»
فمد يده إلى جيبه وأخرج سيكارة من علبة مرصعة وقدمها له وهو يقول: «ربما تستغرب مجيئك عندي بعد أن كنت تتوقع أن تؤخذ إلى السر خفية أو غيره من الجواسيس، ألا تعد ذلك إكراما خاصا؟»
فقال: «أجل يا سيدي، وشكرا لكم.»
قال : «لا ينبغي لي أن أكتمك السبب الذي حملني على دعوتك إلى هنا، اعلم أني قد استأذنت جلالة البادشاه في مخاطبتك شخصيا لما بلغني من الخطر الذي يهددك، وقد علمت أنهم لم يحسنوا التفاهم معك في الأمر المطلوب منك. فأحببت أن آخذ هذا الأمر على عاتقي، وتعهدت بأن أمحضك النصيحة، فهل أنت عارف قدر ذلك؟»
قال: «نعم أفندم».
فقال عزت وهو يعتدل في مجلسه: «أنا أحب أن أباحثك وأبين لك وجه الصواب، وأنت تختار الطريق الأصلح. لا أهددك بالقتل، ولا حاجة بي إلى أن أبين لك الخطر المحدق بك فأنت أعقل من ذلك. إنما أسألك عن السبب الذي حملك على الدخول في تلك الجمعية، ألم تكن تعلم أنها من الجمعيات الضارة؟»
قال: «عفوا يا سيدي، هل لي أن أفهم الضرر الذي تعنونه؟»
قال: «أحسنت الاستفهام، إن الضرر الذي أعنيه أن وجود هذه الجمعيات مضر بصالح الدولة.»
قال: «كيف يكون ذلك وغرضها الأول إنقاذ الدولة من الأضرار؟ هل تأذن لي في أن أخاطبك بحرية؟»
قال: «بكل سرور، تفضل قل كل ما تريده ولا تخش شيئا، إنك تخاطب رجلا عركه الدهر ولم يمر بذهنك أو أذهان أقرانك خاطر لم يخطر له. وقد تبصرت في هذا الأمر مليا، ولو وجدت فيه نفعا لم أرجع عنه.»
فاستبشر رامز بهذا التصريح وقال: «هل سبق لسيدي الباشا أن فكر في الخلل المتمكن من جسم الدولة؟»
فأشار برأسه وعينيه أن نعم.
فقال: «إذن، قد علم سيدي أن هذا الخلل سببه سوء الإدارة؟»
قال: «لا أنكر ذلك، إن الحكومة تحتاج إلى إصلاح، لا شك في ذلك.»
قال: «هذا هو الأمر الذي نحن ساعون فيه.»
فابتسم عزت وقال: «هذا هو وجه الخطأ، نحن متفقون في تشخيص الداء ولكنا مختلفون في وصف الدواء.»
قال: «أشكرك يا سيدي لإطلاق حرية الكلام لي. إني أستغرب أن يكون هناك وجه للاختلاف في العلاج، فما دامت أحوال الدولة مختلة بسبب سوء إدارة الحكومة الحاضرة فإبدالها هو الدواء الوحيد.»
قال: «أظنك تعني أن تقلب الحكومة من نظام الاستبداد إلى الدستور؟»
فقال: «نعم، وهل ثمة طريق آخر؟»
قال: «هذا كلام جميل ولكنه أشبه بالخيال الشعري منه بالرأي السياسي، هل تظن الأمة العثمانية مستعدة للدستور؟» قال: «نعم.»
فسعل عزت باشا وأخذ يمسح فمه بمنديله، ثم قال: «لو كانت مستعدة له ما ضيعته بعد أن نالته. أؤكد لك أن الذات الشاهانية منحت رعاياها الدستور وهي تود من صميم القلب أن يكونوا على استعداد له، ولكن ظهر بعدئذ أنه كان السبب في الخراب. ولولا حكمة مولانا السلطان لما أنقذت الدولة من الاعوجاج الذي ظهر من النواب والانقسامات التي آلت إلى زيادة طمع الدول فينا. إن الشعوب الشرقية على العموم والشعب العثماني على الخصوص لا يصلح للحكم الدستوري.»
فاستأنس رامز بذلك الكلام وقال: «لا أنكر يا سيدي أن الحكم الاستبدادي إذا تولاه رجل عاقل عادل كان أسرع نتيجة في الإصلاح ولكن ...» وسكت مكتفيا بفطنة السامع.
فبادره عزت قائلا: «اسمح لي أن أقول بحرية تامة إن السلطان عبد الحميد مظلوم، إنه أشد غيرة على سلامة الدولة من أي واحد منا، لأن في سلامتها سلامته وتأييد سيادته. وهو لم يعدل عن الحكم الدستوري إلا غيرة على الدولة وصيانة لها من مطامع الدول التي أحدقت بها من كل ناحية، وقد استطاع بدهائه وذكائه وسهره أن يحافظ عليها، ولو لم يتدارك الأمر بنفسه لانحلت وتقاسمتها الدول. أنا أعلم الناس بالحقيقة صدقني.»
فأطرق رامز عند سماع ذلك، وكاد يقتنع بأنه مخطئ لو لم يستدرك الأمر فقال: «يا للعجب! كيف تقول هذا وليس في الدنيا رجل واحد يوافقك عليه؟! لقد أجمع الناس قاطبة من عثمانيين وغيرهم على أن الخلل المستحوذ على الدولة سببه سوء الإدارة الحاضرة، ولا سيما لأنها في قبضة القصر وأهله. سامحني على هذا التصريح.»
فضحك عزت ملء فيه وقال: «هذا هو موضع الخلاف ومنشأ المتاعب، إن سبب ذلك في الواقع هو أننا نسيء الظن بسلطاننا، بينما الأجانب يسعون في توسيع الخرق وتفريق قلوبنا ... هذه هي الحقيقة يا بني، فسبب الاختلال ليس رجال القصر، بل الشبان الخوارج الذين يسمون أنفسهم الأحرار، إنهم يطنطنون ويصيحون رجاء أن يعمد جلالة السلطان إلى إسكاتهم بالمناصب أو المال. ولا أنكر أن بينهم أناسا يعملون بإخلاص، ولعلك واحد من أولئك المخلصين، ولكن الباعث الأول لحركتهم هو ما ذكرته لك، وقد مضى عليهم ثلاثون سنة ظهروا في أثنائها بمظاهر مختلفة انتهت دائما بما يثبت قولي. يظهر أنك حديث العهد في هذا الأمر، وقد اندفعت في تيار الأفكار الإفرنجية التي يبثها الأعداء في رعايا الدولة باسم الدستور أو الحرية، إن لكل أمة حالا غير حال الأمم الأخرى. ولو أنهم تركونا وشأننا لكنا في خير، إنهم ليسوا أكثر غيرة على دولتنا من جلالة البادشاه، فهو ما فتئ منذ أخذ على عاتقه إصلاح الدولة ينشئ المدارس العالية لتخريج الشبان الجديرين بتولي مناصب الحكومة. ولكن المتخرجين أصبحوا أكثر من المناصب الموجودة، وهؤلاء الغاضبون الطاعنون في الحكومة هم الذين فاتتهم المناصب، وقد اتخذوا ذلك سبيلا إلى المال، لأن جلالة السلطان كان يقبل النادمين منهم ويحسن معاملتهم. ومن هنا تكاثر الشاكون وتفننوا في الأسباب والذرائع، وقلدوا الإفرنج في جمعياتهم السرية، فالجمعية التي ألفت أخيرا في سلانيك ليست الأولى من نوعها. وأؤكد لك أنه لا تمضي برهة وجيزة حتى يأتينا العقلاء من أعضائها مستغفرين طالبين رضى الذات الشاهانية، فأرى أن تكون أنت أعقلهم وأنا أضمن لك حياتك وكل ما تريده، وغاية ما يطلب منك أن تدلي إلى جلالة السلطان بأسماء القائمين بهذا العمل.»
وكان رامز يسمع هذا الكلام وهو مطرق يفكر، فظنه عزت باشا قد اقتنع ولا يلبث أن يوافقه فقال له: «من هم أولئك المؤسسون للجمعية؟ أظنهم بعض المتفرنجين الذين كانوا في باريس أو جنيف؟»
فانتبه رامز لنفسه وقال: «ليس في هذه الجمعية فرق بين مؤسس وغير مؤسس، وأؤكد لك أن الخيانات التي بدت من بعض الأحرار في الماضي لن تتكرر، لأن الأمة تعلمت كيف تطلب حقوقها. فإذا كنت من محبي الإصلاح حقيقة فهذا وقت العمل.»
فهز عزت رأسه استخفافا وقال وهو يضحك: «يظهر أن الغرور متمكن من نفسك ، وقد استهواك ما يطنطنون به من الألفاظ الضخمة كالحرية والدستور ونحوهما. وأتأسف لأن نصيحتي ذهبت عبثا، فاختر لنفسك ما يحلو، وقد فعلت ما علي. وسوف تعترف بالواقع مكرها عندما تذوق العذاب.» قال ذلك وتحرك من مجلسه وهو يخرج علبة السجائر، ثم وقف وهو يظهر العتب أو الغضب.
أما رامز فظل جالسا مطرقا وعينه على غطاء المنضدة التي أمامه وقد استغرق في أفكاره، فتوسم عزت باشا قرب انصياعه، وتشاغل بإشعال السيكارة، ثم رأى الخادم داخلا بالقهوة فقعد وأشار إلى رامز أن يتناول الفنجان ففعل، ثم تناول عزت فنجانه وهو يراقب حركات رامز فرأى الارتباك ظاهرا في محياه، فاستأنف الكلام قائلا: «قد أغضيت عما سمعته من حديثك لأني أحسبك قلته قبل إعمال الفكر، وأنصح لك يا بني بأن تفكر قبل الجواب ثانية. تأمل فيما يهددك من الخطر على حياتك إذا أصررت على التكتم.» وسكت وهو يلاحظ حركات رامز، فرأى حيرته ظاهرة في حركة يده وهو يدني الفنجان من فيه وينظر إلى ما بين يديه نظر المفكر.
فقدم له سيكارة وقال: «لا ألومك على ما بدا من سوء ظنك بجلالة السلطان وأهل القصر، لأنك لا تسمع أخبارهم إلا من أعدائهم، ولو مكثت هنا حينا وتعرفت إليهم لتحققت أنكم مخطئون، ولعلك تعود إلى رشدك وتصدق الخدمة وترى صدق قولي.»
وكان رامز قد فرغ من شرب القهوة، فوضع الفنجان على المنضدة ونظر إلى عزت باشا وعيناه تبرقان وقال: «إذا لم يكن بد من أن أقول شيئا آخر فإني لا أقوله إلا للسلطان نفسه.»
فبش له وقال: «أنت مخير في ذلك، وأنا أقدمك لجلالته وأوصيه بك.» قال ذلك وقد سر لنجاح مهمته.
ثم وقف رامز واستأذن في الانصراف فأذن له، وأشار إلى الحراس أن يوصلوه إلى قصر مالطة، وودعه وهو يبش له.
فمشى رامز بقدم ثابتة وقد زال ارتباكه شأن من يتردد في أمر ثم يستقر على رأي. وفيما هو مار بباب يلدز الخارجي وقع بصره على مركبة مغلقة داخلة منه، ولمح فيها امرأة تشبه شيرين ، فاقشعر بدنه وخفق قلبه بشدة، وبقي بصره عالقا بالمركبة حتى غابت عنه، فوقف ذاهلا وظل كذلك حتى نبهه أحد الحراس بطرف البندقية فانتبه ومشى معللا نفسه بأنه واهم فيما رآه، وأن قلقه على شيرين أراه طيفها فهاجت أشجانه، وما دخل قصر مالطة حتى عاد إلى هواجسه. •••
قضى رامز بقية ذلك اليوم وهو يفكر فيما يقوله للسلطان، وطال انتظاره وهو لا يعلم الوقت الذي سيحدده السلطان موعدا لمقابلته، وتهيب من تلك المقابلة لكنه تجلد وتشجع، وما زال يجول في ذلك القصر منفردا لا يرى أحدا وصورة شيرين لا تبرح ذهنه. ولما انقضى النهار ومالت الشمس إلى المغيب تكاثفت هواجسه وتراكمت، فقعد في الشرفة المطلة على البوسفور واستغرق في أفكاره، وتصور شيرين بين يديه تعاتبه أو تشكو إليه، فتذكر ما شاهده في ذلك الصباح وقال في نفسه: «هل يمكن أن تكون شيرين هنا؟ لكن ما الذي جاء بها؟! لا ... لا! إنما رأيت خيالها.»
وفيما هو غارق في هذه التأملات جاء الخادم لإنارة المصابيح كالعادة فلم يلتفت إليه، ثم رآه آتيا نحوه إلى الشرفة فاستغرب قدومه وتجاهل، فإذا هو يخاطبه قائلا: «تفضل أفندم إذا شئت إلى حجرة الاستقبال.»
فأجفل ووقف وسار نحو القاعة، وقبل وصوله إليها سمع سعالا اضطربت له جوارحه وكاد الدم يجمد في عروقه لأنه يشبه سعال طهماز، واستبعد أن يكون هناك، لكنه تمنى أن يكون هو نفسه لعله يستطلع منه خبر شيرين. ولما وصل إلى الحجرة رأى طهماز يتمشى بقرب بابها وعليه ثوب مزركش بالقصب يلبسه أصحاب الرتبة الثانية، وقد تقاعس وتطاول وأصلح من شأنه وفتل شاربيه حتى كاد رامز لا يعرفه، لكنه ما لبث أن استأنس برؤيته على رغم ثقل روحه عليه فتقدم نحوه وحياه، فرد طهماز التحية وهو يبتسم ابتسام الإعجاب، ومشى معه إلى صدر القاعة ودعاه إلى الجلوس، وجلس وهو يقول: «أهكذا تصنع بنفسك يا رامز؟ ألم يكن الأولى بك أن تسمع نصيحتي؟»
وقال الخادم لرامز: تفضل أفندم إذا شئت إلى حجرة الاستقبال.
فاستثقل رامز ذلك العتاب وإن لم يستغربه من طهماز فقال: «ما لنا ولما مضى يا عماه؟ أين هي شيرين الآن؟»
فقال: «شيرين؟ شيرين المجنونة؟ من يعلم أين هي!»
فقال: «كيف لا تعرفون أين هي؟!»
قال: «الذي نعرفه أنها فرت من سلانيك مع الخادم خوفا من الوقوع فيما وقعت فيه أنت، فذهبت إلى مناستير أو إلى رسنة لأن لها هناك بعض الرفاق من أمثالها وأمثالك أهل الطيش الذين يقلدون النصارى في أفكارهم، وسوف ينالهم ما نالك.» قال ذلك وهو يفتل شاربيه وأخذ في إصلاح القصب على كمه وطوقه كأنه يلفت نظر رامز إلى الرتبة التي نالها.
فأعمل رامز فكره فيما سمعه وأغضى عما تخلل الحديث من سوء التعبير وفساد الذوق، لأن الأمر المهم عنده أن يعرف أين هي شيرين، فغلب على ذهنه صحة ذلك القول لعلمه بالصداقة المتمكنة بينها وبين صديقة لها في مناستير، وهي خطيبة صديقه نيازي بك، لكنه لم يفهم ذلك السبب الذي أوجب فرارها فتجلد وأعاد السؤال على طهماز قائلا: «لا تغضب يا عماه إذا سألتك سؤالا ثانيا، ما سبب فرار شيرين؟»
فضحك طهماز وقال: «سبب فرارها أنت! ألا تعلم أنك أوقعتنا جميعا تحت غضب الذات الشاهانية؟ ولولا صديقنا صائب بك لكنا تحت طائلة القصاص مثلك، ولكنه بلغ صدق عبوديتنا إلى مولانا السلطان فكافأنا بالإنعامات والرتب. وأما تلك الجاهلة الحمقاء فأبت إلا العناد، وقد وقفوا على أوراق لها بين أوراقك تشترك فيها معك ومع أصحابك في المفاسد، وقد علمت هي بذلك لكنها بدلا من الاعتذار أصرت على عنادها وخافت القبض عليها ففرت.»
فقال: «وأين أمها؟»
قال: «ذهبت إلى مناستير لتفقدها هناك، وهي لا تقل طيشا عنها، مع أني كثيرا ما أنذرتها بهذه العاقبة منذ رأيت خروجك على جلالة الخليفة أمير المؤمنين. ولولا علاقتي السابقة بالمرحوم أبيك لم ألتفت إليك ولكن قلبي طيب. وقد وصلت إلى يلدز في هذا الصباح، ولقيت كل إكرام واحتفاء من سعادة الباشكاتب والسر خفية وسائر الباشوات والياوران، وأنعم علي بالرتبة، وعلمت منهم أنك في هذا القصر فاستأذنت في مقابلتك لعلي أستطيع إقناعك لترجع عن عنادك. وقد أكد لي صائب بك أنك إذا بحت بأسماء مؤسسي هذه الجمعية يعفى عنك وتنال الجوائز والهدايا، كما يعفى أيضا عن شيرين. وقد نصحت لك مرارا فلم تنتصح حتى وقعت في شر أعمالك، وأرجو أن تكون قد عدت إلى رشدك، واقتنعت باتباع النصيحة.»
وكان لكلام طهماز تأثير شديد في قلب رامز لأسباب كثيرة، أهمها أنه ذكر أباه ملقبا إياه بالمرحوم، وكان لا يعرف أحي هو أم ميت، كما أنه زاد في أسباب قلقه بما رواه له عن شيرين. وقد أغضى مرغما عما تخلل ذلك من الكلام البارد والدعوى الفارغة. ورأى أنه لم يعد يتوقع فائدة من حديث طهماز، فأحب التخلص منه وقال: «سأتبع نصيحتك هذه المرة، ولذلك اعتزمت أن أقول الحقيقة، لكنني اشترطت ألا أقولها إلا للسلطان نفسه، وأنا في انتظار الموعد للمثول بين يديه.»
فضحك طهماز وهز رأسه وهو يقول: «أحسنت يا رامز، أحسنت. وستقابل جلالة السلطان فلا تخف عليه شيئا، وأرجو أن تذكرني بين يديه وتبين لجلالته أني كثيرا ما كنت أنصح لك. لا شك أنك ستنال العفو، هكذا أكد لي صائب بك، وستنال الرتب والأموال.» قال ذلك ووقف فودعه وخرج يتهادى في مشيته، ورامز ينظر إليه ويعجب من كبر جثته وصغر نفسه وقلة عقله. •••
عاد السلطان عبد الحميد بعد خروج عزت من عنده إلى التفكير فيما يحدق به من الأخطار، ولم يكن لديه شك في نجاح عزت في المهمة التي عهد إليه فيها، فقضى بقية اليوم في مطالعة التقارير. وبعد العشاء جلس يطالع في كتاب لمكيافلي كعادته، وإذا بالحاجب يدخل مستأذنا للباشكاتب، فعلم أن مجيئه في تلك الساعة لأمر مهم وأذن له، فدخل وقدم له ظرفا علم من هيئته أنه تلغراف، ففضه وقرأه فإذا هو من الأستانة وليس فيه إلا كلمات قلائل هي «إلي جلالة البادشاه: عندي أمور تهم الذات الشاهانية، أطلب الإذن في المثول لعرضها. شيرين.»
فأعاد عبد الحميد قراءة التلغراف مرارا، ثم نظر إلى الباشكاتب قائلا : «من شيرين هذه؟ أتعرفها؟»
قال: «لا أعرفها يا مولاي.»
فقال: «إلي بالسر خفية، وامض أنت وأجب عن هذا التلغراف بأن تأتي صاحبته حالا.»
فأشار مطيعا وخرج، وبعد قليل أتى السر خفية فدفع السلطان التلغراف إليه، فحالما قرأه ابتسم وقال: «إن مجيء هذه الفتاة فوز عظيم يا مولاي.»
قال: «ومن هي؟»
قال: «هي خطيبة الشاب رامز الذي قبض عليه في سلانيك، وهو يتفانى في مرضاتها.»
فانبسطت أسرة عبد الحميد وهز رأسه ولسان حاله يقول: «قد ظفرنا بالمطلوب، ولعل الفتاة خافت على خطيبها إذا ظل على عناده فأتتنا لتبوح بالسر وتنجيه.» ونظر إلى السر خفية وقد استخفه الظفر وقال: «ماذا ترى؟»
قال: «الرأي لمولاي، وأظنها ستطلعنا على ما ينكره رامز طمعا في نجاته، وإذا لم تفعل فإن أباها عندنا، وهو من أصدق عبيد جلالة السلطان، وقد نال المكافأة بالرتبة أمس على يد عبدكم صائب.»
قال: «أهي بنت طهماز بك؟» قال: «نعم يا مولاي.»
فحدق السلطان فيما بين يديه من الأوراق وقال: «ينبغي كتمان أمر هذه الفتاة عن كل إنسان حتى عن خطيبها وأبيها.» ثم طلب الباشكاتب بالتليفون وقال له: «ينبغي أن يكون مجيء هذه الفتاة سرا، أدخلها القصر وسلمها إلى نادر أغا وأوصه بكتمان أمرها عن كل أحد، فهمت؟»
فأجاب: «نعم أفندم»، ثم انصرف.
وبات السلطان تلك الليلة وأفكاره تتقاذفه، والأمل ملء صدره في أن يفوز عزت بكشف أمر الجمعية.
وجاءه الباشكاتب في الصباح وأنبأه بأن شيرين أتت وسلمها إلى نادر أغا، فبعث إلى نادر أغا وأوصاه بكتمان أمرها. ثم جاء عزت باشا وأخبره بما ذكره رامز من أنه لا يبوح بسره إلا لجلالة السلطان، فازداد السلطان اقتناعا بالفوز وقال: «ليأتني في صباح الغد.»
وكان رامز قد بات ليلته يفكر في شيرين، وأكبر ظنه أنها فرت إلى مناستير. وفي الصباح جاءه ضابط ألباني يدعوه إلى القصر الصغير لمقابلة السلطان فتهيب الأمر لأول وهلة، ولكنه تجلد ومشى بين يدي الحرس حتى أتى باب القصر، فاستقبله أحد الياوران ودخل به إلى غرفة حيث فتش أثوابه للتحقق من خلوها من الأسلحة، ثم استأذن له فدخل رأسا بدون واسطة صاحب التشريفات كما أمر السلطان. ومشى متأدبا حتى وقف بباب القاعة التي يقرأ السلطان بها التقارير، وألقى التحية ووقف، فأشار إليه السلطان أن يتقدم، وأومأ إلى كرسي وأمره بالقعود فقعد، وهو لم يتعود الآداب المتبعة في مثل تلك المقابلات، ولم يهتم السلطان بذلك لانصراف فكره إلى استطلاع سر الجمعية، فصبر هنيهة ثم قال: «أنبأنا كاتبنا عزت باشا أنك ألهمت الصواب ورجعت إلى الطاعة والولاء، وقد سرنا ذلك، ولم نر بأسا من مثولك بين يدينا فإننا ينشرح صدرنا بمشاهدة خدمة الدولة الصادقين، وسنتحقق ذلك متى برهنت على إخلاصك لعرشنا.»
فأشار رامز بالتمني ولم يجب، ولكنه غلب عليه التأثر. ولو كنت إلى جانبه لسمعت دقات قلبه لفرط ما خاطره من التهيب لإقدامه على أمر لم يقدم عليه سواه، ولكنه تجلد وتماسك وبلع ريقه استعدادا للجواب، فبادره عبد الحميد قائلا: «تكلم يا بني. أخبرنا عن أولئك المفسدين الذين أغروك بالدخول في تلك الجمعية، يظهرون أنهم يريدون الإصلاح وهم إنما يسعون في الخراب ويقفون عثرة في طريق العمل، ويغررون بالشبان العقلاء فيصرفونهم عن خدمة الدولة إلى أعمال صبيانية. قل من هم؟»
فتجلد رامز وهو يخاف أن يخونه لسانه وشجع نفسه بتصور شيرين واقفة تسمعه، فأحس برباطة جأش لم يعهدها في نفسه من قبل فقال: «هل أقول وأنا آمن؟» قال: «قل ولا تخف.»
قال: «ربما قلت أمورا لا يتوقعها جلالة السلطان من مثلي، وأنا أعلم أني أعرض حياتي للخطر، وإنما يحملني على التصريح بها غيرتي على هذه الدولة.»
فابتدره قائلا: «قل ما تريده ولا تخف.»
قال: «أنا لا أسمي أعضاء تلك الجمعية مفسدين، ولا أعتقد أنهم يسعون في خراب هذه الدولة، بل أنا أعتقد أن المفسدين هم الذين ينقلون الأخبار إلى جلالة السلطان، أعنى طائفة الجواسيس الذين يرتزقون بالدسائس والوشايات، هؤلاء يا سيدي هم المفسدون.»
فبغت السلطان لسماعه هذا التصريح الذي لم يسمع مثله من أحد، لكنه تجلد كعادته وأظهر الاستحسان وقال : «يعجبني أصحاب الأفكار الحرة، لو كان رعاياي كلهم على مثل هذه الحال لنجت الدولة من المشاكل. قل ما تراه.»
فلما آنس رامز هذا التلطف من السلطان ذهب تهيبه واعتقد أنه فائز بما يريد، فأبرقت أساريره وخطر بباله أن الأحرار يظلمون عبد الحميد بما يشيعون عنه من حب الأثرة والظلم، في حين أنه لين الجانب قريب الانصياع إلى الحق، فقال: «أخشى يا مولاي أني أكون قد تجاوزت حدود الواجب بالجرأة في حضرة جلالة البادشاه، ولكنني أقول ما يوحيه ضميري. ويلوح لي يا مولاي أن الخلاف بين جلالتكم ورعاياكم إنما هو نتيجة لما يدسه المفسدون الطامعون، ولو علم الشبان الأحرار ما عليه سلطانهم من لين الجانب والرغبة في الحقيقة لما جعلوا بينهم وبينه واسطة فيحسن التفاهم ويذهب ما في النفوس، وهم عند ذلك عبيد طائعون لأن غرضهم خدمة الدولة و...»
فقطع السلطان كلامه وهو يظهر الاهتمام بما يسمعه وقال: «وأنا طبعا لا غرض لي غير مصلحة رعاياي ورفاهيتهم. ولكني عاتب على الذين يسيئون الظن بي منهم وينحازون إلى الأجانب، وإذا كانت لأحدهم شكاية فلماذا لا يرفعها إلي؟ إني لا أعد نفسي سلطانا عليهم، بل أعدهم جميعا أبنائي!»
فدهش رامز لهذا التلطف وظن نفسه في حلم، وخطر بباله سوء الظن بما يقصد السلطان، لأنه كان يسمع عن مكره ودهائه، ويعلم أن الأحرار لم يقصروا في رفع تظلماتهم إليه بالتقارير ونحوها. لكن تلطف السلطان أثر في نفسه فاعتقد خطأ ذلك الظن، وأن التقارير التي كان الأحرار يرفعونها إلى السلطان لم تصل إليه. وبهذا ومثله كان عبد الحميد يؤثر في جميع مخاطبيه، فكان أشدهم حنقا عليه وسوء ظن به لا يلبث إذا جالسه وخاطبه أن يخرج من عنده مقتنعا راضيا، وقد شهد كبار الساسة الأجانب له بهذه المزية في مناسبات عدة.
ولم يكن رامز من أهل الدهاء والحنكة، وإنما يغلب في طباعه حرية الضمير واستقلال الفكر، ولا يعرف الكذب والرياء والنفاق إلا بالسماع، فهو لذلك سريع التصديق لما يسمعه ويأخذ الأمور بظواهرها. فلما سمع كلام السلطان لم يشك في صدقه، وحمد الله على وقوعه في تلك الورطة ليكون واسطة لحسن التفاهم بين السلطان والأحرار، فقال: «إني أعد نفسي سعيدا لمثولي بين يدي جلالة السلطان، وأرجو أن أكون واسطة لحسن التفاهم. وقد انتقد جلالته تقاعد رعاياه الأحرار عن رفع شكواهم إليه رأسا، ولكنني على ثقة أنهم فعلوا ذلك مرارا فرفعوا تقارير عدة مطولة عما تحتاج إليه المملكة العثمانية من الإصلاح، وما لجأ بعضهم إلى الأجانب إلا يأسا من وصول أصواتهم إلى مولاهم!»
فهز عبد الحميد رأسه هز الإنكار وأظهر الاستغراب، ثم قال: «أين هذه التقارير؟ إلى من رفعوها؟»
قال: «رفعوها إلى القصر يا سيدي.»
فأظهر الغضب وهو يقول: «إني محاط بلصوص منافقين يهمهم توسيع الخرق ليستفيدوا من النزاع. قد فهمت الآن.» ثم نهض ونظر إلى رامز نظر الاستئناس، وقال له بصوت منخفض: «اكتم ما دار بيننا، وسأعيدك إلى سجنك حتى حين موصيا الحراس بأن يحتفظوا بك فلا تهتم لذلك.»
فنهض رامز وأكب على يد السلطان يقبلها من الفرح والإعجاب. فأمر السلطان الحاجب أن ينقله إلى سجنه، فخرج رامز ومشى بين الحراس حتى أعيد إلى قصر مالطة، وقلبه يطفح سرورا وصدره قد امتلأ أملا. •••
توجه السلطان عبد الحميد إلى غرفة نومه بعد أن خلا إلى نفسه، وحينما وقع نظره على الصورة التي مثلوا له بها مدحت ورجاله وقف عندها وهو يحدق فيها بعين الغدر، كأنه يرى مدحت بين يديه ويهم بأن يصفعه، ثم صر بأسنانه وزمجر كالأسد الجريح وهز رأسه وهو يتحول عن الصورة وقال: «ويل لكم من أشرار أغرار! تصدقون أن عبد الحميد يصبر على وقاحتكم باسم الحرية؟! أبمثل هذه الجسارة يخاطب عبد الحميد سلطان البرين وخاقان البحرين؟! حتى هؤلاء الغلمان يزعمون أنهم ينصحون لي؟! إن رجلا يخاطبني بهذه الوقاحة لا ينبغي أن يبقى حيا.» قال ذلك ومشى إلى علبة السيكار فأشعل سيكارا ونفخ دخانه نفخة ملأت الغرفة، وتنهد وهو يقعد على كرسي طويل هناك، ثم استلقى عليه وهو يقول: «ولكن ما الحيلة في كشف سر هذه الجمعية ومعرفة أعضائها العاملين؟ إني إذا ظفرت بهم ذهب خوفي. إن أولئك الأغرار يطلبون الدستور، قد طلبه قبلكم رجال ذوو لحى وحنكة ودهاء وذهبوا قتلا ونفيا وإغراقا ... وسأفعل بكم كذلك، لا بد أن أطلع على أسراركم إن لم يكن بالحيلة فبالسيف أو بالمال أو بأية وسيلة. لا ينبغي أن أعول في ذلك على أولئك الأعوان الملاعين، سأبحث عنه بنفسي. إن هذا الشاب عنده سر الجمعية فكيف أستخلصه منه؟»
ونهض عن الكرسي وهو يحك عثنونه ليستحث ذاكرته وينبه قريحته، ثم وقف بغتة وأشرق وجهه كأنه هبط عليه الإلهام بالصواب فقال: «شيرين! هذه الفتاة التي حملها حبها رامزا على القدوم إلينا، لا بد أنها فعلت ذلك وفي خاطرها أن تفتدي حبيبها، ومن أهون الأمور عليها أن تشتريه بكشف سر الجمعية، وهي بلا شك عالمة بأعضائها.» ولما خطر له ذلك صفق فأتاه الحاجب فطلب إليه أن يستقدم نادر أغا، وما عتم أن كان ذلك الخصي بين يديه وقد وقف منتصبا وهو يتحفز للعمل بأمر مولاه، فقال عبد الحميد: «أين ضيفتك الجديدة؟ إلي بها.»
فمضى نادر أغا ودخل عبد الحميد الغرفة المؤدية إلى دار الحريم وأخذ في إصلاح شأنه أمام المرآة. وكان شديد الرغبة في المحافظة على نضارة الشباب حتى إنه كثيرا ما كان يختضب ويتبرج لهذه الغاية، ثم جعل يخطر في الغرفة مطرقا مفكرا حتى أتى نادر أغا ينبئه بقدوم الفتاة فأمر بإدخالها، فدخلت وقد زادها التهيب رونقا، وأخذت ركبتاها تصطكان من الخوف، لأنها بعثت ذلك التلغراف ودخلت القصر وهي لا تقدر عواقب جرأتها. وإنما فعلت ذلك مدفوعة بالخوف على رامز، ورأت صائب بك يهددها بالوشاية بها فسبقته إلى القدوم وفي نفسها مثل ما في نفس حبيبها من جهة السلطان وأعوانه، إذ لم يكن يدور في خلدها أن من يقبض على أنفس العباد ويتولى الخلافة يرتكب ذلك الشطط في سياسته إلا وهو يجهل حقيقة حال مملكته، وأنه لو عرف الحقيقة لرجع إلى الصواب، على أنها كانت تتصور ذلك الأمر أهون مما هو . ولم تكد تدخل يلدز وترى قصورها وحدائقها وميادينها وما انبث في أطرافها من الحراس والأعوان حتى تهيبت وأدركت خطأها. وكانت تتوقع أن تستطلع حال رامز ساعة وصولها، فإذا هي لا تكلم إلا صما بكما ولا يجيبها أحد عن سؤال.
شيرين وعبد الحميد
دعيت شيرين لمقابلة السلطان فتجلدت جهد طاقتها، ودخلت واليشمك يغطي رأسها ومعظم وجهها، وكان عبد الحميد عند دخولها يخطر في تلك الغرفة مظهرا عدم الاكتراث، فألقت التحية ووقفت. فأشار عبد الحميد إلى نادر أغا أن ينصرف وأومأ إليها أن تقعد، فظلت واقفة وهي تسترق النظر إلى وجهه فرأت الشرر يكاد يتطاير من عينيه، ثم رأته يقعد على كرسي وهو يومئ إليها أن تقعد على كرسي بين يديه فقعدت وقد امتقع لونها، وأدرك هو ما بها فابتسم وقال: «أنت شيرين؟»
قالت: «نعم يا مولاي.»
قال: «يظهر لي أنك من أهل الذكاء والإخلاص، فعساك أن تكوني قد حملت إلينا خبرا يهمنا كما قلت.»
فارتبكت، ولكنها تمالكت وتجلدت، وتصورت أنها تطلب نجاة رامز حبيب قلبها فقالت: «نعم يا مولاي، إني لم أقدم على هذه الجرأة إلا عن إخلاص وصدق نية.»
فقال: «قولي واصدقيني، واعلمي أنك في حضرة أمير المؤمنين.»
فأشارت إشارة الاحترام وقالت: «إن ذلك شرف لي.» وسكتت وهي تود قبل الكلام أن تعرف ما إذا كان رامز هناك وماذا جرى له، وأدرك عبد الحميد ما يجول في خاطرها فأراد أن يجعل رامزا وسيلة لإقرارها فقال: «قد علمت السبب الذي حملك على المجيء إلينا وتكبدت هذه المشقة من أجله، ويظهر أنك خائفة فلا تخافي إذا كنت تنوين الإخلاص في قولك، وإلا فإنك ...» وسكت.
فتوسمت في كلامه شيئا مما خطر لها فقالت: «أقسم لمولاي لا أقول غير ما يدعوني إليه الإخلاص و...»
فقطع كلامها قائلا: «وقبل أن تقولي شيئا اعلمي أنك تتكلمين عنك وعن رجل آخر يهمك أمره، وهو في خطر القتل الآن.»
فلما سمعت لفظ القتل أجفلت وقالت: «من يعني مولاي؟! هل رامز هنا؟!»
قال: «هو هنا في حوزتنا، وقد خاطبناه وسألناه سؤالا جعلنا حياته رهنا بصدقه في الجواب عنه لكنه لم يستطع التصريح بكل شيء، لأنه أقسم الأيمان المغلظة على الكتمان فلم يبق سبيل إلى نجاته، فهو مقتول حتما إلا إذا أنقذته بصدقك.» قال ذلك وهو يراقب حركاتها خلسة، فرآها ارتبكت في أمرها وامتقع لونها وقالت: «وما الذي يطلبه مولاي مني؟»
قال: «إني أطلب شيئا يسهل عليك كثيرا، ولا ريب عندي أن رامزا لولا تقيده بالقسم لذكره بعد أن تحقق أنه مخدوع، وربما رجع إلى صوابه في الغد. أما أنت فلا يربطك قسم فأنقذيه وأنقذي نفسك، ولا أكلفك شيئا غير التصريح لي بأسماء مؤسسي الجمعية التي تسمونها جمعية الاتحاد والترقي في سلانيك، وبذلك تنجين نفسك كما ينجو رامز وكثيرون غيره ممن قد يكونون مثله أبرياء، ونحن لا نحب أن نأخذ البريء بجريرة المجرم.»
فعجبت من أن يكون رامز قد تساهل في أمر الجمعية وأن يكون الثبات الذي تعهده فيه قد زايله، لكنها ما لبثت أن عادت إلى صوابها وتذكرت ما يقال عن دهاء عبد الحميد، وتفرست في عينيه فأدركت بشعورها النسائي أن ذلك الطاغية يخادعها، وأن رامزا لا يمكن أن يبوح بشيء، فقالت: «إني يا سيدي قد طلبت المثول بين يدي جلالة البادشاه لأتلو عليه أشياء تتعلق بالدولة ربما لم تبلغ إليه بعد، ولو علم حقيقتها لأوقع القصاص بمرتكبيها.»
فرأى عبد الحميد أن تعريضه برامز لم يغير عزمها، فأراد أن يسايرها فقال: «ماذا تعنين؟»
قالت: «أعني أن الذات الشاهانية تصل إليها أخبار الدولة على أيدي أناس يتكسبون بالكذب والرياء، فيزينون لجلالة السلطان غير الواقع التماسا لرضاه، ويكتمون الحقيقة وهم يعلمون، ويقفون سدا بينه وبين رعاياه الصادقين المخلصين.»
فوجد في نغمتها نغمة حبيبها رامز، فرأى أن يخادعها فقال: «قولي ما في خاطرك، إني أحب الاطلاع على الحقيقة.»
قالت: «إن حالة الدولة في اضطراب شديد، والجمعية التي تألفت في سلانيك لا يستهان بها، وأعضاؤها أخلص الرعايا لجلالة السلطان، فلو أن جلالته استخلصهم لأنقذ الدولة من مهاوي الانحطاط ومن مخالب الأجانب. إن مطاردة جمعية الاتحاد والترقي لا تفيد شيئا، لأن الأمة كلها ناقمة على الحالة الحاضرة لما تمكن من الفساد في جسم الدولة بما يراه الناس من استئثار رجال القصر بالأموال لا يهمهم أخربت البلاد أم عمرت، وقد أدرك هؤلاء هذه الحقيقة فأصبح همهم منصرفا إلى جمع الأموال لأنفسهم، تفانوا في اقتناء العقار، وخبأ العارفون منهم ثروتهم في مصارف أوروبا وأمريكا، وطلبوا أعلى الرتب والمناصب فنالوها، واستفادوا من الحالة الحاضرة بقدر ما أمكنهم، ولم يفكر أحد منهم إلا في نفسه وأولاده ثم في الأقرب فالأقرب من عائلته. واستماتوا في الوصول إلى السعادة ونفوذ الكلمة بالتقرب من جلالتكم، واستحوذوا على مناصب الدولة ورتبها ونياشينها وألقابها، وقد جرت العادة بإعفائهم من الخدمة العسكرية هم ومن انتسب إليهم. حتى سقط اعتبار الدولة في عيون الأجانب، وأصبح العثمانيون المقيمون في البلاد الأجنبية أنفسهم يستنكفون من الانتساب إلى الدولة العثمانية، ولا يرون علاجا لهذه الحالة إلا الرجوع إلى الحكم الدستوري لاكتساب ثقة الدول، بعد أن كانت نتيجة الحكم الاستبدادي خروج كثير من الإيالات العثمانية إلى سلطة الأجانب أو الاستقلال، كما حدث في الفلاخ والبغدان والروملي الشرقية والبوسنة والهرسك والجبل الأسود والصرب وقبرص وتونس وتساليا ومصر والسودان وغيرها، وعدد سكان هذه البلاد يزيدون على ثلاثين مليونا كلهم خرجوا من سيادة الدولة العثمانية بسوء سياسة أولئك المقربين. ولا ريب عندي أن جلالة السلطان مخدوع بما ينقله إليه المتملقون الذين لا يهمهم إلا مصالحهم الشخصية، وقد أصبحت أكثر أموال الدولة تنفق عليهم وسائر أهل المملكة في جوع حتى الجند.» •••
كانت شيرين تتكلم والاهتمام باد في عينيها، وكان صوتها في بادئ الأمر يرتجف وينقطع، ثم انطلق لسانها وفاضت قريحتها، ولم تتم كلامها حتى كلل العرق جبينها، والسلطان مطرق يسمع ما تقوله ويعجب من جسارتها، ويكاد يتميز غيظا من أقوالها، وحدثته نفسه أن يذهب بحياتها في تلك اللحظة بطلق ناري من مسدسه، لكنه كظم غيظه التماسا للوصول إلى غرضه، وهو الاطلاع على سر تلك الجمعية، فقال وهو يظهر الإعجاب بما سمعه: «يسرني أن يكون في مملكتي نساء لهن هذه المعرفة وهذه الغيرة. إن أمة فيها أمثالك لجديرة بالدستور، وكم كنت أود أن أعرف زعماء هذه الحركة لأباحثهم ونتفق على طريقة للنجاة من الخطر! وأراك مع ذلك تكتمين عني أسماءهم، وأنا ألومك على ذلك، لأنك لو أخلصت الخدمة لذكرت بعض الذين تظنين فيهم اللياقة لهذا التغيير، ولعلك تفعلين بعد الآن إذا تحققت أني أشد غيرة على هذه الدولة من سواي.» قال ذلك وأظهر عدم اهتمامه باستطلاع سر الجمعية لعل ذلك يهون عليها الإقرار.
أما هي فظلت ساكتة، وقد كادت تصدق ما قاله عبد الحميد من رغبته في الإصلاح. على أنها فضلت السكوت لأن شعورها حملها على سوء الظن بما سمعته، وعادت إلى أمر رامز وأحبت أن تحتال لمعرفة حقيقة حاله فقالت: «إني لا أعرف شيئا عن أعضاء هذه الجمعية، ولعلي إذا اجتمعت برامز أن نتعاون على خدمة جلالة السلطان في هذا الشأن.»
فأدرك عبد الحميد أنها تكذب، وأنها إنما تحتال للاجتماع به للتعاقد على الإنكار، لكنه أظهر الاقتناع بقولها وقال: «سوف أجمعك به.» ووقف ونادى: «نادر أغا»، فجاء فأشار إليه أن يأخذها إلى محبسها ويعود.
فلما عاد قال له عبد الحميد: «اخف هذه المرأة عن عيون الناس كافة، واحذر أن تعرف مكان خطيبها أو يعلم هو أنها هنا.»
فأشار مطيعا وهم بالخروج فناداه وقال: «ماذا تم في أمر القادين ج؟»
قال: «ستقتل الليلة».
قال: «أجل ذلك وأبلغها أني اشتقت لرؤيتها، فلتأت إلي بعد القيلولة لتلبسني ثيابي وحدها. وأظنها ستفرح بذلك كثيرا.»
فقال: «إنها ستجن من الفرح طبعا.»
فضحك عبد الحميد وقال: «افعل كما قلت لك.» فأشار مطيعا وخرج.
ثم عاد عبد الحميد إلى مناجاة نفسه قائلا: «لا يقدر على كشف هذا السر منها إلا تلك القادين الداهية، إنها خبيرة بأساليب الدهاء، وهي تحبني. وعلى كل حال سأكلفها القيام بهذه المهمة ثم أرى ما يكون.»
وذهب عبد الحميد بعد الغداء إلى غرفة المنام، وبعد القيلولة أتت القادين ج وقد أصلحت من شأنها، وكادت تطير من الفرح بهذه الدعوة التي يحسدها عليها سائر نساء القصر، لا سيما بعد أن أهملها مدة طويلة وهي لا تعرف ذنبها.
فلما دخلت علية حيته بالطريقة المعتادة ووقفت تلتمس إشارة، فقال لها وهو يمازحها: «أظنك إذا شغلت أنا عنك بمهام السلطنة لا أخطر ببالك.»
فقالت بلهفة: «العفو يا مولاي، إني أمتك وطوع إشارتك، وأنت مالك الرقاب والقلوب، إني أقبل موطئ قدميك وأتفانى في ...» وتنهدت وتشاغلت بتقديم الدراعة لتلبسه إياها.
فأدرك أنها تشير إلى حبها الشديد له فقال: «تزعمين أنك تحبينني؟» ومد يده ليدخلها في كم الدراعة. فقالت وهي تدير الدراعة نحو يديه: «إني أعبدك يا سلطاني ومولاي ... إني لا أجد عبارة أعبر بها عن حبي.»
فقال: «وأنا أيضا أحبك كما تعلمين، ولكنني شغلت عنك وعن سواك بقيام بعض الغلمان الملاعين في سلانيك بتأليف جمعية سرية وهم يزعمون أنهم من الأحرار. وأنا لا أخافهم طبعا، ولكنني أحب أن أعرف من هم، فأذكرني ذلك صادق خدمتك في الماضي. هل رأيت الفتاة المقدونية التي أتتنا بالأمس؟»
قالت: «وأنى لي ذلك وأنا في قصري لا أخرج منه؟»
قال: «إن هذه الفتاة اسمها شيرين، قدمت نفسها لي في الصباح، وهي خطيبة أحد أولئك الغلمان، ولا شك أنها تعرف أعضاء الجمعية ولكنها تتكتم. وأنا لم أشأ أن أسألها لئلا ترى مني اهتماما بأمرهم، ولا أحب أن أكلف أحد الجواسيس باستجوابها، وأنا أعهد فيك الذكاء واللياقة، فهل تقدرين على القيام بهذه الخدمة لصاحبك القديم؟»
فأثر ذلك التعبير في قلبها، وأذكرها أياما كان يظهر لها فيها تقربا، وقالت وقد أبرقت أسرتها: «إني أفعل ذلك على الرأس والعين.»
وكان قد فرغ من لبس ثيابه فقال: «سآمر نادر أغا أن يأخذها إليك لتمكث معك بحجة الاستئناس بك، فابذلي جهدك في استطلاع ذلك السر منها في أقرب وقت بدون أن تشعر، فهمت؟»
فأحنت رأسها إشارة الطاعة وقالت: «إني أغتنم مثل هذه الفرصة لأبرهن لسيدي وحبيبي على أني ما زلت أتفانى في خدمته.»
فابتسم لها وقال: «لكن احذري أن تعرف شيئا منك، خذي منها ولا تعطيها.»
فقالت: «على الرأس والعين.» وخرجت.
ثم نادى عبد الحميد نادر أغا وأمره بما ينبغي اتخاذه من الإجراءات. •••
عاد رامز بعد أن خلا إلى نفسه في قصر مالطة فأخذ يفكر فيما مر به في ذلك اليوم وما سمعه من عبد الحميد، وقد مال إلى الاعتقاد بأن الناس يظلمون هذا الطاغية بسوء ظنهم فيه، وأنه إنما يرتكب ما يرتكبه بإغراء أهل القصر المحيطين به. وقضى بقية ذلك اليوم وهو ينتقل في ذلك القصر من الشرفة إلى النافذة إلى حجرة الجلوس إلى المائدة، وأفكاره تائهة فيما عساه أن يتم على يده من الخير للدولة وللأمة، وتوهم أن أهل القصر صاروا أكثر إيناسا له واحتفاء به. وكثر تفكيره في شيرين، وود لو أنه يستطيع تبليغها تلك البشارة لئلا يقتلها اليأس من بقائه. وتذكر أباه وكان قد كثر ترداد صورته إلى ذهنه منذ دخوله يلدز لاعتقاده أنه فقد هناك، وإن لم يقطع الأمل من بقائه.
وبعد العشاء ذهب رامز إلى فراشه وقد طار النوم من عينيه لفرط تأثره من حديث ذلك اليوم، وبينما هو يتقلب على الفراش وقد أطفئت المصابيح إذ سمع وقع خطوات بباب الغرفة أعقبتها نقرات خفيفة، فجلس على الفراش ونظر نحو الباب وأنصت فرأى نورا يتخلل شقوقه، فعلم أن شخصا قادما إليه بالمصباح فوثب إلى الباب ففتحه، فوجد خادم القصر وبيده قنديل فسأله عما يريده فقال: «إن رسولا جاء يدعوك.»
فقال: «إلى أين؟» قال: «إلى خارج القصر، لا أدري إلى أين.»
قال: «من هو؟» قال: «أحد حجاب البادشاه. ولعله يطلب ذهابك إلى جلالته.»
فتوسم في تلك الدعوة خيرا لما سبق إلى اعتقاده من حسن الظن، فأسرع إلى ثيابه فلبسها وأصلح من شأنه، وخرج فوجد حرسيا في انتظاره ويومئ إليه أن يتبعه. فمشى في أثره بين الأشجار، وقد خيم الظلام وأوت الحشرات والهوام وهدأت الطبيعة، فلم يسمع في ذلك المكان غير وقع خطواتهما، حتى وصلا إلى الشارع المحيط بسور الحديقة الداخلية وفيه بعض الأنوار، فعرجا منه إلى باحة يلدز المؤدية إلى القصر الصغير فتصور رامز أن الحرسي ذاهب به إليه، ولكن ما لبث أن رآه عرج في طريق إلى اليسار بين الأشجار حتى وصل إلى باب قصر فخم، فأخرج الحرسي مفتاحا من جيبه فتح به الباب ودخل وأشار إلى رامز أن يتبعه، فتبعه إلى فناء يتطرق منه إلى دهليز في اليسار يؤدي إلى غرف يستطرق بعضها إلى بعض. وقد أنير الدهليز بالنور فبانت جدران تلك الغرف، فإذا هي تختلف عن سائر ما شاهده في القصر السلطاني وفي قصر مالطة، لأن الجدران في هذا القصر مبطنة بالأنسجة الحريرية الملونة بالألوان الزاهية، وعليها إطارات كبيرة لم يقدر أن يتبينها عن بعد. فلما صارا في وسط الدار أشار إليه الحرسي أنه ذاهب وسيعود إليه، ودخل من الباب الأيمن المقابل للدهليز وأغلقه وراءه.
فاغتنم رامز تلك الفرصة ودخل تلك الغرفة وهي مفروشة بالسجاد الثمين، ونقش سجاد كل غرفة يلائم ألوان الأطالس المكسوة بها جدرانها، ولكل غرفة نقش خاص بألوان خاصة. وآنس في المكان هدوءا يدل على خلوه من السكان، فعلم أنه من القصور التي أنشئت لبعض المقابلات أو للاحتفال ببعض القادمين، ولم يدرك سبب استقدامه إليه. على أنه تشاغل بالتفرج، فوجد في الإطارات المعلقة خرائط متقنة الصنع، مثل خريطة البوسفور وخرائط الروملي والأناضول والأستانة والبحر الأسود، من صنع كبار المهندسين العثمانيين، أكثرها بارز الرسم يمثل حال البلد الطبيعية. فأعجبه أن يكون في رجال الدولة من يستطيع ذلك الرسم الجميل، وتأسف لما حال دون ظهور مواهبهم من المظالم والمفاسد.
وفيما هو يتأمل في ذلك عاد إليه الحرسي وناداه فتبعه، فأشار إليه أن يدخل في الباب الأيمن الذي خرج هو منه فأطاعه، فرأى نفسه في قاعة واسعة لم ير مثلها هناك، فيها الرياش الثمين فوق السجاد الجميل، وفيها المناضد عليها آنية البذخ كالساعات المذهبة والتماثيل المزخرفة، وجدران القاعة مكسوة بالأطلس الأحمر المغرق بالذهب، وفي سقفها ثريات كبيرة قد أنيرت مصابيحها، وعلى جدرانها إطارات فيها خرائط وصور أهمها خريطة الكعبة تمثلها مع ما جاورها مجسمة في غاية الإتقان. ولحظ الحرسي دهشة رامز مما يراه فقال له: «أنت في قصر جيت يا سيدي، وهو من أفخر قصور يلدز. تفضل اجلس هنا حتى يرد إليك الخبر، ولا تخف.» قال ذلك وخرج وأقفل باب القاعة وراءه بالمفتاح.
فاستغرب رامز ذلك ووقف ليتحقق إغلاق الباب فوجده قد أغلق بإحكام وأصبح كأنه هو والحائط قطعة واحدة، ونظر في أطراف القاعة فلم يجد فيها بابا سواه، فاقشعر بدنه وتوهم أنها أحبولة نصبت له وأنه لا يلبث أن يقتل أو يصاب بأذى، لأنه سمع بغرائب أساليب القتل في يلدز، وقول الحرسي «لا تخف» كان سببا في زيادة خوفه.
ومشى رامز في القاعة معيدا النظر فيما حوله، لعله يرى بابا آخر فلم يجد، ومع تألق القاعة بالأنوار أحس بالوحشة كأنه في ظلام دامس، فجعل يتلهى بالنظر إلى الصور والخرائط المعلقة على الجدران حتى مل، فجلس على مقعد بجانب منضدة عليها بعض الكتب وجعل يتشاغل بتقليبها، وعادت إليه ذكرى أبيه: أهو في أحد هذه القصور حيا أو سجينا أم في قاع البوسفور؟
وبينما هو على هذه الحال سمع قلقلة مفتاح فأجفل، ونظر إلى الباب وتوقع أن ينفتح ويدخل الحرسي يخبره بخبر جديد لخيره أو شره، فطالت القلقلة ودله سمعه على أنها في الحائط المقابل له وليس في الباب الذي دخل منه، فنظر إلى الحائط فلم يجد بابا ولا ما يشبهه، فكذب سمعه وأعاد نظره إلى الباب. ثم سمع طقطقة القفل وهو يفتح فأصبح يتوقع أن ينفتح الباب، فرآه باقيا على حاله، ولاح له تغيير في ذلك الحائط، فالتفت نحوه فإذا به قد فتح فيه باب دخل منه شبح ملتف بملاءة بيضاء كأنه خارج من القبر، فاقشعر بدنه ووقف شعره وخفق قلبه فنهض وقد جمد الدم في عروقه، وتوهم أن أباه خارج من بين الأموات أو أن هذا عفريت من الجن شق الحائط وخرج منه على نحو ما جاء في قصص ألف ليلة وليلة. ولم تمض لحظة حتى كشف ذلك الشبح الملاءة عن رأسه، فإذا هو عبد الحميد بلباس النوم وعليه برنس أبيض كالملاءة، فدهش رامز واستغرب خروجه من الحائط، ولكنه ظل واقفا مكانه وقد اصطكت ركبتاه.
فلما صار عبد الحميد داخل القاعة أغلق الباب وأوصده من الداخل فعاد الحائط كما كان، وتقدم نحو رامز وعلى رأسه عمامة صغيرة وقد التف بالبرنس، وابتسم تخفيفا لما تولى رامزا من الرعدة، فاستأنس رامز به وتقدم نحوه وحياه ويداه ترتعشان، فقال عبد الحميد: «لا تخف يا بني، إني جئتك من هذا الباب السري المستطرق إلى القصر لأخاطبك في أمر لا أريد أن يشعر به أحد من أهل هذه القصور.» قال ذلك وهو يقعد على مقعد هناك وأشار إلى رامز أن يقعد.
فقعد رامز وقد اطمأن خاطره وأصبح في لهفة للاطلاع على الغرض من تلك الجلسة السرية. وأما عبد الحميد فإنه لبث هنيهة مطرقا لا يتكلم وكأنه يفكر في أمر مهم، ورامز ساكت وكله آذان للسمع. ثم فتح عبد الحميد الحديث قائلا: «لا حاجة بي أن أوصيك بكتمان هذه الجلسة عن كل بشر.» فأشار مطيعا.
فقال عبد الحميد: «إن حديثك بالأمس عن أهل القصر كان له وقع شديد في نفسي، وما زلت من تلك اللحظة وأنا أفكر فيه فوجدتك مصيبا، وتحققت أن هؤلاء الأشرار أصل هذه المتاعب، غير أني أصبحت مقيدا بهم لكثرتهم وكثرة أعوانهم ولا أدرى كيف أتخلص منهم.» وتنحنح وهو يلتفت كأنه يحاذر أن يسمعه أحد، ورامز مصغ وقلبه يخفق تطلعا لما سيسمعه.
فقال عبد الحميد وهو يخفض صوته: «فرأيت أن أستشيرك في الأمر سرا، ولم أشأ أن أفعل ذلك في قصري كالعادة لكثرة المراقبين والجواسيس علي وعلى كل ناطق، حتى الخدم والطواشية، حتى النساء والجواري فإنهن يتلصصن علي لسماع ما يقال. فاخترت هذا المكان وأمرت الحرسي أن يأتي بك إليه لتكون سجينا فيه بدلا من قصر مالطة، وأوصيته أن يغلق الباب عليك ويذهب وهو لا يعلم بوجود هذا الباب السري. فالآن نحن هنا في أمان، فما الذي تراه لعلاج هذه الحال السيئة؟»
فاطمأن خاطر رامز، وأصبح لغرابة ما يسمعه يظن نفسه في حلم، ولكنه تأمل فيما هو فيه فتحقق أنه في يقظة فقال: «يأمر سيدي البادشاه بما يريد، فإني طوع أمره بكل ما فيه مصلحة الأمة والدولة.»
فتنهد عبد الحميد وقال: «آه! لقد طالما سمعت كلمتي الأمة والدولة هاتين ممن يحيطون بي من المتملقين، ولكني أعلم أنهم يخادعونني كما أخادعهم، بل لقد استغرقت في الشطط وارتكبت أمورا أرجو أن يمحوها الله من سجل أعمالي إذا أنا رجعت إلى الصواب.» قال ذلك وصوته يختنق كأنه يجهش بالبكاء، ورأى رامز في عينيه دمعتين تتلألآن وهو مطرق كالنادم الآسف، فتأثر من منظره وشاركه في البكاء ولم يبق عنده شك في صدق قوله لكنه ظل ساكتا.
فمسح عبد الحميد عينيه وأظهر الاهتمام وقال: «أحب أن أتخلص من هؤلاء المنافقين المحيطين بي، لكنني لا أستطيع ذلك قبل أن أستوثق من أولادي الأحرار الذين أغريت بإساءتهم وهم الآن بعيدون عني، فأحب أن أباحثهم سرا ونتفق على طريقة نقضي بها على هؤلاء الأشرار، وننظم حكومة جديدة نحيي بها الدولة وكفانا ما مضى. فما هو السبيل إلى ذلك؟ هل إذا عولت على الأحرار يستطيعون الأخذ بناصري والتغلب على هؤلاء؟ ... إني أخاف على حياتي منهم إذا أظهرت تغيرا في سياستي.»
فاعتدل رامز في مجلسه وقد أبرقت أسرته من الفرح وقال: «لا شك يا سيدي أنهم يستطيعون، ولا أخفي على جلالة البادشاه بعد أن رأيت حسن ظنه فينا أن الأحرار هذه المرة ظافرون بلا ريب، لأنهم اجتذبوا الجند إلى حزبهم، ولم يبق ضابط في سلانيك أو في غيرها إلا وهو عضو في جمعية الاتحاد والترقي المقدسة فإذا أرادوا عملا أنفذوه بالقوة، ولا سيما إذا كانت إرادة الذات الشاهانية معهم.»
وكان عبد الحميد يسمع ذلك وقلبه يكاد يتميز غيظا، لكنه تجلد على عادته وأظهر السرور فانبسطت أسرته وظهر الاستبشار في محياه، فاستأنس رامز بمنظره ورقص قلبه طربا، ولبث ينتظر ما يقوله عبد الحميد فإذا هو يقول له: «هل أنت على ثقة باقتدارهم على ذلك؟»
قال: «كيف لا وأنا من صميم الجمعية ؟ إني واثق بأن الجمعية إذا تأكدت رضى جلالة السلطان عنها تفديه بالأرواح وتقاوم أعداءه أشد المقاومة.»
فقال عبد الحميد: «وما هي الطريقة للمفاوضة معهم في هذا الشأن وأنا سجين في هذه القصور لا أستطيع الخروج منها؟»
قال رامز: «إذا شاء مولاي كنت سفيرا بينه وبينهم.» قال ذلك وهو لا يتوقع أن يوافقه السلطان على الخروج من سجنه، فرآه قد أظهر الارتياح وقال: «نعم الرأي هذا! ولكنني أخاف أن يطلع أحد من هؤلاء على قصدنا؟»
قال: «لا خوف من ذلك، فان لجمعيتنا طرقا للتكتم لا سبيل معها إلى معرفة شيء، وقد رأى جلالة السلطان تكتمنا بالأمس وكيف أن أحدنا يعرض نفسه للقتل ولا يبوح بسره، ولا غرض لنا إلا خدمة الأمة والدولة.»
فأطرق السلطان لحظة وقال: «حسنا، لكنني أود المفاوضة مع زعماء هذه الجمعية في جلسة سرية مثل هذه. إن المخابرة عن بعد لا تشفي غليلا، وعندي أمور كثيرة أحب تبينها والاحتياط لها، ولا يتم ذلك بالمخابرة عن بعد، وأنا لا يتيسر لي الخروج إليهم كما تعلم.»
فقال رامز: «هم يتشرفون بالمثول بين يدي جلالتكم.»
فقال: «لا أظنهم يفعلون إذ تعوزهم الثقة بي، فإن أهل القصور لم يبقوا للأمة ذرة من الثقة بي.» وغص بريقه.
ولم يكن رامز من أهل الدهاء فاعتقد إخلاص السلطان في كلامه، فقال: «أنا أؤكد لهم حسن ظن جلالتكم، وأحملهم على تعيين وفد يتشرف بالمثول بين يديكم.»
فقال: «لا يسعنا المطاولة في الأخذ والرد، فينبغي أن يكون ذلك الوفد مفوضا في كل شيء، فتنتهي هذه المشاكل في جلسة واحدة تنتقل بها الدولة من حال إلى حال. آه من هؤلاء المتملقين! كم أغروني بالإيقاع بالأحرار وأقنعوني بأنهم غير أهل للدستور! فالآن أنا ملق حملي عليك وواضع ثقتي فيك، فعسى أن يتم هذا العمل على يدك. وإذا جاء الوفد فليكن مؤلفا من خيرة الرؤساء العقلاء، وعليهم أن يظهروا أنهم آتون لمشروع اقتصادي أو علمي أو نحو ذلك.»
فأشار رامز مطيعا وقلبه يرقص طربا ولا يكاد يصدق أن عبد الحميد يطلق سراحه، فقال: «ومتى يأمر سيدي بمباشرة ذلك؟»
قال: «تذهب في هذه اللحظة، تخرج من هذه القصور من باب سري أرشدك إليه على يد أحد ثقاتي دون أن يدري أحد بخروجك، فإذا أصبحوا في الغد ظنوا أنك فررت. وإنما ينبغي المبالغة في كتمان ما دار بيننا عن كل أحد حتى تصل إلى الجمعية وتعرض هذا الرأي في جلسة سرية. فهمت؟» فأشار برأسه ويديه أن نعم.
وبلغ من استئناس رامز بعبد الحميد وتصديقه إياه أن اعتقد أن الدستور أصبح في قبضة يده. وتذكر أباه وتلهفه على معرفة مكانه فاغتنم قربه من عبد الحميد للسؤال عنه فقال: «قد حملني لطف جلالة السلطان على أن أجرؤ بعرض مسألة، هل أفعل؟»
فقال: «قل يا ولدي، ما الذي تريده؟»
فزاده ذلك التلطف دالة فقال: «لي والد دخل يلدز من بضع عشرة سنة ولم نعد نعلم ماذا جرى له، فهل هو يا ترى على قيد الحياة؟»
فأظهر عبد الحميد الاهتمام بهذا السؤال وقال: «أبوك في يلدز منذ بضع عشرة سنة؟ ما اسمه؟ وما كان غرضه من المجيء؟»
قال: «اسمه سعيد، وقد جاء للبحث عن أوراق في قصر مالطة.»
فتظاهر عبد الحميد بالبغتة وقال: «سعيد بك أبوك؟ لقد أغروني به وزعموا أنه جاء بدسيسة لينتقم لمدحت باشا لأنه صديقه، وكدت أقتله ثم اكتفيت بسجنه.»
فانحنى رامز انحناء الاستعطاف وقال: «هل يتاح لي أن أراه؟ إن ذلك أكبر نعمة يسديها إلي مولاي، فإذا حصلت عليها تفانيت في خدمة السلطان.»
قال: «طبعا، وهل تخشى أن تطلب مني ما تريده بعد أن صرحت لك بمقاصدي؟ سآمر بإخراج أبيك من السجن في هذه الدقيقة وأخرجكما معا من يلدز في هذه الليلة.» فأكب رامز على طرف ثوب السلطان يقبله، فأمسكه عبد الحميد وقال: «أنا عائد الآن إلى قصري، وسأبعث إليك بأبيك مع حرسي يدخل به عليك من باب هذا القصر كما دخلت أنت، والحرسي يرشدك إلى طريق النجاة.» قال ذلك ونهض، فنهض رامز وهو يقول: «أخشى إذا صرت إلى سلانيك أن يعرف ناظم بك بقدومي فيتعمد القبض علي.»
فقطع السلطان كلامه قائلا: «لا تهتم لهذا الأمر، أنا أدبره.»
فأعاد تشكره وامتنانه، وتحول عبد الحميد نحو ذلك الباب في الحائط ففتحه وخرج منه ثم أوصده وراءه فعاد الحائط كما كان.
وبقي رامز في مجلسه وقد تولته الدهشة، وأخذ يفرك عينيه لئلا يكون في حلم فتحقق أنه في يقظة، فقال في نفسه: «إذا تم ذلك على يدي فما أعظم سروري! ترى هل أرى أبي الآن وأنجو به؟ رب شر ينتج عنه خير، لو لم يش بي عدوي ويلقيني في هذه الورطة لم أوفق إلى لقاء أبي، ولا إلى ما أرجوه من الانقلاب السياسي. لا أصدق أني أصل إلى الجمعية وأقص عليها أخباري.»
ونهض وجعل يخطر في الغرفة وهو ينظر إلى ساعة دقاقة موضوعة على منضدة مذهبة فإذا بها الساعة الثانية بعد نصف الليل، فأخذ يعد الدقائق في انتظار والده الذي صبر على بعده أعواما، لكنه وجد هذه الدقائق أطول منها كثيرا. وأوحشه ذلك السكوت فإذا طنت بعوضة أجفله طنينها.
ثم سمع وقع خطوات في الخارج أعقبها قلقلة المفتاح، فوثب من مجلسه إلى الباب ووقف ينتظر فتحه ليرى القادم، ففتح الباب ودخل منه حرسي ملثم وأشار إلى رامز إشارة التحية ثم أومأ إلى الخارج، فنظر رامز فرأى رجلا فوق الكهولة، قد تغيرت سحنته وطال شعر رأسه ولحيته حتى صار كالنساك الذين لا يمسون شعورهم بقص أو إصلاح. ومع انتظار رامز لوالده واطلاعه على خبر قدومه فقد أنكره لتغير سحنته عما يعرفه، إذ تولته الشيخوخة وشاب شعره واسترسل وامتقع لونه من طول الاحتجاب عن أشعة الشمس.
أما الوالد فحالما وقع بصره على ابنه صاح: «ولدى ... رامز ... حبيبي!» وأكب على عنقه وأخذ يقبله ويبكي من الفرح، فلم يتمالك رامز أن بكى وقبل أباه وهو يتفرس فيه، وما لبثا أن تعارفا وعادت إلى ذهنيهما الصورة القديمة التي عرفها كل منهما في صاحبه، فقال رامز: «أبي، ينبغي أن أشكر الله على وقوعي في هذا الأسر، إذ لولاه لم أوفق إلى رؤيتك وإنقاذك.»
فقاطعه أبوه قائلا: «إنما الفضل لرضى أمير المؤمنين ومراحمه، فلو لم يدب الحنو في قلبه لم يأت مجيئك ولا أسرك بفائدة، فقد أبلغني هذا الحرسي أن جلالة البادشاه أذن بخروجنا من هنا وأنه عهد إليك في أمور خاصة، فنشكر الله على نعمه. فالآن نحن هنا حتى يشير إلينا هذا الحرسي بما نفعل.»
أما الحرسي فكان واقفا لا يتكلم، ولما سمعهما يذكرانه أخرج من تحت إبطه صرة دفعها إليهما على أن يفضاها، ففتحها رامز فوجد فيها ثوبين مما يلبسه الياوران وأشار إليهما أن يلبساهما، ففعل رامز وهو ينظر إلى نفسه في المرآة فإذا هو كالياوران تماما. ووقف ينتظر ما يشير به الحرسي فأخرج من جيبه ورقة كالبطاقة دفعها إلى رامز، أشار إليه إشارة معناها: «أنني سأخرج بك من هنا، ثم تنطلق توا إلى محطة السكة الحديدية فتدفع هذه الورقة إلى رئيس محطتها فيركبك القطار إلى سلانيك.» والتفت إلى سعيد بك وأشار إليه أن يلبس فتوقف، وقال إنه لا يستطيع الخروج من يلدز في تلك الليلة، بل يفضل أن يصلح من شأنه قبل الخروج. فاستغرب ابنه ذلك منه وهم بأن يعترض، فأوقفه الوالد قائلا: «لا بد من بقائي الليلة هنا، وسأتبعك في الغد فنلتقي في سلانيك. فهل عندك شك في أمر العفو؟» قال: «كلا».
قال: «أستحيي من نفسي أن أخرج في الأسواق وأنا كالنساك، وقد قضيت في هذا المكان أعواما، وسأبقى فيه يوما آخر، وفي الغد أخرج وألحق بك في سلانيك إن لم يكن في الأستانة.»
فتأسف رامز على تمسكه بالبقاء، لكنه قال في نفسه: «لا بد من سبب بعثه على ذلك.» ثم أشار إليهما أن يتبعاه، وتقدمهما في طريق قصر مالطة حتى بلغوه، فأشار الحرسي إلى سعيد أن يدخل القصر، وأمر الحراس هناك أن يتسلموه. وقاد رامزا في طريق بين الأشجار حتى وصل به إلى باب من أبواب السور الخارجي، ففتحه بمفتاح معه وأشار إليه أن يخرج، وإذا اعترضه أحد من الحراس خارج يلدز فليقل له : «الذات الشاهانية »، وهو شعارهم في ذلك اليوم، وهي أول جملة نطق بها ذلك الحرسي الملثم منذ قدومه ومسيره مع رامز، ولم يفعل ذلك إلا مضطرا. ولما سمع رامز نطقه وجد صوته يشبه صوت عبد الحميد، لكنه لم ينتبه لذلك إلا بعد أن فارقه، ولم يخطر له أن ذلك الحرسي عبد الحميد نفسه، وإنما اعتقد المشابهة بين الصوتين.
جمعية الاتحاد والترقي
بلغ من دهاء عبد الحميد أنه أراد أن يخفي تهريب رامز حتى عن الحرس، فلبس لباس الحراس ومشى بين يدي رامز حتى أخرجه من يلدز، وله من وراء ذلك حكمة لا يدركها إلا الذين فطروا على المكر والدهاء. وبعد رجوعه دخل قصره كما يدخل بعض الحرس الخاص، وكان الحرسي الذي لبس ثيابه محبوسا في بعض الغرف فأخرجه وأمره أن يعود إلى موقفه فعاد. ولم يشك من رأى عبد الحميد داخلا بلباس الحراس وخروج هذا على أثر ذلك أنه هو الحرسي الذي دخل.
دخل عبد الحميد قصره وكل أهله نيام، فنزع تلك الملابس وارتدى ثياب نومه، ومشى إلى غرفة المطالعة وهو ساكت يفكر فيما فعله في تلك الليلة وهل أصاب أم أخطأ، ووجد على نضد هناك باقة من البنفسج تعود رئيس الفراشين أن يتحفه بها من وقت إلى آخر، لعلمه أنه يحب رائحة هذا الزهر كثيرا، فتناول عبد الحميد الباقة وتنشقها فانتعش، ثم أعادها إلى محلها وألقى نفسه على مقعد وتنفس الصعداء وهو يهيئ سيكارا ليدخنه. ثم أشعل السيكار وتمدد وبسط رجليه ورفع بصره إلى السقف وقد تألقت تلك القاعة بالأضواء، وجعل ينفخ الدخان ويتأمل حلقاته وهي تتصاعد متتابعة متعانقة، وأفكاره منصرفة إلى ما أتاه في ذلك اليوم من الأمر الغريب. ثم ناجى نفسه قائلا: «ظن ذلك الشاب أني وثقت به وبوعده، وسيزداد ثقة بصدقي متى أطلقت أباه! لكن بقاء رامز هنا لا فائدة منه لأنه مصمم على الإنكار، ولا فائدة لي من قتله إذا لم أقتل كبار تلك الجمعية الجهنمية. وزد على ذلك أن شيرين هنا في قبضة يدي وهو لا يعلم ، فإذا علم بعد ذلك أنها رهن عندي على وعده أتعب نفسه في الإنجاز. وقد أخبرني صائب بك أنه يتفانى في حبها، فإذا جاءني ولم يفعل ولا هي اعترفت بأسماء أولئك الناس قتلتهما. ولكن حيلتي ستنطلي على مؤسسي تلك الجمعية، ويرون من إطلاقي سراح أحدهم بعد أن قبضت عليه صدق نيتي في التماس آرائهم للإصلاح فيأتيني كبارهم، ومتى أتوا أذقتهم الموت فيخاف رفاقهم وتضعف عزائمهم، وتذهب هذه الجمعية كما ذهب غيرها من قبلها ونخلص منها.»
ثم اعتدل في مجلسه وزمجر كالأسد الجريح، ووقف بغتة وقد أخذ الغضب منه وقال: «تبا لكم من أغرار جهال! لن يبلغ كيدكم كيدي، ولسوف تذهبون طعاما للأسماك. إني لا أزال أسفك وأقتل حتى تخلو الدنيا من المعارضين لي، ومهما يكن من ثقتهم بي فإني على رأي ماكيافلي. لله در هذا الفيلسوف! صدقت يا ماكيافلي، إن الرجل العظيم لا يستطيع أن يستقل بحكمه وينجو من الرقباء والحساد إلا إذا أغضى عما يسمونه الشرف والأمانة والوفاء في معاملته لأعدائه ... ولا بأس عليه إذا ضحى هذه الفضائل في سبيل المحافظة على الدولة أو الوطن واستبدل بها المكر والدهاء أو ما يسميه الجهلاء خيانة وغدرا. ليست الخيانة أن أحتال على عدوي حتى أظفر به وأقتله وإنما هو الدهاء. وما فائدة الوفاء إذا اضطرني إلى إطلاق سراح رجل أعرف أنه يريد قتلي؟ بورك فيك يا ماكيافلي! نعم يجب أن أقتل كل من شككت فيه أو أخشى منه شرا، تلك هي سياسة كبار الرجال وهي التي سار عليها كبار القواد في تأسيس الدول. ألم يفعل ذلك أبو مسلم الخراساني نصير العباسيين في تأسيس دولتهم؟ ألم يفعله بأمر الإمام إبراهيم العباسي فكان يقتل على الشك؟ ولو لم يفعل ذلك لما قامت للدولة العباسية قائمة؟ فهل يلام عبد الحميد إذا سار على خطوات ذلك الإمام واقتدى بأكبر الفلاسفة العقلاء؟»
كان يقول ذلك قولا متقطعا كأنه يخاطب رجلا واقفا بين يديه، ولو رآه أحد يفعل ذلك لظنه أصيب بخبل. فلما فرغ من تلك الأقوال رمى السيكار من يده وتناول باقة البنفسج ومشى يطلب الرقاد في غرفة من غرف ذلك القصر.
نام عبد الحميد في تلك الليلة نوما متقطعا، وأصبح مبكرا فبعث إلى الباشكاتب وأمره أن يستقدم رامزا من قصر مالطة إليه، فأسرع وأرسل في طلبه فعاد الرسول وأخبر بأنه غير موجود هناك، فأظهر عبد الحميد الاستغراب وقال: «ألم يكن هناك بالأمس؟»
قال: «نعم يا مولاي، ولكنهم يقولون إن حرسيا من حراس القصر جاء في طلبه.»
فقال: «إنها حيلة انطلت عليهم. كيف تتركون هذا الرجل يفر من بين أيديكم؟! ما هذا؟! إني لا أقدر أن أثق بأحد من هؤلاء المجانين الخونة!» وأخذ يكرر أمثال هذه العبارات ويظهر الغضب والحنق، والباشكاتب واقف لا يرد جوابا. ثم أظهر عبد الحميد أنه هدأ روعه وقال للباشكاتب: «ما العمل؟ ينبغي لي أن أتولى كل شيء بنفسي حتى الاحتفاظ بالسجناء؟ فالرجل فر ولا فائدة من تعقب آثاره في الأستانة ولا بد أنه عائد إلى سلانيك، فلنغتنم فراره ونستدل منه على مقر تلك الجمعية.» وأطرق كأنه يعمل فكره ثم قال: «أرسل تلغرافا إلى حبيبنا ناظم بك قل له فيه إن رامزا الخائن أفلت من أيدينا وعاد إلى سلانيك، فليستقبله ويظهر له الصداقة ثم يراقب حركاته ويقتص آثاره بدون أن يشعر به حتى يقف على مقر تلك الجمعية، فيقبض على من يجدهم هناك وليرسلهم إلي مكبلين بالحديد أو فليقتل وليفتك. فإذا استطاع هذه الخدمة رقيناه وأجزناه.»
وكان الباشكاتب يسمع أوامر عبد الحميد وهو يعجب لدهائه، فكتب صورة التلغراف وتلاه عليه فأصلح به بعض الشيء وأمر بإرساله حالا، فخرج وفعل ما أمر به. وعاد عبد الحميد إلى تفكيره فأعجبه ما أتاه من الدهاء فضحك ضحكة يندر أن يضحك مثلها، وقال في نفسه مع الإعجاب بالذي أتاه: «ينبغي أن أدبر أموري بنفسي، وهؤلاء إذا صح إخلاصهم فإنهم قليلو التدبير.» ومشى مشية الخيلاء وهو يقول: «إذا صح تدبيري قضيت على تلك النفوس النجسة وعلمتهم من هو عبد الحميد!»
ثم وقف هنيهة وقد أخذ يفكر في أمر شيرين وما دبره من إغراء القادين بها، وهو لا يشك في أنها ستنجح في استنطاقها لاعتقاده بدهائها وذكائها، وتذكر ما يخافه من حملها ووضعها فقال: «ومتى فرغت من مهمتها أقتلها لأتخلص من حملها!»
وقضى بقية ذلك اليوم في مطالعة التقارير التي أتته من جواسيسه المنبثين في أطراف المملكة، وفيها أمور مهمة لكنه لم يهتم بها لاشتغاله بتدبيره الجديد.
ولما أمسى المساء تزيا بزي حرسي الأمس وأخرج أبا رامز من يلدز كما فعل برامز. •••
خرج رامز من يلدز وهو لا يكاد يصدق أنه نجا، فناداه أحد الحراس الواقفين على بضعة أمتار من الباب: «من القادم؟» فأجابه: «الذات الشاهانية» فوسع له ورحب به ومشى معه حتى تجاوز يلدز وأصبح بعيدا عن الظنون.
وطال مسير رامز قبل أن يصل إلى محطة السكة الحديدية فوصل إليها في الصباح قبيل مسير القطار، فدفع البطاقة إلى ناظر المحطة فرحب به وأنزله في القطار المسافر إلى سلانيك في تلك الساعة في عربة خاصة.
فلما جلس في المركبة وخلا بنفسه عادت إليه هواجسه وراجع في ذاكرته ما مر به من الأهوال في ذلك الليل، وأخذ يمني نفسه قبل كل شيء بمشاهدة شيرين لأنه لم يصدق قول أبيها أنها هربت، وإذا تحقق هربها إلى مناستير أو غيرها سافر إليها. وفكر في المهمة السياسية التي هو ذاهب بها، فلم يخامره شك في صدق عبد الحميد هذه المرة، إذ لولا صدق نيته في ذلك لم يطلق سراحه وهو أسير عنده ثم أطلق سراح أبيه، فاعتقد أنه صادق فيما قاله. على أنه استغرب التماس والده البقاء هناك يوما آخر فوق السنين التي قضاها في أعماق السجن، ولكنه حين آنس منه إصرارا التمس له عذرا أو غرضا، وإن كان قد خامره ريب من بقائه وأسف لتركه لئلا يحدث ما يوجب إعادته إلى السجن، وقال في نفسه: «لو لم يكن للسلطان غرض في إطلاقه فليس ثمة ما يكرهه عليه.»
قضى الطريق في مثل هذه الهواجس، وشغل عما يمر به القطار من التلال والأودية والغياض . ووصل إلى سلانيك في الضحى، فخرج من المحطة بسهولة بتذكرة أعطاه إياها ناظر محطة الأستانة.
ولما خرج من المحطة أخرج منديله من جيبه فإذا فيه ورقة مطوية لم يكن يعهدها هناك، ففضها فإذا هي بخط تذكر أنه خط والده، فقرأها فإذا هو يقول فيها: «احذر من مراقبة ناظم ورجاله السريين خوفا من معرفة مقر الجمعية، افعل ذلك ريثما آتيك.» فدهش وأخذ يفكر فيما بعث والده على هذه الكتابة، فبعثه ذلك على الشك في ناظم ولم يعبأ بما فيها من سوء الظن بالسلطان، ولكنه عزم على المحاذرة.
فأول ما خطر له أن يفعله في سلانيك أن يذهب إلى بيت خطيبته، ولما أطل على المنزل أخذ قلبه يخفق، وتصور أنه سيلاقي شيرين في المنزل فشعر بلذة أنسته متاعبه وأخطاره.
وصل إلى بيت الحبيبة فرآه مقفلا، فسأل الجيران عن أهله فقص عليه أحدهم خبر غياب شيرين منذ أيام وأن والدها سافر إلى الأستانة، وأما والدتها فقد سافرت إلى مناستير للبحث عنها عند بعض أهلها هناك. فأسقط في يده، وتذكر قول طهماز فوجده صادقا فوقع في حيرة واسودت الدنيا في عينيه، وحدثته نفسه أن يتبع الوالدة إلى مناستير لكنه عاد إلى التفكير في المهمة، فتذكر أن تلك الليلة موعد اجتماع الجمعية فعزم على الذهاب إليها وهو لا يخاف انكشاف أمرها للتدبير الذي دبروه في إخفاء مكانها، ولم يشأ أن يؤجل ذلك إلى مجيء أبيه، فذهب إلى الفندق الذي كان نازلا فيه التماسا للراحة فوجد رسولا من ناظم في انتظاره، وقال له إن حضرة القومندان يطلب مقابلته للترحيب به فصدقه وذهب إليه في قصره، فرحب به وهنأه برضى الذات الشاهانية عنه وعرض عليه ما يريد أن يخدمه به، فأثنى على فضله. ولولا الورقة التي وجدها في جيبه لوثق بقوله، لكنه اعتذر بأنه يطلب الراحة في هذا اليوم، فدعاه للنزول عنده فاعتذر ومضى إلى الفندق وهو يتوقع أن تتبعه الجواسيس، فلم يلاحظ شيئا من هذا القبيل. •••
ارتاح رامز في الفندق بقية يومه وهو يهيئ ما سيعرضه على الجمعية، حتى إذا كان العشاء مشى إلى قهوة تعود الأعضاء أن يتفرقوا في أطرافها قبل الاجتماع، ليتواعدوا على مكان الاجتماع وكيفية الوصول إليه.
وكانت الجمعية مؤلفة من عدد محدود لا يزيد على 12 عضوا هم لجنة الإدارة، عليهم رئيس يسمونه «المرخص» تحاشيا من تمييز بعضهم بالرياسة، وهؤلاء الأعضاء يتعارفون ويجتمعون غير متنكرين للمباحثة في أعمال الجمعية وإصدار الأوامر إلى الفروع. أما من ينضم إلى الجمعية غير هؤلاء فإنه لا يتأتى له أن يعرف أعضاء اللجنة معرفة شخصية، وإنما يعرف الشخص الذي يكون واسطة لإدخاله فيها، وذلك أن أحد أعضاء اللجنة إذا عرف شابا من العثمانيين آنس فيه ميلا إلى الحرية وحب الإصلاح قربه إليه، وتدرج في إطلاعه على وجود جمعية حرة تطلب الإصلاح، فإذا أحب الانتظام في سلكها وطلب إليه ذلك وعده بالنظر في طلبه ثم يخاطب اللجنة بشأنه، فإذا قبلته أعطته رقما يعرف به في سجلاتها ودعته للحضور في جلسة سرية تعينها له يحضرها أعضاء اللجنة متنكرين، فيدخل متهيبا ويقسم اليمين على الإنجيل أو القرآن والمسدس ويخرج. وهذا العضو الجديد إذا رأى صديقا له استحسن ضمه إلى الجمعية قدم طلبه على يد العضو الذي قدمه قبلا، وإذا قبل يأتي الطالب الجديد للجلسة السرية ويقسم اليمين ويخرج وهو لا يعرف غير صديقه الذي أدخله، وأما هذا فصار يعرف اثنين: أحدهما بعده والآخر قبله، وإذا أدخل اثنين أو ثلاثة أو أربعة فإنه يعرفهم وهم يعرفونه.
وهذا التحفظ قائم أيضا في العلاقة بين الجمعية المركزية وفروعها في الجهات، فإنها تتفرع أولا إلى شعب في المدن الكبرى، وللشعبة فروع يقال لها قولات، وكل شعبة أو قول مؤلف من لجنة إدارية لها رئيس وأعضاء مثل الجمعية المركزية. ومؤسسو الشعب أصلهم من الجمعية المركزية، وذلك أن أحد هؤلاء الأعضاء إذا رأى في نفسه الكفاءة لإنشاء شعبة في بلد من البلاد عرض مشروعه على اللجنة فتخول له إنشاءها، فينتقل إلى ذلك البلد ويجتمع بأناس يثق بحريتهم وصدقهم، ويؤلف معهم لجنة يخبرهم أنها فرع للجمعية المركزية، ولكنه لا يصرح لهم بأسماء أعضائها. ومتى تألفت الشعبة عملت على إدخال الأعضاء بالكيفية التي سنتها الجمعية المركزية، وهذه اللجنة لا تعرف من أعضاء الجمعية المركزية إلا الذي أسس الشعبة.
وهكذا يقال في إنشاء الفروع الصغرى، فإن أحد أعضاء لجنة من لجان الشعب يأخذ على عاتقه إنشاء فرع للشعبة، ويخرج للقرية ويؤلف لجنة من أهل ثقته لا يعرفون من أعضاء الشعبة إلا هو. وقس على ذلك.
وتختار الجمعية لنشر آرائها صحفا ينشئها أفراد منها يظهرون للناس وقد لا يظهرون.
وكان رامز من أعضاء لجنة الإدارة في سلانيك، فلما أتى القهوة عرف من لقيهم هناك من الأعضاء، وكانوا قد يئسوا من حياته فأخبرهم أنه جاء بمهمة ذات بال تغنيهم عما يقاسونه من العذاب، وأخبروه عن محل الاجتماع في بعض أطراف المدينة ودلوه على طريقة الوصول إليه.
فتفرقوا من هناك وسار كل منهم إلى منزله. وتذكر رامز أباه وظن أنه قد يأتي في أثناء الاجتماع تلك الليلة، فأسرع إلى بيت طهماز وأوصى الجار إذا جاء رجل صفته كذا وكذا أن يقول له إن رامزا ينتظره في بيت فلان المؤدي إلى محل الاجتماع. ولم يلحظ رامز أن أحدا يتبعه، على أنه لم يكترث بذلك لعلمه أن طريقة الوصول إلى ذلك المكان لا يستطيع الجواسيس كشفها. فلما كان قبل منتصف الليل خرج من الفندق ومشى في شارع استطرق منه إلى آخر فآخر حتى وصل إلى منزل طرقه ففتح له فدخل فيه، ثم خرج من باب سري منه إلى زقاق لا يهتدي إليه غير العارف، فإذا تعقبه جاسوس يشك أن ذلك المنزل هو محل الاجتماع، فإذا دخله وسأل عن القوم لا يجد فيه أحدا ولا يهتدي إلى المكان الذي خرجوا منه، وهو منزل بعض الأجانب ممن لا يجسر رجال الشرطة ولا غيرهم أن يطرقوه. ولم يكونوا يذهبون إلى كل اجتماع في نفس ذلك الطريق، فأوصى رامز صاحب ذلك المنزل إذا أتى والده أن يرشده إلى محل الاجتماع ويخبره عن كلمة السر.
فلما صار رامز في الزقاق أصبح في مأمن من الرقباء، ومشى مدة في طرق مبهمة حتى انتهى إلى محفل ماسوني يجتمع فيه الماسونيون ولا حرج عليهم، وقد أحيط المكان في تلك الليلة بالرجال من أعضاء الجمعية المنبثين في جهات مختلفة لا يراهم أحد، وعليهم العدة والسلاح للدفاع عند الحاجة.
فلما وصل إلى الباب تلفت حتى تحقق خلو الطريق من الجواسيس، فطرق الباب طرقا خاصا ففتح له، ودخل في دهليز مظلم في أحد أركانه مصباح وجه نوره نحو الباب بواسطة عدسة مقعرة ليقع النور شديدا على وجه الداخل، وقد اصطف على الجانبين بعض الرجال في ملابس سوداء، وكلهم ملثمون لا يظهر منهم إلا عيونهم. فلما دخل رامز رفع الحراس سيوفهم المجردة فوق رأسه، فرفع يده بإشارة خاصة وسعوا له الطريق على أثرها، فمشى إلى غرفة هناك حيث ارتدى فوق ثيابه برداء أسود في أعلاه لثام يرسل على الوجه عند الحاجة، ومشى إلى قاعة الجلوس يتقدمه أحد الحراس ليهديه إلى الباب، فلما وصل إليه قرعه قرعا خاصا ففتح له ودخل. وفي هذه الحجرة 12 كرسيا هي مقاعد لجنة الإدارة لا يحضر تلك الجلسة سواهم إلا بإذن خاص، وكان رامز واحدا منهم. وقبل دخوله أفهم الحراس أن أباه سيحضر بعد قليل، فعليهم أن يدخلوه إلى القاعة بعد الاستيثاق من أمره حسب المتبع.
وكانت القاعة مربعة الشكل نظمت بها الكراسي بشكل دائري، وفي صدرها كرسي الرئيس وأمامه منضدة عليها كساء أسود، وفي منتصف القاعة منضدة أخرى صغيرة عليها الإنجيل والقرآن والمسدس، وفي صدر القاعة فوق مجلس الرئيس صورة مدحت باشا مجللة بالسواد. فعرف رامز من الأعضاء: الأميرالاي حسن رضا بك من الطوبجية، والقائمقام فائق بك أركان الحرب، والبكباشيين أركان الحرب فتحي بك وحقي بك، والمحامي رفيق بك، وطلعت بك، والبكباشي أنور بك، والقائمقام أركان حرب جمال بك، ورحمي بك. وكانوا جميعا مثله في ملابس سوداء وقد رفعوا اللثام عن وجوهم.
طرق الرئيس المنضدة التي أمامه طرقة خاصة ثم قال: «تفتح الجلسة باسم الله وبذكرى مدحت باشا ضحية الدستور .»
فوقف الجميع احتراما ثم جلسوا، وقام الرئيس فقال: «أيها الإخوان، إن أخانا رامزا قادم إلينا من يلدز في مهمة خاصة يرجو منها خيرا، فلنسمع ما يقول.»
فوقف رامز وقال: «أنتم تعلمون أني أخذت غيلة إلى يلدز منذ أيام، ولعلكم قطعتم الأمل من حياتي لأن الذاهب إلى ذلك المكان كالذاهب إلى القبر أو إلى الجحيم.»
فضحك الحضور وقال الرئيس: «علمنا بذلك، وكانت أخبارك تأتينا بواسطة أحد إخواننا الشجعان هناك لا نظنك تعرفه!»
فاستغرب رامز ذلك وقال: «إني لم أشاهد أحدا لأني كنت هناك في مكان منعزل عن الناس.»
قال: «إن أخانا هناك أخبرنا ببعض ما قاسيته، وذكر أنك كنت مسجونا في قصر مالطة.»
فازداد رامز استغرابا لأنه لم يكن يعرف وجود جاسوس للجمعية هناك، فقال: «نعم، إني كنت مسجونا وقد قاسيت كثيرا، ولي الشرف بأني بررت بالقسم الذي أقسمته للمحافظة على أسرار الجمعية المقدسة، ورغم محاولات السلطان وغيره من رجال القصر وإلحاحهم علي لأبوح بأسماء الأعضاء العاملين. وكنت أتوقع أن أتشرف بالقتل بعد هذا، ولكن الأقدار فتحت لي بابا لم يسبق لأحد أنه وفق إلى مثله، وفيه منجاة من سفك الدماء والوصول إلى المقصود على أهون سبيل.»
فتطاول الأعضاء بأعناقهم لسماع حديثه، وقال الرئيس: «ما هو ذلك الباب أيها الأخ؟ إننا من أرغب الناس في المسالمة. وأنت تعلم أن خطة جمعيتنا هذه نيل الدستور وإنقاذ الدولة من الدمار بالطرق السلمية ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.»
فقال رامز: «نعم، أعلم هذا، ولذلك أعد ما وفقت إليه نجاحا باهرا.»
فاستأذن أنور بك وقال: «هل يأتي من القصر أمر فيه مصلحة لا يعتوره سفك دماء؟ إني لا أرى الإصلاح ينال بغير السيف وسفك الدماء.»
فقاطعه الرئيس قائلا: «لله درك يا أنور من رجل حرب وحزم! على أن ذلك لا يمنعنا من الإصغاء إلى ما يعرض علينا، وليس على الله مستحيل.»
فعاد أنور إلى مجلسه واستأنف رامز كلامه فقال: «أنتم أهل حرب وكفاح يهون عليكم القتل. وأما أنا فإني رب قلم وبحث، ولا أرى الوصول إلى الإصلاح بالحسنى مستحيلا. ومع ذلك فإني عارض عليكم ما جئت من أجله.»
فأصغى الجميع، وأخذ رامز يقص حديثه مع السلطان حتى وصل إلى ما دار بينهما في قاعة قصر جيت، وكيف اعترف عبد الحميد بخطئه وكلفه أن يخابر أعضاء الجمعية في شأن المجيء إليه وأطلق سراحه لهذا الغرض، إلى أن قال: «ومما يؤكد لي صدق نية السلطان هذه المرة أنه أطلق سراحي بعد أن كنت في قبضة يده، وكتم نبأ ذلك عن كل إنسان حتى لقد تولى إخراجي بنفسه خفية، وقد أطلق سراح أبي أيضا وأنتم تعلمون أننا يئسنا من بقائه حيا و...»
فلما ذكر أباه ظهرت البغتة على الحاضرين، ولم يتمالك الرئيس عن قطع حديث رامز قائلا: «أبوك أتى معك؟! أين هو؟!»
قال: «لم يأت معي، إذ استمهلني ريثما يصلح من شأنه ويأتي في الغد. ألا تعدون هذه المعاملة دليلا على اقتناع عبد الحميد بخطئه؟ وأنه ألهم الرجوع إلى الصواب على أيدي الأحرار العثمانيين؟»
وكان الكل يسمعون وهم يستغربون هذا الاقتراح، فلما فرغ من كلامه قال الرئيس يخاطب الأعضاء: «أنتم تعلمون قانون جمعيتنا المقدسة، ولا يخفى عليكم أنه يقضي بالمطالبة بالدستور وقلب الحكومة الاستبدادية بالحسنى بلا سفك دماء على قدر الإمكان، ولذلك لا يمكننا رفض اقتراح عبد الحميد مع ما فيه من نيل الدستور على أهون سبيل. ولا يخفى عليكم أيضا أن هذه الجمعية ترى إذا نالت الدستور ألا تلحق بالسلطان سوءا، إذ لا رغبة لنا في الانتقام وإنما نريد الإصلاح.»
فوقف أنور بك، وشارباه المرتفعان ينتفضان من التأثر، وقال: «يا إخواني، إن اقتراح عبد الحميد جميل، وحجب الدماء جميل. ولكن نيل الدستور بالحسنى مما يخالف النواميس الطبيعية الاجتماعية التي جرت عليها الأمم من أقدم أزمنة التاريخ، هل سمعتم بأمة نالت حريتها وتخلصت من حكومتها الاستبدادية إلا بالسيف؟ كلا أيها السادة، إن الشرف الرفيع لا يسلم من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم. ولا أقول: إن نيل الدستور بالحسنى مستحيل، فالواقع أننا ساعون في هذا السبيل، ولكنني أرى أمر ذلك يطول، وقد جعلنا هذه الجمعية عسكرية، وأعضاؤها أكثرهم من الضباط الشجعان المثقفين الذين يعرفون قدر الحرية، أو الكتاب الأحرار العارفين، فينبغي لنا أن نبادر إلى العمل. هذا هو رأيي، ولا أرى اقتراح ذلك الطاغية إلا حيلة يدبر لنا من ورائها مكيدة.»
قال ذلك وجلس بين ضجيج الاستحسان، وارتفع صوت الضابط الملازم «ك» المعروف بحماسته يقول: «اقتل ... اقتل ... لا يفيد غير ذلك!» فضحك الجميع معجبين. أما الرئيس فوجه كلامه إلى أنور بك وقال: «لله درك يا أنور! وبارك الله في بسالتك وحزمك! إن جمعية فيها أمثالك لفائزة بإذن الله. ولكننا نبحث عن اقتراح عرضه علينا السلطان وهو يوافق غرض جمعيتنا، هل نرفضه؟»
فنهض القائمقام فائق بك وقال: «أيها الأخ الرئيس، قد يكون قانون جمعيتنا المقدسة لا يأذن لنا في رفض هذا الاقتراح، ولكن التجارب الماضية دلتنا على أن ذلك الطاغية لا يركن إليه ولا يوثق بقوله، فكم استرضى الأحرار بمثل هذه الوعود ثم غدر! كما فعل بجمعية باريس، وحديث مراد وغيره أشهر من أن يذكر، وقد بدأ غدره منذ يوم مبايعته، ألم يعد مدحت بإعلان الدستور ثم أخلف ولم يعلنه إلا قهرا ثم أفسده وفتك بأصحابه؟ إن عبد الحميد متأثر بفلسفة ماكيافلي الإيطالي في السياسة، ولا يقرأ غير كتبه التي تعلم الفتك بالناس في سبيل مصلحة الدولة بلا مبالاة بالشرف، وقد زاد عليه عبد الحميد باقتداره العجيب على إخفاء عواطفه والتظاهر بما ليس فيه كما تعلمون. ولو أنه اقترح علينا المخابرة كتابة لم يكن ثمة بأس من قبول اقتراحه، أما الذهاب إلى يلدز مدفن الأحرار فأنا لا أوافق عليه، بل أرى أننا اليوم في خطر أشد مما كنا فيه قبلا.»
فصاح أنور بك قائلا: «هذا حق! هذا حق!»
فنهض رامز وقال: «يحق لكم الشك فيما سمعتموه، وقد لبثت حينا بين الشك واليقين، ولكنني رأيت الدمع يتساقط من عيني عبد الحميد وهو يتكلم، وأصبح بين يدي كالطفل النادم على ذنب اقترفه خوف العقاب. أما المخابرة بالكتابة من بعيد فلا تفيد ، لأنه يريد ألا يشعر أحد من رجال القصر بهذا الأمر، لأنه يخشى على حياته منهم إذا شعروا بأنه سينقل النفوذ من أيديهم إلى أيدي أعدائهم. وعلى كل حال سيأتي أبي بعد قليل، وسنسمع رأيه في ذلك.»
فقال الرئيس: «نؤجل الحكم في هذه المسألة للتأمل فيها، وإذا شئتم أن نعقد جلسة عامة يجتمع فيها كل الأعضاء فعلنا.» فوافق الجميع على ذلك.
مدحت وسعيد
وجه الرئيس كلامه إلى رامز بعد انتهاء الجلسة فقال: «لقد شغلنا بهذا البحث عن حديث سعيد بك أبيك، هل التقيتما في يلدز؟»
قال: «نعم، وسيكون هنا الليلة أو غدا.»
فقال حقي بك: «سعيد بك صديق مدحت باشا لا يزال حيا؟»
فقال الرئيس: «نعم، ونحمد الله على ذلك. ولعل بعضكم لا يدري مهمة هذا الأخ الجليل، ولهذا أقصها عليكم باختصار: إن سعيد بك صديق مخلص قديم، وكان أكثر الأحرار التصاقا بأستاذنا مدحت باشا، وشاركه جهاده وأكثر مصائبه ونكباته حتى رافقه أخيرا إلى منفاه في الطائف، وهو يتعشق الدستور الذي ذهب مدحت ضحيته. وقد قص علي أنباء الفظائع التي قاساها مدحت في منفاه من الجوع والتعذيب إلى أن انتهى الأمر بقتله على مشهد منه بأيدي ضابطين وسبعة من الجنود الخونة، قتلوه خنقا وقطعوا رأسه وأرسلوه في صندوق إلى يلدز كتبوا عليه أنه يحتوي عاجا يابانيا وأدوات صناعية لجلالة السلطان، قص علي سعيد بك ذلك وهو يبكي. إن عبد الحميد قتل مدحت ولكنه لم يقتل روحه وتعاليمه، ووجودنا هنا وسعينا في سبيل الدستور إنما هو نسمة من تلك الروح الطاهرة. وليس ذلك كل أفضال مدحت، فإنه علمنا تجنب الخطر وعدم الثقة بوعود الطغاة. وقد بعث إلى الأحرار العثمانيين بوصية على يد الأخ سعيد بلغنا إياها، وقال إن هناك وصية مخطوطة كتبها المرحوم وهو في قصر مالطة يوم قبضوا عليه وأخذوا في محاكمته تلك المحاكمة الظالمة، وكأنه أحس بالخطر القريب وهو هناك فاغتنم انفراده وكتب وصية للأحرار ووضعها في مخبأ في قصر مالطة، على أن يحملها معه ويدفعها إلى بعض خاصته بعد خروجه من ذلك القصر، فأخرج فجأة ولم يمهل ريثما يأخذ الوصية فبقيت هناك، وظن نفسه يعود بعد تقلب الأحوال، فلما يئس من ذلك وأحس بقرب الأجل أسر إلى سعيد خبر الوصية ودله على مخبئها في قصر مالطة، وأوصاه أن يتلوها على الأحرار العثمانيين حيثما وجدوا. فلما عاد سعيد من الطائف أخذ يبث أفكار مدحت سرا، وأنتم تعلمون أكثرها وأصبح يترقب الفرص للحصول على الوصية، فلم يستطع دخول يلدز بالحيلة إلا منذ بضع عشرة سنة، ونحن في انتظار رجوعه إلى الآن! فأنا أعد خبر خروجه فوزا لنا وبشارة تدل على قرب النجاة من أسر الاستبداد وإطلاق روح الدستور.»
وكان الجميع سكوتا لأن هذا الحديث كان جديدا على مسامع أكثرهم، حتى رامز لم يكن يعرف من هذه التفاصيل إلا قليلا. فلما فرغ الرئيس من كلامه نهض أنور بك - وكان في أثناء الحديث غارقا في التفكير - وقال: «هل يطول بنا انتظار الأخ سعيد بك؟»
فقال رامز: «أرجو أن يكون هنا الليلة أو غدا، ولعله تأخر ليأتي بالوصية معه، هذا ما خطر لي الآن على أثر ما سمعته فقد رأيته يرغب في البقاء هناك يوما آخر، وقد أوصيت أحد الجيران أن يدله على مجتمعنا إذا أراد أن يأتي.»
فقال: «أما وقد دنا مجيئه ومعه وصية مدحت فلنؤجل حكمنا في هذا الأمر حتى نتلو الوصية، ولا شك أننا سنجد فيها أمورا مهمة.»
وبينما هم في هذه الحال إذ سمعوا قرع الباب الخارجي فأنصتوا، وبعد برهة قرع باب القاعة ففتح الحارس فدخل أحد الحراس يقول: «إن أجنبيا لا أعرفه يريد الدخول فلم نأذن له، فطلب أن يرى الأخ رامزا.»
فتأكد الرئيس أن القادم سعيد بك فأذن لرامز في الذهاب لاستقدامه فخرج، ولبث الجمع في انتظاره على أحر من الجمر. وبعد قليل عاد رامز ومعه أبوه، فأشار الرئيس إلى الجميع بالنهوض إجلالا له، وقال الرئيس: «إننا نقف لك ترحابا بك وإقرارا بفضلك في خدمة الحرية، لأنك رسول أستاذنا مدحت.»
فحياهم ووقف، فأشار إليه الرئيس أن يقعد على كرسي بجانبه احتفاء به، فقعد والدهشة ظاهرة في طلعته، وابنه رامز ينظر إليه ويتأمله فرأى فيه الصورة التي يعرفها ولم يلحقها إلا تغيير قليل. ولما استقر الجلوس بسعيد سكت الجميع في انتظار ما يقوله، أما هو فمكث هنيهة صامتا مطرقا كأنه تهيب تلك الجلسة أو كأنها أذكرته أمورا محزنة، ثم التفت إلى صورة مدحت المعلقة بالحائط وتفرس فيها طويلا والأعضاء ينظرون إليه كأن على رءوسهم الطير، فلحظوا قطرات من الدمع تتساقط على لحيته وهو يتجلد، فأراد الرئيس أن يشغله عن تذكاراته المحزنة فقال: «إن فرحنا بقدومك كثير، ولا سيما بعد نجاة أخينا رامز من خطر القتل، ولا شك أنك تشعر بما في قلوبنا من البهجة بهذا اللقاء، بل نحن نستبشر خيرا بقدومك يا حامل رسالة أبينا وقدوتنا شهيد الحرية. لا ينبغي أن تحزن عليه فإنه لا يزال حيا بيننا حتى نأخذ بثأره ونتم عمله فيبقى ذكره خالدا ... نحن في انتظار الوصية المكتوبة، هل وقفت عليها؟»
فتنهد وقال: «نعم إنها معي، وقد سجنت من أجلها أعواما، ولكن السجن حال بيني وبينها وهي أقرب إلي من حبل الوريد، لأن أهل يلدز ارتابوا في مقاصدي فسجنوني وعذبوني لأطلعهم على غرضي من وجودي في قصر مالطة بلا مناسبة فلم أجبهم، ولم أشأ أن أحتال في الخروج دون الوصول إلى هذه الوصية، حتى أتيح لي النجاة أمس مع ولدي كما أخبركم، فطلبت البقاء هناك يوما آخر فبقيت بلا رقيب، فأخرجت الوصية من مخبئها وخبأتها بين أثوابي بحيث يستحيل الاطلاع على مكانها.»
قال ذلك وأخرج أوراقا تآكلت أطرافها وتهرأت لطول دفنها في التراب، ثم دفعها إلى الرئيس فشخصت الأبصار وتطاولت الأعناق ترقبا لسماع ما فيها.
ونهض سعيد لمساعدة الرئيس في ترتيب الأوراق ومعرفة أولها وآخرها، وعرف الرئيس خط مدحت فقبله وقال: «هذا خطه رحمه الله!» وعاد إلى الترتيب ثم قال: «إن هذه الوصية مكتوبة على عجل، فأسطرها متقطعة أشبه بالمفكرات منها بالوصية، فأبدأ بما على ظهرها»، وقلب الورقة وقرأ: «الدستور، اطلبوه بالسيف.»
فلم يتمالك أنور أن صاح: «حسن ! بالسيف، بالسيف!» فنظر إليه الرئيس بلطف كأنه يوبخه على مقاطعته، ولم يكن أنور بك ممن يقاطعون بل هو من أعلم الناس بالأصول والقواعد لحفظ النظام، ولكنه سر بمطابقة قول مدحت لرأيه فغلب عليه فرحه فقال تلك الكلمة. أما الرئيس فعاد إلى القراءة فقرأ: «سأذهب ضحية طلب الحرية، ولكنني فرد لا تذهب بذهابه تلك الروح التي أخذت تدب في أنفس العثمانيين وتنتشر في الشبيبة العثمانية، ولا بد أن تزداد انتشارا كل يوم، فموت واحد من الأحرار أو عشرة أو مائة لا يستطيع أن يقف في سبيلها. ولذلك أكتب هذه الأسطر أخاطب بها تلك الروح الممثلة في الشبيبة العثمانية. اثبتوا في طلب الحق فإنكم ستنالونه. لا بد من نيل الدستور لأنه حق، وإن طال الأمد على ضياعه. ولكنني أرشدكم إلى أمور عرفتها بالاختبار الشخصي، ولو عرفتها قبل الآن لم تصل أيدي الظالمين إلي ولا أفلت الدستور من يدي، ولكني وثقت ورفقت فذهب سعيي بين الرفق والثقة، فاحذروا. وهذه وصيتي بالاختصار، فإن الوقت لا يساعدني على التطويل، وأنا مطلوب للوقوف أمام تلك المحكمة الظالمة، ولا ألبث أن يحكم علي بالقتل أو النفي. فأكتب مختصرا:
أولا:
علموا الأمة، رقوا العامة، إن الجهل سبب كل علة. ولا أعني التعليم المدرسي كالصرف والنحو والحساب، ولا الطب والهندسة والقضاء. وإنما أعني تربية الشبان وتدريبهم على الحرية الشخصية واستقلال الفكر وبث روح الوطنية في نفوسهم. وهذا يقتضي تعليم المرأة فإنها روح الأمة، فإذا ارتقت وتثقفت نشأ أبناؤها على مثالها، فالأمة التي نساؤها مثقفات راقيات ينشأ أبناؤها أهلا للحرية ولو لم يتعلموا، فإن القصد التربية، وهذه لا تثبت إلا إذا غرست في الصغر. فأولى وصاياي ترقية الشعب وتدريبه على روح الحرية، ولو كان لهذه الأمة التعسة شيء من ذلك الآن لما رضيت بحل مجلس «المبعوثان» وقتل الدستور وأنصاره، وهي نائمة لا ترفع صوتا ولا تجرد سيفا.
ثانيا:
احذروا الشقاق بين العناصر والأديان. إن الدستور العثماني يحتاج إلى هذه الوصية أكثر منه إلى سائر الوصايا، وذلك لاختلاف العناصر والمذاهب في بلادنا. دعوا التعصب الجنسي أو المذهبي واتحدوا في العثمانية، لا تذكروا الإسلام والنصرانية واليهودية، ولا التركي والعربي والرومي والبلغاري والألباني، غضوا الطرف عن هذه الاختلافات لأنها أكبر سلاح يحاربكم به أعداء الحرية الظالمون، هم يفرقون بين العناصر والمذاهب ليستتب الأمر لاستبدادهم ويأمنوا اجتماع الأيدي على مقاومتهم. كلكم مظلوم وكلكم موتور، إن الظلم لا يخص طائفة دون أخرى ولا مذهبا دون آخر، فاتحدوا.
ثالثا:
اجعلوا معولكم في الدفاع على الجندية، ألفوا الجمعيات السرية وأدخلوا الجند فيها، الجند هم الأمة وبأسيافهم يحمى الدستور وتستقر الحرية. إن لم يكن الجند معكم فسعيكم في سبيل الحرية يذهب عبثا، بالجند حاربنا هذا الطاغية، ولو كانت الجندية معنا لفعلنا كما نشاء، لا تفلح أمة في طلب حق من حكومتها إن لم يكن الجند نصيرها، ويشترط أن يكون متعلما مثقفا. عولوا على الضباط، فإن العساكر يجعلهم الجهل أتباعا لكل ناعق، أما الضابط المتعلم ذو الفضيلة فإنه سيف قاطع. اجعلوا معولكم على الضباط المتعلمين فهم وحدهم يدركون معنى الحرية، وهم وحدهم يحمونها بأسيافهم.
وهنا حدثت تمتمة، ولو أتيح للسامعين الكلام لصاحوا: «لتحي الجندية!» ثم عاد الرئيس إلى القراءة فقال:
رابعا:
وهذه وصية خاصة أحرضكم على العمل بها فقد كلفتني حياتي وحياة كثيرين أمثالي من الأحرار: إن الحر الصادق سريع التصديق كثير الوثوق، وقد يجره وثوقه إلى الخطر لأن الناس حوله على غير ذلك، ولا سيما عبد الحميد. إذا وصلت وصيتي إليكم وهو حي فأوصيكم ألا تثقوا بأقواله ولو أقسم فإنه كاذب. احذروا الوثوق به، فإن الوثوق جرني إلى الموت، لا تصدقوه ولو أقسم وظهرت علامات الصدق في وجهه، فإن ذلك الوجه لا مثيل له من حيث التلون، إن فيه شيئا لا أعرفه في سائر الوجوه يوهمك منظره أنه صادق وما هو كذلك، له قدرة غريبة على إقناع مخاطبه، وقد يتظاهر بالبكاء ندما وأسفا وهو ينوي غير ما يقول فاحذروه.
فلما بلغ الرئيس إلى هنا وقف أنور بك وقال: «أستأذن الأخ الرئيس في أن أقول: فليحي مدحت أبو الأحرار ! هذا هو الرأي الصواب، وقد جاء قوله فصل الخطاب.»
فابتسم الرئيس وعاد إلى القراءة فقرأ:
خامسا:
بقيت وصية ربما تعجبون منها: فإن الحرية تقتضي العدل والرفق وحجب الدماء ولكنها لا تنال إلا بسفك الدماء، فافتكوا بالأفراد الذين يقفون في سبيل أغراضكم، لأن رجلا واحدا شريرا قد يكون وجوده سببا في خراب أمة أو ضياع حقوقها، فإذا كان الحق لا يقضي بقتله فالسياسة تقتضيه. افتكوا بالأشرار، اقتلوهم. وإذا كانت الجندية معكم فليس أهون عليكم من ذلك. كل من تأكدتم سعيه ضد الحرية والدستور فاقتلوه وأنا المسئول عن ذنبكم بقتله. إنكم بمثل ذلك تحيون أمتكم، ولو أتيح لي أن أعرف ذلك من قبل لكنتم الآن رافلين في بحبوحة الدستور، ولكن تلك سنة الله في خلقه يستفيد الأبناء من اختبار الآباء.
ولما وصل الرئيس في الوصية إلى هنا تنفس الصعداء، ولم يتكلم أحد إلا الشاب الملازم ك، فإنه تنحنح تصديقا لما سمعه. وعاد الرئيس إلى القراءة فقال:
سادسا:
إذا أتيح لكم الفوز بالدستور فاحذروا أن تبقوا هذا الطاغية على كرسي السلطنة، وإن ظهر لكم أنه تاب ورجع، فإنه يظهر غير ما يضمر.
سابعا:
لي وصية أخرى تتعلق بتوارث الملك في الدولة العثمانية: إن طريقة التوارث الجارية إلى اليوم لا تخلو من الخطر على الدولة، إذ يكون ولي العهد شخصا معينا هو أكبر أبناء السلاطين سنا، فقد يتفق أن يكون غير كفء لإدارة أمور الدولة، فإذا أعلن الدستور وصارت الحكومة العثمانية دستورية أصبحت مقاليدها في أيدي النواب، فينبغي أن ينظروا في توارث الملك، إنه عظيم الأهمية إن لم يكن حال الانقلاب فبعده عند سنوح الفرصة. والذي أراه أن يبقى حق السيادة في آل عثمان يتوارثونها على أن يكون كل بالغ من أبنائهم مرشحا لولاية العهد، وإنما يكون للأمة أو مجلس نوابها أن يختار منهم من يجد فيه الكفاءة لهذا المنصب. لا أنكر ما يعتور هذه الوصية من العقبات ولكنها لازمة.
أخيرا:
أستودعكم الله وأنا ذاهب لأموت في سبيل الدستور. (مدحت.)
وقعد الرئيس بعد تلاوة الوصية ثم قال: «قد سمعتم هذه الوصايا الثمينة، وبعضها قد سمعناه شفاها من أخينا سعيد، وبعضها جرتنا إليه الحوادث واقتضته الأحوال. فما رأيكم؟»
فنهض المحامي رفيق بك وقال: «إن بعض هذه الوصية قد عملنا به على قدر الإمكان وبعضها يحتاج إلى نظر، فنرجو من حضرة الأخ الرئيس أن يعرض هذه المسائل واحدة واحدة ويأخذ الآراء في شأنها.»
فقال الرئيس: «إن تربية الأمة أمر اقتضته طبيعة العمران، وإن كنا لم نستطع شيئا كثيرا لوقوف حكومة الاستبداد في طريقنا. أما الجمع بين العناصر فإننا ساعون فيه، ووصية أبينا وأستاذنا مدحت تجعلنا نسير فيه إلى النهاية. وهكذا وصيته في التعويل على الجندية فإنها خطتنا الجديدة، وقد وصلنا إليها بعد طول الاختبار، ونعم الرأي هو! أما تحذيره إيانا من عبد الحميد وعدم الركون إلى مواعيده فقد أتى إبان الحاجة إليه ونحن في اضطراب وتردد، وأظن هذه الوصية تكفي للفصل في هذه المسألة، فهل تترددون في رفض اقتراح عبد الحميد الذي أتانا به الأخ رامز؟» وأشار إلى الأعضاء يطلب رأيهم في ذلك، فصاحوا بصوت واحد: «مرفوض».
فقال الرئيس: «والفتك، ما رأيكم فيه؟ إن غرضنا حتى الساعة أن ننال الدستور بلا فتك ولا قتل، ولكن أستاذنا مدحت يلح في تحريضنا على الفتك، فما قولكم؟»
فوقف أنور بك وقال: «إن أستاذنا حدد الحالة التي يجوز فيها الفتك، إذا وجد شخص كثير الأذى للأحرار وكان وجوده حجر عثرة في سبيل مقاصدنا فلنقتله. إن هذه سياسة يقضي بها العقل والعدل، فإن قتل شخص واحد أفضل من ضياع حقوق أمة برمتها!»
فاستأذن الملازم ك للكلام، وهو شاب في حدود الخامسة والعشرين من عمره، وقد امتلأ صدره حماسة ولمعت عيناه ذكاء وحدة، فبش له الرئيس وأذن، فقال: «إذا كانت السياسة لا تقضي بهذا الفتك بأعدائنا فالحق يقضي به، إن أهل القصر وأتباعهم أعداء لنا، وهم يقتلون منا العشرات فضلا عن قتل الحرية وإماتة الشعائر. وشريعة الحرب تجيز أن نقتل منهم من يقف في طريقنا، هم يقتلون منا طلاب الدستور ونحن نقتل من يسعى في قتل الحرية والأحرار، وكل واحد منا يساوي مئات منهم.» قال ذلك وعيناه تبرقان وصدق اللهجة ظاهر في كل حركة من حركاته.
فأشار له الرئيس مبتسما أن يقعد، وقال مخاطبا الأعضاء: «هل توافقون على الفتك عند الحاجة؟ هذه خطوة جديدة في جمعيتنا، فتأملوا قبل إقرارها إنها خطوة مهمة جدا. فما قولكم؟»
فاستأذن سعيد في الكلام فأذن له، فقال: «إن هذه السنة قديمة، وأنا أعتقد أنها ستكون الدواء الناجع لهذه الحالة. إنكم تفتكون ببضعة من كبار الظالمين حتى تصغر نفوسهم ويهابوكم، إذ يعلمون أنكم لا تقتصرون في الدفاع عن الحرية والمطالبة بها على الأقلام ولكنكم تدافعون بالسيوف أيضا. وهؤلاء القوم لا يفهمون إلا بالإرهاب، فخاطبوهم بلسانهم وأنا الضمين بفوزكم بإذن الله.»
وكان لكلام سعيد وقع عظيم في نفوس الحضور حتى لم يبق إلا من وافق على هذا الرأي، ولما عرضه الرئيس على الأكثرية وافقوا عليه بالإجماع. وكان رجال العسكرية أكثر سرورا به لأنهم أهل سيف. ومع ذلك وقف الرئيس وقال: «نقبل هذا القرار رغم إرادتنا، لأنه مخالف للخطة التي رسمناها من أول إنشاء جمعيتنا، لكننا قبلناها أولا لأنها وصية أستاذنا، وثانيا لأن السياسة تقتضيها، وقد أقرها الأعضاء.»
ثم عرض مسألة بقاء عبد الحميد على العرش إذا حصلوا على الدستور، فاختلفت الآراء فيه واتفق الرأي على أن ينظر في ذلك فيما بعد، فإذا وفقوا إلى نيل الدستور تصرفوا حسب الأحوال.
ثم أوعز الرئيس إلى الكاتب أن يبلغ هذا القرار إلى شعب الجمعية في مناستير وغيرها فأجاب مطيعا، ثم سأله الرئيس: «كم الساعة؟»
فقال الكاتب: «الثانية بعد نصف الليل.»
فقال الرئيس: «لم يأتنا خبر حتى الساعة من الأخ المقيم في يلدز، وقد عودنا أن يرسل الأخبار كل يوم أو يومين.»
فقال الكاتب: «لم يتأخر عن الإرسال، فقد أتتني رسالته في هذا المساء وهي مكتوبة بالشفرة كالعادة، ولم أتمكن من حلها قبل مجيئي.»
فاستأذن رامز في أن يساعده في حلها، لأنه خبير بذلك فأذن له. ثم أعلن الرئيس رفع الجلسة عشر دقائق ريثما يفرغ الكاتب ورامز من حل رموز تلك الرسالة، فنهضوا وخرجوا إلى قاعة الاستراحة، والتفوا جميعا حول سعيد بك وجعلوا يسألونه عما مر به من الأهوال ويتحادثون ويتفاوضون، وتناولوا بعض المنعشات. ثم عادوا إلى الجلسة فقال الرئيس للكاتب: «هل في رسالة أخينا شيء جديد؟ اقرأها.»
فقرأ: «خذوا حذركم، إن المسألة أخذت دورا جديدا. انتبهوا جيدا، إن الطاغية بعث إلى ناظم بك قومندان سلانيك أن يفتك بالجمعية ويقتل على الشبهة، فمن قدر أن يقبض عليه ويرسله إلى سلانيك أرسله، وإلا فهو مفوض بالقتل سريعا، وله الجوائز على ذلك. وأخشى أن يطلع على محل الجمعية فيباغتكم برجاله ... خذوا حذركم.»
وكان الكاتب يقرأ والقوم صامتون مبغوتون، فلما فرغ من القراءة ضج الحضور، وكان أعلاهم صوتا الملازم ك، فإنه قال: «قد اقترب أجله، قولوا: رحمة الله عليه!»
فعجبوا من تعبيره وفرحوا بحماسته، وقال الرئيس: «قد سمعتم ما جاءنا من أخينا في يلدز عن ناظم بك، فما قولكم؟»
فقال أنور بك: «ينبغي أن يذهب هذا الرجل من الوجود.»
فقال الرئيس: «إن هذا العمل يستلزم أن يكون في الجمعية فدائيون يبذلون أرواحهم في هذا السبيل كما في الجمعيات السياسية بأوروبا، ونحن لم نتعود ذلك بعد فينبغي أن ندبر تدبيرا جديدا.»
فوقف رامز وقال: «إن ناظم هذا أساءني، وأنا أولى الناس بقتله.»
فتصدى الملازم ك وضحك وهو يقول: «لا تتعد يا رامز على ما ليس من شأنك، إنما أنت أهل لكتابة المقالات ونظم الأشعار، فإذا احتجنا إلى ذلك يوما فلا غنى لنا عنك. أما إعدام هذا الرجل فعلي أنا، أقول ذلك وأطلبه بإلحاح، أنا أعدم ناظم بك من الوجود غدا.»
فأعجب الجميع بشجاعته وثبات جأشه، وقال له الرئيس: «تتعهد بقتل ناظم؟ أنت إذن أول فدائي في سبيل الدستور، فإذا بقيت حيا فلك الفضل يتناقله الناس، وليس في الأحياء من العثمانيين من عمل عملك، وإذا مت فليس في الأموات منهم من سبقك إلى ذلك.»
ونهض الرئيس ودعاه إليه فقبله في رأسه ودعا له بالنجاة من ذلك الخطر، فقال الشاب: «لم أقدم على هذا العمل وأنا خائف من الموت، لا بد من الخطر في سبيل الحرية، فإذا مت فاذكروني عند أهلي.»
ثم اجتمعوا جميعا في وسط القاعة حول القرآن والإنجيل والمسدس، وأقسموا على الثبات والكتمان حتى يقضي الله بما يشاء. وودع بعضهم بعضا وقد قرب الفجر، وأخذوا في الخروج من باب سري غير الذي دخلوا منه يؤدي إلى زقاق ضيق لا يفطن له أحد.
وبينما هم في ذلك إذ استوقفهم أحد حراس المحفل فرجعوا فقال: «شاهدت رجلا متنكرا أكثر من المرور ذهابا وإيابا في الشارع المؤدي إلى المحفل في هذه الليلة، ويظهر من مشيته وحركاته أنه ناظم بك القومندان أو رجل يشبهه.»
فلما سمعوا قوله أجفل رامز والتفت أبوه إليه وقال له: «ألم أقل لك إنه سيراقب خطواتك؟»
فمد الضابط الملازم يده إليهم وقال: «لا تتعبوا أنفسكم بالحذر من هذا الملعون، فإنه لن يملك فرصة يستفيد بها من معرفة مكاننا.»
فتحمس القوم عند إظهار هذه البسالة وقالوا له: «بورك فيك من فدائي شريف، ووقاك الله غائلة الظالمين، وجعلك قدوة أقرانك في هذا السبيل الجديد! أنت أول فدائي في طلب الدستور.» ثم أخذوا في الانصراف متسللين.
في حريم يلدز
تركنا شيرين وقد أمر عبد الحميد بإرسالها إلى القادين ج لتحتال لاستجوابها، وكانت هذه القادين تقيم بقصر خاص بها مثل سائر المحظيات، وهن اثنتا عشرة منهن أربع زوجات شرعيات، ولكل منهن قصر خاص فيه دائرة خاصة فيها الباشكاتبة والخازنة والمهردار والأسفنجي وعدد من الخدم والخصيان والجواري. ولا تخرج القادين من القصر لسبب من الأسباب.
وأصل القادين في الغالب سرية من السراري المجلوبة إلى قصر يلدز، وقد بلغ عدد السراري هناك حينذاك حوالي ثلاثمائة. وللسراري في تربيتهن وتدريبهن قواعد خاصة، وأكثرهن شركسيات وفيهن الروميات وغيرهن من الأجناس العثمانية الأخرى، والغالب فيهن أن يجلبن صغيرات إلى يلدز بالبيع أو على سبيل الهدايا من الأهل أو بعض الأعيان. ويندر أن يقبل عبد الحميد جارية على سبيل الهدية من الأعيان خوفا من دسيسة أو غدر ، قياسا على ما يفعله هو مع سائر الناس.
فإذا دخلت السرية يلدز نسيت كل ما هو في الخارج حتى أهلها وأصدقاءها، ويتولى تربيتها نساء يطلق على كل منهن لقب «باش قلفه»، وهن كلهن يرجعن إلى السلطانة الوالدة سيدة دار الحريم. وتبقى السرية سنتين أول الأمر تتدرب فيهما على ما يسر السلطان من حسن الهندام أو الأحاديث أو غير ذلك من مشيها ووقوفها وجلوسها على نسق خاص. كما يعلمونها بعض الأشعار أو الطرائف، ويعودونها سرعة الفهم بالرمز وغير ذلك مما يطول شرحه.
فإذا أحرزت الفتاة قبولا وظهرت فيها المواهب التي تؤهلها لرضى السلطان، سموها «كوزده». فإذا تخطت الرتبة الأولى وحازت الاستحسان سموها «إقبال»، فإذا حملت ال «إقبال» صارت «قادين» فيفرد لها قصر خاص كما تقدم، لكنها لا تعد زوجة شرعية إلا متى توفيت إحدى الزوجات الأربع، فتحل إحداهن محلها على حسب اختيار السلطان، فيبقى مئات من السراري على اختلاف طبقاتهن يتوقعن لفتة من السلطان.
ونساء القصر كلهن تابعات للسلطانة الوالدة، وإذا توفيت حلت إحدى الخوازن أو كبيرتهن محلها، ويسمونها أيضا «السلطانة الوالدة»، كأنه لقب المنصب لا لقب النسب.
وفي كل قصر من قصور النساء طائفة من الخصيان والجواري والسراري للخدمة والتدريب، وعلى الخصيان رئيس يسمونه الباش أغا، وقد تداول هذا المنصب غير واحد في زمن عبد الحميد آخرهم نادر أغا. وصاحب هذا المنصب من أكبر أصحاب النفوذ والسطوة لثقة السلطان فيه وركونه إليه، وقد مر زمن كان الباش أغا فيه أقوى شوكة في الدولة من أكبر الوزراء، وذكروا أن زكي باشا أرادت الدولة إرساله قائدا لعساكرها في طرابلس الغرب فجاء لوداع الباش أغا وهو يومئذ بهرام أغا، فدخل عليه وهو في مجلس حافل فوقف بين يديه وقال: «يا مولاي، إن الدولة عينت عبدكم قائدا على عساكرها في طرابلس الغرب، ولي أمنية ألتمس من عنايتكم تحقيقها لتكون لي حرزا من ريب الدهر، وهي تقبيل يدكم الشريفة»، فقهقه بهرام أغا وقال له: «متى وصل قدركم أن يتعدى رجلي إلى يدي؟!»
ويذكرون من نوادر هذا الأغا أنه خرج إلى ظاهر السراي في الوقت الذي وصل الروسيون الغزاة فيه إلى سان استفانو وساد الفزع الأكبر، وشغل السلطان بتدبير ما يئول إليه العرش العثماني الذي أورثه إياه آباؤه وأجداده العظام، فدخل عليه الأغا وقال له: «لا يهتم مولانا الأعظم، فقد خرجت إلى ظاهر القصر، ونظرت يمينا وشمالا فوجدت جميع ما انتهى إليه بصري هو ملك جلالتك، فلا تحزن فإنه يكفينا!»
ومن أدلة نفوذ أولئك الخصيان أن بهرام هذا منع عبد الحميد من إرسال جند عثماني إلى مصر في أثناء الحوادث العرابية، وكانت إنجلترا قد أوعزت إليه أن يفعل ذلك ليحتل مصر مكانها، فزعم الأغا المذكور أن السلطان إذا أرسل جنودا إلى مصر لم يبق في يلدز من يحافظ على حياته!
ويلي الباش أغا من الخصيان طبقة المصاحبين، واشتهر منهم جماعة كبيرة كان لهم شأن في زمن عبد الحميد. •••
دخلت شيرين قصر القادين ج، فبهرها ما فيه من الرياش الفاخر الثمين، واستغربت كثرة من فيه من الخدم والخصيان والجواري، ومشى بها الأغا حتى أدخلها القصر، ونساؤه وجواريه يرفلن في الألبسة الفاخرة بلا حجاب ولا نقاب، وفيهن البارعات الجمال، ولا غرو فإنهن منتقيات من ألوف الجواري حملن للاتجار بالجمال وخصصن لرضى سلطان آل عثمان صاحب الشوكة والاقتدار في ذلك العهد، والناس يتسابقون إلى الارتزاق بما يرضيه.
لم يقع نظر شيرين على أجمل ممن هنالك، ولم تكن تجهل الغرض من جمعهن هناك فتألمت في نفسها، لكنها شغلت بالنظر إلى من بين يديها من الفتيات، كما شغلن بها وإن نفرن منها لأنها غريبة، وكن أكثر استئناسا بالعبيد والخصيان منهن بها رغم ما في وجهها من الدعة واللطف، إذ يندر أن يدخل تلك القصور أحد من الغرباء.
وصلت شيرين إلى قاعة في ذلك القصر كانت القادين ج قد اتكأت فيها على مقعد مكسو بالسجاد، وتمددت بغير كلفة أو حذر، وبين يديها المهرج المضحك وغيره من الخصيان الذين أتقنوا بعض أسباب اللهو من الألعاب ونحوها.
فلما أطل نادر أغا على تلك القاعة وشعر الجواري والخصيان بقدومه، تنافروا وتفرقوا في دهاليز القصر تهيبا من سيدهم وولي أمرهم. أما القادين فلما أنبئت بقدوم الباش أغا اعتدلت في مجلسها وابتسمت له، فدخل وحيا وأومأ إلى شيرين كأنه يقدمها لها وقال: «أقدم لك هذه الفتاة واسمها شيرين، وقد أمر مولانا البادشاه أن تكون ضيفتك مبالغة في إكرامها ورغبة في استئناسها.»
فتحفزت القادين للقيام إظهارا لاحترامها أمر الخليفة، وقالت: «كلنا عبيد أمير المؤمنين غارقون في نعمه وآلائه.» والتفتت إلى شيرين ومدت يدها فصافحتها وأمرتها بالجلوس، وقالت: «لقد أتيت أهلا ووطئت سهلا، انزلي على الرحب والسعة.»
فخجلت شيرين من هذا الإطراء، واستأنست بالقادين وكادت وحشتها تذهب. أما نادر أغا فإنه تحول عنهما وهو يقول للقادين: «لم تبق حاجة إلى التوصية بعد أن أخبرتك برغبة أمير المؤمنين.»
وحالما خرج تراجع الجواري من الدهاليز إلى الدار وهن يتضاحكن ويتغامزن وبينهن البارعات في الجمال، وقد أرخين شعورهن على غير كلفة، وبعضهن اختص بحمل ما تلهو به القادين لقتل الوقت؛ فإحداهن وكلت بتربية ببغاء جميل اللون أتقن التقليد، وأخرى تلاعب قطة جميلة من قطط أنقرة الحسنة الشعر الجميلة الألوان، وأخرى تحمل ورق اللعب أو غيره من أسباب اللهو. ولما رأين شيرين أخذن يتفرسن فيها ويتساءلن من عسى أن تكون وليس عليها ثياب الجواري أول قدومهن، ولا عهدنها في القصر من قبل، ولا هي كوزده ولا إقبال. على أنهن لبثن ينتظرن ما يبدو من أمرها وهن لاهيات مسرورات، إلا القادين فإنها مع ما أظهرته من البشاشة والاستئناس بضيفتها كانت الهواجس مستترة بين حناياها لما قام في نفسها من الشك في حب عبد الحميد لها، رغم ما أظهره بالأمس من رجوعه إلى سابق عهدهما. ولم يفتها أنه إنما أظهر ذلك تملقا لها حتى يقضي ما في نفسه، لكن حبها له كان يخدعها حتى تصدق دعواه وتتوهم أنه يحبها، وما زالت ترجو نيل بغيتها وتقديمها متى وضعت حملها، فإذا كان غلاما ارتفعت منزلتها.
أما شيرين فلما رأت ما يحدق بها من أسباب اللهو والقصف نفر قلبها من تلك الحالة، لكنها تجلدت وسكتت. وأحست القادين بوحشتها وهي تريد أن تتملقها للغرض المقصود من مجيئها خدمة لأغراض مولاها، فهشت لها وقالت: «أراك تحسين بالوحشة لأنك في وسط لم تتعوديه، لكنك لا تلبثين أن تألفيه. وقد سرني اختصاص أمير المؤمنين هذا القصر بنزولك فيه إذ جعلك ضيفة علي، وهذا من حسن حظي. وأرجو أن تتحققي سروري بقربك لما أقرأ في محياك من آيات اللطف والذكاء، فعسى أن تكوني سلوة لي في وحدتي. والآن ينبغي لي أن أبذل جهدي في تسليتك.» وأومأت إلى جارية جاثية بقرب مقعدها تلاعب قطة جميلة، فنهضت ودفعت القطة إليها فتناولتها القادين وأدنتها من خدها، وجعلت تتلذذ بنعومة شعرها إذا لمس خدها وهي تخاطب الجارية قائلة: «أحب أن أرى الخازنة.»
فأسرعت الجارية ثم عادت والخازنة وراءها، وهي امرأة كهلة كانت القادين تحبها وتثق بها وتعول عليها، وأصلها من ألبانيا وطن شيرين، وقد جيء بها إلى يلدز وشبت هناك وارتفعت حتى صارت خازنة القادين ج، وكانت هذه تقربها وتركن إليها بأسرارها وتعدها صديقة لها، فأحبت أن تستعين بها على اجتذاب قلب شيرين للغرض المقصود من نزولها هناك. فلما جاءت في تلك الساعة قدمتها إلى شيرين قائلة: «هذه خازنتي وصديقتي قطينة، وهي من بلدك لأن أصلها من جهات مناستير.»
فصافحتها شيرين وتفرست فيها فرأت الجمال لا يزال باديا في محياها وملامح الألبانيين ظاهرة فيها، فأحست بارتياح لرؤيتها، وتحركت لتهيئ لها مجلسا فإذا بالقادين تخاطبها قائلة: «قد دعوتك لأعرفك إلى ضيفتنا ولكي تساعديني في تهيئة ما يسرها، فدبري ما ترينه.»
فذهبت قطينة ولم يمض يسير حتى جاء المهرج فدنا من القادين ورفع يده بالتحية العسكرية، ثم أشار بعينيه نحو شيرين إشارة استفهام مع مداعبة، فقالت له القادين: «هذه ضيفتنا، ينبغي لنا أن نسرها وننسيها الوحشة، فإذا كنت لا تستطيع ذلك فامض بسلام.»
فأدار عمامته حتى مالت على أذنه اليمنى وقال: «أول الكلام خصام؟ إن لم يعجب هذه الجميلة كلامي فلا بد أنها تضحك من رشاقة قوامي وحسن هندامي . ولكن إذا أمرت مولاتنا بمن يغنين أو يرقصن كان ذلك أدعى إلى السرور.»
فأعجبها ذكر الرقص والغناء فأشارت إلى الخازنة إشارة خاصة، فغابت هذه قليلا ثم جاءت ومعها فتاة طويلة القامة في زي خاص بالراقصات وحول زنديها الأساور والدمالج، تحمل دفا تنقر عليه وترقص، ومعها عوادة أخذت تسوي عودها وقد جلست الأربعاء على البساط، وجعلت تنقر نقرا يناسب حركات الرقص. وبذلت كل واحدة جهدها في إتقان ما عهد إليها، والقادين تلاطف شيرين بالحديث عن حركات الرقص أو ألحان الغناء وأكثره من اللحن التركي والروسي، وشيرين تظهر امتنانها من ذلك التلطف. لكن القادين أدركت بفراستها أن ذلك لم يشغلها عن هواجسها، فأشارت بإخراج القوم وقالت لشيرين: «يظهر أنك لم تطربي لهذه الأنغام، إن عندنا جارية تقلد كل أصوات الحيوانات الأهلية كالديك والكلب والماعز وغيرها.» وأومأت إلى جارية سوداء هناك فسمعت شيرين صوتا كأنه صياح الديك، فأجفلت والتفتت إلى جهة الصوت فرأت جارية قادمة تحمل ببغاء فظنتها تحمل ديكا، فلحظت القادين أنها تتوهم ذلك فقالت: «أظنك تحسبين ديكا يصيح؟ إنه صوت تلك الجارية.» وأشارت إليها فجاءت وهي تقلد الديك في مشيتها، ثم غيرت مشيتها إلى ما يشبه الكلب وأخذت في العواء، ثم قلدت الفرس والحمار، وقد علت القهقهة فشاركتهم شيرين، ولكن ذلك كله لم يصرفها عن التفكير في رامز ورغبتها في معرفة مكانه، وكانت لما رأت رغبة القادين في مؤانستها قد عزمت على استخدامها في استطلاع خبره أو الوصول إليه.
ولم تكن القادين من المنهمكات في اللهو أو اللعب مثل سائر نساء القصر، ولكنها قلدتهن فيما يرغبن فيه من القصف، ولو تركت لنفسها لكانت أقرب إلى الرزانة والتعقل والدهاء، ولكن للوسط تأثيرا في الأخلاق والأطوار، وما دار النساء في يلدز إلا ملهى لعبد الحميد لا يأتيه إلا إذا أراد أن يلهو، فتتجه الأفكار إلى هذا الغرض. وما بالك بنساء لا عمل لهن غير الأكل والشرب وهن في الغالب جاهلات؟ ففيم يقضين أوقاتهن إن لم يكن في اللعب والغناء والرقص وتربية السنانير والطيور ، والتعلل بالأكل والمضغ أو الأحاديث الفارغة عن الجان والعفاريت؟! ذلك كان شأن النساء في يلدز إلا القادين ج فإنها كانت أقربهن إلى الرزانة والتعقل، فأدركت أن شيرين لم يفرحها ذلك العمل فأمسكت بيدها وأنهضتها وهي تقول: «هلم بنا إلى غرفتي.» •••
نهضت شيرين ومشت حتى دخلت دهليز القصر، وشاهدت ما هناك من التحف الثمينة والفرش الوثير، وتذكرت أن عند عبد الحميد اثنتي عشرة قادين لكل منهن قصر مثل هذا بفرشه وأثاثه وخدمه وخصيانه، غير قصوره الأخرى وغير ما في يلدز من منازل الحاشية والياوران والمشايخ وغيرهم، وناهيك بالحراس الألبان. فلم تعد تستغرب ما كانت تسمعه من الأحرار في عرض انتقادهم من أن في تلك القصور خمسة آلاف من النساء والجواري والخصيان والياوران، وسبعة آلاف جندي من الألبان، وأن نفقاتها 35 ألف جنيه في الشهر، وأنهم يهيئون كل ليلة 1700 مائدة تفرق في القصور وغيرها، ويبقى من الأطعمة ما يقتات به مئات ثم يوزع باقيه في بعض العائلات.
فلما تصورت ذلك أسفت لما يتنعم به الظالمون من أموال المظلومين، وعجبت كيف يسود رجل سفاح كعبد الحميد فيقبض على رجل حر نزيه كرامز وأمثاله. وأحست عند تذكرها رامزا بقشعريرة، وانتفض جسمها خوفا عليه لئلا يكون قد أصابه سوء، وعزمت على أن تخاطب القادين بشأنه في أول فرصة. فلما وصلتا إلى غرفة القادين الخاصة دعتها هذه إلى الجلوس على مقعد مطعم بالعاج بين يدي سرير مذهب يحيط به الستائر المطرزة، وقد فرشت تلك الغرفة بأحسن ما تفرش به غرف الرقاد من السجاد والستائر. وفي صدر الغرفة موقد التدفئة وعليه ساعة مذهبة.
فجلست شيرين على المقعد بجانب نافذة تطل على الحديقة الداخلية وتشرف على البوسفور عن بعد، وجلست القادين إلى جانبها وهي ترحب بها وتتلطف في مجاملتها، ثم دعتها إلى تبديل ثيابها وهمت بأن تطلب من الأوسته باشي إعداد بدلة فاخرة، فاعتذرت شيرين بأنها تشعر بتعب وربما بدلت ثيابها بعد ذلك. وجلست إلى النافذة وأطلت إلى الحديقة فرأت ما يسرح هناك من الطيور وأكثرها من الحمام، فاستغرقت في هواجسها وانقبضت نفسها وتلألأ الدمع في عينيها، والقادين تراعيها وتتوقع فرصة تفتتح بها الحديث، فلما رأت انقباضها قالت: «ما لك يا عزيزتي؟ إني أراك منقبضة النفس، وإذا كان دخولك هذا القصر قد ساءك فإني لا أحملك على البقاء فيه قهرا.»
فخجلت شيرين من هذا التوبيخ اللطيف وابتسمت وقد توردت وجنتاها من الحياء، وقالت: «العفو يا سيدتي، إني هنا منذ بضعة أيام ولم أشعر بأنس وراحة كما شعرت في هذا اليوم منذ رأيتك. والحق أنك معدن اللطف والأنس.»
فقالت: «إذن ما لي أراك منقبضة النفس على هذه الصورة؟»
فتنهدت شيرين وسكتت، فأدركت القادين أنها قلقة على حبيبها، وكان نادر أغا قد أفهم القادين كل ما عرفوه عن شيرين حتى تعرف أسرارها، فتجاهلت وقالت: «اسمحي لي يا حبيبتي أن أقول بحرية إن ما أراه فيك لا يكون إلا في المحبين.»
فأجهشت شيرين بالبكاء، فهمت القادين بمسح دموعها وقد أثر فيها منظرها وأحست بما تقاسيه لأنها جربت مثله بنفسها، فأحبت الاستطراق إلى الغرض من هذا الطريق فقالت: «يظهر أن ظني قد صدق، فأنت عاشقة و...»
فأجفلت شيرين من هذا التعبير ومدت كفها نحو فم القادين كأنها تسكتها عن الكلام حياء وإنكارا، فقالت القادين: «لا يسوءك أنك عاشقة فإن الحب ليس عارا، وقد يكون حبك طاهرا. قولي، لا تخفي شيئا، اجعليني مستودع سرك، وإن كانت هذه أول مرة لقيتني فيها فإني شعرت بانعطاف نحوك مثل انعطافي على شقيقتي.»
فانشرح صدر شيرين لهذا التلطف وحسبت نفسها قد فازت بما تريده، لأنها إنما أظهرت انقباضها بين يدي القادين لعلها تتصل بالحديث إلى توسيطها في إنقاذ رامز وهي تعتقد أنه أسير هناك، فابتسمت وقد خفق قلبها فرحا بهذا الأمل وقالت: «إنك حقا أكبر تعزية لي، ولا أرى بأسا من الشكوى إليك لعلك تستطيعين التفريج عني بما لك من النفوذ والدالة.»
فتطاولت القادين نحوها وقالت: «قولي، لا تخفي علي شيئا، وتأكدي أني أبذل جهدي في سبيل راحتك.»
قالت: «ألا تعرفين أسيرا حمل من سلانيك إلى يلدز في هذين اليومين؟»
قالت: «نحن بعيدات عن أمثال هذه الأخبار، لا يؤذن لنا بالاطلاع على شيء من ذلك، ولكنني سأرسل من يأتينا بخبره إكراما لخاطرك. زيديني إيضاحا.»
فاستبشرت شيرين وأبرقت أسرتها وقالت: «إن شابا من ذوي قرابتي اسمه رامز اتهموه بالدخول في جمعية سرية في سلانيك، ووشى به بعض الجواسيس فقبضوا عليه وساقوه إلى يلدز منذ بضعة أيام، فجئت إلى هنا حتى يلحقني ما يلحقه أو أستطيع إنقاذه، وقد علمت أنه محجور عليه في بعض هذه القصور، سمعت ذلك من السلطان نفسه، ولكنني لم أعرف غير ذلك.»
فأظهرت القادين الدهشة وقالت: «تشرفت بمقابلة البادشاه؟»
قالت: «نعم، تشرفت بالمثول بين يديه.»
قالت: «إنه حظ يندر أن يوفق إليه النساء، ويظهر أن جلالته عالم بما بينك وبين رامز من القربى.»
قالت: «نعم، يظهر أن الجواسيس أطلعوه على خبري معه.»
فأظهرت الاستغراب وقالت: «لا تؤاخذيني على كثرة أسئلتي، ما الذي دعاك إلى مقابلة الذات الشاهانية؟»
قالت: «دعاني إلى ذلك كما قلت لك رغبتي في الدفاع عن رامز والتصريح للسلطان بما يجول في خاطري من أمر الدولة وما يحدق بها من الأخطار إذا لم يتداركها جلالته بالدستور.»
فأجفلت القادين وتراجعت عند سماع اسم الدستور وقالت: «قلت له ذلك؟! وماذا قال لك؟!»
قالت: «أظهر لي كل ارتياح وآنسني، لكنه طلب إلي أن أخبره عن أعضاء جمعية الاتحاد والترقي القائمة بالمطالبة بالدستور في سلانيك ورامز واحد منهم، فاعتذرت بأني لا أعرف منهم أحدا، فهددني بأني إذا لم أبح له بأسمائهم كان رامز في خطر على حياته وأني إذا بحت أنقذته من القتل.»
فبادرتها القادين بالسؤال: «وماذا فعلت؟ ألم تجيبي؟»
فهزت رأسها هز الإنكار وقالت: «[نعم]، هبي أني أعرف بعضهم فهل من المروءة أن أفشي خبرهم وأعرضهم للخطر؟»
فابتسمت القادين ابتسام الإعجاب وأظهرت عدم رغبتها في الاطلاع على شيء من ذلك، وقالت: «لله درك من جسورة حازمة! إني لم أعهد مثل ذلك في النساء من قبل، تعرضين نفسك وخطيبك لخطر القتل محافظة على عهد الناس! إنها مناقب كبار النفوس.» وخفضت صوتها وتلفتت يمينا وشمالا كأنها تحاذر أن يسمعها أحد وقالت: «الحق يقال إن بين أعضاء هذه الجمعية جماعة من العقلاء والعلماء، ولكن بينهم أيضا جماعة من الضعفاء المنافقين الذين ينتفعون بأذى غيرهم، ولو كانوا كلهم مثل رامز ومثلك لكانوا ...» وسكتت وتحفزت للوقوف وهي تقول: «ألا تنهضين للطعام؟»
فشق عليها قطع الحديث قبل إتمامه لعلها تتوسل إلى طلب مساعدتها، فاعتذرت عن الطعام بأنها غير جائعة فقالت القادين: «ألا تأكلين بعض الفاكهة؟»
أجابت: «كما تشائين»، وظلت قاعدة، فعادت القادين إلى الجلوس وقالت: «لم تقولي لي ما هي الخدمة التي تطلبينها مني؟»
قالت: «لم يبق لي مع ذكائك حاجة إلى التصريح.»
فضحكت وقالت: «طبعا أنت تطلبين معرفة مقر رامز وتبحثين عن الطريق إلى نجاته؟»
قالت: «نعم، هذا كل ما أطلبه، وإذا كنت تستطيعين أن تساعديني في ذلك فلا أنسى فضلك طول حياتي.»
قالت: «إذا استطعته فإني أفعله من كل قلبي، ولا فضل لي في شيء من ذلك.» وتنحنحت وأظهرت أنها تهم بالكلام ويمنعها الحياء.
فقالت لها شيرين: «ماذا تريدين؟ قولي يا سيدتي، لعلك ترين مانعا من دخولك في هذا الأمر، فإذا كنت ...»
فقطعت كلامها قائلة: «كلا، ولكني أكتم أمرا لا أجد من أبوح به إليه، وقد رأيت فيك ...» وبلعت ريقها، وأطرقت لحظة ثم وقفت وهي تتجاهل ما بدر منها، وقالت: «سأبحث الليلة عن خبر رامز وأطلعك عليه، أفعل ذلك من كل قلبي.» وصفقت فجاءت جارية سوداء فأمرتها أن تعد المائدة وتكثر عليها من الفاكهة وأن تدعو الخازنة قطينة، وأمسكت شيرين بيدها وأنهضتها إلى المائدة فمشت معها وهي تتوقع أن تسمع منها تتمة الحديث وأن تبوح لها بسرها والقادين تغالطها، وكلما اقترب حديثها من تلك النقطة غيرته. فأدركت شيرين أنها كانت تريد أن تكاشفها بسر وندمت فسكتت. •••
قضت شيرين مع القادين وخازنتها بقية نهارها وهي تزداد استئناسا بهما، وظلت عالقة الذهن بما همت القادين أن تكاشفها به، وتوهمت أنها عدلت عن المكاشفة خوفا من ضياع سرها لقلة ثقتها بها فأجلت ذلك إلى فرصة أخرى. ولما مالت الشمس إلى المغيب وانقبضت الطبيعة لفراقها، انقبضت نفس شيرين وغلبت عليها السويداء. وليس أثقل على قلب المحب المشتاق من ساعة الغروب، فإنها تزيده وحشة وألما. ولم تشأ شيرين أن يبدو انقباضها لدى القادين ولا خازنتها، فالتمست الخلوة في غرفة أعدوها لها، وأظهرت أنها متعبة تطلب الرقاد لحظة.
فلما خلت إلى نفسها في تلك الغرفة أخذت تفكر فيما هي فيه وفيما عسى أن يكون من أمر رامز، هل هو هناك؟ وهل يمكن إنقاذه؟ على أنها كانت ترجو من وعد القادين خيرا كثيرا ولم يخامرها شك في صدقها، ولا سيما بعد أن رأتها تهم بمكاشفتها بسرها وهي لم تقابلها من قبل.
وقضت ساعة في مثل هذه الهواجس، وقد أظلمت الدنيا وأنيرت مصابيح القصر إلا غرفتها، فلم يشأ الفراش أن يزعجها بدخوله لأنه كان يحسبها نائمة.
وبينما هي في ذلك إذ سمعت وقع أقدام في أرض الغرفة، فرفعت رأسها لترى من القادم فتبينت في تلك الظلمة القادين داخلة، وهي تخفف الوطء لئلا توقظها، فتحركت شيرين في سريرها دلالة على أنها مستيقظة. فتقدمت القادين نحوها بسرعة وأكبت عليها وجعلت تقبلها ترحيبا بها، فجلست شيرين في الفراش وقد أحست بحرارة تلك القبلات، ولم يبق عندها شك في محبة تلك المرأة، فبادرتها القادين بالسؤال عن صحتها، فقالت: «إني في خير. أشكر فضلك.»
قالت: «لا تظني أني نسيت وعدي إياك بالبحث عن حبيبك، ولكنني لا أستطيع ذلك إلا في فرصة مناسبة ولم تتأت لي إلى الآن. ولا أقدر أن أفعل ذلك إلا سرا.» قالت ذلك وتنهدت.
فأحست شيرين بميل القادين إلى الشكوى والمكاشفة فقالت لها: «أمثلك تتنهد وتشكو أيضا؟! إنك أشرف امرأة في المملكة العثمانية لأنك من نساء السلطان، وفي المملكة ملايين من النساء يحسدنك على مقامك، ومع ذلك فإنك تتأوهين!»
فتنهدت القادين ثانية وقالت همسا في تلك الظلمة: «ليس في المملكة العثمانية أشقى من نساء السلطان، إن جوارينا أسعد حالا منا ولا شك!»
فاستغربت شيرين هذه الشكوى وأرادت أن تعترض ، فبادرتها القادين قائلة: «هل في الدنيا أثمن من الحرية؟»
فانتعشت شيرين عند ذكر الحرية وقالت: «كلا».
فقالت: «الحرية التي يتمتع بها كلابنا وسنانيرنا وطيورنا ودوابنا، بل يتمتع بها حتى البعوض والذباب! إننا محرومون من هذه الحرية دون سائر البشر. إن المرأة متى بلغت رتبة قادين دفنت في قصرها لا تخرج منه حتى إلى الحديقة التي ترينها من هذه النافذة، وهي فوق ذلك عرضة للخطر والغضب وسوء الظن. تسعى الجارية في يلدز في الرقي، وأرقى درجة يمكن أن تبلغها أن تصير من نساء السلطان، فإذا وصلت إلى هذه الرتبة ندمت على ماضيها لأنها تفقد حرية الذهاب والمجيء، ويمنع عنها التمتع بالطبيعة. الحرية! آه الحرية!» وسكتت كأنها غصت بريقها.
فتأثرت شيرين بهذا القول ووجدت للكلام مجالا فقالت: «آه يا سيدتي! إن الحرية هذه طلبة الأحرار الذين يحاربهم السلطان ويبحث عنهم ويتعمد قتلهم.» ثم خافت أن تكون قد انزلق لسانها، ولكن ما لبثت أن سمعت القادين تقول: «السلطان؟! إنه لا يريد أن يكون أحد حرا حتى هو نفسه، فإنه مقيد في هذه القصور كما تعلمين، ولكن ما العمل؟ اعلمي يا شيرين أني تسرعت في مكاشفتك، فأرجو ألا أكون قد أخطأ ظني فيك، إني ظننت فيك المحبة وصدق المودة فهل أنا مخطئة في هذا الظن؟»
فبادرتها شيرين قائلة: «إن ظنك في محله، أنت تخاطبين فتاة تحبك وتعول عليك. ويا حبذا لو أستطيع أن أخدمك في شيء!»
فنهضت القادين حتى وصلت إلى الباب، وتلفتت خارجة كأنها تبحث عن أحد هناك، ثم عادت وقالت لها: «إن أكبر خدمة تقدرين على تأديتها لي هي أن تنقذيني من هذا السجن، هل يمن الزمان علي بذلك يا ترى؟»
وكانت الغرفة لا ينيرها إلا بصيص من النور يدخل من شقوق الباب والنوافذ، والقادين تتكلم همسا وشيرين تستغرب ما تسمعه، وقد داخلها الشك لحظة في صدقها، لكنها لما رأتها تكشف لها سرها ولا تطلب منها كشف خبرها غلب عليها تصديقها فقالت: «إذا أتيح لي الخروج من هذا الأسر مع رامز، فثقي أني باذلة جهدي فيما تريدين. إن القوم العاملين مع رامز على نيل الحرية إذا نجحوا - وهم ناجحون بإذن الله - كانت نجاتك محققة، وثقي بأني أفديك بروحي.»
فأظهرت القادين أنها صدقتها وقالت: «إنك صادقة مخلصة ما في ذلك شك، وأعتقد أن حبيبك مثلك، وأما بقية أعضاء تلك الجمعية فلا، وثقي بأني أعلم منك بهم، فكثيرا ما سمعنا بجمعيات قامت تطالب بالدستور أو الحرية ثم رأيناهم يأتون ويسلمون أنفسهم للسلطان طمعا في المناصب، وإنما يضام منهم الأحرار الصادقون الذين يعملون لخدمة الحقيقة. ولا أظن جمعية سلانيك إلا مثل سوابقها في باريس وغيرها، ومع ذلك دعينا نؤمن بنجاحها ...» ثم قطعت الحديث وانتقلت إلى سواه لتوهم شيرين أنها لا تطالبها بكشف السر - وذلك أدعى إلى الحصول عليه - فقالت: «قد شردنا عن الموضوع الذي جئت من أجله، فأول كل شيء أني واثقة بمحافظتك على السر، ثم إني جئت لأعتذر لك عن تأخري في استقصاء خبر حبيبك لأني لا أستطيع أن أتظاهر بذلك، ولا بد من اغتنام الفرصة.» وسكتت.
فقالت شيرين: «ألم توفقي إلى فرصة بعد؟»
قالت: «سنحت لي فرصة لم يوفق إليها غيري، قلت لك: إن نساء السلطان لا يؤذن لهن في الخروج من قصورهن، ولا أن يأتي إليهن أحد غير الخصيان والجواري، ولذلك رأيتنا نشغل أنفسنا بتلك الألعاب الصبيانية كمهارشة الديكة وملاعبة السنانير، إلا أنا فإن السلطان أذن إذنا فوق العادة لطبيب من أطباء القصر أن يتردد إلينا منذ بضعة أيام يسألني عن صحتي وكنت أشكو انحرافا عالجني منه. فهذا الطبيب أشعر أنه صادق، وقد غمرته بالجوائز والنعم، وأنا مع ذلك مستغربة الإذن له في الدخول إلى هذا القصر، ولا أجسر على مخاطبته بشأنك لئلا أعرض نفسي للخطر، ولكنني رأيت رأيا أظنك توافقينني عليه، وذلك أن أعرفه بك بحجة أنك منحرفة المزاج، فمتى أتى للاستفهام منك عما تشكين تدرجت بالحديث معه حتى تسأليه عن محل رامز. ولا بأس عليك إذا فعلت ذلك، فإن السلطان نفسه يعلم قلقك عليه، فلعله يخبرك عن مكانه، وإذا أفلحت فأخبريني الخبر . وها أنا ذا الآن ذاهبة وسأرسل الخادم ليضيء هذه الغرفة، فامكثي في الفراش وأنا أشيع في القصر أنك منحرفة الصحة.»
وخرجت ثم جاء الخادم وأضاء الغرفة وهي ساكنة في الفراش كالمريضة وما بها مرض، وقد أدت إليها هواجسها وأحست أن القادين تحبها حبا صادقا وتثق بها ثقة كبرى، ورأت أنها قصرت في إيفائها حق الصداقة لأنها أساءت الظن بها وخافت مكاشفتها بأسرارها.
أما القادين فقد أتقنت حيلتها حتى أوهمت شيرين أنها لا يهمها سر غيرها، وتقدمت بكشف سرها لها حتى جعلتها تسعى من تلقاء نفسها لمكاشفتها بأسرارها، وأدركت بدهائها أن شيرين تنتظر أول اجتماع تجتمع فيه بها لتبوح لها بأسرارها في مقابل ما فعلته هي. •••
ومكثت شيرين في الفراش ساعات حتى آن الرقاد ولم يأت الطبيب، إذ لم يكن هناك موعد سابق لمجيئه، وقد أوعز إليه نادر أغا أن يكف عن زيارة القادين أياما، إذ لم تبق حاجة إلى التعجيل بمهمته. وفي الصباح التالي ذهبت القادين إلى شيرين مبكرة لتعتذر لها عن تخلف الطبيب عن الحضور في ذلك اليوم، وهي تحسب له عذرا في الغياب وأنها بعثت إليه من يستقدمه، وجلست بجانب سرير شيرين وقالت: «تأملي يا عزيزتي مقدار تقيدنا، إني لا أجسر أن أستقدم الطبيب إلا سرا، ولو علم السلطان بذلك لبالغ في العقاب، وقد يعاقب بالقتل لأقل الذنوب، إن هذا البوسفور مملوء بجثث القتلى من النساء والرجال.» قالت ذلك وهي تخفض صوتها وتتلفت.
فلما سمعتها شيرين تقول ذلك عزمت على التصريح لها ببعض الشيء فقالت: «إذا كنت تشكين من إقامتك هنا فاتركي هذه القصور واخرجي إلى بلاد الحرية.»
فقالت: «إلى أين أذهب وأنا غريبة وحيدة؟ وأعترف لك أني لا أثق بالأحرار فإنهم كثيرا ما رجعوا وخافوا!»
فقطعت شيرين كلامها قائلة: «إنهم يا سيدتي اليوم غير ما كانوا عليه من قبل.»
فهزت رأسها استخفافا وقالت: «إنهم على ما هم عليه لم يتغيروا.»
قالت: «أؤكد لك أنهم هذه المرة غير ما كانوا عليه قبلا، وأنا من أعلم الناس بهم.»
فاستبشرت القادين بقرب الوصول إلى المقصود فقالت: «يا حبيبتي إن أمثالنا لا يمكنه الاطلاع على حقيقة الرجال. لم يظهر بين الأحرار المقاومين للظلم أضخم من مراد بك، وهو الآن في الأستانة بين المقربين.»
فابتسمت شيرين ابتسام العالم بأمور يجهلها مخاطبه وقالت: «قلت لك إن أعضاء جمعية الاتحاد والترقي هذه المرة مختلفون عنهم في المرات الماضية اختلافا كبيرا. ولولا حرمة الأسرار لذكرت لك بعضهم فتثقين بقولي وتعلمين أني أقول لك الصدق.»
فأطرقت القادين لحظة ثم رفعت بصرها إلى شيرين وفي عينيها ملامح العتاب، وقالت: «صدقت، ينبغي للإنسان أن يكون حريصا على سره ولا يفرط فيه كما فعلت أنا! ولكنني وثقت بك ولم أندم على ما فرطت في سري لأني شعرت بلذة الراحة.»
فتوردت وجنتا شيرين من الخجل وأحست أنها أخطأت، ولم يكن ينبغي لها أن تقول ما قالت ما دامت تصر على الكتمان، فارتبكت في أمرها ولم تجد لها مخرجا إلا بالمكاشفة لكنها قالت: «قد أخطأت يا سيدتي فهم مرادي، فأنا لا أضن عليك بسر أكتمه إذا كان ذلك السر لي، ولكن هذا السر خاص برامز وقد أطلعني عليه ونحن نتشاكى، ولا يخفى عليك ذلك، وهو واثق أنه لا يخرج من فمي لأحد، فإذا أخرجته عددت عملي خيانة. وأما الأسرار التي هي لي فلا أخفي عليك شيئا منها.»
فأجابتها وهي تساعدها على الاعتذار: «إن قدرك قد ارتفع في عيني الآن عما كان عليه قبلا، إن الإنسان يجب أن يكون أمينا صادقا وإلا كان من الأشرار، وحاشاك أن تكوني منهم. وهذا يؤكد لي أن ما كاشفتك به الآن يبقى محفوظا عن كل أذن. لا تظني أني أطلب منك أن تبوحي بأسرار الجمعية، ولكنني أجادلك في حقيقة هذه الجمعية فأحب أن أعرف الفرق بين أعضائها الآن وأعضائها في الأمس.»
فانشرح صدر شيرين لذلك التخلص، وأحست بنزاهة تلك المرأة وكبر نفسها وسعة صدرها وتعقلها، حتى هان عليها أن تضع كل أسرارها بين يديها، على أنها جاملتها قائلة: «الفرق المهم أن أعضاء الجمعية اليوم أكثرهم من ضباط الجيش العثماني، وكانوا قبلا من الكتاب والأدباء. ولا يلبث الضباط كلهم أن ينتظموا في سلكها، فإذا فعلوا ذلك فبماذا يطاردهم عبد الحميد؟»
فأظهرت القادين الاستغراب وقالت: «هل أنت على ثقة مما تقولين؟! قد سمعت شيئا من ذلك، ولكنهم يقولون إن بعض الضباط الصغار المطرودين من الجيش انتظموا في الجمعية.»
فقالت: «كلا يا سيدتي، إن المنتظمين في الجمعية اليوم من أكابر ضباط الجند كأمراء الآلايات، وهم في خدمتهم العسكرية والجند تحت أوامرهم متى شاءوا، وأنا أعرف كثيرين منهم.» قالت ذلك وتصاعد الدم إلى وجهها ندما على تصريحها بأنها تعرف كثيرين منهم.
فاكتفت القادين بهذا التصريح إذ تحققت أن سر الجمعية عند شيرين، وعزمت على اتخاذ الوسائل لحملها على التصريح به فيما بعد فقالت: «أراك تغالبين نفسك بين التصريح والكتمان، فأنا أتوسل إليك أن تكفي عن التصريح. وكأني أسمع لغطا في الدار، لعل الطبيب أتى.» قالت ذلك وخرجت ثم عادت مبغوتة وقالت: «لم يأت الطبيب لأنه تلقى أمرا بألا يدخل قصري اليوم، ولكنني سأبعث إليه أن يأتي متنكرا في هذا المساء.» قالت ذلك وخرجت. فأتت الخازنة لمسايرة شيرين، فتبادلتا الحديث في شئون مختلفة.
فلما أمسى المساء ذهب أهل القصر إلى منامهم، وظلت القادين ساهرة في غرفة شيرين، وبعثت الخازنة تترقب وصول الطبيب وتأتي به إليهما، فلما قرب نصف الليل أتت الخازنة تنبئها بقدومه، فأذنت في دخوله ووقفت لاستقباله بالباب فأطل وعليه لباس خدمة القصر، فاستقبلته مرحبة فانحنى احتراما وقال: «قد أتيت يا سيدتي طوعا لأمرك رغم الخطر الذي أخافه. فماذا تأمرين؟»
فأثنت على غيرته وقالت: «أنت تعلم ثقتي بمهارتك واعتقادي صدق علاجك، وعندي صديقة أصابها انحراف فأحببت أن تكون طبيبها.» قالت ذلك ودخلت، فتبعها وهو ينظر نحو السرير فرأى شيرين جالسة فيه فلم يتفرس فيها تأدبا، فسبقته القادين في مخاطبتها قائلة: «هذا طبيبنا وصديقنا، فأخبريه بشكواك ريثما أعود إليكما.» وخرجت.
فاستغرب الطبيب تخليها عنهما، وجلس على كرسي بجانب السرير، وسأل شيرين عما تشكوه فقالت: «إني أشكو من ألم شديد في الرأس .»
وكان يخاطبها وهو مطرق، فلما سمع جوابها أجفل لأنه تذكر صوتا يعرفه، فنظر إليها ونظرت إليه. وكان الطبيب في حدود الثلاثين من العمر، فلما وقع نظرها عليه اختلج قلبها في صدرها لأنه يشبه شخصا تعرفه في سلانيك كان صديقا لرامز، فجعل كل منهما ينظر إلى صاحبه، فسبقها هو إلى الكلام وإن سبقته هي إلى المعرفة لكنها خافت التصريح، فقال لها: «شيرين؟!»
قالت: «نعم، وأنت الدكتور «ن»؟!»
قال: «نعم، ما الذي جاء بك إلى هنا؟!» ووضع أصبعه على فمه إشارة إليها ألا ترفع صوتها.
قالت: «جئت لأفتش عن رامز.» وغلب عليها البكاء، ثم قالت وهي تشرق بريقها: «أين هو؟ وماذا تفعل أنت هنا؟»
قال بصوت منخفض: «أنا هنا في مهمة باسم إخواننا أستطلع لهم أخبار هذا الطاغية، وأما رامز ...» وسكت وهو يتردد كأنه يكتم شيئا يعرفه.
فخافت ذلك التردد وقالت وقد شخصت ببصرها فيه: «أين هو؟! ماذا أصابه؟! قل، قل بالله، قل ...!»
قال: «تعقلي يا شيرين كعهدي بك لأقص عليك خبره.» فتطاولت بعنقها نحوه، وحدثتها نفسها بسوء أصاب حبيبها، وعلمت أن هذا الطبيب جاسوس الأحرار في يلدز، ولم تتمالك أن أعادت السؤال وألحت في طلب الجواب فأجابها: «علمت منذ بضعة أيام أن رامزا أتى يلدز وأنه مقيم بقصر مالطة، فجعلت أترقب الفرص للذهاب إليه لعلي أستطيع إنقاذه، فلم أستطع ذلك إلا مساء أمس بحيلة احتلتها فلم أجده هناك.»
فاقشعر بدنها وقالت: «أين ذهب؟!»
قال: «لا أدري.»
قالت: «بل أنت تدري، قل ... هل قتلوه؟!»
فأشار إليها أن تخفض صوتها، وقال: «لا أعلم أين هو، ولا ما فعلوا به، ولم أجد أحدا من أهل يلدز يعرف خبره، والذي عرفته بعد البحث الدقيق أنه خرج من ذلك القصر في أواسط الليل منذ يومين بدعوة من القصر ولم يرجع.» وهز رأسه أسفا.
فتحققت شيرين أنهم قتلوه خلسة كما قتلوا مئات قبله إما خنقا أو غرقا أو تسميما، ووثبت من السرير على رغم إرادتها وهي تقول: «قتلوه يا دكتور؟! قتلوه! أظنه ذهب طعاما للأسماك !» ولطمت وجهها وبكت.
فأمسكها وأجلسها وقال لها: «تجلدي يا شيرين، ولا تفعلي ما يعود بالخطر علينا جميعا.»
فصاحت: «أما أنا فلا أبالي ما يصيبني بعد رامز، ولكنني أخاف عليك فإنك ذو نفع للأحرار.»
فقال: «وأنت أنفع مني لهم، هدئي روعك. وإذا فرضنا أن أخانا أصيب بسوء في سبيل الحرية والدستور فهنيئا له أن اسمه سيخلد في بطون التاريخ. ويا حبذا يوم أنال شهادتي في هذا السبيل!»
فأطرقت شيرين وقد رجع إليها رشدها، وأخذت تغالب عواطفها، ومع تفانيها في سبيل الدستور والحرية فإن حبها رامزا غلب على كل ذلك فلم تسمح نفسها بأن يكون ضحية الدستور، لأن المحب لا يرضى أن ينال الدنيا كلها فداء لحبيبه، لكنها ظلت ساكتة ودموعها تتساقط على خديها، فعاد الدكتور إلى الكلام فقال: «على أننا لم نتحقق مصير رامز، وقد يكون أقرب إلى الحياة منا، خففي عنك واصبري، إن الله مع الصابرين.»
وبينما هما في ذلك إذ سمعا وقع خطوات عند الباب، فانتبه الدكتور إلى أنه أفرط في الكلام، وخاف أن تكون القادين قد سمعت ما دار بينهما وهناك البلية الكبرى والخطر العظيم. ولم تنتبه شيرين لهذا الخطر فظلت ساكتة.
أما الدكتور فأعمل فكرته لحظة، وكان سريع الخاطر حازما فطنا ولولا ذلك لم يقبل أن يكون جاسوسا للجمعية في يلدز مدفن الأحرار، ووقف لاستقبال الداخل فإذا هي القادين ج دخلت باشة هاشة فانحنى لها باحترام، فقالت له: «هل عالجت حبيبتنا شيرين العلاج الشافي؟»
فأجابت شيرين عنه قائلة: «إن العلاج لا يفيد يا سيدتي لأنهم قتلوه.» وغصت بريقها.
واستغرب الدكتور تصريحها بذلك للقادين، إذ لم يكن يعلم أنه دعي لهذه الغاية بعلم القادين، فقالت القادين: «ماذا تقولين؟! هل قتلوا رامزا؟! من قتله؟!»
فقالت شيرين: «ألم تأذني لي في أن أسأل الدكتور عنه لعله يطلعني على خبره، لقد قال إنه علم بوجوده في قصر مالطة إلى منتصف الليل من يومين، وأنه دعي إلى القصر ولم يرجع، فهل عندك شك في أنهم قتلوه؟»
فأطرقت القادين وبانت الدهشة في عينيها وقالت: «ليس من الضروري أن يصدق ظنك، ولكن ربما كنت مصيبة فمن الجائز أنهم قد يفعلون ذلك.»
وكان الدكتور يعمل فكره في تلافي ما قد يكون من اطلاع القادين على حديثهما، فلما رآها سلمت أن عبد الحميد يقتل على الشبهة سرا وجهرا، فكر في سبيل للنجاة من هذا الباب فقال: «هل تعتقدين يا سيدتي أن رامزا قتل؟»
قالت: «لا أعتقد ذلك اعتقادا ثابتا، ولكنهم قد يفعلون هذا في سبيل صيانة الدولة.»
قال: «أراك تجوزين القتل في هذا السبيل.»
قالت: «قد جوزه قبلي ماكيافلي الفيلسوف.»
فأظهر الاهتمام ودعاها إلى الجلوس على المقعد، فجلست وهي تنظر إليه وتتفرس في وجهه، فقال لها: «أتجوزين القتل في هذا السبيل ولو كان المقتول أنت؟»
فأجفلت وقالت: «ماذا تعني؟!»
قال: «أعني سرا عظيما عهد إلي منذ أيام في تنفيذه وأنا أؤجله شفقة عليك.»
قالت: «تعني أنهم أرادوا قتلي؟!»
قال: «أنصتي يا سيدتي واستجمعي رشدك، واعلمي أني أعرض عليك الحياة بعد أن حكم عليك بالقتل.»
قالت وهي ترتعد: «أفصح، لا تخف.»
قال: «هل عهدت مثلي يدخل على نساء القصر ويتردد قبل الآن؟»
قالت: «كلا.»
قال: «فما الذي جعل لي هذا الامتياز الآن؟»
فأطرقت وأعملت فكرها وأحست كأنها أفاقت من سبات، وقالت: «ثم ماذا؟ قل ...»
قال: «اعلمي أنك صرت في خطر الموت منذ علم عبد الحميد أنك حامل، ولما لم تفلح الحاضنة بإسقاط حملك كلفني قتلك بالسم خلسة. قد يخطر ببالك الشك في قولي، لكنك تتحققين صدقه متى تذكرت تردد هذا الطاغية في شأنك؛ كم غالطك وأهملك! ثم هو لم يؤجل قتلك إلا لأنه احتاج إليك في المهمة الأخيرة. لا أعلم ما الذي يريده منك، ولكنه ما زال يلح علي لتنفيذ أمره بقتلك حتى صباح الأمس، فأمرني أن أنقطع عن قصرك بضعة أيام ففعلت. ولعلك إذا تذكرت ما كلفك به بالأمس تتحققين صدق قولي.»
فتذكرت القادين ما خاطبها به عبد الحميد في شأن استطلاع سر شيرين، وهي رغم حبها له كانت تعتقد غدره مما عرفته من سيرة حياته مع الذين قتلهم من رجاله بعلمها، فأطرقت حينا وسبق إلى ذهنها صدق الدكتور في قوله، وظلت ساكنة.
فابتدرها قائلا: «قد ترتابين في كلامي، وربما حدثتك نفسك أني أكذبك، وقد تنقلين خبري إلى هذا الطاغية، فأنا لا أبالي إذا مت في هذا السبيل، ولكن موتي لا ينجيك من القتل فافعلي ما بدا لك.»
وكانت القادين قد سمعت بعض ما دار بين شيرين والدكتور من الحديث، ولا سيما قوله إنه يتمنى أن يموت كما مات رامز في سبيل مصلحة الأحرار وطلب الدستور فغلب على ظنها صدقه، لكنها أرادت أن تتثبت من ذلك فقالت: «وما الذي يسيء عبد الحميد من حملي حتى يريد قتلي؟»
قال: «ألست أرمنية الأصل؟» قالت: «[بلى]».
قال: «ألم تعلمي خوفه من الأرمن وكم قتل منهم؟ وأزيدك علما أن بعض المنجمين تنبأ له بأن سقوط دولته سيكون على يد ولد منه تلده امرأة أرمنية، فلما علم بحملك رغم الوسائل التي اتخذها أصبح همه قتلك، وعهد في ذلك إلي فرضيت، وأنا أؤجل ذلك عامدا لأني أشفقت على صباك.»
فقالت: «كيف رضيت أنت أن ترتكب هذه الجريمة؟»
قال: «حاشا لله أن أفعل ذلك! إني حر صادق لا أقتل النفس البريئة، وإنما قبلت ليتيسر لي المكوث في هذه القصور أستطلع أخبارها لإخواني الأحرار. أنا يا سيدتي جاسوس للأحرار هنا، أقول لك ذلك بكل حرية، ولا يفيدك أن تنقلي خبري إلى هذا الطاغية، ولا يهمني إذا نقلته، فإني أتشرف بالشهادة في هذا السبيل. نحن ألوف نطلب الدستور، ولو قتل نصفنا في سبيل نيله لا نبالي لأن النصف الباقي يناله، وسيحفظ التاريخ ذكرنا، أما أنت فإنك مقتولة لا محالة لأن عبد الحميد يرى بقاءك سببا لقتله. وإذا بقيت حية حتى تلدي فإن طفلك يقتل أولا ثم تقتلين أنت، إلا إذا قبلت نصحي ونجوت بنفسك ورجعت عن عبادة هذا الظالم وكفرت عن ماضيك بالانحياز إلى الأحرار. هذه نصيحتي لك، فافعلي ما تشائين. والسلام.»
وكان الدكتور يتكلم كأنه صاحب سلطان، فكان لكلامه تأثير شديد في نفس القادين ، واعتقدت صدقه وخافت على حياتها وحياة جنينها، فأطرقت وقد جمد الدم في عروقها. وشيرين تسمع ما دار من الحديث وتعجب لهذه المصادفة، واغتنمت الفرصة لتأييد قول الدكتور فوجهت كلامها إلى القادين وقالت: «يا سيدتي إني أنصح لك أن تصغي إلى نصحه. وإذا حدثتك نفسك بغير ذلك وأردت نقل خبرنا إلى عبد الحميد فقد علمت أن الموت لا يهمنا. أما الدكتور فقد ذكر لك السبب، أما أنا فهل تظنين أني أحب الحياة بعد ذهاب حبيبي رامز ضحية الدستور غدرا؟» قالت ذلك وعادت إلى البكاء.
فتأثرت القادين من كلامها، وكانت من أهل الذكاء والدهاء ولكن حبها عبد الحميد أعمى بصيرتها، فلما داخلها الشك في حبه بما سمعته من كلام الدكتور ن دلها عقلها على ما خادعها به، وأنه لم يظهر لها الحب إلا حين احتاج إليها في مهمة تعنيه كما فعل وقت حادثة الأرمن وغيرها، وتذكرت تردده في العقد عليها، فصح عندها صدق الدكتور في أقواله ولم يبق لديها شك في ذلك، فالتفتت إليه وقالت: «قد صدقتك يا دكتور، فما العمل الآن؟»
قال: «العمل أن تفري من هذه القصور بما خف حمله ومعك شيرين، وأبقى أنا هنا حتى أتمم المهمة التي أتيت لأجلها. هذا هو رأيي، ولا يصح تأجيل فراركما إلى الغد.»
فنهضت وهي تعمل فكرها وقالت: «سأذهب لأدبر وسيلة للفرار الليلة، فامض أنت لشأنك مشكورا، وسأذكر فضلك ما حييت.» ثم ودعهما الدكتور، فبكت شيرين وتوسلت إليه أن يفر معهما، لكنه قال: «لا بد من وجودي هنا لمصلحة الجمعية، أما أنت فتجلدي واصبري، وستدور الدائرة على الباغي ولو بعد حين.» وخرج. •••
كان عبد الحميد بعد ذهاب رامز وأبيه يتوقع أن تنجح حيلته، وقد أوشكت أن تنجح ويقع أعضاء الجمعية في الفخ لولا أن بادر سعيد فأسمعهم وصية مدحت. وظل عبد الحميد يومين في انتظار النتيجة وهو لا يستقر له قرار، وكان يتوقع أن يوافيه ناظم بخبر الجمعية في اليوم التالي، فلما أبطأ عليه الخبر جعل ينتحل الأسباب لتأخيره.
وبينما هو في ذلك إذ أتاه نادر أغا في الصباح يخبره بفرار القادين ج مع شيرين، فاقشعر بدنه وأخذ في البحث والتحقيق حتى قلب يلدز رأسا على عقب، فتبين بعد البحث أنها فرت مع فوزي بك أحد كبار الياوران، وهو رئيس فرقة من الحرس الألبان المعهود إليهم حراسة تلك القصور فسقط في يده، وبث الأرصاد والعيون في أطراف المملكة. وقد تشاءم من فرار تلك القادين لما يعتقده من علاقة حملها بحياته، فاسودت الدنيا في عينيه وأحس بفشل لا عهد له بمثله. ولم يتوسط النهار حتى جاءته برقية من ناظم بك في سلانيك يخبره فيها أن أحد أعضاء الجمعية حاول قتله بأن أطلق عليه الرصاص فأصابه لكنه لم يمت، وأن الجمعية أصبحت ذات خطر يخشى منه.
ثم جاءته برقية أخرى بأن فدائيا قتل سامي بك مفتش البوليس أثناء ذهابه إلى قروشوه، وكان السلطان قد كلفه بالبحث عن رئيس الجمعية والفتك به، وتوالت البرقيات باضطراب الأحوال في مقدونيا وألبانيا وأن الناس في خوف شديد.
وكان عبد الحميد يتلو هذه البرقيات في غرفة المطالعة بالقصر الصغير كالعادة، والباشكاتب بين يديه، فأخذ يظهر عدم الاكتراث أمامه ويشدد عزيمته ليوهمه أنه على ثقة من قدرته. ثم خاف أن يبدو ضعفه فيصبح في خوف على حياته من أعوانه، لاعتقاده أن هؤلاء الأعوان لا يطيعونه إلا خوفا من بطشه أو طمعا في ماله، فإذا رأوا منه ضعفا انقلبوا مع الجانب الأقوى فنهض وهو يتكلف الضحك وقال: «لقد آن لي أن أفتك بهؤلاء الأغرار، إن الرفق بهم لم يجد نفعا.»
فوقف الباشكاتب واستأذن وهو يعلم أن عبد الحميد يكاد يموت خوفا، ولكنه أظهر أنه صدقه وانصرف.
أما عبد الحميد فدخل غرفة الكتابة ليخلو إلى نفسه، وما دخلها حتى تنفس الصعداء وقال: «ويل لهم! إنهم يفتكون برجالي، إنهم غير الأحرار السابقين الذين كنت أبتاعهم بالأموال. متى كان أولئك الملاعين يعرضون أنفسهم للقتل ولا يبوحون بالسر؟! حتى النساء صرن كالرجال شدة وبطشا!» وتذكر القادين وشيرين فقف شعر رأسه، وقال: «ويل لك يا أرمنية! لقد خرجت من يلدز حية مع جنينك لأنني أخطأت بالتسويف في أمرك، وكان ينبغي أن أقتلك حالا. ويلاه! قد خرجت ونجت ولا تلبث أن تضع طفلها، وهو الذي سيكون شؤما علي! هل أفل نجم سعدك يا عبد الحميد وانقلب الزمان عليك؟» قال ذلك وقد غص بريقه وبكى بكاء حقيقيا، ثم تشدد ووثب وهو يقول: «متى اتحد أولئك الملاعين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم؟! لا ينبغي أن أيأس وأنا عبد الحميد، وقد غالبت أولئك الغلمان ثلاثين سنة وغلبتهم، أفيعجزني أمر هذه الشرذمة؟ لا بد من التفريق بينهم، ولا بد من الفتك بهم.»
وأطرق لحظة يفكر، وتناول سيكارا وأشعله ثم جعل يخطر في الغرفة ذهابا وإيابا، ثم صاح بغتة: «شمسي! شمسي هو الرجل اللائق بهذا العمل، إنه فتاك شديد. هل أستشير أحدا بشأنه؟ لا، إنه الرجل الشديد، وقد ادخرته لهذه الغاية، سأرسله وأفوض إليه أن يعزل ويولي ويقتل ويرقي. وأرسل من الجهة الثانية من يفرق بين مذاهبهم. إن صائبا ماهر، وسأرقيه فيتفانى في خدمتي، وقد كان في مقدمة الذين أفلحوا في الكشف عن الجمعية وأعضائها. المال، المال، سأبذله هذا وقته، قد ادخرته لمثل هذه الساعة.»
وقضى ساعة في مثل ذلك، ثم طفق يدبر أسباب المقاومة. •••
عاد رامز إلى التفكير في شيرين بعد أن انفضت جلسة الجمعية المركزية في سلانيك، ثم حدث أباه بحديثه معها، وأخذ يروي له تاريخ حياته بعد فراقه تلك المدة الطويلة، فقضيا يوما في مثل ذلك. وأخيرا قال سعيد: «أين أم شيرين الآن؟»
قال: «أخبرني جارهم أنها ذهبت للبحث عن شيرين في مناستير وما حولها.»
قال: «دعنا نذهب إلى هناك فنحمل معنا أوامر الجمعية المركزية إلى شعبتها، ألم تقرر الجمعية بالأمس أن ترسل وصية مدحت وسائر قراراتها إلى فروعها؟ وهي طبعا تحتاج إلى رسل سريين، فلنكن نحن رسلها إلى مناستير.»
ففرح رامز بهذا القرار وقال: «سأقابل الكاتب وأخبره بذلك.» وافترقا. وفي اليوم التالي أطلق الرصاص على ناظم بك، واهتزت سلانيك لهذا العمل الأول من نوعه. وبعد أيام أعدت التقارير ونحوها مما يطلب نقله إلى شعبة مناستير، وكلها مكتوبة بالأرقام (الشفرة) على نسق خاص بين الجمعيتين، وتسلمها رامز وسعيد ثم ذهبا إلى مناستير وقابلا كاتب الجمعية فأنبآه بما يحملانه من الأوامر الجديدة وطلبا عقد جلسة خاصة لهذا الشأن، فعقدت جلسة سرية على نحو ما حدث في جمعية سلانيك. وكان الكاتب قد حل رموز الرسائل وهيأها. فلما عقدت الجلسة، وهي مؤلفة من بعض الضباط وموظفي الحكومة، وفي مقدمتهم: القائمقام صادق بك قومندان آلاي الفرسان الرابع عشر، وفخري بك ترجمان الولاية، واليوزباشي حبيب بك، والملازم ضيا بك من ضباط المدفعية، وإبراهيم شاكر أفندم معلم الرسم في المكتب الإعدادي، والبكباشي رمزي بك من أركان الحرب، ووهيب أفندي وغيرهم. وكلهم من ذوي الأخلاق السامية والمبادئ الصحيحة ولا سيما صادق بك، وكان أكثرهم عملا وأشدهم حماسة، وهو رب السيف والقلم، وعليه كان المعول في التدابير التي دبروها والبيانات التي نشروها، وهم جميعا يقتفون خطواته ويقتدون برأيه، فهو بمثابة رئيسهم وقائدهم. وكان ربعة، مستدير اللحية، يبدو عليه الضعف شأن أصحاب المزاج العصبي، وإن لم تكن فيه حدة العصبيين، بل هو رابط الجأش ثابت في أعماله، يظهر الهدوء والسكينة في محياه، فإذا دعت الحالة إلى الحماسة أو العمل غضب كالأسد الهائج لا يبالي ما يفعل، وقد يضحي بنفسه في سبيل الحق والحرية.
فلما عقدت الجلسة كان أول شيء فعلوه هو التعرف إلى سعيد بك، والتنويه بما له من الأيادي البيضاء في تاريخ الأحرار. ثم تلوا وصية مدحت ورحبوا بها كل الترحيب، وأعجبهم ما كان من قرار الجمعية بشأنها، وتحمسوا ووافقوا على الفتك، وقرروا إبلاغ ذلك إلى فروع الشعبة في رسنة وغيرها.
ولما انفضت الجلسة كان أول شيء فعله رامز أنه ذهب للبحث عن أم شيرين حتى علم أنها في منزل بعض أقاربها، فأخذ أباه معه لملاقاتها، وكانت تعرفه من قبل فرحبت بقدومهما. وسألها رامز عن شيرين وشأنها، فقصت عليه حديثها مع صائب وما دار بينهما، وعن ثباتها في حبه، وكيف اختفت بغتة. فأعجب بصدق محبتها وازداد أسفا على ضياعها وعزم على البحث عنها، ثم قال: «لا بد من العثور عليها، إلا أن يكون ذلك الملعون قد حملها على الانتحار تخلصا منه، ولكنها عاقلة لا تركب الرذيلة، وهي تعلم أني لا أزال حيا، بل هي تحب الحياة من أجلي كما أحبها من أجلها.»
فقال أبوه: «لا بد من الصبر حتى يأتي الله بالفرج. وأين طهماز؟»
فقالت: «لا أعلم أين هو، ولكنه كان مع صائب بك إلى آخر يوم.»
فقال رامز: «إنه الآن من أرباب الرتب المقربين في يلدز.»
فضحكوا رغم ما هم فيه من الحزن والقلق، لأنهم يعرفون حقيقة طهماز وأنه لا ينفع لغير الأكل، ولولا امرأته ما عرف أحد بوجوده. •••
خرج رامز من هناك كاسف البال، ولم ييأس من لقاء شيرين، فبعث بعض الناس يبحثون عنها في القرى وفي كل مكان ظنها تذهب إليه، فلم يقفوا لها على أثر. واعتقد أن عبد الحميد وجواسيسه هم سبب هذا الشقاء، فازداد نقمة عليهم وأصبح يغتنم الفرص للتفاني في مقاومتهم.
مضت أيام وهو يعمل بمساعدة كاتب الجمعية في كتابة المنشورات ونسخها وتدبير من يوصلها إلى الجهات، وكانوا يرسلونها مع النساء غالبا لبعد الشبهة عنهن في الاشتغال بالسياسة. وبينما هو في ذلك إذ أتته الدعوة للاجتماع في جلسة مستعجلة، وعينوا مكان الاجتماع، وكانوا يجتمعون للمداولة في خبر جديد أو حادث جديد أو تقرير أمر خطير. فلما عقدت الجلسة واستقر الأعضاء في أماكنهم قال الرئيس: «دعوناكم الليلة لأخبار عظيمة الأهمية جاءتنا من طريق مركز سلانيك، وقد حلها الأخ الكاتب وهو يتلوها. تفضل أيها الأخ اتلها علينا.» وأشار إلى كاتب السر.
فوقف كاتب السر وبيده ورقة وقال: «هذا الكتاب من مركز الجمعية المقدسة في سلانيك، تذكر فيه أنها تلقت رسالة من أخينا الدكتور ن من يلدز تحتوي على أخبار عظيمة الأهمية، وهذه صورة الرسالة كما هي.» وأخذ الكاتب يتلو رسالة الدكتور، وهذا نصها:
تأخرت عليكم في إرسال الأخبار إذ لم أوفق إلى من يحمل رسالتي إليكم هذه المرة، لأن التشديد في المراقبة أصبح فائق الحد وأصبح الطاغية يخاف من خياله ويشك في نفسه. إن أخباري هذه المرة حسنة ومهمة، اعلموا أولا أن إصابة ناظم بك بالرصاص ومقتل سامي بك كان لهما تأثير شديد في نفسه وفي نفسي، بارك الله فيكم! أما هو فإنه قام وقعد والتف جواسيسه حوله وتملقوه وحضوه على التشديد والفتك، فعهد إلى شمسي باشا الفظ الغليظ القلب مهمة تعقبكم والفتك بكم. وقد أرسل الجواسيس - وفيهم صائب - لبث روح الشقاق بين العناصر والمذاهب، فاحذروا من هذا اللعين! واعلموا أن الطاغية خائف من اجتماع الكلمة فهو يبذل ما في وسعه لتفريقها، فوجهوا عنايتكم إلى مقاومة ذلك بإرسال المنشورات إلى المسيحيين من كل الطوائف تحذرونهم شر التفريق.
ويسرني أن أبشركم بأمر وفقنا إليه ولم يكن في الحسبان، وذلك أن إحدى نساء السلطان فرت من القصر وهي شديدة النقمة عليه وتريد قتله، واسمها القادين ج ومعها الياور فوزي بك أحد قواد الحرس الألباني، والغالب أنهما قصدا ألبانيا لأن الياور المذكور منها. ويسوءني أن أخبركم بفقد الأخ الحبيب رامز، فإني علمت بوجوده في قصر مالطة فذهبت لأراه، فأخبرت أنه طلب إلى القصر في منتصف الليل ولم يرجع.
فحدث عند ذلك تمتمة وضحك وحركة، وتوجهت الأنظار إلى رامز.
ثم عاد الكاتب إلى القراءة فقال: «ومن غريب الاتفاق أن شيرين بنة طهماز الذي تعرفونه أتت يلدز من تلقاء نفسها، وأظهرت من البسالة وصدق السعي في مصلحة الجمعية ما يندر مثاله، وخاطبت السلطان خطابا لم يجرؤ أحد على مثله!» فحدث ضجيج بين الأعضاء وشخصت أبصار الجميع لما يكون من تتمة الكلام. أما رامز فتسارعت دقات قلبه ونسي موقفه تطلعا لما يأتي عن شيرين، وأتم الكاتب القراءة فقال: «وأبشركم بأنها نجت بعد أن وقعت في خطر القتل، وكانت من أكبر الوسائل المساعدة على فرار القادين المتقدم ذكرها. فإذا كان أخونا رامز لا يزال على قيد الحياة فإني أهنئه بها.»
فعاد الضجيج، وقام صادق بك ونادى رامزا وهنأه.
ثم تلا الكاتب تتمة رسالة مركز سلانيك فقال: «مما جاء في رسالة أخينا الدكتور ن تتحقق حاجتنا إلى مقاومة مساعي أولئك الأشرار، وقد كتبنا صورة منشور إلى الأهالي والقبائل نرجو أن توزعوه بمعرفتكم. وكذلك تجدون مع هذا صورة عريضة رفعناها إلى قناصل الدول هنا تطلعهم على أحوالنا مع سلطاننا وحكومتنا، فوزعوا منها نسخا على القناصل في جهاتكم لتكون أعمالنا مبنية على الحكمة والتعقل. ويسرنا أن نخبركم أن أخانا طوسون بك الذي تنكر بلباس الدراويش وسار لبث روح الجمعية المقدسة في الأناضول قد أفلح وأنشأ فروعا من الشعب في تلك البلاد انتظم فيها أكثر ضباط الفيلق الثالث.»
فلما فرغ الكاتب من تلاوة الرسالة تنفس الأعضاء الصعداء ولا سيما رامز فقد كان تأثيره مزدوجا، وأهمه أمر شيرين لكنه صبر نفسه إلى الخروج من الجلسة. وأخذ الأعضاء يتباحثون فقال صادق بك بما عهد فيه من الرزانة في أحرج المواقف: «هذه يا إخواني أخبار مهمة تستوجب إعمال الفكر، وأهمها في نظري إرسال الجواسيس لبث روح الشقاق. وقد سبقنا إخواننا في سلانيك إلى نشر المنشورات في سبيل الوفاق بين الطوائف، وأرى أن نعيد الكرة ونذكر في منشوراتنا سعي الظالمين وأعمالهم، وأن نترجم هذه المنشورات إلى اللغات البلغارية والسرية والألبانية ونفرقها في الرؤساء ومشايخ القرى وزعماء القبائل والعصابات، فما رأيكم؟»
فنهض سعيد وقال: «إنه لنعم الرأي! وأنا أتولى تفريق هذه المنشورات بيدي.»
فقال صادق بك: «بورك فيك! إنك نعم الصديق الأمين لأبينا مدحت، رحمه الله! إن هذه المهمة شاقة وكثيرة الخطر، إذ يعسر عليك الوصول إلى تلك العصابات وهي لا تستقر في مكان. ولكني أشير عليك أن تستعين في معرفة أماكنها بالأخ نيازي بك قائد طابور رسنه، إنه ذو حمية وبسالة، وقد قضى مدة في مطاردة العصابات البلغارية، وقد أحس البطل هادي باشا العمري حامي حمى الأحرار بتعيينه هناك، وإني أتوقع لهذا الشاب مستقبلا مجيدا. ونحن نعرفه ولكنه لا يعرفنا، إنه من إخواننا أعضاء هذه الجمعية المقدسة، فهو يعرف أحوال العصابات، فإذا لقيته فاستعن به في البحث عن أماكن رؤسائها.»
ثم استأنف صادق بك الكلام فقال: «وهناك أمر عظيم الأهمية أيضا، أعني به مخابرة الدول على أيدي قناصلها بتقارير نشرح فيها حالنا مع سلطاننا ورجاله، حتى نعذر في نظرهم إذا مست الحاجة إلى التحكيم أو نحوه، وهذا العمل لا أرى فينا أليق به من أخينا رامز، لأنه لا بد من بحثه عن خطيبته الباسلة الحرة، وهو كاتب متضلع في اللغات الأجنبية، ففي طريقه يقوم بهذه المهمة.»
فوقف رامز وقال: «إنه لشرف عظيم لي أن يراني الأخ صادق بك أهلا لهذه المهمة، وسأقضيها على الرأس والعين.»
فوقف صادق بك عند ذلك وقد أبرقت عيناه وبانت البسالة فيهما، وقال: «بقيت مهمة واحدة أطلب إليكم أن تسمحوا لي بها لأنها من واجباتي.»
ففهم الجميع أنه يعني قتل شمسي باشا، فتصدى ضيا بك قائلا: «إن المهمة التي تشير إليها أيها الأخ الباسل نضن بيدك أن تمتد إليها، أنا أنوب عنك فيها.»
فوقف حبيب بك وأبدى مثل هذه الرغبة، فقال صادق: «نحن متفقون إذن على وجوب إزالة ذلك المخلوق الفاسد، ولا فرق في أن يكون أحدنا أو الآخر هو المنفذ لهذا العمل. وها أنا ذا أقسم اليمين.» وتقدم نحو القرآن والسيف فتسابق رضا وحبيب إلى هناك ووضع كل منهم يدا على القرآن ويدا على مسدسه وأقسموا اليمين المغلظة بقتل ذلك الرجل وغيره عند الحاجة في خدمة الحرية والدستور. فأثر ذلك في سائر أعضاء الجمعية، فهبت الحماسة فيهم ودبت الحمية في عروقهم دبيب الكهرباء، فنهض شاب من الأعضاء هو الملازم ك وقال: «لا يليق بأحد منكم أن يلوث يده بدم ذلك الفظ الغليظ، أنا أريحكم منه، ثقوا أني أفعل ذلك، ويجب أن أفعله وحدي.» قال ذلك وقد تجسمت الشجاعة في عينيه.
فهتفوا جميعا: «فليعش الفدائي الحر!» وقال صادق بك: «هكذا تكون الحماسة والمروءة! كان الله معك أيها الأخ لكسر شوكة الظالمين.» •••
ثم قال صادق بك: «والآن سيتلو عليكم الأخ الكاتب صورة المنشور، الذي سيوزع على يد الأخ سعيد بك في رؤساء القبائل وزعماء العصابات البلغارية وغيرها. وبما أنه طويل أرجو أن يتلوه مختصرا.»
فوقف الكاتب وقرأ هذه الخلاصة :
إلى إخواننا المسيحيين من بلغار وصرب ويونان وألبان وغيرهم
قد مضى نصف قرن على الممالك الصغيرة المحدقة بمقدونيا - ونعني بها بلغاريا واليونان والصرب - وهي تزعم أنها تسعى في مساعدتكم وإنقاذكم من ظلم العثمانيين. فإذا صدقت في إنقاذكم من ذلك الظلم فلكي تبتلعكم وتضمكم لنفسها، فهي لذلك تبث روح الشقاق بيننا وبينكم حتى جرت الدماء أنهرا. فيا إخواننا أبناء الوطن، قد آن لكم أن تستفيقوا وتعلموا أن تلك الحكومات إنما هي طامعة في بلادكم، واعلموا أن هذه الأمنية لن ينالها أولئك الطامعون، فسنبذل أرواحنا دونها. إننا نعترف لكم بفساد الحكومة العثمانية الآن، وحق لكم أن تشكوا منها، ونحن أيضا نشكو نفس الشكوى، وقد قمنا لإصلاحها بأيدينا. وأول أسباب ذلك الإصلاح اتحاد العناصر العثمانية من ترك وبلغار وروم وألبان، ومن أجل ذلك أسست جمعية الاتحاد والترقي العثمانية، وأعضاؤها هم أمراء العسكرية وضباطها والمأمورون الملكيون، وكلهم من خيرة رجال الشرف، يبذلون كل مرتخص وغال في سبيل هذا الوطن. ومقصد الجمعية الأول هو الحرية وصون الأعراض والأرواح والأموال لكل العناصر، وتغيير شكل الإدارة، فتستعيض بالشورى عن الاستبداد. فلندع الأفكار القديمة والآراء الفاسدة ولنتحد جميعا. فلتتحدوا معنا في طلب الدستور والمساواة ... إلخ ... إلخ.
فلما فرغ الكاتب من تلاوة هذه الخلاصة قال الرئيس: «اقرأ علينا خلاصة المنشور الذي سيوزع على الدول الأجنبية (إلا روسيا)»، فقرأ:
سيدي
إن الحال التي بات فيها القسم المهم من وطننا وهو مقدونيا، والرغبة في إصلاحها وإعداد مستقبلها، حملنا على عرض السطور الآتية على مقامكم الرفيع مع كل إعظام. وقصدنا من ذلك هو إظهار الحق في مسألة مقدونيا وخلاص الدول الأوروبية من مزاحمة لا طائل تحتها.
إن مساعي أوروبا في إصلاح مقدونيا لم تنته بنتيجة ولم تغير الأحوال بوجه من الوجوه، بل هي انقلبت إلى ما هو أسوأ، وكثرت القلاقل واستولى ارتباك عام على كل أنحاء المملكة.
إن أصل هذا الفساد طمع روسيا في مقدونيا كما يشهد بذلك تاريخها الماضي، ونحن نأسف لأن دول أوروبا تسايرها. وقد اختلقوا مسألة ظلم المسيحيين فيها وأنهم تعساء تحت سلطة المسلمين، مع أنه ليس بمقدونيا تعصب إسلامي. نحن نقول قبل كل الناس إن سكان مقدونيا ليسوا في الرفاه المطلوب، وآراؤنا متفقة من هذه الوجهة مع أوروبا، إلا أن اختلافنا هو تعيين منشأ هذه العلة، وفي اتخاذ الوسائل الناجحة لعلاجها، فنكبات مقدونيا ليست ناشئة منها، وقد عم أمثالها الولايات التي تتألف منها المملكة العثمانية لا مقدونيا وحدها، وسببها هو استبداد الحكومة الحاضرة. والشيء الذي آل بالبلاد إلى هذه الحال التي لا تطاق هو فقدان الحرية العثمانية ملكية وسياسية.
فإن كانت أوروبا تريد حقيقة أن تسعد المقدونيين، فيجب أن تعينهم على إزالة الاستبداد الحاضر ليسعد العثمانيون عامة ويسعد معهم المقدونيون، لأن مرض مقدونيا هو مرض تركيا كلها، وسيزول بهمة أبنائها.
فإن كانت أوروبا تريد إصلاح أحوالنا إكراما للإنسانية، فعليها ألا تتعرض لما نريده من الإصلاح، وأن تضيق على الأستانة لتضع حدا للاستبداد، أو تتركنا وشأننا ندبر أمورنا ونصلح شئوننا. ولا رائد لنا غير الحق والعدل لهدم صروح الظلم. وقد قدمت نسخة من هذا البيان لقناصل الدول إلا روسيا ... إلخ.
ثم تقرر أن يعطى البيان الأول إلى سعيد بك ليتولى ترجمته إلى اللغات البلغارية والصربية واليونانية، ويكتب منه نسخا يفرقها في القبائل والعصابات سرا، وأن يعهد في أمر البيان الثاني إلى رامز ليكتب منه نسخا بالفرنسية ويقدمه إلى قناصل الدول. ثم ارفضت الجلسة وقلوب الأعضاء مملوءة آمالا وحمية.
وعلى أثر ذلك سار رامز إلى توحيدة والدة شيرين، فقابلها وأسر إليها مما سمعه عن نجاة ابنتها من يلدز وفرارها إلى جهة مجهولة، ثم أخبرها بأنه مسافر إلى بعض الجهات للبحث عنها، ففرحت فرحا شديدا وعادت إليها آمالها ومكثت تنتظر ما يأتي به القدر.
العصابات الألبانية
قضى سعيد بضعة أيام في ترجمة البيان ونسخه، ثم تنكر بلباس أحد الفلاحين الألبانيين فجعل على رأسه طاقية قصيرة ولبس دراعة (صديرية) مفتوحة فوقها الكبران المرخي الأكمام وحول حقويه التنورة وتمنطق بمنطقة فيها الطبنجة، ولف ساقيه بسيور «الطماقات» واحتذى حذاء غليظا ومشى وعكازه بيده، فلا يظن من يراه إلا أنه من عامة الألبان.
وكان في ألبانيا من جهة مناستير عدة عصابات من البلغار والألبان كل منها تنسب إلى زعيمها، أشهرها عصابة جرجيس الألباني، وعصابة توفيق الأهوماتلي، وعصابة أمين البيسوجانلي، وعصابة قورطيس النوسلي، وكل عصابة مؤلفة من عشرات من الرجال الأشداء يقطعون الطريق على الناس ويقتلون وينهبون بحجة الدفاع عن النصرانية، وأكثر ما يكون تحرشهم بالمارة من المسلمين يأخذون ما معهم ويأسرونهم حتى يفديهم أهلهم. وكانت مهمة سعيد شاقة، لأن في جملتها أن يبلغ منشور الجمعية إلى رؤساء هذه العصابات، ولا يخفى ما في ذلك من الخطر، لكنه كان قوي القلب ثابت الجأش عاشقا للحرية يتفانى في سبيلها.
وكانت عصابات جرجيس الألباني شديدة البطش، قد ملأت بشهرتها جبال البلقان، وهي تعمل باسمه في غيابه أو حضوره. فأحب سعيد أن يبدأ بها فسافر في طلبها وهي معتصمة في الجبال الوعرة، فطال سفره من جبل إلى جبل مقتفيا آثارها في تنقلاتها هناك. وقضى في ذلك أياما قاسى فيها الأمرين من المشي والتعب، حتى كاد يعدل عن طلبها. وهو إنما يطلبها لأن جرجيس كان معها وهو يريد أن يبلغه المنشور، فأنبأه بعضهم أنهم في جبل على بضعة ساعات من مكانه، فعاهد نفسه أن يقصدها فإذا لم يجدها عدل إلى سواها.
وكانت الشمس قد تجاوزت الأصيل وهو يمشي في سفح جبل على أن ينزل منه إلى الوادي، ثم يعود من طريق آخر إلى أعلى الجبل المقابل حيث يقيم جرجيس بعصابته. فنزل الوادي ثم أخذ في الصعود حتى اقترب من قمة الجبل، والشمس قد دنت من المغيب، فسمع ضوضاء أعقبها إطلاق الرصاص، فدوى الوادي دويا عظيما، وليس فيه ولا في سفح الجبل بيت ولا خيمة. ولكنه شاهد بعض الخيام في أعلى الجبل ومنها سمع إطلاق البنادق. فلما سمع دوي الرصاص وقف وراء صخرة يحتمي بها وأصاخ بسمعه، ولم يبق بينه وبين قمة الجبل إلا خمسون مترا، وندم على مجيئه متأخرا لكنه تجلد وصبر، فإذا هو يسمع طلقات أبعد من الأولى وراء الجبل، وسمع لغطا بين الخيام ووقع حوافر خيل. ثم طرق أذنه صوت امرأة تستغيث بالتركية، ولم يسمع من كلامها إلا قولها: «أمان جانم، ما الذي تريدونه منا؟ اتركونا في سبيلنا.» ثم سمع صوت رجل يجاوبها بالتركية أيضا بقوله: «لا تخافي من هؤلاء الكلاب ولو كانوا مائة.» فأدرك سعيد أن عصابة جرجيس تعترض بعض المارة، ولكنه توسم في صوت الرجل البسالة والقوة. فحدثته نفسه أن يصعد خلسة حتى يشرف على المعركة وقد خيم الظلام فلا يخاف أن يراه أحد، فتسلق الصخور بخفة حتى أصبح وراء إحدى الخيام فأشرف على المعركة، فرأى رجال جرجيس محدقين بركب مؤلف من أربعة أنفس من بينهم رجل وامرأة واثنان على الأقدام هما خادمان، وتفرس في الرجل والمرأة فلم يعرفهما، لأن المرأة ملثمة ويظهر من مجمل حالها أنها من أهل النعم، وكذلك حال الرجل مع أنه كان ملتفا فوق أثوابه بالعباءة ويغطي أكثر وجهه باللثام. فتربص سعيد ليرى ما يكون وقد استغرب مرور هؤلاء في ذلك الطريق الوعر، وأصبح شديد الميل إلى استطلاع حقيقتهم، ولم يخف على نفسه لأنه يبحث عن جرجيس من زمن طويل وقد سره أنه وصل اليه.
فلما تكاثر رجال العصابة وكادوا يظفرون بالقوم تقدم الزعيم جرجيس، وقد عرفه سعيد من طول قامته ونوع لباسه واسترسال شعره وما عليه من الأسلحة الثمينة، وكان قد لبس الجاكت والبنطلون والطماقات وحول وسطه المنطقة فوق الجاكت وفيها الطبنجات والخناجر، وعلى رأسه طاقية قصيرة مسطحة وفي مشيته تيه وإعجاب. فخاطب الرجل بالتركية وهو ضعيف فيها قائلا: «لا فائدة من دفاعكم، وإنما أنتم تعرضون أنفسكم للقتل، ونحن لا نريد أنفسكم وإنما تكفينا أموالكم، فإن لم تسلمونا إياها قتلناكم. ولا تخافوا على المرأة فنحن لا نتعرض للنساء.»
فخاطبت المرأة رفيقها بلحن الاستغاثة قائلة: «يكفي جانم يكفي، أعطهم ما يريدون.»
فأبى الرجل ذلك وقال: «أليس من العار أن أرضخ لهؤلاء اللصوص برغم أنفي؟ ولكن ...» وصر بأسنانه وأشار نحو المرأة وهز رأسه أسفا، يريد أن وجودها معه يلجئه إلى القبول والتسليم. على أنه استوقف فرسه ووقف وقفة أسد ولم يتحرك، فمشى جرجيس نحوه بجأش هادئ وقال له: «لا يصعب عليك التسليم، فان أعظم منك سلموا لنا، وقد رحمناك لأننا أردنا أن نستبقي حياتك إكراما لهذه المرأة.»
فتراجع الرجل وقال: «وما الذي تريدونه منا؟»
قال: «نريد ما تحملونه على هذه البغال.»
فالتفت إلى المرأة وقال: «وما هو رأيك؟ كيف نسلم؟»
فقالت: «لا بأس يا فوزي، أعطهم ما يطلبون فإنهم يرتزقون بهذه الحرفة. قبح الله ذلك الطاغية الملعون! كم أفسد من أخلاق رعاياه!»
فلما سمع سعيد اسم فوزي وذكر الطاغية، اعتقد أن هذه هي القادين ومعها الأميرالاي فوزي بك كما أنبأهم جاسوسهم في رسالته، فأخذ يبحث بنظره عن شيرين فلم يجد معهم من النساء غير القادين. فرأى من الحكمة والمروءة أن يتوسط حينئذ، وفي توسطه جرأة كبيرة لكنه تعود ركوب الأخطار.
وكان الظلام قد تكاثف، وهناك نار موقدة أمام الخيام، ورأى رجلا من العصابة أشعل عودا من الكبريت أنار به مصباحا ومشى نحو جرجيس، فظهرت عند ذلك سحنة الأميرالاي، وكان ملثما وعليه ثياب السفر. فتقدم سعيد ونادى: «جرجيس، أيها البطل!»
فالتفت الجميع نحو الصوت وأجفلوا، إذ لم يكن أحد منهم يتوقع أن يسمع صوتا من وراء الخيام، فأجابه جرجيس: «من أنت؟»
قال: «إني ضيف عليك، وقد قضيت أياما وأنا أطلبك لأؤدي لك أمانة عندي، فهل أقدمها؟»
فاستغرب ذلك الطلب، وأومأ إلى رجاله أن يحيطوا بفوزي والقادين وينزلوهما في إحدى الخيام، وتحول نحو سعيد فرأى رجلا ليس في لباسه ما يدعو إلى التهيب، فصاح به: «ويلك! من أنت؟»
قال: «أنا رسول إليك من أمة برمتها، أعرني سمعك وأجلسني معك لأقص عليك خبري.»
فبغت والتفت إليه باحتقار وقال: «من أنت لتخاطبني بهذه اللهجة؟! إنها جرأة غريبة!»
قال: «قلت إنك ستعرف من أنا، ومتى عرفتني وعرفت من هو خصمك الذي عفوت عن نفسه واقتنعت بماله، لا تندم على الإصغاء إلي.»
فأشار جرجيس إلى رجاله أن يضيئوا خيمته ويدخلوا إليها الأسيرين. ولحظ سعيد في أثناء تحول القادين عن فرسها أنها تتوكأ كأنها مثقلة، فعلم أنها حامل. ثم دخل جرجيس ودعا سعيدا وأمره بالجلوس، وأجلس الأميرالاي والقادين على طنفسة هناك، وظل هو واقفا، فقال سعيد: «تفضل يا حضرة الزعيم، اجلس. إني عارف قدرك، ألست رئيس جمعية طوسقا الألبانية؟»
قال: «نعم، ومن أنت؟ قل حالا.»
قال: «أما أنا فإني مندوب متنكر جئتك برسالة من جمعية الاتحاد والترقي العثمانية، سأدفعها إليك الآن ولا حاجة بك أن تعرف من أنا.» ومد يده وأخرج ورقة دفعها إليه، فتناولها ودنا من المصباح وأخذ في قراءتها. وأخذ الأميرالاي يتفرس في سعيد فلم يذكر أنه يعرفه، أما سعيد فإنه اغتنم اشتغال جرجيس بتلاوة الورقة وقال للأميرالاي: «ألست الأميرالاي فوزي بك ومعك حضرة القادين ج؟»
فأجفل فوزي بك عند سماعه ذلك التصريح وهو يحسب نفسه بعيدا عن المعارف لا يعلم به أحد هناك، ولكنه تجاهل وأنكر وقال: «لا أفهم ما تقول، من أنت؟»
قال: «يا للعجب! كم تسألون من أنا وتنكرون من أنتم! لا ينبغي أن تخاف منا، إننا لا نقتل على الشبهة كما يفعل صاحبكم في يلدز، ولا نطلب غير حقنا، فأخبرني أين شيرين رفيقتكما؟»
فلما سمع سؤاله عن شيرين تحقق أنه مطلع على حقيقة أمرهم ولا سبيل للإنكار، وأعظم أمر الجمعية لتيقظها فقال: «إن شيرين فارقتنا في سلانيك.»
وكان جرجيس قد فرغ من تلاوة الورقة فرماها إلى سعيد باحتقار وقال: «هذا كلام لا يمكننا سماعه. نعم، إننا أقرب إلى المصالحة معكم جماعة المسلمين، ولكنكم تحتالون علينا وتضحكون منا فتأتوننا كل يوم ببيان جديد، تكتبون إلينا اليوم بمعنى الاتحاد بين العناصر، وتكتبون إلى المسلمين تحرضونهم علينا. وقد كنا صدقناكم وعزمنا على حل العصابة، فوقع لنا كتاب مرسل منكم إلى المسلمين تبينون فيه فضل الإسلام ومزية المسلم على غيره وتجعلون أموالنا حلالا لكم.»
فقال سعيد: «أين هذا الكتاب؟! إنه من رجل مفسد. أين هو؟!»
فأشار جرجيس إلى أحد رجاله، فأتاه بمحفظة أخرج منها كتابا مرسلا إلى حاكم أستاورة في تلك الجهة عليه الطغراء وقد صدر باسم الخليفة . ثم قال جرجيس: «ألم تقولوا إنكم تطلبون الدستور وفيه حماية الأعراض وحفظ الحقوق لكل الناس على اختلاف مذاهبهم؟ وهذا كتاب من السلطان يقول عكس ذلك، خذ اقرأ. ألا يقول هنا إن سعي جمعية الاتحاد والترقي في طلب الدستور مفسد للأخلاق، وإنه لا يوافق مصلحة المسلمين لأنه يجعل نساء المسلمين يخرجن حاسرات كنساء الكفار؟»
فتناول سعيد الورقة وقرأ فيها نحو هذا المعنى، وأمعن نظره في الإمضاء فإذا هو «صائب»، فعلم أنه جاسوس السلطان الذي ذكره الدكتور ن، وأنه وصل إلى تلك الجهات وأخذ في بث تلك الروح الشريرة التي حذرهم منها الدكتور، فقال سعيد: «يا سيدي، إن كاتب هذه الأسطر أحد جواسيس القصر، وهؤلاء خاصة يعملون على عرقلة مساعينا فلا ينبغي الإصغاء لهم.»
فأدار جرجيس وجهه وأظهر عدم المبالاة بما يقوله سعيد كأنه ندم على مسايرته وسماع حديثه، والتفت نحو الأميرالاي وقال: «أعطونا ما معكم وإلا قتلناكم.»
فشق على سعيد ما رآه من استخفاف جرجيس بقوله، ولم يصبر على ذلك الضيم فقال: «يا جرجيس، لا يحسن ببطل مثلك ملأت شهرته الخافقين أن يحتقر رسولا من جمعية حرة تطلب الاتفاق معه على مكافحة الظالمين، أمن أجل رسالة كاذبة من جاسوس منافق ترد أيدي الأحرار الممدودة لمصافحتك؟»
قال: «ومن يؤكد لي أن هؤلاء الأحرار القائمين بطلب العدل والحرية لا يصيرون عبيدا للظالمين غدا كما صار سواهم؟ دعني من ذلك وكفى.»
فأطرق سعيد وأعمل فكره في طريقة يقنع بها الرجل بخطئه، وإذا هو يسمع صوت إطلاق النار حول الخيام بكثرة وسرعة، وقد قامت الصيحة في الخيام. فخرج جرجيس للبحث عن السبب، فرأى تلك الخيام قد أحاط بها الجند العثماني من كل صوب، وفر الألبانيون إلا جرجيس فإنه أوشك أن يفر كعادته. ولولا اشتغاله بأمر سعيد ومباحثته واشتغال رجاله بحراسة أولئك الأسرى، لاشتموا رائحة الجند عن بعد وفروا إلى جبال أخرى اعتصموا بها، وامتنع على الجند الوصول إليهم.
فأطل سعيد من الخيمة فرأى ضعف جرجيس وفرار رجاله، فقال للأميرالاي: «امكث هنا مع القادين وسأعود إليكم .» وتقدم نحو الجند فإذا هم فصيلة في مقدمتها ضابط كالأسد الكاسر، واتفق وقوع نور المصباح على وجهه فتبينه، فإذا هو نيازي بك الرسنه لي الذي أوصاه صادق بك أن يستعين به في كشف أماكن العصابات، وكان قد شاهده في مناستير وتعارفا. وكان نيازي لكثرة مطاردته العصابات قد أصبح اسمه كافيا لبث الفزع في قلوبهم، فهو لم يلق عصابة إلا شتت شملها، فبلغه في تلك الليلة نزول جرجيس هناك بنفسه مع عصابته، فأحب أن يبغته ويلاقيه ويباحثه في معنى ما أتى به سعيد، فتسلق الجبل برجاله خلسة وقد عرف المكان من المصباح، فرآهم مشتغلين عن التلصص فلم يشعروا إلا وهم محاطون بالجند ولم تبق لهم حيلة. ولحظ نيازي عزم جرجيس على الفرار فصاح فيه: «جرجيس، جرجيس، لا تهرب ولا تخف إني لا أريد بك سوءا.» فوقف جرجيس.
وقد تعجب سعيد من هذه المصادفة، وتفاءل خيرا بنجاح مشروعهم الجديد، وتقدم نحو نيازي بك وقال: «نيازي بك؟» فلما سمع صوته عرفه فترامى عليه وقبله وقال: «سعيد بك؟ أنت هنا؟ ما الذي أتى بك؟ هل أصابك سوء؟»
قال: «كلا، إني في خير، وأنا مقيم في ضيافة جرجيس البطل الألباني.»
فلما سمعه جرجيس يقول ذلك خجل من نفسه واحترمه وتقدم إليه وقال: «لم تقل لي من أنت.»
فقال: «ليست العبرة بشخصي، بل العبرة بما جئت به. والآن ما رأيك إذا سمعت هذا القول من نيازي بك نفسه وهو الظافر الآن؟»
فتقدم نيازي إلى سعيد وقال: «أظنك جئت لتبليغ الرسالة الجديدة.»
قال: «نعم، ولكن صاحبنا لم يصدقني، وقد أطلعني على رسالة من بعض رجال القصر تقول عكس قولنا.»
فقال نيازي لجرجيس: «اعلم أيها البطل أني من أعضاء هذه الجمعية المقدسة، ولكي أؤكد لك حسن نيتنا في المنشور الذي أتاك به أخونا سعيد بك هات يدك لأصافحك، ولنتحد معا على القوم الظالمين. وبدلا من أن نتقاتل ونحن أبناء وطن واحد نجتمع على مقاتلة المستبدين ونسعى في نيل الدستور.»
فلم يسع جرجيس عند ذلك إلا الإذعان ، ومد يده وصافح نيازي، وأقسما على العمل معا، وأن يكون ذلك سرا مكتوما حتى يأتي وقته. فأشار نيازي إلى رجاله أن يتفرقوا ويستريحوا، فدعاه جرجيس إلى الاستراحة، فتقدم سعيد وقال لنيازي همسا: «ألم يبلغ شعبتكم في رسنة خبر القادين التي فرت من يلدز مع أحد القواد الألبان؟»
قال: «بلى، ومعها شيرين خطيبة صديقي العزيز رامز.»
قال: «تعال فأريك القائد والقادين. أما شيرين فقالا إنهما تركاها في سلانيك.»
ومشى نيازي إلى تلك الخيمة، فدخل سعيد وقدمه إلى الأميرالاي فوزي بك والقادين. فأثنى الأميرالاي على ما شاهده من بسالة نيازي وحميته، وأعجب بما رآه من تفانيهم في سبيل الدستور، إلى أن قال: «الآن تأكدت فوز الأحرار وأن ذلك الطاغية مغلوب على أمره.»
فقال سعيد: «إننا لا ننفك عن الطلب حتى ننال ما نريده أو نموت.»
فقال فوزي بك: «ألا تخبرني كيف عرفتني وقد خرجنا من يلدز ولم يطلع أحد على خبرنا؟»
قال: «نحن هنا في هذه الجبال ونطلع على أخبار عبد الحميد في أبعد قصوره، ونعرف ماذا يأكل أو يشرب.»
فقال: «وفقكم الله إلى ما تريدون! ونحن لم نترك يلدز إلا لنكون معكم في هذا السبيل، فماذا نفعل؟»
قال: «تنزلون مناستير، وسنلتقي هناك ونتعارف ونتعاون. والآن قد تعبتم، وأظن جرجيس يغض النظر عن مطالبه منكم.» والتفت إلى جرجيس وضحك، فقال جرجيس: «بل أنا في خدمتكم إلى حيث تريدون.»
فقال نيازي: «لا نكلفك هذه المشقة فأنا أتولى إيصال حضرة الأميرالاي إلى مكانه، وإنما أطلب منك المحافظة على العهد الذي عقدناه في هذه الليلة.»
قال: «إني على ما تريدون.»
فودعوه وعادوا، فمشى نيازي ورجاله في خدمة فوزي بك حتى وصلوا إلى الطريق السلطاني وهناك افترقوا. فعاد نيازي إلى بلده وهو غارق في بحار التفكير لأمر خطر له وهو يخاطب جرجيس في تلك الليلة، سيكون له شأن في نيل الدستور.
سار سعيد بك وفوزي بك يطلبان مناستير، فقص هذا حديثه عن القادين وأنه كان يتعشقها قبل أن تصير قادين، وهي لا تلتفت إليه لاشتغالها بعبد الحميد، وأنها كانت تظهر انعطافها نحوه وكان لها يد في ترقيته حتى صار من الياوران وتولى رياسة إحدى فرق الحرس. فلما علمت بعزم السلطان على الغدر بها بسبب حملها بعثت إليه فدبر أمر تهريبها مع شيرين. فسأله عن شيرين أين هي، فقال: «جئنا معا إلى سلانيك بعد أن طال سفرنا في الطريق لأننا جئنا على الأفراس في طرق بعيدة عن المدن، خوفا من عيون عبد الحميد. فلما وصلنا إلى سلانيك نزلنا في فندق متنكرين وهي معنا، ثم استأذنتنا في الذهاب إلى بيت أبيها لعلها ترى والدتها هناك لأنها فارقتها في ذلك البيت، فمضت مع خادمها ولم تعد. فبعثنا خادمنا في اليوم التالي يبحث عن خبرها فعاد وقال إنه وجد أباها، وهو يعرفه منذ كان في يلدز، وإن صائب باشا الجاسوس معه، وقد اعتزم أن يزفها إليه، وكأنها يئست من بقاء رامز فقبلت. ولم يعد بإمكاننا البقاء في سلانيك خوفا من كشف أمرنا، فسافرنا نطلب بلدا لنا من ولاية مناستير، فاتفق لنا ما رأيت.»
فشق خبر شيرين على سعيد لعلمه أنه يغضب رامزا غضبا لا مزيد عليه، وفكر قليلا فتذكر الكتاب الذي قبض عليه عند جرجيس بإمضاء صائب يبث فيه روح الشقاق، فتحقق أنه إذا عرضه على الجمعية حكمت على صاحبه بالموت فيقتل على أهون سبيل، لكنه يجب أن يعرف مقره وأن يبلغ رامزا ذلك، وهو لا يعرف أين هو.
إعلان الثورة
وصل الركب بعد سفر شاق إلى قرية في ضاحية مناستير صاحبها من نصراء الجمعية، فكلفه سعيد تهيئة بيت لإقامة عائلة الأميرالاي. وكانت القادين قد ثقل حملها ودنا وقت وضعها، فارتاحت في تلك القرية وأعد لها سعيد كل ما يلزم من أسباب الراحة. وصحب الأميرالاي إلى مناستير وقدم اسمه للجمعية فقبلت عضويته، فأدخلوه وأقسم اليمين في الظلام وهم ملثمون كعادتهم عند قبول عضو جديد في الجمعية. وبعد خروجه قص سعيد على الجمعية ما كان من أمره مع جرجيس، ثم أخرج الورقة بإمضاء صائب وأطلعهم عليها، فتقرر بالإجماع أن سعي هذا الجاسوس من قبيل محاربة الحرية والدستور، وذلك أشد نكاية على الجمعية من الجند والسلاح، فتبرع أحد الفدائيين بقتله حالما يعرف مقره.
وبعد انفضاض الجلسة عاد فوزي بك إلى منزله، وذهب سعيد إلى توحيدة وقص عليها ما سمعه عن ابنتها فلطمت وصاحت: «ويلاه! إنه لا يزال يفكر في صائب وكل مصائبنا منه! لا ينبغي أن أبقى هنا، يجب أن أذهب إلى سلانيك، لا شك أن شيرين تكون في أشد الضيق، وأخاف أن تقبل الزواج بذلك المنافق ليأسها من بقاء رامز، فهي لا تعرف أنه حي. ويلاه! ما العمل يا سيدي؟!»
فقال سعيد: «لا حاجة بك إلى السفر، امكثي هنا حتى يأتي رامز لتخبريه عن شيرين، وأنا أذهب إلى سلانيك بدلا عنك.»
فرضيت لعلمها أن سعيدا واسع الحيلة، فقد يقوى على زوجها فيغير عزمه ويفض ذلك المشكل. فأخذ سعيد يتأهب للسفر، وفي صباح الغد أتاه رسول من كاتب الجمعية يدعوه إلى جلسة ستعقد في مساء ذلك اليوم لأمر مهم، فلم يسعه إلا الانتظار. ثم عقدت الجلسة وحضرها رجل يعرفه من خير الأحرار هو جمال أفندي رئيس بلدية رسنة مقر طابور نيازي بك، ويعرف ما بينه وبين نيازي من الصداقة والألفة. فلما تم عقد الجلسة قال الرئيس: «يا إخواني، دعوناكم لنطلعكم على أمر عظيم الأهمية، هو خطوة جديدة في أعمال جمعيتنا المقدسة، وسيؤدي بلا شك إلى نيل الدستور، وإن تكن أختنا أو أمنا جمعية سلانيك قد تقدمتنا بإعلان الفتك بالظالمين - وهي خطوة مهمة في أعمالنا - فإن شعبة مناستير هذه سيكون لها الحظ بأنها ستخطو خطوة أصعب مراسا، نعني قيام الأمة معا للمطالبة بحقوقها بإعلان الثورة. والفضل في ذلك راجع إلى شعبة رسنة، بهمة الأخ الغيور البطل نيازي بك، فإنه بعث إلينا صديقه أخانا جمال أفندي ليقص علينا ما هو عازم عليه، فأعيروه سمعكم.»
فأصغى الجميع لما سيتلوه جمال أفندي فقال: «يا إخوتي، نحن إذا فعلنا شيئا أو استطعنا عمل شيء، فإنما نفعله بروح هذه الجمعية المقدسة التي ترشدنا وتهدينا وتأخذ بناصرنا. أما ما جئت من أجله فهو أن أخانا نيازي بك قائد طابور رسنة الذي تعرفون شجاعته في حروبه ببلاد اليونان، كانت الحكومة قد كلفته مطاردة العصابات البلغارية والألبانية، وقد طاردها بهمة وبسالة قد عرفتموها، فعلم بالاختبار أن الحكومة عاجزة عن مطاردة تلك العصابات، وأن قيام الأمة في وجه الظالمين على هذه الصورة باسم الحق والحرية أفضل وسيلة لنيل حقوقها، فكاشفني بهذا الأمر في 28 يونيو سنة 1908، ومعنا طاهر أفندي مفتش البوليس، وكلنا من أعضاء هذه الجمعية المقدسة. وقال لنا نيازي: عندي 500 ليرة اقتصدتها من تعبي، ويمكننا أن نجمع حوالي مائتي رجل من أعضاء الجمعية والعساكر والقرويين ونهيئ لهم السلاح، وستشاركنا أوخري ورسنة أيضا، فنشغل الحكومة في هذه الآجام أشهرا. وفاتني أن أقول لكم إن المحرك الأصلي الذي حملنا على هذا القيام إنما هو أمر مضبطة روال التي تقضي بتقسيم مقدونيا وإعطائها إلى الأجانب كما تعلمون. ولا يمكنني كتمان ما رأيته من تحمس الأخ نيازي بك ونشاطه، فقد ذكر لنا أن رسنة ينبغي أن تبدأ بهذه الثورة، لأن البلغاريين بدءوا منها وجلبوا لنا هذا البلاء، وأنه ينبغي لنا أن نحب المسيحيين كإخواننا ونساوي بيننا وبينهم، ونعتبر أعراضهم أعراضنا وأرواحهم أرواحنا وأموالهم أموالنا، لأن نهضتنا إنما هي ضد الإدارة الفاسدة ولإعلان الحرية والمساواة والإخاء. كما ذكر أنه مرسل أخواته وأبناءه وامرأته بلا معين إلى مناستير ومودعهم وداعا أبديا. فوافقناه على العمل، وأنفذوني إليكم لنستشيركم في ذلك.»
فلما فرغ جمال أفندي من كلامه عرضت المسألة على الأعضاء، فقال سعيد: «إنه نعم الرأي، وأنا أعلم منكم بصوابه لأني عانيت عذابا شديدا في البحث عن العصابات، ورأيت المشقة في مناوأتها، فعلمت أن الحكومة تعجز عن مطاردتها وهي شرذمة بلا نظام ولا تدريب، فكيف إذا كان يديرها جند منظم؟ اسمحوا لي أن أهنئ نيازي بك على هذا الفكر الجميل، وأن أشكره لقيامه به وتعريض حياته للخطر ولا سيما أنه لم يتم العام على زواجه.»
فاستأذن جمال أفندي في الكلام وقال: «ذكرتموني أمرا جميلا بهذا المعنى، وذلك أن نيازي لما عزم على تشكيل العصابة علم أن ذلك يقتضي ذهابه في الأرض والاعتصام بالجبال وتحمل مشاق الأسفار والأخطار، فذهب إلى عروسه وخاطبها بذلك فشجعته وقالت له: اذهب يا نيازي، لا وظيفة لك سوى الموت في مصلحة الوطن. فأرسلها مع عديله إلى أهلها.»
فوقف صادق بك وقال: «إن امرأة أخينا نيازي تذكرنا بخطيبة أخينا رامز، وإن أمة فيها مثل هؤلاء النساء لا يجوز حرمانها من الدستور. والآن لا أظنكم ترون مانعا من الموافقة على مشروع الأخ نيازي بك، ولنرسل إليه التعليمات اللازمة. وعسى أن يكون عمله قدوة لسواه، إذ يشعر أهل القصر بأن الأمة برمتها غاضبة عليهم. وعلينا الآن أن نبلغ هذا الخبر إلى الجمعية المركزية في سلانيك.»
فوقف سعيد وقال: «أنا أقوم بهذه المهمة.» قال ذلك ليغتنم الفرصة للبحث عن شيرين هناك.
فقال الرئيس: «جزاك الله خيرا. أظن رامزا لم يعد من مهمته في مخابرة قناصل الدول؟ أين هو الآن يا ترى؟»
قال: «لم يرجع بعد، ولا نعلم أين هو، ولكنه لا يلبث أن يعود وقد أفلح بإذن الله.»
ثم ارفضت الجلسة وتوجه جمال أفندي ومعه التعليمات لنيازي بك، وشخص سعيد بك إلى سلانيك وهو على أحر من الجمر، فبلغ الجمعية الخبر وسمع منها خبرا لا يقل أهمية، وهو أن أنور بك قام لمثل هذا الغرض بمن معه من الجند، وكلفته الجمعية تبليغ ذلك إلى شعبة مناستير. ثم قصد منزل طهماز فوجد المكان قفرا، فسأل الجيران فأخبروه أن ابنته شيرين جاءته ومعها خادمها، وبعد أن مكثوا أياما سافروا للبحث عن توحيدة، فسأل: «هل تعرفون البلد الذي قصدوه؟» فأجابوا: «كلا».
فأسف سعيد لهذا الفشل، ولكنه تجلد لأن الزمان علمه الصبر وأن الإنسان لا ينبغي أن يقلق ويضجر أو ييأس. فعاد إلى مناستير فرآها قائمة قاعدة، وقد وصل إليها شمسي باشا، وأخذ في التحري والبحث والتشديد، وقد دله بعضهم على بعض أعضاء الجمعية فعزم على الفتك بهم. فعقدت الجمعية جلسة مستعجلة ثبتت فيها الحكم عليه بالإعدام، ونهض الفدائي وهو يبتسم لقيامه بهذه المهمة . وفي اليوم التالي ضجت المدينة لمقتل ذلك المشير على يد شاب ملازم أطلق عليه مسدسه بين 1500 من أعوانه وغيرهم ونجا بنفسه سالما ولم يقف أحد على خبره. فكان لهذا الفتك تأثير شديد في قلوب أعداء الجمعية وتضاعفت هيبتها، ولا سيما بعد أن شاع خبر عصابة نيازي. •••
كانت عصابة نيازي قد نجحت نجاحا باهرا، وطلب الانضمام إليها خريستو القائد البلغاري فقبلوه، فاكتسبوا بذلك ثقة البلغاريين. وقبل سفر العصابة كتب نيازي إعلانات بعث بها إلى القصر والمفتش العام وقومندان الجندرمة في مناستير وبكباشي الطابور في رسنة ومدير رسنة، وقال في كتابه إلى القصر: «إن الأمة تطلب الدستور، والجمعية صاحبة هذا المشروع مستعدة لخدمة الذات السلطانية دون أن تحاسبها عما سلف من السيئات، فنحن نريد الدستور فإن كانت الحكومة لا تمنحه طوعا فالأمة ستأخذه عنوة.»
ولما آن السفر أخذوا يهتمون بصرف أنظار الحكومة عنهم لئلا تشعر بفرارهم، فارتأى نيازي أن يصرف اهتمامها إلى مكان خارج المدينة زعم أن عصابة بلغارية هاجمته، فخرج الجند إلى ذلك المكان فخلت الثكنة، فدخل هو ورجاله إليها وفتحوا صناديق الأسلحة وأخذوا ما وجدوه من النقود، وكتب نيازي صكا بذلك حفظ في صندوق الطابور.
خرجوا وهم 150 رجلا قاصدين إلى لاحجة، فالتقوا بمن وافاهم إلى هناك، وشرح لهم نيازي خطته فقال: «إن خطتي الجهاد في سبيل الحرية إلى الممات، فمن لا يرضى فليرجع.» فوافقوه وساروا معه وجعلوا يطوفون القرى يدعون أهلها إلى الاتحاد معهم في طلب الحرية والدستور، ويحلفونهم على الثبات. وبذلوا الجهد في محاسنة غير المسلمين ومعاملة الأهالي بالرفق والعدل، وأدخلوا عددا كبيرا من الأهالي في الجمعية وفيهم النصارى والمسلمون على اختلاف الطوائف في أستاورة وأوخري وغيرهما. وكتب نيازي إلى جرجيس رئيس عصابة الألبانيين يدعوه إلى الانضمام إليه لمناهضة الحكومة الظالمة، وكتب بذلك إلى غيره أيضا.
فلما علمت الحكومة في رسنة بخروج نيازي ورجاله بعثت جندا للقبض عليهم فلم يعرفوا الطريق إليه، وساعدهم على الاختفاء أن الجمعية كان نفوذها قد تمكن في أهم المدن هناك، مثل أوخري ودبره وقروشيشته وغيرها. وانضم إليهم كثيرون من المغضوب عليهم الفارين من كل الطوائف. وكان نيازي يصرف الرواتب إلى رجاله مما جاء به معه، وإذا احتاج إلى المال أخذ من البلد الذي يكون فيه، وأعطى شيوخه صكا على الحكومة تقتطع قيمته من الضرائب.
وفي اليوم الثالث من خروجه كتب إلى الجمعية في مناستير بما فعله وبشرهم بنجاحه، وبعث منشورا إلى نصارى مقدونيا ترجمه إلى لغاتهم يطلب إليهم نبذ الضغائن القديمة والاتحاد مع المسلمين لطلب الدستور، وأن هذا هو الغرض الأصلي لجمعية الاتحاد والترقي. واهتم بجمع كلمة القرى الإسلامية المتقاربة وتشكيل هيئات إدارتها وإحكام الصلح والوفاق بينها. وجمع إليه الهاربين من الجيش أو السجن ممن كانوا يضرون بالأهالي وأجمل لهم النصح، ودبر ما يمنع مضارهم، واجتذب قلوبهم بالعفو والملاطفة وحسن الأسلوب واتباع الحق والعدل، ودبروا طريقة لمخابرة رسنة وأوخري واتخذوا بريدا وعينوا منازله.
واشتد أزر نيازي لما بلغه قيام أنور بك مثل قيامه، وكان ينشئ في القرى التي يمر بها نوعا من الحكومة الدستورية يوافق نظام الجمعية، وكان الناس ينضمون إليه ويؤازرونه. ولحقت به عدة عصابات وطنية.
فلما بلغت أخبار هذا النجاح إلى مناستير اشتد أزر الجمعية، فكتبت إنذارا إلى والي مناستير تقول في جملته: «إن حكومتكم الحاضرة غير شرعية لأنها خالفت الدستور، وإن الجمعية تعمل على استرداده.» وكتبت إلى نيازي كتابا ضمنته الأوامر والنصائح والأخبار، وفي جملة ذلك أن «شمسي باشا أعدم علنا ونجا قاتله.» ففرح نيازي بذلك.
واضطربت الحكومة وأهمها الارتباك والفوضى فعينت الفريق عثمان باشا بدلا من شمسي، فاجتمعت الجمعية وبحثت فيما تفعله فرأت الميل إلى الرفق، فقررت القبض عليه بدلا من قتله، وبعثت تستقدم نيازي، وكان قد طاف كثيرا من بلاد ألبانيا وعزم على المسير إلى يانيا، فقضى في تنقله أياما يجمع كلمة الناس باسم الجمعية، ويستحلفهم على الثبات ضد الظلم بلا تفريق بين المذاهب أو العناصر، فدخل في محالفته البلغار والصرب والألبان والأروام، وصار الرهبان يحتفلون بقدومه، ويتوسلون إلى الله أن يأخذ بيده، وهم يعدون الجمعية حكومة دستورية شرعية خفية.
فلما وصله الأمر بالمجيء إلى مناستير أسرع إليها وهو لا يعلم ما يطلب منه، وقاسى في سبيل عودته كثيرا من المشاق حتى أتى ضواحي مناستير، فوصل إليه كتاب من الجمعية تأمره بالقبض على عثمان باشا، فحاصروه في مركز القومندانية وقطعوا الأسلاك التلغرافية، وجردوا الحراس من الأسلحة. وكان الباشا نائما فأيقظوه وأمسكوه من ذراعيه، وأفهموه ألا خوف عليه. ثم تقدم إليه نيازي وأخذ يقنعه بأنهم لا يريدون أذاه، وأن مقصدهم شريف، وأن المراد حمله ضيفا إلى رسنة. وسلم إليه كتابا من الجمعية قرأه
ثناء على قدرته العسكرية وشجاعته، وأن الجمعية لا تنوي قتله كما قتلت شمسي باشا، بل هي تأسف إذا أصيبت شعرة من شعره بأذى. فسكت، فأخذوه إلى رسنة.
فلما رأت الحكومة انحياز فيلق مقدونيا إلى الجمعية، بعثت تستنجد فيلق الأناضول فانحاز إلى الجمعية، فسقط بيدها.
وأخذت الجمعية تزداد قوة وأملا يوما بعد يوم، وكانت تنتظر رجوع رامز من مهمته إلى القناصل. وفي أواسط يوليو من تلك السنة عاد رامز وطلب عقد الجمعية، وأخبرهم أن الدول لا ترى بأسا من طلب الدستور ولا تقف في طريقهم إذا طلبوه.
فتباحثوا وقد أخذت الحماسة منهم مأخذا عظيما، فقرروا طلب الدستور من القصر.
فوقف سعيد وقال: «أرى قبل الإقدام على هذا الطلب، وهو آخر خطوة نخطوها في عملنا، أن نستشير أخانا الجديد الأميرالاي فوزي بك، فإنه ذو معرفة وحنكة، وخطيبته من نساء عبد الحميد وتعرف أخلاقه.»
فاستحسن الجميع رأيه، وكلفوا سعيدا أن يخابره، فاصطحب ابنه رامزا وقص عليه خبر شيرين في أثناء الطريق، وكيف أنه ذهب إلى سلانيك ولم يجدها ولا يعلم أحد مقرها، فتجددت أحزانه. •••
كان فوزي بك قد أقام بقرية بضاحية مناستير، فوصلوا إلى القرية في الضحى فوجدوه في الحديقة وأمارات البشر على وجهه. فلما رأى سعيدا هش له وتقدم لاستقباله، فتقدم سعيد وعرفه بابنه وسأله عن سبب تغيبه عن مناستير منذ أيام فقال: «إنه كان مشتغلا بالقادين لأنها وضعت منذ بضعة أيام.»
فقال سعيد: «وماذا وضعت؟» قال : «وضعت غلاما.»
وكان سعيد قد علم من حديث جرى بينه وبين فوزي بك أن الطفل ابن عبد الحميد، وهم بأن يسأله عن شكله فأسرع فوزي بك وأخرج من جيبه صورة فوتوغرافية دفعها إلى سعيد وقال: «هذه صورة الطفل.»
فاستغرب سعيد تسرعهم في تصويره، فقال فوزي: «إن القادين طلبت ذلك بسرعة، وأرسلت الصورة إلى يلدز من بضعة أيام، وهي تعتقد أن إرسالها يسهل نيل الدستور على الجمعية.»
فتأمل سعيد في الصورة، ومرت في خاطره أفكار متضاربة، وتذكر حوادث كثيرة شبت فيها الحروب أعواما بسبب دعاة الملك المشكوك في أنسابهم. لكنه عاد إلى المهمة التي جاء من أجلها، فقص على فوزي بك نجاح الجمعية وقال: «إنها عزمت على طلب الدستور من السلطان، فرأيت أن نستشيرك في ذلك قبل الإقدام عليه، فماذا ترى؟»
قال: «أرى المبادرة إلى الطلب بلهجة شديدة، فإن السلطان ضعيف الآن وهذه فرصة لا تضيعوها.»
وكان رامز وهو يسمع الحديث ينزه نظره فيما حوله من الأشجار والرياحين، فوقع بصره على شبح بلباس النساء مر في طرف الحديقة البعيد بأسرع من لمح البصر فارتاب في أمره، لكنه رأى السؤال عنه فضولا منه فسكت. ولم تمض بضع عشرة دقيقة حتى رأى أهل القصر في هرج، وقد قامت الصيحة وتراكض الخدم نحو الحديقة، فبغت فوزي بك وصاح فيهم: «ما بالكم؟!» فتقدم إليه أحد الخدم وهو يلطم ويقول: «الطفل! الطفل!»
فقال: «ما باله؟! ماذا جرى له؟!»
قال: «لا أدري، إنه يصيح من الألم وقد ازرق بدنه وغارت عيناه!»
فركض فوزي وتبعه سعيد ورامز فسمعوا بكاء القادين قبل الوصول إلى البيت، فدخلوا الدار ودخل فوزي إلى غرفة القادين، وبعد برهة عاد وهو يحمل الطفل ميتا لا حراك به، ويكاد جلده يكون أسود، فحالما وقع نظر سعيد عليه عرف أنه مات مسموما، فقال: «ماذا أطعمتموه؟»
قالوا: «لم نطعمه شيئا.»
قال: «لا بد من أن شيئا ساما دخل جوفه. انظروا من خدعكم ...»
فالتفت الخادم إلى المرضع، فانتبهت لأمر جرى في تلك الساعة فصاحت: «ويلاه! لعل تلك الساحرة التي حنكته قد دست السم في فيه!»
فقال فوزي: «من هذه الساحرة؟!»
فأخذت المرضع في البكاء وجعلت تلطم وجهها وتقول: «اقتلوني، اقتلوني، أنا الشقية، أنا الجاهلة ... إن المرأة أتتني في هذا الصباح وزعمت أنها ساحرة وطبيبة، وأنها تحنك الأولاد فيسمنون، وسحرتني بلطفها وحملت الطفل لحظة دخلت في أثنائها لغرض، فرجعت ورأيت الطفل وحده كالنائم، ثم سمعته يصرخ ويتوجع. ويلاه! أين هذه الملعونة؟!» وأخذت في النواح.
فقال رامز: «رأيت منذ ربع ساعة امرأة عليها إزار ملون مرت بسرعة من طرف الحديقة لعلها هي.»
فصاحت المرضع: «نعم، إنها هي بعينها.» وهمت أن تتبعها فقال فوزي بك: «ارجعي، إنك لن تدركيها. ولا بد من يد جانية حملتها على هذا العمل.»
فقال سعيد في نفسه: «إن مقتل هذا الطفل أنقذ الأمة من حروب أهلية في التنازع على الملك.»
وبينما هم في ذلك إذ رأوا رجلا مسرعا نحوهم ينهب الأرض نهبا فتوجهت الأنظار إليه، ولم يقترب منهم حتى عرف رامز أنه خريستو خادم شيرين، فخفق قلبه تطلعا إلى حبيبته، ومشى نحوه. لكن الخادم لم ينتبه له وصاح: «فوزي بك! فوزي بك!» وهو يلهث من التعب، فتراجع رامز وأجابه فوزي قائلا: «ماذا تريد؟! ما بالك يا خريستو؟!»
فقال: «جئت لأنبهك إلى جريمة يسعى بعض المفسدين في ارتكابها، وأخاف أن أكون قد تأخرت لأني لم أكن أعرف هذا المنزل.»
فبغت فوزي وتحقق ظنه واقشعر بدنه لضياع الفرصة بتأخر ذلك الرسول، وقال: «نعم، لقد كنت آتيا لتحذرنا من وقوع هذه الجناية وقد تأخرت!»
فصفق خريستو أسفا وقال: «يا للخسارة! تبا لأهل البغي الأشرار!»
فقال البيك: «قل ماذا جرى، من هو مرتكب هذه الجريمة؟»
قال: «إنه جاسوس ملعون اسمه صائب باشا.»
فلما سمع رامز ذلك الاسم قف شعر رأسه وقال لخريستو: «أين هو صائب اللعين؟»
ولم يكن خريستو يلتفت إلى أحد من الحاضرين غير فوزي بك، فلما سمع صوت رامز أجفل والتفت إليه وصاح: «سيدي رامز أفندي! هذا أنت؟!» وأكب على يديه وأخذ يقبلهما ويذرف الدموع ... ثم تنفس الصعداء وقال: «الحمد لله الذي أراني وجهك سالما. ما هذه المصادفة؟! من لي أن أطير إلى سيدتي شيرين وأزف إليها هذه البشرى؟!»
قال: «أين هي الآن؟»
قال: «هي في ضاحية مناستير بالجانب الآخر مع أبيها.»
فابتدره قائلا: «وصائب أين هو؟»
قال: «تركته في هذا الصباح هناك وفررت لنقل الدسيسة التي دبرها مساء أمس مع إحدى النساء على أن تدس السم للطفل، ولم يكن هذا اللعين عارفا بمكان سعادة الأميرالاي إلا أمس، بعد أن ضعف شأن الحكومة وتحقق أن الجند مع الجمعية، فأراد أن يتمم مهمته بقتل الطفل خلسة، فعلمت أنه يدبر هذه الدسيسة فأسرعت لأخبركم، ولكن سبق السيف العذل!»
فقال رامز: «نأسف كثيرا لفوات الفرصة!» والتفت إلى خريستو وقال: «هل صائب هناك الآن؟» قال: «نعم».
فالتفت إلى فوزي بك وقال: «أستأذن سيدي في الذهاب لعلي أظفر بذلك المنافق فأذيقه الموت.» وودعه مع أبيه ومشيا مع خريستو، فسأله رامز في أثناء الطريق: «ما معنى وجود هذا الملعون في بيت سيدك وشيرين هناك؟»
قال: «أقص عليك الخبر يا سيدي باختصار: إن سيدتي لما يئست من رجوعك يوم سفرك إلى يلدز، صممت على الذهاب بنفسها إلى هناك واستعانت بي في هذا الأمر. فسافرنا إلى الأستانة ومنها إلى يلدز، فمكثت في يلدز بضعة أيام بين الخدم كواحد منهم. فلما عزمت سيدتي على الفرار مع القادين جئت في خدمتها، فوصلنا إلى سلانيك بعد مدة طويلة، فأحبت أن تسأل عن والدتها لأنها تركتها فيها، فاستأذنت من القادين وفوزي بك، وسرت في خدمتها إلى بيتها فوجدت أباها وحده، فرحب بها وأظهر لها كل العطف وقال لها: إن والدتك آتية قريبا. فندمت على مجيئها إلى البيت لأن صائب باشا أتى في الصباح التالي لزيارة والدها، وقد صار باشا وتوسع في النفقة واللبس والبذخ. وسمعت سيدي مرة يحبب إليها صائبا بأنه صار من أقرب المقربين إلى السلطان، وقد عول عليه في إنجاز أكبر مهامه لمعاكسة الأحرار، وأن رامزا قتل ولا فائدة من انتظاره، ولا تلبث الجمعية أن تتمزق ... وهي لا تجيب. وأخيرا طلبت منه ألا يخاطبها في هذا الشأن مطلقا، وهي إلى الآن لا تعرف أنك حي، ولكنها ثابتة في حبك. وبعد أيام سافر صائب باشا لا أدري إلى أين، وظلت شيرين مع أبيها وهي حزينة لا يلذ لها طعام ولا شراب، تسأل عن والدتها ولا تعرف مقرها، وقد سمعت من الجيران أنها في مناستير فطلبت إلى أبيها أن ينقلها إلى هنا فانتقل بها، وهو لا يأذن في خروجها ولا يسمح لها أن تكلم أحدا. وقد ضيق علي أيضا وحبسني في البيت، وأصبح لا يكلفني أن أشتري شيئا من السوق. فلما جئنا مناستير أنزلنا بالفندق الذي نحن ذاهبون إليه، وقال لسيدتي إنه بعث للبحث عن والدتها. وأنا لا أقدر على الخروج، ولو عرفت أنك هنا لهربت إليك. وكان صائب في أثناء هذه المدة يتردد على الفندق يحمل الهدايا ويتزلف ويتملق بكل وسيلة، وسيدتي لا تعيره التفاتا، حتى سمعته أمس يخاطب تلك المرأة عن تسميم الطفل، ورأيته يدلها على بيت فوزي بك، وتحققت أن خروجي ينجي هذا الطفل من الموت، وأخبرت سيدتي شيرين فأمرتني بالخروج حالا، لكنني تأخرت.»
فقال رامز: «تبا لهذا اللعين! ألا يزال يتعقبنا؟ قد انقضى أجله بلا ريب.» قال ذلك وأعد مسدسه وقد عزم أن يفتك به حالما يقع نظره عليه، وأصبح يرتعد من شدة الغيرة والتأثر. وأعاد السؤال عن شيرين وأحوالها ليلهو بالحديث بقية الطريق، وبعد مسيرة ساعة لم يجدوا في أثنائها مركبة يركبونها أطلوا على بيت ظهر لهم عن بعد بين البساتين، فقال خريستو: «هذا هو الفندق.» فأسرعوا في المسير، وعمد خريستو إلى الركض حتى سبقهما فرأياه وصل إلى الفندق ودخله، فأسرعا نحوه فإذا هو خارج يقلب كفيه من الفشل ويقول: «لم أجد في الفندق أحدا.»
فبغت رامز وقال: «أين ذهبوا؟»
قال: «سألت صاحب الفندق فأخبرني أنهم بعد خروجي في هذا الصباح ركبوا وساروا إلى حيث لا يعلم.»
فقال سعيد: «يظهر أنهم شكوا في أمر خروجك وخافوا أن تبلغ خبرهم للجمعية، فانتقلوا إلى مخبأ آخر.» فوقف رامز مبهوتا لا يقول شيئا، فقال له خريستو: «دع ذلك إلي يا سيدي وأنا آتيك بخبره عاجلا. أين أجدك؟»
قال: «اترك الخبر عند سيدتك توحيدة فإنها في بيت أهلها (ووصف له البيت)، وإذا اقتضى الأمر مكاتبتي فهذا عنواني.» وذكره له.
فقال: «حسنا، اتركاني وانصرفا.»
فتركاه وعادا وهما لا يتكلمان، والنار تتأجج في قلب رامز ويتمنى أن يرى صائبا ليأكله أكلا، ولحظ أبوه فيه ذلك فقال: «دع ذلك عنك يا بني، وهلم بنا إلى الجمعية لنزف لها نتيجة مهمتنا في مشورة فوزي بك.»
وأبلغا الجمعية أن فوزي بك يرى الإسراع في طلب الدستور، فأرسلت إلى القصر برقية طلبت فيها إعادة مجلس المبعوثان.
الفوز الأكبر
وقع الرعب في قلب السلطان عبد الحميد لفرار القادين وهي حامل، وتشاءم من فرارها، ووجه عنايته إلى مطاردة الجمعية والفتك بها، وجعل معوله على شمسي باشا المشير، ولم يلبث أن أتاه نبأ مصرعه، فخارت قواه وزادت وساوسه ومال إلى العزلة للتأمل والتفكير، وعمد إلى استطلاع الغيب على أيدي المشايخ وهم يطمئنونه. وإنما كان جل تشاؤمه من وضع القادين، فبذل جهده في تعقبها بعد فرارها حتى أخبره جواسيسه أنها في مناستير مع فوزي بك، وكان قد فوض إلى شمسي باشا الأمر بالقبض عليهما فتعجلت الجمعية منيته، ففوض ذلك إلى عثمان باشا فقبض عليه، واستحث فيلق الأناضول فلم يجبه فازداد فشلا. وكان صائب باشا يعلم رغبة السلطان في ذلك، فرأى أن يخدمه بقتل الطفل، إذ يستحيل عليه القبض على القادين أو الأميرالاي بعد فشل الحكومة. فعل ذلك من تلقاء نفسه والسلطان لا يعلم.
وملأ اليأس قلب عبد الحميد وتراكمت عليه الهواجس بذهاب القوة العسكرية من يده في مقدونيا والأناضول، وتضاعفت وساوسه وأصبح يكره أن يرى رسولا قادما نحوه لتوالي أخبار السوء عليه، حتى غدا لا يتوقع خبرا مفرحا، ومال إلى العزلة، ولم يعد أحد يجسر على مقابلته، وإن كان في حال المقابلة لا يظهر عليه شيء من القلق لاقتداره الغريب على إخفاء انفعالاته. على أنه كان كيفما توجه تصور القادين ج أمامه، وإذا تصور وضعها شعر بخفقان قلبه.
ولما فض الظرف وجد فيه صورة فوتوغرافية لطفل حالما رآه أدرك أنه ابنه.
وبينما هو في ذلك إذ جاءت محفظة البريد كالعادة فوضعوها على المكتب في غرفة المطالعة وذهبوا، وأتى هو إلى الغرفة في الصباح فرأى المحفظة فلم يفتحها لئلا يكون فيها ما يسوءه. وفي الغداء لم يذق من الطعام قليلا لكنه أكثر من التدخين، فلما جاء الغروب وانقبضت الطبيعة لفراق الشمس حمله حب الاطلاع على فتح المحفظة، وقد أنيرت المصابيح فوق المكتب ففتحها وقلب ما فيها من الظروف، فرأى بينها ظرفا عليه ختم مناستير، وحالما وقع نظره على العنوان تسارعت دقات قلبه لأنه بخط القادين ج، فأخذ في فتحه ويده ترتجف من التأثر، ولما فضه وجد فيه صورة فوتوغرافية لطفل عار ليس عليه من الثياب إلا ملاءة بيضاء ووجهه يضحك كالملاك، فحينما رآه أدرك أنه ابنه، فلم يستطع التفرس فيه طويلا فقلب الورقة ليخفي الصورة عن عينيه، فرأى على ظهرها كتابة هذا نصها:
هذه يا ظالم صورة ابنك الذي كنت تتعمد قتله وقتل والدته خوفا من أن يكون وجوده شؤما يذهب بدولتك، فها هو ذا قد وجد وأمه حية في مكان لا يصل إليه سلطانك. فاعلم أن تنجيم المنجمين قد صدق، ولم يبق لك في السيادة مأرب من هذه الساعة. تب إلى الله وارجع.
ولم يكد يتم القراءة حتى اختلجت أعضاؤه، فاستلقى على كرسي طويل تعود أن ينام عليه أحيانا، واستغرق في أفكاره وراجع تاريخ حياته وما مر بها من الأهوال، وكم قتل من الأنفس وأنفق من الأموال في سبيل حفظ سيادته والمحافظة على حياته، وكان معوله على الجند فأصبح الجند ضده ولم يعد ماله ينفعه.
ومازال في أمثال هذه الهواجس وقد أخذ التعب منه مأخذا عظيما، فغلب عليه النعاس ونام، فتوالت عليه الأحلام المزعجة، فتراءت له القادين ج تحمل طفلها على ذراعها وتقول له: «هذا هو ابني وابنك، فقد أفل نجم سعدك، دع الملك لأهله.» ثم تراءى له أن البوسفور قد جف ماؤه وانكشف قاعه، وقد نبتت جثث القتلى بين صخوره كالأسفنج، وكل أسفنجة تشبه واحدا من قتلاه قد حملق بعينيه فيه، وأخيرا رأى مدحت عائدا من الطائف يدرج على الأرض جثة بلا رأس، حتى وصل إلى باب القصر فإذا برأسه قد تدحرج من مخبئه واستقر على الجثة بين الكتفين، وأخذ في توبيخه فذكره بأمور كانت بينهما لا يعرفهما سواهما، فأجفل واستيقظ، ثم عاد فنام وعادت إليه الأحلام.
وما زال في ذلك إلى الصباح وقد استيقظ على صوت الحاجب جاء ينبئه بقدوم الباشكاتب لأمر عظيم فأمر بإدخاله، فدخل وفي يده رسالة جمعية الاتحاد والترقي في مناستير تطلب الدستور، فدفعها إلى السلطان فحالما فتحها وقرأها لم يستغربها لأنها أقل مما كان يتوقعه على أثر تلك الوساوس. وكان يخاف أن يأتي الأحرار إليه فاتحين، فيقع في خطر القتل وهو يبذل كل شيء في سبيل بقائه حيا، فإذا هم يطلبون الدستور فقط بعبارة لطيفة جدا، فأحس بضعفه وعزم على الإجابة لكنه دعا وزراءه وذوي شوراه وأخذ يباحثهم.
ولم يكن الأحرار يشكون في إجابة طلبهم ولذلك كانوا فرحين، وفي مقدمتهم الفدائيون والأبطال المحاربون أمثال نيازي وأنور. أما رامز فإنه كان منغصا لفقد شيرين.
كان طهماز قد فر من الفندق خوفا من وشاية خريستو بعد خروجه، لعلمه أنه من حزب رامز وأن هذا له عصبة قوية من جمعية الاتحاد والترقي في مناستير، فرجع بشيرين إلى سلانيك، وسبقه صائب إلى هناك، وعاد إلى التردد والتزلف إلى شيرين ولم يخبرها أحد ببقاء رامز حيا. وما زال صائب يطاولها حتى خاف فوز الأحرار بعد مقتل شمسي والقبض على عثمان وإرسال البرقية إلى القصر بطلب الدستور، وشعر بأنه لم يبق له عيش، فألح على أبيها أن يعقد له عليها ليسافر بها. فاستخدم طهماز سلطانه الأبوي وخاطبها بلهجة صاحب السلطة الوالدية وفصل لها مزايا صائب باشا وما يرجوه من النعم على يده، وأن رامزا صار ترابا، فلم تزدد إلا رفضا فقال لها: «إن السلطة لي وحدي في تزويجك. وغدا يأتي القاضي ليعقد عقدك على صائب باشا، إذ لا يجوز أن نخسر بسبب جنونك صهرا مثل هذا.»
وكانت قد تعبت من تكرار الرفض وملت الجدال، وقد أخذ الهزال منها مأخذا عظيما، وأيقنت بموت رامز وكرهت الحياة، فلما خاطبها أبوها بهذه اللهجة سكتت لكنها أعدت خنجرا ماضيا خبأته تحت أثوابها، وعزمت إذا لم تجد لها نجاة أن تقتل صائبا وتنتحر.
أما خريستو فما زال يقتص الآثار حتى علم أنهم في سلانيك، فجاءها في صباح اليوم المعين لعقد القرآن، فلما علم بقرب العقد والسفر سارع إلى إرسال برقية إلى رامز بأن صائبا هناك ليأتي سريعا. وهو مع ذلك يعلم أن رامزا يستحيل عليه الوصول إلى سلانيك قبل صباح الغد إذ يكون قد قضي الأمر، ولكنه فعل ما يمكنه، وهو لا يستطيع الدخول إلى المنزل للوصول إلى صائب. وأخيرا عزم على المخاطرة بحياته، فاقتنى مسدسا خبأه بين أثوابه، وجاء قبل ميعاد العقد بساعتين، وجعل يترقب الفرص للدخول إلى المنزل، فرأى القاضي داخلا ومعه شاهدان، فأراد أن يدس نفسه معهم فرفسه أحد الشاهدين رفسة ألقته على الأرض. فاستغرب خريستو اهتمام ذلك الشاهد به وارتاب في أمره، فدار من جهة النافذة لعله يقدر أن يصوب المسدس من هناك فلم يجد منفذا. فرأى أن يخبر شيرين على الأقل ببقاء رامز حيا لعل ذلك ينعشها ويساعدها، فكتب كلمتين على ورقة وذهب إلى الجيران وكان يعرف خادمهم وبينهما صداقة متينة، فسلم إليه الورقة ليوصلها إلى شيرين حيثما تكون.
فأخذ الخادم الورقة ودخل من باب المطبخ فلقي الخادم الجديد الذي جاءوا به للمأدبة في ذلك اليوم، فوقف يشاغله ويراقب حركات شيرين حتى رآها أتت المطبخ لتبعد عن أبيها وصاحبه، فأسرع ورمى الورقة في يدها وخرج.
ففضتها فعرفت أنها بخط خريستو فقرأت فيها: «إن رامزا حي وهو آت لنجدتك. لا تخافي.»
فلم تتمالك أن شهقت من الفرح بغير إرادتها وصاحت: «رامز!» ثم انتبهت وخبأت الورقة، ولما رأت أهل البيت انتبهوا لشهيقها أظهرت أنها أحست بألم شديد في رأسها ، فلم يستغرب أبوها ذلك لعلمه بما لحقها من القهر. أما صائب فلمهارته في الجاسوسية لم يصدق حيلتها، وحدثته نفسه بأمر طرأ عليها من جهة رامز، وكان جالسا في الصالون مع القاضي والشهود فأظهر أنه اهتم بأمر صحتها، فأسرع إلى غرفتها ووقف بالباب وقال لطهماز: «هل أدخل يا سيدي؟»
فقال: «تفضل يا باشا، لعل وجودك يذهب ألمها.»
فدخل وقد أرخت شيرين النقاب على وجهها لتخفي بكاءها، فلحظ في يدها ورقة فأصبح همه أن يتناول تلك الورقة من يدها بالحيلة، فقال: «دعيني أجس يدك لأرى ما بك.» ومد يده نحوها.
فاستلت يدها وخبأتها وراء ظهرها، فمد يده إلى هناك فوقفت ونفرت منه، فتبعها وأظهر أنه يريد الاطلاع على تلك الورقة عنوة، فتمنعت وصاحت فيه بلهجة الاستخفاف وقد عادت إليها قوتها لما علمت ببقاء رامز حيا وأنه آت لنجدتها، فقالت: «ابتعد عني يا رجل ...»
فصاح أبوها بلحن التوبيخ: «ما هذه الجسارة يا شيرين؟ ألا تعلمين أنك بهذه الوقاحة تحطين من قدري؟»
فقال صائب: «دعها يا سيدي إنها متألمة، وأنا أحب أن أرى الورقة التي في يدها.» فقالت: «ما لك ولها؟ الأحسن لك ألا تعرف ما بها لأنها تحمل إليك الشر!» فضحك وقال: «وماذا عسى أن يضرني؟» والتفت إلى أبيها وقال: «يظهر أنها حتى الساعة لم تدرك من أنا، فيا لضيعة المحبة! هاتي الورقة.»
فابتسمت وقد ذهب بعض امتقاع وجهها من ذكرى رامز وقالت: «ألا بد من اطلاعك على هذه الورقة؟ خذها.» ورمتها إليه وجعلت تتفرس فيه لترى ما يبدو منه وقد استعدت للدفاع بالخنجر المخبأ في أثوابها.
فلما قرأ الورقة ضحك ضحكة التهكم وقال: «إنهم يهزءون بك، إن رامزا أصبح ترابا نجسا مثل سائر رفاقه الأغرار، وسترين مصيرهم جميعا.»
فلم تصبر شيرين على سماع ذلك الطعن في رامز، فخرجت عن تعقلها وصاحت فيه: «اخسأ يا نذل! أبمثل هذا الكلام تذكر رامزا؟! عار عليك، ولكنك لا تعرف العار لأنك لا تشعر ولا ضمير لك.»
وكان صائب يعلم أن ما في الورقة صحيح، وأن رامزا لا بد أن يأتي إذا عرف بوجودها، وأن الأحرار فائزون. وتحقق أنها لم تعد تقبل الزفاف إليه، فعزم على الانتقام منها بالقتل قبل أن يأتي أحد لنجدتها فأخرج مسدسه وشهره عليها، وقال: «ألا ترجعين عن غيك؟» ولما رآه طهماز يشهر المسدس حسبه يهددها فأمسك بيد ابنته ليوبخها، فانتثرت منه وقد أصبحت كاللبؤة الهائجة، وهمت أن تستل خنجرها وتطعن صائبا، فرأت باب الغرفة قد فتح بقوة وسمعت طلقا ناريا وقائلا يقول: «هذا عن جمعية الاتحاد والترقي»، ثم سمعت طلقا آخر وقائلا يقول: «وهذا عن رامز.» وصاح صائب صيحة الألم وسقط على الأرض يتخبط بدمه وسقط مسدسه من يده.
فوقع الرعب في قلب طهماز، ونظر نحو الباب فلم يجد أحدا لأن الضارب أطلق مسدسه ونجا، فتناول الورقة التي كانت في يد صائب وقرأها، فلما علم فحواها خاف لكنه أخذ يصيح: «ويلاه! من ارتكب هذه الجريمة في بيتي؟!» وهرع إلى الدار فوجد القاضي ومعه شاهد واحد وهما في خوف، فقال له طهماز: «ما هذا؟! من فعل ذلك؟!»
فقال القاضي: «لا أدرى يا سيدي، ولعل الشاهد الآخر فعله. والظاهر أنه من أعضاء تلك الجمعية السرية وقد تنكر بثياب شاهد ووقف بباب المحكمة الشرعية، فلما طلبت شاهدين أتوني بهذين، وهو واحد منهما.»
وتقاطر الجيران على صوت الرصاص حتى امتلأ البيت بالناس.
أما شيرين فلما رأت صائبا مجندلا سرها أنه لم يقتل بيدها، لأنها تنزه نفسها أن تكون قاتلة.
فغطت وجهها بكفيها وخرجت إلى غرفة أخرى وأقفلت الباب عليها، وتركت أهل الدار يهتمون بتلك الحادثة. وبعث طهماز رسولا من قبله إلى مدير البوليس ليبعث أحدا لضبط الواقعة، وأوصى الرسول أن ينبه المدير إلى أن المقتول صائب باشا، ظنا منه أنهم يهتمون ويسرعون للبحث عن الجاني من أجله. وصائب إلى تلك الساعة ذو مقام رفيع لدى الحكومة، طوعا للأوامر الواردة بشأنه من القصر. ومكث الناس في بيت طهماز ينتظرون مجيء البوليس والجثة مطروحة في الغرفة وقد أغلقوا عليها الباب، فطال انتظارهم.
فلما استبطئوا الرسول أرسلوا سواه وسواه ولم يعد أحد، وفيما هم في ذلك سمعوا ضوضاء في الشارع والناس يصيحون: «الحرية والمساواة والإخاء. الدستور، الدستور. ليحي الجيش! لتحي الأمة!» فأطلوا فرأوا جماعات الناس يحملون الأعلام ويطوفون الأسواق، يهنئ بعضهم بعضا ويتعانقون ويتصافحون على اختلاف مذاهبهم وعناصرهم وهم ضاحكون فرحون، وقد قام الخطباء والشعراء يخطبون وينشدون فرحا بالدستور.
ولم يكن طهماز ولا جيرانه أو غيرهم ممن في تلك الدار يعلمون شيئا من ذلك، ثم علموا أن السلطان أجاب طلب الأحرار بإعلان الدستور في ذلك اليوم، وأن الجند ورجال الحكومة مشغولون بالاحتفال والفرح، وأن مدير البوليس وغيره من صنائع القصر هربوا واختبئوا، وصارت السيادة إلى أعضاء جمعية الاتحاد والترقي. فرأى طهماز أن التستر أولى به، وأصبح خائفا على نفسه، فأشار إلى القاضي أن يدبر غسل صائب ودفنه بعد أن يخرجه من منزله، ودفع إليه المال اللازم. وأصبح همه مرضاة ابنته لعلمه أنها من الأحرار، وأن رامزا لا يزال حيا وهو آت، فعزم على استرضائها.
وكانت شيرين قد أغلقت الغرفة عليها لتنسى منظر صائب الأخير، وأخذت تفكر فيما قرأته عن رامز وقرب مجيئه، ثم سمعت الضوضاء في الدار فلم تعبأ بها لأنها كانت تتوقع شيئا من ذلك ريثما تضبط الواقعة، فتحولت نحو نافذة تطل على بستان فرأت خادمها خريستو يتشوف إليها، فأشارت إليه أن يأتي فهرول نحوها وهو يرقص من الفرح، فقالت: «أين رامز؟»
فقال: «ربما يأتي في صباح الغد.» وقص عليها ما فعله باختصار، ثم قال: «يظهر أن مقتل صائب أزال عن الأمة المصائب لا عنك فقط.»
فقالت: «وكيف ذلك؟»
قال: «ألم تسمعي الضوضاء في الأسواق والناس يصيحون فرحين بنيل الحرية والدستور؟»
وكانت خالية الذهن من كل شيء، لأنهم منعوا عنها الجرائد والأخبار فصاحت: «الدستور؟! الدستور؟! ماذا تقول؟!»
قال: «نعم يا سيدتي، قد طلب الأحرار من السلطان أن يمنحهم الدستور فأطاعهم، ولذلك حديث ستسمعينه من سيدي رامز أفندي.»
فلم تصدق نفسها لغرابة الخبر، وقد تراكم عليها الفرح من كل ناحية حتى ظنت نفسها في حلم، ثم تذكرت أمها فقالت : «ووالدتي أين هي؟»
قال: «هي في خير بمناستير، وربما تأتي مع سيدي رامز. اصبري إلى الغد.»
وبينما هي في ذلك إذ سمعت قرعا بباب غرفتها فسألت: «من؟»
فأجاب: «أنا طهماز والدك.»
فنهضت وفتحت الباب، فرأت الدمع في عينيه وقد أكب على ابنته يقبلها ويقول: «أهنئك يا حبيبتي بنيل الدستور وببقاء رامز حيا. قرب الله خطواته لنفرح به وبك!»
فلم تستغرب هذا الانقلاب من أبيها لعلمها بضعفه، وكثيرا ما كانت تغضي عن إساءته حتى في إبان ضغطه عليها بشأن رامز، وكانت تعذره لقصر إدراكه، فلما رأته داخلا على هذه الصورة نسيت إساءته وقبلت يده وقالت: «أحمد الله على ذلك يا سيدي.» ثم قالت: «ادع خريستو الخادم، إنه في الخارج.»
فأسرع إليه وناداه فدخل فقالت له: «دبر أمر هذا البيت.»
أما رامز فإن برقية خريستو وصلت إليه في ساعة وصول برقية السلطان إلى الجمعية بقبول طلبها إعلان الدستور، فأصبح في حيرة لا يدري هل يذهب ويترك القوم يفرحون وحدهم أم يبقى!
وأخيرا استأذن في الذهاب إلى سلانيك في أول قطار، وحمل توحيدة معه، وكان أبوه غائبا عن مناستير فلم يخبره بسفره. فوصلا في صباح اليوم التالي فوجد خريستو على المحطة في انتظارهما، وقص عليهما ما جرى فتأسف رامز لأنه لم يقتل صائبا بيده، ولكنه عرف القاتل وهو الفدائي الذي تبرع بذلك في الجلسة الأخيرة للجمعية. وركبوا ورامز يلاحظ حركات الناس في تلك المدينة ومقدار اغتباطهم بالدستور، فلم يكن يجد إلا جماعات يتكلمون عن الدستور ويتبادلون التهاني، والشوارع غاصة بالناس وقد تعانق الشيخ والقسيس والحاخام.
وكانت شيرين قد قضت ليلها أرقة من الفرح بقدوم رامز، فلما أصبح الصباح بعثت خريستو لاستقباله. ولما سمعت صوت المركبة أسرعت إلى النافذة، فرأت والدتها ورامزا نزلا من المركبة، فأسرعت إلى استقبالهما بالباب، فضمتها والدتها وقبلتها وبكت بكاء الفرح، ثم سلمت على رامز وقلبها يخفق، فرأى رامز تغيرا كثيرا في لونها ولم يفته السبب.
ولم يكد يصل إلى الدار حتى استقبله طهماز وضمه إلى صدره وأخذ يقبله والدمع في عينيه ، ويقول: «الحمد الله على سلامتك يا عزيزي!» وكان رامز مثل شيرين من حيث حكمها على طهماز، فالتفت رامز إلى شيرين عند ذلك كأنه يستشيرها في شأن أبيها، فأومأت إليه أن يغض النظر عما مضى، فقبل يد عمه، وجلسوا يتحادثون، وأكثر الحديث بين رامز وشيرين، ولو أردنا بسطه لأعدنا أكثر ما جاء في هذه الرواية.
وفي اليوم التالي أتى أبوه ووافق على الإغضاء عن ذنب طهماز لعلمه بضعفه، وقال: «إن جمعية الاتحاد والترقي شأنها الإغضاء عن السيئات، وليس في الدنيا من أساءهم مثل عبد الحميد، فلما نالوا الدستور أغضوا عما مضى وعدوه والدهم وتبركوا به، فكيف بوالد الحبيبة؟ عفا الله عما مضى.»
وبعد قليل تكاثر الأحرار في سلانيك من الضباط والملكيين أصحاب رامز، وكانوا يحبونه لأنه كاتبهم وشاعرهم، فاحتفلوا باقترانه احتفالا حضره نخبة الأحرار، وفيهم أنور ونيازي والأميرالاي فوزي بك والقادين ج والدكتور ن وكان قد فرغ من مهمته في يلدز، وجمع كبير من الأحرار. وكان فرح العروسين مزدوجا باجتماع الشمل ونيل الدستور.
Shafi da ba'a sani ba