ثم إنك تجد أناسا ينتحرون لأسباب تافهة، مثل وجع الضرس أو فشل في أمر يحاوله، أو موت قريب، أو ضياع شيء عزيز ... ولكنك إذا تأملت علمت أن هذه الأسباب ليست أساس انتحارهم، وإنما هي حوادث يقع فيها الانتحار. أما سبب انتحارهم فهو تغلب رغبتهم في الموت على رغبتهم في الحياة. وكره الحياة الذي يدعو إلى الانتحار ليس مما يتهيأ لكل إنسان، ولا يكون نصيب المرء منه على قدر مصائبه، بل هو دافع لا يملك المرء له دافعا حتى ولو كانت تظلله غصون النعيم وثماره وأزهاره. وليس من سبب لبغض المنتحرين وانتقاصهم إلا حب الأحياء أنفسهم، وخوفهم من الموت.
لقد حاولت مرات أن أنتحر فرارا من سلطان القضاء، فأخذت سكينا وأدنيتها من صدري، ثم قدرت مكان القلب وقلت: هنا ينبغي أن أضرب نفسي الضربة القاضية، فلم تهن علي نفسي، فقلت: الليلة الآتية أفعل ذلك، ولما أتت تلك الليلة أرجأت الانتحار إلى ليلة أخرى، حتى أفكر في طرق الانتحار، وأختار منها واحدة. وكلما حزت بنفسي قيود الأقدار وحاولت أمرا فيه خيري تمنعني عنه الأقدار وتدفعني عنه إلى ما فيه ضري، عاودني خاطر الانتحار، ثم أتناساه بالملاهي والغفلة والتغابي والتبلد. ويل للإنسان يخضع لسلطان القضاء حتى في رغبته في التخلص من الحياة!
إن الحياة حلوة بالرغم من مرارتها. نعم إن حلاوتها لا تنسي المرء مرارتها، ولكن مرارتها أيضا لا تنسيه حلاوتها، على أن المرارة تغطي على الحلاوة وتفسدها وتمر طعمها، ولكن الحلاوة لا تصلح طعم المرارة، وإن كانت تكسر من غضاضتها.
العجب واليأس
لا تطلب من الناس الكمال فتيأس منهم، وتضيع ثقتك بهم، وتمل من أجل ذلك الحياة، فإن طلبك الكمال من الناس ضرب من الغرور وحب النفس والعجب، فإنما تطلب منهم ذلك الكمال لتنتفع به.
لقد كنت في صغري كثير الثقة بالناس، كثير المودة لهم؛ ولربما كان ذلك سبب قلة ثقتي بهم الآن. كنت آتي إليهم وأظهر لهم الثقة بهم فيظهرون الحذر مني. كنت أدور على بيوتهم أستجدي قليلا من الإخاء فلا أجده لديهم. كنت «دون كيشوت» صغيرا يطلب من الناس الكمال، ولكني لم يكن عندي صبر «دون كيشوت» وأمله وعزمه. ولا غرابة في جزعي حين رأيت أن الناس ليسوا عند ما ظننت فيهم من الكمال، فإن من أعمته ثقته بالناس عن عيوبهم، لا بد أن تعميه التجارب عن حسناتهم. ومن أجل ذلك صرت إذا رأيت من إخواني مللا حسبته غاية الغدر، وإذا رأيت منهم خدعة حسبتها غاية النفاق واللؤم، وإذا رأيت منهم جفوة حسبتها غاية البغض. ومما زاد امتعاضي منهم أني لم أفطن إلى ما في نفسي من الغرور والأنانية، ولم أعرف أن في غروري وأنانيتي عذرا للناس على ما في نفوسهم من أمثال هذه الصفات.
إن إعجاب المرء بنفسه لا بأس به إذا أغراه بالمحامد وزجره عن المقابح، ولكنه إذا عظم واشتد كان سبب شقائه؛ لأنه يريد أن يحمل الناس على أن يكون في كل كلمة يقولونها أو عمل يعملونه ما يرضي إعجابه بنفسه، وهذا لا يستقيم له؛ فيحزن وييأس، ولا ينتفع به طول حياته ولا ينتفع هو بحياته.
الكذب
ينبغي لك أن توطن نفسك على أن كل الناس كاذب، من الأمير إلى سائق الحمير، فاتخذ لنفسك عدة تنفي بها ما قد يجلبه لك كذبهم من الشر. ولا تنس أن المرء مهما كان واسع الجاه معظما، أو كثير التقوى والصلاح، لا يأنف من استخدام الكذب في مآربه؛ لأن الكذب سهل المخرج، يخرج من الفم كالبصاق، ولولا ما يخشاه المرء من عاقبة الفضيحة إذا ظهر كذبه؛ لكانت حياته كلها كذبة كبيرة مستطيلة. والحياة عند كثير من الناس مثل هذه الكذبة. وبعض الناس يشوب كذبه بشيء من الصدق؛ ليكون أسير في الأفواه، وهذا أخبث الكذب وأشده إيلاما وأوسعه ضررا، ثم يحسب أنه صنع الخير والإحسان والبر بأن لم يكذب الكذب كله، ويعلم أن شوب الكذب بشيء من الصدق أبلغ في الكذب.
والكذب هو الطعام الذي يتغذى به الإنسان، والشراب الذي يروي به ظمأه، والهواء الذي ينشقه، والسماء التي تظله، والأرض التي تحمله، فليس له غنى عنه في كل لحظة من حياته. فالإنسان حيوان كاذب ثرثار، والناس يزينون كلامهم بشيء من الكذب، إما بثلث أو بربع أو بثمن. والحق الذي بالباطل أسير من الحق المحض. والصدق المشوب بالكذب كالدنانير التي يشاب معدنها النفيس بمعدن خسيس؛ كي لا يبريها لمس الأيدي. وكلما كانت الأمة أقرب عهدا بالجهل والظلم، وأوفر منهما نصيبا، كانت أوفر نصيبا من الكذب، فالجاهل كثير الكذب؛ لأنه لا يعرف أن مقادير الكلام تعين قيمته من صدق أو كذب، والمغلوب على أمره يكثر من الكذب؛ كي يتجنب بوادر المستبد.
Shafi da ba'a sani ba