إن السبب في إنزال الفرقان على عبده محمد هو سبب دائم، مع كل رسول يتجدد، إنه كما يقول: (للعالمين نذيرا)، وإذا كان نذيرا للعالمين؛ فهل هم الذين كانوا له معاصرين؟، وهل هم أولئك النفر القليل من المجاهدين؟.كلا، إنه نذير للعالمين المعاصرين واللاحقين إلى يوم الدين؛ولهذا يقول في سورة الجمعة: (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم(1) هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين(2)وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم(3)ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم(4)). فالرسول مبعوث في الأميين من قومه المعاصرين، ليحملوا هذا الكتاب هم ومن يلحق بهم من الآخرين، نعم ليحملوه خلفا عن سلف إلى العالمين، من ذلك اليوم إلى يوم الدين.
بل إن هذا الكتاب قد نزل من قبل محمد، ومن قبل هؤلاء الأميين، وكان ذلك هو التوراة المنزل كتابها على موسى وعلى قومه ليحملوه إلى كل أمة، هدى للناس ورحمة. لكنهم لم يحملوا هدى ربهم، ولم يشكروا فضل الله عليهم، ولهذا حذرنا من مصيرهم، ومن الاتصاف بصفتهم فقال ممثلا بمثل يليق بهم، وبمن تخلى عن المهمة بعدهم: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) [الجمعة: 5].وإذن فالله من شأنه أن يرسل المرسلين مبشرين ومنذرين، وأن ينزل معهم الكتاب والميزان للناس أجمعين، ولقد قال: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) [الحديد: 25].وقال عقب ذلك: (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) [الحديد: 26]؛ ولأن كثير منهم فاسقون كان لا بد أن تتوالى الرسل والكتب المنزلة، ولهذا قال: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوهاما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون) [الحديد: 27].
ولنفس السبب الذي أرسل الله به الرسل الأولين؛ أرسل محمدا خاتم النبيين، ولهذا قال بعد ذلك: (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم) [الحديد: 28]. ولأن إرسال الرسل فضل من الله على الأولين والآخرين، ولأن الأولين لم يؤمنوا ولم يثقوا بما جاءهم من الكتاب؛ فإن الله نزع منهم الفضل الذي أعطى ، وجعله فيمن آمن بمحمد واتقى، ولن يستطيع أحد أن ينزع ما أعطى، ولهذا قال: (لألا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) [الحديد: 29]. وإذا كان هذا هو شأن الله ذي الفضل العظيم؛ فإن أسباب النزول أمر مستديم؛ وأن إرسال الرسل صراط مستقيم، شاءه الله للبشر رحمة من ربهم الرحيم، ألم يعدنا بذلك منذ بداية الحياة ومنذ أن هبط آدم إلى الأرض مستخلفا فيها بأمر الله؟. لقد قال لآدم وزوجه معا: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون(38)والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون(39)) [سورة البقرة]. ولأن الهدى للعالمين؛ فإن الله يأمر بني إسرائيل أن يؤمنوا بما أنزله الله على خاتم النبيين؛ لأنه نفس ما جاءهم مع الرسل الأولين، فاسمعوه يقول بلسان مبين: (يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون (40)وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون (41)) [سورة البقرة]. فهم قد طال عليهم العمر؛ فلا بد أن يؤمنوا بما أنزله الله على رسوله يبشر وينذر، وهكذا هو شأن الله مع كل البشر، وفي كل عصر ومقر، إنه يرسل من يبشر وينذر؛ لينقذ الناس من سقر، وهو عليهم بما ينزل، وهداه وشأنه لا يتحول: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين(97)) [سورة البقرة]. ولهذا فعلى الناس أن يؤمنوا بكل الرسل وبكل ما لهم أنزل، وأول هؤلاء المؤمنون هم أسل: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير(285)) [سورة البقرة].
وهكذا تنتهي السورة الأولى بهذا الإعلان الأزلي الأعلى؛ وبمثل هذا تبدأ آل عمران: (الم(1)الله لا إله إلا هو الحي القيوم(2)نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل(3)من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام(4)). وكيف لا ينزل هذه الكتب المتوالية علينا، وهو الله العليم بحالنا: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء(5)هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم(6)) [سورة آل عمران].
إنه يصورنا في الأرحام على أحسن تقويم، فكيف لا يهدينا على الأرض إلى صراط مستقيم؟، وكيف لا يرسل الرسل وينزل الكتب وهو الحي القيوم؟، إن هذا شأنه مع عباده وهو بهم رحيم، فلا سبب للإنزال إلا علمه بحاجة الناس إلى الهدى، وإلا رحمته التي وسعت كل شيء وهو يكتبها لمن اتقى. فماذا نبحث للآيات عن أسباب تدعوها، ولماذا نجعل الله يتأثر بحوادث صغيرة لا يعبأ بها، وهو الغني عن العالمين؛ (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما(77)) [سورة الفرقان]. ولكن الله الذي لا يعبأ بالجاهلين، فإنه يرحمهم ويرسل لهم المرسلين؛ ولهذا نجد السورة التالية للفرقان تحفل بعدد من الرسل تتوالى بالبرهان، ولكن الله لا يفتقر إلى الناس لكي يكونوا مؤمنين، بل هم الفقراء إليه ليكونوا مؤمنين؛ ولهذا فإنه يبدأ سورة الشعراء بالإشارة إلى آيات الكتاب المبين: (طسم(1)تلك آيات الكتاب المبين(2)).فهو آيات وهو مبين، ومن لم يتبين ومن لم يؤمن فإن الله لا يعبأ به ولا يسجيب لمطالبه، ويدعه لما اختاره من ذنبه، ولهذا فإنه لرسوله ينبيه فيقول: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين(3)) [سورة الشعراء ]. فلا تتعب ولا تهلك نفسك، فما عليك إلا تبليغ ما أوحي لك، ولو شاء الله لأنزل آية ولكنه يكتفي بأنه أرسلك بالكتاب وبه كلفك؛ (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين(4)) [سورة الشعراء].
وما داموا كذبوا وللآيات طلبوا، فإنهم سينالون ما كسبوا (فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون(6)) [سورة الشعراء]. ثم يحيلهم إلى الآيات في الأرض حولهم: (أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم(7)إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين(8)وإن ربك لهو العزيز الرحيم(9)) [سورة الشعراء]. فالآيات مبثوثة في كل شيء، ولكن لا يفهمها إلا من هو ذو قلب حي. ورغم ذلك فإن الله عزيز غني عنهم، وهو رحيم بهم، ولهذا يرسل الرسل باستمرار، وينزل الكتاب لهدايتهم، رغم أنه ما كان أكثرهم مؤمنين. ولقد حلفت السورة بالرسل منهم من له آية، ومنهم من ليس له آية ولكن كلهم جاؤوا لغاية، ولسبب واحد من البداية حتى النهاية؛ هو قوله تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين(192)نزل به الروح الأمين(193)على قلبك لتكون من المنذرين(194)بلسان عربي مبين(195)) [سورة الشعراء]. فالسبب الأساس هو أن يكون امتدادا لمن سبقه من المنذرين، فهذا هو شأن كل الرسل، وهذه هي رحمة الله بالعالمين، ولهذا فإن القرآن هو نفس ما جاء مع الأولين: (وإنه لفي زبر الأولين) [الشعراء: 196]. ومن المؤكدات والدلائل قوله: (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) [الشعراء: 197].
فإذا كان علماء بني إسرائيل يعلمون أن ما جاء به القرآن من المعارف الإلهية والعلوم الغيبية المؤكدة للمعاد، والمتوعدة بالعذاب لمن كذب، والواعدة بالنعيم لمن صدق، إذا كان هذا مما يعلمه هؤلاء فإن ذلك آية على أن القرآن هو من نفس المنبع الذي جاء به كل الأنبياء وأن الله ربهم هو الذي اختارهم للإنذار والتبشير، ليستقيم الناس على الصراط المستنير، وتلك رحمة من الله العليم الخبير، وذلك هو الحق إلا إلى الله تصري الأمور. وهكذا ندرك من الآيات أن الإنزال ليس لسبب طارئ ولكنه لسبب ثابت هو قوله تعالى: (حم~(1) عسق (2)كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم (3)له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم (4)) [سورة الشورى].
(وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير(7)ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير(8)) [سورة الشورى]. (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) [الشورى:13]. ولأن الدين واحد فالناس يتفرقون ويحاولون أن يجعلوه شيعا؛ لأنهم يتخذونه وسيلة للدنيا وللسيطرة على الضعفاء؛(وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم) [الشعراء:14]. نعم لولا أن موعدهم الآخرة لتم القضاء بين المختلفين في الدنيا ولكن الله يعلم من أصلح ومن أفسد ولا يعاجل المفسدين؛ بل يرسل المنذرين؛ ولهذا يقول في الآية: (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب) [الشورى: 14].ولأن الناس الذين ورثوا الكتاب قد اتبعوا الأهواء؛ لأنهم في شك وارتياب، كان لا بد أن يرسل الله محمدا ليذكر وينذر وليؤكد الإيمان بالكتاب. (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير)[الشورى:15].لو استرسلت في السورة لوردت كلها، فإنها من أولها إلى آخرها تؤكد أن الوحي سببه ثابت وأن الإنزال لا سبب له إلا رحمة الله ذي الجلال.
يا جماعة لو أوردت الأدلة على ذلك لطال المقال. بل إن القضية تحسم وتعرف بأول سورة الزخرف، فإن الله لا يمكن أن يضرب صفحا عن الناس لإسرافهم؛ بل لا بد أن يرسل إليهم وينزل الذكر عليهم. (حم(1)والكتاب المبين(2)إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون(3)وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم(4)) [سورة الزخرف]. فالكتاب والذكر محفوظ محكوم، وثابت معلوم؛ فلا بد للناس من علم وكتاب به حياتهم تقوم. وهذا الكتاب الذي عند الله ولديه ما هو إلا النظام الذي يدعو الناس إليه؛ ولهذا جعله قرآنا عربيا لعلهم يعقلون، يفغلون هذا النظام العلي الحكيم، ويصون مبتوره على الصراط المستقيم، وهذا حق لا بد أن يفعله الله العليم، حتى ولو كان الناس لا يفهمون ولا يفقهون حتى ولو كانوا بالإسراف مشغولين عن الحق والكتاب المبين؛ ولهذا يقول الله مستفهما في إنكار، مخاطبا أولي الاستكبار: (أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين) [الزخرف:5]. هذا ومستحيل بل لا يليق بالله الجليل، فهو الذي يرحم عباده بالإرسال والتنزيل: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين(6)وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون(7)فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين(8)) [الزخرف].
فالإرسال متوالي ولو استهزأوا ؛ لأن الله لا يريد هلاك المكذبين إلا ببينة وحجة له عليهم، وهكذا كان مع الأولين والآخرين، فهل يعقل الآخرون، ويصغوا لهذا القرآن بلا ارتياب، وهل يفعلون على افتراء المبررات والأسباب: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) [الأعراف:204]. وقبل أن نغادر الزخرف نرفع أعيننا قليلا لنرى في صدر الصفحة آخر سورة الشورى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم(52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور) [الشورى: 52-53]. أي كذلك الوحي إلى من قبلك أوحينا إليك هذا الروح وهو الكتاب فلم نكن ندري بالكتاب ولا بالإيمان، ولكن الله من شأنه أن يرسل إلى الناس رسلا ليذكرهم ويهديهم، وينير لهم طريق الإحسان، فكان هذا النور الذي يهدي به الله من يشاء وإليه مصر المهتدي ومصير من كذب وتولى، وهو الحاكم الحق المجازي كل حي بما يسعى.
Shafi da ba'a sani ba