وأخيرا، نقف وقفة رابعة وأخيرة تتصل برأيه في الفقه، وننتقل بعدها إلى حياته العملية.
إنه لا يرى شعائر الدين وأوامره أمورا تعبد الله بها عباده ليكون لهم ما يتطلعون إليه في الدار الآخرة من حور وولدان وجنات فيها من اللذات والمتع ما لا يخطر على قلب بشر. إن الدين - في رأيه - يرمي بشعائره وأوامره إلى غايات خلقية واجتماعية بها صلاح المجتمع وسعادته. وهذه النظرة السامية نجدها واضحة تمام الوضوح في خاتمة كتابه القيم «بداية المجتهد ونهاية المقتصد».
لقد بين في هذا الموضع أن من أوامر الدين وأحكامه ما يرجع إلى تربية الفضائل النفسية المعروفة، ومنها ما يعود الغرض منه إلى تثبيت العدالة الخاصة والعدالة العامة في الأموال وغير الأموال، ومنها ما هو سنن واردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الإنسان، وحفظ فضائله العملية والعلمية، وهي المعبر عنها بالرياسة؛ ولذلك لزم أيضا أن تكون سنن الأئمة والقوام بالدين.
وهكذا نلمح هذه النظرة في آرائه الفقهية في هذا الموضع، وفي مواضع أخرى كثيرة من هذا الكتاب.
عمله في القضاء
إن رجلا هذا شأنه في الفقه والعلم بصفة عامة، وتلك أخلاقه وخلاله النفسية العالية، كان لا بد من أن يتصل بالخليفة، ومن أن يعرف له هذا قدره، ومقدار ما يفيده العلم وتفيده الأمة منه.
لهذا نراه سنة «548ه/1153م» بمدينة مراكش؛ حيث خليفة الموحدين أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وصفيه ابن طفيل الفيلسوف المعروف؛ فقد كان الخليفة شديد الشغف به، والحب له، حتى ربما كان يقيم عند الخليفة بقصره أياما ليلا ونهارا، كما كان ينوه بالعلماء ويستقدمهم إلى حضرته، ويحضه على إكرامهم، كما يحدثنا المراكشي .
وفي هذه المدينة وجد ابن طفيل الفرصة سانحة لتقديم ابن رشد الفقيه للخليفة المتفلسف، بعد أن دبر أمر هذا التقديم بينه وبين الخليفة، فكان ذلك كما يقصه بنفسه رجلنا؛ إذ يقول:
لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبا بكر ابن طفيل ليس معهما غيرهما، فأخذ أبو بكر يثني علي ويذكر بيتي وسلفي، ويضم إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين، بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي، أن قال لي: ما رأيهم في السماء؛ أقديمة هي أم حادثة؟ فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء، فالتفت إلي ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت، فعرف ما عندي في ذلك، فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب.
وقد كان لهذه المقابلة أو هذا الاختبار الناجح أثره العاجل؛ فإن أبا الوليد نفسه يتم الحديث فيقول:
Shafi da ba'a sani ba