ويختلف الأشعري والماتريدي في بعض الأحكام، أو - على الأصح - في بعض التعبيرات. فإذا التمسنا بينهما فرقا مجملا جاز أن يقال: إن الأشعري كان أقرب إلى النص وأن الماتريدي كان أقرب إلى التأويل. ويدل على الفارق بينهما جواب هذا السؤال: بماذا وجب الدين؟ فالمعتزلة تقول بالعقل، والأشعري وأصحابه يقولون بالأمر الإلهي، والماتريدي وأصحابه يقولون بالأمر الإلهي، وهو أمر تفهمه العقول.
ولا يفوتنا هنا أن نلاحظ أن الماتريدي كان أقرب الأئمة المتكلمين إلى موطن ابن سينا؛ لأنه نشر مذهبه في سمرقند وتوفي قبل مولد ابن سينا بنحو ثلاثين سنة.
وقد اشترك الفارابي في هذه المباحث فكان رأيه في الصفات أقرب إلى رأي المعتزلة والفلاسفة، وكان رأيه في الحرية الإنسانية أقرب إلى رأي الأشعرية؛ لأنه كما قدمنا يقول بالوجوب من الموجود الأول إلى سائر الموجودات، ما عدا العالم السفلي الذي يقع فيه الوجود بالإمكان، وهو مع ذلك على صلة بالعقل الفعال، وليس العقل الفعال عند الفارابي غير الروح القدس أو الروح الأمين.
أما رؤية الله فلا يمنعها الفارابي «فالحق الأول لا يخفى عليه ذاته، وليس ذلك باستدلال. فجائز على ذاته مشاهدة كماله من ذاته، فإذا تجلى لغيره مغنيا عن الاستدلال، وكان بلا مباشرة ولا مماسة كان مرئيا لذلك الغير، حتى لو جازت المباشرة تعالى عنها لكان ملموسا أو مذوقا أو غير ذلك. وإذا كان في قدرة الصانع أن يجعل قوة هذا الإدراك في عضو البصر الذي يكون بعد البحث لم يبعد عن أن يكون تعالى مرئيا يوم القيامة من غير تشبيه ولا تكييف ولا مسامتة ولا محاداة، تعالى عما يشركون.» •••
وبقيت فرقة دينية لها خطرها في نشأة ابن سينا لأنه نشأ في بيته وهو يسمع أقوالها في العقل والنفس كما تقدم فيما رواه عن أبيه وأخيه، وهي فرقة الإسماعيلية أو الباطنية التي تنتمي إلى الفاطميين، وهذه هي أقوالها في الله والعالم والنفس والعقل كما رواها الشهرستاني في كتابه الملل والنحل حيث قال: «... وصنفوا كتبهم على ذلك المنهاج، فقالوا في الباري تعالى إنا لا نقول هو موجود أو لا موجود، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، وكذلك في جميع الصفات، فإن الإثبات الحقيقي يقتضي شركة بينه وبين سائر الموجودات في الجهة التي أطلقنا عليه. وذلك تشبيه، فلم يكن الحكم بالإثبات المطلق والنفي المطلق، بل هو إله المتقابلين وخالق الخصمين، والحاكم بين المتضادين. ويقولون في هذا أيضا عن محمد بن علي الباقر أنه قال: لما وهب العلم للعالمين قيل هو عالم ولما وهب القدرة للقادرين قيل هو قادر، فهو عالم وقادر بمعنى أنه وهب العلم والقدرة لا بمعنى أنه قام به العلم والقدرة أو وصف بالعلم والقدرة ... قالوا: وكذلك نقول في القدم إنه ليس بقديم ولا محدث، بل القديم أمره وكلمته والمحدث خلقه وفطرته: أبدع بالأمر العقل الأول الذي هو تام بالفعل ثم بتوسطه أبدع النفس الثاني الذي هو غير تام، ونسبة النفس إلى العقل إما بنسبة النطفة إلى تمام الخلقة والبيض إلى الطير، وإما نسبة الولد إلى الوالد، والنتيجة إلى المنتج، وإما نسبة الأنثى إلى الذكر، والزوج إلى الزوج ... قالوا: ولما اشتاقت النفس إلى كمال العقل احتاجت إلى حركة من النقص إلى الكمال، واحتاجت الحركة إلى آلة الحركة، فحدثت الأفلاك السماوية وتحركت حركة دورية بتدبير النفس أيضا، فتركبت المركبات من المعادن والنبات والحيوان والإنسان، واتصلت النفوس الجزئية بالأبدان، وكان نوع الإنسان متميزا عن سائر الموجودات بالاستعداد الخاص لفيض تلك الأنوار، وكان عالمه في مقابلة العالم كله، وفي العالم العلوي عقل ونفس كلي وجب أن يكون في هذا العالم عقل شخص وهو كل، وحكمه حكم الشخص الكامل البالغ ويسمونه الناطق وهو النبي، ونفس مشخصة هو كل أيضا وحكمها حكم الطفل الناقص المتوجه إلى الكمال أو حكم النطفة المتوجهة إلى التمام أو حكم الأنثى المزدوج بالذكر ويسمونه الأساس وهو الوصي ... قالوا: وكما تحركت الأفلاك بتحريك النفس والعقل والطبائع كذلك تحركت النفوس والأشخاص بالشرائع بتحريك النبي، والوصي في كل زمان دائر على سبعة سبعة حتى ينتهي إلى الدور الأخير ويدخل زمان القيامة وترتفع التكاليف وتضمحل السنن والشرائع، وإنما هذه الحركات الفلكية والسنن الشرعية لتبلغ النفس إلى حال كمالها، وكمالها بلوغها إلى درجة العقل واتحادها به ووصولها إلى مرتبته فعلا، وذلك هو القيامة الكبرى ... ويحاسب الخلق ويتميز الخير من الشر والمطيع من العاصي، وتتصل جزئيات الحق بالنفس الكلي وجزئيات الباطل بالشيطان المبطل، فمن وقت الحركة إلى السكون هو المبدأ، ومن وقت السكون إلى ما لا نهاية له هو الكمال ...» •••
وفي هذا المذهب الإسماعيلي كما نرى آثار من العقائد الدينية ومن مذاهب أرسطو وأفلاطون وأفلوطين، ومن حكمة الهند كما تمثلت قديما في بعض آراء فيثاغوراس، وتمثلت حديثا في بعض آراء أفلوطين، وفيه شيء من المعتزلة وشيء من المتكلمين، ودليل على حالة الأفكار والعقائد في الزمن الذي نبغ فيه الشيخ الرئيس، وفي البيئة التي تنسم لديها أول نسمات الحياة. (3-5) مذهب ابن سينا
أولئك هم أسلاف ابن سينا الفكريون على وجه الإجمال.
وسنرى من ملخص مذهبه مقاربة ملحوظة بينه وبين كل واحد منهم في بعض الأمور: فهو يقارب الفارابي في التوفيقات الدينية، ويقارب فرفريوس والأفروديسي في الرموز الصوفية، ويقارب أرسطو في التفكير المنطقي، ويقارب أفلاطون في النزعة الفنية.
ومن مقاربته لأفلاطون أنه يصطنع مثله أسلوب الأساطير الرمزية لتوضيح ما يريد أو الكناية عما يرمي إليه. كما صنع في رسالة حي بن يقظان ورسالة الطير، وهو يرمز إلى النفس الإنسانية واشتباكها بشهوات هذا العالم للتطهر بالعمل والرياضة ... وهذا نموذج منها على لسان طائر يروي قصة وقوعه في الشرك «... برزت طائفة تقتنص فنصبوا الحبائل ورتبوا الشرك وهيئوا الأطعمة وتواروا في الحشيش، وأنا في سربة طير إذ لحظونا فصفروا مستدعين، فأحسسنا بخصب وأصحاب. ما تخالج في صدورنا ريبة، ولا زعزعتنا عن قصدنا تهمة، فابتدرنا إليهم مقبلين، وسقطنا في خلال الحبائل أجمعين، فإذا الحلق ينضم على أعناقنا والشرك يتشبث بأجنحتنا، والحبائل تتعلق بأرجلنا، ففزعنا إلى الحركة فما زادتنا إلا تعسيرا، فاستسلمنا للهلاك وشغل كل واحد منا ما خصه من الكرب عن الاهتمام لأخيه، وأقبلنا نتبين الحيل في سبيل التخلص زمانا حتى أنسينا صورة أمرنا، واستأنسنا بالشرك واطمأننا إلى الأقفاص، فاطلعت ذات يوم من خلال الشبك فلحظت رفقة من الطير أخرجت رءوسها وأجنحتها عن الشرك وبرزت عن أقفاصها تطير وفي أرجلها بقايا الحبائل لا هي تؤدها فتعصمها النجاة ولا تبينها فتصفوا لها الحياة، فذكرتني ما كنت أنسيت ونغصت علي ما ألفته، فكدت أنحل تأسفا أو ينسل روحي تلهفا، فناديتهم من وراء القفص أن اقربوا مني فوقفوني على حيلة الراحة، فقد أعنتني طول المقام. فتذكروا خدع المقتنصين فما زادوا إلا نفارا ...» إلى آخر الأسطورة على هذا النسق من الرمز والإيماء إلى مجاهدات النفس في سبيل الخلاص من أوهاق الشهوات.
فلم يكن نصيب أفلاطون بالقليل في تنشئة الشيخ الرئيس وإن كان المشهور عنه أنه خليفة أرسطو بين المناطقة في المشرق والمغرب. فالواقع أنه كذلك، وأنه مع ذلك قريب إلى أفلاطون قرابتين: إحداهما مزاجه الفني وملكة الخيال التي كانت قوية فيه حتى اعتقد أن الكواكب لها نفوس ومخيلات، والأخرى قراءته للفارابي وهو من المعظمين لأفلاطون والمؤمنين بالأفلاطونية الحديثة.
Shafi da ba'a sani ba