إذا أخذنا بإحصاء الكلمات والتعبيرات للحكم على مقدار انتشار الأفكار والعقائد جاز لنا أن نقول: إن الحضارة العصرية أكثر الحضارات إيمانا بوجود الشيطان، وعمله الدائم في النفس البشرية والبيئات الاجتماعية؛ فإن كلمة الشيطان والشيطانية والشيطنة من أشيع الكلمات في كتابة الأوروبيين العصريين، ومنها ما يشتق من كلمة الشيطان بنطقها الشرقي، أو يشتق من الكلمات اليونانية والسكسونية بلفظها القديم ولفظها المتداول في العصر الحاضر.
ولكننا سنرى مسألة الشيطان هذه من أقوى المكذبات لطريقة الإحصاء الآلية؛ طريقة الحكم على الأفكار والعقائد بعدد الكلمات والعبارات، فإن كلمة الشيطان كانت علما على «شخصية» الكائن الشرير، فأصبحت على ألسنة القوم معنى لغويا لا تؤديه كلمة أخرى في مدلوله؛ لأنه يؤلف من كلمة واحدة بين الأعمال الشيطانية بجملتها؛ ويفهم منه الكيد والخبث والمهارة والنفاق وحب الأذى، وكل معنى يناقض الاستقامة والصلاح، وأكثر ما تستخدم الكلمة ومشتقاتها فإنما تستخدم بمعناها هذا الذي انتقل من ألفاظ الأعلام إلى ألفاظ المعاني والصفات.
وقد أصبح استخدام هذه الكلمة كاستخدام السيد المسيح لكلمة «مأمون» حين عبر بها عن سيادة المال والجشع، فقد كانت الكلمة في اللغة السريانية علما على رب يزعمون أنه رب المطامع الدنيوية، فكان السيد المسيح يقول لتلاميذه: إنكم لا تستطيعون أن تخدموا سيدين، ولا تستطيعون أن تنالوا رضى الله ورضى مأمون، ولم يكن عليه السلام يصدق عقيدة السريان في مأمون، ولكنه كان يقولها ويعلم أن سامعيه يفهمون عنه ما أراد، وهو التعبير عن الجشع ومطامع الأشرار.
وبهذا المعنى المجازي تشيع كلمة «الشيطنة» فيما يكتبه أبناء الحضارة الأوروبية الحاضرة، وقد يكتبها الملحدون الذين ينكرون وجود الكائنات الغيبية، كما يكتبها المتدينون الذي يؤمنون بوجود الشيطان، ويختلفون في عمله وفي مدى قدرته، وكلهم في العصر الحاضر يسمعون باسم الشيطان، فلا يتخيلونه على الصورة التي كانت تسبق إلى خيال السامع في القرن الرابع عشر وما قبله أو بعده بقليل.
وقد ظهر في باريس عند أواخر القرن الرابع عشر كتاب عن وصايا الشيطان التي يقابل بها وصايا الله، فجمعها في ست وصايا خلاصتها: العناية بالنفس دون غيرها، وألا يعطي المرء شيئا بغير جزاء، وأن يتناول طعامه منفردا ولا يدعو أحدا إليه، وأن يقتر على أهله، وأن يحتفظ بالفتات من مائدته والأسمال من كسائه، وأن يقنطر المال عنده طبقة فوق طبقة ... وهذه رذائل القرن الرابع عشر كما أحصاها بنوه بين الجد والسخرية، وإنها اليوم لفضائل العصر الذي يسمى بعصر التدبير والاقتصاد والأنانية الفردية؛ ومن أجلها تسمى الحضارة العصرية بالحضارة الشيطانية!
ومن البديه أن المتحدثين عن الشيطان في حضارة العصر لا يقصدون جميعا هذا المعنى المجازي، ولا يقصرونه جميعا على الصفات دون الأعلام والأسماء؛ فإن أكثرهم متدينون يؤمنون بوجود الشيطان وعقيدة المسيحية فيه، ولكنهم - كما أسلفنا - يسمعون باسمه فلا يتخيلونه على الصورة التي كانت تسبق إلى خيال السامع قبل بضعة قرون.
فهم يذهبون اليوم بصرعى الجنون إلى الطبيب، ولا يعالجونهم عند الكاهن أو رجل الدين، وهم يفرقون اليوم بين وساوس نفوسهم وما ينسبونه إلى الشيطان من إيحاء وتلقين، وليس للشيطان عندهم تلك المملكة الواسعة التي كانت له في القرون الوسطى؛ فإنها انحسرت شيئا فشيئا حتى كادت تخرج من عالم الطبيعة إلى ما بعدها، وكادت دولة الشيطان تئول إلى حالة كالحالة التي حصره فيها الإسلام؛ قرين سوء ليس له على قرينه سلطان. •••
ويئول الشيطان على هذا في القرن العشرين إلى مصيرين: مصيره في مجال العقيدة الدينية، وهو إلى النقصان، ومصيره في مجال العبارة المجازية، وهو إلى الزيادة، وعلى الناظر في العبارات والأساليب أن يطيل النظر في هذا المصير الأخير، أليس فيه الحجة الدامغة لبلاغة الوجدان على بلاغة العقل واللسان؟ أليست هذه اللفظة الواحدة: لفظة «الشيطان» بلاغة وجدانية تتقاصر عن مداها في التعبير كل عبارة تجريها اللغة مجرى الفكر و«اللفظ المركب المفيد». •••
من الذين زادوا في عدد الشياطين المجازية من كتاب العصر الحاضر: تولستوي، حكيم الروس الكبير؛ فقد أضاف إلى عددهم شيطان الكبرياء العنصرية، وشيطان التعصب الديني، وشيطان الاستعمار، وشيطان الحرب والاستبداد.
ومن الذين زادوا في عددهم إلى الملايين: برتراند رسل، فيلسوف الرياضة المعروف؛ فإن شيطانه الذي أقامه في الضواحي رجل كان طفلا يتيما تركه أبوه لزوجة سكيرة، تحبسه في الدار يهلك جوعا وعريا، وتذهب لتسكر وتعربد في الطريق، فإذا شكا إليها الطفل اليتيم إذ ترجع إلى المنزل آخر الليل ضربته حتى يصيح، ثم ضربته حتى يسكت عن الصياح، فكبر في الدنيا وهو يجهل أباه، ويحقد على أمه، أولى الناس بعطفه عليها لو استقامت الدنيا على السواء، وقل ما شئت فيمن يحقد عليهم غير أمه من خلق الله ... فهم كل خلق الله! وفيهم الملايين من أمثاله الحاقدين على كل مخلوق.
Shafi da ba'a sani ba