استدعاني أبو بكر بن طفيل يوما فقال لي: سمعت أمير المؤمنين يتشكى من قلق عبارة أرسطوطاليس، أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهما جيدا لقرب مأخذها على الناس؛ فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل. وإني لأرجو أن تفي به لما أعلمه من جودة ذهنك، وصفاء قريحتك، وشدة نزوعك إلى هذه الصناعة. وما يمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كبرة سني، واشتغالي بالخدمة، وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه. قال أبو الوليد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس.
وبرغم ثقل التبعة التي حملها ابن رشد، فقد كان عليه واجب آخر يجب أن يقوم به، وهو ولاية القضاء كما كان أبواه من قبل.
ولي القضاء إذن، والقضاء في الأندلس وفي غيرها من البلاد الإسلامية في ذلك العصر منصب له خطره وجلالته، وحسبنا من منصب يجعل لصاحبه - كما يقول المقري - أن يستقدم الخليفة لمجلس القضاء إن ادعي عليه حق من الحقوق!
وأوجب عليه هذا العمل أن يتنقل بين أفريقية والأندلس؛ فقد ولي أولا قضاء إشبيلية سنة 565ه، ثم ولي القضاء بقرطبة سنة 567ه، وبعد هذا في العام التالي صار قاضي القضاة، أو قاضي الجماعة، فالتسميتان واردتان لمنصب واحد. ومن هذا اليوم اقتعد كرسي جده وأبيه من قبل، وتمت نعمة الله عليه؛ إذ ولي مع قضاء الجماعة منصب الطبيب الخاص للخليفة.
وفي كل هذه الفترة من حياته التي كان إليه القضاء فيها، نجده - كما يروي الذين ترجموا له - محمود السيرة عند العامة والخاصة، وعند الخليفة أيضا، وينفق من نفسه وماله وجاهه ليكون خيرا لأهل بلده خاصة، ولأهل الأندلس عامة، كما ذكرنا من قبل.
شعوره برسالته
حينما قرب ابن طفيل ابن رشد الحفيد من الخليفة وقدمه إليه، وحينما ندبه لتلخيص كتب المعلم الأول وشرحها، لم يفعل ذلك اعتباطا، أو عن هوى، أو ميل خاص، بل لنقل: إنه فعل ما فعل عن ميل خاص لأبي الوليد يرجع إلى عرفانه به، وباستعداده وحبه للعمل الذي ندبه له، وقدرته على الاضطلاع بالرسالة التي كلف بها.
إنه فكر وقدر، وأطال التفكير والتقدير، فلم ير غير الحفيد حريا بما رغب فيه الخليفة أبو يعقوب، من فهم كتب أرسطوطاليس فهما جيدا، ثم تقريبها إلى الناس؛ لما يعلمه فيه من استعداده لهذا العمل العظيم. وكان أبو الوليد جديرا بما حمله وصادف هوى في نفسه واتفاقا مع نزعتها الفلسفية.
وكان من ذلك أن لم يقل - وقد نال من جاه الخليفة والحظوة لديه حتى صار قاضي القضاة وطبيبه الخاص: الآن ألقت عصاها واستقر بها النوى! ولم يقنع بشيء مما نال، أو بما نال كله، كما يقنع من همه جاه يستطيل به على الإخوان والنظراء، ومنصب يركب به الرقاب، وينيله ما يشاء ويرضى من هناءة الحياة ومتعها ولذاتها.
إن همه كان شيئا آخر، وإن غايته كانت غاية أخرى، وإنه ليشعر شعورا عميقا بتلك المهمة أو الرسالة التي نيطت به، وبالغاية التي يجب أن يسعى إليها، ويعمل لها. وإن هذا الشعور أو الإحساس ليظهر منه واضحا ملموسا في مناسبات عديدة مختلفة وهو يحمل تكاليف منصب القاضي الأكبر.
Shafi da ba'a sani ba