97

وأغرب الشياطين الشعرية كافة ذلك الشيطان الذي ابتدعه خيال وليام بليك بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وليس هو على هذا بأغرب من خيال الشاعر الذي ابتدعه؛ فإنه شاعر في العصر الحديث يدين جدا وصدقا بالمذهب الثنوي ومذهب المعرفيين “Gnostics” ، الذي ذهب معتقدوه بذهاب القرون الوسطى.

كان بليك من أتباع المتنبئ السويدي سويدنبرج، وكان سويدنبرج من أصحاب الرؤى المصدقين لما يعتريهم من حالات الوجد والنشوة الدينية، ووقر في خلده بعد أن جاوز الخمسين، في منتصف القرن الثامن عشر، أنه يتلقى الوحي من عالم الغيب، فاعتزل وظائف الدولة وأعلن خروجه على المذاهب المتبعة، وبشر برسالته التي سماها المسيحية الحقة، وفسر الكتب المسيحية تفسيرا يخالف التفسيرات التي اعتمدتها الكنائس الكبرى، ثم هجر وطنه وأقام بالعاصمة الإنجليزية حتى مات بها (سنة 1772).

ودرج بليك في حجر أسرة إنجليزية تدين بمذهب سويدنبرج، ولكنه انقلب عليه ولم يرجع إلى مذهب من مذاهب الكنائس المعروفة، بل راح يستقل بتفسيراته وتأويلاته على حسب ما يستوحيه من تفكيره وإلهامه، ولم يكن على علم بشيء من اللاهوت ولا من معارف عصره؛ لأنه لم يدخل مدرسة منتظمة في صباه.

وشيطانه يصح أن يكون فكرة مجردة، كما يصح أن يكون روحا إنسانيا، أو ملكا من الملائكة المغضوب عليهم، بل يصح أن يكون عنوانا يضعه الشاعر على كل «شخصية» مفروضة تنتمي إلى الشر والخباثة، وعنده أن الشر كل الشر هو الصرامة في الأوامر والنواهي، والتشدد في المحللات والمحرمات، فكل رب جاء عنه في الأساطير الغابرة والديانات الأولى وصف العبوس والجهامة، واتسم في ضمائر عباده بالقسوة والصرامة؛ فهو شيطان يترقى في الشيطانية، على حسب قسوته وصرامته، إلى منازل الآلهة الوثنيين المنعوتين بآلهة الشر، أو آلهة الظلام.

ومن أوهامه التي لا يدري أحد أهي أوهام شعر أم أوهام اعتقاد ثابت، أن روح الشاعر ملتون حلت فيه لتكفر عن خطيئتها في تصوير السيد المسيح وتصوير إبليس، وأن الكتب القديمة أدخلت في أذهان الناس أن الإنسان ذو حقيقتين جسدية وروحية، وأن نشاط الجسد من الشيطان، ونشاط العقل من الروح، وأن الله يعذب الإنسان عذاب الأبد لمطاوعته بواعث جسده، ولكنه من الحق الذي يناقض هذا أن جسد الإنسان غير منعزل عن روحه؛ لأن حواس الجسد هي منافذ الروح إلى المعرفة، وأن النشاط كله من الجسد دون غيره، وليس العقل إلا الحدود التي تحيط بذلك النشاط، وأن النشاط هو الفرح الأبدي، وما عداه كسل وإحجام عن الحياة.

ولم ينشر بليك مؤلفاته لأنه كان يمقت الطباعة، ويناظرها بأدوات من اختراعه للنقش والرسم والكتابة يرى أنها أليق بالوحي الروحاني من تلك المطبوعات الصناعية. وقد جمعت آثاره بعد موته من قصاصات مشعثة كان يدون فيها خواطره، ويتم بعضها ويترك بعضها مبتورا في نهايته، أو مبتورا في أوله ووسطه. وهذه شذرة منها تعود أن يدونها بعنوان «خطرة مذكورة»، وفي الخطرة التالية عن الشيطان والملك يقول:

رأيت يوما شيطانا في لهيب النار يرفع هامته إلى ملك جالس على سحابة، ويصيح به: اسمع يا هذا، إن عبادة الله هي تمجيد هباته لغيرك على قدر هذه الهبات، واختصاص أعظم الناس بأعظم المحبة، وما الذين يحسدون العظيم أو يفترون عليه إلا أعداء الله، فلا إله غير ذاك.

وسمع الملك مقاله فازرق، ثم ملك جأشه فاصفر، ثم سكن فابيض، وعلته حمرة وابتسامة، وقال: «يا عابد الصنم! أليس الله بالإله الأحد؟ أليس الله قد تجلى في عيسى المسيح؟ أليس المسيح قد بسط بركته على الوصايا العشر؟ أليس سائر الناس حمقى وخطاة وعدما ونكرات؟»

ثم يلقي بليك على لسان الشيطان ردا يقول فيه: «إذا كان المسيح أعظم إنسان؛ فأحببه حبك للإنسان الأعظم.» ... ثم يحكي له الشواهد من أعمال المسيح ناقضا ما يفهمه الأكثرون من الوصايا العشر، ويختم هذه الشواهد قائلا: «لقد كان عيسى فضيلة كله؛ لأنه كان يعمل بباعث عطفه ولا يتقيد بالقيود.»

وكل ما ألقاه بليك على ألسنة الشياطين فهو من قبيل ما تقدم، مع التناقض الذي لا يثبت فيه غير معنى واحد، وهو التبرم بالأوامر الصارمة، والفضائل الجافية، والتفكير المنتظم، وقد قال عن الملائكة: إنها تحسب أنها دون غيرها تتحدث بالحكمة، وكل من يفكر على قياس مطرد خليق أن يغتر هذا الغرور، وأكثر النتف التي تركها تحمل عنوان الخطرة المذكورة، وتجتمع فيها هذه الخطرات بعنوان القران بين السماء والجحيم، وينعقد قران السماء والجحيم، ولقاء الملك والشيطان، في رأيه، بالعمل الذي يصدر من الحب ونشاط الجسد منبعثا بوحي الفطرة الصادقة.

Shafi da ba'a sani ba