خرج رامز من هناك كاسف البال، ولم ييأس من لقاء شيرين، فبعث بعض الناس يبحثون عنها في القرى وفي كل مكان ظنها تذهب إليه، فلم يقفوا لها على أثر. واعتقد أن عبد الحميد وجواسيسه هم سبب هذا الشقاء، فازداد نقمة عليهم وأصبح يغتنم الفرص للتفاني في مقاومتهم.
مضت أيام وهو يعمل بمساعدة كاتب الجمعية في كتابة المنشورات ونسخها وتدبير من يوصلها إلى الجهات، وكانوا يرسلونها مع النساء غالبا لبعد الشبهة عنهن في الاشتغال بالسياسة. وبينما هو في ذلك إذ أتته الدعوة للاجتماع في جلسة مستعجلة، وعينوا مكان الاجتماع، وكانوا يجتمعون للمداولة في خبر جديد أو حادث جديد أو تقرير أمر خطير. فلما عقدت الجلسة واستقر الأعضاء في أماكنهم قال الرئيس: «دعوناكم الليلة لأخبار عظيمة الأهمية جاءتنا من طريق مركز سلانيك، وقد حلها الأخ الكاتب وهو يتلوها. تفضل أيها الأخ اتلها علينا.» وأشار إلى كاتب السر.
فوقف كاتب السر وبيده ورقة وقال: «هذا الكتاب من مركز الجمعية المقدسة في سلانيك، تذكر فيه أنها تلقت رسالة من أخينا الدكتور ن من يلدز تحتوي على أخبار عظيمة الأهمية، وهذه صورة الرسالة كما هي.» وأخذ الكاتب يتلو رسالة الدكتور، وهذا نصها:
تأخرت عليكم في إرسال الأخبار إذ لم أوفق إلى من يحمل رسالتي إليكم هذه المرة، لأن التشديد في المراقبة أصبح فائق الحد وأصبح الطاغية يخاف من خياله ويشك في نفسه. إن أخباري هذه المرة حسنة ومهمة، اعلموا أولا أن إصابة ناظم بك بالرصاص ومقتل سامي بك كان لهما تأثير شديد في نفسه وفي نفسي، بارك الله فيكم! أما هو فإنه قام وقعد والتف جواسيسه حوله وتملقوه وحضوه على التشديد والفتك، فعهد إلى شمسي باشا الفظ الغليظ القلب مهمة تعقبكم والفتك بكم. وقد أرسل الجواسيس - وفيهم صائب - لبث روح الشقاق بين العناصر والمذاهب، فاحذروا من هذا اللعين! واعلموا أن الطاغية خائف من اجتماع الكلمة فهو يبذل ما في وسعه لتفريقها، فوجهوا عنايتكم إلى مقاومة ذلك بإرسال المنشورات إلى المسيحيين من كل الطوائف تحذرونهم شر التفريق.
ويسرني أن أبشركم بأمر وفقنا إليه ولم يكن في الحسبان، وذلك أن إحدى نساء السلطان فرت من القصر وهي شديدة النقمة عليه وتريد قتله، واسمها القادين ج ومعها الياور فوزي بك أحد قواد الحرس الألباني، والغالب أنهما قصدا ألبانيا لأن الياور المذكور منها. ويسوءني أن أخبركم بفقد الأخ الحبيب رامز، فإني علمت بوجوده في قصر مالطة فذهبت لأراه، فأخبرت أنه طلب إلى القصر في منتصف الليل ولم يرجع.
فحدث عند ذلك تمتمة وضحك وحركة، وتوجهت الأنظار إلى رامز.
ثم عاد الكاتب إلى القراءة فقال: «ومن غريب الاتفاق أن شيرين بنة طهماز الذي تعرفونه أتت يلدز من تلقاء نفسها، وأظهرت من البسالة وصدق السعي في مصلحة الجمعية ما يندر مثاله، وخاطبت السلطان خطابا لم يجرؤ أحد على مثله!» فحدث ضجيج بين الأعضاء وشخصت أبصار الجميع لما يكون من تتمة الكلام. أما رامز فتسارعت دقات قلبه ونسي موقفه تطلعا لما يأتي عن شيرين، وأتم الكاتب القراءة فقال: «وأبشركم بأنها نجت بعد أن وقعت في خطر القتل، وكانت من أكبر الوسائل المساعدة على فرار القادين المتقدم ذكرها. فإذا كان أخونا رامز لا يزال على قيد الحياة فإني أهنئه بها.»
فعاد الضجيج، وقام صادق بك ونادى رامزا وهنأه.
ثم تلا الكاتب تتمة رسالة مركز سلانيك فقال: «مما جاء في رسالة أخينا الدكتور ن تتحقق حاجتنا إلى مقاومة مساعي أولئك الأشرار، وقد كتبنا صورة منشور إلى الأهالي والقبائل نرجو أن توزعوه بمعرفتكم. وكذلك تجدون مع هذا صورة عريضة رفعناها إلى قناصل الدول هنا تطلعهم على أحوالنا مع سلطاننا وحكومتنا، فوزعوا منها نسخا على القناصل في جهاتكم لتكون أعمالنا مبنية على الحكمة والتعقل. ويسرنا أن نخبركم أن أخانا طوسون بك الذي تنكر بلباس الدراويش وسار لبث روح الجمعية المقدسة في الأناضول قد أفلح وأنشأ فروعا من الشعب في تلك البلاد انتظم فيها أكثر ضباط الفيلق الثالث.»
فلما فرغ الكاتب من تلاوة الرسالة تنفس الأعضاء الصعداء ولا سيما رامز فقد كان تأثيره مزدوجا، وأهمه أمر شيرين لكنه صبر نفسه إلى الخروج من الجلسة. وأخذ الأعضاء يتباحثون فقال صادق بك بما عهد فيه من الرزانة في أحرج المواقف: «هذه يا إخواني أخبار مهمة تستوجب إعمال الفكر، وأهمها في نظري إرسال الجواسيس لبث روح الشقاق. وقد سبقنا إخواننا في سلانيك إلى نشر المنشورات في سبيل الوفاق بين الطوائف، وأرى أن نعيد الكرة ونذكر في منشوراتنا سعي الظالمين وأعمالهم، وأن نترجم هذه المنشورات إلى اللغات البلغارية والسرية والألبانية ونفرقها في الرؤساء ومشايخ القرى وزعماء القبائل والعصابات، فما رأيكم؟»
Shafi da ba'a sani ba