وكان أتباع حرية الإرادة الأولون قد اتخذوا اسم «القدرية»، بيد أن هذه التسمية كانت ترى مبهمة؛ وذلك لأن كلمة «القدر» يمكن أن تدل - بالتساوي - على قدرة الله وأمره أو على قدرة الإنسان وحريته، كما أن كلمة «القدرية» يمكن أن تدل - في الوقت نفسه - على أنصار حرية الإرادة أو على خصومهم، فلما قال المعتزلة بعقيدة حرية الإرادة نبذوا اسم القدرية، وأطلقوا على حرية الإرادة كلمة «العدل».
ومؤسس فرقة المعتزلة الكبرى هو واصل بن عطاء. وقد ولد في المدينة سنة 80، وأعتقه بنو مخزوم أو بنو ضبة، ومات سنة 131، وكان خطيبا، ولكن مع عجزه عن النطق بحرف الراء واستبدال حرف الغين به، وإن شئت فقل: إنه كان يلثغ بالراء، بيد أنه كان من الاطلاع على العربية وسهولة اللفظ بحيث يوفق في كلامه لاجتناب الألفاظ المشتملة على الراء، وهذا ما حمل أحد الشعراء على القول:
أجعلت وصلي الراء لم تنطق به
وقطعتني حتى كأنك واصل
وكان واصل تلميذا للحسن البصري في البداءة، ثم انفصل عنه بسبب رأي جديد أبداه حول حال المؤمنين الذين يقترفون إحدى الكبائر، فقال: «إن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، منزلة بين منزلتين.» وظل هذا الرأي في فرقته، حاملا اسم مذهب «المنزلة بين المنزلتين»، وإلى هذا الظرف يرد أصل اسم المعتزلة.
وبدأ واصل بإنكار صفات الله أيضا، وكان يقصد بإبدائه هذا المذهب تخليص التوحيد المحض، فكان لا يدرك وحدانية إله ذي صفات، وكان يقول: «من أثبت معنى وصفة قديمة فقد أثبت إلهين.» ومع ذلك، يظهر أنه لم ينضج هذه النظرية بما نستطيع أن نحكم فيه لفقدان كتبه. وقد كان كجميع المعتزلة، كثير الصراحة في الإيمان بحرية الإرادة فقال: «لا يجوز أن يريد الباري من العباد خلاف ما يأمر.» وقد كان يوافق على الأمر الإلهي فيما يتعلق بالحوادث الخارجية واليسر والعسر والمرض والصحة والحياة والموت، وإن شئت فقل: إنه كان يوافق على الجبرية الفزياوية، ولكنه كان يرفض الجبرية الأدبية.
وكان عمرو بن عبيد - الذي هو رئيس مشهور آخر للمعتزلة - معاصرا لواصل بن عطاء، فانفصل مثله عن مدرسة الحسن البصري، وكان وجيها ذا طبع ممتع، ويظهر أنه من أصل أفغاني؛ أي إن جده من الذين وقعوا أسرى بيد المسلمين في كابل، وقد أعتقه بنو تميم، وقد حضره الموت سنة 144 أو سنة 145.
ويبدي المسعودي إعجابا كبيرا بعمرو بن عبيد، قائلا عنه: «كان شيخ المعتزلة في وقته والأول فيها، وكذلك لمن طرأ بعده، وله رسائل وخطب وكلام كثير في العدل والتوحيد، وغير ذلك.» ولا نعرف هذه المؤلفات، ويستند هذا المؤرخ في هذا المديح إلى بعض الأحاديث التي تدل على طبع هذا الوجيه الرفيع مع شيء من المجون.
5
والأبيات الآتية - التي روى المسعودي أن عمرا أنشدها بين يدي المنصور - تعطي عن عمرو فكرة عالية:
Shafi da ba'a sani ba