وأمسي وما أعقبت إلا التعجبا
حدثني رجل من الجهلاء المعممين قال: أنت مخير؛ لأنك إذا أردت أن ترفع يدك لم يمنعك مانع. قلت: لقد كنت تكون مخيرا لو أصابك الله بشلل في يدك، فأنكرت أن يصيبك شيء لم ترده، ورفعت يدك بالرغم من شللها الذي أنكرته؛ لأنك لم تخلقه ولم ترده. فإذا كنت لم تخلق الشلل في يدك، ولا الخبل في عقلك، ولا الجنة في نفسك، فكيف تنسب إليها فسادها وميلها إلى الشر، وهذه أشياء سواسية؟!
خواطر الانتحار
يرى المرء ما فيه خيره فلا يقدر أن يدركه، ويرى ما فيه ضره فلا يقدر أن يتجنبه. ويريد أن يكسر قيود القضاء، وأن يكون مخيرا فلا يقدر، ويوجعه عض تلك القيود التي هي كالذئاب المفترسة ، ويؤلمه نهشها حتى يصرخ صرخات تجرح الحلق وتخرج بالدم. وكأني به قد جرى مع الصبا سلس العنان، فأحيا الليل وأمات النهار، وفعل ما يفعل المرء في شبابه من تصيد اللذات، يفعل ذلك في أول الأمر خلسة حتى يصير عادة محبوبة، ويبلغ من حب الخمر واللذات الجنون، فيصدق فيه قول حسان بن ثابت:
إن شرخ الشباب والشعر الأس
ود ما لم يعاص كان جنونا
فما يزال يزاول هذا الجنون حتى يتقصاه ناحية ناحية ومعنى معنى وعاطفة عاطفة. يرجع إلى بيته في أواخر الليل وقد قضى منه ما قضى، فيرتمي على فراشه حتى يقوم في الظهيرة منتفخ العينين، موجع الأعصاب، يمسي كأنه قد أنفق في تلك الليلة خمسين سنة من سني عمره، وهو يحسب أن الشباب كنز لا يفنى، فيعذل نفسه ويسمعها تقريعا مرا ويلطم وجهه ويضرب ناحية قلبه بيده، ويبكي بكاء شديدا.
ثم يعزم كل العزم على هجر ما فيه ضره، فما هو إلا أن يجيء الليل وينسى آلام الصباح، ويرتدي ثيابه ثم يحس كأن شيطانا قد أفاق في نفسه وتمطى فيها، فيعيد في الليلة ما فعله في ليلة أمس.
ثم يقوم بين الصبيحة والظهيرة مر الحلق، مر الفم موجع القلب والعظم، فيقول: أين عزم الصباح؟ أين ما أردته؟ وأين ما يزعمون من التخيير؟ أين معين على ما لا أقدر عليه من نفسي؟ كم عزمت وكم أردت وكم خادعت نفسي وزعمت أني قادر، وكم حاولت أن أكون قادرا! ولكن القدرة ليست في يدي، أصرفها كيف أشاء. أصحيح ما يزعم اللائم من تقصيري في إرادة ما فيه خيري، واجتناب ما فيه ضري؟ كلا، فقد أردت كل الإرادة وعزمت كل العزم، حتى صرت أود لو يظهر لي ذلك الشيء الذي يمنعني من اجتناب ذلك الضر، أو بلوغ ذلك الخير فأقتله حتى ولو كان في قتله العقاب. وعندئذ يحس المرء ضعفه أمام القضاء، حتى يخيل له كأن القضاء يبرز له وجهه في الفضاء، ويسخر منه ويهزأ به ضاحكا؛ فيكاد المرء من غيظه يلقمه الحجر . ثم يعاود نفسه فيقول: ينبغي لي أن أتشجع وأن لا أيأس، وأن أعزم عزما أعظم من العزم الأول. فيعزم ويريد، ولكن شيطانا يفيق في نفسه ويتثاءب ويتمطى فيها، ثم يرقص فيه رقص المجنون أو رقص الزنوج، فيرى المرء نفسه غريقا في تيار المقادير، الذي يقذف به إلى الشقاء. ثم يخطر له خاطر الانتحار، فيقول: الانتحار سلاح أحارب به القضاء، وأمنعه به من أن ينال مأربه عندي! ولكن قدرة المرء على التخلص من الحياة تسليه عن كثير من همومها، وتساعده على تحملها، فإنه يقول لنفسه: تشجعي يا نفس، فإذا اشتدت بك الهموم أطلقتك من إسارك! فإذا اشتدت به الهموم ناجى نفسه قائلا: قد اشتدت بك الهموم، ولكن بعد العسر يسرا، والحياة حلوة والموت مر مجهول، فلا بأس من تحمل الهموم، ما دامت للحياة حلاوة، ولكن إذا اشتدت بك الهموم بعد اليوم، أطلقتك من إسارك!
هكذا يخادع المرء نفسه، ويعللها طول حياته؛ كي لا تتأذى بمرارتها. فإن المرء لا يقدر على الانتحار متى شاء، فإنه قد يريد الانتحار ولكنه يعجز عنه، بالرغم من شدة همومه وآلامه.
Shafi da ba'a sani ba