وإذا لخص النزاع بين زيوس وبرومثيوس في قصة مفهومة، فليس لفهمه وجه من الوجوه على غير معنى واحد، وهو النزاع بين صاحب حظ غالب وصاحب حظ مغلوب. ولعل فلاسفة اليونان لم يجتهدوا اجتهادهم في كلامهم على السبب والمصادفة - أو البخت كما ترجمه الفارابي - إلا لأنهم كانوا يلقون «البخت» أمامهم عقبة قائمة في طريق كل تفكير، وكان إيمان العظماء به قد بلغ من الرسوخ والخطر ألا يقدم أحدهم خطة من خطط السلم، أو غزوة من غزوات الحرب، إلا بعد استطلاع العرافين عن «الحظ» المكتوب له أو عليه.
على أننا - في هذه العجالة - في مقام الحد الفاصل بين الحضارات الأولى والأديان الكتابية من وجهة النظر إلى «قوة الشر العالمية» أمام قوة الخير، أو أمام المشيئة الإلهية التي آمن بها الناس وهم يعلمون فكرة «النوع الإنساني» وما تلاها من فكرة أرفع منها وأشرف، وهي فكرته عن «ضمير الإنسان».
ونحسب أن الحد الفاصل إنما هو الفارق بين التقديم والتأخير بين صفتين من صفات الإله الأكبر؛ وهما: صفة السيادة والسلطان، وصفة الخلق والتكوين.
فالأقدمون قد آمنوا بخلق الله للأكوان، ولكنهم لم يبرزوا صفة الخلق كما أبرزوا صفة السيادة، ولعلهم كانوا منساقين في ذلك مع عقائد الفطريين الأسبقين الذين كانوا يؤمنون بأرواح لم ينسبوا إليها خلق شيء من الأشياء، فضلا عن خلق الكون الذي يحتوي جميع الأشياء، ثم تدرج الناس من عبادة الروح المتسلط إلى عبادة الإله المتسلط، فجعلوا صفة الخلق تابعة لصفة السيادة والسلطان.
أما الديانة الكتابية فقد أبرزت صفة الخلق وجعلتها شاملة لكل ما عداها من الصفات الإلهية، ومنها صفات السيادة وتصريف المقادير، ويأتي من هذا الفارق شيء كثير.
يأتي منه أن الشر في الحالة الأولى إنما يحسب من قبيل الحماقة قبل أن يحسب من قبيل الكنود والفساد، فلا يقال عنه: إنه يليق أو لا يليق كما يقال عنه: إنه عمل حكيم أو غير حكيم. وبين هذا، وبين وصف الشر بالسوء والكفران بون واسع لم تعبره الأمم الإنسانية طفرة واحدة، بل تقدمت فيه خطوات بعد خطوات كما سنرى في عقائد الأديان الكتابية مما قبل التوراة إلى ما بعد الإسلام. (2) الأديان الكتابية
العبرية
نسميها العبرية لأننا لا نعرف تسمية تصدق عليها منذ نشأتها في بلاد بين النهرين كما تصدق عليها هذه التسمية.
فلا يصدق عليها اسم «اليهودية» لأن النسبة إلى يهوذا حدثت بعد موسى عليه السلام.
ولا يصدق عليها اسم «الموسوية»؛ لأن موسى قام بالدعوة بعد يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام.
Shafi da ba'a sani ba