الحرية الإنسانية
وقد وضح نصيب الإنسان من الحرية في هذه الفلسفة الفارابية، وتبين لنا من مستلزماتها أن الوجوب مقترن بواجب الوجود وبالصدورات والفيوض التي تنبثق من وجوده على وجه اللزوم.
ولكن الفارابي على هذا يؤمن بالدعاء والصلاة؛ لأنه يؤمن بأن الله يوحي إلى العقل الفعال أن يستجمع الصور وأن يصطفي العقول التي تتجه إليه بقدر مقدور. فعسى أن تكون الرياضات والصلوات من توجيه ذلك القدر المقدور. وقد حفظت له دعوات يقول في بعضها: «... اللهم ألبسني حلل البهاء وكرامات الأنبياء وسعادة الأغنياء وعلوم الحكماء وخشوع الأتقياء. اللهم أنقذني من عالم الشقاء والفناء واجعلني من إخوان الصفاء وأصحاب الوفاء وسكان السماء مع الصديقين والشهداء، أنت الله الذي لا إله إلا أنت. علة الأشياء ونور الأرض والسماء. امنحني فيضا من العقل الفعال يا ذا الجلال والإفضال، هذب نفسي بأنوار الحكمة وأوزعني شكر ما أوليتني من نعمة. أرني الحق حقا وألهمني اتباعه، والباطل باطلا واحرمني اعتقاده واستماعه. هذب نفسي من طينة الهيولى إنك أنت العلة الأولى ...» •••
ولعلنا في غنى عن التنبيه إلى ما نتوخاه من هذه الملخصات والمقابلات، فنحن نقصرها على الجانب الذي يتناول مشكلات الفلسفة الإلهية دون غيرها، وليس من شأنها استقصاء المذهب من جميع أطرافه ولا التعريف بصاحبه في جميع دراساته وإلا لضاق بنا المجال دون تلخيص الفارابي ودراساته في هذه الصفحات؛ لأنه كتب في المنطق والطبيعيات والرياضيات كما كتب في الطب والأخلاق والسياسة، وبرع في الفن كما برع في العلم. فقيل عن إتقانه للموسيقى إنه واضع القانون، وإنه كان إن شاء أضحك وإن شاء أبكى، وإن شاء أيقظ الهاجعين وإن شاء أنام المتيقظين، وبهر الناس بطول الباع في علوم زمانه حتى زعموه يتكلم بسبعين لسانا من ألسنة الأمم، ونقل هذا الزعم عنهم ابن خلكان. ومن عجائب نظراته العلمية أنه كان لا ينكر الكيمياء أصلا ولا يمنع تحول المعادن لأنها كلها من مبادئ واحدة تختلف بالتركيب. •••
وقد عاصر الفارابي أكبر علماء الكلام بين المسلمين وهم أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي والطحاوي، وكانت نشأة الأول في العراق والثاني في سمرقند والثالث بمصر، ومعنى ذلك أن الاشتغال بالبحث المنطقي قد عم المسلمين جميعا في أوائل القرن الثالث، من معتزلة ومتكلمين وفلاسفة وفقهاء، بين جميع الأقطار والأقوام. وربما كان الفارابي والمتكلمون معا قد تابعوا المعتزلة في تقسيم الموجودات إلى ضرورية وممكنة لأنهم قالوا به قبله وقبل الأشعرية.
وقد كان موضع البحث بينهم هو تلك المشكلات الفلسفية التي لخصنا أقوال الفلاسفة المتقدمين فيها، وكان أكثر البحث في مشكلتين منها: وهما صفات الله ولا سيما الكلام ثم الحرية الإنسانية وهي مشكلة القضاء والقدر في اصطلاح أصحاب الأديان.
فالمعتزلة يؤولون الصفات ويرون أن الوحدة لا تقبل التركيب، وأن القول بوجود صفات قائمة بالذات الإلهية منذ الأزل هو إشراك له سبحانه وتعالى في القدم، وتعليق لتلك الصفات بعالم الزمان والمكان حيث تتجلى أفعال تلك الصفات على اختلاف بين صفة منها وصفة وبين حال منها وحال، ويقولون في تأويل الصفات إنها تتعدد بآثارها ولا تتعدد بمصدرها لأنه واحد لا يقبل التعديد.
وعلماء الكلام - أو الصفاتية كما يعرفون بين المتكلمين - يقولون إن الله عالم قادر مريد، ولا معنى للعالم إلا أنه ذو علم ولا للقادر إلا أنه ذو قدرة ولا للمريد إلا أنه ذو إرادة، فليست الإرادة أو القدرة أو العلم شركاء للذات ولكنها تقتضي تعريف الله بأنه عالم وقادر ومريد. ثم إنهم يقولون بتعدد الصفات وقيامها منذ الأزل بالذات، ويتساءلون: هل يعلم الله بقادريته أو يقدر بعالميته؟ فالعلم والقدرة إذن صفتان لا صفة واحدة كما يقول المعتزلة وإنما يعلم الله علما ليس متميزا عن ذاته، ويقدر بقدرة ليست متميزة عن ذاته، وهي على حد قول مالك بن أنس صفات «معلومة والكيفية مجهولة والإيمان بها واجب» لا تشابه بين صفات الخلق وصفات الخالق لأنه جل وعلا «ليس كمثله شيء» ولا شريك له في ملكه. ومتى ذكرت صفاته فيجب أن تذكر بينها مخالفته للحوادث، فيبطل الاعتراض بقياس هذه الصفات الإلهية على الصفات التي نعهدها في سائر الموصوفات.
ويؤمن المتكلمون بأن الله خلق الإنسان وخلق له الاختيار وخلق الأعمال، وقدر في سابق علمه ما يكون من الخير والشر لحكمة لا نعلمها وعدل لا اعتراض عليه. فهو الموجب لكل شيء ولا يجب عليه شيء من الأشياء. وكل ما في الشرائع من الفرائض سمعي توجبه إرادة الله ولا يوجبه العقل لأن العقل نفسه من صنع موجب الأشياء.
ويمنع المعتزلة أن يرى الله لأن الرؤية لا تكون إلا لمحسوس، ولكن المتكلمين يجيزون رؤية كل موجود على اعتبار أن الرؤية نوع من العلم، وأن العلم يحصل بغير اتصال النور بين الرائي والمرئيات. وكذلك تختلف الطائفتان في كلام الله، فيرى المعتزلة أنه مخلوق بالألفاظ، ويرى المتكلمون أنه قديم كصفة الكلام في الله، وإن فرقوا بين اللفظ وبين تلك الصفة الإلهية .
Shafi da ba'a sani ba