وكذلك كلمة الشهر الحرام. إن توحيد الشهر وإفراده يدل على أن كل شهر منها له الحرمه ، وله القيام ، وله ما لغيره بالتمام ، فكلها عند الله شهر واحد ، لها معنى واحد وهي أنها حرام ، ومحرم فيها كل ما حرمه الله من الأعمال ، والصيد والطعام ، كما هو معروف في آيات المائدة .ثم أن المفرد قد جاء محل الجمع في قوله تعالى (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) الفرقان 74 لماذا لم يقل (أئمة) وهو الأنسب للسياق؟!! لكن الإفراد هو الأنسب للسياق ، وللغرض البياني ، والهدف البلاغي ، فكأن كل الآباء والأبناء والذرية في التوحيد على الدين ، والتوحيد لرب العالمين ، واتباع سبيله المبين .. كأنهم جميعا في الناس إمام واحد ، لتوحد طريقهم واتحاد سبيلهم واستنارة قلوبهم بنور الله أجمعين ، أليس هذا أبلغ من أن يقول (واجعلنا للمتقين أئمة).
ذلك لأن التعبير بالجمع قد يوحي بتعدد الآراء واختلاف الطرق ، وتصرف السبل وهذا الوضع ، فهو الأمر المخل ، لكن الإفراد للكلمة أفاد مع الإيجاز ، توحد الرأي والدين والسبيل في كل العصور والأماكن ، وفي كل جيل.فكل إمام يخلف الأول ولا يبتعد عن الطريق وكل خلف يمد مهمة السلف بلا تفريق فهم موكب واحد لا يختلف وهم قلوب متوحده خلفا عن سلف ،وهم على سبيل سوية رغم تباعد العصور والأمكنة وهم متفقون ملتقون رغم توالي الأجيال والأزمنه وهكذا يتسع إفراد الكلمة في قوله (واجعلنا للمتقين إماما) ويدل على هذه الحقائق التي تذهل العقل إعجازا وبيانا .
ثم تعالوا إلى كلمة أخرى تدل على أجمل معنى هي قوله تعالى (ثم نخرجكم طفلا) من الآية الخامسة من سورة الحج ، لماذا لم يقل (أطفالا) ذلك ليؤكد لنا أن العالم كله مهما تكاثرت مواليده فهم عند الله طفل واحد ، وفي قدرته وتدبيره مولود واحد ، فلا يعني لله شيئا من اللغوب والإنشغال ولا قليلا من القلق والإهمال، بل كلهم برعاية الله في أحسن حال وكلهم بتدبيره ينمو ويصح ، من أقوى الرجال الى الضعيف والشيخ ، ولتأكيد هذا المعنى يقول الله (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير) لقمان 28 ، ولو أردنا إيراد الأمثلة لطالت العبارة ولكن الحر تكفيه الإشارة.بيان اطلاق المفرد ليراد به الجمع ¶ قد يقول قائل أنت تقول أن أشهر الحج هي الأربعة الأشهر الحرم(كما بينا في بحث الحج أربع مرات في العام) ، مع أن الله يقول في سورة المائدة :(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام) المائدة 2 فهو لم يقل الأشهر الحرم بل سماه شهرا فقال (الشهر الحرام) وقال في آية آخرى من السورة (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) المائدة 97 ، فلم يسم الله إلا الشهر الحرام ، ولم يقل الأشهر الحرم ، وهذا يدل على أن الشهر الحرام واحد هو ذي الحجة .لكني أقول لكم أن هذا الفهم لا يتفق مع معرفة اللغة ، فالمفرد قد يطلق ويراد به الجمع ، ويقصد به غرض بلاغي هو جعل المجموع كالواحد في الفضل، وكأن التفرق والتعدد لا يعني التفاضل ، بل كلها كأنها واحد ، وهذا ورد مع كثير من الآيات فقد جاء في سورة الجن (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا) 8 ، فقد جمع كلمة حرس وأفرد كلمة شديد ، مع أن المعلوم أن يقول (شدادا) لكنه وحد الصفة ليدلنا على أن تعدد الحرس لا يعني التفريط والغفلة ، بل كأنهم حارس واحد لا يحيد عن واجبه ، ولا يميل ، ثم جاء في الآية التي تليها (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) الجن 9 ، لقد أفرد كلمة (شهابا) وجمع الصفة فقال (رصدا) مع أن السياق يستدعي أن يقول (شهابا راصدا) لكن الإفراد للموصوف يوحي بأن كثرة الشهب لا تعني الفوضى ، ولكن تعني مزيدا من الحفظ ، فكان مجموع كل الشهب شهابا واحدا يرصد ، وهذا أبلغ في التعبير عن الحفظ والحراسة . ¶ وكذلك كلمة الشهر الحرام. إن توحيد الشهر وإفراده يدل على أن كل شهر منها له الحرمه ، وله القيام ، وله ما لغيره بالتمام ، فكلها عند الله شهر واحد ، لها معنى واحد وهي أنها حرام ، ومحرم فيها كل ما حرمه الله من الأعمال ، والصيد والطعام ، كما هو معروف في آيات المائدة .ثم أن المفرد قد جاء محل الجمع في قوله تعالى (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) الفرقان 74 لماذا لم يقل (أئمة) وهو الأنسب للسياق؟!! لكن الإفراد هو الأنسب للسياق ، وللغرض البياني ، والهدف البلاغي ، فكأن كل الآباء والأبناء والذرية في التوحيد على الدين ، والتوحيد لرب العالمين ، واتباع سبيله المبين .. كأنهم جميعا في الناس إمام واحد ، لتوحد طريقهم واتحاد سبيلهم واستنارة قلوبهم بنور الله أجمعين ، أليس هذا أبلغ من أن يقول (واجعلنا للمتقين أئمة). ¶ ذلك لأن التعبير بالجمع قد يوحي بتعدد الآراء واختلاف الطرق ، وتصرف السبل وهذا الوضع ، فهو الأمر المخل ، لكن الإفراد للكلمة أفاد مع الإيجاز ، توحد الرأي والدين والسبيل في كل العصور والأماكن ، وفي كل جيل.فكل إمام يخلف الأول ولا يبتعد عن الطريق وكل خلف يمد مهمة السلف بلا تفريق فهم موكب واحد لا يختلف وهم قلوب متوحده خلفا عن سلف ،وهم على سبيل سوية رغم تباعد العصور والأمكنة وهم متفقون ملتقون رغم توالي الأجيال والأزمنه وهكذا يتسع إفراد الكلمة في قوله (واجعلنا للمتقين إماما) ويدل على هذه الحقائق التي تذهل العقل إعجازا وبيانا . ¶ ثم تعالوا إلى كلمة أخرى تدل على أجمل معنى هي قوله تعالى (ثم نخرجكم طفلا) من الآية الخامسة من سورة الحج ، لماذا لم يقل (أطفالا) ذلك ليؤكد لنا أن العالم كله مهما تكاثرت مواليده فهم عند الله طفل واحد ، وفي قدرته وتدبيره مولود واحد ، فلا يعني لله شيئا من اللغوب والإنشغال ولا قليلا من القلق والإهمال، بل كلهم برعاية الله في أحسن حال وكلهم بتدبيره ينمو ويصح ، من أقوى الرجال الى الضعيف والشيخ ، ولتأكيد هذا المعنى يقول الله (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير) لقمان 28 ، ولو أردنا إيراد الأمثلة لطالت العبارة ولكن الحر تكفيه الإشارة.
وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد
إن للقلم بعد مابيناه من معنى (مفردتي نزل وأنزل) بناء خاصا حول معنى كلمة "أنزل" مع كلمة "نزل" من حيث الموضع الأصلي لهما أي من حيث ما يدلان عليه في أصل وضع اللغة وفي مبتدأ مفهوم الكلمة. لا شك أن المتبادر إلى الذهن أن كلمة أنزل ونزل تعني أن شيئا ما قد أتى إلى الناس من أعلى إلى أسفل أو قد تناوله المتناول من مصدر عال وهو في مكان أسفل من المناول. ولهذا فإن القرآن أنزل من الله إلى الرسول والمطر ينزل من السماء إلى الأرض فالكلمة تعني انتقال الشيء من حال الارتفاع إلى الهبوط أو من صدر عال إلى مهبط سافل.
هذا هو المتبادر من الاستعمال، نعم لقد استعملت لهذا المعنى تعظيما لله المعطي وتهوينا للعبد المعطى وتجليلا لله المتفضل وتقليلا للعبد المستقبل، فالله يليق به العلو والتعظيم، والجلال والتفخيم، فهو العلي العظيم، وهو الرفيع الدرجات، وهو الوهاب ذو المعارج والهبات، وهو ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد، ولهذا يحق له أن يستعمل فيما يعطيه ويظهره كلمة "أنزل ونزل" معا.ولكن: هل الله حقا في مكان محسوس الارتفاع وفي مقام ملموس العلو. كلا: إن علوه وارتفاعه معنوي، فهو قريب من كل شيء وهو معنى أينما كنا وهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو يحول بين المرء وقلبه: (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) [الأنعام:3].
وإذن فإن كلمة "أنزل" لا تعني في حقه تعالى أن ما يأتي منه ينزل من أعلا إلى أدنى أو من عال إلى سافل، كلا ولكنه يأتي بشكل أسهل وأجمل. وعليه: فإن كلمة "أنزل" تعني أظهر وأبان؛ لأن الله عنده خزائن الأشياء والأكوان وهو يوجدها بكلمة كن فكان، وليس معنى الخزائن أن عنده مخازن مكدسة وخزائن، فهو يكون الأشياء ثم يظهرها من العدم إلى العيان. ولا يصرفها من مخازن مكدسة بالأجسام كما يفعل الإنسان، وليس لديه أمر صرف ولا خزان للمخزون بل يقول للشيء كن فيكون. وعليه فإن الله حين يقول: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [الحجر:21]. فإنما يعني أنه الخبير بالمكونات والأكوان وفي علمه كل أسرار الخلق والإتقان، وكل خفايا الإيجاد والإحسان. فإذا أراد للشيء الوجود والتكوين قال له كن فيكون، فإذا هو ظاهر بين أيدي الناس به ينعمون وهو أخبر بما يريدون وبمقدار ما يحتاجون، وهذا هو معنى قوله: (وما ننزله إلا بقدر معلوم). أي نظهره ونبرزه للوجود بقدر ما يحتاجه الخلق وبما يفيد ولا ينقص ولا يزيد، وكيف لا وهو الخبير بما يخفى وأقرب إلينا من حبل الوريد. وهكذا فإن كلمة "أنزل" تعني أظهر وأخرج وأوجد وقدر. وعلى هذا المعنى قال الله في سورة هود: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) [هود: 12]. فإن قوله: (أنزل عليه كنز) يعني أظهر عليه أو أخرج له بدليل أن بعدها (أو جاء معه ملك) فلقد استعمل كلمة جاء مع الملك مع أن الملك في مفهومنا يتنزل من أعلى إلى أسفل لكن الواقع أنه يجيء من حيث لا ندري وهذا هو التعبير اللائق بالله العظيم.
فليس له عرش محسوس وكرسي ولكنه قريب من كل شيء. ثم إن كلمة "أنزل" قد جاءت في مقام تدل على أصلها وفي سياق يؤكد معناها الأصلي ذلك هو قوله في سورة الأنعام: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله). إن قول هذا الظالم المفتري (سأنزل مثل ما أنزل الله) وهو عربي اللسان يعني ما يقول ويعرف معنى الكلام. إن قوله هكذا لا يعني أنه يزعم ويدعي أنه سينزل كلاما من السماء ولكن يعني أنه سيقول ويظهر لنا كلاما من فمه ولسانه الماثل أمامنا على الأرض فلماذا استعمل كلمة (سأنزل) ثم (مثلما أنزل الله). إن هذا يعني أن "أنزل" تعني أظهر وأخرج وهو المعنى الأصح وعليه جاءت الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة متعلقة بأشياء أرضية محسوسة كقوله تعالى: (يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا).فإن الإنزال هنا يعني الإظهار والإخراج في الأرض بلا شك، وكيف لا ولله ملك السماوات والأرض وإذا أراد شيئا قال له كن فيكون ، وكذلك قوله تعالى في سورة الزمر مخاطبا بني آدم: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون) [الزمر:6].
هل الأنعام أنزلت؟ وكيف أن المراد أظهرت وأخرجت بكلمة كن التي يتكون بها كل شيء فالله له الملك لا إله إلا هو الحي القيوم وبيده ملكوت كل شيء وسر كل شيء ولا يعجزه شيء؟ وبهذا العلم والقدرة والحكمة والخبرة قال في سورة الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) [الحديد:25]. فهل الحديد كما يقول بعض السطحيين جاءنا منزل من أعلى إلى الأرض أو من نجم يتوفر فيه الحديد أكثر من الأرض كما يقول بعض السطحيين؟ كلا، بل إن الحديد أظهر للناس في الأرض وبقدرة الله الذي يقول للشيء كن فيكون ومن خزائنه التي هي العلم والقدرة وسرعة الحساب في التكوين فبعلمه وقدرته أظهر الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليبتلي الناس كيف يستخدمون هذه البأس هل للحق أم للباطل. هل لله أم للطاغوت، ولكنه مع ذلك (قوي عزيز) فهو لا يعجزه شيء وهو الغني عن كل شيء وهو الغالب على أمره وكل شيء إليه فقير وبه مقهور.
وعلى هذا المعنى يحمل إنزال القرآن وبه يحمل تساؤل المفسرين عن قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر). كيف قال أنزلناه في ليلة القدر مع أنه أنزل على فترة ربع قرن؟ ثم حاولوا حل الإشكال، والإجابة على السؤال، بأن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا دفعة واحدة في ليلة القدر ثم استمر جبريل يتنزل به على الرسول بحسب ما استجد من أحداث وأمر، وهذا كلام لا يصح في حق الله الذي يعلم السر وأخفى، والذي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، ولا يليق بمن يعلم ما نسر وما نعلن، بل القرآن كان يتنزل بعلمه في كل حال وزمن، عاشه الرسول المؤتمن. وإذن فالمراد بكلمة "أنزلناه" أظهرناه في ليلة القدر وهكذا تحمل الآية التي تقول: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) [البقرة: 185]. فإنها تعني أن شهر رمضان كان موعدا لإظهار القرآن فشهر رمضان أظهر فيه القرآن وقد كان ذلك في ليلة منه هي ليلة القدر وهكذا يتضح الأمر. ولتأكيد أن المراد بالإنزال الإظهار نجد الله يقول عن الرسول: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) [الأعراف:157]. فهل محمد الرسول أنزل حتى يكون النور منزلا معه؟ الحقيقة أنه أظهر وأخرج للناس وأمته والمتبعون له هم خير أمة أخرجت للناس ودين الحق هو الذي أظهره الله. ولهذا يقول الله في سورة الطلاق: (فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا(10) رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات..) [الطلاق: 10-11]. فالذكر هو القرآن وها هو قد أبدل منه الرسول فكلاهما منزلان فكيف يكون الرسول منزلا وهو معنا في الأرض؟!إن المراد ظهوره وقيامه بالإنذار، وهكذا فإن النور قد ظهر معه، ولهذا فهو يتلو آيات الله مبينات. (ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا) [الطلاق: 11]. ولتأكيد ما أقول تعالوا نقرأ آخر سورة الطلاق، وكيف يصف الله نفسه بأنه العليم الخلاق: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) [الطلاق:12]. أسمعتم؟! أفهمتم؟! فهو الخلاق العليم وكل شيء في السماوات والأرض يسير بأمره وسائر على هداه المستقيم وكيف لا فهو القدير على كل شيء ، المحيط بكل شيء وهو العلي العظيم. وبهذا فإن كل ما يتنزل إنما هو إظهار للموجود، من الغيب إلى المشهود، فالله ذو العرش المجيد، فعال لما يريد؛ (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون(82)فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون(83)) [سورة يس].وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ¶ إن للقلم بعد مابيناه من معنى (مفردتي نزل وأنزل) بناء خاصا حول معنى كلمة "أنزل" مع كلمة "نزل" من حيث الموضع الأصلي لهما أي من حيث ما يدلان عليه في أصل وضع اللغة وفي مبتدأ مفهوم الكلمة. لا شك أن المتبادر إلى الذهن أن كلمة أنزل ونزل تعني أن شيئا ما قد أتى إلى الناس من أعلى إلى أسفل أو قد تناوله المتناول من مصدر عال وهو في مكان أسفل من المناول. ولهذا فإن القرآن أنزل من الله إلى الرسول والمطر ينزل من السماء إلى الأرض فالكلمة تعني انتقال الشيء من حال الارتفاع إلى الهبوط أو من صدر عال إلى مهبط سافل. ¶ هذا هو المتبادر من الاستعمال، نعم لقد استعملت لهذا المعنى تعظيما لله المعطي وتهوينا للعبد المعطى وتجليلا لله المتفضل وتقليلا للعبد المستقبل، فالله يليق به العلو والتعظيم، والجلال والتفخيم، فهو العلي العظيم، وهو الرفيع الدرجات، وهو الوهاب ذو المعارج والهبات، وهو ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد، ولهذا يحق له أن يستعمل فيما يعطيه ويظهره كلمة "أنزل ونزل" معا.ولكن: هل الله حقا في مكان محسوس الارتفاع وفي مقام ملموس العلو. كلا: إن علوه وارتفاعه معنوي، فهو قريب من كل شيء وهو معنى أينما كنا وهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو يحول بين المرء وقلبه: (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) [الأنعام:3]. ¶ وإذن فإن كلمة "أنزل" لا تعني في حقه تعالى أن ما يأتي منه ينزل من أعلا إلى أدنى أو من عال إلى سافل، كلا ولكنه يأتي بشكل أسهل وأجمل. وعليه: فإن كلمة "أنزل" تعني أظهر وأبان؛ لأن الله عنده خزائن الأشياء والأكوان وهو يوجدها بكلمة كن فكان، وليس معنى الخزائن أن عنده مخازن مكدسة وخزائن، فهو يكون الأشياء ثم يظهرها من العدم إلى العيان. ولا يصرفها من مخازن مكدسة بالأجسام كما يفعل الإنسان، وليس لديه أمر صرف ولا خزان للمخزون بل يقول للشيء كن فيكون. وعليه فإن الله حين يقول: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [الحجر:21]. فإنما يعني أنه الخبير بالمكونات والأكوان وفي علمه كل أسرار الخلق والإتقان، وكل خفايا الإيجاد والإحسان. فإذا أراد للشيء الوجود والتكوين قال له كن فيكون، فإذا هو ظاهر بين أيدي الناس به ينعمون وهو أخبر بما يريدون وبمقدار ما يحتاجون، وهذا هو معنى قوله: (وما ننزله إلا بقدر معلوم). أي نظهره ونبرزه للوجود بقدر ما يحتاجه الخلق وبما يفيد ولا ينقص ولا يزيد، وكيف لا وهو الخبير بما يخفى وأقرب إلينا من حبل الوريد. وهكذا فإن كلمة "أنزل" تعني أظهر وأخرج وأوجد وقدر. وعلى هذا المعنى قال الله في سورة هود: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) [هود: 12]. فإن قوله: (أنزل عليه كنز) يعني أظهر عليه أو أخرج له بدليل أن بعدها (أو جاء معه ملك) فلقد استعمل كلمة جاء مع الملك مع أن الملك في مفهومنا يتنزل من أعلى إلى أسفل لكن الواقع أنه يجيء من حيث لا ندري وهذا هو التعبير اللائق بالله العظيم. ¶ فليس له عرش محسوس وكرسي ولكنه قريب من كل شيء. ثم إن كلمة "أنزل" قد جاءت في مقام تدل على أصلها وفي سياق يؤكد معناها الأصلي ذلك هو قوله في سورة الأنعام: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله). إن قول هذا الظالم المفتري (سأنزل مثل ما أنزل الله) وهو عربي اللسان يعني ما يقول ويعرف معنى الكلام. إن قوله هكذا لا يعني أنه يزعم ويدعي أنه سينزل كلاما من السماء ولكن يعني أنه سيقول ويظهر لنا كلاما من فمه ولسانه الماثل أمامنا على الأرض فلماذا استعمل كلمة (سأنزل) ثم (مثلما أنزل الله). إن هذا يعني أن "أنزل" تعني أظهر وأخرج وهو المعنى الأصح وعليه جاءت الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة متعلقة بأشياء أرضية محسوسة كقوله تعالى: (يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا).فإن الإنزال هنا يعني الإظهار والإخراج في الأرض بلا شك، وكيف لا ولله ملك السماوات والأرض وإذا أراد شيئا قال له كن فيكون، وكذلك قوله تعالى في سورة الزمر مخاطبا بني آدم: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون) [الزمر:6]. ¶ هل الأنعام أنزلت؟ وكيف أن المراد أظهرت وأخرجت بكلمة كن التي يتكون بها كل شيء فالله له الملك لا إله إلا هو الحي القيوم وبيده ملكوت كل شيء وسر كل شيء ولا يعجزه شيء؟ وبهذا العلم والقدرة والحكمة والخبرة قال في سورة الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) [الحديد:25]. فهل الحديد كما يقول بعض السطحيين جاءنا منزل من أعلى إلى الأرض أو من نجم يتوفر فيه الحديد أكثر من الأرض كما يقول بعض السطحيين؟ كلا، بل إن الحديد أظهر للناس في الأرض وبقدرة الله الذي يقول للشيء كن فيكون ومن خزائنه التي هي العلم والقدرة وسرعة الحساب في التكوين فبعلمه وقدرته أظهر الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليبتلي الناس كيف يستخدمون هذه البأس هل للحق أم للباطل. هل لله أم للطاغوت، ولكنه مع ذلك (قوي عزيز) فهو لا يعجزه شيء وهو الغني عن كل شيء وهو الغالب على أمره وكل شيء إليه فقير وبه مقهور. ¶ وعلى هذا المعنى يحمل إنزال القرآن وبه يحمل تساؤل المفسرين عن قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر). كيف قال أنزلناه في ليلة القدر مع أنه أنزل على فترة ربع قرن؟ ثم حاولوا حل الإشكال، والإجابة على السؤال، بأن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا دفعة واحدة في ليلة القدر ثم استمر جبريل يتنزل به على الرسول بحسب ما استجد من أحداث وأمر، وهذا كلام لا يصح في حق الله الذي يعلم السر وأخفى، والذي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، ولا يليق بمن يعلم ما نسر وما نعلن، بل القرآن كان يتنزل بعلمه في كل حال وزمن، عاشه الرسول المؤتمن. وإذن فالمراد بكلمة "أنزلناه" أظهرناه في ليلة القدر وهكذا تحمل الآية التي تقول: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) [البقرة: 185]. فإنها تعني أن شهر رمضان كان موعدا لإظهار القرآن فشهر رمضان أظهر فيه القرآن وقد كان ذلك في ليلة منه هي ليلة القدر وهكذا يتضح الأمر. ولتأكيد أن المراد بالإنزال الإظهار نجد الله يقول عن الرسول: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) [الأعراف:157]. فهل محمد الرسول أنزل حتى يكون النور منزلا معه؟ الحقيقة أنه أظهر وأخرج للناس وأمته والمتبعون له هم خير أمة أخرجت للناس ودين الحق هو الذي أظهره الله. ولهذا يقول الله في سورة الطلاق: (فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا(10) رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات..) [الطلاق: 10-11]. فالذكر هو القرآن وها هو قد أبدل منه الرسول فكلاهما منزلان فكيف يكون الرسول منزلا وهو معنا في الأرض؟!إن المراد ظهوره وقيامه بالإنذار، وهكذا فإن النور قد ظهر معه، ولهذا فهو يتلو آيات الله مبينات. (ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا) [الطلاق: 11]. ولتأكيد ما أقول تعالوا نقرأ آخر سورة الطلاق، وكيف يصف الله نفسه بأنه العليم الخلاق: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) [الطلاق:12]. أسمعتم؟! أفهمتم؟! فهو الخلاق العليم وكل شيء في السماوات والأرض يسير بأمره وسائر على هداه المستقيم وكيف لا فهو القدير على كل شيء ، المحيط بكل شيء وهو العلي العظيم. وبهذا فإن كل ما يتنزل إنما هو إظهار للموجود، من الغيب إلى المشهود، فالله ذو العرش المجيد، فعال لما يريد؛ (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون(82)فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون(83)) [سورة يس].
Shafi da ba'a sani ba