من أفضل ما قيل عن الكتاب
شكر وتقدير
حب امرأة طيبة
جاكارتا
جزيرة كورتز
عدا الحاصدين
ستبقى الطفلتان
ثراء فاحش
قبل التغيير
حلم أمي
من أفضل ما قيل عن الكتاب
شكر وتقدير
حب امرأة طيبة
جاكارتا
جزيرة كورتز
عدا الحاصدين
ستبقى الطفلتان
ثراء فاحش
قبل التغيير
حلم أمي
حب امرأة طيبة
حب امرأة طيبة
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
أميرة علي عبد الصادق
شهاب ياسين
مراجعة
إيمان عبد الغني نجم
من أفضل ما قيل عن الكتاب
مجموعة قصصية رائعة ... أخاذة ... إن الإحساس العالي الذي تتعامل به مونرو مع شخصياتها لا يقل أصالة ونقاء عن إحساس تشيكوف.
ذا نيويورك تايمز بوك ريفيو
تثبت لنا مونرو فهمها العميق للطبيعة البشرية الذي يتجاوز حدود قدراتنا الطبيعية على الفهم، في صفحات هذه المجموعة الرائعة ... المعجزة في تفاصيلها وتطابقها المذهل مع الواقع.
ذا وول ستريت جورنال
رائعة ... عظيمة ... إنها كاتبة لكل العصور.
نيوزداي
نبيلة ... آسرة للألباب ... يبدو أنها تكتب روايات بأكملها ببضعة آلاف من الكلمات فحسب، ثم تتركنا في حيرة نتساءل عما يفعل الروائيون التقليديون في صفحاتهم الكثيرة المبالغ فيها.
ذا فيلادلفيا إنكوايرر
أليس مونرو واحدة من أفضل كتاب القصة القصيرة الحاليين، وتدفع قصصها المرء إلى التفكير مليا في سر سحرها الخلاب.
ذا واشنطن تايمز
جذابة ... مثيرة للعاطفة ... تستهدف أليس مونرو موضوعات مهمة - كالحب والموت، العاطفة والخيانة، الطموح وخيبة الأمل - بأسلوب نثري سلس ثري بالتفاصيل.
ذا سان دييجو يونيون-تريبيون
مذهلة ... ومثيرة ... ويصعب التنبؤ بأحداثها ... مونرو ليست فقط واحدة من أعظم كتاب العالم، وإنما هي أيضا أحد المؤلفين الصادمين الذين لا يخشون أبدا كشف الستار عن الحقائق المعقدة لتجارب المرأة.
فرانسين بروز، مجلة «إل»
رواية مونرو أشبه بالعمل الاستخباراتي الذي يضم معلومات وفيرة تفي بحاجة القارئ إلى المعرفة، دون أن تتعدى على - أو تقلل من قدر - الغموض المحوري الذي هو مصدر عظمة كل الفنون.
شيكاجو تريبيون
تعد تلك المجموعة أشبه بالنجوم النابضة؛ فالقليل من الكلمات البراقة يزن الكثير ... فكل هذا التعقيد الذي تنطوي عليه الرواية منظوم في عشرات من الصفحات فحسب.
ذا بلين ديلر
أليس مونرو هي تشيكوف هذا العصر، ولسوف يبقى ذكرها أطول من أي من معاصريها.
سينثيا أوزيك
لا جدال في أن أليس مونرو «أستاذة» فن القصة القصيرة ... يصعب أن نتخيل أن هناك مجموعة قصصية أفضل من هذه.
ذا واشنطن بوست بوك وورلد
مجموعة قصصية رائعة ... آسرة للألباب ... تتخلل فيها اللحظات الشاعرية السرد القصصي الواقعي بمقادير مضبوطة ليس فيها زيادة أو نقصان.
سان فرانسيسكو كرونيكل
إلى آن كلوس
محررتي القديرة وصديقتي الدائمة.
شكر وتقدير
فيما يتعلق ببعض المعلومات المتخصصة التي كانت ضرورية لهذه القصص، أتوجه بعميق الشكر والتقدير إلى كل من روث روي، وماري كار، ودي سي كولمان. كذلك أتقدم بخالص الشكر إلى ريج تومبسون لبذله جهدا بحثيا بارعا كان مصدر إلهام لي في الكثير من المواضع.
حب امرأة طيبة
على مدى العقدين الماضيين، كرس متحف في والي لحفظ الصور، ومماخض اللبن، وعدد الخيل، إضافة إلى كرسي عيادة أسنان قديم، ومقشرة تفاح ضخمة وغريبة الشكل، وغير ذلك من المقتنيات النادرة مثل العوازل الكهربائية الصغيرة جميلة الشكل المصنوعة من الخزف والزجاج التي كانت تستخدم على أعمدة التلغراف.
احتوى ذلك المتحف كذلك على صندوق أحمر منقوش عليه «دكتور ويلينس، أخصائي بصريات»، وملحوظة بجانب الاسم نصها: «يتمتع هذا الصندوق الذي يحتوي على أدوات أخصائي بصريات - بالرغم من عدم قدمه - بأهمية كبيرة على المستوى المحلي؛ إذ إنه يخص الدكتور ويلينس الذي غرق في نهر بيريجرن عام 1951. ولم يتأثر هذا الصندوق بالحادث المؤسف، وعثر عليه - فيما يبدو - متبرع مجهول الهوية، وهو الذي أرسله إلى المتحف لضمه إلى مجموعة التحف المعروضة لدينا.»
قد يذكرك منظار العين الموجود في هذا الصندوق برجل الثلج؛ فالجزء العلوي منه - وهو الجزء المثبت فوق مقبض مقعر - عبارة عن قرص كبير يعلوه قرص أصغر حجما. ويحتوي هذا القرص الكبير على ثقب للنظر عبره عند تحريك العدسات المتعددة. أما المقبض، فهو ثقيل الوزن؛ لأنه لا يزال يحتوي على البطاريات بداخله. وإذا أخرجت هذه البطاريات منه، ووضعت - بدلا منها - قضيب التوصيل المزود مع المجموعة، الذي يحتوي على قرص بكلا طرفيه، فسيمكنك توصيل سلك كهربي به. لكن ربما كان من الضروري استخدام هذه الأداة في أماكن تخلو تماما من الكهرباء.
يبدو منظار الشبكية أكثر تعقيدا من ذلك؛ فأسفل أداة تثبيت الجبهة الدائرية يوجد شيء شبيه برأس الجني الصغير المصور في حكايات الجن، له واجهة مسطحة مستديرة وغطاء معدني مستدق الطرف. ويميل هذا الشيء بزاوية مقدارها خمس وأربعون درجة ناحية عمود رفيع من المفترض أن ينبعث من أعلاه مقدار بسيط من الضوء. والواجهة المسطحة مصنوعة من الزجاج، وهي أشبه بمرآة داكنة.
طغا اللون الأسود على كافة الأدوات، لكنه لم يكن سوى طلاء. وفي بعض المواضع التي احتكت بها يدا أخصائي البصريات كثيرا، زال هذا الطلاء، وصار من الممكن رؤية رقعة من المعدن الفضي اللامع أسفله. (1) جوتلند
اسم هذا المكان جوتلند. وقد ضم في السابق طاحونة ومستوطنة صغيرة، لكن كل هذه الملامح اختفت بحلول نهاية القرن الماضي. ولم يحظ هذا المكان بأي أهمية في أي مرحلة من تاريخه على الإطلاق. واعتقد الكثير من الناس أنه سمي بهذا الاسم تيمنا بالمعركة البحرية الشهيرة التي اندلعت أثناء الحرب العالمية الأولى، لكن الحقيقة هي أن هذا المكان بأكمله قد تحول إلى أطلال قبل تلك المعركة بسنوات.
لكن الصبية الثلاثة، الذين ذهبوا إلى ذلك المكان في الصباح الباكر من أحد أيام السبت في ربيع عام 1951، ظنوا - شأنهم شأن معظم الأطفال آنذاك - أن هذا الاسم الذي يعني «الأرض الناتئة» مستوحى من الألواح الخشبية القديمة الناتئة من الأرض على ضفة النهر، وغيرها من الألواح الأخرى السميكة المستقيمة التي برزت عموديا في المياه بالقرب من الضفة لتصنع سياجا غير مستو من الأوتاد الخشبية (كانت هذه الأخشاب في الواقع بقايا سد قديم شيد قبل عصر السدود الأسمنتية). الألواح الخشبية، وكومة من أحجار البناء، وشجيرة ليلك، وبعض أشجار التفاح الضخمة التي شوهها مرض العقد السوداء، والقناة الضحلة التي كانت تزود الطاحونة بالمياه وتمتلئ بأعشاب القراص في فصل الصيف، كانت هذه هي الآثار الوحيدة الأخرى المتبقية التي تدل على ما كان موجودا في ذلك المكان فيما مضى.
كان هناك طريق، أو بالأحرى مسار ضيق، متفرع من طريق البلدة، لكنه لم يرصف قط بالحصى، وبدا على الخرائط كخط منقط فقط؛ فقد كان أرضا احتفظت بها الحكومة لإقامة طريق عام عليها. اعتاد الناس قيادة سياراتهم على هذا الطريق في فصل الصيف وصولا إلى النهر لممارسة السباحة، كذلك كان مهما للأحبة الذين يبحثون عن مكان لإيقاف سياراتهم ليلا. وكان هناك منعطف قبل الوصول إلى القناة، لكن المنطقة بأكملها اجتاحتها أعشاب القراص ونباتات الهرقلية الصوفية وأعشاب الشوكران البرية الخشبية في السنوات كثيرة الأمطار، الأمر الذي أجبر بعض السيارات أحيانا على الرجوع للخلف للخروج من ذلك الطريق واستخدام الطريق المهيأ للسير عليه.
كان من اليسير في صباح ذلك اليوم الربيعي ملاحظة آثار السيارة التي وصلت إلى حافة المياه. بيد أنها لم تلفت نظر الصبية الثلاثة الذين لم يشغل تفكيرهم سوى السباحة فقط، أو هكذا سيسمونها على الأقل، عندما يعودون للبلدة ويخبرون الناس بأنهم سبحوا في جوتلند قبل ذوبان الجليد.
اتسم ذلك المكان الموجود أعلى النهر بأنه أكثر برودة من المسطحات المتكونة من رواسب النهر والقريبة من البلدة. لم تكن قد نمت بعد أي أوراق على الأشجار الموجودة على ضفة النهر، واللون الأخضر الوحيد الذي كان من الممكن رؤيته هو لون رقع الكراث على الأرض، ونباتات قطيفة الأهوار النضرة مثل السبانخ، التي انتشرت بطول أي مجرى صغير شق طريقه وصولا إلى النهر. وعلى الضفة المقابلة تحت بعض أشجار الأرز، رأى الصبية ما كانوا يبحثون عنه على وجه التحديد، ألا وهو كتلة ثلجية متصلبة، ممتدة لمسافة طويلة ومنخفضة الارتفاع، رمادية اللون مثل الحجارة.
لم يكن الثلج قد ذاب بعد.
عزم الصبية على القفز في الماء واستشعار الصقيع كطعنات خناجر ثلجية تخترق أجسادهم لتصل إلى ما وراء أعينهم وإلى أعلى جماجمهم من الداخل، وبعدها يحركون أذرعهم وسيقانهم بضع مرات، ثم يخرجون بصعوبة من الماء، مصدرين أصواتا كأصوات البط من أفواههم وصريرا من أسنانهم، ويدفعون أطرافهم الخدرة في الملابس، فيشعرون بألم عودة الدماء تجري في أجسادهم؛ ومن ثم الارتياح لتحقيق ما سيتباهون به.
امتدت آثار السيارات التي لم يلاحظها هؤلاء الصبية إلى القناة المائية التي خلت من أي أعشاب أو نباتات آنذاك، ولم تحتو إلا على بعض حشائش العام الماضي الميتة التي استحال لونها إلى الصفرة وطفت على السطح. امتدت الآثار عبر القناة وحتى النهر دون أي شيء يدل على محاولة دوران السيارة للخلف. خطا الصبية فوقها، لكنهم كانوا قد اقتربوا للغاية حينذاك من الماء، الأمر الذي حال دون أن يلفت انتباههم أي شيء، حتى وإن كان أكثر غرابة من آثار سيارة على الأرض في هذا المكان.
كانت هناك لمعة من اللون الأزرق الباهت في الماء، لكنها لم تكن منعكسة من السماء، وإنما كانت لسيارة غارقة في وضع مائل في البركة التي تزود الطاحونة بالماء، بحيث غرز الإطاران الأماميان والمقدمة في الوحل بالقاع، في حين برز الجزء العلوي من السيارة بالكاد فوق سطح الماء. كان اللون الأزرق الفاتح لونا غير مألوف كطلاء للسيارات آنذاك، كذلك شكل تلك السيارة ذات المنحنى البارز أيضا، الأمر الذي ساعد الصبية في التعرف عليها على الفور. إنها السيارة الإنجليزية الصغيرة - طراز أوستن - والوحيدة من نوعها بلا شك في المقاطعة بأسرها. كانت سيارة السيد ويلينس، أخصائي البصريات، الذي كان يشبه الشخصيات الكرتونية عند قيادته لها؛ إذ كان قصيرا، مكتنز الجسم، عريض المنكبين، وكبير الرأس. بدا دوما محشورا في سيارته الصغيرة كما لو كانت بذلة تكاد تتمزق فوق جسده.
احتوى سقف السيارة على جزء متحرك اعتاد السيد ويلينس فتحه في الطقس الدافئ، وقد كان مفتوحا عند عثور الصبية على السيارة، لكنهم لم يتبينوا جيدا ما كان بالداخل. ولون السيارة جعل شكلها واضحا في الماء، لكن هذا الماء لم يكن نظيفا تماما، حتى إنه أعتم الأجزاء غير الواضحة من السيارة. جثم الصبية على ضفة النهر، ثم استلقوا على بطونهم ودفعوا رءوسهم للخارج مثل السلاحف محاولين النظر داخل السيارة . رأوا شيئا داكن اللون ومكسوا بالفراء يشبه ذيل حيوان كبير، وكان ذلك الشيء مدفوعا عبر الفتحة الموجودة بالسقف، ويتحرك بتراخ في الماء، وسرعان ما اتضح لهم أنها ذراع مغطاة بكم معطف داكن اللون مصنوع من نسيج ثقيل كثير الزغب، وبدا أن ثمة جثة داخل السيارة - بالتأكيد جثة السيد ويلينس - في وضع غريب؛ فلا بد أن قوة المياه - التي كانت شديدة في ذلك الوقت من العام؛ حتى في بركة المياه الصغيرة التي تزود الطاحونة بالماء - رفعت السيد ويلينس على نحو ما من مقعده ودفعته في ناحية أخرى بحيث صارت إحدى كتفيه قرب سقف السيارة فخرجت منه إحدى ذراعيه. أما رأسه، فقد ارتطم بالتأكيد بالنافذة والباب المجاورين لمقعد السائق، وانغرز أحد الإطارين الأماميين لعمق أكبر في قاع النهر من الإطار الآخر، ما عنى أن السيارة كانت مائلة على أحد جانبيها، مثل ميلها من الخلف للأمام. ولا بد أن النافذة كانت مفتوحة ويبرز منها رأس الجثة ليكون ذلك وضع باقي الجسم. لم يتمكن الصبية من رؤية ذلك، لكنهم تصوروا وجه السيد ويلينس كما يعرفونه؛ وجها مربعا ضخما ارتسم عليه عادة نوع من العبوس المتكلف الذي لم يخف أحدا قط بحق. أما شعره المجعد الخفيف، فكان مائلا للون الأحمر أو النحاسي في الجزء العلوي منه، وكان يصففه على نحو مائل فوق جبهته، وكان لون حاجبيه أغمق من شعره، كما كانا كثيفين ومجعدي الشعر كما لو كانا يرقانتين ملتصقتين أعلى عينيه. كان وجها قبيحا بالفعل في نظر الصبية، شأنه شأن الكثير من وجوه البالغين الآخرين، ولم يخشوا رؤيته غارقا، لكن كل ما تمكنوا من رؤيته هما تلك الذراع واليد الشاحبتين. واستطاعوا رؤية اليد بوضوح ما إن اعتادوا النظر عبر الماء، كانت تطفو هناك مترنحة كالريشة، وإن بدت كعجينة متصلبة. ومع اعتيادهم على رؤيتها، صار مظهرها عاديا؛ فبدت الأظافر كالوجوه الصغيرة الجميلة التي ترتسم عليها نظرة ترحيب عادية مدركة، تبرأ من الظروف المفروضة عليها.
قال الصبية في ذهول: «يا للهول!» قالوها بقوة وبنبرة تدل على احترام عميق، بل وامتنان أيضا. «يا للهول!» •••
كانت تلك هي المرة الأولى التي يخرجون فيها ذلك العام. عبروا الجسر الذي يعلو نهر بيريجرن - وهو جسر من حارة واحدة ومقطعين - والذي يعرف محليا باسم «بوابة جهنم» أو «شرك الموت»، مع أن الخطر الحقيقي كان في المنعطف الحاد في الطرف الجنوبي من الطريق أكثر من الجسر نفسه.
كان هناك ممر مستو للمشاة، لكنهم لم يستخدموه، أو بالأحرى لم يتذكروا قط استخدامهم له؛ فربما كانوا يفعلون ذلك قبل ذلك الحين بسنوات، عندما كانوا صغارا يحملون على الأيدي. لكن ذلك العهد قد ولى في نظرهم؛ وكانوا يرفضون الإقرار به حتى وإن عرضت عليهم أدلة مشيرة إليه في صور التقطت لهم أو أجبروا على الاستماع إلى هذه الأدلة في إحدى المحادثات العائلية.
أما الآن، فقد صاروا يسيرون بمحاذاة الرصيف الحديدي الممتد على الجانب الآخر من الجسر المقابل لممر المشاة. بلغ عرض ذلك الرصيف ثماني بوصات، وبلغ ارتفاعه قدما أو نحو ذلك فوق أرضية الجسر. دفع نهر بيريجرن ثلوج الشتاء وجليده - الذي ذاب بحلول ذلك الوقت - نحو بحيرة هورون. وأصبحت المياه محصورة بالكاد بين ضفتيه بعد الفيضان السنوي الذي حول المسطحات المترسبة بجانبه إلى بحيرة، واقتلع الأشجار الصغيرة من جذورها، وأطاح بأي قارب أو كوخ مر عليه. وبسبب الرواسب الفيضانية التي أتت من الحقول وعكرت صفو المياه بالوحل، وضوء الشمس الباهت المنعكس على صفحة النهر، بدت المياه كبودنج الباترسكوتش الذي يغلي على النار، لكنك إذا نزلت فيها، فسوف تجمد الدم في عروقك وتقذف بك في البحيرة، هذا إذا لم تهشم رأسك على الدعامات الخشبية أولا.
أطلقت السيارات نفيرها - تحذيرا أو توبيخا للصبية الثلاثة - لكنهم لم يلقوا لها بالا، وواصلوا سيرهم صفا واحدا بهدوء كالسائرين نياما. ثم في الطرف الشمالي للجسر، سلكوا طريقا مختصرا وصولا إلى الأراضي المسطحة، مع محاولة تحديد أماكن المسارات التي يتذكرونها من العام السابق. لم يمر وقت طويل على الفيضان، ما صعب اتباع هذه المسارات، فكان عليهم شق طريقهم فيها بين الأغصان المقطوعة، والقفز بين أكوام الحشائش الملتصقة بفعل الوحل، وكان أولئك الصبية يقفزون أحيانا بلا مبالاة، فيهبطون في الوحل أو برك المياه التي خلفها الفيضان. وعندما كانت أرجلهم تبتل، كانوا لا يبالون بعد ذلك بموطئها. أخذوا يخوضون في الوحل، وينثرون المياه بإنزال أرجلهم في البرك، ما جعل المياه تصل إلى أعلى أحذيتهم الطويلة الرقبة المصنوعة من المطاط. كانت الرياح دافئة؛ فمزقت السحب مكونة أشكالا تشبه خيوط الصوف القديم، وكانت طيور النورس والغربان تتشاجر وينقض بعضها على بعض فوق النهر. حامت الصقور الجارحة أيضا فوقهم مراقبة إياهم من أعلى؛ وطيور أبو الحناء أيضا عادت لتوها، وطيور الشحرور ذات الأجنحة الحمراء انطلقت في أزواج، عاكسة ألوانا براقة كأنها غمست في طلاء ما. «ليتنا أحضرنا بندقية الصيد عيار 22.» «ليتنا أحضرنا بندقية الصيد عيار 12.»
لقد كانوا أكبر من أن يرفعوا العصي الخشبية ويقلدوا صوت إطلاق الرصاص؛ فكانوا يتحدثون بنبرة آسفة اعتيادية، كما لو كانت هذه الأسلحة متوفرة لديهم بالفعل.
تسلقوا الضفاف الشمالية وصولا إلى مكان مغطى بالرمال المكشوفة التي من المفترض أن تضع فيها السلاحف بيضها. لكن الأوان كان مبكرا على ذلك، كما أن هذه القصة الخاصة ببيض السلاحف يرجع تاريخها إلى سنوات عديدة سابقة، ولم يرها أي من هؤلاء الصبية قط من قبل. لكنهم مع ذلك ركلوا الرمال وداسوا عليها؛ تحسبا لاكتشاف أي من هذا البيض. تلفتوا، بعد ذلك، حولهم بحثا عن المكان الذي عثر فيه أحدهم العام الماضي - برفقة صبي آخر - على جزء من هيكل عظمي لبقرة جرفه الفيضان من مخلفات أحد المجازر، فكان من المعتاد كل عام أن يجرف النهر عددا كبيرا من الأشياء المدهشة أو التافهة، العجيبة أو العادية، ويرسبها في مكان آخر. ومن الأمثلة على ذلك لفائف من الأسلاك، أو سلم نقال سليم، أو مجرفة منثنية، أو إناء صنع الفشار. وقد عثر الصبيان على عظم البقرة معلقا في أحد فروع شجرة سماق - الأمر الذي بدا ملائما؛ لأن كل هذه الأفرع اللينة بدت مشابهة لقرون الأبقار أو الغزلان، وكان لبعضها أطراف مخروطية صدئة اللون.
أخذوا يتجولون في المكان بعض الوقت، فأشار سيسي فيرنس إلى فرع الشجرة الذي عثر على العظم عليه بالضبط، لكنهم لم يعثروا على أي شيء.
كان سيسي فيرنس ورالف ديلر هما من اكتشفا العظم، وعند سؤالهما عن مكانه الآن، قال سيسي فيرنس: «لقد أخذه رالف معه.» علم الصبيان، اللذان كانا مع سيسي الآن - وهما جيمي بوكس وباد سولتر - السبب وراء صدق سيسي في حديثه، فما كان بوسعه اصطحاب أي شيء معه إلى المنزل، إلا إذا كان بحجم يسمح له بإخفائه من والده.
تبادلوا أطراف الحديث، بعد ذلك، عن الأشياء الأكثر نفعا التي يمكن العثور عليها أو عثر عليها بالفعل في السنوات الماضية؛ فألواح الأسياج الخشبية يمكن استخدامها في صنع الأطواف؛ وقطع الأخشاب المتناثرة يمكن جمعها لتصميم كوخ أو قارب، وإذا حالفك الحظ، فستعثر على بعض أشراك فئران المسك المفككة. يمكنك حينئذ بدء مشروعك الخاص؛ فيمكنك جمع ما يكفي من الأخشاب لصنع ألواح لشد الجلود، وسرقة السكاكين لنزع هذه الجلود من على الفئران. كذلك تحدث الصبية عن الاستيلاء على حظيرة فارغة يعرفونها في الزقاق المظلم الموجود خلف ما كان يستخدم في السابق كإسطبل للخيول. كانت تلك الحظيرة مغلقة بالقفل، لكن يمكن الدخول إليها عبر النافذة بعد إزالة الألواح الخشبية عنها في الليل ووضعها ثانية مع بزوغ الفجر. يمكن كذلك اصطحاب كشاف كهربائي لاستخدامه هناك. لا، ليس كشافا كهربائيا، وإنما قنديل. يمكن بذلك نزع الجلود عن فئران المسك، وشدها، وبيعها مقابل الكثير من المال.
عاش الصبية في تصور هذا المشروع كأنه واقع، لدرجة جعلتهم يبدءون في القلق بشأن ترك أي جلود ذات قيمة في الحظيرة طوال اليوم، وكان على أحدهم مراقبة المكان، بينما يخرج الآخرون للبحث عن الأشراك (لم يذكر أحد المدرسة).
هكذا كانت طبيعة حديث أولئك الصبية عند ابتعادهم عن البلدة؛ كانوا يتحدثون كما لو كانوا أفرادا مستقلين، أو شبه مستقلين، وكأنهم لا يذهبون إلى المدرسة، أو يعيشون مع أسرهم، أو يعانون من أي صور للمهانة والذل بسبب سنهم الصغيرة. كانوا يتحدثون كذلك كما لو كان الريف والمنشآت التي تخص أشخاصا آخرين ستوفر لهم ما يحتاجون إليه لتنفيذ مشروعاتهم ومغامراتهم، مع أقل قدر ممكن من المخاطرة والجهد من جانبهم.
من الملامح الأخرى للتغير في حديثهم خارج البلدة أنهم كانوا يتخلون جزئيا عن استخدام الأسماء؛ فلم يناد بعضهم بعضا بأسمائهم الحقيقية كثيرا على أي حال، ولا حتى بألقاب أسرهم، مثل باد. لكن كان لأغلب الأشخاص في المدرسة أسماء أخرى، ارتبط بعض هذه الأسماء بمظهر الشخص أو طريقة حديثه، مثل الجاحظ أو المتلعثم، والبعض الآخر - مثل مغتصب الدجاجات وذي المؤخرة المتقرحة - ارتبط بأحداث حقيقية أو متخيلة في حياة من تطلق عليهم هذه الأسماء، أو حياة إخوانهم أو آبائهم أو أعمامهم وأخوالهم، وتكون الأسماء في هذه الحالة قد تداولتها الألسنة على مدار عقود من الزمان. كانت هذه الأسماء هي التي يتخلون عنها عند خروجهم إلى الأحراش أو ضفاف النهر. وعند الحاجة للفت بعضهم نظر بعض، كانوا يصيحون: «يا صاح!» حتى استخدام الأسماء البذيئة والفاحشة التي من المفترض أنها لم تتردد إطلاقا على مسامع الكبار كان سيفسد تلك الحالة التي كانت تنتابهم في تلك الأوقات؛ حالة التسليم بمظهرهم، وعاداتهم، وأسرهم، وتاريخهم الشخصي بالكامل.
ومع ذلك، فقد كانوا لا يعتبرون أنفسهم أصدقاء، ولا يتخذ بعضهم من بعض أخلاء مقربين أو أخلاء مقربين بدلاء، أو يستبدلونهم كما تفعل الفتيات؛ فأي صبي من بين عشرة صبية على الأقل يمكن استبداله بأي من أولئك الثلاثة، ويتقبله الآخرون على النحو نفسه بالضبط. تراوحت أعمار هؤلاء الصبية بين التاسعة والثانية عشرة؛ أي أكبر من أن يقيدوا باللعب في الأفنية والأحياء السكنية، وأصغر من الاشتغال بأي وظيفة، بما في ذلك كنس الأرصفة أمام المتاجر أو توصيل طلبات البقالة بالدراجات. عاش أغلبهم في الطرف الشمالي من البلدة، ما عنى أنه كان من المتوقع اشتغالهم بهذا النوع من الوظائف بمجرد وصولهم إلى السن المناسبة، وعدم إرسالهم إلى كلية آبلبي أو كلية كندا العليا. ولم يعش أي منهم في كوخ، وما كان لهم أقرباء في السجن. كانت هناك اختلافات بارزة أيضا بين طبيعة حياتهم في المنزل وما هو متوقع منهم في الحياة، لكن هذه الاختلافات سرعان ما كانت تتلاشى بابتعادهم عن سجن المقاطعة وصومعة الغلال التي تعمل بالآلات، وأبراج الكنيسة، وأجراس ساعة قاعة المحكمة. •••
أسرع الصبية الثلاثة في خطاهم في طريق عودتهم إلى منازلهم، هرولوا، لكن دون ركض. لم يقفزوا، أو يتسكعوا، أو يرشوا المياه. لقد نسوا كل ذلك، وكذلك الأصوات التي كانوا يصدرونها من صياح وعواء. وأي شيء جرفته مياه الفيضان لاحظوه، لكنهم تجاوزوه دون اكتراث. لقد ساروا، في الواقع، كما يفعل الكبار، بسرعة ثابتة قليلا، وباتباع أكثر السبل عقلانية؛ فقد شغلهم أين سيذهبون وماذا ستكون خطوتهم التالية. كانت ثمة صورة تلوح أمام أعينهم وتحول بينهم وبين العالم؛ الأمر الذي يبدو عليه الكبار أغلب الوقت. إنها صورة البركة والسيارة والذراع واليد. فكروا أنهم عند وصولهم إلى بقعة معينة، سيبدءون في الصياح، سيدخلون البلدة وهم يصرخون معلنين عما لديهم من أنباء، وسيتسمر الجميع في أماكنهم ليستوعبوا ما حدث.
عبروا الجسر بطريقتهم المعتادة؛ على الرصيف الحديدي، لكن لم تراودهم أي مشاعر مخاطرة أو شجاعة أو عدم اكتراث، ولربما أيضا ساروا على الممشى.
وبدلا من الطريق ذي المنعطف الحاد الذي يمكن الوصول منه إلى المرفأ والميدان، صعدوا ضفة النهر مباشرة متبعين طريقا قريبا من مرائب السكك الحديدية. دقت أجراس الساعة معلنة انقضاء ربع ساعة بعد الساعة الثانية عشرة. •••
كان ذلك موعد عودة الناس إلى منازلهم لتناول وجبة الغداء، ومن كانوا يعملون في المكاتب كانوا يحصلون على إجازة بقية اليوم، أما من يعملون في المتاجر، فكانوا يحصلون على ساعة الراحة الاعتيادية؛ إذ كانت المتاجر تظل مفتوحة حتى الساعة العاشرة أو الحادية عشرة مساء السبت.
كان أغلب الناس في طريقهم إلى منازلهم لتناول وجبة ساخنة مشبعة من شرائح اللحم أو السجق أو اللحم البقري المسلوق أو اللحم المملح، إلى جانب بعض البطاطس بالتأكيد، سواء المهروسة أو المقلية؛ وبعض الخضراوات الجذرية المخزنة من الشتاء أو الملفوف أو البصل بالكريمة (وبعض الزوجات، الأيسر حالا أو الأقل مهارة، كن يفتحن علبة من البازلاء أو الفاصوليا البيضاء)، هذا إلى جانب الخبز وكيك المافن والأطعمة المحفوظة والفطائر. حتى أولئك الذين لا يملكون منزلا في البلدة يرجعون إليه في هذه الساعة، أو من كان لديهم سبب ما يجعلهم لا يرغبون في العودة إليه؛ كانوا يتناولون نفس نوع الطعام تقريبا في مطعم ديوك أوف كمبرلاند أو فندق ميرشانتس هوتيل، أو يحصلون عليه مقابل قدر أقل من المال وهم جالسون خلف النوافذ الضبابية لحانة شيرفيلز ديري بار.
كان أغلب من يسيرون عائدين إلى منازلهم لتناول هذه الوجبة من الرجال، أما السيدات، فكن بالمنزل بالفعل - فقد كن هناك على الدوام - لكن ثمة سيدات، ممن كن في منتصف العمر وعملن أيضا في المتاجر أو المكاتب لسبب ما ليس بأيديهن حيلة بشأنه - كوفاة أزواجهن أو مرضهم أو عدم تزوجهن في الأساس - كن صديقات أمهات هؤلاء الصبية؛ ومن ثم، اعتدن إلقاء التحية عليهم، حتى لو كانوا يسيرون على الجانب الآخر من الطريق على نحو معين يوحي بالمرح والاستمتاع يذكر الصبية بأن هؤلاء السيدات يعلمن كل شيء عن شئون أسرهم أو مرحلة طفولتهم البعيدة (وأكثر من تأثر سلبا بهذا الأمر هو باد سولتر الذي اعتادت هؤلاء السيدات مناداته باسم بادي؛ وتعني «يا رفيق»).
أما الرجال، فلم يتجشموا عناء إلقاء التحية على الصبية بالاسم، حتى وإن كانوا يعرفونهم حق المعرفة؛ فكانوا يطلقون عليهم «الأولاد» أو «الصغار» أو أحيانا «السادة». «صباح الخير يا سادة.» «هل أنتم في طريقكم إلى المنزل الآن يا أولاد؟» «ما المصيبة التي تدبرونها هذا الصباح أيها الصغار؟»
انطوت كل تحية من هذه التحيات على درجة من المزاح، لكن ثمة اختلافات بينها؛ فمن أطلقوا عليهم وصف «الصغار»، كانوا ينعمون بحالة مزاجية أفضل ممن أطلقوا عليهم وصف «الأولاد» - أو رغبوا في أن يبدوا بهذه الحالة؛ فتعبير «الأولاد» يدل على أن الصبية سيتعرضون بعد قوله إلى تأنيب وتوبيخ بسبب أي إساءة اقترفوها، سواء أكانت مبهمة أم محددة، وتعبير «الصغار» يوحي بأن المتحدث مر من قبل بهذه المرحلة من صغر السن، أما «السادة»، فقد كانت استخفافا وسخرية صريحة منهم، لكنها لا تفتح المجال أمام أي توبيخ؛ لأن من قال هذا الوصف شخص لا يمكن إزعاجه.
وعند الرد على هذه التحيات، كان الصبية بالكاد يرفعون أعينهم للنظر إلى حقيبة يد السيدة أو إلى عنق الرجل، ويقولون بوضوح: «مرحبا»؛ لأنهم قد يجلبون على أنفسهم المتاعب إذا لم يردوا. وتمثلت إجاباتهم عن الأسئلة السابقة في «نعم يا سيدي»، و«كلا يا سيدي»، و«لا شيء»، ولم يختلف هذا الحال في ذلك اليوم، فتسببت الأصوات المتحدثة إليهم في بعض الانتباه والارتباك من جانبهم، وأجابوا أصحابها بتحفظهم المعتاد.
كان عليهم الانفصال عند وصولهم إلى ناصية معينة، وكان سيسي فيرنس الأكثر قلقا دوما بشأن الرجوع إلى المنزل؛ فسبقهم وهو يودعهم قائلا: «أراكم بعد الغداء.»
ورد عليه باد سولتر: «نعم، وسنذهب إلى وسط المدينة حينئذ.»
عنى ذلك، كما فهموا جميعا: «قسم البوليس بوسط المدينة»؛ فبدون استشارة بعضهم بعضا، بدا الأمر وكأنهم قد وضعوا خطة جديدة للإبلاغ عما رأوه بأسلوب أكثر وعيا، لكنهم لم يصرحوا بوضوح عن عدم الإفصاح عن أي شيء في المنزل، فما كان من سبب مقنع يحول دون إفصاح باد سولتر أو جيمي بوكس عما شاهداه في المنزل.
أما سيسي فيرنس، فلم يخبر أحدا في المنزل بأي شيء من قبل قط. •••
لقد كان سيسي فيرنس ابنا وحيدا، وكان والداه أكبر سنا من آباء الصبية الآخرين وأمهاتهم، أو هكذا بدا عليهما بسبب حياتهما البائسة معا. عندما ترك سيسي الصبية الآخرين، أخذ يهرول كعادته عند وصوله إلى المنطقة التي يقع فيها منزله. لم يكن السبب وراء ذلك هو تلهفه للعودة إلى المنزل، أو اعتقاده بأنه من الممكن أن يفعل شيئا أفضل عند وصوله، ولكن ربما كان السبب هو رغبته في جعل الوقت يمر سريعا؛ لأن اقترابه من المنزل كان يملؤه بالخوف.
وجد سيسي والدته في المطبخ عند وصوله. هذا أمر جيد. لقد نهضت من السرير، وإن كانت لا تزال ترتدي إزار النوم. لم يكن والده في المنزل، وهذا أمر جيد أيضا؛ لقد كان يعمل في صومعة الغلال التي تعمل بالآلات، ولا يعمل بعد ظهيرة أيام السبت؛ لذا، فإن عدم وجوده في المنزل بحلول ذلك الوقت كان معناه على الأرجح أنه قد ذهب مباشرة إلى كمبرلاند، ما عنى بدوره أنهم لن يضطرا للتعامل معه حتى وقت متأخر من اليوم.
كان والد سيسي يدعى سيسي فيرنس أيضا، وقد كان اسما مشهورا ومحبوبا بوجه عام في والي. وعندما يروي أحد قصة تدور أحداثها حول شخص بهذا الاسم - حتى بعد مرور ثلاثين أو أربعين عاما من ذلك الحين - كان سيسلم بأن الجميع سيعرفون أنه يتحدث عن الأب، وليس الابن. وإذا كان المستمع وافدا جديدا نسبيا على المدينة، وعقب على الحديث قائلا: «لا يبدو أنك تتحدث عن سيسي»، فكان يقال له إن سيسي الابن ليس هو المقصود من الحديث. «ليس هو، إننا نتحدث عن والده.»
تحدث الناس عن المرة التي ذهب فيها سيسي فيرنس إلى المستشفى - أو بالأحرى تم نقله إلى هناك - لإصابته بالالتهاب الرئوي أو داء آخر ميئوس منه. فلفته الممرضات في مناشف وملاءات مبللة لمعالجة الحمى التي كان يعاني منها، وأخذ جسده يتعرق مع انخفاض درجة حرارته حتى استحالت جميع المناشف والملاءات إلى اللون البني. لقد كان لون النيكوتين الذي يمتلئ به جسده. لم تر الممرضات شيئا كهذا من قبل. شعر سيسي بالغبطة؛ إذ ادعى أنه اعتاد شرب السجائر والكحوليات منذ أن كان في العاشرة من عمره.
تحدث الناس، كذلك، عن المرة التي ذهب فيها إلى الكنيسة. من الصعب تصور السبب وراء فعله ذلك، لكنها كانت كنيسة معمدانية، وكانت زوجته تتبع هذا المذهب؛ لذا، ربما فعل ذلك لإرضائها؛ وإن كان ذلك أصعب في التصور. وقد كانت الكنيسة تقدم القربان المقدس في يوم الأحد الذي ذهب فيه، وفي الكنائس المعمدانية، يقدم الخبز، لكن بدلا من النبيذ يقدم عصير العنب. وعند تقديم العصير لسيسي فيرنس، صاح بصوت عال: «ما هذا؟ إن كان هذا دم الحمل، فقد كان بلا ريب مصابا بفقر الدم.»
أعدت وجبة الظهيرة في مطبخ آل فيرنس؛ فوضعت شرائح الخبز على المائدة، وفتحت علبة من مكعبات الشمندر، وقليت بعض شرائح السجق الإيطالي، قبل البيض، مع أنه من المفترض قليها بعده، وأبقيت أعلى الموقد للحفاظ عليها دافئة. وكانت والدة سيسي قد بدأت حينذاك في قلي البيض. انحنت السيدة على الموقد وهي تمسك بملعقة البيض في إحدى يديها، بينما ضغطت باليد الأخرى على معدتها لشعورها بألم فيها.
فأمسك سيسي الملعقة من يدها، وخفض درجة حرارة الموقد الكهربائي العالية للغاية، وأبعد المقلاة عن الشعلة حتى تنخفض درجة حرارتها، وذلك لمنع بياض البيض من أن يجمد أو يحترق من الجوانب. لم يكن قد وصل في الوقت المناسب لتنظيف المقلاة من الدهن القديم ووضع بعض الدهن الجديد فيها، فلم تكن أمه تزيل الدهن القديم قط، وإنما تتركه في المقلاة لاستخدامه في وجبة بعد أخرى، وتضع القليل من الدهن الجديد عند الضرورة.
عندما صارت درجة الحرارة مناسبة من وجهة نظر سيسي، وضع المقلاة على الموقد وأخذ يلملم جوانب بياض البيض المتشعبة صانعا منها دوائر مرتبة، وعثر على ملعقة نظيفة وضع بها بعض الدهن الساخن على الصفار لطهيه. أحب هو ووالدته البيض بهذا الشكل، لكنها لم تتمكن عادة من طهيه على النحو الصحيح. أما والده، فأحب تناول البيض مقليا من الجانبين فيتم قلبه وتسويته كفطائر البان كيك، ويفضله شديد النضج حتى يصير كجلد الأحذية، وأسود اللون لامتلائه بالفلفل الأسود. وكان بوسع سيسي طهي البيض كما يفضله والده أيضا.
لم يعرف أي من الصبية الآخرين مدى براعة سيسي في المطبخ، كما لم يعرف أي منهم أيضا المكان الذي كان يختبئ فيه خارج المنزل في الزاوية المظلمة الموجودة بجوار نافذة غرفة الطعام خلف شجرة البرباريس اليابانية.
جلست والدته على الكرسي بالقرب من النافذة، في حين انتهى هو من إعداد البيض. أخذت تراقب الطريق من النافذة؛ فلم يفت الأوان بعد على وصول والده للمنزل لتناول الطعام. وربما لم يسكر بعد، لكن سلوكه لم يعتمد دوما على مدى سكره؛ فإن دخل إلى المطبخ الآن، فسيطلب من سيسي على الأرجح إعداد بعض البيض له أيضا، ثم سيسأله عن مئزر المطبخ الخاص به، ويقول له إنه سيصير زوجة بارعة في المستقبل. هكذا يكون سلوكه عندما يكون في حالة مزاجية جيدة، أما إذا كان في حالة مزاجية أخرى، فسيحدق في سيسي على نحو معين يعكس تعبيرا تهديديا عبثيا ومبالغا فيه، ويقول له إنه يجدر به الاحتراس. «تظن نفسك غلاما ذكيا، أليس كذلك؟ حسنا، لن أقول لك سوى أنه يجدر بك الاحتراس.»
وإذا نظر إليه سيسي - أو ربما أيضا إذا لم يفعل - أو إذا أسقط ملعقة البيض أو وضعها على نحو جعلها تصدر صوتا - أو حتى إذا توخى الحذر الشديد لعدم إسقاط أي شيء وإصدار أي ضوضاء - كان والده يكشر عن أنيابه ويزمجر كالكلب. قد يرى البعض مظهره مضحكا - بل إنه كذلك بالفعل - لكنه يكون جادا حين يفعل ذلك؛ فبعد دقيقة، يكون الطعام والأطباق على الأرض، والكراسي أو المائدة مقلوبة، وقد يطارد سيسي أيضا في أرجاء الغرفة وهو يصيح موضحا كيف سينال منه هذه المرة، ويسوي وجهه على الموقد الساخن، ويسأله عن رأيه فيما سيحدث له. وأي شخص يراه سيظن أنه مجنون. بيد أنه إذا طرق الباب في تلك اللحظات - ليعلن مثلا عن حضور أحد أصدقائه لاصطحابه إلى الخارج - كان وجهه يعود إلى طبيعته في الحال، ويفتح الباب، وينادي صديقه باسمه بصوت مازح. «سأكون معك في لحظات. كنت سأدعوك للدخول، لكن زوجتي ترمي الأطباق في أرجاء المنزل كعادتها.»
لم يكن يعتقد أن أحدا سيصدق ذلك، لكنه كان يقول مثل هذه الأشياء ليحول ما كان يحدث في منزله إلى مزحة.
سألت الأم سيسي عما إذا كان الطقس يزداد دفئا وأين ذهب ذلك الصباح.
فأجابها: «نعم، إنه يزداد دفئا، وقد ذهبت إلى الأراضي المسطحة بجوار النهر.»
فقالت له إنها بإمكانها شم رائحة الريح به.
واستطردت: «أتعلم ماذا سأفعل بعد تناولنا الطعام مباشرة؟ سآخذ زجاجة مياه ساخنة وأعود إلى السرير؛ لعلي أستعيد بعضا من عافيتي، وأشعر بأنني أفعل شيئا ذا قيمة.»
كان هذا ما تقوله عادة، لكنها كانت تصرح به دوما كما لو كان فكرة طرأت لها فجأة، مجرد قرار مفعم بالأمل. •••
كان لباد سولتر أختان أكبر منه لا تفعلان شيئا نافعا في الحياة إلا إذا أجبرتهما والدتهما على ذلك؛ فلم تقصرا ما تفعلانه من تصفيف الشعر، وطلاء الأظافر، وتنظيف الأحذية، ووضع مساحيق الزينة، بل وكل ما يتعلق بملابسهما أيضا، على غرف نومهما أو دورة المياه، وإنما كانتا تلقيان بالأمشاط وأدوات عقص الشعر وبودرة الوجه وطلاء الأظافر وملمع الأحذية بجميع أرجاء المنزل، وتملآن كذلك كل مساند الكراسي بالفساتين والبلوزات المكوية، هذا إلى جانب تجفيف السترات على المناشف على كل بقعة فارغة على الأرض (ثم تصرخان في وجه من يخطو بالقرب منها). اعتادتا، أيضا، تأمل نفسيهما في العديد من المرايا - مرآة حامل المعاطف، ومرآة بوفيه غرفة الطعام، والمرآة المعلقة بجوار باب المطبخ التي يمتلئ الرف الموجود أسفلها دوما بالدبابيس المشبكية، ودبابيس الشعر، والعملات المعدنية، والأزرار، وما تبقى من أقلام الرصاص. وأحيانا، كانت تقف إحداهما أمام إحدى هذه المرايا عشرين دقيقة كاملة أو نحو ذلك لتتأمل نفسها من عدة زوايا، وتفحص أسنانها، وتجذب شعرها للخلف ثم تنفضه للأمام، ثم تسير مبتعدة عن المرآة وقد بدا عليها الرضا بمظهرها، أو على الأقل الانتهاء مما كانت تفعله، لكنها ما إن تصل إلى الغرفة المجاورة وتمر بمرآة أخرى حتى تبدأ في تكرار كل ما فعلته مجددا كما لو كانت قد بدلت رأسها برأس جديد.
وفي اللحظة التي دخل فيها باد إلى المنزل، كانت أخته الكبرى - المفترض أنها جميلة - تنزع الدبابيس من شعرها أمام مرآة المطبخ، وقد لفته على شكل تموجات لامعة كالحلازين. أما أخته الأخرى، فكانت تهرس البطاطس؛ بأمر من والدتها، وكان أخوه، الذي يبلغ من العمر خمسة أعوام، يجلس في مكانه على المائدة، ويقرع بالشوكة والسكين بقوة لأعلى وأسفل، وهو يصيح: «أرغب في بعض الخدمة ... أرغب في بعض الخدمة.»
تعلم الفتى الصغير هذه العبارة من والده الذي كان يرددها أحيانا على سبيل الدعابة.
مر باد بجوار كرسي أخيه وقال هامسا: «انظر! إنها تضيف قطع البطاطس الكبيرة على صحن البطاطس المهروسة ثانية.»
كان باد قد أقنع أخوه في السابق أن قطع البطاطس الكبيرة من الإضافات الموجودة في خزانة المطبخ وتوضع في البطاطس المهروسة، شأنها شأن الزبيب الذي يوضع في حلوى الأرز باللبن.
فتوقف الأخ الأصغر عن الغناء، وبدأ في التذمر. «لن أتناول هذه البطاطس إذا وضعت فيها القطع الكبيرة. يا أمي! لن أتناول البطاطس إذا وضعت فيها القطع الكبيرة.»
فقالت له الأم التي أخذت تقلي شرائح التفاح وحلقات البصل مع شرائح اللحم: «يا إلهي! كفاك سخفا! توقف عن التذمر كالطفل الصغير.»
فقالت الأخت الكبرى: «باد هو السبب؛ لقد أخبره بأنها تضع القطع الكبيرة في البطاطس. إنه يقول له ذلك دوما، ولا يفلح إلا في ذلك.»
وعقبت دوريس - الأخت التي كانت تهرس البطاطس - بقولها: «إن باد يستحق تهشيم وجهه.» لم تقتصر مثل هذه العبارات دوما على كونها تهديدا فحسب، وإنما أصابت دوريس باد ذات مرة بندبة في وجنته بأحد أظافرها.
تحرك باد نحو خزانة الأطباق حيث استقرت أعلاها فطيرة راوند تركت لتبرد. التقط شوكة، وبحرص شديد أخذ يفحصها سرا، والبخار يتصاعد منها حاملا رائحة القرفة الشهية. حاول فتح أحد الشقوق الموجودة أعلاها ليتمكن من تذوق الحشو، فرأى الأخ الأصغر ما كان باد يحاول فعله، لكن خوفه الشديد منعه من أن يفتح فاه. كان أخوه مدللا، وتدافع عنه الأختان دوما؛ لكن باد كان الشخص الوحيد الذي يحترمه الأخ الأصغر في المنزل.
فكرر ما كان يقوله لكن بصوت خفيض رصين: «أرغب في بعض الخدمة.»
تحركت دوريس نحو خزانة الأطباق لتحضر وعاء للبطاطس المهروسة، فتحرك باد على نحو أهوج، وهبطت قطعة من الطبقة الخارجية للفطيرة نحو الداخل.
فقالت دوريس: «والآن، إنه يفسد الفطيرة. يا أمي! باد يفسد الفطيرة.»
قال باد: «فلتغلقي هذا الفم اللعين!»
فقالت الأم بحدة توحي بالتمرس والهدوء إلى حد ما: «ابتعد عن الفطيرة. وتوقفوا عن السباب. كفوا عن اللغو وتصرفات الصغار!» •••
جلس جيمي بوكس على مائدة مزدحمة لتناول وجبة الغداء، كان يعيش مع والده ووالدته وأختيه البالغتين من العمر أربعة وستة أعوام في منزل جدتهم الذي سكنته أيضا الجدة وأختها ماري وخاله الأعزب. امتلك والده ورشة لإصلاح الدراجات في السقيفة الموجودة خلف المنزل، وعملت والدته في متجر هونيكرز متعدد الأقسام.
وقد كان والده أعرج بسبب إصابته بفيروس شلل الأطفال الذي هاجمه في الثانية والعشرين من عمره، ما جعله يسير منحنيا للأمام ومتكئا على عكاز. لكن ذلك لم يبد واضحا أثناء عمله في الورشة؛ لأن طبيعة العمل تطلبت منه في الغالب الانحناء للأمام؛ بيد أنه عند سيره في الشارع، كان يبدو غريبا للغاية، لكن ما من أحد أهانه أو قلد حركاته متهكما. فقد كان في السابق لاعب هوكي وبيسبول بارزا في البلدة، وحتى الآن ظل محتفظا ببعض من رونق الماضي وبطولاته؛ مما جعل الناس ينظرون إلى حالته الحالية بعقلانية على أنها مجرد مرحلة يمر بها (وإن كانت نهائية). وقد ساعد والد جيمي في تكوين هذه النظرة لدى الناس بإطلاقه النكات دوما ونبرة حديثه التفاؤلية، منكرا الألم الذي بدا واضحا في عينيه الغائرتين وأرق جفنيه في كثير من الليالي. هذا فضلا عن عدم تغييره أسلوبه في الحديث عند عودته إلى المنزل، على عكس والد سيسي فيرنس.
لكن هذا المنزل لم يكن منزله بالطبع؛ فقد تزوجته زوجته بعد إصابته بالعرج، لكنهما كانا مخطوبين قبل ذلك الحين، وبدا من الطبيعي أن ينتقلا بعد الزواج إلى منزل والدتها كي تتمكن الجدة من رعاية الأحفاد أثناء خروج الأم لعملها. وبدا من الطبيعي أيضا لوالدة الزوجة أن ترعى أسرة أخرى، ولأختها ماري أن تنتقل للعيش معهم في نفس المنزل بعد فقدان بصرها، وأن يظل ابنها فريد - الذي اتسم بخجله الشديد - معها في المنزل إلى أن يجد مكانا آخر يستريح فيه أكثر من هذا المنزل. كانت عائلة تتقبل شتى صور الأعباء بأقل قدر ممكن من التذمر. وفي الواقع، ما من أحد في ذلك المنزل تحدث من قبل عن إعاقة والد جيمي أو فقدان أخت الجدة ماري لنظرها كأعباء أو مشكلات تفوق مشكلة خجل فريد مثلا. وما كانت العلل والشدائد بالأمور الملاحظة بينهم، أو البارزة بمقارنتها بنقائضها.
ساد في تلك العائلة اعتقاد بأن جدة جيمي طباخة ماهرة؛ ولعل ذلك كان حقيقيا في وقت من الأوقات، لكن في الآونة الأخيرة كان هناك تراجع في هذه البراعة؛ فحرصت الجدة على الاقتصاد عند إعداد الطعام على نحو لم تعد العائلة بحاجة إليه آنذاك؛ فقد كانت والدة جيمي وخاله يحصلان على رواتب جيدة، وأخت جدته ماري كانت تحصل على معاش، وكان العمل يسير على نحو جيد أيضا في ورشة الدراجات؛ ومع ذلك، كانت الجدة تستخدم بيضة واحدة، بدلا من ثلاث بيضات، وتضيف إلى رغيف اللحم كوب شوفان إضافيا، وتحاول تعويض الأمر بطهي صوص ورسيسترشير جيد أو رش الكثير من جوز الطيب على الكاسترد. لكن ما من أحد تذمر، بل مدحها الجميع. فكاد ذلك المنزل يخلو من أي نوع من الشكوى على الإطلاق. واعتاد الجميع أيضا الاعتذار بعضهم لبعض، حتى الفتاتان الصغيرتان كانتا تعتذران إحداهما للأخرى إذا اصطدمتا خطأ. مرر الجميع الطعام للآخرين، ورضي كل منهم بما قدم له، وتبادلوا عبارات الشكر على المائدة كما لو كان هناك ضيوف معهم كل يوم. هكذا سارت الحياة في ذلك المنزل المكتظ بالسكان الذي تكومت فيه الملابس على كل حامل، وتعلقت المعاطف على درابزين السلم، وأعدت الأسرة النقالة دوما في غرفة الطعام لجيمي وخاله فريد. هذا فضلا عن اختفاء البوفيه تحت أكوام من الملابس في انتظار كيها أو إصلاحها. ولم يكن أحد يحدث ضوضاء بصعوده أو نزوله السلم، أو يغلق الأبواب بقوة، أو يرفع صوت المذياع، أو يتفوه بأي كلمة سيئة.
لكن هل يفسر ذلك عدم إفصاح جيمي عما حدث ذلك اليوم عند تناوله الغداء مع عائلته؟ في الواقع، لم يفصح أي من الصبية الثلاثة عما حدث. ومن اليسير فهم السبب في حالة سيسي؛ فما كان والده ليتقبل أبدا ادعاء جيمي هذا الاكتشاف الخطير، وكان سيتهمه بلا شك بالكذب. ووالدته أيضا - التي كانت تحكم على كل شيء من منظور تأثيره على والده - كانت سترى - وستكون صائبة في ذلك - أنه حتى ذهاب سيسي إلى قسم الشرطة للإبلاغ عن الحادث سيتسبب في مشكلات في المنزل؛ ومن ثم، كانت ستطلب منه عدم الإفصاح عما رآه. لكن الصبيين الآخرين كانا يعيشان في أسرتين تتسمان بالعقلانية إلى حد بعيد، وبوسعهما الإفصاح؛ ففي منزل جيمي، كانت القصة ستسفر عن ذعر وبعض الاستنكار، لكن أسرته كانت ستقر في النهاية أن ما حدث لم يكن لجيمي يد فيه.
أما باد، فكانت أختاه ستتهمانه بالجنون، وربما تحرفان الأمر ليبدو أن اكتشافه لجثة رجل ما أمر يليق به وبعاداته الكريهة؛ بيد أن والده كان عقلانيا وصبورا واعتاد سماع الكثير من الهراء العجيب في عمله بوصفه وكيل شحن في محطة القطار؛ ومن ثم، كان سيسكت أختيه، وبعد التحدث معه بجدية بعض الوقت للتأكد من أنه لا يكذب ولا يبالغ، كان سيتصل بالشرطة.
لكن ما حال دون تحدث الصبية الثلاثة هو أن منازلهم بدت ممتلئة للغاية، وثمة أمور كثيرة تحدث فيها. ولا يستثنى من ذلك منزل سيسي؛ فحتى في ظل غياب والده، يسود المنزل دوما شعور بالتهديد وذكرى وجوده وما يصاحبه من اهتياج. ••• «هل أبلغتهم؟» «هل فعلت أنت؟» «لم أبلغهم أنا أيضا.»
سار الثلاثة في وسط البلدة على غير هدى حتى وصلوا إلى شارع شيبكا، ليجدوا أنفسهم يمرون بمنزل مبني من الجص ومكون من طابق واحد حيث كان يعيش السيد ويلينس وزوجته. لم يتعرفوا عليه إلا بعد وصولهم أمامه مباشرة. كان للمنزل نافذة بارزة صغيرة على كل جانب من جانبي الباب الأمامي، وكانت آخر درجة في السلم من أعلى تكفي لمقعدين اعتاد السيد ويلينس وزوجته وضعهما عليها في ليالي الصيف، لكنها خلت منهما آنذاك. كان هناك أيضا جزء ملحق بأحد جوانب المنزل ذو سطح مستو، وله باب آخر يطل على الشارع وممشى منفصل يؤدي إليه، وثمة لافتة بجوار الباب مكتوب عليها: «دكتور ويلينس، أخصائي بصريات». لم يكن أي من الصبية الثلاثة قد زار تلك العيادة من قبل، لكن أخت جدة جيمي - ماري - كانت تتردد عليها بانتظام للحصول على قطرات العين الخاصة بها، وجدته أيضا حصلت على نظارتها من هذه العيادة، وكذا فعلت والدة باد سولتر.
كان الجص الذي بني به المنزل من اللون الطوبي، وكانت أطر النوافذ والأبواب مطلية باللون البني، ولم تكن النوافذ الواقية من العواصف قد أزيلت بعد، كما هو الحال في معظم منازل البلدة، ولم يكن هناك أي شيء مميز في ذلك المنزل على الإطلاق، لكن فناءه الأمامي اشتهر بزهوره؛ فقد ذاع صيت السيدة ويلينس لبراعتها في أعمال البستنة؛ إذ لم تكن تزرع الزهور في صفوف طويلة مجاورة لحديقة الخضراوات، مثلما فعلت جدة جيمي ووالدة باد، وإنما كانت تزرعها في أحواض مستديرة وهلالية الشكل، وفي كافة أرجاء الحديقة، وفي دوائر تحت الأشجار. وكان من المنتظر أن تملأ هذه الحديقة في غضون أسابيع قليلة أزهار النرجس البري، لكن في ذلك الوقت، لم يكن شيء قد أزهر بعد في المكان سوى شجيرة زيتون كادت تصل إلى الإفريز في أحد أركان المنزل، وكانت تنثر أوراقها الصفراء في الهواء مثلما تنثر النافورة مياهها.
اهتزت أوراق الشجيرة، لكن ليس بفعل الرياح، وإنما لمرور شخص خرج من المنزل بجانبها. كان منحني الظهر ويرتدي ملابس بنية اللون. لقد كانت السيدة ويلينس في ملابس البستنة القديمة الخاصة بها. كانت سيدة قصيرة ممتلئة الجسم ترتدي بنطالا فضفاضا، وسترة ممزقة، وقبعة ذات حافة، وكانت واسعة على رأسها فنزلت إلى عينيها حتى كادت تخفيهما، لعلها كانت تخص زوجها، وحملت في يديها مجزا.
تقدموا ببطء للأمام؛ فما كان أمامهم خيار سوى ذلك أو الهرب. ولعلهم اعتقدوا أنها لن تلاحظهم، وأنهم سيقفون دون حراك كأنهم أعمدة، لكنها كانت قد رأتهم بالفعل؛ وكان هذا سبب خروجها مسرعة من المنزل.
قالت لهم السيدة ويلينس: «لقد رأيتكم تحدقون في شجيرة الزيتون في حديقتي. هل تريدون الحصول على بعض من أزهارها لتصطحبوها معكم إلى المنزل؟»
لكنهم لم يحدقوا في الشجيرة، وإنما في المشهد بالكامل؛ فالمنزل كان كعادته، واللافتة معلقة بجوار باب العيادة، والستائر تسمح بدخول الضوء إلى المكان. لم يكن هناك أي شيء يستحق التأمل أو ينذر بسوء، أو يدل على أن السيد ويلينس لم يكن موجودا بالداخل أو أن سيارته ليست في الجراج خلف العيادة، وإنما في بركة جوتلند. والسيدة ويلينس أيضا خرجت للعمل في حديقتها كما هو متوقع في ذلك الوقت من العام بعد ذوبان الجليد. نادت عليهم بصوتها المألوف الذي صار خشنا بسبب السجائر، بنبرة مباغتة وتحد، لكنه خلا في الوقت نفسه من العدائية. كان صوتا يسهل التعرف عليه من على بعد.
قالت لهم: «انتظروا، سوف أحضر لكم بعضا منها.»
أخذت تقطف بعض الأفرع ذات اللون الأصفر الزاهي منتقية إياها ببراعة، وعندما حصلت على كل ما تريده، تقدمت نحو الصبية خلف ستار من الأزهار.
وقالت لهم: «تفضلوا، خذوها إلى المنزل لأمهاتكم. إن رؤية هذه الزهور تدخل السرور دوما إلى النفس؛ فهي أول ما يزهر في الربيع.» وقسمت الأفرع بينهم، وهي تقول: «نقسمها إلى ثلاثة أقسام، مثل بلاد الغال قديما. لا ريب أنكم تعلمون ما أعني إذا كنتم تدرسون اللغة اللاتينية.»
فرد عليها جيمي، الذي كان أكثر تأهبا للتحدث مع السيدات مقارنة برفيقيه بسبب طبيعة حياته في المنزل: «لم نلتحق بالمدرسة الثانوية بعد.»
فقالت له: «حقا؟ حسنا، في انتظاركم أشياء كثيرة لتطلعوا إليها. اطلبوا من أمهاتكم وضع هذه الأزهار في ماء فاتر. بل لا تقولوا لهن شيئا؛ فأنا موقنة أنهن يعلمن ذلك بالفعل. لقد أعطيتكم أغصانا لم يكتمل نضجها بعد؛ ولذلك ستظل مزهرة فترة طويلة.»
شكرها الصبية؛ جيمي في البداية، ثم تبعه الآخران، وساروا تجاه وسط البلدة وأذرعهم محملة بالأغصان. لم تكن لديهم أي نية للرجوع والعودة بها إلى المنزل، وإنما اعتمدوا على جهل السيدة ويلينس بأماكن منازلهم. وبعد أن ابتعدوا بعض الشيء عنها، اختلسوا النظر وراءهم ليروا ما إذا كانت تراقبهم.
لم تكن تراقبهم، كما أن المنزل الكبير القريب من الرصيف حجب الرؤية بينهم وبينها على أي حال .
منحتهم الأزهار شيئا ليفكروا فيه؛ فكروا في الإحراج من حملها، وفي مشكلة التخلص منها، ولولا ذلك، لفكروا في السيد ويلينس وزوجته، وانشغال الزوجة في الحديقة بينما زوجها غارق في سيارته. هل كانت تعلم مكانه أم لا؟ بدا الأمر وكأنها لا تعلم. هل كانت تعلم حتى باختفائه؟ لقد تصرفت كأن كل شيء على ما يرام. وعندما كانوا واقفين أمامها، بدا لهم أن تلك هي الحقيقة بالفعل؛ فشعروا بأن ما يعلمونه وما رأوه يزوي وينهزم أمام جهل الزوجة به.
مرت بهم فتاتان تقودان دراجتيهما عند ناصية الشارع. كانت إحداهما دوريس، شقيقة باد، وعند رؤية الصبية، أخذتا في الصياح عاليا. «يا لها من أزهار جميلة! ترى أين حفل الزفاف؟ كم تبدن جميلات يا وصيفات العروس!»
فصاح باد بأفظع ما اهتدى إليه من كلمات. «انظري، الدماء تغرق مؤخرتك.»
بالطبع، لم تكن هناك أي دماء، لكن هذا ما حدث ذات مرة أثناء عودتها من المدرسة عندما بللت الدماء تنورتها، ورآها الجميع. كان موقفا لن يمحى من ذاكرتها إلى الأبد.
كان باد موقنا من أنها ستشي به في المنزل، لكنها لم تفعل؛ فخزيها من ذلك الحادث كان هائلا على نحو حال دون ذكرها أي شيء عنه، حتى وإن كان الغرض هو إيقاعه في المتاعب. •••
أدرك الصبية حينذاك أن عليهم التخلص من الأزهار على الفور؛ فما كان منهم إلا أن ألقوا بها تحت إحدى السيارات المتوقفة بجانب الطريق، ونفضوا عن ملابسهم أي بتلات متساقطة عليها أثناء توجههم نحو الميدان.
كانت أيام السبت لا تزال مهمة آنذاك؛ إذ كان يحضر أهل الريف إلى البلدة خلالها. كانت السيارات قد توقفت بالفعل حول الميدان وفي الشوارع الجانبية. وشباب الريف من الجنسين - والأطفال الأصغر منهم سنا من سكان البلدة والريف - يتوجهون للسينما لحضور الحفلة النهارية.
وجب على الصبية الثلاثة المرور بمتجر هونيكرز في المربع السكني الأول. وهناك، رأى جيمي والدته وقد بدت واضحة للجميع في إحدى واجهات المتجر. كانت قد عادت للعمل حينذاك، وأخذت تضع القبعة على رأس تمثال العرض، وتضبط البرقع الشبكي، ثم كتفي الفستان. كانت امرأة قصيرة؛ لذا لزم عليها الوقوف على أطراف أصابعها لفعل ذلك على نحو صحيح. خلعت حذاءها لتسير على السجادة المفروشة على أرضية الواجهة. وكان من الممكن رؤية كعبيها الممتلئين المتوردين عبر الجوارب التي كانت ترتديها. وعندما بسطت جسمها واقفة على أطراف أصابعها، كان من الممكن رؤية باطن ركبتيها عبر فتحة التنورة الخلفية. وأعلى ذلك كانت مؤخرتها العريضة، والمتناسقة في الوقت نفسه مع قوامها، ثم حافة ملابسها الداخلية أو المشد. كان بوسع جيمي سماع تذمرها الخافت في رأسه، وشم رائحة جواربها التي كانت تخلعها فور وصولها المنزل للحفاظ عليها من البلى. الجوارب والملابس الداخلية - حتى الملابس الداخلية الحريمي النظيفة - كانت لها رائحة باهتة من نوع خاص، جذابة ومثيرة للاشمئزاز في الوقت نفسه.
تمنى جيمي أمرين حينذاك؛ الأمر الأول هو ألا يكون رفيقاه قد لاحظا أمه (لكنهما لاحظاها بالفعل؛ بيد أن فكرة تأنق الأم كل يوم وخروجها للحياة العامة في البلدة كان أمرا غريبا للغاية بالنسبة إليهما، ما حال دون تعليقهما عليه، فتجاهلاه فحسب). والأمر الثاني هو ألا تستدير والدته وتراه؛ فإن فعلت ذلك، كانت ستطرق على زجاج الواجهة، وتلقي التحية عليه؛ فقد كانت تتخلص عند ذهابها إلى العمل من التحفظ الصامت والدماثة المتأنية التي سادت المنزل، ويتحول لطفها وكرمها مع الآخرين من إذعان إلى حيوية وجرأة. واعتاد جيمي أن يسعد بهذا الجانب المرح من شخصيتها، كما كان يسعد بمتجر هونيكرز وما به من مناضد بيع ضخمة مصنوعة من الزجاج والخشب اللامع، ومرايا كبيرة أعلى السلم حيث تمكن من رؤية نفسه وهو يصعد إلى قسم الملابس الحريمي بالطابق الثاني.
كانت والدته تقول عند رؤيته: «ها قد جاء شيطاني الصغير»، وتلقي له أحيانا بعشرة سنتات. ولم يتمكن قط من البقاء معها أكثر من دقائق معدودة؛ إذ من المحتمل أن يكون السيد هونيكر وزوجته يراقبان ما يحدث. «شيطاني الصغير.»
كلمات أسعده سماعها في السابق، شأنها شأن رنين السنتات، لكنها صارت مصدر خجل له الآن عليه إخفاؤه.
فقد أصبحت ماضيا منسيا.
وفي المربع السكني التالي، كان عليهم المرور بمطعم ديوك أوف كمبرلاند، لكن سيسي لم يكن قلقا؛ لأن عدم حضور والده إلى المنزل في موعد الغداء يعني أنه سيظل في ذلك المطعم عدة ساعات تالية، لكن كلمة «كمبرلاند» كان لها دوما وقع ثقيل في نفسه؛ حتى قبل أن يعرف معناها، كانت تنزل عليه كالحمل الثقيل المقبض للصدر، مثل الثقل الذي يرتطم بقاع المياه المظلمة.
وبين مطعم كمبرلاند ومبنى البلدية زقاق غير ممهد، وخلف هذا المبنى كان قسم الشرطة. دخل الصبية الزقاق، وسرعان ما سمعوا ضوضاء عالية غير تلك الصادرة من الشارع. لم تكن هذه الضوضاء صادرة من المطعم الذي كتمت الأصوات داخله؛ إذ لم يحتو البار إلا على نوافذ صغيرة عالية، مثل المراحيض العامة، وإنما كانت صادرة عن قسم الشرطة، الذي فتح بابه في ظل اعتدال الطقس، وفاحت منه رائحة السيجار وتبغ الغليون التي كان من الممكن شمها من الزقاق في الخارج. ولم يكن رجال الشرطة وحدهم الجالسين بالداخل، لا سيما في فترات بعد الظهيرة أيام السبت، مع تشغيل المدفأة في فصل الشتاء والمروحة في الصيف، وترك الباب مفتوحا للسماح للهواء العليل بالدخول في أيام الطقس المعتدل مثل ذلك اليوم. فكان من المتوقع وجود كولونيل بوكس بالداخل، بل إن الصبية تمكنوا في الواقع من سماع صوت حشرجة أنفاسه الطويلة التي كانت تلي ضحكته المشوبة بآثار الربو الذي كان يعاني منه. كان الكولونيل بوكس أحد أقارب جيمي، لكن ثمة برودا ساد في العائلة تجاهه بسبب عدم موافقته على زواج والد جيمي. وكان يتحدث مع جيمي - عندما يتعرف عليه - بنبرة ساخرة مندهشة. وقد أوصت والدة جيمي الفتى قائلة: «إذا قدم لك ربع دولار أو أي شيء من هذا القبيل، فأخبره أنك لست بحاجة إليه.» لكن الكولونيل بوكس لم يعرض عليه أي أموال قط.
كان السيد بولوك، الذي عمل في الصيدلية قبل تقاعده، بالداخل أيضا على الأرجح، وكذلك السيد فيرجس سولي، الذي لم يكن غبيا، لكن مظهره أوحى بذلك بسبب تعرضه للغازات في الحرب العالمية الأولى. قضى هؤلاء الرجال وآخرون يومهم بالكامل في لعب الورق، والتدخين، ورواية القصص، وشرب القهوة على نفقة البلدة (كما كان والد باد يقول)، وأي أحد يرغب في تقديم شكوى أو بلاغ ما، كان عليه فعل ذلك على مرأى - وربما أيضا على مسمع - منهم جميعا.
لقد وقعوا في الفخ.
وصل الصبية الثلاثة بالكاد أمام الباب الأمامي، لم يلاحظهم أحد، وهناك سمعوا كولونيل بوكس يقول: «إنني لم أمت بعد.» مكررا العبارة الأخيرة لقصة ما يرويها؛ فبدءوا في السير ببطء بعيدا عن المكان، وقد طأطئوا رءوسهم وأخذوا يركلون الحصى بالطريق. وعند الوصول إلى زاوية المبنى، أسرعوا في خطاهم، وعند مدخل مرحاض الرجال العام، وجدوا خطا من القيء الحديث المتكتل على الحائط، وعددا من الزجاجات الفارغة على الأرض. لزم عليهم السير بين صناديق القمامة والنوافذ العالية - التي كشفت المكان بالكامل - لمكتب أمين سجلات البلدية، ليخرجوا من الطريق المليء بالحصى عائدين إلى الميدان.
قال سيسي لرفيقيه: «معي نقود.» أشعرهم الإفصاح عن امتلاكه المال بالراحة، وخشخش سيسي بالعملات المعدنية في جيبه. لقد كانت الأموال التي منحته إياها والدته بعد غسيله الأطباق وذهابه لها في غرفة النوم الأمامية ليخبرها بأنه سيخرج. قالت له: «خذ خمسين سنتا من على منضدة الزينة.» امتلكت والدته بعض المال أحيانا، مع أنه لم ير والده يمنحها أي أموال قط، وعندما كانت تقول له «خذ» كذا، أو تعطيه بعض العملات المعدنية، كان سيسي يدرك أنها خجلة من حياتهم وخجلة من أجله، ومنه. وفي تلك اللحظات، كان يكره رؤيتها (وإن كان يسعد برؤية المال)، لا سيما عندما كانت تقول له إنه فتى صالح ويجب ألا يظن أبدا أنها لا تشعر بالامتنان له لكل ما يفعله.
سلك الصبية الثلاثة الطريق المؤدي إلى المرفأ. وبجوار محطة بنزين باكيت، كان هناك كشك تبيع فيه السيدة باكيت الهوت دوج والآيس كريم والحلوى والسجائر. وقد رفضت في السابق بيع السجائر لهم، حتى بعد أن قال لها جيمي إنه يشتريها لخاله فريد. لكنها لم تتحامل عليهم بسبب هذه المحاولة. كانت امرأة كندية من أصل فرنسي، جميلة وممتلئة القوام.
اشتروا بعض حلوى عرق السوس الأسود والأحمر، واعتزموا شراء الآيس كريم لاحقا، عندما يخف شعورهم بالامتلاء بسبب وجبة الغداء. توجهوا نحو مقعدي سيارة قديمين موضوعين بجوار السور تحت شجرة تظلل المكان في فصل الصيف، وتشاركوا معا حلوى عرق السوس.
جلس كابتن تيرفيت على المقعد الآخر.
عمل كابتن تيرفيت قبطانا حقيقيا لأعوام عديدة على متن القوارب في البحيرة، أما الآن، فقد حصل على وظيفة مسئول أمن خاص؛ إذ كان يوقف السيارات للسماح للأطفال بعبور الطريق أمام المدرسة، ويحميهم من الانزلاق بالشوارع الجانبية في الشتاء. كان ينفخ في صافرة يحملها في إحدى يديه، في حين يرفع يده الأخرى الضخمة التي بدت كيد المهرج وهي مغطاة بالقفاز الأبيض. كان لا يزال طويلا مشدود البنية وعريض المنكبين، بالرغم من كبر سنه وشعره الأبيض. وامتثلت السيارات لأوامره، وكذلك الأطفال.
وفي الليل، كان يتفقد أبواب جميع المتاجر ليتأكد من غلقها بالأقفال، ومن خلوها من أي أحد يحاول سرقتها، أما نهارا، فكان ينام عادة في الأماكن العامة؛ ففي الطقس السيئ، ينام في المكتبة، وعندما تتحسن الأحوال الجوية، كان ينتقي أي مقعد في الهواء الطلق. لم يقض الكثير من الوقت في قسم الشرطة، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى ضعف سمعه الذي حال دون متابعته للمحادثات التي كانت تجري هناك إلا إذا ارتدى السماعة الخاصة به، التي كرهها شأنه شأن كل ضعاف السمع؛ هذا فضلا عن اعتياده العزلة، بالتأكيد أثناء عمله قبطانا وتحديقه في الخلاء من فوق قوارب البحيرة.
أغمض الكابتن عينيه ومال برأسه للخلف كي يسمح لأشعة الشمس بالتدفق على وجهه، وعندما ذهب الصبية للتحدث معه (اتخذ هذا القرار دون أي مشاورة، ولم يتبادلوا سوى نظرة واحدة توحي بالإذعان والتردد) كان عليهم إيقاظه من غفوته. استغرق وجهه لحظة ليدرك المكان والزمان والأشخاص من حوله، ثم أخرج ساعة كبيرة عتيقة من جيبه، كما لو كان اعتاد على سؤال الأطفال له دوما عن الساعة، لكنهم بدءوا في التحدث معه وقد بدا على ملامحهم الارتباك وبعض الخجل. قالوا له: «السيد ويلينس في بركة جوتلند»، و«لقد رأينا السيارة»، و«لقد غرق.» فحينها وجب على الكابتن رفع يده والتلويح لهم ليصمتوا، بينما بحث بيده الأخرى في جيب بنطاله ليخرج سماعة أذنه. أومأ برأسه بجدية وعلى نحو تشجيعي، كما لو كان يقول لهم «مهلا، مهلا»، بينما كان يضع السماعة في أذنه. ثم، رفع كلتا يديه ليطلب منهم الانتظار حتى يختبر تشغيلها. وفي النهاية، أومأ برأسه ثانية على نحو أكثر نشاطا، وقال لهم «فلتتحدثوا الآن» بصوت حازم، وإن كان يمزح إلى حد ما بشأن هذا الحزم.
كان سيسي - الأكثر هدوءا بين رفيقيه، في حين كان جيمي الأكثر أدبا، وباد الأكثر ثرثرة - هو الذي غير مجرى الحديث تماما.
فقال للكابتن: «سحاب بنطالك مفتوح.»
ثم صاحوا جميعا بمرح، وفروا سريعا. •••
لم يختف مرحهم في الحال، لكنه لم يكن بالشيء الذي يمكنهم مشاركته مع الآخرين أو التحدث عنه؛ لذا، لزم عليهم الافتراق.
عاد سيسي إلى منزله ليعمل على تجهيز مكان اختبائه. كانت الأرضية المغطاة بالورق المقوى التي غطاها الثلج في فصل الشتاء قد صارت مبتلة الآن وبحاجة لاستبدالها. أما جيمي، فقفز إلى علية المرأب حيث اكتشف مؤخرا صندوقا به مجلات دوك سافيدج قديمة تخص خاله فريد. عاد باد أيضا إلى المنزل حيث لم يجد سوى والدته التي أخذت تلمع أرضية غرفة الطعام بالشمع، فتصفح بعض الكتب الهزلية مدة ساعة أو نحو ذلك، ثم باح لها بسره. اعتقد باد أن والدته ليست لها أي خبرة أو سلطة خارج المنزل، وأنها لن تتخذ أي قرار بشأن ما يجب فعله إلا بعد اتصالها بوالده، لكن ما أدهشه هو أنها اتصلت على الفور بالشرطة، ثم بوالده. وذهب شخص ما لإحضار سيسي وجيمي.
توجهت إحدى سيارات الشرطة إلى جوتلند متبعة طريق البلدة الرئيسي، وتأكد الخبر. ومن ثم، ذهب أحد رجال الشرطة وقس الكنيسة الأنجليكية للسيدة ويلينس.
ورد في التقارير أنها قالت لهما: «لم أرغب في إزعاجكم؛ كنت سأمهله حتى حلول الظلام.»
وأخبرتهما أن السيد ويلينس قد قاد سيارته متوجها إلى الريف ظهيرة اليوم السابق لإيصال بعض قطرات العين إلى رجل ضرير مسن. وأضافت أنه كان يتعطل أحيانا في طريق عودته بسبب زيارته لبعض الناس أو تعطل السيارة في الطريق.
سألها الشرطي إن كان مكتئبا أو أي شيء من هذا القبيل.
فأجاب القس: «كلا بالتأكيد. لقد كان يلعب دورا رئيسيا في جوقة المنشدين بالكنيسة.»
وقالت السيدة ويلينس: «لم يعرف الاكتئاب قط.»
كون الناس انطباعا عن الصبية الثلاثة الذين عادوا إلى منازلهم، وتناولوا الغداء، ولم ينبسوا ببنت شفة عما رأوه، ثم اشتروا حلوى عرق السوس، فأطلقوا عليهم اسما مستعارا، وهو «الميت»، وظل هذا الاسم ملازما لهم. حمله جيمي وباد إلى أن غادرا البلدة، أما سيسي، الذي تزوج وهو في سن صغيرة وعمل في صومعة الغلال، فشهد انتقال الاسم إلى ابنيه. وبحلول ذلك الوقت، لم يعد أحد يفكر فيما يرمز إليه الاسم.
أما إهانتهم للكابتن تيرفيت، فظلت سرا.
توقع كل منهم أي نوع من التذكير بما حدث من جانب الكابتن - كنظرة توحي بالاحتقار أو الإدانة - في المرة التالية التي مروا فيها تحت ذراعه المرفوعة ليعبروا الطريق إلى المدرسة، لكنه رفع يده المغطاة بالقفاز الأبيض، تلك اليد النبيلة الأشبه بأيدي المهرجين، برزانته الخيرة المعتادة، ليعلن عن سماحه لهم بعبور الطريق. (2) سكتة قلبية «التهاب كبيبات الكلى»، هكذا كتبت إنيد في مفكرتها. كانت تلك أول حالة تراها مصابة بهذا المرض. في الواقع، كانت كليتا السيدة كوين تعانيان تلفا شديدا، وما من شيء يمكن فعله حيال ذلك. أصيبت الكليتان بالجفاف، وصارتا كتلتين صلبتين وحبيبيتين لا فائدة منهما، كما أصبح بولها شحيحا ولونه غير صاف، وكانت رائحة أنفاسها وبشرتها نفاذة ومنذرة بالسوء. وانبعثت منها أيضا رائحة أخرى أقل حدة، تشبه رائحة الفواكه العطنة، رأت إنيد أنها مرتبطة بالبقع ذات اللون البني الباهت الموجودة على جسدها. ارتعشت ساقاها بفعل تشنجات الألم المفاجئ، وصارت بشرتها معرضة للحكة العنيفة، ما جعل إنيد تدعكها بالثلج الذي كانت تلفه في المناشف، وتضغط به على البقع المصابة.
سألت أخت زوج السيدة كوين: «كيف يصاب المرء بهذا المرض؟» كانت تدعى السيدة أوليف جرين (ويعني الاسم بالعربية «الزيتون الأخضر») (لم يخطر ببالها قط ما سيبدو عليه اسمها إلا بعد أن تزوجت وصار الجميع يسخرون منها فجأة، على حد قولها). عاشت في مزرعة تبعد بضعة أميال عن الطريق السريع، وكانت تعرج على منزل السيدة كوين كل بضعة أيام لتأخذ الملاءات والمناشف وملابس النوم إلى منزلها لتغسلها، وكانت تغسل ملابس الأطفال أيضا، ثم تعيد كل شيء بعد كيه وطيه. كانت تكوي أشرطة ملابس النوم أيضا. شعرت إنيد بالامتنان لها؛ إذ عملت قبل ذلك بوظائف أجبرتها على غسل الملابس بنفسها، أو فعل ما هو أسوأ من ذلك، وهو أن تحملها إلى والدتها التي كانت تدفع المال مقابل تنظيفها في البلدة. لم ترغب إنيد في الرد بوقاحة على سؤال السيدة جرين، لكنها استشفت ما سيئول إليه الحوار بعد ذلك، فأجابت: «يصعب تحديد ذلك بالضبط.»
فردت السيدة جرين عليها: «السبب وراء سؤالي هو أننا نسمع أمورا كثيرة؛ فأي سيدة يمكن أن تتعاطى بعض الحبوب أحيانا، مثل تلك التي تؤخذ عند تأخر الدورة الشهرية. وإذا التزمت بإرشادات الطبيب عند تعاطيها، وكان الغرض منها حسنا، فلا بأس. لكن السيدات يأخذن أحيانا أعدادا كبيرة من هذه الحبوب ولأغراض سيئة، فتتعرض الكلى للتلف في أجسامهن. أليس كذلك؟»
فقالت إنيد: «لم يسبق لي التعامل مع حالة كهذه من قبل.»
كانت السيدة جرين امرأة طويلة وبدينة، وشأنها شأن أخيها روبرت - زوج السيدة كوين - كان وجهها مستديرا متجعدا ولكنه مقبول، وأنفها أفطس، وكانت والدة إنيد تشبه الشخص الذي يمتلك هذه الملامح بالبطاطس الأيرلندية. لكن خلف ذلك التعبير البشوش الذي ارتسم على وجه روبرت، توارى الارتياب والتحفظ. وخلف وجه السيدة جرين، توارى التوق، وإن لم تعلم إنيد إلى أي شيء تتوق السيدة جرين، لكنها سعت إلى معرفة المزيد في أي محادثة بسيطة. لعلها كانت تتوق لمعرفة المزيد من الأخبار عن شيء ما مهم، أو بالأحرى عن حدث مهم.
وبالطبع ، كان هناك حدث مهم على وشك الحدوث؛ حدث جلل على الأقل في هذه الأسرة؛ فقد كانت السيدة كوين على وشك الموت وهي في سن السابعة والعشرين (وهي السن التي توقعتها لنفسها، وإن كانت إنيد قد توقعت أن تزيد عن ذلك ببضعة أعوام، لكن عندما يستمر المرض حتى هذه السن، يصير من الصعب التكهن بالعمر الذي سيصل إليه المريض). فعندما ستتوقف كليتاها عن العمل تماما، سيتوقف كذلك القلب، وتموت. قال الطبيب لإنيد: «ستظلين تراعينها حتى فصل الصيف، لكنك ستحظين على الأرجح بإجازة قبل انتهاء الفصل.»
وفي إحدى المرات، قالت السيدة جرين لإنيد: «قابلها روبرت عند ذهابه إلى الشمال. كان قد انتقل إلى هناك وحده حيث عمل في الغابات. وكانت تعمل في أحد الفنادق. لست متأكدة من طبيعة عملها، ربما عاملة تنظيف للغرف، لكنها لم تنشأ في ذلك المكان؛ وإنما تقول إنها نشأت في ملجأ للأيتام في مونتريال. أمر لا ذنب لها فيه. وقد تتوقعين تحدثها الفرنسية لهذا السبب، لكنها إن كانت تتحدثها فعلا، فهي تبقي الأمر سرا عن الآخرين.»
فردت إنيد: «حياة مثيرة.» «قوليها ثانية!»
كررت إنيد قولها: «حياة مثيرة.» لم تستطع إنيد أحيانا كبح جماح نفسها؛ فكانت تطلق النكات في مواقف يصعب أن تؤثر فيها هذه النكات على من أمامها. وفي ذلك الموقف، رفعت إنيد حاجبيها على نحو تشجيعي، وابتسمت السيدة جرين بالفعل.
لكن هل جرح ذلك مشاعر السيدة جرين؟ لقد تشابهت ابتسامتها مع ابتسامة روبرت عند محاولته تجنب استهزاء الآخرين به عندما كان في المدرسة الثانوية.
قالت لها السيدة جرين: «لم يكن لروبرت رفيقة من قبل.»
كانت إنيد في نفس الفصل مع روبرت، لكنها لم تخبر السيدة جرين بذلك. وقد أشعرها ذلك ببعض الإحراج؛ لأن روبرت كان أحد الصبية - أو بالأحرى أهمهم - الذي تعمدت هي وصديقاتها مضايقته وإزعاجه؛ فكن يضايقنه بملاحقته في الشارع وسبه، فيبتئس وتنتفخ شرايين عنقه، فيقلن: «روبرت يعاني من الحمى القرمزية؛ يجب الحجر عليه صحيا.» وكن - إنيد وجوان ماكوليف، وماريان ديني - يتظاهرن أيضا بأن إحداهن مفتونة به، ويقلن له: «إنها تريد التحدث معك يا روبرت. لم لا تطلب الخروج معها؟ يمكنك، على الأقل، مهاتفتها. إنها تتحرق شوقا للتحدث معك.»
في الواقع، لم تتوقع الفتيات أن يستجيب روبرت لتلك المناشدات من جانبهن، لكنهن كن سيمرحن حقا إن فعل؛ فكان سينبذ في الحال، ويذاع الخبر في جميع أنحاء المدرسة. لماذا؟ لماذا كن يعاملنه على هذا النحو وتحدوهن رغبة شديدة في إذلاله؟ الجواب ببساطة هو: لأنه كان بإمكانهن فعل ذلك.
من المحال أن يكون روبرت قد نسي ذلك، لكنه مع ذلك تعامل مع إنيد كأنه لم يعرفها من قبل؛ مجرد ممرضة لزوجته أتت إلى منزله من أي مكان؛ وتعاملت هي معه على هذا الأساس.
اتسمت الأمور دوما بالتنظيم على نحو غير اعتيادي لإعفاء إنيد من بذل أي جهد إضافي؛ فكان روبرت ينام ويتناول الطعام في منزل السيدة جرين، في حين كان من الممكن أيضا انتقال الفتاتين الصغيرتين إلى هناك، لكن كان لا بد من نقلهما إلى مدرسة أخرى في هذه الحالة. ولم يكن قد بقي على انتهاء الدراسة سوى قرابة الشهر، قبل أن تغلق المدارس أبوابها لحلول فصل الصيف.
واعتاد روبرت المجيء إلى المنزل في المساء للتحدث مع طفلتيه.
فيسألهما: «هل كنتما فتاتين مطيعتين؟»
وكانت إنيد تقول لهما: «فلتريا والدكما ما فعلتماه بالمكعبات»، أو «لترياه ما فعلتماه في كتاب التلوين.»
كانت إنيد هي التي أحضرت كل تلك المكعبات وأقلام الألوان، وكتب التلوين؛ إذ اتصلت بوالدتها هاتفيا، وطلبت منها البحث في الصناديق القديمة عما يمكن للأطفال اللعب به. وفعلت أمها ذلك بالفعل، وجلبت لها كذلك كتابا قديما يحتوي على صور مقصوصة من كتب أخرى كانت قد حصلت عليه من شخص ما. وضم ذلك الكتاب صورا للأميرتين إليزابيث ومارجريت روز، والكثير من الأزياء الخاصة بهما. ولم تتمكن إنيد من إجبار الفتاتين على شكرها إلا بعد أن وضعت تلك الأشياء فوق رف عال، وقالت لهما إنها ستظل هناك بالأعلى إلا أن يشكراها عليها. بلغت لويس وسيلفي من العمر سبعة وستة أعوام، لكنهما كانتا جامحتين كالقطط البرية الصغيرة.
لم يسأل روبرت عن مصدر تلك الألعاب. لكنه كان يطلب من ابنتيه أن يحسنا التصرف، ويسأل إنيد عما إذا كان هناك أي شيء تريده من البلدة. وذات مرة، قالت له إنيد إنها قد استبدلت مصباح الإضاءة الموجود في مدخل القبو، وطلبت منه إحضار بعض المصابيح احتياطيا.
فقال لها: «كان بوسعي أن أفعل ذلك.»
فقالت إنيد: «ليست لدي أي مشكلة في تغيير مصابيح الإضاءة أو الصمامات الكهربائية أو دق المسامير؛ فقد مرت فترة طويلة على حياتي مع والدتي في المنزل دون أي رجل معنا.» كانت إنيد تحاول ممازحته بود، لكنها لم تنجح في ذلك.
ففي نهاية الحوار، كان روبرت يسأل عن حال زوجته، وإنيد ترد عليه بأن ضغط الدم منخفض قليلا، أو أنها قد تناولت طعامها وتركت بعضا من بيض الأومليت للعشاء، أو أن أكياس الثلج ساعدت في التخفيف من الحكة بجلدها وتحسن نومها. وفي تلك المرة، قال لها روبرت إنه يجدر به عدم الدخول إليها إن كانت نائمة.
فأثنته إنيد عن ذلك، موضحة له أن رؤية الزوج تنفع أي امرأة أكثر من الغفو قليلا، وأخذت الطفلتين إلى غرفتهما لتمنح الرجل وزوجته بعض الخصوصية، لكن روبرت لم يبق معها في أي مرة أكثر من بضع دقائق قليلة. وعند عودة إنيد إلى الطابق السفلي ودخولها الغرفة الأمامية - التي صارت الآن غرفة المريضة - لتجهيز المريضة للنوم في المساء، وجدت السيدة كوين مستلقية على السرير وقد أسندت ظهرها على الوسائد، وقد بدا عليها الانفعال وإن لم تكن مستاءة.
قالت لها السيدة كوين: «لم يطل بقاؤه، أليس كذلك؟ إنه يضحكني. هاهاها، كيف حالك؟ هاهاها، سأرحل. لعله يسأل نفسه: لماذا لا نخرجها من المنزل ونلقيها بين روث الحيوانات؟ لماذا لا نتخلص منها بالخارج كالقطة النافقة؟ أليس كذلك؟»
أجابتها إنيد وهي تحضر وعاء المياه والمناشف والكحول الطبي وبودرة الأطفال: «لا أظن ذلك.»
ردت السيدة كوين بشيء من القسوة: «لا أظن ذلك»، ثم استسلمت سريعا لخلع إنيد رداء النوم الخاص بها عنها، وإبعاد شعرها عن وجهها، ووضع المنشفة تحت فخذيها. اعتادت إنيد احتجاج الناس عند تعرية أجسادهم، حتى عندما يكونون طاعنين في السن أو يعانون من مرض شديد، ولزم عليها أحيانا مضايقتهم ليعودوا إلى رشدهم؛ فتقول للمريضة: «هل تعتقدين أنني لم أر عورة أحد من قبل؟ لقد رأيت الكثير، وصار الأمر مملا للغاية بعد فترة؛ فنحن إما رجال أو نساء.» لكن السيدة كوين لم تتسم بالحياء؛ إذ كانت تباعد بين ساقيها وترفع جسمها قليلا لتسهل الأمر على إنيد. اتسمت بنية جسمها العظمية بصغرها ورقتها، والتي صار شكلها غريبا الآن في ظل تورم بطنها وأطرافها، وانكماش ثدييها ليصيرا كالكيسين الضئيلين بحلمتين جافتين مثل حبات العنب المجفف.
قالت السيدة كوين: «جسد متورم كالخنازير، فيما عدا ثديي اللذين كانا دوما بلا قيمة. لم أتمتع يوما بثديين كبيرين مثلك. ألم تملي من رؤيتي؟ ألن يسعدك موتي؟»
فأجابتها إنيد: «إذا كان هذا هو شعوري، فما كنت لأوجد هنا الآن.»
قالت السيدة كوين: «فلتذهب إلى الجحيم. هذا ما ستقولونه جميعا. فلتذهب إلى الجحيم. لم تعد لي أي فائدة لروبرت الآن، أليس كذلك؟ لم تعد لي أي فائدة لأي رجل. إنه يخرج من هنا كل ليلة ويذهب لاصطياد النساء، أليس كذلك؟» «إنه يذهب إلى منزل أخته، على حد علمي.» «على حد علمك؛ لكنك لا تعلمين الكثير.»
اعتقدت إنيد أنها تعلم ما كان وراء ذلك الحقد والعداوة والتأهب للتشاجر؛ ألا وهو بحث السيدة كوين عن عدو للتعارك معه. يشعر المرضى بالاستياء من الأصحاء، وينطبق ذلك أحيانا على الأزواج والزوجات، بل وعلى الأمهات والأبناء أيضا. وكان ذلك الاستياء من الزوج والأبناء في حالة السيدة كوين؛ ففي صبيحة أحد أيام السبت، نادت إنيد على لويس وسيلفي اللتين كانتا تلعبان تحت الشرفة لتريا والدتهما بعد أن تجملت. كانت السيدة كوين قد حصلت على حمامها الصباحي لتوها، وارتدت رداء النوم النظيف، وصفف شعرها الناعم الخفيف الأشقر وعقد إلى الخلف بشريط أزرق (كانت إنيد تصطحب معها عددا من هذه الأشرطة عند ذهابها لتمريض سيدات مريضات، بالإضافة إلى زجاجة كولونيا وقطعة من الصابون المعطر). بدت السيدة كوين جميلة بالفعل - أو على الأقل كانت كذلك فيما مضى، بما تتمتع به من جبهة عريضة، وعظام وجنتين واسعتين (كادت تبرز من الجلد الآن، وصارت تشبه مقابض الأبواب الخزفية)، وعينين كبيرتين تميلان للون الأخضر، وأسنان ناصعة البياض تشبه أسنان الأطفال، وذقن صغير بارز.
دخلت الطفلتان الغرفة طوعا، لكن دون تحمس.
قالت السيدة كوين: «أبعديهما عن سريري؛ فهما متسختان.»
وردت إنيد: «إنهما تريدان رؤيتك فحسب.»
فقالت السيدة كوين: «حسنا، وقد فعلتا. الآن، يمكنهما المغادرة.»
لم يبد أن هذا السلوك قد فاجأ الطفلتين أو أحبطهما، فما كان منهما إلا أن نظرتا لإنيد التي قالت لهما: «حسنا، إن أمكما بحاجة لنيل قسط من الراحة الآن.» فخرجتا من الغرفة راكضتين ودخلتا إلى المطبخ وأغلقتا الباب بعنف وراءهما.
قالت السيدة كوين: «ألا يمكنك نهيهما عن فعل ذلك؟ في كل مرة تصفعان فيها الباب على هذا النحو أشعر كما لو أن قالبا من الطوب قد ألقي على صدري.»
بدا الأمر وكأن ابنتيها طفلتان يتيمتان مشاكستان تفرضان نفسيهما عليها في زيارة غير محددة المدة، لكن هكذا حال بعض الناس إلى أن يرضوا بفكرة الموت، بل إلى أن يلقوا حتفهم في بعض الأحيان؛ فمن هم أكثر رفقا من السيدة كوين يمكن أن يقولوا إنهم يعلمون مدى كراهية أشقائهم وشقيقاتهم وأزواجهم وأبنائهم لهم دوما، ومدى الإحباط الذي تسببوا فيه للآخرين، والذي تسبب فيه الآخرون لهم، ومدى السعادة التي سيشعر بها هؤلاء الآخرون بعد رحيلهم. وقد يقولون ذلك في نهاية حياة اتسمت بالسكينة والنفع وسط عائلات محبة حيث لا يكون هناك أي تفسير لمثل هذه النوبات. وتمر هذه النوبات عادة، لكن غالبا، أيضا، في الأسابيع، أو حتى الأيام، الأخيرة قبل الوفاة، يجول في خاطر المريض نزاعات أو إهانات قديمة، أو يتذمر بشأن عقاب غير عادل وقع عليه قبل سبعين عاما. وفي إحدى المرات، طلبت سيدة من إنيد أن تحضر لها طبقا خزفيا من الخزانة، وظنت إنيد أنها ترغب في الاستمتاع برؤية هذا الطبق الجميل للمرة الأخيرة قبل وفاتها، لكنها اكتشفت أنها أرادت استخدام آخر ما تبقى لها من قوة مدهشة في تكسير ذلك الطبق في عمود السرير.
وقالت: «بذلك تأكدت أن أختي لن تحصل عليه أبدا.»
علاوة على ذلك، يشير المرضى عادة إلى أن الناس كانوا يزورونهم للتشفي فيهم، وأن الطبيب هو المسئول عن معاناتهم، بل إنهم كرهوا رؤية إنيد نفسها، وما تمتعت به من قوة وتحمل لقلة النوم ويدين صبورتين وحيوية وطاقة لا تنقطع تسري في جسدها على نحو رائع. وقد اعتادت إنيد على ذلك، وكان بوسعها تفهم المحنة التي يمر بها هؤلاء المرضى؛ محنة الاحتضار، بل ومحنة حياتهم أيضا التي طغت على تفكيرهم في تلك اللحظات.
لكنها كانت في حيرة من أمرها في حالة السيدة كوين.
ولم يكن السبب في ذلك هو أنها لم تستطع توفير الراحة لها، وإنما أنها لم ترغب في ذلك. فلم تستطع إنيد التغلب على كراهيتها لتلك الشابة البائسة المحكوم عليها بالهلاك. لقد كرهت ذلك الجسد الذي وجب عليها غسله ووضع البودرة عليه وتهدئته بالثلج وفركه بالكحول الطبي. وقد أدركت الآن ما كان يعنيه الناس عند قولهم لها إنهم كرهوا المرض والأجسام المريضة؛ وتفهمت السيدات اللاتي تساءلن كيف يمكنها تحمل ذلك، وأنهن لا يمكن أن يعملن بمهنة التمريض أبدا. لقد كرهت ذلك الجسم بالتحديد، وكل علامات المرض التي تتضح عليه من رائحة وتغير للألوان، وحلمتين صغيرتين ذواتي مظهر مؤذ، وأسنان مثيرة للشفقة تشبه أسنان ابن مقرض. ورأت موقفها هذا علامة على تعمد عدم أمانتها في أداء عملها؛ فهي لم تقل سوءا عن السيدة جرين في تقصي الحقائق الكريهة للأحداث التي يصعب السيطرة عليها. وبالرغم من كونها ممرضة تتمتع بقدر أكبر من المعرفة، وبالرغم من أنه من مهام وظيفتها - وبالتأكيد طبيعتها - أن تتسم بالرفق، فإنها لم تعلم لماذا كان يحدث ذلك معها. لقد ذكرتها السيدة كوين إلى حد ما بالفتيات اللاتي عرفتهن في المدرسة الثانوية؛ أولئك الفتيات اللاتي ارتدين ملابس رخيصة، وبدا عليهن المرض والمستقبل البائس ، وأظهرن رضا مخزيا بحالهن، ومكثن في المدرسة عاما واحدا أو اثنين، ثم حملن، وتزوج أغلبهن. وقد مرضت إنيد بعضا منهن في السنوات الأخيرة عند إنجاب أطفالهن في المنزل، واكتشفت فقدانهن لثقتهن بأنفسهن، وتحول نزعتهن الجريئة إلى حلم، بل وخنوع أيضا. شعرت بالأسى حيالهن، حتى عند تذكرها مدى تصميمهن على الحصول على ما حصلن عليه بالفعل.
أما السيدة كوين، فكانت أكثر عنادا؛ فقد تتعرض لانكسارات عدة، لكن لا يتبقى دوما بداخلها سوى الأذى وحدة الطباع، وحالتها المتدهورة.
والأسوأ من حقيقة شعور إنيد بذلك الاشمئزاز هو أن السيدة كوين كانت تعلم به. وما من صبر أو لطف أو ابتهاج يمكن أن تعبر عنه إنيد حال دون معرفة السيدة كوين لهذه المشاعر. وشعرت السيدة كوين بالانتصار لمعرفتها ذلك. «فلتذهب إلى الجحيم.» •••
عندما كانت إنيد في العشرين من عمرها، وأوشكت على الانتهاء من تدريبها لتصبح ممرضة، كان والدها يحتضر في مستشفى والي. حينذاك، قال لها والدها: «لا أوافق على عملك في هذه الوظيفة. لا أريدك أن تعملي في مكان كهذا.»
فمالت إنيد عليه وسألته عن المكان الذي يظن أنه موجود فيه. وقالت له: «هذا ليس سوى مستشفى والي.»
فقال لها والدها بصوت هادئ وعقلاني كعادته دائما (إذ كان وكيل عقارات وتأمين): «أعلم ما أتحدث عنه. والآن، عديني ألا تفعلي ذلك.»
فسألته إنيد: «أعدك بماذا؟»
فأجاب والدها: «بألا تمارسي هذا العمل.» ولم تستطع الحصول على توضيح أكثر من ذلك منه. ثم زم شفتيه كما لو أن أسئلتها تصيبه بالاشمئزاز. وقال لها فقط: «عديني.»
فسألت إنيد والدتها: «لم كل ذلك؟» وردت عليها: «هيا! عديه. ما الفارق الذي سيحدثه ذلك؟»
رأت إنيد ما قالته والدتها صادما، لكنها لم تعلق عليه؛ فكانت تلك عادة والدتها في النظر للعديد من الأمور.
وقالت لها: «لن أقدم أي وعود بشيء لا أفهمه؛ ولعلني لن أعد على الأرجح بأي شيء على الإطلاق، لكن إذا كانت لديك أي فكرة عما يتحدث عنه، فينبغي لك إخباري به.»
فردت والدتها: «الأمر يتعلق بفكرة طرأت عليه الآن، وهي أن التمريض يجعل المرأة فظة.»
فقالت إنيد: «فظة!»
أوضحت لها والدتها أن الجزء الذي يعترض عليه والدها في مهنة التمريض هو اعتياد الممرضات على أجسام الرجال. ورأى والدها - بل قرر - أن هذا الاعتياد يغير الفتاة، ويغير أيضا من نظرة الرجال لها، ويضيع الفرص الجيدة المتاحة أمامها، ويتيح لها العديد من الفرص الأخرى السيئة؛ فبعض الرجال سيفقدون اهتمامهم بها، والبعض الآخر سيهتمون بها على النحو الخاطئ.
قالت والدتها: «أعتقد أن الأمر كله يتعلق برغبته في تزويجك.»
وردت إنيد: «أمر مؤسف إن كان يقصد ذلك.»
لكنها وعدته في النهاية، وقالت لها والدتها: «حسنا، أتمنى أن يكون ذلك قد أسعدك.» لم تقل: «قد أسعده»، وإنما «أسعدك». يبدو أن والدتها قد عرفت قبل إنيد كم يكون هذا الوعد جذابا؛ ذلك الوعد الذي يمنحه المرء لشخص على فراش الموت، ذلك النوع من إنكار الذات، والتضحية الكاملة. وكلما زاد الوعد عبثا، كان ذلك أفضل. كان هذا ما أذعنت له، ليس لحبها لوالدها، وإنما (كما أشارت والدتها) لما فيه من إثارة؛ وعد على عكس التوقعات يشي بنبل أخلاق تام.
قالت لها والدتها: «لو كان قد طلب منك الامتناع عن شيء لا تهتمين به بشكل أو بآخر، لاعترضت على ذلك. إذا طلب منك، مثلا، الامتناع عن وضع أحمر الشفاه، فما كنت ستلبين طلبه.»
أنصتت إنيد لهذا الحديث بصبر.
فسألتها والدتها بحدة: «هل استخرت الله قبل اتخاذ هذا القرار؟»
فردت إنيد بالإيجاب.
تركت مدرسة التمريض؛ وبقيت في المنزل وانشغلت بأمور أخرى؛ فقد كان هناك ما يكفي من المال لتجنيبها الحاجة للعمل. وفي الواقع، لم تكن والدتها راضية عن التحاقها بمدرسة التمريض من البداية؛ إذ رأت أنها مهنة الفتيات الفقيرات اللاتي لا يستطيع آباؤهن التكفل بهن أو إرسالهن إلى الجامعة. لكن إنيد لم تذكر والدتها بهذا التناقض، فانشغلت بطلاء سور المنزل، وحماية شجيرات الورود استعدادا لفصل الشتاء بضم فروعها معا حتى لا تجرفها الرياح. وتعلمت الخبز، ولعب الورق، فحلت محل والدها في الألعاب الأسبوعية التي كان يلعبها والدها ووالدتها مع جيرانهما، السيد ويلينس وزوجته. وما لبثت أن صارت لاعبة ماهرة للغاية، كما وصفها السيد ويلينس. واعتاد أن يجلب لها الشوكولاتة أو زهرة وردية معه ليعوض عدم كفاءته كشريك لها في اللعب.
اعتادت إنيد أيضا الذهاب للتزلج في مساء أيام الشتاء، ومارست لعبة تنس الريشة.
لم تفتقر قط إلى الأصدقاء، ولا يزال هذا حالها إلى الآن. معظم من كانوا معها في العام الأخير بالمدرسة الثانوية أوشكوا على الانتهاء من الدراسة الجامعية الآن، أو صاروا يعملون بالفعل في أماكن بعيدة في مهن مثل التدريس أو التمريض أو المحاسبة القانونية، لكنها مع ذلك أقامت صداقات مع أشخاص آخرين ممن لم ينهوا دراستهم الثانوية ليعملوا في المصارف أو المتاجر أو المكاتب، أو ليعملوا بالسباكة أو صناعة القبعات. والفتيات من هذه الفئة كن يسقطن كالذباب - مثلما كن يقلن بعضهن عن بعض - في شرك الزوجية. عملت إنيد أيضا على تنظيم الحفلات التي تقام للعروس لتقديم الهدايا لها وتنظيم حفلات الشاي السابقة للزفاف لرؤية جهاز العروس. وفي غضون بضعة أعوام، ستحتفل مع أولئك الفتيات بتعميد أبنائهن، ومن المتوقع أن تكون أما في العماد لهؤلاء الأطفال الذين سيطلقون عليها لقب الخالة عندما يكبرون. وقد كانت هي نفسها ابنة روحية لسيدات من عمر والدتها أو أكبر سنا، وكانت هي الشابة الوحيدة التي لديها وقت لنادي الكتب وجمعية البستنة؛ لذا، انزلقت إنيد بسرعة ويسر وهي لا تزال شابة في هذا الدور المحوري والمنعزل في الوقت نفسه.
لكن، في الواقع، كان هذا دورها دوما؛ ففي المدرسة الثانوية، كانت دوما أمينة الفصل أو الداعية إلى الأحداث الاجتماعية. وكانت محبوبة للغاية وتتسم بالحيوية وحسن المظهر والجمال، لكنها كانت منعزلة قليلا. فقد كان لها أصدقاء من الشباب، لكنها لم تحظ يوما بحبيب. وبدا أنها لم تختر ذلك، لكنها لم تقلق حياله أيضا؛ فقد انشغلت بطموحها؛ وهو أن تكون مبشرة دينية - كان ذلك في إحدى المراحل المحرجة في حياتها - ثم ممرضة. لم تفكر يوما في التمريض كشيء تفعله إلى أن تتزوج، وإنما كانت تطمح في أن تكون جيدة وأن تبرع فيما تفعله، وليس بالضرورة أن تكون زوجة وتعيش حياة تقليدية معتادة.
وفي احتفالات العام الجديد، كانت تذهب للرقص في قاعة مبنى البلدية، وكان الرجل الذي يرقص معها في الغالب ويرافقها إلى المنزل ويتمنى لها ليلة سعيدة هو مدير مصنع الألبان. وهو رجل في الأربعينيات من عمره، لم يتزوج قط في حياته، وكان راقصا ماهرا، وصديقا أبويا للفتيات اللاتي لا يجدن رفقاء لهن في الغالب، وما من امرأة أخذته على محمل الجد قط.
قالت لها والدتها ذات مرة: «ربما ينبغي لك الحصول على دورة تدريبية في إدارة الأعمال، أو ما رأيك في الالتحاق بالجامعة؟»
كانت والدتها تفكر في المكان الذي قد يتسم فيه الرجال بقدر أكبر من حسن التقدير.
فأجابتها إنيد: «لقد كبرت على ذلك.»
فضحكت والدتها وقالت: «هذا يثبت صغر سنك.» بدا عليها الارتياح لاكتشافها أن ابنتها لديها فكرة حمقاء طبيعية لمن في مثل سنها، وهي أنها تظن أن الحادية والعشرين تبعد كثيرا عن الثامنة عشرة.
قالت إنيد: «لن أخرج مع شباب تخرجوا لتوهم في المدرسة الثانوية. أعني ما أقوله. لماذا ترغبين في التخلص مني على أي حال؟ فأنا على ما يرام هنا.» بدت والدتها أيضا سعيدة ومطمئنة بهذا العبوس والحدة من جانب إنيد، لكنها تنهدت بعد لحظات، وقالت لها: «سيدهشك انقضاء سنوات العمر سريعا.»
وفي شهر أغسطس، كان هناك العديد من حالات الإصابة بالحصبة وبضع حالات شلل الأطفال في الوقت نفسه. وسألها الطبيب، الذي كان يتابع حالة والدها ولاحظ كفاءتها في المستشفى، عما إذا كانت ترغب في مساعدته بعض الوقت في تمريض الناس في منازلهم، وقالت له إنها ستفكر في الأمر.
قالت لها والدتها: «هل تعنين الصلاة لهم؟» فارتسم على وجه إنيد تعبير عنيد ومتحفظ كما لو كانت تنوي لقاء حبيبها.
وقالت لوالدتها في اليوم التالي: «ذلك الوعد الذي قطعته على نفسي لوالدي كان يتعلق بالعمل في المستشفيات، أليس كذلك؟»
وأجابتها والدتها بأن هذا ما فهمته.
واستطردت إنيد: «ويتعلق أيضا بالتخرج في مدرسة التمريض وبأن أصير ممرضة مسجلة؟»
فصدقت والدتها على كلامها.
لذا، إذا كان هناك أشخاص بحاجة لتمريضهم في المنزل، ولا يستطيعون تحمل نفقة الذهاب إلى المستشفى أو لا يرغبون في ذلك، وإذا ذهبت إليهم إنيد في منازلهم لتمريضهم، ليس كممرضة مسجلة وإنما كممرضة ممارسة - كما يطلقون عليها - فلن تنقض بذلك عهدها مع والدها، أليس كذلك؟ وبما أن معظم من سيحتاجون لرعايتها سيكونون من الأطفال أو السيدات اللائي لديهن أطفال أو الأشخاص الطاعنين في السن الذين يحتضرون، فلن تكون عرضة لخطر التحول إلى امرأة فظة، أليس كذلك؟
فقالت والدتها: «إذا كان الرجال الذين سترينهم لن ينهضوا من أسرتهم ثانية، فمعك حق فيما تقولين.»
لكنها لم تستطع منع نفسها من إضافة أن معنى ما كانت تفعله إنيد هو أنها قررت التخلي عن فكرة الحصول على وظيفة محترمة في أحد المستشفيات لتقبل بوظيفة بائسة قاصمة للظهر في منازل بدائية تملؤها التعاسة والبؤس مقابل مبلغ زهيد لا يذكر من المال. وأوضحت لها أيضا أنها قد تضطر لضخ المياه بنفسها من آبار ملوثة، وكسر الثلج في أحواض الماء في الشتاء، ومطاردة الذباب في الصيف، واستخدام دورة مياه خارج المنزل. هذا فضلا عن استخدام ألواح تنظيف الملابس ومصابيح زيت الفحم بدلا من غسالات الملابس والكهرباء، ومحاولة رعاية المرضى في ظل هذه الظروف والتكيف مع أعمال المنزل والأطفال المشاكسين المساكين في الوقت نفسه.
وأضافت: «لكن إذا كان هذا هو هدفك في الحياة، فأرى أنني كلما جعلت الأمر يبدو أكثر سوءا، يزداد تصميمك على خوضه، لكنني سأطلب منك أن تعديني ببعض الأشياء أيضا، وهي أن تغلي الماء الذي ستشربينه، وألا تتزوجي من مزارع.»
فقالت لها إنيد: «يا لها من أفكار مجنونة!»
كان ذلك قبل ستة عشر عاما. أثناء الأعوام الأولى من تلك الفترة، ازداد الناس فقرا، ومن ثم، زاد عدد من لا يمكنهم تحمل تكاليف دخول المستشفى، والمنازل التي عملت فيها إنيد تدهور حالها عادة حتى وصلت إلى الحالة التي وصفتها والدتها، ولزم عليها غسل الملاءات والحفاضات بيديها في بعض المنازل حيث كانت الغسالة معطلة ولا يمكن إصلاحها، أو قطعت الكهرباء عنها، أو لم تكن هناك كهرباء في الأساس. لم تعمل إنيد بدون أجر؛ لأنها بذلك ستظلم السيدات الأخريات اللاتي يعملن بنفس المهنة ولم يتمتعن بالخيارات التي تتمتع هي بها، لكنها كانت تعيد معظم تلك الأموال للأسرة في صورة أحذية ومعاطف شتوية للأطفال، وزيارات لطبيب الأسنان، وألعاب للكريسماس.
وكانت والدتها تجمع من أصدقائها أسرة الأطفال القديمة، وكراسي الأطفال العالية، والبطاطين، بالإضافة إلى الملاءات المهترئة التي كانت تمزقها بنفسها وتحيكها لتصنع منها حفاضات للأطفال. وكان الجميع يخبرها بأنها فخورة بلا شك بإنيد، وكانت تجيبهم بأنها كذلك بالتأكيد.
ثم تضيف: «لكن كوني أما لقديسة مثلها يتطلب مني قدرا هائلا من الجهد في بعض الأحيان.» •••
تلا ذلك الحرب، وما شهدته تلك الفترة من نقص شديد في الأطباء والممرضين، وصارت إنيد موضع ترحيب أكثر من ذي قبل، وظلت كذلك لفترة من الوقت بعد الحرب مع تزايد عدد المواليد. لكن الآن في ظل ما شهدته المستشفيات من توسعات وما شهده العديد من المزارع من رخاء، بدا أن مسئولياتها بدأت تضمحل لتقتصر على من يعانون من أمراض غريبة أو ميئوس منها، أو من أمراض نفسية لا يمكن علاجها، ولم تعد المستشفيات تقبل بوجودهم فيها. •••
وفي صيف ذلك العام، كانت الأمطار الغزيرة تهطل كل بضعة أيام، ثم تشرق الشمس ليصير الجو قائظا فتفقد الحشائش وأوراق الأشجار المبللة لمعانها. وكان الصباح يغمره الضباب بالقرب من النهر، وحتى عند انقشاعه تتعذر الرؤية من على أي بعد في أي اتجاه بسبب الأمطار الغزيرة وكثافة الهواء. وتعلقت القطوف بالأشجار الكثيفة والشجيرات؛ من عناقيد عنب برية ونباتات الكرمية المتسلقة، ومحاصيل ذرة وشعير وقمح وقش. نما كل شيء قبل الأوان، كما قال الناس؛ فكان القش جاهزا لحصده في شهر يونيو، وتعجل روبرت لإدخاله الحظيرة قبل أن تفسده الأمطار.
كان يتأخر في عودته للمنزل في المساء؛ إذ اضطر للعمل حتى آخر خيط من الضوء في السماء. وفي إحدى الليالي، دخل المنزل ليجده غارقا في الظلام، خلا شمعة واحدة تحترق على مائدة المطبخ.
هرعت إنيد لفتح الباب الشبكي.
فسألها روبرت: «هل انقطع التيار الكهربي؟»
فطلبت منه إنيد أن يخفض صوته، ثم همست له بأنها سمحت للطفلتين بالنوم في الطابق السفلي لشدة الحرارة في الغرف بالطابق العلوي، فسحبت الكراسي لتقرب بعضها من بعض وتصنع منها أسرة لهما، ووضعت عليها الألحفة والوسائد. وبالطبع، لزم عليها إطفاء الأنوار حتى تتمكن الفتاتان من النوم. وقد عثرت على شمعة في أحد الأدراج، وهذا كل ما كانت بحاجة إليه للكتابة على ضوئها في مذكرتها.
وأضافت: «ستتذكران دوما النوم هنا؛ فنحن نتذكر دائما الأوقات التي نمنا فيها في مكان مختلف ونحن صغار.»
أنزل روبرت من يده صندوقا احتوى على مروحة سقف لغرفة المريضة؛ كان قد ذهب إلى والي لشرائها، واشترى أيضا جريدة ناولها لإنيد.
وقال لها: «ظننت أنك قد ترغبين في معرفة ما يجري من أحداث في العالم.»
فتحت إنيد الصحيفة بجانب مذكرتها على المائدة، وكانت هناك صورة لكلبين يلعبان في نافورة.
فقالت: «تذكر الجريدة أن موجة حارة تضرب البلاد. أليس من الجيد معرفة ذلك؟»
انشغل روبرت برفع المروحة بعناية من الصندوق.
قالت إنيد: «هذا رائع! وبالرغم من انخفاض الحرارة في الغرفة، فسوف تشعرها هذه المروحة بالراحة غدا.»
ورد عليها روبرت: «سأستيقظ مبكرا لتركيبها.» ثم سأل عن حال زوجته ذلك اليوم.
فقالت له إنيد إن الآلام في ساقيها بدأت تقل، والحبوب الجديدة التي قدمها لها الطبيب تمنحها فيما يبدو بعض الراحة.
وأضافت: «المشكلة الوحيدة أنها تجعلها تنام مبكرا؛ ومن ثم، يصعب عليك رؤيتها.»
ورد روبرت: «الراحة أفضل لها.»
ذكرت هذه المحادثة الهامسة إنيد بمحادثاتهما معا في المدرسة الثانوية، عندما كانا في السنة الأخيرة بالمدرسة، وتوقفت عن مضايقته أو التحرش به أو أيا كان اسم ما تفعله. جلس روبرت خلفها طوال ذلك العام، واعتادا التحدث معا عادة باقتضاب ولغرض محدد دوما، وكانت الأسئلة المتداولة بينهما من قبيل: «هل معك ممحاة للحبر؟ كيف تنطق كلمة «تجريم»؟ أين يقع البحر التيراني؟» وكانت إنيد غالبا هي التي تبدأ الحديث بعد أن تستدير نحوه قليلا، وتتمكن من الشعور بمدى قربه، وإن لم تكن تراه. كانت ترغب بالفعل في اقتراض الممحاة، أو بحاجة للمعلومة، لكنها أرادت أيضا توثيق أواصر الصلة بينهما. هذا فضلا عن رغبتها في إصلاح ما فعلته في الماضي؛ إذ شعرت بالخزي من الأسلوب الذي عاملته هي وصديقاتها به. ولم يكن الاعتذار ليجدي، وإنما سيتسبب في إحراجه مجددا، ولم يكن يشعر بالارتياح إلا عندما كان يجلس خلفها ويعلم أنها لا تستطيع النظر في وجهه. وإن تقابلا في الشارع، كان يشيح بوجهه بعيدا إلى أن يلتقيا، ثم يهمس لها بتحية خافتة، في حين تصيح هي: «مرحبا روبرت» بصوت عال، لتسمع صدى الأصوات المعذبة القديمة التي أرادت محوها.
لكنه عندما كان يربت بإصبعه على كتفها للفت انتباهها، أو عندما يميل عليها حتى يكاد يلمس، أو ربما - لم تكن متأكدة - يلمس بالفعل شعرها الذي اتسم دوما بجموحه حتى عند قصه قصيرا، كانت تشعر بأنه قد سامحها بالفعل. وبصورة ما، كانت تشعر بالفخر، وبعودتها إلى الجدية والاحترام.
أين بالضبط يقع البحر التيراني؟
تساءلت إنيد عما إذا كان يتذكر أيا من هذه الأمور الآن.
فصلت إنيد الصفحات الأمامية والخلفية للصحيفة بعضها عن بعض. رأت خبرا عن مارجريت ترومان في زيارة لإنجلترا، وتنحني - في الصورة - محيية العائلة الملكية. ومن الأخبار الأخرى، محاولة الأطباء علاج الملك من داء بورغر باستخدام فيتامين ه.
قدمت إنيد الصفحات الأمامية من الصحيفة لروبرت، وهي تقول: «سوف أحل الكلمات المتقاطعة. أحب حلها؛ إذ تمنحني الراحة في نهاية اليوم.»
جلس روبرت، وشرع في قراءة الصحيفة، وسألته إنيد إن كان يرغب في احتساء كوب من الشاي، فطلب منها، بالطبع، ألا تكلف نفسها عناء إعداده؛ بيد أنها أعدته على الفور، مدركة أن هذا الرد قد يعني «نعم» في لغة أهل الريف.
نظرت إنيد إلى مربع الكلمات المتقاطعة، وقالت: «رقم 1 أفقيا؛ اسم رئيس للولايات المتحدة، الاسم الأول قديس شهير والثاني عاصمة الولايات المتحدة. يا إلهي. كم أنا محظوظة الليلة! جورج واشنطن.»
وقالت له: «هل ترى مدى حمق هذه الأشياء؟» ثم نهضت وصبت الشاي.
لو كان يتذكر الماضي، فهل كان يكن لها أي ضغينة لهذا السبب؟ لعل ودها المرح في السنة الأخيرة بالمدرسة لم يكن مرغوبا فيه، بسبب أنها كانت أعلى منه شأنا في نظره، وبسبب تعليقاتها الساخرة السابقة منه.
عندما رأته للمرة الأولى في هذا المنزل، لم تر أنه تغير كثيرا؛ فقد كان صبيا طويلا وقوي البنية ومستدير الوجه، وهكذا حاله أيضا كرجل. واعتاد دوما قص شعره قصيرا للغاية؛ لذلك لم يكن هناك فارق كبير حال عدم وجود سوى القليل منه الآن، وتحوله من اللون البني الفاتح إلى البني المائل للرمادي. وحلت سفعة شمس دائمة محل تورد وجهه. وأي شيء كان يزعجه وينعكس على وجهه كان على الأرجح نفس ما كان يزعجه في الماضي؛ وهو أن يشغل مساحة في العالم، ويمتلك اسما ينادي عليه الناس به، ويصبح شخصا جديرا بأن يتعرف عليه الآخرون.
أخذت تتذكر جلوسهما معا في فصل المدرسة الثانوية الذي كان صغيرا آنذاك، وتحول فيه الطلاب في خمس سنوات من أطفال مستخفين بالدراسة وخالي البال، غير مكترثين بأي شيء، إلى أفراد مطيعين ووقورين وناضجين يدرسون حساب المثلثات ويتعلمون اللغة اللاتينية. أي حياة ظنوا أنهم مقبلون عليها؟ أي شخصيات ظنوا أنهم سيتحولون إليها؟
تذكرت الغلاف الناعم ذا اللون الأخضر الداكن لكتاب يحمل اسم «تاريخ النهضة والإصلاح». كان مستعملا، ربما للمرة العاشرة؛ فما من أحد يشتري كتابا دراسيا جديدا. وفي الداخل، كتبت جميع أسماء مالكيه السابقين، بعضهم ربات بيوت في منتصف العمر وآخرون تجار بأنحاء البلدة. ما كان من الممكن تصور قراءة أولئك الأشخاص لهذه الموضوعات، أو وضع خط تحت «مرسوم نانت» بالحبر الأحمر، وكتابة «ملاحظة» في الهامش. «مرسوم نانت»؛ إن عدم فائدة وغرابة هذه الأشياء التي تحتوي عليها هذه الكتب ورءوس الطلاب، ورأسها عندما كانت في المدرسة الثانوية، ورأس روبرت أيضا، جعلاها تفكر وتتعجب. لم تتعجب من أنهما أرادا أن يحققا شيئا لكنهما فشلا في تحقيقه عندما كبرا، لم يكن الأمر كذلك قط؛ فما كان روبرت يتخيل أي شيء سوى العمل في الزراعة بمزرعته الجميلة، وقد كان ابنا وحيدا. إنيد أيضا انتهت بها الحال فاعلة ما كانت تريده بالتأكيد. لا يمكن القول إنهما أخطآ اختيار طريق حياتهما أو اختاراه ضد رغبتهما أو لم يدركا ما كان أمامهما من خيارات؛ كل ما هنالك هو أنهما لم يدركا أن الوقت سيمر تاركا إياهما أقل - وليس أكثر - مما كانا عليه.
قالت: «غذاء أهل منطقة الأمازون.» وكررت: «غذاء أهل منطقة الأمازون؟»
فقال روبرت: «المنيهوت؟»
عدت إنيد عدد الخانات المشيرة لعدد حروف الكلمة المطلوبة، وقالت: «خمسة حروف، خمسة.»
فقال: «كسافا؟» «كسافا؟ إنها فعلا خمس حروف، كسافا.» •••
ازداد تقلب السيدة كوين يوميا بشأن طعامها؛ فأحيانا تطلب خبزا محمصا أو موزا باللبن. وفي يوم ما، طلبت بسكويتا بزبدة الفول السوداني. أعدت إنيد كل هذه الأشياء؛ فكان بإمكان الطفلتين تناولها على أي حال. وعند تقديمها للسيدة كوين، ما كانت تتحمل رؤيتها أو رائحتها، حتى الجيلي كان له رائحة لم تستطع تحملها.
وفي فترة ما، كرهت السيدة كوين الضوضاء؛ فلم تكن تسمح حتى بتشغيل المروحة. وفي فترة أخرى، كانت ترغب في تشغيل الراديو، وضبطه على المحطة التي تذيع طلبات أعياد الميلاد والزواج، وتتصل بالناس لطرح بعض الأسئلة عليهم، ومن يجب إجابة صحيحة، يفز برحلة إلى شلالات نياجرا، أو بملء خزان الوقود الخاص بسيارته، أو بمقدار كبير من مشتريات البقالة، أو تذاكر إلى السينما.
قالت السيدة كوين: «كل هذا مرتب له، كل ما في الأمر أنهم يتظاهرون بالاتصال بأناس موجودين في الغرفة المجاورة بالمحطة، وقد لقنوا بالفعل الإجابات الصحيحة. لقد كان لي معارف يعملون في الإذاعة، وما أقوله حقيقي.»
في مثل هذه الأيام، كان نبضها سريعا، وكانت تتحدث بسرعة هائلة وبصوت خافت ولاهث. سألت إنيد في إحدى المرات: «ما نوع سيارة والدتك؟»
فأجابتها: «لونها أحمر داكن.»
فسألتها السيدة كوين: «ما طرازها؟»
فأجابتها إنيد أنها لا تعلم، وهي الحقيقة؛ فقد كانت تعلم طرازها من قبل، لكنها نسيت. «هل كانت جديدة عند شرائها لها؟»
فقالت إنيد: «نعم، لكن ذلك كان منذ ثلاثة أو أربعة أعوام مضت.» «وتعيش في ذلك المنزل الصخري الكبير المجاور لآل ويلينس، أليس كذلك؟»
أجابتها بالإيجاب. «كم عدد الغرف به؟ ست عشرة غرفة؟» «غرف كثيرة.» «هل ذهبت إلى جنازة السيد ويلينس عند وفاته غرقا؟»
فأجابت إنيد بالنفي: «لا أحب الجنازات.» «كان من المفترض أن أذهب إليها، فلم يكن المرض قد اشتد علي آنذاك، وكنت سأذهب مع آل هيرفي في سيارتهم على الطريق السريع؛ لقد عرضوا علي توصيلي، لكن والدة السيدة هيرفي وأختها أرادتا الذهاب أيضا، ولم يعد هناك مكان لي في السيارة في المقعد الخلفي، ثم ذهب كلايف وأوليف في الشاحنة، وكان بإمكاني حشر نفسي معهما في المقعد الأمامي، لكنهما لم يفكرا قط في دعوتي. هل تعتقدين أنه انتحر؟»
تذكرت إنيد السيد ويلينس وهو يعطيها وردة، كما تذكرت وده معها وخفة ظله، ما جعلها تشعر بألم في أعصاب أسنانها وكأنها تناولت قدرا كبيرا من السكر. «لا أعلم، لا أظن ذلك.» «هل كانت علاقته جيدة بزوجته؟» «كانت علاقتهما طيبة جدا على حد علمي.»
قالت السيدة كوين: «حقا؟» وأضافت: «طيبة» وهي تحاول تقليد لهجة إنيد المتحفظة ببطء. •••
نامت إنيد على الأريكة في غرفة السيدة كوين، التي هدأت عنها الحكة المؤلمة حتى كادت تختفي، وكذا حاجتها للتبول. نامت معظم ساعات الليل، وإن كانت تصاب بنوبات من صعوبة التنفس. وما أرق جفني إنيد مشكلة تتعلق بها شخصيا؛ فقد صارت ترى أحلاما كريهة لم تشبه أيا من الأحلام التي كانت تراها من قبل، كانت تظن في السابق أن الحلم السيئ يكون على شاكلة الوجود في منزل لا تعرفه، حيث تتغير الغرف باستمرار، وتكلف هي فيه دائما بأعمال أكثر مما يمكنها تنفيذه، بالإضافة إلى أعمال غير منجزة ظنت أنها انتهت منها؛ وهكذا يتشتت انتباهها في الحلم بين عدد لا حصر له من المواقف. وبعد ذلك أخذت تراودها، بالطبع، ما ظنته أحلاما رومانسية، حيث يطوقها رجل ما بذراعيه وربما يقبلها أيضا. قد يكون هذا الرجل غريبا أو شخصا تعرفه، وكان أحيانا رجلا من المضحك تصورها معه في هذا الوضع. جعلتها هذه الأحلام كثيرة التأمل، وربما حزينة قليلا، لكنها شعرت بالراحة إلى حد ما لعلمها أن بإمكانها التفكير في هذه المشاعر. قد تكون أحلاما محرجة، لكن لا وجه للمقارنة على الإطلاق بينها وبين الأحلام التي صارت تراودها الآن؛ إذ أصبحت تحلم بإقامتها - أو محاولتها إقامة - علاقات جنسية مع أكثر الأشخاص حرمة واستبعادا (مع الحيلولة أحيانا دون فعل ذلك بسبب المتطفلين أو حدوث تغيرات في الظروف المحيطة)؛ فكانت تحلم بإقامة هذه العلاقات مع أطفال رضع ممتلئي الأجسام يحاولون التملص منها، أو مرضى تلفهم الضمادات، بل وأمها أيضا. سيطرت عليها في تلك الأحلام شهوة جنسية عارمة كادت تفتك بها، وكانت تلبيها بغلظة وأسلوب عملي خبيث؛ فتقول لنفسها: «نعم، هذا سيفي بالغرض، إن لم يتوفر ما هو أفضل.» وقد كان افتقارها إلى العاطفة وحرمانها الواقعي هما ما يدفعان شهوتها الجنسية. كانت تستيقظ من هذه الأحلام غير نادمة، وجسمها مبلل بالعرق ومنهك، وتظل مستلقية كالجثة الهامدة إلى أن تستعيد نفسها وتتملكها مشاعر الخزي والاستنكار. كانت قطرات العرق تبرد على بشرتها، وهي مستلقية في مكانها مرتعدة في الليل الدافئ، وقد سيطرت عليها مشاعر الاشمئزاز والمهانة. وما كانت تجرؤ على العودة للنوم مجددا. اعتادت الظلام، والأشكال المستطيلة الطويلة للنوافذ التي تنسدل عليها الستائر الشفافة لينعكس عليها ضوء خافت، وصرير تنفس المرأة المريضة الذي كان يعلو ويحتد، ثم يكاد يختفي بعد ذلك.
هل كانت هذه الأحلام من الأمور التي يمكنها الإفصاح عنها في طقس الاعتراف، لو أنها كانت كاثوليكية؟ فكرت إنيد في ذلك، ورأت أنها لا يمكنها الإفصاح عن هذه الأحلام حتى في صلاة سرية بينها وبين ربها. لم تعد تصلي كثيرا، فيما عدا المناسبات الرسمية، وفكرة أن تعترف للرب بما تمر به بدت مهينة وعديمة الفائدة تماما؛ فبالتأكيد سيشعر الرب بالإهانة. هي نفسها تشعر بالإهانة مما يدور في عقلها؛ فدينها عقلاني ويفيض أملا، وما من مجال فيه لهذا النوع من الهراء، المتمثل في غزو الشيطان لأحلامها. كانت هذه القذارة التي تراودها موجودة بداخلها، ولا حاجة لتضخيم الأمر وإضفاء الأهمية عليه؛ فلا قيمة له البتة، وما هو إلا قاذورات ذهنية لا أكثر.
في المرج الصغير الممتد بين المنزل وضفة النهر، كانت ثمة أبقار تمكنت إنيد من سماع أصواتها ليلا وهي تتحرك بعضها بجوار بعض وتجتر الطعام. وأخذت تفكر في أشكالها الضخمة الرقيقة وكأنها تتهادى على عزف سيمفوني وسط نباتات الهندباء والحشائش المزهرة. وقالت لنفسها: يا لها من حياة جميلة تعيشها تلك الأبقار!
حياة تنتهي، بالطبع، في المجزر؛ نهاية كارثية.
لكن ذلك ينطبق على الجميع. يتملكنا الشر عند نومنا، وينتظرنا الألم والانحلال، وأهوال وحشية أسوأ مما يمكن لأي عقل تصوره. متع الفراش، وأنفاس الأبقار، وأشكال النجوم في سماء الليل؛ كلها أمور كانت تطرأ على ذهن إنيد في لحظة، وها هي تعيش حياتها مدعية عدم حدوث أي من ذلك، ساعية لتخفيف آلام الآخرين، ومحاولة أن تكون فتاة طيبة أو ملاك رحمة، مثلما اعتادت أمها وصفها - مع تراجع جانب السخرية في هذا الوصف بمرور الوقت - وكذا المرضى والأطباء.
لكن كم عدد من رأوها فتاة حمقاء على الدوام؟ لعل من عملت على خدمتهم أكنوا لها سرا مشاعر الازدراء، مع تفكيرهم في أنهم لن يسلكوا سلوكها أبدا؛ فلن يكونوا بهذا القدر من الحماقة مطلقا.
تذكرت إنيد حينذاك كلمات من كتاب الصلوات: «العصاة الأشقياء»، وتردد صدى الكلمات في رأسها. «يرد الرب التائبين.»
ومن ثم، نهضت وذهبت للعمل؛ فهذه أفضل وسيلة للتوبة نظرا لحالها. أخذت تعمل بهدوء شديد ودون كلل طوال الليل. غسلت الأكواب الزجاجية الغائمة والأطباق المتسخة المحفوظة في الخزائن، بالإضافة إلى تنظيم المكان الذي افتقر لأي نوع من النظام؛ إذ تناثرت فناجين الشاي بين الكاتشاب والمسطردة، ووضعت أوراق المناديل فوق دلو العسل، وخلت الأرفف من أي مشمع؛ أو حتى جرائد. والسكر البني صار صلبا كالحجر في كيسه. كان من المفهوم تدهور الأحوال في المنزل على مدار الشهور القليلة الماضية، لكن يبدو أن المكان لم يشهد أي رعاية أو تنظيم من قبل على الإطلاق؛ هذا فضلا عن تحول الستائر الشفافة إلى اللون الرمادي بسبب ما تراكم عليها من دخان، والأوساخ الزلقة كست زجاج النوافذ، ونما العفن على بواقي المربى التي تركت داخل البرطمان، ولم يتغير قط الماء كريه الرائحة الذي كان يحوي باقة قديمة من الزهور. بالرغم من كل ذلك، كان المنزل لا يزال في حالة جيدة، ويمكن تجديده بالتنظيف والطلاء.
لكن ما الذي يمكن فعله في الطلاء البني القبيح الذي طليت به أرضية الغرفة الأمامية من فترة ليست ببعيدة على نحو يفتقر للإتقان؟
عندما سنحت لإنيد الفرصة في وقت لاحق من اليوم، أزالت الأعشاب الضارة من أحواض الزهور الخاصة بوالدة روبرت، وأخرجت نباتات القرطب منها، وانتشلت الحشائش التي غطت النباتات المعمرة بكثافة.
علمت الطفلتين أيضا كيف تمسكان بالملعقة على النحو الصحيح، وعلمتهما تلاوة صلاة المائدة:
نشكرك أيها المسيح إلهنا،
لأنك ملأتنا من خيراتك الأرضية ...
علمتهما أيضا غسل أسنانهما وتلاوة الصلاة بعد ذلك. «اللهم بارك في أمي وأبي وإنيد والعمة أوليف والعم كلايف والأميرة إليزابيث والأميرة مارجريت روز»، ثم تضيف كل منهما اسم الأخرى. اعتادتا فعل ذلك فترة طويلة إلى أن سألت سيلفي ذات مرة: «ما الذي يعنيه ذلك؟»
فقالت إنيد: «ما الذي يعنيه ماذا؟» «ماذا تعني عبارة: «اللهم بارك»؟» •••
أعدت إنيد شراب البيض دون إضافة أي نكهات إليه - حتى الفانيليا - وأطعمت السيدة كوين إياه بالملعقة. أعطتها قدرا قليلا من هذا الشراب الغني في كل ملعقة، وتمكنت السيدة من بلع هذه الكميات الصغيرة. وعندما كانت لا تستطيع ذلك، كانت إنيد تقدم لها جعة زنجبيل فاترة بدون أي نكهة.
صارت السيدة كوين في هذه الفترة تكره ضوء الشمس، وأي ضوء آخر، قدر كرهها للضوضاء، واستلزم ذلك من إنيد تعليق ألحفة سميكة على النوافذ، حتى عندما تكون الستائر منسدلة عليها. ومع إيقاف تشغيل المروحة تلبية لرغبة السيدة كوين، صارت الغرفة حارة للغاية، وتقطر العرق من جبين إنيد عند ميلها على السرير للعناية بالمريضة التي باتت تنتابها نوبات من الارتجاف، وافتقدت القدرة على الشعور بالدفء.
قال الطبيب: «إنها تحتضر؛ لا ريب أن ما يبقيها على قيد الحياة حتى الآن هو مخفوق الحليب الذي تعطينه لها.»
فردت إنيد: «تقصد شراب البيض.» كما لو كان التصحيح سيحدث فرقا.
وصلت السيدة كوين إلى درجة من الإنهاك والضعف حالت دون تحدثها في أغلب الأحيان، وكانت تدخل أحيانا في غيبوبة يضعف فيها تنفسها وتفقد نبضها، ولو كان يراعيها شخص أقل خبرة من إنيد لاعتبرها قد فارقت الحياة. لكنها كانت تستعيد نشاطها في أحيان أخرى، وتحدوها رغبة في تشغيل الراديو، ثم إطفائه. ومع ذلك، ظلت تعي من هي جيدا، ومن هي إنيد، وكانت تبدو أحيانا وكأنها تراقب إنيد بنظرة تأملية أو فضولية. شحب وجهها وشفتاها منذ أمد بعيد، لكن لون عينيها الأخضر بدا أكثر وضوحا مما كان؛ كان أخضر فاتحا ضبابيا في الماضي. حاولت إنيد الاستجابة للنظرة التي رمقتها بها السيدة كوين؛ فسألتها: «هل تودين أن أحضر لك قسا كاثوليكيا ليتحدث معك؟»
فارتسمت نظرة على وجه السيدة كوين كما لو كانت ترغب في البصاق. «هل أبدو كاثوليكية في نظرك؟»
فقالت إنيد: «ماذا عن قس بروتستانتي؟» كانت تعلم أن هذا هو السؤال الذي ينبغي لها طرحه، لكن الأسلوب الذي طرحته به لم يكن صحيحا؛ إذ اتسم بالبرود وبعض الخبث.
لكن لم يكن هذا ما أرادته السيدة كوين، فأصدرت صوتا يدل على الاستهجان. كانت لا تزال تتمتع بقدر من الطاقة، وشعرت إنيد بأنها تدخرها لغرض ما. سألتها على نحو تعمدت فيه إظهار الشفقة والتشجيع: «هل ترغبين في التحدث مع طفلتيك؟ أهذا ما ترغبين فيه؟» «كلا.» «ماذا عن زوجك؟ سيصل بعض قليل.»
لم تكن إنيد متأكدة من ذلك؛ إذ كان روبرت يصل إلى المنزل متأخرا في بعض الليالي بعد أن تكون السيدة كوين قد أخذت آخر جرعة من حبات الدواء وخلدت إلى النوم. وكان يجلس مع إنيد، ويحضر لها دوما الصحيفة. سألها ذات مرة عما كانت تكتبه في مفكرتيها - بعد أن لاحظ أن لديها مفكرتين - وأجابته؛ فقالت له إن إحدى المفكرتين تخص الطبيب؛ إذ تسجل فيها قياس ضغط الدم والنبض ودرجة حرارة الجسم، بالإضافة إلى ما تناولته المريضة من طعام، وما تقيأته، وما أخرجه جسدها من فضلات، وما حصلت عليه من أدوية، وبعض الملاحظات العامة التي تلخص حالتها. أما المفكرة الأخرى، فكانت تخصها؛ فتكتب فيها العديد من الأمور المشابهة، وإن لم يكن بالضبط؛ إذ كانت تضيف بعض التفاصيل المتعلقة بالطقس، وما يدور من أحداث بوجه عام. هذا بالإضافة إلى بعض الأمور التي ترغب في تذكرها فيما بعد.
وقالت له: «دونت، على سبيل المثال، في أحد الأيام، شيئا قالته لويس. كانت لويس وسيلفي قد دخلتا إلى هنا أثناء وجود السيدة جرين التي أخذت تتحدث عن شجيرات التوت التي نمت بطول الممر وامتدت عبر الطريق. فقالت لويس: «كما كانت في قصة «الأميرة النائمة».» لأنني كنت قد رويت لهما هذه القصة. فدونت ملاحظة عما قالته في المفكرة.»
قال روبرت: «سوف أتولى أمر هذه الشجيرات وأشذبها.»
شعرت إنيد بأنه سعد بما قالته لويس وبتدوينها لذلك في مفكرتها، لكنه ما كان من الممكن أن يفصح عن ذلك.
وفي إحدى الليالي، أخبرها بأنه سيغيب بضعة أيام لحضور مزاد للماشية، وأنه سأل الطبيب عن رأيه في ذلك، فلم يمانع.
وصل روبرت إلى المنزل في تلك الليلة قبل أن تحصل السيدة كوين على آخر جرعة من حبات الدواء، وافترضت إنيد أنه أراد بذلك رؤية زوجته قبل أن يبتعد لتلك الفترة عن المنزل؛ فأخبرته بأن يدخل إلى غرفة السيدة كوين مباشرة، ففعل، وأغلق الباب خلفه. التقطت إنيد الصحيفة، وفكرت في الصعود إلى الطابق العلوي لقراءتها، لكنها فكرت في أن الطفلتين ربما لم تناما بعد؛ وستناديان عليها متحججتين بأي عذر. فكرت أيضا في الخروج إلى شرفة المنزل الأمامية، لكنها تذكرت البعوض الذي يملؤها في ذلك الوقت من اليوم، لا سيما بعد الأمطار التي هطلت بعد ظهر ذلك اليوم تحديدا.
خشيت إنيد من سماعها بعض الكلام الخاص بين روبرت وزوجته، أو ربما بداية شجار بينهما؛ ومن ثم سيكون عليها مواجهته عند خروجه من الغرفة. فكانت السيدة كوين تنوي الإفصاح عن مكنون دواخلها. كانت إنيد موقنة من ذلك، وقبل أن تقرر إلى أين ستذهب لقراءة الصحيفة، سمعت بالفعل شيئا مما كان يدور بالداخل. لم يكن تبادلا للاتهامات، أو غزلا (إن كان ذلك ممكنا)، بل ولم يكن نحيبا أيضا، وهي الأشياء التي توقعت حدوثها إلى حد ما، وإنما كانت ضحكة. سمعت إنيد ضحكة واهنة من السيدة كوين؛ ضحكة امتلأت بالسخرية والتشفي كعادتها، لكن ثمة شيئا آخر شاب هذه الضحكة، شيئا لم تسمعه إنيد من قبل قط في حياتها؛ إنها الخسة المتعمدة. لم تتحرك، مع أنه كان ينبغي لها ذلك، وظلت جالسة على المائدة دون حراك، تحدق في باب الغرفة الذي خرج منه روبرت بعد لحظات. لم يتجنب عينيها، أو ربما هي التي لم تتجنب عينيه، فما كان بوسعها ذلك، لكنها مع ذلك لم تكن موقنة من رؤيته لها؛ فقد وقعت عيناه عليها فحسب، ثم غادر. بدا وكأنه قد أمسك بسلك كهربائي، ويطلب الصفح - ممن؟ - لتعرض جسده لهذه الكارثة الحمقاء.
وفي اليوم التالي، دبت الحياة من جديد في جسد السيدة كوين، على نحو مخادع وغير طبيعي سبق لإنيد مشاهدته بضع مرات لدى مرضى آخرين. أرادت السيدة كوين النهوض لتجلس مستندة إلى الوسائد خلفها، وأرادت أيضا تشغيل المروحة.
قالت لها إنيد: «يا لها من فكرة جيدة!»
سألتها السيدة كوين: «ألا أخبرك بشيء سيصعب عليك تصديقه؟»
فأجابتها إنيد: «يخبرني الناس بالكثير من الأمور.» وردت السيدة كوين: «كلها أكاذيب بالتأكيد. أراهنك على ذلك. هل تعرفين أن السيد ويلينس كان موجودا في هذه الغرفة؟» (3) خطأ
جلست السيدة كوين على الكرسي الهزاز ليفحص السيد ويلينس عينيها. اقترب السيد ويلينس منها من الأمام مع تقريبه جهاز الفحص من عينيها، ولم يسمع أي منهما روبرت عند دخوله المنزل؛ لأنه كان من المفترض أن يعمل بتقطيع الخشب بالقرب من النهر، لكنه عاد خلسة من المطبخ دون أن يحدث أي صوت. لا بد أنه قد رأى سيارة السيد ويلينس بالخارج قبل أن يفعل ذلك ، وعند دخوله، فتح باب الغرفة ببطء إلى أن رأى السيد ويلينس راكعا على ركبتيه وممسكا بجهاز الفحص أمام عيني السيدة كوين، بينما أسند يده الأخرى على ساقها ليحافظ على توازنه. كان قد أمسك بساقها ليحفظ توازنه، فارتفعت تنورتها، وبذلك تعرت ساقها. لكن هذا ما حدث، ولم يكن بوسعها فعل أي شيء حياله، فكان عليها التركيز على الحفاظ على ثباتها.
دخل روبرت الغرفة دون أن يسمعه أي منهما، وقفز ليهبط فوق السيد ويلينس على حين غرة. لم يستطع السيد ويلينس النهوض أو الاستدارة، بل سقط قبل أن يدرك شيئا. أخذ روبرت يضرب رأسه في الأرضية إلى أن فقد وعيه، وقفزت السيدة كوين بسرعة شديدة جعلت الكرسي يسقط خلفها، كما سقط أيضا صندوق السيد ويلينس الذي احتفظ فيه بأجهزة فحص العين التي تطايرت منه عند سقوطه. لكمه روبرت بعنف، وربما ضرب رجل المدفأة أثناء ذلك أيضا، لكن السيدة كوين لم تكن متأكدة من ذلك، وفكرت أن الدور سيكون عليها بعد ذلك، لكنها لم تستطع الالتفاف حولهما للهروب من الغرفة، ورأت بعد ذلك أن روبرت لم يكن يسعى وراءها؛ فقد أنهكت قواه، وأعاد الكرسي إلى موضعه، وجلس عليه، فتوجهت هي نحو السيد ويلينس، وأدارت جسده الذي كان ثقيلا للغاية لتجعل وجهه مواجها لها. لم تكن عيناه مفتوحتين، ولم تكونا مغلقتين تماما أيضا، وثمة سائل يخرج من فمه. لم تكن هناك أي جروح في وجهه أو كدمات يمكن رؤيتها، ربما لم تكن قد ظهرت بعد. ما خرج من فمه لم يكن يشبه الدم، وإنما كان سائلا ورديا يشبه تماما الزبد الذي يتصاعد إلى السطح عند غلي الفراولة لصنع المربى. كان ورديا فاتحا. لطخ السائل وجهه من الجانب الذي أسقطه عليه روبرت. وعندما أدارته السيدة كوين، أصدر صوتا كالقرقرة، ثم استلقى دون حراك كالصخرة.
قفز روبرت عن كرسيه فجأة؛ فظل الكرسي يهتز، وشرع في التقاط كل الأشياء التي تناثرت في أرجاء المكان ووضعها في مكانها بصندوق السيد ويلينس، واستغرق وقتا طويلا لوضع كل شيء في مكانه الصحيح؛ إذ كان الصندوق من نوع خاص مبطن بقماش مخملي أحمر اللون، ومقسم إلى أماكن مخصصة لكل أداة من الأدوات التي استخدمها السيد ويلينس؛ ومن ثم، إذا لم يتم وضعها على النحو الصحيح، فما كان يمكن إغلاق الصندوق. وضعها روبرت كلها على نحو سمح بإغلاق غطاء الصندوق، ثم عاد للجلوس على الكرسي، وبدأ يضرب ركبتيه بقوة.
كان على المائدة مفرش عديم الفائدة؛ كان أحد الهدايا التذكارية التي جلبها والدا روبرت معهما من رحلتهما إلى الشمال لرؤية «توائم ديون الخمسة». التقطت السيدة كوين هذا المفرش من على المائدة ولفته حول رأس السيد ويلينس لامتصاص السائل الوردي الذي كان ينزف منه، وليتوقفا كذلك عن النظر إليه.
ظل روبرت يضرب بيديه الكبيرتين المسطحتين على ركبتيه، فقالت له زوجته: «يجدر بنا دفنه في أي مكان يا روبرت.»
فما كان منه إلا أن نظر إليها وكأنما يتعجب من قولها.
فقالت له إنه بإمكانهما دفنه في القبو حيث الأرضية الترابية.
ورد روبرت عليها: «نعم، لكن أين سندفن سيارته؟»
فأجابته بأنه من الممكن وضعها في الحظيرة وتغطيتها بالقش.
فقال لها إن الحظيرة يتردد عليها أناس كثيرون.
ثم بادرتها فكرة التخلص منه في النهر. تخيلته - كصورة مرسومة أمامها - وهو جالس في سيارته تحت الماء. لم يقل روبرت أي شيء في البداية، فذهبت إلى المطبخ وأحضرت بعض الماء ونظفت السيد ويلينس بحيث لا تسيل أي قطرات من السائل الذي خرج من فمه على أي شيء. وكانت المادة اللزجة قد توقفت عن النزول من فمه. أخرجت مفاتيحه من جيبه، وشعرت بملمس ساقه، التي لا تزال دافئة، عبر قماش بنطاله.
ثم قالت لروبرت: «هيا، تحرك!»
فأخذ المفاتيح.
رفعا معا السيد ويلينس؛ فأمسكت هي بساقه، في حين أمسك روبرت برأسه؛ وكان ثقيلا للغاية. وأثناء حمل السيدة كوين له، اصطدمت إحدى فردتي حذائه بها لتضربها بين ساقيها، وأخذت تفكر: لا يزال شيطانا عجوزا؛ حتى بعد أن مات تتحرش بها قدمه العجوز. لم يعن ذلك أنها سمحت له بفعل أي شيء من هذا القبيل، لكنه كان دائما متأهبا لفعل ذلك إن استطاع، مثل إمساكه بساقها من تحت تنورتها بينما كان يمسك بجهاز الفحص أمام عينها، ولم تستطع إيقافه، فدخل عليهما روبرت خلسة، وأساء فهم ما يحدث.
حملا معا السيد ويلينس فوق عتبة الباب، مرورا بالمطبخ، ثم الشرفة الأمامية، ثم نزولا به على درجات سلم الشرفة. لم يعرقلهما أي شيء في الطريق، لكن اليوم كان عاصفا؛ فعصفت الرياح بالمفرش الذي لفت به السيدة كوين وجه السيد ويلينس.
ومن حسن حظهما أن فناء المنزل لم يكن من الممكن رؤيته من الطريق. ما كان مكشوفا فقط من المنزل هو قمة السقف، والنافذة الموجودة بالطابق العلوي؛ ومن ثم، لم يكن من الممكن رؤية سيارة السيد ويلينس.
فكر روبرت في باقي الخطة، وهي أن يأخذا السيد ويلينس إلى بحيرة جوتلند، حيث المياه العميقة والطريق الموصل إليها، ما سيجعل الأمر يبدو وكأن السيد ويلينس قد قاد سيارته من الطريق الرئيسي، ثم ضل طريقه. لعله انعطف إلى الطريق الموصل إلى البركة، وكان الظلام قد حل، فسقط في الماء قبل أن يدرك المكان الذي وصل إليه. سيبدو الأمر كأنه قد أخطأ.
وهذا ما فعله السيد ويلينس بالتأكيد؛ لقد أخطأ.
لكن المشكلة تمثلت في أنه لزم عليهما قيادة السيارة إلى خارج الممر، ثم على الطريق وصولا إلى المنعطف المؤدي إلى بحيرة جوتلند. لكنه ما من أحد كان يعيش هناك، وكان الطريق مسدودا بعد هذا المنعطف؛ لذا، كان عليه فقط الدعاء بألا يراه أحد طوال هذا الطريق البالغ طوله قرابة النصف ميل. وبعد ذلك، كان على روبرت وضع السيد ويلينس في مقعد السائق، ودفع السيارة لإنزالها في الماء. تطلب الأمر جهدا كبيرا، لكن روبرت كان شابا قويا؛ ولولا هذه القوة، ما وقعت هذه الفوضى في المقام الأول.
واجه روبرت بعض الصعوبة في تشغيل السيارة؛ إذ لم تسبق له قيادة سيارة مثلها من قبل، لكنه أدارها في النهاية، واستدار بها ليقودها إلى نهاية الممر، عندما تحركت جثة السيد ويلينس لتميل عليه. كان روبرت قد وضع فوق رأس القتيل قبعته التي كانت موضوعة على مقعد السيارة.
لماذا خلع السيد ويلينس القبعة قبل دخوله المنزل؟ ليس من باب التهذيب فحسب، وإنما لكي يتمكن من الإمساك بها على نحو أيسر وتقبيلها، هذا إن كان بإمكانه وصف ما كان يفعله بالتقبيل؛ إذ كان يتهجم عليها، حاملا الصندوق في إحدى يديه، بينما يمسك بها باليد الأخرى فيمص فمها - على نحو مقزز - بفمه العجوز الذي يتقاطر منه اللعاب. يمص ويمضغ شفتيها ولسانها، ويدفع نفسه نحوها، وحافة الصندوق تضرب مؤخرتها وتوكزها. أصابها ما كان يفعله بالدهشة الشديدة، لكنه أمسك بها بقوة حالت دون تخلصها منه. كان حيوانا عجوزا قذرا؛ يتهجم عليها ويمص شفتيها ويتقاطر اللعاب على وجهها ويوكزها في مؤخرتها ويؤلمها؛ كل ذلك في آن واحد.
أحضرت السيدة كوين المفرش الذي لفت به وجه القتيل، والذي عصفت به الرياح ليستقر فوق سور المنزل، وأخذت تفتش بدقة عن أي آثار للدماء على درجات السلم أو أي أوساخ أخرى بالشرفة الأمامية أو المطبخ، لكن كل ما وجدته كان في الغرفة الأمامية والبعض أيضا على حذائها؛ فدعكت ما كان موجودا على الأرض وعلى حذائها الذي خلعته. وإلى أن انتهت من كل ذلك، لم تكن قد لاحظت بعد وجود بقعة أسفل بلوزتها. تساءلت من أين جاءت هذه البقعة؟ وفي اللحظة ذاتها سمعت صوت جلبة جعلها تتسمر في مكانها. كان صوت سيارة؛ سيارة لا تعرفها تتقدم نحو المنزل من آخر الممر.
ألقت نظرة عبر الستارة الشفافة، وتأكدت من الأمر. كانت سيارة تبدو جديدة وذات لون أخضر داكن. كانت بلوزتها ملطخة، وحذاؤها مخلوعا، والأرضية مبللة، فتراجعت للخلف بحيث لا يمكن لأحد رؤيتها، لكن تفكيرها لم يهدها إلى أين يمكنها الاختباء. توقفت السيارة، وفتح بابها، لكن المحرك لم يتوقف. سمعت بعد ذلك صوت إغلاق الباب، ثم استدارت السيارة وسمعت صوت عودتها نحو أول الممر. وسمعت أيضا صوت لويس وسيلفي بشرفة المنزل الأمامية.
لقد كانت سيارة صديق معلمة الفتاتين. كان يصطحب المعلمة بعد ظهيرة كل يوم جمعة، وكان ذلك يوم جمعة؛ فطلبت منه المعلمة توصيل الفتاتين إلى المنزل؛ إذ إنهما أصغر الأطفال سنا، ومنزلهما أبعد من الأطفال الآخرين، وبدت الأمطار وشيكة في السماء.
أمطرت السماء بالفعل. بدأ ذلك مع عودة روبرت، وسيره إلى المنزل على ضفة النهر؛ فقالت له زوجته إن ذلك أمر جيد؛ إذ سيخفي الوحل الآثار التي خلفتها قدماه عند دفعه السيارة في الماء. فقال لها إنه خلع حذاءه وعمل بقدميه المغطاتين بالجوارب فقط. فاستحسنت السيدة كوين ما فعله، وقالت له إنه عاد يعمل عقله مرة أخرى.
بدلا من محاولة نقع المفرش التذكاري والبلوزة التي كانت ترتديها في الماء لإزالة ما بهما من بقع، قررت أن تحرقهما في الفرن؛ الأمر الذي جعل رائحة كريهة للغاية تنبعث منه، وأصابتها تلك الرائحة بالغثيان. وكانت تلك بداية مرضها. هذا بالإضافة إلى الطلاء. فبعد أن نظفت الأرضية، ظلت تلاحظ مكان البقعة؛ حسب ظنها، فأحضرت الطلاء البني المتبقي من طلاء السلم الذي استخدمه روبرت، وطلت به الأرضية بأكملها. تسبب ذلك في تقيئها، وانحناء ظهرها، واستنشاقها الطلاء. وكانت تلك بداية شعورها بآلام الظهر أيضا.
وبعد انتهائها من طلاء الأرضية، كادت تقرر عدم الدخول إلى الغرفة الأمامية بعد ذلك، لكنها فكرت في أحد الأيام أنه من الأفضل وضع مفرش آخر على المائدة لكي تبدو الأمور طبيعية على نحو أكبر؛ فقد كانت موقنة بأنها إن لم تفعل ذلك، فسوف تقحم شقيقة زوجها نفسها في الأمر، وتبدأ في طرح الأسئلة عن المفرش الذي جلبه والداها معهما عند عودتهما من زيارة التوائم الخمسة، لكنها إن وضعت مفرشا جديدا على المائدة، فسوف تتحجج بأنها رغبت في بعض التغيير، لكن عدم وجود أي مفرش على الإطلاق سيثير الشكوك.
ومن ثم، أحضرت السيدة كوين مفرشا كانت والدة روبرت قد طرزته بأشكال من سلال الزهور، وجلبته إلى الغرفة، لكنها ظلت تشم الرائحة التي طغت على المكان. استقر على المائدة أيضا الصندوق ذو اللون الأحمر الداكن الذي يحتوي على أدوات السيد ويلينس ويحمل اسمه عليه. لقد ظل في ذلك المكان طوال الوقت ، حتى إنها لم تتذكر أنها وضعته في هذا المكان، ولم تر روبرت كذلك يضعه هناك؛ فقد نسيته تماما.
فأخذت الصندوق، وخبأته في مكان ما، ثم غيرت هذا المكان. ولم تخبر أحدا قط بمكان إخفائها له، ولم تكن تنوي فعل ذلك قط. كانت ستحطمه بالكامل، لكن كيف يمكنك تحطيم كل هذه الأدوات الموجودة بداخله؟ أدوات الفحص. «هل تسمحين لي يا سيدتي بفحص عينيك؟ اجلسي هنا فقط واسترخي وأغمضي إحدى عينيك وافتحي الأخرى جيدا.» كانت هذه هي اللعبة التي يكررها السيد ويلينس في كل مرة، وكان من المفترض ألا تشك في أي شيء. وعندما كان يخرج إحدى هذه الأدوات لفحص عينها، كان يطلب منها أن تصبر حتى ينتهي ولا تحثه على العجلة. ذلك العجوز القذر اللاهث كان يتسلل بأصابعه ليتحسس جسدها ويلتقط أنفاسه بصعوبة، وكان من المفترض ألا تنبس ببنت شفة حتى ينتهي من عمله، ويعيد أداة الفحص إلى صندوقه، وحينئذ كان عليها أن تقول له: «والآن يا سيد ويلينس، بكم أدين لك لهذا اليوم؟»
كانت هذه إشارة له لكي يطرحها أرضا ويضاجعها كذكر الماعز العجوز؛ يطارحها الغرام على تلك الأرضية العارية ويكاد يمزقها إربا. وكان له ذكر طويل مثير.
كيف كنت تحبين ذلك؟
وبعد ذلك، نشرت الصحف خبر العثور على السيد ويلينس غارقا في البحيرة.
وقيل إن رأسه تهشم إثر اصطدامه بعجلة القيادة. وقيل أيضا إنه كان على قيد الحياة عند نزول السيارة في الماء. يا له من أمر مضحك! (4) أكاذيب
ظلت إنيد مستيقظة طوال الليل، بل إنها حتى لم تحاول النوم. لم تستطع الاستلقاء على الأريكة في غرفة السيدة كوين؛ فجلست في المطبخ عدة ساعات. وكان مجرد تحركها من مكانها مجهودا عليها، حتى عند إعدادها فنجانا من الشاي أو ذهابها إلى دورة المياه؛ فتحريك جسدها كان يشوش في عقلها المعلومات التي حاولت ترتيبها والاعتياد عليها. لم تخلع ملابسها، أو تفك شعرها، وعندما غسلت أسنانها، بدت وكأنها تفعل شيئا مرهقا وغير معتاد. تسلل ضوء القمر من نافذة المطبخ - إذ كانت تجلس في الظلام - وشاهدت بقعة من الضوء تتحرك أثناء الليل على مشمع المائدة حتى اختفت. اندهشت من اختفائها ثم من استيقاظ الطيور، وبدء يوم جديد. فبدا الليل طويلا، ثم بدا قصيرا جدا؛ وذلك لأنها لم تتوصل إلى قرار بعد.
نهضت من مكانها بصعوبة، وفتحت الباب، وجلست في الشرفة الأمامية مع بزوغ أول ضوء للشمس. حتى هذه الحركة البسيطة تسببت في تشويش أفكارها، ولزم عليها فرزها مجددا وتصنيفها إلى قسمين؛ القسم الأول يتمثل فيما حدث - أو بالأحرى ما قيل لها إنه حدث - والقسم الثاني يتمثل في التصرف حيال هذا الأمر، وهذا ما لم تتوصل إلى قرار بشأنه بعد.
كانت الأبقار قد نقلت من المرج الصغير الممتد بين المنزل وضفة النهر؛ ومن ثم، كان بإمكان إنيد فتح البوابة إن أرادت والسير في هذا الاتجاه. كانت تعرف أنه ينبغي لها العودة، بدلا من فعل ذلك، وتفقد أحوال السيدة كوين، لكنها وجدت نفسها تفتح مزلاج البوابة.
لم تلتهم الأبقار كل الأعشاب التي كانت مبللة، والتي أخذت تحتك بجوارب إنيد. كان الطريق خاليا في ظل الأشجار المصطفة على ضفة النهر - أشجار الصفصاف الكبيرة - التي تعلقت بها ثمار العنب البري كأذرع قردة كثيفة الشعر. أخذت الشبورة تتصاعد حتى صار من الصعب رؤية النهر؛ وكان ينبغي - لرؤيته - تثبيت العينين نحوه والتركيز لتظهر مساحة من الماء، وكأنها قدر من الماء في إناء. لا ريب أنه كان هناك تيار متحرك، لكنها لم تستطع العثور عليه.
رأت إنيد بعد ذلك حركة، لم تكن في الماء، وإنما كانت صادرة عن زورق مربوط في أحد الأغصان؛ كان زورق تجديف قديما وبسيطا تم رفعه قليلا ثم تركه يسقط متدليا نحو الماء. وعندما عثرت عليه إنيد، ظلت تشاهده كما لو كان يخبرها بشيء ما. وكان هذا ما يحدث بالفعل؛ فقد قال لها شيئا حاسما برفق: «أنت تعلمين. أنت تعلمين.» •••
عندما استيقظت الطفلتان، وجدتا إنيد في حالة معنوية مرتفعة، وقد اغتسلت لتوها وارتدت ملابسها وتركت شعرها منسدلا. كانت قد أعدت الجيلي الممتلئ بالفواكه الذي سيكون جاهزا لتتناوله الطفلتان في الظهيرة، وأخذت تمزج مخيض اللبن لإعداد الكعك المحلى الذي يمكن خبزه قبل أن تشتد حرارة الجو على نحو يصبح معه استخدام الفرن صعبا.
سألت إنيد الطفلتين: «هل ذلك الزورق يخص والدكما؟ الزورق الموجود عند النهر.»
فأجابت لويس بالإيجاب، ثم قالت: «لكننا ممنوعتان من اللعب فيه. لكنك إذا ذهبت معنا، فسيمكننا فعل ذلك.» أدركت الفتاتان على الفور لمحة من الامتيازات التي ستنالانها ذلك اليوم، واحتمالات الاستمتاع بالإجازة، والمزيج غير المعتاد من التراخي والتحمس الذي اتسم به سلوك إنيد.
قالت إنيد: «سنقرر ذلك لاحقا.» أرادت أن تجعل ذلك اليوم يوما مميزا للطفلتين، بغض النظر عن الحقيقة التي تيقنت منها إلى حد بعيد بالفعل؛ وهي أن هذا اليوم سيكون الأخير في حياة والدتهما. أرادت إنيد أن تخلف ذكرى من شأنها التعويض عما سيحدث في وقت لاحق من ذلك اليوم، وتجعلهما يتذكرانها ويتذكران تأثيرها في حياتهما فيما بعد.
تعسر العثور على نبض السيدة كوين ذلك الصباح، ولم تكن قادرة - فيما بدا - على رفع رأسها أو فتح عينيها. تغيرت حالتها تغيرا هائلا مقارنة بالبارحة، لكن ذلك لم يدهش إنيد؛ فقد كانت تعرف أن هذه الطاقة الهائلة المفاجئة، والاندفاع في الحديث على هذا النحو الفظ، ما هو إلا صحوة الموت. أمسكت بملعقة من الماء ووضعتها على شفتي السيدة كوين، فارتشفت منه القليل، وأصدرت صوتا كالمواء الذي كان بالطبع آخر تعبير لها عن كل شكواها. لم تتصل إنيد بالطبيب؛ لأن موعد زيارته المحدد كان في وقت لاحق من ذلك اليوم، على الأرجح بعد الظهيرة.
رجت إنيد بعضا من رغوات الصابون في برطمان، وثنت قطعة من السلك، ثم قطعة أخرى، لتصنع عصيا لصنع الفقاقيع. علمت الفتاتين كيف تصنعان الفقاقيع، وأخذت تنفخها بثبات وعناية حتى تصل إلى أكبر حجم ممكن، ثم تهزها لتحررها برفق من السلك. أخذت الفتاتان تلاحقان الفقاقيع بأنحاء الفناء، وجعلتاها تطير إلى أن تمسك بها الرياح وتعلقها في الأشجار أو على إفريز الشرفة الأمامية. وبدا أن ما جعلهما على قيد الحياة آنذاك هو صيحات الإعجاب وصرخات الفرحة التي تنبع من داخلهما. لم تضع إنيد قيودا على ما قد يصدر منهما من ضوضاء، وعند نفاد رغوات الصابون، أعدت المزيد.
اتصل الطبيب بها هاتفيا أثناء تقديمها الغداء للطفلتين. قدمت لهما الجيلي، وطبقا من الكعك المحلى المنثور عليه السكر الملون، وكوبين من شراب الشوكولاتة باللبن. قال لها الطبيب إنه مشغول مع حالة لطفل سقط من على شجرة ولن يستطيع على الأرجح المغادرة قبل موعد العشاء. فقالت له إنيد بهدوء: «أظن أنها تحتضر.»
فقال لها الطبيب: «حسنا، فلتحاولي منحها الراحة قدر الإمكان؛ أنت تعلمين مثلي بالضبط كيفية فعل ذلك.»
لم تتصل إنيد بالسيدة جرين؛ فكانت تعلم أن روبرت ما كان ليصل من المزاد في ذلك الحين، وتعتقد أن السيدة كوين - هذا إن كانت ستحظى بأي لحظات من الوعي - لن ترغب في رؤية شقيقة زوجها أو سماع صوتها في الغرفة، ولن ترغب على الأرجح أيضا في رؤية ابنتيها. وما من فائدة في جعل الفتاتين تريان والدتهما وتتذكران هذه اللحظة فيما بعد.
لم تكلف إنيد نفسها عناء محاولة قياس ضغط الدم للسيدة كوين بعد ذلك، أو درجة حرارتها، وما كان منها سوى أن أخذت تمسح بالإسفنجة على وجهها وذراعيها وتقدم لها الماء الذي لم تعد تلاحظه، وقامت بتشغيل المروحة التي اعترضت السيدة كوين على صوتها عادة، وبدا أن هناك تغيرا في الرائحة المتصاعدة من جسد المريضة؛ إذ فقد حدة رائحة النشادر به، وتحول إلى رائحة الموت المعتادة.
خرجت إنيد، وجلست على درجات السلم. خلعت حذاءها والجوارب، ومددت ساقيها في الشمس. بدأت الطفلتان في إزعاجها بحذر؛ فسألتاها إن كانت ستصحبهما إلى النهر، أو تسمح لهما بالجلوس في الزورق، أو التجديف إذا عثرتا على المجدافين، لكنها كانت تدرك أنه لا ينبغي الابتعاد بهذا القدر عن المريضة، لكنها عرضت عليهما إحضار حمام سباحة، بل اثنين؛ فجلبت حوضين من أحواض غسل الملابس، ووضعتهما على الحشائش، وملأتهما بالمياه من مضخة الصهريج، فخلعت الفتاتان ملابسهما ما عدا الداخلية واستلقتا في الماء متظاهرتين بأنهما الأميرة إليزابيث والأميرة مارجريت روز.
سألتهما إنيد وهي تجلس على الحشائش وقد أمالت رأسها إلى لخلف وأغمضت عينيها: «هل تعتقدان أن الشخص الذي ارتكب خطأ شنيعا ينبغي عقابه؟»
فأجابت لويس على الفور: «نعم، يجب أن يجلد بالسوط.»
وسألت سيلفي: «من فعل ذلك؟»
فأجابت إنيد: «لا أحد على وجه التحديد، لكن ما رأيكما إذا كان الخطأ شنيعا، لكن ما من أحد يعلم أن هذا الشخص هو من ارتكبه؟ فهل يجب عليه الاعتراف بجرمه والتعرض للعقاب؟»
قالت سيلفي: «كنت سأعلم أنه ارتكبه.»
وقالت لها لويس: «لا، لن تعلمي؛ فأنى لك هذا؟» «كنت سأراه.» «لن تفعلي.»
سألتهما إنيد: «أتعلمان لماذا أعتقد أنه ينبغي أن يعاقب؟ لأنه يشعر بأنه شخص سيئ شرير بينه وبين نفسه، حتى إذا لم يره أحد، ولم يعرف أحد قط بالأمر. إذا ارتكب الإنسان خطأ شنيعا ولم يعاقب عليه، فسيتفاقم هذا الشعور لديه، بقدر أكبر بكثير مما إذا كان قد عوقب.»
قالت سيلفي: «سرقت لويس مشطا أخضر.»
فقالت لويس: «كلا لم أفعل.»
قالت إنيد: «أريدك أن تتذكري ذلك.»
فقالت لويس: «لقد كان ملقى على جانب الطريق.»
ترددت إنيد على غرفة التمريض كل نصف ساعة أو نحو ذلك لمسح وجه السيدة كوين ويديها بقطعة قماش مبللة. لم تتحدث معها أو تمس يديها مطلقا إلا بقطعة القماش. لم يسبق أن ابتعدت عن شخص يحتضر على هذا النحو من قبل. وعندما فتحت الباب نحو الساعة الخامسة والنصف، علمت أنه لم يعد هناك أي روح حية في الغرفة. كانت الملاءة قد سحبت من مكانها، وكان رأس السيدة كوين متدليا بجانب السرير، الأمر الذي لم تسجله إنيد أو تذكره لأي أحد؛ فأعادت الجسد لوضعه على السرير، ونظفته، ونظمت السرير قبل حضور الطبيب. وكانت الطفلتان لا تزالان تلعبان في الفناء. ••• «5 يوليو: أمطار في الصباح الباكر. لويس وسيلفي تلعبان تحت الشرفة. فتح المروحة وإغلاقها، شكوى من الضوضاء. نصف فنجان من شراب البيض، ملعقة في المرة. ضغط الدم مرتفع، النبض سريع، لا توجد شكوى من أي ألم. هدأت الأمطار قليلا . قياس معامل التنفس في المساء. نفد القش.» «6 يوليو: يوم حار للغاية. إغلاق النوافذ. محاولة فتح المروحة، لكنها رفضت. مسح بالإسفنجة كثيرا على جسدها. قياس معامل التنفس في المساء. البدء في جز القمح غدا. كل شيء سابق لأوانه بأسبوع أو اثنين بسبب الحرارة والأمطار.» «7 يوليو: استمرار الحرارة. رفض تناول شراب البيض. جعة زنجبيل بالملعقة. ضعيفة للغاية. أمطار غزيرة الليلة الماضية، رياح. قياس معامل التنفس. تعذر الجز، ملأت الحبوب بعض الأماكن.» «8 يوليو: رفض شراب البيض. جعة زنجبيل. قيء في الصباح. أكثر انتباها. قياس معامل التنفس. الذهاب إلى مزاد الماشية مدة يومين. الطبيب موافق.» «9 يوليو: انزعاج شديد. حديث مفزع.» «10 يوليو: وفاة المريضة السيدة كوين (جانيت) زوجة روبرت اليوم في حوالي الساعة 5 مساء. سكتة قلبية نتيجة لليوريميا (التهاب كبيبات الكلى).» •••
لم تنتظر إنيد من قبل حتى موعد جنازة المرضى الذين تكفلت بمهمة تمريضهم في منزلهم. فكانت ترى أنه من الأفضل مغادرة المنزل في أسرع وقت ممكن في حدود اللياقة؛ فوجودها لن يفيد أحدا؛ لأنها ستذكر الجميع بالوقت السابق للوفاة مباشرة، الذي قد يكون كئيبا ومليئا بالكوارث الصحية، وسيتم تهميشه الآن والتغطية عليه بمراسم الدفن واستضافة الزوار والورود والكعك.
علاوة على ذلك، تتولى عادة في هذه الظروف سيدة من العائلة مسئولية المنزل بالكامل، ما يجعل إنيد فجأة في موقف الضيف غير المرغوب فيه.
وفي الواقع، وصلت السيدة جرين إلى منزل آل كوين قبل الحانوتي، ولم يكن روبرت قد عاد بعد، في حين كان الطبيب في المطبخ يحتسي فنجانا من الشاي ويتحدث مع إنيد عن حالة أخرى يمكن أن تتولى رعايتها بما أنها قد أنهت مهمتها في هذا المنزل. تجنبت إنيد منحه جوابا قاطعا؛ إذ قالت له إنها كانت تفكر في الحصول على إجازة من العمل بعض الوقت. أما الطفلتان، فكانتا بالدور العلوي؛ وقد قيل لهما إن والدتهما قد ذهبت إلى الجنة، الأمر الذي وضع النهاية لهذا اليوم النادر والحافل في حياتيهما.
ظلت السيدة جرين متحفظة إلى أن غادر الطبيب. وقفت بجوار النافذة وشاهدته وهو يدير سيارته وينطلق بها مغادرا، ثم قالت: «لعله لا ينبغي لي قول ذلك الآن، لكنني سأفعل. أنا سعيدة بأن ذلك حدث الآن، وليس في وقت لاحق بعد انتهاء فصل الصيف، وعودة الفتاتين للمدرسة؛ فالوقت متاح أمامي الآن لأجعلهما تعتادان على العيش في منزلنا، وعلى فكرة المدرسة الجديدة التي ستلتحقان بها. روبرت، أيضا، سيعتاد الأمر.»
كانت تلك المرة الأولى التي تدرك فيها إنيد أن السيدة جرين عزمت على أخذ الطفلتين للعيش معها، وليس فقط للإقامة في منزلها فترة من الوقت. كانت السيدة جرين متشوقة لهذا الانتقال، وتتطلع إليه على الأرجح منذ فترة. ومن المرجح أيضا أن تكون قد أعدت غرفتي الطفلتين وابتاعت الأقمشة لتفصيل ملابس جديدة لهما؛ فقد كانت تملك منزلا كبيرا وليس لديها أطفال.
استطردت السيدة جرين مع إنيد قائلة: «لا بد أنك ترغبين في مغادرة هذا المنزل أنت أيضا.» فما دام هناك امرأة أخرى في المنزل، فسيبدو المنزل منافسا لمنزلها، الأمر الذي قد يصعب على أخيها رؤية ضرورة انتقال الفتاتين إلى الأبد. «سوف يحتجزك روبرت هنا عندما يحضر.»
فقالت إنيد إن والدتها ستحضر لاصطحابها.
وردت السيدة جرين: «نعم، لقد نسيت والدتك وسيارتها الصغيرة السريعة.»
ابتهجت السيدة جرين، وأخذت تفتح في أبواب الخزائن، وتتحقق من الأكواب الزجاجية وفناجين الشاي لترى ما إذا كانت نظيفة لمراسم الجنازة أم لا.
وقالت: «يبدو أن ثمة شخصا انشغل بتنظيفها من قبل.» شعرت السيدة جرين آنذاك بالراحة الشديدة تجاه إنيد، وصارت مستعدة لمنحها بعض عبارات الإطراء.
انتظر السيد جرين بالخارج في الشاحنة، مع كلب الأسرة واسمه جنرال. نادت السيدة جرين على لويس وسيلفي الموجودتين بالدور العلوي واللتين نزلتا تركضان على السلم وتحملان بعض الملابس في أكياس ورقية بنية اللون. ركضتا عبر المطبخ، وصفقتا الباب بقوة خلفهما دون أن يلاحظا وجود إنيد.
قالت السيدة جرين: «هذا شيء لا بد أن يتغير.» مشيرة إلى صفق الباب. وسمعت إنيد الطفلتين وهما تحييان جنرال الذي أخذ في المقابل ينبح متحمسا لرؤيتهما. •••
وبعد يومين، عادت إنيد إلى المنزل وهي تقود سيارة والدتها بنفسها. وصلت في وقت متأخر من فترة بعد الظهيرة بعد انتهاء مراسم الجنازة. لم تكن هناك سيارات بالخارج، ما عنى أن كل السيدات اللاتي قدمن المساعدة في المطبخ قد عدن إلى منازلهن، وأخذن معهن الأشياء التي تخص كنيستهن من الكراسي الزائدة وفناجين الشاي وإبريق القهوة الكبير. وظهرت بالحشائش آثار سير السيارات وبعض الزهور المتساقطة المهشمة.
وجب عليها طرق الباب الآن، والانتظار حتى يسمح لها بالدخول.
سمعت خطوات روبرت المتثاقلة الثابتة، فألقت عليه التحية، بينما كان واقفا أمامها بالجانب الآخر من الباب الشبكي، لكنها لم تنظر في وجهه. كان يرتدي قميصا، لكنه لا يزال بسروال البذلة. فتح خطاف الباب.
قالت إنيد: «لم أكن متأكدة من وجود أحد هنا، وظننت أنك ربما ستكون في الحظيرة.»
فقال لها روبرت: «حضر الجميع وقدموا المساعدة في المهام اللازم أداؤها.»
كان بوسعها شم رائحة ويسكي تفوح منه أثناء تحدثه، لكنه لم يبد مخمورا.
قال لها: «ظننت أنك إحدى السيدات جاءت لأخذ شيء نسيته.»
فقالت إنيد: «لم أنس أي شيء. كنت أتساءل فقط عن حال الفتاتين.» «إنهما بخير، وموجودتان في منزل أوليف.»
لم يكن واضحا ما إذا كان سيدعوها للدخول أم لا. كان الاندهاش هو ما أوقفه عن فعل ذلك، وليس العداء تجاهها. لم تتأهب إنيد لهذا الجزء الأول الغريب من المحادثة؛ ومن ثم، لم تنظر إليه، وإنما نظرت إلى السماء.
وقالت: «يمكنك الشعور بقصر المساء شيئا فشيئا، مع أنه لم يمر شهر على أطول الأيام.»
قال روبرت: «هذا صحيح.» وفتح الباب وأفسح الطريق، فدخلت إنيد المنزل. رأت على المائدة فنجانا دون طبق تحته. جلست في الجهة المقابلة للجهة التي جلس فيها روبرت على المائدة. ارتدت في ذلك اليوم ثوبا من الكريب الحريري لونه أخضر داكن، وحذاء من الجلد السويدي ليتلاءم معه. عندما ارتدت هذه الملابس في وقت مبكر من اليوم، فكرت أن هذه قد تكون المرة الأخيرة التي تتأنق فيها، وأن هذه الملابس قد تكون آخر ملابس ترتديها على الإطلاق. صففت شعرها على هيئة ضفيرة فرنسية، ووضعت مسحوق تجميل على وجهها. بدا هذا الاهتمام بمظهرها وهذه الزينة تصرفا أحمق، لكنه كان ضروريا لها؛ فهي لم تنم مدة ثلاث ليال متتالية، لم تذق النوم دقيقة واحدة، كما أنها لم تستطع تناول الطعام، حتى لخداع والدتها.
قالت لها والدتها: «هل كان الأمر صعبا إلى هذا الحد هذه المرة؟» كرهت والدتها التحدث عن المرض أو فراش الموت، وحقيقة أنها وصلت لهذه المرحلة التي تطرح فيها مثل هذا السؤال كانت تعني أن انزعاج إنيد كان واضحا.
واصلت والدتها طرح الأسئلة: «هل السبب هو الطفلتان اللتان ارتبطت بهما؛ هاتان المشاكستان الصغيرتان المسكينتان؟»
أجابتها إنيد بأن كل ما في الأمر هو حاجتها للاستقرار والراحة بعد وفاة هذه الحالة التي استمرت في رعايتها وقتا طويلا، والحالة التي لا أمل فيها تسبب توترا من نوع خاص. لم تخرج من منزل والدتها أثناء النهار، لكنها كانت تذهب للتمشية في الليل الذي تتأكد فيه من عدم الالتقاء بأحد أو الاضطرار إلى التحدث مع أحد. وفي إحدى المرات، وجدت نفسها تسير بجوار جدران سجن المقاطعة. كانت تعرف أن ثمة فناء بالسجن خلف هذه الجدران كانت تجرى فيه عمليات الإعدام شنقا قديما، لكنها لم تعد تجرى فيه منذ سنوات طوال، ولا بد أنها صارت تجرى الآن في أحد السجون المركزية الكبيرة، ذلك إذا كان عليهم إجراء أي منها على الإطلاق؛ فقد مر وقت طويل منذ أن ارتكب أحد في هذا المجتمع أي جريمة على هذا القدر من الخطورة التي تؤدي إلى عقوبة الإعدام. •••
بجلوس إنيد في الجهة المقابلة لروبرت على المائدة، في مواجهة باب غرفة السيدة كوين، كادت تنسى حجتها والخطة التي أعدتها لذلك اليوم، لكنها شعرت بحقيبتها التي وضعتها على حجرها والكاميرا الموجودة بداخلها، فذكرها ذلك بما جاءت من أجله.
قالت: «ثمة شيء أود أن أطلبه منك، وأظن أنه من الأفضل فعل ذلك الآن؛ لأنه لن تسنح لي فرصة أخرى.»
سألها روبرت: «ما هذا الشيء؟» «أعلم أنك تملك زورق تجديف؛ لذا أردت أن أطلب منك أن تأخذني في جولة به إلى منتصف النهر حتى أتمكن من التقاط صورة هناك. أرغب في التقاط صورة لضفة النهر. المكان جميل هناك بما يحويه من أشجار الصفصاف الممتدة بطول الضفة.»
قال روبرت بشيء من عدم الاندهاش الحذر: «حسنا.» وهو رد الفعل الذي يظهره أهل الريف عادة تجاه عبث - بل ووقاحة - زوارهم.
هذا ما صارت عليه إنيد الآن ... زائرة.
تمثلت خطتها في الانتظار حتى يصلا إلى منتصف النهر، ثم إخباره بأنها لا تستطيع السباحة. ستسأله، أولا، عن مدى عمق الماء في ذلك المكان، وسيجيبها، بالتأكيد، أنه بعد كل هذه الأمطار التي شهدتها المنطقة، ربما يكون العمق قد وصل إلى سبعة أو ثمانية، بل وربما عشرة أقدام. وبعد ذلك، ستخبره بأنها لا تستطيع السباحة. ولن تكون هذه كذبة؛ فقد نشأت إنيد في والي على ضفاف البحيرة، ولعبت على الشاطئ كل صيف في طفولتها، وكانت فتاة قوية وماهرة في الألعاب، لكنها كانت تخاف الماء. ولم تجد معها نفعا محاولات الإقناع أو الشرح أو الشعور بالخزي قط؛ ومن ثم، لم تتعلم السباحة.
حينئذ، لن يكون عليه سوى دفعها بأحد المجدافين ليطيح بها في الماء، ويدعها تغرق، ثم يترك القارب في الماء، ويسبح وصولا إلى الشاطئ، ويغير ملابسه، ويقول إنه عائد من الحظيرة أو أنه كان يتمشى ووجد سيارة إنيد أمام المنزل، لكنه لم يجدها هي. وإن عثر على الكاميرا خاصتها، فسيضفي ذلك مزيدا من المصداقية على ما يدعيه؛ فسيعتقد الناس أنها قد خرجت إلى النهر بالقارب لالتقاط صورة، ثم سقطت في الماء بطريقة أو بأخرى.
وعندما يدرك ما يتمتع به من فرص، ستفصح له عما تعرفه، وستسأله عن مدى صحته.
وإن لم يكن صحيحا، فسيكرهها لطرحها هذا السؤال. وإن كان صحيحا - وهذا ما تعتقده طوال الوقت - فسوف يكرهها أيضا، لكن على نحو مختلف وأكثر خطورة، حتى وإن قالت له على الفور - وكانت تعني ما تقول؛ وهي تعنيه حقا - إنها لن تخبر أحدا قط.
ستتحدث بهدوء شديد طوال الوقت، متذكرة كيف ينتقل الصوت الصادر عند الماء في ليالي الصيف.
ستقول له إنها لن تخبر أحدا، لكنه هو من سيفشي السر؛ فلا يمكنه العيش مع هذا السر. «لا يمكنك العيش في هذا العالم متحملا هذا العبء بداخلك. لن تستطع تحمل حياتك.»
إذا وصلت إلى هذا الحد، ولم ينكر روبرت ما قالته له، أو يدفعها في النهر، فستعلم أنها قد فازت بالرهان. سيستغرق الأمر بعض الوقت من الحديث معا، سيكون حديثا صارما، لكن مع الإقناع، ستصل بروبرت إلى مرحلة يبدأ فيها التجديف بالقارب للعودة إلى الشاطئ.
وربما سيشعر روبرت بالضياع ويسألها: «ماذا ينبغي لي فعله؟» فتسير معه خطوة بخطوة، وتطلب منه أن يجدف عائدا إلى الشاطئ أولا.
وستكون تلك هي الخطوة الأولى في رحلة طويلة مرعبة. ستخبره بكل خطوة فيها، وستظل معه فيها بقدر ما يمكنها ذلك. ستطلب منه أن يربط الزورق، ويسير على ضفة النهر وعبر المرج، ثم يفتح البوابة. ستسير خلفه أو أمامه، أيهما سيكون أفضل له. وسيسيران بعد ذلك عبر الفناء، ثم الشرفة الأمامية، ومنها إلى المطبخ.
سيودع أحدهما الآخر، ويركب كل منهما سيارته، وستكون الوجهة التي سيذهب إليها أمرا يخصه وحده. أما هي، فلن تتصل بقسم الشرطة في اليوم التالي. سوف تنتظر، وسيتصلون هم بها، وستذهب لرؤيته في السجن. ستذهب كل يوم، أو بقدر ما سيسمحون لها. ستجلس معه، وتتحدث إليه في السجن، وسترسل له الخطابات أيضا. وإذا نقل إلى سجن آخر، فسوف تذهب إلى هناك؛ حتى وإن لم يسمح لها بزيارته سوى مرة واحدة في الشهر، سوف تظل بجواره، وستكون معه في المحكمة أيضا. نعم، كل يوم من أيام محاكمته، ستجلس حيث يمكنه رؤيتها.
اعتقدت إنيد أنه لا يمكن أن يصدر أحد حكما بالإعدام كعقوبة لمثل هذه الجريمة التي تعد بشكل أو بآخر غير متعمدة، وهي بلا شك جريمة انفعال عاطفي. لكن ثمة احتمالا لحدوث ذلك، وهو الاحتمال الذي كان يفيقها عندما كانت تشعر بأن هذه الصور من الإخلاص، أو هذه الرابطة التي تشبه الحب لكنها تتعدى حدود الحب، صارت غير لائقة .
والآن، فقد بدأ الأمر بطلبها منه اصطحابها إلى النهر، وتحججها برغبتها في التقاط صورة هناك. نهضت هي وروبرت، وكانت تواجه باب غرفة التمريض التي عادت الآن الغرفة الأمامية للمنزل، وكان الباب مغلقا.
نطقت بعبارة حمقاء: «هل أنزلت الألحفة من على النوافذ؟»
بدا على روبرت للحظة أنه لا يعلم ما تتحدث عنه، ثم قال: «الألحفة. نعم، أعتقد أن أوليف أنزلتها؛ فقد أقيمت مراسم الجنازة في هذه الغرفة.» «لقد كنت أفكر فقط في أن الشمس كانت ستتسبب في بهتان ألوانها.»
فتح روبرت الباب، ودارت إنيد حول المائدة، ووقفا لينظرا معا إلى الغرفة، فقال لها: «يمكنك الدخول إذا أردت. لا بأس من ذلك، تفضلي.»
نقل السرير بالطبع من الغرفة، وأزيح الأثاث في اتجاه الجدران، أما منتصف الغرفة - الذي وضعت فيه الكراسي لمراسم الجنازة - فكان فارغا، وكذا المساحة بين النافذتين الشماليتين حيث وضع التابوت بالتأكيد. والمائدة، التي اعتادت إنيد استخدامها لوضع حوض الاغتسال والأقمشة والقطن الطبي والملاعق والأدوية، دفعت الآن إلى أحد الأركان، ووضعت عليها باقة من زهور العائق. ولا تزال النافذتان الطويلتان تدخلان الكثير من ضوء النهار إلى الغرفة. «أكاذيب» كانت تلك الكلمة التي ترددت على أذن إنيد في تلك اللحظة، دونا عن كل الكلمات التي نطقت بها السيدة كوين في هذه الغرفة. «كلها أكاذيب بالتأكيد. أراهنك على ذلك.» •••
هل يمكن لأحد اختلاق شيء بهذا القدر من الشر بهذه التفاصيل؟ الإجابة هي نعم. إن عقل الشخص المريض، أو بالأحرى المحتضر، يمكن أن يمتلئ بهذا النوع من الهراء، وينظمه بأكثر السبل إقناعا. عقل إنيد نفسه، عندما كانت تنام في هذه الغرفة، امتلأ بأقذر التخيلات. مثل هذا النوع من الأكاذيب يمكن أن يظل كامنا في أركان عقل الإنسان، يتعلق بها كالخفافيش، منتظرا استغلال فرصة أي ظلام يحل على العقل ليظهر؛ لذا، لا محل لعبارة: «لا يمكن لأحد اختلاق ذلك»، فانظر إلى مدى الإتقان الذي يمكن أن تتسم به الأحلام، طبقات فوق طبقات من الأحلام، والجزء الذي يمكنك تذكره منها ووصفه بالكلمات ليس سوى الجزء الضئيل الذي يمكنك نزعه عن السطح.
عندما كانت إنيد في الرابعة أو الخامسة من عمرها، أخبرت والدتها أنها دخلت إلى مكتب أبيها، ورأته جالسا خلف المكتب وامرأة تجلس على رجليه. وكل ما تمكنت من تذكره عن المرأة - آنذاك والآن - هو أنها كانت ترتدي قبعة مليئة بالورود الكبيرة وينسدل منها برقع شبكي (قبعة لا تتماشى مع الموضة حتى في ذلك الزمن البعيد)، وأن أزرار البلوزة أو الثوب الذي ترتديه كانت مفتوحة، وبرز منها أحد ثدييها العاريين ليستقر طرفه في فم أبيها. قصت إنيد ذلك على والدتها بثقة مذهلة في رؤيتها له بالفعل، وقالت لها: «كانت إحدى مقدمتيها الأماميتين في فم أبي.» لم تكن تعلم كلمة «ثدي» آنذاك، لكنها كانت تعلم أن ثمة اثنين منه في جسم المرأة.
ردت عليها والدتها: «والآن يا إنيد، ما هذا الذي تتحدثين عنه؟ ماذا تقصدين بالمقدمة الأمامية؟»
فأجابت إنيد: «إنها تشبه مخروط الآيس كريم.»
هكذا رأته إنيد بالضبط، وما زالت تراه بهذا الشكل إلى الآن؛ مخروطا من البسكويت الملون؛ الجزء الممتلئ بآيس كريم الفانيليا مدفوع في صدر المرأة، والطرف الآخر في فم والدها.
وفي تلك اللحظة، فعلت والدتها شيئا غير متوقع على الإطلاق؛ إذ فتحت أزرار ثوبها، وأبرزت شيئا شاحب البشرة يتدلى من يدها، وسألتها: «مثل هذا؟»
فأجابت إنيد بالنفي، وقالت لها: «بل كمخروط الآيس كريم.»
فقالت والدتها: «إذن، فقد كان ذلك حلما، والأحلام تكون أحيانا سخفا محضا. لا تخبري والدك بذلك؛ فالأمر سخيف للغاية.»
لم تصدق والدتها على الفور، لكن بعد عام أو نحو ذلك، رأت أن هذا التفسير لا بد أن يكون صائبا؛ لأن مخروط الآيس كريم لا يظهر بهذا الشكل على صدور السيدات، كما أنه لا يكون بهذا الحجم الكبير أبدا. وعندما كبرت إنيد، أدركت أن القبعة التي رأتها لا بد أنها كانت قد رأتها في صورة ما. «أكاذيب.» •••
لم تسأله بعد، لم تنبس ببنت شفة، لم يدفعها شيء لطرح السؤال؛ فلم يحن الوقت بعد. لقد سقطت سيارة السيد ويلينس في بحيرة جوتلند، عمدا أو دون قصد، ولا يزال الجميع يعتقدون ذلك. واعتقدت إنيد ذلك أيضا، هذا ما كان روبرت يظنه. وطوال استمرار هذه الفكرة، فهذه الغرفة وهذا المنزل وحياتها بالكامل تمثل احتمالا مختلفا تماما عن ذلك الاحتمال الذي تعايشت معه (أو ضخمته؛ أيا كانت الطريقة التي تريد صياغة الأمر بها) على مدى الأيام القليلة الماضية. وصار هذا الاحتمال أقرب إليها، وكل ما كانت بحاجة لفعله هو التزام الهدوء والسماح له بالاقتراب. من خلال صمتها، أو مشاركتها في الصمت، ما النفع الذي قد يعود عليها وعلى الآخرين؟
كان ذلك ما يعلمه أغلب الناس؛ وهو شيء بسيط استغرق منها فهمه وقتا طويلا؛ وهذا ما كان يجعل العالم صالحا للعيش فيه.
بدأت في النحيب، ليس حزنا، وإنما شعورا براحة بالغة لم تكن تعلم أنها تبحث عنها. نظرت في تلك اللحظة إلى وجه روبرت، ورأت أن عينيه قد احتقنتا بالدماء والبشرة حولهما قد تجعدت وجفت، كما لو كان يبكي بدوره.
قال لها: «كانت تعيسة الحظ في حياتها.»
استأذنت إنيد وذهبت لإحضار منديلها الذي كان في الحقيبة على المائدة. شعرت بالخجل في تلك اللحظة لتأنقها استعدادا لهذا المصير المأساوي.
قالت لروبرت: «لا أعلم فيما كنت أفكر. لا يمكنني السير إلى النهر بهذا الحذاء.»
أغلق روبرت باب الحجرة الأمامية.
وقال لها: «إذا كنت ترغبين في الذهاب، فلا يزال بإمكاننا ذلك. هناك حذاء مطاطي طويل الرقبة سيلائم قدميك في مكان ما هنا.»
تمنت إنيد ألا يكون حذاءها؛ فحذاؤها سيكون صغيرا جدا.
فتح روبرت صندوقا في سقيفة الحطب الموجودة بجوار باب المطبخ من الخارج. لم تنظر إنيد في ذلك الصندوق من قبل قط؛ فقد اعتقدت أنه يحتوي على حطب، وهو ما لم تكن بحاجة إليه بالتأكيد في ذلك الصيف. أخرج روبرت عددا من فرد الأحذية المطاطية طويلة الرقبة، وبعض أحذية الثلج طويلة الرقبة أيضا، محاولا العثور على زوج كامل.
وأخيرا قال لها: «يبدو أن هذا الحذاء قد يناسبك. لعله كان يخص والدتي، أو يخصني قبل أن تكبر قدماي.»
وأخرج شيئا أشبه بقطعة من خيمة، ثم حقيبة مدرسية قديمة بحزام مقطوع.
قال: «لقد نسيت وجود كل هذه الأشياء هنا.» وسمح للأشياء بالسقوط مرة أخرى في الصندوق، وألقى بالأحذية عديمة الفائدة فوقها. أغلق الغطاء، وتنهد - على نحو جاد - تنهيدة خاصة شجية.
منزل كهذا عاشت فيه أسرة واحدة فترة طويلة من الزمن، وأهمل على مدى عدة سنوات ماضية، لا بد أن يحتوي على الكثير من الصناديق والأدراج والأرفف والحقائب وأماكن الاحتفاظ بالأمتعة، كالسندرة، الممتلئة بأشياء كانت إنيد ستفرزها، فتحتفظ ببعضها وتصنفه، وتعيد استخدام البعض الآخر، وترسل البعض في صناديق إلى مقلب القمامة. عندما ستسنح لها هذه الفرصة، فلن تعترض عليها، وستحول هذا المنزل إلى مكان لا يخفى فيه شيء عليها، ويخضع كل شيء فيه للنظام الذي تضعه.
وضع روبرت الحذاء أمامها، في حين انحنت هي لفك إبزيم حذائها. شمت خلف رائحة الويسكي رائحة النفس المريرة التي تفوح من المرء بعد ليلة عجز فيها عن النوم، وقضائه يوما صعبا وطويلا؛ شمت كذلك رائحة عرق رجل كادح لم يفد الاستحمام - أو على الأقل الطريقة التي يستحم بها - في إزالتها. لم تكن هناك رائحة تصدر عن جسد الإنسان - بما في ذلك رائحة المني - تجهلها إنيد، لكن ثمة شيئا جديدا واجتياحيا بشأن رائحة جسد ليس لها سلطة عليه ولا ترعاه.
وكانت ترحب بهذه الرائحة.
قال لها: «جربي ما إذا كنت تستطيعين السير به.»
تمكنت من السير بالحذاء. سارت أمامه إلى البوابة، فانحنى من خلف كتفها ليفتح البوابة. وانتظرت حتى فعل ذلك، ثم تنحت جانبا لتدعه يتقدمها في السير؛ لأنه كان قد أحضر بلطة صغيرة من سقيفة الحطب لإزالة الأعشاب من طريقهما.
قال لها: «كان من المفترض أن تمهد الأبقار هذه الأرض، لكن هناك أشياء لا تأكلها الأبقار.»
فقالت له: «لم آت إلى هنا سوى مرة واحدة فقط. كان ذلك في الصباح الباكر لأحد الأيام.»
بدا الإحباط الذي شعرت به في تلك المرة طفوليا الآن في نظرها.
واصل روبرت جز النباتات الضخمة كثيرة الشوك. وعكست الشمس خطا مستويا من الضوء الترابي على كتلة الأشجار الموجودة أمامهما. كان الهواء صافيا في بعض الأماكن، ثم باغتتهما سحب من الحشرات دقيقة الحجم التي تظهر بين الحين والآخر. كانت حشرات لا يتجاوز حجمها حجم ذرات التراب، وظلت تتحرك باستمرار، لكنها حافظت على بقائها معا في شكل عمود أو سحابة. كيف تمكنت من فعل ذلك؟ وكيف اختارت بقعة دون غيرها لفعل ذلك؟ لا بد أن الطعام يلعب دورا في ذلك، لكنها لم تثبت قط - فيما يبدو - في مكان واحد على نحو يمكنها من الحصول على ما يكفيها من طعام.
عندما وصلت إنيد بصحبة روبرت إلى مكان ما أسفل أوراق نباتات الصيف، حل الغسق، وأوشك الليل على أن يسدل ستاره على السماء، ولزم الانتباه للخطوات لتجنب التعثر في الجذور التي برزت من الطريق، أو اصطدام الرأس بالنباتات المعترشة المتدلية، ذات السيقان التي أثارت متانتها دهشتهما. بدا الماء، بعد ذلك، لامعا عبر الأغصان المظلمة، لكن بالقرب من الضفة الأخرى من النهر، كان الضوء لا يزال منعكسا على الماء والأشجار. وعلى هذا الجانب - حيث كانا يتجهان نحو الضفة الآن عبر أشجار الصفصاف - كان لون الماء كالشاي، لكنه صاف في الوقت نفسه.
كان الزورق لا يزال في مكانه بين الظلال، مثلما رأته إنيد أول مرة.
قال روبرت: «المجدافان مخبآن.» وذهب بين أشجار الصفصاف لإحضارهما. وفي لحظة، لم تعد إنيد تراه. اقتربت من حافة الماء حيث غرز حذاؤها في الطين قليلا، وأعاق حركتها. لو أنصتت لتمكنت من سماع صوت تحركات روبرت بين الأحراش، ولو ركزت على حركة القارب، تلك الحركة البسيطة الكتومة، لشعرت بأن كل شيء اتسم بالهدوء في تلك الأرجاء منذ زمن بعيد.
جاكارتا
1
كان لكاث وسونيه مكانهما الخاص على الشاطئ؛ خلف بعض جذوع الأشجار الضخمة. لم يكن الدافع وراء اختيارهما هذا المكان هو الاحتماء فحسب من الرياح العاتية التي كانت تهب على المكان بين الحين والآخر - لا سيما في ظل اصطحابهما ابنة كاث الرضيعة معهما - وإنما أرادتا أيضا التواري عن أنظار مجموعة من السيدات اعتدن ارتياد الشاطئ كل يوم، وهي المجموعة التي أطلقت عليها كاث وسونيه اسم «سيدات مونيكا».
كانت كل سيدة من أولئك السيدات لديها طفلان أو ثلاثة أو أربعة أطفال، وكانت تقودهن جميعا سيدة تدعى مونيكا، وهي من أطلقت كاث وسونيه اسمها على المجموعة بالكامل. عندما رأت مونيكا كاث وسونيه والطفلة الرضيعة للمرة الأولى، سارت في اتجاههما على الشاطئ، وقدمت نفسها لهما، ودعتهما للانضمام إلى باقي المجموعة.
فتبعتاها، وهما تحملان حقيبة الطفلة بصعوبة بينهما. ماذا غير هذا كان بوسعهما فعله؟ ولذا منذ ذلك الحين وهما تتواريان عن الأنظار خلف جذوع الأشجار.
احتوى تجمع «سيدات مونيكا» على مظلات للشاطئ، ومناشف، وحقائب للحفاضات، وسلال تنزه لحمل الأغراض، وحيتان وأطواف قابلة للنفخ، وألعاب للأطفال، وغسول، وملابس إضافية، وقبعات واقية من الشمس، وأوان حافظة للحرارة لاصطحاب القهوة، وأطباق وأكواب ورقية، وزجاجات حافظة للحرارة يضعن فيها مصاصات مثلجة منزلية الصنع من عصير الفواكه.
أما السيدات أنفسهن، فكن إما حوامل بالفعل أو يبدين كذلك لعدم رشاقتهن. كن يمشين بصعوبة نحو حافة المياه، ويصحن بأسماء أطفالهن ليسترعين انتباههم وهم في الماء على ألواح التزلج أو الحيتان القابلة للنفخ، أو بعد أن يسقطوا من فوقها. «أين قبعتك؟ أين كرتك؟ لقد قضيت وقتا طويلا على هذا الطوف. كفاك، فلتدع ساندي تلعب به قليلا.»
حتى عندما كن يتحدثن معا، انبغى عليهن رفع أصواتهن لتعلو فوق صيحات الأطفال وصرخاتهم. «يمكنك شراء اللحم المفروم بسعر رخيص مثل الهامبورجر إذا ذهبت إلى وودوردز.» «لقد جربت مرهم الزنك، لكنه لم يجد نفعا.» «أصيب الآن بخراج في أربية ساقه.» «لا يمكنك استخدام مسحوق الخبز، ينبغي لك استخدام صودا الخبز.»
لم تكن أولئك السيدات أكبر سنا بكثير من كاث وسونيه، لكنهن وصلن إلى مرحلة من الحياة كانت كاث وسونيه تخشيانها؛ فقد حولن الشاطئ بالكامل إلى مسرح لحياتهن. تلك الأعباء، والأعداد الكبيرة من الأطفال، والزيادة في الوزن نتيجة الحمل والولادة، وسيطرتهن، كلها أشياء بإمكانها القضاء على متعة المياه المتلألئة، والخليج الصغير الرائع بما فيه من أشجار القطلب ذات الأفرع الحمراء، وأشجار الأرز التي تنمو متعرجة من بين الصخور العالية. ازداد شعور كاث بالتهديد الذي تمثله أولئك السيدات بوجه خاص؛ نظرا لأنها صارت أما الآن؛ فقد اعتادت عند إرضاع طفلتها قراءة كتاب ما، أو تدخين سيجارة في بعض الأحيان؛ كي لا تشعر بالانحدار الذي توحي به هذه الوظيفة الحيوانية. وكانت ترضعها بدافع تقليص حجم رحمها وتسطيح بطنها، وليس فقط لتزويد ابنتها - نويل - بالأجسام المضادة الثمينة التي يحتوي عليها لبن الأم.
اصطحبت كاث وسونيه إلى الشاطئ أواني القهوة الخاصة بهما، والمناشف الإضافية التي لفت فيها نويل لحمايتها، إلى جانب السجائر والكتب. كان مع سونيه كتاب لهوارد فاست؛ إذ كان زوجها قد أخبرها أنها إذا كانت ستقرأ الأدب الروائي، فهذا هو الكاتب الذي عليها أن تقرأ له. أما كاث، فكانت تقرأ قصصا قصيرة لكاثرين مانسفيلد وديفيد هربرت لورانس. اعتادت سونيه وضع الكتاب الذي تقرؤه جانبا، والتقاط أي كتاب من كتب كاث التي لا تقرؤها في ذلك الحين، وكانت تقصر قراءتها على قصة قصيرة واحدة فقط، ثم تعود إلى هوارد فاست.
وعند شعورهما بالجوع، كانت إحداهما تصعد إلى المنزل مسرعة على درجات خشبية موجودة على مسافة من الشاطئ لتحضر الطعام؛ إذ كانت المنازل تحيط بهذا الخليج الصغير فوق الصخور التي تظللها أشجار الصنوبر والأرز. كانت جميعها أكواخا صيفية في السابق يعود تاريخها إلى ما قبل تشييد جسر ليونز جيت، عندما كان الناس يجيئون من فانكوفر عبر المياه لقضاء إجازاتهم، وكان بعض الأكواخ - مثل كوخي كاث وسونيه - لا يزال بدائيا إلى حد بعيد وزهيد الإيجار، بينما كان البعض الآخر - مثل كوخ مونيكا - أكثر تطورا. لكن ما من أحد نوى البقاء في هذا المكان؛ إذ خطط الجميع للانتقال إلى منزل مناسب، فيما عدا سونيه وزوجها اللذين كانت خططهما أكثر غموضا من خطط الآخرين.
لم يكن يربط بين هذه المنازل أعلى الخليج سوى طريق هلالي الشكل غير ممهد، وكان يتصل كلا طرفيه بطريق مارين درايف، وكان هذا الطريق - الذي اتخذ شكل نصف الدائرة - محاطا بأعداد وفيرة من الأشجار الطويلة وشجيرات السرخس الصغيرة وشجيرات التوت، والعديد من المسارات المتقاطعة التي يمكن اجتيازها كطرق مختصرة للوصول إلى المتجر الموجود على طريق مارين درايف. وفي المتجر، اعتادت كاث وسونيه ابتياع البطاطس المقلية للغداء، وكانت كاث هي التي تقوم بهذه الجولة عادة؛ لأنها كانت تستمتع بالسير تحت الأشجار، الأمر الذي لم يعد بإمكانها فعله مع اصطحابها عربة الطفلة.
عند مجيئها للعيش في هذا المكان للمرة الأولى قبل ولادة نويل، كانت تسير بين الأشجار كل يوم تقريبا دون أن تفكر في حريتها قط. وفي إحدى المرات، التقت بسونيه. كانت كلتاهما تعملان في مكتبة فانكوفر العامة قبل ذلك الحين بفترة، لكنهما لم تعملا في القسم نفسه، ولم تتحدثا معا قط. وكانت كاث قد استقالت من العمل في الشهر السادس من الحمل وفق الإجراءات المتبعة في هذه الأحوال؛ خشية أن يزعج مظهرها العملاء، بينما استقالت سونيه بسبب فضيحة.
كانت فضيحة، أو على الأقل قصة تناقلتها الصحف وجاءت أحداثها على النحو التالي: ذهب زوج سونيه - واسمه كوتر وكان يعمل صحفيا في مجلة لم تسمع عنها كاث من قبل - في رحلة إلى الصين الشيوعية، فأشير إليه في المجلة بأنه كاتب يساري. وظهرت صورة سونيه بجوار صورته، بالإضافة إلى معلومات عن عملها في المكتبة. وكانت هناك مخاوف من احتمال استغلالها هذه الوظيفة للترويج للكتب الشيوعية والتأثير على الأطفال الذين يترددون على المكتبة، الأمر الذي يدفعهم ليصيروا شيوعيين. لم يقل أحد إنها فعلت ذلك، وإنما قيل فقط إن ثمة خطرا من احتمال حدوث ذلك. لم تكن، أيضا، زيارة أحد من كندا للصين بالأمر المخالف للقانون، لكن اتضح بعد ذلك أن سونيه وكوتر أمريكيان، ما جعل سلوكهما أكثر إثارة للقلق، وزاد من احتمالية وجود أهداف له.
قالت كاث لكنت زوجها عندما رأت صورة سونيه في المجلة: «أعرف هذه الفتاة. على الأقل، أعرف أنني رأيتها من قبل. يبدو عليها دائما الخجل، وستشعر بالإحراج حيال هذا الأمر.»
قال كنت: «كلا، لن تفعل؛ فهذا النوع من الناس يحب الشعور بالاضطهاد؛ فهذا ما يعيشون من أجله.»
نقل عن رئيسة أمناء المكتبة أنها قالت إن سونيه لا علاقة لها باختيار الكتب أو التأثير على رواد المكتبة من صغار السن؛ فهي تقضي معظم وقتها في كتابة القوائم على الآلة الكاتبة.
وفي إحدى المرات، بعد تعرف كاث على سونيه، وتحدثهما معا، وقضائهما نحو نصف ساعة يتحدثان في الطريق، قالت لها سونيه أمرا مضحكا؛ فهي تجهل استخدام الآلة الكاتبة.
لم تطرد سونيه من المكتبة، لكنها استقالت على أي حال؛ فقد رأت أن هذا هو التصرف الصائب؛ لأنها وكوتر كانا يترقبان بعض التغييرات في حياتهما مستقبلا.
وتساءلت كاث عما إذا كان أحد هذه التغييرات هو انتظارهما طفلا، فبدا لها أنه بعد الانتهاء من الدراسة تستمر الحياة كسلسلة من الاختبارات المتتابعة التي ينبغي للمرء اجتيازها، وأول هذه الاختبارات هو الزواج؛ فإذا بلغ المرء خمسة وعشرين عاما ولم يتزوج، فقد فشل في هذا الاختبار بكافة المعايير (كانت كاث توقع دوما باسم «السيدة كنت مايبيري» مع شعورها بالارتياح وبعض الابتهاج)، وبعد ذلك، تأتي مرحلة التفكير في أول طفل. الانتظار مدة عام قبل الحمل فكرة جيدة، والانتظار عامين قرار صائب وإن لم يكن ضروريا، أما الانتظار ثلاثة أعوام، فسيجعل الناس يبدءون في التساؤل. وبعد ذلك، يكون التفكير في الطفل الثاني، ثم تسير أمور الحياة على نحو أكثر إبهاما، ويصبح من الصعب على المرء، عندما يصل إلى أي من هذه المراحل، التيقن من أنها هي المراحل التي كان يسعى لبلوغها.
لم تكن سونيه من النوع الذي يفصح لصديقاته عما تبذله من محاولات للحمل، ومنذ متى تحاول ذلك، وما الأساليب التي تتبعها في هذه المساعي. لم تتحدث قط عن الجنس على هذا النحو، أو عن دورتها الشهرية أو أي سلوك آخر لجسدها، مع أنها سرعان ما أخبرت كاث بأمور يعتبرها أغلب الناس أكثر إثارة للاشمئزاز. تمتعت سونيه، كذلك، بجسم رشيق جميل؛ فقد أرادت أن تكون راقصة باليه، لكنها صارت أطول مما ينبغي، ولم تتوقف عن الندم على ذلك حتى التقت بكوتر الذي قال لها: «يا إلهي ! فتاة برجوازية أخرى تريد التحول إلى بجعة محتضرة.» كان وجهها عريضا، هادئا، ورديا. لم تضع قط أي مستحضرات تجميل، فقد كان كوتر ضدها. وكان شعرها أشقر كثيفا ترفعه لأعلى بالدبابيس وتشبكه حول بعضه. كانت كاث تراها جميلة المحيا، ويجمع مظهرها بين الملائكية والذكاء.
بينما كانت كاث وسونيه تتناولان البطاطس المقلية على الشاطئ ذات مرة، تناقشتا حول شخصيات القصص التي تقرآنها. كيف لم تقع امرأة قط في حب ستانلي برنل؟ ما خطبه؟ كان كالصبي في حبه المندفع، ونهمه على المائدة، واعتداده بذاته. أما جوناثان تروت ... فكم كان حريا بليندا، زوجة ستانلي، الزواج من جوناثان تروت الذي يعوم بخفة في الماء، في حين ينثر ستانلي الماء هنا وهناك من حوله ويصدر أصواتا معبرة عن سخطه. يقول جوناثان: «مرحبا يا فراشتي الملائكية» بصوته العميق الرقيق، ويتسم بشخصية ساخرة وبارعة وضجرة تتذكر دائما قصر الحياة. أما ستانلي، فسريعا ما ينهار عالمه الهش ليكشف عن شعوره بالخزي.
انزعجت كاث من شيء ما لم تستطع التصريح به أو التفكير فيه. هل ثمة تشابه بين كنت وستانلي؟
في أحد الأيام نشب خلاف مزعج وغير متوقع بين كاث وسونيه بشأن قصة لديفيد هربرت لورانس بعنوان «الثعلب».
في نهاية هذه القصة، جلس الحبيبان (جندي وامرأة تدعى مارش) على جرف مطل على المحيط الأطلنطي يتطلعان لمنزلهما المستقبلي في كندا. كانا سيتركان إنجلترا لبدء حياة جديدة في مكان آخر. كانا ملتزمين بعلاقتهما، لكنهما لم ينعما بسعادة حقيقية ... أو بالأحرى لم يحدث ذلك بعد.
عرف الجندي أنهما لن ينعما بهذه السعادة إلا عندما تسلم له المرأة حياتها على نحو لم تفعله بعد. كانت مارش لا تزال تقاومه، وتتمسك باستقلالها عنه، فتجعل علاقتهما بائسة على نحو مبهم من خلال ما تبذله من جهد للتمسك بروح وعقلية المرأة بداخلها. لا بد أن تتوقف مارش عن ذلك، لا بد أن تتوقف عن التفكير وتتوقف عن الرغبة وتدع وعيها ينغمر في وعيه، مثلما يتحرك القصب تحت سطح الماء. فيدعو الجندي حبيبته للنظر إلى أسفل لرؤية القصب الذي يتحرك تحت سطح الماء، فهو حي، لكنه لا يبرز أبدا على السطح. هكذا ينبغي أن تعيش طبيعتها الأنثوية داخل طبيعته الذكورية؛ عندئذ، ستشعر هي بالسعادة، ويشعر هو بالقوة والرضا؛ ومن ثم، سينعمان بزواج حقيقي.
قالت كاث إنها تعتبر هذا غباء.
وبدأت في توضيح وجهة نظرها: «إنه يتحدث عن الجنس، أليس كذلك؟»
فأجابت سونيه: «ليس ذلك فحسب، وإنما عن حياتهما بالكامل.» «نعم، لكنه يعني الجنس. والجنس سيجعلها تحمل؛ أعني إن اتخذت الأمور مسارها المعتاد؛ وبذلك، ستصبح مارش أما، وربما ستنجب أكثر من طفل، وسينبغي لها رعايتهم. كيف يمكنك فعل ذلك وعقلك منغمر تحت سطح الماء؟»
فقالت سونيه بلهجة متعالية بعض الشيء: «هذا تفسير حرفي للغاية.»
فردت كاث: «أمامك خيار من اثنين؛ إما أن يكون لك أفكارك الخاصة وتتخذي قرارات بنفسك، أو لا. على سبيل المثال، إذا التقط الطفل الرضيع شفرة حلاقة، فماذا ستفعلين؟ هل ستقولين لنفسك إن عليك الانغمار تحت السطح حتى يصل زوجك إلى المنزل ويتخذ القرار - أو بالأحرى قراركما - بشأن ما يحدث؟»
قالت سونيه: «إنك تبالغين.»
احتدت لهجتهما، وصارت كاث منفعلة ومتهكمة، وسونيه جادة وعنيدة.
قالت كاث: «لم يرغب لورانس في الإنجاب، وإنما شعر بالغيرة من أطفال فريدا الذين أنجبتهم من زواجها السابق.»
نظرت سونيه ما بين ركبتيها، وسمحت للرمال بأن تنسل بين أصابعها.
وقالت لكاث: «أعتقد أن الإنجاب أمر جميل، إذا كان باستطاعة المرأة فعله.»
تعرف كاث أن ثمة خطأ في جدالها. لماذا شعرت بهذا الغضب والانفعال الشديدين؟ لماذا تحولت للحديث عن الرضع والأطفال؟ هل لأن لديها طفلة، وسونيه ليس لديها أطفال؟ هل ما قالته عن لورانس وفريدا كان بسبب اعتقادها أن قصتهما تشبه قصة حياة كوتر وسونيه؟
عندما يتناقش المرء عن الأطفال، وضرورة عناية المرأة بأطفالها، يكون حديثه واضحا ولا يمكن لأحد لومه، لكن عندما فعلت كاث ذلك، كانت تحاول إخفاء شيء ما؛ فلم تستطع تحمل ذلك الجزء من القصة الذي يتحدث عن القصب والماء، وشعرت أنها تختنق باحتجاجات عديدة غير متسقة. لقد كانت تفكر في نفسها، وليس في أي أطفال. إنها المرأة التي ينتقدها لورانس، ولا يمكنها التصريح بذلك بوضوح؛ لأن ذلك قد يجعل سونيه تشك - بل يجعل كاث نفسها تشك - في افتقار كاث لشيء ما في حياتها، لا سيما أن سونيه قد قالت من قبل أثناء محادثة أخرى مزعجة: «سعادتي تعتمد على كوتر.» «سعادتي تعتمد على كوتر.»
صدم هذا التصريح كاث؛ فما كانت لتقول ذلك عن كنت أبدا. لم ترد أن ينطبق ذلك عليها.
لكنها لم ترد أن تعتقد سونيه أنها امرأة فشلت في حبها؛ امرأة لم تتعرض لكمد الحب، أو لم يعرض عليها.
2
تذكر كنت اسم المدينة التي تقع في أوريجون وانتقل إليها كوتر وسونيه، أو بالأحرى التي انتقلت إليها سونيه في نهاية فصل الصيف. كانت قد ذهبت إلى هذه المدينة لرعاية والدة كوتر عندما رحل كوتر إلى الشرق الأقصى في جولة صحفية أخرى. كانت هناك مشكلة حقيقية أو متخيلة بشأن عودة كوتر إلى الولايات المتحدة بعد رحلته إلى الصين. وعندما عاد في المرة التالية، خطط مع سونيه للالتقاء في كندا، وربما نقل والدته أيضا إلى هناك.
لكن من المستبعد أن تكون سونيه مقيمة في المدينة الآن، وإن كان ثمة احتمال ضئيل في إقامة الأم هناك؛ لذا، قال كنت لديبورا إنه ما من فائدة من التوقف للتحقق من ذلك، لكن ديبورا رأت أنه يجدر بهما التوقف. واستفسرا من مكتب البريد عن الاتجاهات التي سيسلكانها.
خرج كنت وديبورا بسيارتهما من المدينة عبر الكثبان الرملية، وتولت ديبورا القيادة، مثلما فعلت أغلب الوقت أثناء هذه الرحلة الطويلة بطيئة الإيقاع؛ فقد زارا نويل، ابنة كنت التي كانت تعيش في تورونتو، وابنيه من زوجته الثانية بات - كان أحدهما يعيش في مونتريال والآخر في ماريلاند - وأقاما مع بعض أصدقاء كنت وبات القدامى الذين يعيشون الآن في مجمع سكني محاط ببوابات في أريزونا، ومع والدي ديبورا - اللذين كانا قريبين في السن من كنت - في سانتا باربارا. أما الآن، فهما متوجهان إلى الساحل الغربي حيث تقع فانكوفر، لكن بتمهل كي لا ترهق الرحلة كنت.
غطت الحشائش الكثبان الرملية؛ فبدت كالتلال العادية، عدا المناطق التي برزت منها أجزاء رملية ليبدو المنظر الطبيعي ثريا وأشبه بالبنى الضخمة التي يشيدها الأطفال بالرمال.
وقع في نهاية الطريق المنزل الذي أرشدا إلى البحث عنه. ما كان يمكن أن يختلط عليهما الأمر؛ فكانت هناك لافتة تحمل عبارة «مدرسة باسيفيك للرقص»، واسم سونيه، وتحته لافتة أخرى تحمل عبارة «للبيع». كانت هناك امرأة عجوز تجز الشجيرات في الحديقة باستخدام مقص جز حملته في يديها.
إذن، لا تزال والدة كوتر على قيد الحياة، لكن كنت تذكر بعد ذلك أن والدة كوتر ضريرة؛ ولهذا، كان من الواجب أن ينتقل أحد للعيش معها بعد وفاة والد كوتر.
ماذا كانت تفعل إذن بمقص الجز إذا كانت ضريرة؟
وقع كنت في الخطأ نفسه الذي اعتاد الوقوع فيه، وهو عدم إدراك عدد السنوات - أو بالأحرى العقود - التي مرت عليه، وعدم إدراك مدى كبر والدة كوتر إن كانت على قيد الحياة إلى الآن، ومدى كبر سونيه، بل وكبره هو نفسه. كانت المرأة التي تجز الشجيرات هي سونيه، وفي البداية لم تتعرف عليه هي الأخرى. انحنت أمامه لغرز المقص في الأرض، ومسحت يديها في البنطلون الجينز الذي كانت ترتديه. شعر بتيبس حركاتها في مفاصل جسمه. كان شعرها أبيض وخفيفا يتطاير مع نسيم المحيط الذي وصل إلى المكان عبر الكثبان. ذهب بعض اللحم الذي كان يكسو عظامها في السابق. لقد كانت سونيه دوما صغيرة النهدين، لكنها لم تكن نحيلة الخصر. كانت أشبه بأبناء الشمال بما اتسمت به من وجه وظهر عريضين، لكن اسمها لم يرجع إلى هذه الأصول. تذكر كنت القصة وراء تسميتها سونيه؛ كان حب والدتها لأفلام سونيا هيني. لكن الفتاة غيرت نطق اسمها بنفسها ليصير سونيه، وسخرت من تفاهة والدتها. اعتاد الشباب جميعا في هذا الجيل السخرية من آبائهم لسبب ما.
لم يستطع كنت رؤية وجهها جيدا في أشعة الشمس الساطعة، لكنه رأى بعض البقع البيضاء الفضية اللامعة حيث أصيبت على الأرجح بسرطان في الجلد، وتم استئصاله.
قالت سونيه: «كنت! يا لسخرية القدر! اعتقدتك شخصا جاء لشراء منزلي. هل هذه نويل؟»
وقعت سونيه في الخطأ بدورها.
كانت ديبورا في الواقع أصغر من نويل بعام واحد، لكن ما من شيء فيها أوحى بأنها تلعب دور الزوجة المدللة صغيرة السن. كان كنت قد التقى بها بعد العملية الأولى التي خضع لها. كانت أخصائية علاج طبيعي لم يسبق لها الزواج، وكان هو أرمل. رآها امرأة هادئة رصينة، لا تهتم بالموضة وتحتقر التهكم - كان شعرها مضفرا في جديلة مرسلة للخلف على ظهرها. عرفت كنت على اليوجا، بالإضافة إلى التمرينات الموصوفة له طبيا، وأقنعته الآن بتناول الفيتامينات والجنسنج أيضا. كانت كيسة وغير فضولية لدرجة تكاد تصل إلى حد اللامبالاة. لعل امرأة من جيلها رأت أنه أمر مسلم به أن الجميع لديهم ماض غير قابل للتفسير وزاخر بالشخصيات المختلفة.
دعتهما سونيه إلى المنزل، فقالت ديبورا إنها ستتركهما معا، وإنها ترغب في البحث عن أحد متاجر الأطعمة الصحية (أخبرتها سونيه بمكان أحدها)، والتنزه على الشاطئ.
أول شيء لاحظه كنت في المنزل أنه بارد، بالرغم من أن اليوم كان صيفيا والشمس مشرقة. لكن المنازل في الساحل الشمالي الغربي المطل على المحيط الهادئ نادرا ما تكون دافئة مثلما تبدو. فما إن يبتعد المرء عن الشمس حتى يشعر على الفور بالرطوبة. ولا ريب أن الضباب وصقيع الشتاء الممطر قد دخلا هذا المنزل فترة طويلة من الزمن دون أدنى مقاومة من أصحابه. كان منزلا خشبيا كبيرا من طابق واحد، متداعيا لكنه لم يخل من مباهج الزينة؛ فقد احتوى على شرفة ونوافذ ناتئة من السقف. كان هناك الكثير من المنازل المشابهة لهذا المنزل في غرب فانكوفر حيث لا يزال كنت يعيش، لكن معظمها بيع كمبان متهدمة.
خلت الغرفتان الأماميتان الكبيرتان اللتان لم يفصل بينهما باب من أي أثاث، فيما عدا بيانو منتصبا في مكانه. تحولت الأرضية إلى اللون الرمادي في المنتصف لكثرة احتكاك الأحذية بها، بينما كانت الأركان مكسوة بمشمع داكن. امتد درابزين بطول أحد الجدران، وفي المقابل كانت هناك مرآة يكسوها التراب رأى فيها كنت انعكاس مرور شخصين نحيلين أشيبين يسيران معا. قالت سونيه إنها تحاول بيع المكان - الأمر الذي كان بإمكان كنت ملاحظته من اللافتة - وبما أن هذا المكان كان مخصصا لتدريبات الرقص، فقد فكرت أنه من الأفضل تركه على هذا الحال.
أضافت سونيه: «ربما يستطيع أحد تحويله إلى مكان جميل.» روت لكنت أنها قد افتتحت المدرسة في عام 1960، تقريبا بعد وصول الأنباء بوفاة كوتر بفترة قصيرة. كانت ديليا، والدة كوتر، عازفة بيانو. وظلت تعزف حتى قاربت التسعين عاما، وفقدت تركيزها (قالت سونيه: «معذرة، فالمرء يفقد اهتمامه بما حوله مع التقدم في السن»)؛ ولذا لزم على سونيه إيداعها في إحدى دور المسنين حيث تذهب إليها كل يوم لإطعامها، مع أن ديليا لم تعد تتعرف عليها. حاولت سونيه الاستعانة بآخرين للعزف على البيانو، لكنها لم تنجح. هذا فضلا عن أنها وصلت إلى مرحلة لم تعد تشرح للطلاب فيها الخطوات عمليا، وإنما تخبرهم بها شفهيا فقط. ومن ثم، رأت أنه قد حان الوقت للتقاعد عن هذا العمل.
اتسمت دوما سونيه بالرزانة وعدم الإفراط في الحديث. وفي الواقع، لم تكن ودودة إلى حد بعيد، أو هكذا ظن كنت. لكنها الآن لا تكف عن الثرثرة سريعا شأنها شأن كل من يعانون الوحدة طويلا. «سارت الأمور على ما يرام عند بدء العمل في المدرسة؛ فقد كانت كل الفتيات الصغيرات متحمسات وقتها للباليه، ثم اختفى كل ذلك فيما بعد؛ فالباليه فن منهجي للغاية كما تعلم. لكنه لم يختف بشكل كامل، ثم في الثمانينيات انتقلت عائلات شابة إلى هنا. كانوا أثرياء على ما يبدو. من أين أتوا بكل هذه الأموال؟ وكان من الممكن تحقيق النجاح مجددا، لكنني لم أستطع إدارة الأمور جيدا.»
أوضحت السبب بأنها ربما فقدت الحماس للمدرسة، أو لم تعد هناك حاجة إليها بعد وفاة حماتها.
قالت: «لقد كنا دائما صديقتين حميمتين.»
بدا المطبخ كحجرة ضخمة أخرى لم تملأها الخزانات والأدوات المنزلية على نحو ملائم. كانت الأرضية تكتسي ببلاط رمادي وأسود ؛ أو لعله أبيض وأسود، وتحول لون البلاط الأبيض إلى الرمادي نتيجة لمياه التنظيف المتسخة. اجتازا معا رواقا تصطف على جانبيه أرفف تصل في ارتفاعها إلى السقف مكدسة بالكتب، والمجلات الممزقة، وربما الصحف أيضا. فاحت من المكان رائحة ورق عتيق للغاية، وكسا الأرضية في هذا الرواق حصير من ألياف السيزال. ومن الرواق دخلا شرفة جانبية حيث تمكنا أخيرا من الجلوس. اشتمل المكان على أريكة وكراسي من الخيزران الأصلي التي كانت ستساوي مبلغا من المال، لو لم تكن متداعية. كانت هناك أيضا ستائر من الخيزران - ليست في أفضل حالاتها - مرفوعة لأعلى أو منسدلة حتى المنتصف، وفي الخارج ضغطت على النوافذ شجيرات لزم جزها. لم يعرف كنت الكثير من أسماء النباتات، لكنه عرف أن هذه الشجيرات من النوع الذي ينمو في التربة الرملية. اتسمت هذه الشجيرات بأوراقها القوية اللامعة؛ إذ بدت وكأنها نقعت في الزيت.
وعند مرورهما بالمطبخ، لاحظ أن سونيه قد وضعت غلاية على النار لإعداد الشاي. ألقت سونيه بجسمها الآن على أحد الكراسي، كما لو كانت سعيدة هي الأخرى بالجلوس أخيرا. رفعت يديها المتسختين ذات المفاصل الإصبعية الكبيرة.
وقالت: «سأنظفهما سريعا. لم أسألك إن كنت ترغب في احتساء الشاي. يمكنني إعداد القهوة أيضا. أو لا هذا ولا ذاك؛ ما رأيك في بعض الجن المخلوط بماء التونك لكلينا؟ ما المانع في ذلك؟ تبدو لي فكرة جيدة.»
رن جرس الهاتف؛ وكان جرسا قديما عاليا مزعجا، بدا وكأنه صادر من الردهة بالخارج، لكن سونيه عادت مسرعة إلى المطبخ للرد عليه.
تحدثت بعض الوقت، ثم توقفت لإنزال الغلاية عن النار عندما أصدرت صوت صفير. سمعها كنت تقول: «لدي زائر الآن»، وتمنى ألا تكون قد أجلت موعدا مع شخص يرغب في معاينة المنزل. لهجتها العصبية الجريئة جعلته يعتقد أن هذه لم تكن مكالمة ودية، فربما تتعلق بأمور مالية؛ ولذا لم يحاول سماع المزيد.
ذكرته الكتب والصحف المتكدسة في رواق الردهة بالمنزل الذي عاشت فيه سونيه مع كوتر أعلى الشاطئ. في الواقع، الإحساس العام بعدم الراحة والإهمال ذكره بذلك المنزل، وبغرفة المعيشة فيه التي كانت تدفئها مدفأة حجرية منتصبة في أحد الجوانب. وبالرغم من اشتعال النيران في تلك المدفأة - في المرة الوحيدة التي ذهب فيها إلى هناك - تناثر الرماد القديم منها، بالإضافة إلى قطع من قشر البرتقال المحروق وبعض القمامة. امتلأ المكان بالكتب والكتيبات التي تناثرت هنا وهناك. وبدلا من الأريكة، كان هناك سرير خفيف نقال؛ وكان على الزائر الجلوس وقدماه متلامستان مع الأرض - مع عدم إسناد ظهره - أو الرجوع إلى الخلف والاستناد إلى الحائط مع رفع قدميه عن الأرض وتشبيكهما أسفله. هكذا جلست كاث وسونيه في تلك المرة؛ ولم تشاركا على الإطلاق في الحديث الدائر. جلس كنت على مقعد بعد أن أزاح عنه كتابا ذا غلاف باهت اللون يحمل عنوان «الحرب الأهلية في فرنسا». تساءل كنت: هل هذا هو ما يطلقون عليه الآن الثورة الفرنسية؟ ثم وقعت عيناه على اسم المؤلف؛ كارل ماركس. وحتى قبل أن يرى الاسم، شعر بالعدائية والإرهاب الفكري يغشيان الغرفة. كان شعورا مماثلا لما ينتاب المرء في غرفة مليئة بآيات من الإنجيل، وصور للمسيح على ظهر أحد الحمير، أو سائرا عند بحر الجليل؛ الشعور بالإرهاب الفكري ذاته. لم يدفعه إلى هذا الشعور الكتب والصحف فحسب، وإنما الفوضى التي رآها عند المدفأة، والبساط الذي انمحى الرسم من عليه، والستائر خيشية النسيج. كان ثمة خطأ في قميص كنت وربطة عنقه. شك في ذلك من النظرة التي رمقتهما بها كاث، لكن بما أنه ارتداهما بالفعل، فما كان ليغيرهما على أي حال. أما كاث، فكانت ترتدي واحدا من قمصانه القديمة وسروالا من الجينز تغلقه فوق السحاب بمجموعة من دبابيس المشبك بدلا من الزر. رأى كنت أن ملابس زوجته لا تليق بالذهاب إلى دعوة على العشاء، لكنه استنتج أن هذه الملابس هي الوحيدة التي كان بوسعها ارتداؤها.
كان ذلك قبل ولادة نويل مباشرة.
أعد كوتر وجبة العشاء؛ كانت وجبة رائعة من الكاري، وشرب الجميع الجعة. كان كوتر في الثلاثينيات من عمره؛ أي أكبر من سونيه وكاث وكنت . كان طويل القامة، ضيق الكتفين، بارز الجبين، أصلع الجبهة، وذا سوالف نحيلة وشعثاء، كذلك كان يتحدث بنبرة واثقة سريعة وهادئة.
حضر العشاء أيضا زوجان أكبر سنا؛ امرأة بثديين متدليين وشعر أقرب للشيب مرفوع لأعلى من الخلف، ورجل قصير منتصب القامة غير مهندم الثياب، وإن كانت به لمحة من الرقي في أسلوبه، وصوته الحاد، وحديثه الدقيق، واعتياده تشبيك أصابعه على هيئة مربع منتظم. كان هناك أيضا شاب أصهب بعينين دامعتين منتفختين، وبشرة مبقعة. كان طالبا غير متفرغ يعول نفسه بالعمل سائقا لشاحنة تلقي بالصحف للصبية الذين يعملون على توصيلها بعد ذلك. كان من الواضح أنه قد بدأ لتوه هذه الوظيفة، وأخذ الرجل الأكبر سنا - الذي كان على معرفة به - يضايقه بتذكيره بخزي توصيل مثل هذه الصحيفة؛ تلك الأداة المستخدمة من الطبقات الرأسمالية، والناطقة باسم علية القوم.
وبالرغم من أن ذلك قد قيل على سبيل المزاح إلى حد ما، فإن كنت لم يستطع منع نفسه من التعليق، ورأى أن باستطاعته الإدلاء بدلوه ومقاطعتهما مثلما سيفعل فيما بعد أيضا. فقال إنه لا يجد عيبا في تلك الصحيفة.
كان الحضور يتوقعون منه مثل هذا القول. كان الرجل الأكبر سنا قد عرف قبل ذاك أن كنت يعمل صيدلانيا في إحدى سلاسل الصيدليات. وسأل الشاب كنت على نحو يوحي بأن الآخرين سيعتبرون ذلك مزحة: «هل تعمل في الإدارة؟» لكن كنت لم يعتبرها كذلك، وقال إنه تمنى أن يعمل في الإدارة.
قدم الكاري، وتناول الجميع الطعام، وشربوا المزيد من الجعة، وزودت النار بالحطب، وأظلمت السماء الربيعية، وتلألأت أضواء حي بوينت جراي على الجانب الآخر من خليج بورارد. وأخذ كنت على عاتقه مسئولية الدفاع عن الرأسمالية، والحرب الكورية، والأسلحة النووية، وجون فوستر دالاس، وإعدام جوليوس وإيثيل روزينبيرج، وأي شيء آخر وجهه الآخرون إليه. هزأ من فكرة إقناع الشركات الأمريكية للأمهات الأفريقيات بشراء اللبن الصناعي وعدم إرضاع أطفالهن طبيعيا، ووحشية شرطة الخيالة الكندية الملكية مع الهنود، وفوق كل ذلك هزأ من احتمالية أن يكون هاتف كوتر مراقبا. اقتبس حديثه من صحيفة «تايم»، ولم يخف عليهم هذه الحقيقة، بل صرح بها أمامهم.
أخذ الشاب الجالس بينهم يضرب ركبتيه بيديه، ويهز رأسه من جانب إلى آخر، واصطنع ضحكة متشككة. «لا أصدق هذا الرجل. هل تصدقونه؟ لا أستطيع تصديقه.»
عمل كوتر على تحريك النقاش، وحاول كبح جماح أي غضب؛ فكان يرى نفسه رجلا عقلانيا. أما الرجل الأكبر سنا، فقد غير دفة المناقشة إلى موضوعات أكاديمية، والمرأة ذات الثديين المتدليين قاطعت الحديث بين الحين والآخر بنبرة مهذبة خبيثة. «لماذا تسرع على هذا النحو للدفاع عن السلطة كلما أطلت برأسها اللطيف على حديثنا؟»
لم يعرف كنت الإجابة عن هذا السؤال. لم يعرف ما كان يدفعه لفعل ذلك. لم يكن حتى يأخذ هؤلاء الأشخاص على محمل الجد كأعداء له؛ فقد كانوا يعيشون على هامش الحياة الواقعية، يلقون بالخطب على الآخرين بعنف ظنا منهم أنهم ذوو أهمية، شأنهم شأن أي متعصبين آخرين. افتقروا إلى الصلابة، مقارنة بالأشخاص الذين عمل معهم كنت؛ ففي عمله، كان للأخطاء أهمية، والمسئولية أمر دائم، وما كان هناك وقت للتفكير فيما إذا كانت سلاسل الصيدليات فكرة سيئة أو في التشكيك في شركات الأدوية. كان ذلك هو العالم الواقعي الذي كان كنت يخوضه كل يوم حاملا على عاتقه عبء المستقبل وعبء كاث. لقد قبل ذلك، بل وكان فخورا به أيضا، وما كان ليعتذر عنه أمام غرفة مليئة بالمتذمرين.
قال لهم: «إن الحياة تتحسن بالرغم مما تقولونه. ليس عليكم سوى النظر حولكم لتروا ذلك.»
لم يختلف رأيه الآن عن رأيه آنذاك عندما كان شابا. رأى أنه ربما كان طائشا، لكنه لم يكن مخطئا. وتساءل عن نتيجة كل هذا الغضب الذي ملأ تلك الغرفة، وكل تلك الطاقة الجارحة.
انتهت سونيه من التحدث عبر الهاتف، ودعته للانتقال إلى المطبخ. قالت له: «سوف ألغي الشاي بكل تأكيد، وأعد لنا بعضا من الجن المخلوط بماء التونيك.»
عندما أحضرت الشراب، سألها كم مر من الوقت على وفاة كوتر؟ وأجابته بأنه قد مر ما يزيد عن ثلاثين عاما؛ فالتقط نفسا عميقا، وهز رأسه. هل مضى حقا كل هذا الوقت؟
قالت سونيه: «لقد مات سريعا للغاية بسبب بعوضة استوائية. حدث ذلك في جاكارتا، ودفن قبل حتى أن أعلم بمرضه. هل تعلم أن جاكارتا كانت تدعى في الماضي باتافيا؟»
فأجابها كنت: «ربما أكون قد سمعت هذا من قبل.»
قالت له: «إنني أتذكر منزلك. كانت غرفة المعيشة أشبه بالشرفة؛ شغلت الواجهة الأمامية بالكامل، كما كان الحال في منزلنا. كانت هناك ستائر مصنوعة من قماش الظلة، وكانت لها أشرطة خضراء وبنية اللون. أحبت كاث مرور الضوء عبر هذه الأشرطة، وكانت تقول إنه أشبه بضوء الغابات. أما أنت، فكنت تطلق على المنزل اسم «الكوخ العظيم». في كل مرة تذكره فيها تصفه بهذه الصفة.»
قال كنت: «كان مشيدا على أعمدة مثبتة في الأسمنت، وكانت قد أوشكت على البلى حينها. من العجيب أنه لم ينهر.»
قالت سونيه: «اعتدت أنت وكاث الذهاب لمعاينة المنازل؛ ففي يوم عطلتك، تذهبان إلى تقسيمات الأراضي المخصصة للبناء، مصطحبين نويل معكما في عربة الأطفال. كنتما تعاينان كل المنازل الجديدة. تعلم كيف كان حال هذه المناطق آنذاك بكل تأكيد؛ لم تكن هناك أي أرصفة للمشاة؛ لأنه من المفترض في تلك الأيام أن الناس لم يعودوا يسيرون على أقدامهم. هذا فضلا عن قطع كل الأشجار، والتصاق المنازل بعضها ببعض كما لو كان كل منها يحدق في الآخر عبر النوافذ الضخمة التي تظهر ما بداخلها.»
فسألها كنت: «هل كان من الممكن لشخص في مستهل حياته أن يتحمل تكلفة شيء غير هذا؟» «أعلم، أعلم. لكنك كنت تسأل كاث: «أيها تفضلين؟» ولم تكن كاث تجيب مطلقا. وفي النهاية، كنت تغضب وتسألها أي المنازل تفضل في أي مكان، فتجيب: «الكوخ العظيم».»
لم يتذكر كنت ذلك، لكنه افترض حدوثه بالفعل؛ فقد كان ذلك - على أي حال - ما حكته كاث لسونيه.
3
أقام كوتر وسونيه حفل وداع قبل أن يغادر كوتر إلى الفلبين أو إندونيسيا أو أيا ما كان المكان الذي كان متوجها إليه. وكانت سونيه ذاهبة أيضا إلى أوريجون للبقاء مع والدة كوتر. دعي إلى الحفل كل من كانوا يعيشون على الشاطئ؛ كان ذلك هو التصرف الوحيد المعقول، بما أن الحفل كان سيقام خارج المنزل. دعي، كذلك، بعض الأشخاص الذين عاش معهم كوتر وسونيه في أحد المنازل الشيوعية في السابق - قبل انتقالهم إلى الشاطئ - بالإضافة إلى صحفيين كان كوتر على معرفة بهم، وأشخاص عملت معهم سونيه في المكتبة.
قالت كاث: «الجميع مدعوون.» فسألها كنت بابتهاج: «مزيد من مناصري اليسار؟» فأجابته بأنها لا تعرف؛ كل ما تعرفه أن الجميع مدعوون.
استأجرت مونيكا جليسة الأطفال التي اعتادت الاستعانة بها، ورتبت إحضار جميع الأطفال إلى منزلها على أن يتشارك الآباء في التكلفة. أحضرت كاث نويل إلى منزل مونيكا في عربة الأطفال الخاصة بها مع بدء حلول الليل. أخبرت جليسة الأطفال بأنها ستعود لاصطحاب نويل قبل انتصاف الليل، وهو الوقت الذي ستستيقظ فيه نويل على الأرجح للحصول على رضعتها. كان بإمكانها إحضار زجاجة اللبن الإضافية التي أعدتها في المنزل، لكنها لم تفعل، فلم تكن موقنة مما سيكون عليه حال الحفل، ورأت أنها قد تفضل اغتنام أي فرصة للمغادرة.
لم تكن كاث قد تحدثت مع سونيه عن العشاء الذي أقيم في منزل سونيه وتعارك فيه كنت مع جميع الحضور. كانت تلك هي المرة الأولى التي تلتقي فيها سونيه بكنت، وكل ما قالته فيما بعد إنه وسيم للغاية. فشعرت كاث بأن الوسامة بديل ترضية تافه.
جلست ذلك المساء - أثناء العشاء في منزل سونيه - ظهرها إلى الحائط، محتضنة وسادة على بطنها؛ فقد كانت معتادة على احتضان وسادة حيث اعتاد الجنين ركل بطنها. كانت الوسادة باهتة اللون مغطاة بالأتربة، شأنها شأن كل شيء آخر في منزل سونيه (الذي استأجرته هي وكوتر مؤثثا). كان مرسوما عليها أوراق أشجار، وأزهار زرقاء تحول لونها إلى الفضي. ثبتت كاث عينيها على هذه الرسوم، بينما كان الحضور يثيرون حفيظة كنت - لكنه لم يدرك حتى ذلك. تحدث الشاب معه بغضب مفتعل كغضب ابن يتحدث مع والده، في حين تحدث كوتر بصبر نافد كأستاذ مع طالب لديه. أما الرجل العجوز، فقد كان مستمتعا بشدة، بينما فاض شعور المرأة بالاشمئزاز منه أخلاقيا، كما لو كانت تحمل كنت شخصيا مسئولية قنبلة هيروشيما، وحرق الفتيات الآسيويات أحياء في المصانع المغلقة، وكل الأكاذيب الكريهة والنفاق المتبجح. لكن كنت كان هو من يجلب كل ذلك على نفسه، كما رأت كاث. لقد خشيت من حدوث ذلك عندما رأت القميص وربطة العنق اللذين ارتداهما كنت، وقررت هي ارتداء الجينز بدلا من تنورة الحمل الأنيقة الخاصة بها. لكن بوصولها إلى هناك لم يكن من مفر ولزم تحمل العواقب. وما كان منها سوى الضغط بالوسادة على هذا النحو أو ذاك والنظر إلى البريق الفضي لرسوماتها.
كان الجميع في الغرفة على يقين حاسم وثقة شديدة بكل شيء يفعلونه. حتى عندما توقفوا لحظات لالتقاط أنفاسهم، كان ذلك لاجتذاب قدر هائل من القوة الخالصة واليقين الصرف.
الوحيدة التي لم تشاركهم هذا كانت سونيه؛ فلم تنطق ببنت شفة، لكنها اعتمدت على كوتر؛ كان هو يقينها. نهضت من جلستها لتقديم المزيد من الكاري، وتحدثت مرة واحدة أثناء إحدى فترات الصمت الغاضبة القصيرة. «يبدو أنه لا أحد يرغب في جوز الهند.»
فقالت السيدة الأكبر سنا: «يا إلهي! هل ستلعبين الآن يا سونيه دور المضيفة اللبقة، مثل إحدى شخصيات فيرجينيا وولف؟»
لذا، يبدو أن ثمة اعتراضا على فيرجينيا وولف أيضا. كانت هناك أمور كثيرة لم تفهمها كاث، لكنها على الأقل عرفت أن هذه الأشياء موجودة؛ مع أنها لم تكن مستعدة للتصريح بأنها هراء.
بيد أنها - مع ذلك - تمنت لو يأتيها المخاض في ذلك الوقت؛ فإذا ما اندفعت الآن وأغرقت الأرضية أمام الجميع بماء الولادة، فلعلهم يتوقفون عن العراك.
بعد انتهاء الأمسية، لم يبد على كنت الانزعاج بشأن ما حدث؛ وكان من أسباب ذلك اعتقاده بأنه قد انتصر عليهم؛ إذ قال لكاث: «جميعهم مناصرون لليسار، ولا بد أن يكون ذلك هو أسلوبهم في الحديث؛ فهذا هو الشيء الوحيد الذي يمكنهم فعله.»
تمنت كاث من كل قلبها عدم التحدث عن السياسة مجددا، فغيرت الموضوع . قالت له إن الزوجين الأكبر سنا عاشا مع سونيه وكوتر في المنزل الشيوعي، وإنه كان هناك زوجان آخران معهما لكنهما كانا قد غادرا المنزل في ذلك الوقت. وكان هناك تبادل منظم بين الأفراد في المعاشرة الجنسية؛ وذات مرة، اتخذ الرجل العجوز عشيقة من خارج المنزل، بينما خضعت زوجه لهذا التبادل أيضا.
فسألها كنت: «أتعنين أن هناك من الشباب من يرضى بمعاشرة تلك المرأة العجوز؟ إنها في الخمسين من عمرها!»
فأجابته كاث: «كوتر يبلغ ثمانية وثلاثين عاما.»
قال كنت: «وليكن. هذا مثير للاشمئزاز.»
وبالمثل أيضا، وجدت كاث هذه الفكرة المتعلقة بالمعاشرة الجنسية المشروطة والإلزامية أمرا مثيرا ومقززا في الوقت نفسه؛ ففكرة أن تمنح نفسك، طواعية ودون أن يقع عليك أي لوم، لأي شخص يحين دوره في القائمة أشبه بالدعارة المقدسة؛ حيث تمثل الشهوة الجنسية واجبك. ومنحها التفكير في هذا الأمر شعورا بالإثارة البذيئة الفاحشة.
لكنه لم يثر سونيه؛ فهي لم تخض تجربة الإشباع الجنسي. سألها كوتر إن كانت قد شعرت به عندما عادت إليه، لكنها أجابته بالنفي. فشعر بالإحباط، وشعرت هي أيضا به من أجله. وأوضح لها أنها شديدة الاستئثار والتعلق بفكرة الملكية الجنسية، وكانت تعلم أنه على حق.
قالت لكاث: «أعلم أنه يعتقد أنني لو كنت أحبه بما يكفي لشعرت بالإشباع، لكنني أحبه بالفعل ... أتعذب بلوعة حبه.»
بالرغم من كل الأفكار المثيرة التي وردت على ذهن كاث، رأت أنها لا تستطيع مضاجعة أي رجل آخر على الإطلاق سوى كنت؛ فالجنس في نظرها أشبه بجهاز اخترعاه بينهما، ومحاولة ممارسته مع شخص آخر يعني تغيير «دوائره»، الأمر الذي سيسفر عن «انفجار» حياتها بالكامل أمام عينيها. لكنها، مع ذلك، ما كانت لتقول إنها تحب كنت وتتعذب بلوعة حبه. •••
أثناء سير كاث على الشاطئ من منزل مونيكا إلى منزل سونيه، رأت أشخاصا في انتظار الحفل، وقد تجمعوا معا في مجموعات صغيرة أو جلسوا على جذوع الأشجار ليشاهدوا اللحظات الأخيرة لمغيب الشمس، ويشربوا الجعة. كان كوتر ورجل آخر معه يغسلان إحدى الصفائح المستعملة ليصنعا فيها شراب البنش المسكر. وكانت آنسة كامبو، رئيسة أمناء المكتبة، تجلس وحدها على أحد جذوع الأشجار. لوحت لها كاث بيديها في حماس، لكنها لم تذهب للجلوس معها. فإذا انضم المرء لشخص ما في تلك المرحلة من الحفل، فسيقع في الشرك ويظل مع هذا الشخص وحدهما. الخيار الأمثل في هذه الأحوال هو الانضمام إلى مجموعة تضم ثلاثة أو أربعة أشخاص، حتى وإن كانت المحادثة بينهم - التي بدت حيوية عن بعد - مخيبة تماما للآمال. لكنها لم تستطع فعل ذلك بعد أن لوحت للآنسة كامبو؛ فكان عليها التوجه نحو أي مكان. فمضت في طريقها، ومرت بكنت الذي كان يتحدث مع زوج مونيكا عن الوقت الذي استغرقه نشر أحد جذوع الأشجار على الشاطئ. صعدت، بعد ذلك، درجات سلم منزل سونيه لتدخل إلى المطبخ.
كانت سونيه منشغلة بتقليب وعاء ضخم من صلصة الفلفل الحار، في حين أخذت المرأة الأكبر سنا - التي عاشت معها في المنزل الشيوعي - تعد شرائح خبز الجودار والسلامي والجبن على أحد أطباق التقديم. كانت تلك المرأة ترتدي في الحفل الملابس نفسها التي ارتدتها في عشاء الكاري؛ تنورة فضفاضة وسترة باهتة اللون ضيقة، بدا منها تدلي ثدييها حتى خصرها. اعتقدت كاث أن لذلك علاقة بالماركسية؛ إذ كان كوتر يفضل ألا تخرج سونيه مرتدية حمالة الصدر، وكذلك الجوارب، وعدم التزين بأحمر الشفاه. وتعلق الأمر أيضا بالعلاقات الجنسية المتحررة التي تخلو من الغيرة، والاشتهاء المتقد الذي لا يقف عائقا أمامه وصول المرأة الخمسين من عمرها.
كان بالمطبخ أيضا فتاة - كانت تعمل في المكتبة - تقطع الطماطم والفلفل الأخضر، في حين جلست امرأة لم تعرفها كاث على كرسي المطبخ، تدخن السجائر.
قالت فتاة المكتبة لكاث: «هل أسأنا لك في شيء؛ نحن العاملين جميعا في المكتبة؟ سمعنا أنك أنجبت فتاة جميلة، ولم تحضريها لنا كي نراها. أين هي الآن؟»
أجابت كاث: «نائمة على ما أرجو.»
كانت تلك الفتاة تدعى لورين، لكن سونيه وكاث عند تذكرهما أيام عملهما في المكتبة أطلقتا عليها اسم ديبي رينولدز؛ إذ كانت مفعمة بالحيوية.
قالت لكاث: «يا لسوء الحظ!»
رمقت السيدة ذات الثديين المتدليين تلك الفتاة وكاث بنظرة نفور عميقة.
فتحت كاث زجاجة جعة وأعطتها لسونيه التي قالت: «شكرا لك، لقد انصب كل تركيزي على صلصة الفلفل الحار ونسيت أنه بإمكاني احتساء بعض الشراب.» شعرت سونيه بالقلق؛ لأنها لم تكن تجيد الطبخ بقدر ما كان كوتر يجيده.
علقت فتاة المكتبة على ذلك قائلة لكاث: «أحسنت صنعا بعدم شرب هذه الجعة؛ فهي مضرة بالرضاعة.»
فقالت السيدة التي تجلس على كرسي المطبخ: «لقد كنت أفرط في شرب الجعة أثناء الرضاعة، وأظن أنها يوصى بها للمرأة المرضعة. فأنت تتخلصين من أغلبها مع البول على أي حال.»
خطت عينا تلك المرأة بالكحل الأسود الذي امتد حتى الأطراف، بينما تزين جفناها بالظل الأزرق المائل إلى الأرجواني حتى حاجبيها الأسودين المشذبين. أما باقي وجهها، فكان شاحبا للغاية - أو زين ليبدو شاحبا - وكذلك شفتاها الورديتان الشاحبتان اللتان كانتا أقرب إلى البياض. سبق لكاث رؤية أوجه كهذه من قبل، لكن في المجلات فقط.
قالت سونيه: «هذه إيمي. إيمي، هذه كاث. آسفة لعدم تعريف كل منكما بالأخرى.»
قالت المرأة الأكبر سنا: «سونيه، أنت دائما آسفة.»
التقطت إيمي قطعة من الجبن الذي قطع لتوه، وتناولتها.
كانت إيمي عشيقة زوج السيدة الأكبر سنا. شعرت كاث فجأة بأنها ترغب في التعرف عليها ومصادقتها، مثلما تاقت من قبل لمصادقة سونيه. •••
أسدل الليل ستائره على الأمسية، وباتت مجموعات الناس الموجودة على الشاطئ أقل وضوحا؛ وصاروا على الأرجح يتحركون معا. وعند حافة المياه، خلعت السيدات أحذيتهن، ونزعن جواربهن - هذا إن كن يرتدينها في الأساس - ولمسن الماء بأطراف أصابع أقدامهن. توقفت الأغلبية عن شرب الجعة، وصاروا يشربون البنش المسكر الذي تغيرت طبيعته بالفعل بحلول هذا الوقت؛ إذ كان أغلبه في البداية من الرم وعصير الأناناس، لكن الآن أضيفت إليه أنواع أخرى من عصير الفواكه والمياه الغازية والفودكا والنبيذ.
تشجعت السيدات لخلع ما هو أكثر من أحذيتهن، فركض بعضهن إلى المياه بمعظم ملابسهن، ثم أخذن يخلعنها ويلقينها للأخريات على الشاطئ، في حين خلعت أخريات ملابسهن حيثما وقفن على الشاطئ، مشجعات إحداهن الأخرى بأن السماء أكثر ظلمة من أن يراهن أحد. بيد أنه، في الواقع، كان من الممكن رؤية أجسام عارية تندفع في المياه المظلمة فتنثرها حولها وتركض وتسقط فيها. جلبت مونيكا كومة كبيرة من المناشف من منزلها، ونادت الجميع للف أنفسهن بها عند خروجهن من الماء كي لا يصبن ببرد يودي بحياتهن.
ارتفع القمر في السماء بين الأشجار المظلمة على قمة الصخور، وبدا ضخما ومهيبا وأخاذا إلى حد جعل البعض يصيح مذهولا: ما هذا؟ حتى عندما صعد لأعلى في السماء، وتضاءل إلى حجم أكثر اعتيادا، التفت الناس إليه من حين لآخر واصفين إياه ب «قمر الحصاد» أو متسائلين «هل رأيتموه عندما صعد للمرة الأولى؟» «لقد ظننته، في الواقع، منطادا ضخما.» «لم أستطع تخيل ما هو. ما ظننت أن القمر يمكن أن يكون بهذا الحجم أبدا.»
وقفت كاث بالقرب من المياه، متبادلة أطراف الحديث مع الرجل الذي كانت زوجته وعشيقته في مطبخ سونيه منذ قليل. كانت زوجته تسبح الآن في البحر، بعيدا بعض الشيء عن النساء الصاخبات ومن ينثرن المياه. وقال لها الرجل إنه كان قسا في الماضي.
قال مازحا: ««بحر الإيمان كان ممتلئا أيضا من قبل. انبسط حول شواطئ الأرض كطوق براق يحيط بها»، كنت حينها متزوجا من امرأة مختلفة تماما.»
تنهد، فظنت كاث أنه يحاول تذكر بقية المقطع الشعري.
فقالت: «لكني لا أسمع الآن سوى صخب صوته المتراجع في حزن نحو أطراف العالم الموحشة والصخور المكشوفة.» ثم توقفت لأنها شعرت بأنه سيكون تجاوزا منها أن تواصل إلقاء القصيدة حتى البيت: «أيها الحب! فلتجعلنا صادقين.»
سبحت زوجته نحوهما، وجرت نفسها لأعلى حين وصلت المياه إلى ركبتيها. تأرجح ثدياها من جانب لآخر، وقذفا قطرات من الماء حولها أثناء خروجها من الماء.
فتح زوجها ذراعيه، وقال مرحبا بها بود: «الإلهة أوروبا!»
قالت كاث بجرأة: «هذا يجعل منك زيوس.» رغبت في تلك اللحظة أن يقبلها رجل كهذا، رجل تعرفه بالكاد، ولا تهتم به على الإطلاق . وقد قبلها بالفعل محركا لسانه داخل فمها بنعومة.
قال لها: «تخيلي قارة مسماة على اسم بقرة.» وقفت زوجته على مقربة منهما تتنفس الصعداء بعدما بذلته من جهد في السباحة. اقتربت منهما للغاية حتى إن كاث خشيت من ملامسة جسدها العاري لها.
أشعل شخص ما نارا، وخرجت السيدات من الماء، ولففن أنفسهن بالبطاطين والمناشف، أو انحنين خلف جذوع الأشجار لارتداء الملابس.
وشغلت الموسيقى أيضا في الحفل. وكان جيران مونيكا يملكون رصيفا ومرفأ للمراكب، ولما أحضر مشغل الموسيقى إلى المكان، شرع الناس في الرقص على الرصيف، وبصعوبة أكبر على الرمال، بل وحاول البعض أيضا التمايل ببعض الخطوات الراقصة على جذوع الأشجار قبل أن يتعثروا ويسقطوا أو يقفزوا من عليها. أما السيدات اللاتي ارتدين ملابسهن مجددا أو لم يخلعنها من الأساس - أولئك اللاتي لم يطقن البقاء في مكان واحد؛ مثل كاث - فقد ذهبن للتمشية على حافة المياه (لم يعد أحد يسبح في الماء الآن، ونسي الجميع أمر السباحة تماما)، وسرن في طريق مختلف بسبب الموسيقى؛ متأرجحات بخيلاء ومرح، ثم بغطرسة وقحة، كجميلات الأفلام السينمائية.
لم تزل الآنسة كامبو جالسة في نفس المكان مبتسمة.
جلست الفتاة التي أطلقت عليها كاث وسونيه اسم ديبي رينولدز على الرمال وأسندت ظهرها على أحد جذوع الأشجار، وبكت. ابتسمت لكاث وقالت لها: «لا تظني أنني حزينة.»
كان زوجها لاعب كرة قدم سابقا بإحدى الفرق الجامعية، ويدير الآن ورشة سمكرة سيارات. عندما كان يدخل إلى المكتبة لاصطحاب زوجته، بدا دوما كلاعب كرة قدم تقليدي متغطرس ومتعال على كل من حوله، لكنه في الحفل شوهد جاثيا على ركبتيه بجانبها لما رآها باكية وأخذ يعبث بشعرها.
قال: «إنها بخير. هذا ما يئول إليه حالها دوما في مثل هذه الحفلات، أليس كذلك يا حبيبتي؟»
فقالت: «بلى، هذا صحيح.»
رأت كاث سونيه تتجول حول الضيوف المحيطين بدائرة النار المشتعلة، وتوزع حلوى الخطمى عليهم. تمكن البعض من وضعها في أعواد وشيها؛ في حين أخذ آخرون يتقاذفونها فيما بينهم وفقدوها في الرمال.
قالت كاث لها: «ديبي رينولدز تبكي، لكنها على ما يرام. إنها سعيدة.»
فضحكتا، واحتضنت إحداهما الأخرى، فسحقتا كيس الخطمى فيما بينهما.
قالت سونيه: «يا إلهي، كم سأفتقدك! سأفتقد صداقتنا.»
قالت كاث: «نعم، نعم.» وأخذت كل منهما قطعة خطمى باردة وأكلتاها وهما تضحكان وتتبادلان نظرة تملؤها مشاعر الود والحزن على الفراق.
قالت كاث: «هذا لتتذكريني. أنت أعز صديقة لي حقا.»
فقالت سونيه: «وأنت كذلك، صديقتي المخلصة. يقول كوتر إنه يرغب في مضاجعة إيمي الليلة.»
قالت لها كاث: «لا تسمحي له بذلك. لا تسمحي له إذا كان ذلك سيغضبك.»
فقالت سونيه بشجاعة: «ليست المسألة مسألة سماح.» ثم صاحت: «من يرغب في صلصة الفلفل الحار؟ يقدم كوتر الأطباق هناك. صلصة فلفل حار؟ صلصة فلفل حار؟»
أنزل كوتر قدر الصلصة على درجات السلم ووضعه في الرمال.
أخذ يقول على نحو أبوي: «احذروا من القدر! احذروا من القدر، إنه ساخن!»
جلس القرفصاء ليقدم الصلصة للناس. لم يتدثر آنذاك إلا بمنشفة ترفرف من نسيم المياه لتكشف عن جسده. جلست إيمي بجواره تناوله الصحون.
مدت كاث يديها أمام كوتر كما لو كانت تمسك بصحن.
وقالت له: «رجاء يا سيدي! ألا أستحق صحنا؟»
فقفز كوتر ناهضا، وترك المغرفة من يده ليضع يديه الاثنتين على رأسها. «باركك الرب يا ابنتي، الأخير يجب أن يكون في المقدمة.» وقبل عنقها المنحني.
تأوهت إيمي كما لو كانت هي التي منحت القبلة أو تلقتها.
رفعت كاث رأسها، ونظرت خلف كوتر.
وقالت: «أود التزين بهذا النوع من أحمر الشفاه.»
فقالت لها إيمي: «فلتأتي معي.» ووضعت الصحون من يدها لتمسك بكاث بخفة من خصرها، وسارت بها إلى درجات السلم.
وقالت: «فلنصعد إلى البيت؛ سأزين وجهك بالكامل لا شفتيك فحسب.»
في دورة المياه الضيقة خلف غرفة نوم كوتر وسونيه، أخرجت إيمي عبوات صغيرة وأقلام زينة من حقيبتها، ولم تجد مكانا لوضعها عليه سوى مقعد المرحاض. جلست كاث على حافة حوض الاستحمام، ووجهها يكاد يلامس بطن إيمي. وضعت إيمي مسحوق تجميل سائلا على وجنتي كاث، وفوق جفنيها ظلا ملونا، ثم وضعت البودرة على وجهها بالفرشاة. مشطت حاجبي كاث ولمعتهما، ثم وضعت ثلاث طبقات منفصلة من الماسكرا على رموشها لإبرازها. حددت شفتيها ولونتهما، ثم مسحتهما ولونتهما مجددا. رفعت رأس كاث بين يديها، وأمالته ناحية الضوء.
طرق شخص ما الباب، ثم هزه.
فصاحت إيمي: «انتظر! ما بالك؟ ألا تستطيع الذهاب لقضاء حاجتك خلف أحد جذوع الأشجار؟»
لم تسمح لكاث بالنظر في المرآة حتى انتهت.
قالت لها: «لا تبتسمي؛ فسيفسد ذلك المظهر.»
فغرت كاث فمها، وحدقت متجهمة في انعكاس صورتها في المرآة. بدت شفتاها كبتلات الزنابق الممتلئة. جذبتها إيمي بعيدا عن المرآة، وقالت لها: «لم أعن ذلك. يستحسن ألا تنظري لنفسك على الإطلاق، لا تنظري في المرآة على أي حال، فستبدين جميلة.»
صاحت بعد ذلك في الشخص الجديد - أو لعله نفس الشخص - الذي أخذ يطرق الباب بقوة: «تمالك نفسك قليلا! سنخرج حالا.» لملمت أدواتها في الحقيبة، وزجت بها تحت حوض الاستحمام، وقالت لكاث: «هيا أيتها الفاتنة!» •••
رقصت إيمي وكاث على الرصيف، وهما تضحكان وتتحدى إحداهما الأخرى. حاول الرجال إقحام أنفسهم بينهما، لكنهما تمكنتا من عدم السماح بذلك لفترة من الوقت، ثم استسلمتا وانفصلت إحداهما عن الأخرى، بتعبير وجه جازع، ولوحتا بذراعيهما - كالطيور التي تهبط على الأرض - عندما ابتعدت كل منهما عن الأخرى بصحبة رفيق آخر.
رقصت كاث مع رجل لم تتذكر رؤيتها له من قبل أثناء الأمسية. بدا في نفس عمر كوتر تقريبا. كان طويلا بخصر غير نحيف مترهل، وشعر مجعد خفيف، وهالات سوداء حول عينيه.
قالت له كاث: «ربما أقع؛ أشعر بدوار، وقد أقع من فوق الرصيف.»
فقال لها: «سوف أمسك بك.»
قالت: «أشعر بالدوار، لكنني لست مخمورة.»
فابتسم، وجال بخاطرها أن هذا ما يقوله دوما المخمورون.
فقالت له: «حقا، لست مخمورة.» وقد كان ذلك صحيحا؛ إذ لم تنه زجاجة جعة واحدة بالكامل، ولم تمس البنش المسكر أيضا.
قالت: «إلا إذا كنت قد سكرت عن طريق البشرة؛ بالتناضح.»
لم يرد عليها. جذبها إليه، ثم حررها ناظرا إلى عينيها.
اتسم الجنس الذي مارسته كاث مع كنت بالقوة والتوق، لكنه كان صامتا في الوقت نفسه؛ فلم يعمد أحدهما إلى إغراء الآخر، وإنما مارسا العلاقة الحميمية - أو ما اعتبراها حميمية - مباشرة دون مقدمات، ولم يغيرا من هذا الموقف قط. فإذا كان المرء ملتزما بمضاجعة شخص واحد فقط طوال حياته، فلا حاجة لإضفاء تميز على أي شيء؛ فالأمر مميز بالفعل. كانا يتبادلان النظر وهما عاريان في الماضي، لكن أعينهما لم تتلاق في هذه الآونة إلا مصادفة.
ما افتقرت إليه كاث مع زوجها تفعله الآن راقصة مع رفيقها المجهول: يتقدمان للأمام، ويتراجعان، ويدوران، ويتفلت كل من الآخر، ويستعرض أحدهما أمام الآخر، وينظر كل منهما في عيني الآخر. فضحت عيناهما أن هذا الرقص لن يعني شيئا البتة مقارنة بما يمكنهما فعله إذا اختارا اللقاء الجسدي.
بيد أن كل ذلك لم يكن سوى هزل؛ بمجرد أن يتلامسا، يفلت كل منهما من الآخر مجددا. يقتربان، فيفغران فمهما، وتداعب الألسنة الشفاه، ثم يتراجعان متظاهرين بالاستمتاع.
كانت كاث ترتدي سترة قصيرة الأكمام من الصوف المصقول تناسب الرضاعة؛ نظرا لفتحة رقبتها الواسعة مثلثة الشكل، والأزرار الأمامية حتى طرفها السفلي.
في المرة التالية التي اقتربت فيها من شريكها في الرقص، رفع ذراعه كما لو كان يحمي نفسه، وحرك ظهر كفه، ومعصمه وساعده العاريين على ثدييها المشدودين تحت الصوف المثير. أدى ذلك إلى ترنحهما، وكاد يوقفهما عن الرقص، لكنهما واصلا رقصتهما، وقد أنهكت كاث وأخذت تتعثر في خطواتها.
سمعت أحدا ينادي اسمها. «السيدة مايبيري. السيدة مايبيري.»
كانت جليسة الأطفال؛ نادتها وهي تقف في منتصف درجات سلم منزل مونيكا. «إنها طفلتك. لقد استيقظت. هل يمكنك المجيء لإرضاعها؟»
توقفت كاث عن الرقص. تلمست طريقها بترنح بين الراقصين الآخرين. قفزت من على الرصيف بعيدا عن الأضواء، وتعثرت في الرمال. علمت أن شريكها في الرقص خلفها مباشرة؛ فقد سمعته يقفز خلفها. كانت مستعدة للسماح له بتقبيلها، لكنه أمسك بفخذيها، وأدارهما تجاهه، وجثا على ركبتيه، وقبل ما بين ساقيها عبر السروال القطني الذي كانت ترتديه، ونهض بعد ذلك برشاقة غريبة على رجل في ضخامته، واستدار كل منهما مبتعدا عن الآخر في نفس اللحظة. أسرعت كاث نحو الضوء، وصعدت درجات سلم منزل مونيكا. أخذت تلهث، وتصعد بصعوبة مستندة إلى الدرابزين، كما لو كانت امرأة مسنة.
كانت جليسة الأطفال في المطبخ.
قالت لها: «وصل زوجك لتوه ومعه زجاجة الرضاعة. لم أكن أعرف ترتيبكما، وإلا كنت قد وفرت على نفسي عناء الصياح.»
توجهت كاث إلى غرفة معيشة مونيكا. كان الضوء الوحيد في المكان هو القادم من الردهة والمطبخ، لكنها تمكنت من ملاحظة أنها كانت غرفة معيشة حقيقية، وليست شرفة معدلة مثل غرفة المعيشة في منزلها ومنزل سونيه. احتوت الغرفة على مائدة قهوة دنماركية عصرية، وأثاث منجد، وستائر أنيقة.
كان كنت جالسا على كرسي بذراعين، يطعم نويل من زجاجة الرضاعة الإضافية.
قال لها: «مرحبا» بصوت خفيض، مع أن نويل كانت تمص اللبن بقوة تدل على أنها أبعد ما يكون عن النوم.
فردت كاث التحية، وجلست على الأريكة.
قال لها: «رأيت أنها ستكون فكرة جيدة، أن أحضر زجاجة الرضاعة، تحسبا لشربك الخمر.»
فقالت كاث: «لم أشرب ... خمرا.» ورفعت يدها إلى ثدييها للتحقق من امتلائهما باللبن، لكن ملمس الصوف جعلها تشعر بالإثارة وأيقظ رغبتها على نحو حال دون استمرارها في الضغط عليهما.
قال كنت: «حسنا، يمكنك إرضاعها الآن، إن أردت.»
جلست على حافة الأريكة، ومالت إلى الأمام، متلهفة لسؤاله إذا كان قد حضر إلى المنزل من الناحية الأمامية أم الخلفية؟ أي مرورا بالطريق أم الشاطئ؟ إذا كان قد مر على الشاطئ، فلا ريب أنه رآها وهي ترقص. بيد أنه كان هناك أناس كثيرون يرقصون على الرصيف؛ ولذا ربما لم يلحظ الراقصين الفرديين.
لكن جليسة الأطفال رأتها، ولعل كنت سمعها وهي تنادي اسمها؛ ومن ثم نظر إلى حيث وجهت جليسة الأطفال النداء.
هذا إن كان قد مر بالشاطئ. أما إذا كان قد مر بالطريق، ودخل المنزل عبر الردهة، وليس المطبخ، فلعله لم ير الراقصين على الإطلاق.
سألته كاث: «هل سمعتها وهي تنادي علي؟ هل هذا ما جعلك تذهب إلى المنزل وتحضر الزجاجة؟»
فأجابها: «كنت قد فكرت في الحضور بالفعل. كان وقت الرضاعة قد حان.» ورفع الزجاجة ليرى مقدار اللبن الذي تناولته نويل.
وقال: «جائعة.»
فقالت كاث: «نعم.» «إنها فرصتك الآن لإرضاعها، إذا كنت ترغبين في السكر.» «هل هذا ما أنت عليه؟ مخمور؟» «لقد نلت نصيبي. فلتذهبي أنت، إن أردت، واستمتعي بوقتك.»
رأت كاث أن ثقته في نفسه يشوبها الحزن والادعاء. لا بد أنه قد رآها وهي ترقص، وإلا لسألها: «ماذا فعلت في وجهك؟»
قالت له: «سأنتظرك.»
فقطب جبينه وهو ينظر للطفلة ويميل الزجاجة لأعلى في فمها.
وقال: «أوشكت على الانتهاء. حسنا، كما تشائين.»
قالت كاث: «أحتاج فقط للذهاب إلى دورة المياه.» وهناك، مثلما توقعت أن يكون الحال في منزل مونيكا، كان هناك الكثير من المناديل الورقية. فتحت صنبور الماء الساخن، وأخذت تبلل المناديل وتدعك بها وجهها مرارا وتكرارا، مع التخلص بين الحين والآخر من لفائف المناديل الورقية الملطخة باللونين الأسود والأرجواني في المرحاض.
4
في منتصف الكأس الثانية، وبينما تحدث كنت عن الأسعار الصاعقة، بل والفادحة، للعقارات في هذه الأيام في غرب فانكوفر، قالت له سونيه: «إن لدي نظرية في هذا الشأن.»
قال كنت: «تلك المنازل التي اعتدنا العيش فيها، لقد بيعت من زمن طويل بسعر زهيد مقارنة بالأسعار الآن. لا أعلم كم من المال يمكن الحصول عليه في مقابلها الآن؛ مقابل العقار نفسه، لكي يتم هدمه وبناء مبنى كبير مكانه.»
ترى ماذا كانت نظريتها؟ هل كانت عن أسعار العقارات؟
كلا، لقد كانت عن كوتر. فكانت تعتقد أنه لم يمت.
قالت: «ظننته مات في البداية، ولم يخطر ببالي قط الشك في موته. ولكن فجأة استيقظت من حالة اللاوعي التي انتابتني؛ فليس من الضروري أن يكون الخبر صحيحا. ليس ضروريا على الإطلاق.»
قالت: «فلننظر إلى الظروف المحيطة بوفاته.» فقد راسلها طبيب من جاكارتا - قال من راسلها إنه طبيب - ليخبرها في خطابه أن كوتر توفي، وذكر سبب وفاته مستخدما المصطلح الطبي للحالة؛ لكنها لا تستطيع تذكره الآن. كان مرضا معديا على أي حال. لكن أنى لها أن تعرف إن كان هذا الرجل طبيبا بحق؟ حتى وإن سلمت جدلا بأنه طبيب، فكيف لها أن تعرف إن كان يصدقها القول؟ لم يكن من الصعب على كوتر التعرف على أحد الأطباء، ومصادقته؛ فكان كوتر يصادق كافة صنوف البشر. «أو ربما يكون قد دفع له مالا أيضا؛ فهذا احتمال ليس بالمستبعد.»
سألها كنت: «ولم يفعل ذلك؟» «لن يكون أول طبيب يفعل شيئا من هذا القبيل. ربما كان بحاجة للمال للإبقاء على استمرار العمل في عيادة تخدم الفقراء، ما أدرانا؟ وربما يكون قد أراد المال لنفسه؛ فالأطباء ليسوا ملائكة.»
قال كنت: «لا، أقصد كوتر. ما الذي يدفعه لفعل ذلك؟ وهل كان يملك أي أموال؟» «كلا، لم يكن يملك أي أموال، لكن ... لا أعلم. ليس هذا سوى افتراض، على أي حال. أقصد مسألة المال. وكما تعلم، فقد كنت هنا أرعى والدته. كان يهتم بوالدته حقا، ويعلم أنني ما كنت لأتخلى عنها؛ لذا، فقد كان الأمر على ما يرام في نظره.»
استطردت قائلة: «وقد كان على ما يرام بالفعل؛ فقد كنت أحب ديليا، ولم أشعر بأن رعايتي لها عبء على عاتقي. لعلني كنت أكثر ملاءمة لرعايتها عن الزواج من كوتر. والغريب في الأمر أن ديليا رأت ذلك أيضا. أقصد بخصوص كوتر؛ فقد كانت لديها نفس الشكوك، ولم تذكرها لي قط، وأنا أيضا لم أصارحها بشكوكي؛ فكلانا رأى أن ذلك سيكسر قلب الأخرى. لكن ذات مساء قبل رحيلها بفترة بسيطة، كنت أقرأ لها قصة بوليسية تدور أحداثها في هونج كونج، فإذا بها تقول لي: «لعل هذا هو المكان الذي يوجد فيه كوتر؛ هونج كونج.»
قالت لي إنها ترجو ألا تكون قد أزعجتني بهذا الحديث. فصارحتها بأفكاري، وضحكت. كلانا ضحك. لعلك تتوقع من أم عجوز أن يغلبها الأسى والحزن بهروب ابنها الوحيد وهجرانه لها، لكن هذا لم يحدث. لعل هذا ليس حال كبار السن، أو بالأحرى الطاعنين في السن؛ فهم يتوقفون عن الشعور بالأسى والحزن؛ لا ريب أنهم يكتشفون أنه ما من شيء يستحق حزنهم.
علم أنني كنت سأرعاها، وإن لم يكن يعلم على الأرجح إلى متى سيدوم ذلك. كنت أتمنى أن أطلعك على خطاب الطبيب، لكنني تخلصت منه. كان ذلك غباء شديدا مني، لكنني كنت مشتتة الفكر آنذاك. لم أتصور حينها كيف كنت سأواصل حياتي. لم أفكر في متابعة الأمر والبحث عن مؤهلات هذا الطبيب أو طلب شهادة وفاة منه أو أي شيء من هذا القبيل. لم أفكر في كل ذلك إلا لاحقا، وحينذاك لم يعد معي العنوان. لم أستطع مراسلة السفارة الأمريكية؛ لأنها آخر مكان قد يكون لكوتر علاقة به. ولم يكن كذلك مواطنا كنديا. لعله كان لديه اسم آخر أيضا؛ هوية مزيفة يمكنه الاختفاء وراءها، وأوراق مزيفة أيضا. فقد كان يلمح كثيرا لأمور من هذا القبيل، وكان ذلك جزءا من سحره وجاذبيته، في نظري.»
قال كنت: «ربما كان ذلك من قبيل إضفاء الأهمية على نفسه، ألا تعتقدين ذلك؟»
فأجابته سونيه: «بلى، بالطبع.» «ألم يكن هناك أي تأمين؟» «لا تكن سخيفا!» «لو كان هناك تأمين، لكشفت شركة التأمين عن الحقيقة.»
ردت سونيه: «نعم، لكنه لم يكن هناك تأمين؛ ولذا فهذا ما أنوي فعله بنفسي.»
قالت له إن هذا من الأمور التي لم تذكرها لحماتها قط؛ فقد قررت أنها بعد أن صارت وحدها، سوف تذهب للبحث عن كوتر، أو بالأحرى اكتشاف الحقيقة.
وسألته: «أعتقد أنك ترى هذا نوعا من التوهم؟»
ظن كنت - وقد صدمه قولها - أنها فقدت عقلها. في كل زيارة قام بها أثناء هذه الرحلة، مر بلحظة من خيبة الأمل الشديدة؛ فالشخص الذي كان يتحدث معه، ومن سعى للقائه، لن يمنحه أيا مما كان يسعى إليه. وصديقه القديم الذي زاره في أريزونا كان مهووسا بالمخاطر التي تفرضها الحياة، بالرغم من مسكنه باهظ الثمن في مجتمع مؤمن. وزوجة صديقه العجوز، التي تجاوزت السبعين من عمرها، رغبت في أن تريه صورا لها مع صديقة عجوز أخرى ترتديان فيها ملابس رقص كفتيات مراقص منطقة كلوندايك، استعدادا لعرض موسيقي أقامتاه. وأطفاله الناضجون انشغل كل منهم بحياته. كان ذلك طبيعيا، وليس مفاجئا بالنسبة إليه. ما فاجأه هو أن هذه الحياة التي كان ابناه وابنته يعيشونها بدت منغلقة الآن، ومتوقعة إلى حد ما. حتى التغييرات، التي كانت تطرأ عليها وكان بإمكانه توقعها أو قيل له إنها ستحدث - أوشكت نويل، مثلا، على ترك زوجها الثاني - لم تكن مثيرة للاهتمام. لم يعترف قط بذلك لديبورا - بل ولنفسه أيضا - لكن هذا هو ما حدث. والآن سونيه، التي لم ترق له بشكل خاص وكان يحذر منها، لكنه كن لها الاحترام كشخصية غامضة، تحولت إلى امرأة عجوز ثرثارة أصابها الجنون.
لقد كان لديه سبب لزيارتها، لكنهما لم يقتربا منه بسبب كل هذا الحديث المضطرب عن كوتر.
قال لها: «حسنا، كي أكون صريحا معك؛ لا يبدو ذلك بالفعل المتعقل. هذا كي أصارحك القول.»
فقالت سونيه ببهجة: «يبدو كمطاردة إوزة برية.» «ثمة احتمال أن يكون متوفى الآن على أي حال.» «صحيح.» «وربما يكون قد انتقل للعيش في أي مكان آخر. هذا إن صحت نظريتك.» «صحيح.» «لذا، فإن الأمل الوحيد هو أنه إذا كان قد توفي حقا، وكانت نظريتك خاطئة، فسوف تعرفين ذلك، ولن تحرزي بذلك أي تقدم مقارنة بحالك الآن.» «لا، أظن أنني سأفعل.» «يمكنك فعل ذلك ببقائك هنا وإرسالك بعض الخطابات.»
قالت سونيه إنها لا تتفق معه في ذلك؛ فهي لا تستطيع اللجوء لقنوات التواصل الرسمية في هذا الشأن. «لا مفر من أن يصير المرء معروفا في الشوارع.»
تعني في شوارع جاكارتا؛ حيث من المفترض أن تبدأ رحلة بحثها؛ ففي أماكن كجاكارتا، لا ينغلق الناس على أنفسهم، وإنما يعيشون في الشوارع، ويعرف عنهم الكثيرون - كأصحاب المحلات - أشياء كثيرة. هناك دوما من يعرف شيئا عن أي شخص، وتتناقل الأخبار؛ ولذا سوف تطرح سونيه الأسئلة، وسينتشر الخبر بوجودها في المكان. وشخص مثل كوتر لا يمكن أن ينسى بسهولة، فثمة من يتذكره بالتأكيد، حتى بعد مرور كل هذا الوقت. وستكون هناك معلومات من أي نوع عنه. قد يكون بعضها باهظ الثمن، ولكن لن يكون جميعها صحيحا.
فكر كنت أن يسألها عن المال الذي ستنفق منه في رحلتها. هل ورثت أي أموال من والديها؟ فقد تذكر أنهما قد حرماها من المال عند زواجها. ربما اعتقدت أنها ستحصل على مبلغ كبير من المال مقابل هذا المنزل. احتمال مستبعد، لكنها قد تكون على حق.
حتى وإن كان الأمر كذلك، فسوف تنفق المال كله في غضون شهرين، وسينتشر الخبر بأنها موجودة في المكان بالفعل.
كل ما قاله لها: «لقد تغيرت هذه المدن كثيرا.»
فقالت له: «لا يعني ذلك أنني سأستبعد قنوات التواصل المعتادة؛ فلسوف أسعى للتأكد من كل ما يمكنني الوصول إليه؛ السفارة، سجلات الدفن، السجل الطبي - هذا إن وجد. والواقع أنني كتبت خطابات بالفعل، لكنك لا تحظى في هذه الأحوال إلا بمراوغات. ولا بد من المواجهة الشخصية. يجب أن تذهب إلى هناك، توجد في المكان، تتجول، وتزعج الآخرين، وتكتشف نقاط ضعفهم، وتكون على استعداد لأن تكون راشيا إذا اضطررت إلى ذلك. إنني لا أتوهم أن الأمر سيكون سهلا.
على سبيل المثال، أتوقع أن تكون الحرارة هناك مهلكة. لا يبدو أن موقع هذه المدينة - جاكارتا - جيد، كما أنها مليئة بالمستنقعات والوهاد. لست غبية. سوف أحصل على التطعيمات اللازمة، وأتخذ كل الاحتياطات، وسوف آخذ معي الفيتامينات التي أتناولها. وبما أن الهولنديين هم من أسسوا جاكارتا، فلن يكون هناك أي نقص في شراب الجن؛ إنها الهند الشرقية الهولندية، وليست بالمدينة العتيقة؛ فقد شيدت في العقد الأول من القرن السابع عشر على ما أعتقد. انتظر لحظة؛ لدي كل ... سوف أريك ... لدي ...»
وضعت كأسها - وقد صارت فارغة منذ فترة - ونهضت مسرعة، وبعد خطوتين تعلقت قدمها في البساط الممزق المصنوع من السيزال، وترنحت فجأة للأمام، لكنها استعادت توازنها بالإمساك بإطار الباب، ولم تقع. قالت: «علي التخلص من هذا البساط.» ثم أسرعت إلى داخل المنزل.
سمع كنت صوت صراعها مع بعض الأدراج المستعصية على الفتح، ثم صوت سقوط كومة من الأوراق. وأثناء كل ذلك، كانت تتحدث معه بتلك النبرة المطمئنة شبه الجنونية لشخص يسعى جاهدا لعدم فقد اهتمام من يتحدث معه. لم يتبين حديثها، أو بالأحرى لم يحاول ذلك؛ فقد استغل الفرصة لابتلاع حبة دواء، الأمر الذي كان يفكر في فعله على مدار نصف الساعة الماضية. كانت حبة صغيرة لم تتطلب احتساء شراب معها - إذ كانت كأسه فارغة أيضا - وكان يستطيع على الأرجح وضعها في فمه دون أن تلاحظ سونيه. لكن شيئا كالخجل أو معتقد يفتقر إلى المنطقية منعه من المحاولة. لم يكن يمانع معرفة ديبورا دائما بحالته الصحية، وكان لا بد من معرفة أبنائه بها بالطبع أيضا، لكن ثمة مانعا يحول دون كشفه عن هذه الحالة أمام من هم في نفس سنه.
أخذ الحبة في التوقيت المناسب؛ إذ خيم عليه تدريجيا شعور بالإغماء وحرارة مزعجة وتعب عام، وتبدى تدهور الحالة في صورة قطرات عرق على صدغيه. ولبضع دقائق، شعر بأن حالته تزداد سوءا، لكن بالتنفس الهادئ المنظم والتحريك العفوي لأطرافه، تغلب على هذه الحالة. وأثناء ذلك، ظهرت سونيه مجددا ممسكة بمجموعة من الأوراق؛ كانت خرائط وأوراقا مطبوعة نسختها بالتأكيد من كتب المكتبة. بعضها انزلق من يديها عند جلوسها، وتناثر على بساط السيزال.
قالت: «يطلقون عليها الآن باتافيا القديمة. تخطيطها منظم هندسيا تنظيما دقيقا على نحو هولندي حقا. ثمة ضاحية هناك تدعى فيلتفريدن، وهي كلمة هولندية تعني «الرضا التام». ألن يكون من المثير للضحك أن أعثر عليه هناك؟ وهناك كنيسة برتغالية قديمة شيدت في أواخر العقد الأول من القرن السابع عشر. إنها دولة إسلامية، بالطبع، وبها أكبر مسجد في جنوب شرق آسيا. رسا القبطان كوك فيها لإصلاح سفنه، وأشاد بأحواض بناء السفن وإصلاحها أيما إشادة، لكنه ذكر أن الخنادق الموجودة في المستنقعات كانت قذرة. لعلها لا تزال كذلك على الأرجح. لم يبد كوتر قويا قط، لكنه كان يعتني بنفسه أكثر مما قد يبدو لك. فما كان ليتجول حول المستنقعات الموبوءة بالملاريا أو يشتري مشروبات من الباعة الجائلين في الشوارع. أتوقع بالطبع أن يكون قد تأقلم تماما مع الحياة هناك، إذا كان لا يزال حيا. لا أعلم ما يمكنني توقعه. يمكنني أن أتخيله قد صار شبيها بأبناء البلد، أو مسترخيا بجوار حمام سباحة يتناول الفاكهة، وامرأة سمراء قصيرة القامة قائمة على خدمته. أو ربما يتجول مستجديا المال للفقراء.»
في الواقع، ثمة شيء تذكره كنت. في ليلة حفل الشاطئ، توجه إليه كوتر - وهو لا يرتدي شيئا سوى منشفة لا تستر جسده على نحو كاف - وسأله عما كان يعلمه عن الأمراض الاستوائية؛ بصفته صيدلانيا.
لكن ذلك لم يبد غريبا؛ فأي شخص سيذهب إلى حيث كان كوتر ذاهبا كان سيفعل نفس الشيء.
قال لسونيه: «أنت تفكرين في الهند.»
استقرت حالته الآن، وأعادت حبة الدواء بعض الثبات لوظائف جسمه الداخلية، وأوقفت ما بدا وكأنه حالة إعياء شديدة.
فقالت له سونيه: «أتعرف ما السبب الآخر الذي يجعلني أعتقد أنه لم يمت؟ إنني لا أحلم به. فأنا أحلم بالموتى. أحلم دوما بحماتي.»
قال كنت: «أنا لا أحلم.»
ردت سونيه: «الجميع يحلمون. أنت فقط لا تتذكر.»
فهز رأسه.
لم تمت كاث. كانت تعيش في أونتاريو بضاحية هاليبورتون التي لا تبعد كثيرا عن تورونتو.
سأل كنت نويل عندما زارها: «هل تعلم والدتك بوجودي هنا؟» وأجابته: «نعم، أظن ذلك. بالتأكيد تعلم.»
لكنه لم يطرق بابها. وعندما سألته ديبورا عما إذا كان يرغب في تغيير مسارهما لرؤيتها، قال لها: «لا داعي لتغيير مسار رحلتنا؛ فالأمر لا يستحق.»
عاشت كاث وحدها على ضفاف بحيرة صغيرة، والرجل الذي عاشت معه فترة طويلة من الزمن وشيد هذا المنزل، توفي، لكن نويل قالت إن لديها أصدقاء، وإنها على ما يرام.
عندما ذكرت سونيه اسم كاث في وقت سابق من المحادثة، انتابه شعور بالدفء وكذلك الخطر - في الوقت نفسه - بأنهما لا تزالان على اتصال فيما بينهما، فكان يخشى سماع شيء لا يرغب في معرفته، وراوده في الوقت نفسه أمل أحمق في أن تخبر سونيه كاث كيف بدا في حالة جيدة (وكان كذلك - من وجهة نظره - نظرا لثبات وزنه إلى حد ما وسمرة بشرته التي اكتسبها في جنوب غرب البلاد )، وأنه سعيد في زواجه. ربما تكون نويل قد قالت لها شيئا كهذا، لكن حديث سونيه معها سيكون ذا أهمية أكبر من حديث نويل. انتظر من سونيه التحدث عن كاث مجددا.
لكنها لم تفعل. وإنما تحدثت طوال الوقت عن كوتر، والحماقات، وجاكارتا. •••
كان الاضطراب الآن خارجيا؛ خارج النوافذ - وليس بداخل كنت - حيث اشتدت الرياح التي كانت تهز أغصان الأشجار طوال لقائهما وبدأت تعصف بها الآن. ولم تكن تلك الأغصان الطويلة الضخمة لتميل أمام أي رياح؛ فقد كانت أفرعها جامدة وأوراقها ثابتة إلى درجة أنها يجب أن تهز من الجذور. وفي هذا الوقت من اليوم، انعكست أشعة الشمس على الأوراق الخضراء زيتية المظهر، ولأن الشمس ما زالت مشرقة، لم تصاحب الرياح أي سحب؛ ما عنى أن السماء لن تمطر.
قالت سونيه: «هل ترغب في كأس أخرى، وسأقلل لك الجن؟»
أجابها بالنفي. فما كان بوسعه ذلك، بعد تناول حبة الدواء.
مضت كل الأحداث سريعا، فيما عدا الأوقات التي حدث فيها كل شيء بإيقاع بطيء للغاية. ففي رحلتهما بالسيارة، طال وقت انتظار كنت وصول ديبورا إلى المدينة التالية بصفتها سائق السيارة. ثم ماذا؟ لا شيء. لكن بين الفينة والأخرى، حانت لحظات شعر فيها أن كل شيء يحمل له رسالة تود إخباره بشيء ما؛ الشجيرات المهتزة، والضوء الباهر. حدث كل شيء بسرعة البرق مما سلبه القدرة على التركيز. وفي مثل هذه المواقف، عندما ترغب في تلخيص هذه الأشياء، تمر جميعها أمام عينيك على نحو سريع في مشهد مشوش، كأنك تراها من فوق إحدى ألعاب الملاهي السريعة، فتتخذ فكرة خاطئة بلا شك عنها، مثل احتمالية أن يكون شخص ميت على قيد الحياة في جاكارتا.
لكنك عندما تعلم أن شخصا ما على قيد الحياة، وأن بإمكانك الذهاب إليه لزيارته في منزله، فإنك تضيع الفرصة من يديك.
ما الذي يمنعه من ذلك؟ هل يخشى أن يرى امرأة غريبة لا يمكنه أن يصدق أنه كان متزوجا منها يوما ما؟ أم أنه لا يراها غريبة على الإطلاق، لكنها خرجت من حياته دون أي سبب؟
قال كنت: «لقد هربا كلاهما.»
تركت سونيه الأوراق الموضوعة على حجرها تنزلق على الأرض لتستقر هناك مع بقية الأوراق.
استطرد كنت حديثه: «كوتر وكاث.»
فقالت له: «يحدث ذلك كل يوم تقريبا. كل يوم تقريبا في هذا الوقت من العام، تهب هذه الرياح في ساعة متأخرة من فترة بعد الظهيرة.»
انعكس الضوء على البقع الموجودة بوجهها أثناء تحدثها، كما لو كانت انعكاسات مرآة.
قالت سونيه: «لقد مر وقت طويل على خروج زوجتك للتسوق. هذا سخف، ولكن لا يبدو الشباب مهمين في نظري؛ فإن اختفوا تماما من على وجه الأرض، فلن يهم.»
قال كنت: «بل على العكس، نحن من تتحدثين عنهم.»
بسبب الحبة التي تناولها، أضحت أفكاره أشبه بالآثار الطويلة التي تخلفها الطائرات في خطوط من الدخان الأبيض في السماء. فجالت بخاطره فكرة تتعلق باستمرار بقائه حيث يجلس مستمعا إلى حديث سونيه عن جاكارتا، والرياح تعصف بالكثبان الرملية.
إنها فكرة تتعلق بعدم ضرورة المواصلة، والعودة إلى الديار.
جزيرة كورتز
كنت عروسا صغيرة. حينما تزوجت كنت في العشرين من عمري، طولي خمسة أقدام وسبع بوصات، ووزني يتراوح بين المائة والخمسة والثلاثين والمائة والأربعين رطلا، لكن البعض، مثل زوجة رئيس تشيس في العمل، وسكرتيرة مكتبه الأكبر سنا، والسيدة جوري التي تسكن في الطابق العلوي، كن يطلقن علي لقب العروس الصغيرة؛ وأحيانا عروسنا الصغيرة. وكنت أنا وتشيس نتندر على هذا الموضوع، إلا أن رد فعله لهم كان يظهر في نظرة افتتان واعتزاز، أما رد فعلي فكان في ابتسامة حيية مستسلمة.
كنا نعيش في فانكوفر في قبو أحد المنازل؛ أسفل الدور الأرضي. لم يكن المنزل ملكا لآل جوري - كما ظننت في البداية - وإنما كان ملكا لراي ابن السيدة جوري، وكان يأتي أحيانا إلى القبو لتصليح بعض الأشياء. فيدخل من باب القبو تماما كما ندخل أنا وتشيس. كان نحيلا، ليس عريض الصدر، ربما في العقد الرابع من عمره، وكان دائما يحمل صندوق أدوات ويعتمر قبعات العمال. وكان منحني الظهر دوما؛ ربما بسبب الانحناء معظم أوقاته، بينما يزاول أعمال السباكة والكهرباء والنجارة. أما وجهه فكان شاحبا، وكان كثير السعال، وكانت كل سعلة تصدر منه تعبيرا مستقلا متحفظا يدل على شعوره بأن وجوده في القبو تطفل لا بد منه. غير أنه لم يعتذر عن دخوله المكان، لكنه أيضا لم يتجول في الأرجاء وكأنه صاحبه. لم أتكلم معه قط إلا حين يطرق بابي كي يبلغني أن الماء أو الكهرباء سوف تنقطع بعض الوقت. أما إيجار السكن، فكان يدفع نقدا كل شهر للسيدة جوري. ولا أدري ما إذا كانت تسلمه المبلغ كاملا أم تقتطع جزءا منه لنفسها لتستعين به على نفقاتها؛ فما كان لها والسيد جوري من مصدر دخل سوى معاش الزوج. أما هي فلم يكن لها معاش؛ لأنها - كما أخبرتني - لم تبلغ السن التي تستحق بها المعاش بعد.
كانت السيدة جوري دائما ما تنادي راي من أعلى - وهو يعمل في القبو - لتسأل عن أحواله وما إذا كان يرغب في احتساء فنجان من الشاي. وعادة يرد بأنه على ما يرام ولا وقت لديه لاحتساء الشاي، فأسمعها تقول إنه يكدح في عمله، مثلها تماما. وكانت تتلمس الحيل كي يتناول المزيد من الحلوى التي تعدها بنفسها؛ من حلوى محفوظة أو كعك صغير أو خبز زنجبيل، وهي نفس الحلوى التي كانت تلح علي أن أتناولها. وكان هو يرفض قائلا إنه قد أكل لتوه، أو إن لديه الكثير من الطعام في البيت، وكنت مثله أقاوم إلحاحها هذا، مع أنني كنت أرضخ في محاولتها السابعة أو ربما الثامنة. كنت أتحرج أن أواصل رفضي أمام تعبيرات وجهها الملحة المداهنة، وقسماتها التي تبدو عليها خيبة الأمل. وكم أعجبتني الطريقة التي يصر بها راي على رفضه؛ فهو حتى لا يقول: «لا يا أمي»، وإنما يكتفي فقط بقول «لا».
غير أنها ما كانت تستسلم؛ فتحاول أن تفتح أي مجال للحوار. «إذن ما الجديد في حياتك؟»
فيكون رده: لا جديد، لا أدري. لم يكن فظا أو سريع الغضب قط، ولكنه لم يعطها أي فرصة؛ فدائما صحته جيدة ، ونزلة البرد التي يعانيها تحسنت، والسيدة كورنش وأيرين على ما يرام.
السيدة كورنش هي المرأة التي يعيش راي في بيتها؛ في حي ما شرق فانكوفر. كان راي دائم الانشغال بأعمال في بيت السيدة كورنش وأخرى في هذا البيت؛ ولذا لزم عليه سرعة الرحيل فور أن ينهي عمله هنا. وكان دائما يساعد السيدة كورنش في العناية بابنتها أيرين التي كانت حبيسة كرسي متحرك بسبب إصابتها بشلل دماغي؛ ولذا تقول السيدة جوري عندما يخبرها راي أن أيرين بخير حال: «يا للمسكينة!» واعتادت أمه ألا تنتقده وجها لوجه بسبب الوقت الذي يمضيه مع تلك الفتاة التعسة وتنزهه معها في ستانلي بارك، أو خروجه معها مساء لشراء الآيس كريم (كانت تعلم هذه الأمور؛ لأنها أحيانا تتحدث مع السيدة كورنش عبر الهاتف)، لكنها كانت تقول لي: «لا أستطيع التوقف عن التفكير في مظهرها والآيس كريم يسيل على وجهها. لا أستطيع التوقف عن تخيله؛ فلا بد أن الناس لا يكفون عن التحديق فيهما بلا شفقة.»
قالت لي إنها حين ترافق السيد جوري إلى الخارج على كرسيه المتحرك (والسبب في شلله سكتة دماغية)، ينظر إليهما الناس، لكن الأمر يختلف مع أيرين؛ لأن زوجها حين يكون بالخارج لا تصدر عنه حركة أو صوت، وكانت هي دائمة الحرص على أن يكون مظهره لائقا. أما أيرين فتجلس بجسد متراخ، مكررة كلمات غير مفهومة؛ تلك المسكينة ما بيدها حيلة.
أخبرتني السيدة جوري أن السيدة كورنش ربما تفكر في أمر ما، فمن سيرعى تلك الفتاة المعاقة عندما ترحل هي عن هذه الحياة؟ «لا بد أن يسن قانون يحظر على الأصحاء الزواج من مثل هؤلاء الناس، لكن حتى الآن لا يوجد مثل هذا القانون.»
طلبت إلي السيدة جوري أن أصعد إلى شقتها لارتشاف القهوة، لكنني لم أحبذ قط زيارتها لانشغالي بحياتي الخاصة في القبو. أحيانا كنت أتظاهر بأنني خارج المنزل حين تطرق بابي، ولأجل هذا كان يتعين علي أن أطفئ الأنوار وأوصد الباب بمجرد أن أسمعها وهي تفتح بابها، وكذلك أبقى ساكنة بينما تنقر هي بأظافرها على بابي منادية اسمي بصوتها العالي. كذلك فإنني أضطر أن أظل هادئة ساعة على الأقل بعد أن تصعد شقتها، وأمتنع عن غمر المرحاض. وحتى حين أتحجج لها بأن لا وقت لدي، فهناك أمور أريد أن أنجزها، تضحك قائلة: «أي أمور تلك؟»
فأقول: «خطابات أريد أن أكتبها.»
فتقول لي: «دائما تكتبين الخطابات، لا بد أنك مشتاقة إلى وطنك.»
كان حاجباها ذوي لون زهري يقارب لون شعرها الأحمر المائل للوردي. كنت أظن أن لون شعرها لا يمكن أن يكون طبيعيا، لكن أنى لها أن تصبغ حاجبيها؟ وكان وجهها نحيلا متوردا ينبض بالحياة، وأسنانها كبيرة ومتلألئة. أما ميلها الفطري للود والصحبة، فما كان ليتزعزع مهما كانت المقاومة. ففي صبيحة اليوم الأول الذي أحضرني فيه تشيس إلى الشقة بعد أن استقبلني في محطة القطار، وجدتها تطرق بابي وفي يدها طبق من الكعك وعلى وجهها ابتسامة خداعة. لم أكن قد خلعت قبعتي بعد، وكان تشيس يفك حزام وسطي. كان الكعك جافا وصلبا ومغطى بكريمة ذات لون وردي براق، احتفالا بعرسي. اقتضب تشيس حديثه معها؛ إذ كان عليه العودة إلى عمله خلال نصف ساعة، لكنه حين تخلص منها وجد أن الوقت قد انقضى ولن يستطيع أن يكمل ما بدأه، فاكتفى بأن يأكل الكعك واحدة تلو الأخرى، متذمرا من مذاقها الذي يشبه مذاق نشارة الخشب.
قالت لي ذات مرة: «زوجك ذو شخصية جادة جدا، وهذا يضحكني؛ فهو دوما ينظر إلي بتلك النظرة الجادة في رواحه وغدوه؛ أود نصحه بأن يهون على نفسه، فهو لا يحمل الدنيا على عاتقه.»
أحيانا كنت أضطر أن أتبعها إلى الطابق العلوي بعد أن تنتزعني من الكتاب الذي أقرؤه أو الفقرة التي أكتبها، فنجلس في غرفة الطعام على المائدة التي كانت تزينها بمفرش من الدانتيل، وتضع عليها مرآة ثمانية الأضلاع تعكس تحفة من السيراميك على شكل بجعة. وكنا نرتشف القهوة من فناجين خزفية، ونأكل (المزيد من الكعك، أو تورتة الزبيب، أو الحلوى الدسمة) في أطباق صغيرة تحمل ذات النقوش، ونمسح شفاهنا بمناديل قماشية صغيرة مطرزة لنزيل عنها آثار الكعك. كنت أجلس أمام خزانة الأواني الخزفية التي تتراص فيها الكئوس الفاخرة، ومجموعات أواني اللبن والسكر، والملح والفلفل، وكانت كلها أنيقة وبارعة بطريقة لا تسمح باستخدامها يوميا الاستخدام العادي. وكذلك المزهريات الطويلة الضيقة من أعلى، وإبريق شاي على شكل كوخ مسقف بالقش، وشمعدانات على أشكال زهور السوسن. وكانت السيدة جوري تفتح خزانة الأواني الخزفية مرة كل شهر وتغسل كل ما فيها. هي من أخبرتني بهذا؛ أخبرتني أيضا عن أمور تتعلق بمستقبلي، عن المنزل الذي سأعيش فيه - حسب ظنها - وعن المستقبل الذي ينتظرني، وكلما تكلمت، يزداد شعوري بأثقال حديدية تجثم على أوصالي، وأحتاج إلى التثاؤب مرارا وتكرارا في منتصف الفترة الصباحية، وأشعر برغبة ملحة في أن أزحف لمكان قصي لأختبئ وأنام، لكنني كنت أحرص على أن أبدي لها إعجابي بكل شيء؛ من محتويات خزانة الأواني الخزفية، إلى نظام تدبير المنزل الذي تتبعه في حياتها، إلى تناسق ملابسها كل صباح؛ كالتنورات والسترات بدرجات ألوانها البنفسجية والحمراء، والأوشحة المتناسقة معها المصنوعة من الحرير الصناعي.
قالت لي ذات يوم بعد أن رأتني أكثر من مرة مرتدية الروب: «احرصي على أن ترتدي ثيابك ما إن تستيقظي من النوم، كأنك ستخرجين للعمل، وكذلك صففي شعرك وضعي زينة وجهك. وإذا ما أردت أن تقومي بأعمال المنزل من غسيل أو خبز، فيمكنك ارتداء مئزر فوق ثيابك. إن هذا سيحسن حالتك المعنوية جدا.»
كانت السيدة جوري تخبز الكعك والحلوى دوما تحسبا لأي زائر يطرق بابها (وعلى حد علمي لم يزرها أحد سواي، ولا يمكن القول بأني كنت أطرق بابها)، ولم تكن قط تقدم القهوة في أكواب فخارية.
لم تتكلم بفظاظة وإنما كانت دوما تبدأ جملها بكلمات رقيقة مثل: «دائما ما ...» أو «أحب دائما أن ...» أو «أعتقد أنه من الأفضل أن ...» «حتى حين كنت أعيش في البرية، كنت دائما أحب أن ...» وهنا تراجعت رغبتي في التثاؤب أو الصراخ. أين تلك البرية التي كانت تعيش فيها؟ ومتى؟
قالت: «على مسافة من الشاطئ، كنت حينها عروسا أيضا. عشت هناك سنوات في مدينة يونيون باي، التي لم تكن الطبيعة فيها شديدة البرية. عشت في جزيرة كورتز.»
سألتها أين يقع هذا المكان؟ فقالت: «بعيد للغاية.»
قلت: «لا بد أن الحياة هناك مشوقة.»
قالت: «مشوقة. إنها كذلك إذا كنت ترين الدببة مشوقة، إذا كنت ترين أسود الجبال مشوقة. عن نفسي أفضل الحياة الحضرية.»
كان هناك باب جرار من خشب البلوط يفصل غرفة الطعام عن غرفة المعيشة، وكان دائما ما يفتح قليلا كي تتمكن السيدة جوري من أن تبقي عينيها على السيد جوري الجالس على مقعده الريكلاينر أمام نافذة غرفة المعيشة، وهي تجلس على الكرسي في نهاية المائدة. كانت تتحدث عنه قائلة: «زوجي القعيد على الكرسي المتحرك»، لكنه في الحقيقة لم يجلس على الكرسي المتحرك إلا حين تصطحبه إلى الخارج للتنزه. لم يكن لديهما جهاز تليفزيون؛ حيث إنه، وقتها، كان من الصيحات الحديثة. وكان السيد جوري يجلس ليشاهد الطريق ومنتزه كيتسيلانو الذي يقع على الجانب الآخر من الشارع ويقع خلفه خليج بورارد. وكان يذهب بمفرده إلى دورة المياه متكئا على عصاه بإحدى يديه، وممسكا باليد الأخرى ظهور الكراسي أو متخبطا بالجدران. وفي الداخل كان يتدبر أموره بمفرده وإن كان قضاء حاجته يستغرق منه وقتا طويلا، وقالت لي السيدة جوري إنها أحيانا تنظف الأرضية بعض الشيء بعد أن يخرج.
عادة ما كنت لأرى من السيد جوري سوى ساقه الممتدة في بنطاله على مقعده الريكلاينر الأخضر الفاتح، لكنني رأيته مرة أو مرتين وهو يترنح بصعوبة بالغة ليصل إلى دورة المياه. كان رجلا ضخما ذا رأس كبير وكتفين عريضتين وعظام عريضة.
لكني لم أنظر إلى وجهه؛ فأولئك الذين تتسبب السكتات الدماغية أو الأمراض في إعاقة حركتهم أراهم نذير شؤم، أو رسائل تذكيرية قاسية. لم يكن ما أتجنب رؤيته هو شكل أطرافهم المعطلة أو أيا من علامات الإعاقة الجسدية الدالة على حظهم العاثر، وإنما أعينهم.
لا أظن أنه قد نظر إلي، مع أن السيدة جوري نادته لتخبره أنني حضرت من شقتي في القبو لزيارتهم، فصدرت عنه زمجرة ربما كانت أفضل ما بوسعه القيام به كتحية أو تذمر. •••
كانت شقتنا مكونة من غرفتين كبيرتين وحجرة صغيرة للمهجع، وكنا قد استأجرناها مؤثثة، لكن الشقق في مثل هذه المناطق لم تكن مؤثثة بالمعنى المتعارف عليه؛ إذ اشتملت شقتنا على أثاث بال. فأنا أتذكر أرضية غرفة المعيشة التي كانت مغطاة ببواقي مشمع جاء تصميمه على هيئة مربعات ومستطيلات؛ فاجتمعت فيه كل الألوان والتصميمات المختلفة والتحمت معا فبدت أشبه بلحاف عجيب به شرائط لامعة. وكذلك الموقد الذي يعمل بالغاز الطبيعي كان باليا؛ كان يلقم العداد الملحق به بعملات معدنية حتى نستطيع تشغيله. أما الفراش، فكان في فجوة في الجدار المقابل للمطبخ، وكان موضوعا بإحكام داخل الجدار، لدرجة أننا كنا نقفز إليه من موضع الأقدام لننام. وقد قرأ تشيس ذات مرة أن تلك الطريقة هي التي كانت تصعد بها فتيات الحريم إلى فراش السلطان، ليمسدن قدميه في البداية، ثم يتقدمن ببطء لأعلى للعناية بسائر أجزاء جسمه؛ ولذا كنا نلعب هذه اللعبة أحيانا.
دوما ما كنا نسدل الستار على الفراش عند موضع الأقدام، حتى نفصله عن المطبخ. وفي واقع الأمر، كان الستار مفرش سرير قديما من نسيج غير متماسك له أهداب، لونه بيج ضارب إلى الصفرة من أحد الجانبين، ويعلوه تطريز لورود حمراء وأوراق شجر خضراء. أما الجانب الآخر المقابل للفراش فكان مزينا بشرائط حمراء وخضراء، وزهور ونقوش لأوراق شجر تبدو كأشباح على الخلفية البيج. ذاك الستار هو أكثر ما أتذكره في الشقة بوضوح، ولا عجب في ذلك. فقد كان يتمدد أمام ناظري في فورة الجنس وخلال ما يعقبه من شعور بالإشباع، وأصبح يذكرني بما أحببته في الزواج؛ بالجائزة التي عانيت من أجلها مهانة كوني العروس الصغيرة، وتحملت الرهبة المرتبطة على نحو عجيب بخزانة الأواني الخزفية.
نشأت أنا وتشيس في بيوت ترى الجنس خارج إطار الزواج مقززا ولا يمكن التسامح معه، أما الجنس في إطار الزواج فلم يكن يذكر البتة وسرعان ما كان يذهب طي النسيان. كنا على وشك النظر إلى الأمور بالطريقة نفسها، لكننا لم نكن نعرف ذلك؛ فعندما وجدت والدة تشيس واقيات ذكرية في حقيبته، هرعت إلى أبيه باكية (وقد قال تشيس إنها وزعت عليه عندما كان في المعسكر يؤدي التدريب العسكري الذي أرسلته إليه الجامعة - وكان هذا حقيقيا - وأنه قد نسي وجودها في الحقيبة، وهو ما كان كذبا)؛ لذا فقد كان امتلاكنا لمكان خاص وفراش خاص نستطيع أن نمارس فيه الجنس كما يحلو لنا أمرا بديعا. وكانت صفقة رابحة عقدناها، لكننا لم يخطر ببالنا قط أن من يكبروننا سنا - آباءنا وأعمامنا وأخوالنا وعماتنا وخالاتنا - قد أقبلوا على الصفقة ذاتها تلبية لرغباتهم الجنسية. فقد بدا لنا أن حاجتهم الأساسية كانت للمنازل والممتلكات وماكينات جز الأعشاب والمجمدات والجدران الساندة للمنشآت. وبالطبع، بالنسبة إلى النساء، كن يملن نحو إنجاب الأطفال. كانت كل هذه الرغبات هي ما فكرنا في اختيارها أو عدم اختيارها في المستقبل، ولم نفكر قط أنها ستداهمنا لا محالة كالعمر أو الطقس مثلا.
والآن حين أفكر في الأمر بصدق مع نفسي أجد أنها لم تفعل؛ فلم يحدث أن داهمنا شيء دون أن نختاره؛ حتى الحمل كذلك؛ إذ خضنا مخاطرته لسبب واحد؛ أن نتأكد أننا نضجنا بالفعل، ونرى إذا ما كان الحمل ممكن الحدوث.
الأمر الآخر الذي كنت أفعله خلف هذا الستار هو القراءة؛ كنت أقرأ الكتب التي أحضرها من مكتبة كيتسيلانو التي تبعد عنا مسافة بضعة مربعات سكنية. وعندما كنت أبعد ببصري عن الكتاب وأنا في حالة من الإثارة الممزوجة بالدهشة التي تكسبني إياها القراءة - حالة الانتشاء التي أقع تحت تأثيرها بعد أن أقتني من الكتب الغالي والنفيس - تقع عيناي على شرائط الستار. وخلال هذا، تمتزج الشخصيات والقصة بل وكذلك روح الكتاب مع الزهور المطرزة، وتتدفق مع تيار النبيذ الأحمر الغامق، ممثلا في شرائط الستار، أو الأوراق الخضراء الداكنة. قرأت الكتب الكبيرة التي كانت عناوينها مألوفة بالنسبة إلي على نحو سلبني عقلي - بل إنني حاولت قراءة رواية «الخطيبان» - وقرأت فيما بينها أيضا روايات ألدوس هكسلي وهنري جرين ، وروايات «إلى الفنار» و«نهاية شيري» و«موت القلب». كنت أستزيد من هذه الكتب، واحدا تلو الآخر، دون أن أفضل هذا على ذاك، فأسلم نفسي لكل في دوره، تماما كما كنت أقرأ الكتب في طفولتي. وخلف الستار، كنت لا أزال في تلك المرحلة من الاشتهاء المتزايد، والنهم الأقرب إلى الألم.
لكن طرأ علي تغيير منذ طفولتي زاد الأمر تعقيدا؛ إذ بدا من الضروري أن أصير كاتبة إلى جانب كوني قارئة، فابتعت دفترا مدرسيا وحاولت الكتابة؛ وكتبت بالفعل. أبدعت في كتابة سطور قلائل في البداية، ثم جفت أحباري وكففت، فما كان مني إلا أن أمزق الأوراق وأعتصرها كنوع من العقاب الأليم، ثم ألقيها في سلة القمامة. فعلت ذلك مرات ومرات حتى لم يتبق من الدفتر سوى غلافه. ثم ابتعت دفترا جديدا وكررت المحاولة مرة أخرى، ولففت بالدائرة نفسها: إثارة ثم يأس، إثارة ثم يأس، وهكذا دواليك. فكان الأمر أشبه بحمل وإجهاض سريين يحدثان بصفة أسبوعية.
لكن أمري لم يكن سريا بالكامل؛ فقد كان تشيس على علم بأنني كثيرة القراءة ولي محاولات في الكتابة. لم يحاول أن يثبطني على الإطلاق، بل رأى أنه من المنطقي فعل ذلك، وربما يمكنني تعلمه. صحيح أنه يتطلب ممارسة جادة، لكنه سهل الإتقان كلعبة البريدج أو التنس. لم أشكره على هذه الثقة العارمة، فلم تزد مأساتي إلا هزلا. •••
كان تشيس يعمل في متجر بقالة لبيع الجملة، غير أنه تمنى من قبل أن يصبح مدرسا لمادة التاريخ، لكن أباه أقنعه بأن دخل التدريس لا يكفي لإعالة زوجة وإحراز تقدم في الحياة. وكان أبوه هو من ساعده في العثور على هذه الوظيفة، لكنه أخبره أنه بعد أن ينال هذه الوظيفة عليه ألا ينتظر أي خدمات أخرى منه. وبالفعل لم يقدم غيرها. وخلال أول شتاء قضيناه معا بعد الزواج، كان تشيس يغادر المنزل قبل بزوغ الضوء ويعود مساء بعد أن يسدل الليل ستائره. كدح في عمله دون أن يبالي بما إذا كان عمله يلبي اهتماماته السابقة أو كان له هدف ذو شأن عظيم. ولم يكن له هدف سوى أن ينقلنا إلى حياة ننعم فيها بامتلاك ماكينات جز الأعشاب والمجمدات؛ وهي التي كنا نعتقد أنها لا تعنينا. كنت أتعجب من انصياعه وإذعانه كلما فكرت في إدارته لشئون حياته؛ ذلك الإذعان المبتهج، أو فلنقل: النبيل.
لكنني أدركت بعدها أن هذا هو ما يفعله الرجال. •••
خرجت أنا نفسي بحثا عن العمل؛ ففي الأيام التي لا يشتد فيها هطول الأمطار كنت أذهب إلى الصيدلية وأبتاع الجريدة لأطالع إعلانات الوظائف بينما أحتسي قهوتي. ثم أنهض وأبدأ رحلة البحث، حتى ولو كانت السماء تمطر رذاذا، فأتوجه نحو أماكن العمل حيث أشار الإعلان إلى الحاجة إلى نادلة أو بائعة أو عاملة في مصنع؛ أي وظيفة لا تشترط القدرة على الكتابة على الآلة الكاتبة أو الخبرة. أما إذا هطل المطر بغزارة، فكنت أستقل الحافلة. وذات مرة، نصحني تشيس بأن أستقل الحافلة دائما وألا أسير كي أوفر النقود؛ فبينما أنشغل بتوفير المال قد تنال فتاة أخرى الوظيفة.
لكن هذا، في الواقع، هو ما كنت آمله؛ إذ لم آسف قط على أي وظيفة فقدتها. فأحيانا كنت أصل إلى المكان الذي أريد، ثم أقف على الرصيف أتطلع إلى متجر الثياب النسائية وإلى مراياه وسجاده البالي، أو أنظر إلى الموظفات وهن ينزلن على درجات السلم في طريقهن لتناول الغداء أثناء الاستراحة التي يتيحها المكتب الذي كان قد أعلن عن الحاجة إلى وظيفة كاتب محفوظات. حتى إنني لم أكن لأدخل المكتب؛ إذ كنت أعلم أن شعري وأظافري وحذائي الخفيض البالي سيقفون عائقا أمام إمكانية حصولي على الوظيفة. وكذلك المصانع، كانت تبعث في نفسي ذات الرهبة؛ فكنت أستمع إلى هدير الماكينات المنبعث من داخل المباني التي تعبأ فيها المشروبات الغازية، أو تجمع زينة أعياد الميلاد، وأرى مصابيحها غير المزخرفة متدلية من أسقفها التي تشبه أسقف الحظائر. لم تكن أظافري أو فردتا حذائي الخفيضتان ذوي أي شأن هناك في المصانع، لكن عدم إتقاني العمل وغبائي فيما يتعلق باستخدام الماكينات كانا سيجلبان علي السباب والنهر (كنت أسمع صيحات زاعقة بأوامر تطغى على أصوات الماكينات). كنت سأطرد شر طردة ويلحقني الخزي. فلم أر نفسي حتى قادرة على تعلم تشغيل آلة تسجيل المدفوعات النقدية. وقد ذكرت ذلك ذات مرة لأحد مديري المطاعم حين فكر جديا في تعييني؛ إذ أجبته بالنفي حينما سألني: «هل ترين نفسك قادرة على التعامل معها؟» وحينها، نظر إلي كأنه لم يسمع في حياته اعترافا كهذا من قبل؛ فبالرغم من كل شيء، كنت أقول الصدق؛ فلم أظن أن لدي القدرة على التعامل مع الأشياء بسرعة وعلى الملأ. ولو حاولت لتسمرت قدماي. فالشيء الوحيد الذي أستطيع فهمه بسهولة كان على شاكلة التفاصيل المعقدة لحرب الثلاثين عاما على سبيل المثال.
الحقيقة هي أنني لم أضطر إلى العمل، فقد كان تشيس يوفر لنا الاحتياجات الأساسية جدا؛ ولذا لم يكن هناك ما يجعلني ألقي بنفسي في هذا الجحيم؛ لأن زوجي فعل ذلك نيابة عني؛ فهو أمر واجب على الرجال.
جال بخاطري أنني قد أستطيع العمل في المكتبة؛ ولذلك سألت هناك عن حاجتهم إلى موظفات مع أنهم لم يعلنوا عن أي وظائف خالية. مع ذلك، أدرجت سيدة تعمل هناك اسمي في قائمة الانتظار؛ كانت سيدة مهذبة لكنها غير مشجعة. بعد ذلك، توجهت نحو متاجر بيع الكتب، وانتقيت منها المتاجر التي لم يبد أنها تحصل المال باستخدام آلة تسجيل المدفوعات النقدية. وكلما كان المتجر فارغا وغير منظم، كان هذا أفضل. كان أصحاب هذه المتاجر يدخنون أو يغفون على مكاتبهم، أما متاجر الكتب المستعملة فقد كانت تفوح منها دوما رائحة قطط.
كانوا يقولون: «الإقبال علينا ليس مهولا خلال الشتاء لنستعين بموظفات.»
وقالت لي إحدى العاملات ذات مرة ربما علي العودة في الربيع. «مع أننا لا نعمل كثيرا في الربيع أيضا.» •••
لا يشبه شتاء فانكوفر أي شتاء آخر مر بي؛ شتاء بلا ثلوج، بلا أي شيء حتى على شاكلة الرياح الباردة. في منتصف النهار، عندما أتجه نحو وسط المدينة، كنت أشم رائحة تشبه رائحة السكر المحترق؛ وأعتقد أن منبعها الأسلاك العلوية التي توصل التيار الكهربائي إلى الحافلات. كنت أمشي في شارع هستينجز ولا أرى امرأة أخرى غيري؛ لم أر سوى السكارى والمتشردين والعجائز المساكين والصينيين الذين يجرون أقدامهم على الطريق جرا. لم يسئ إلي أحد منهم بكلمه. كنت أمر على المستودعات والأراضي التي تغطيها الحشائش حيث لا يوجد أي رجل على مرمى البصر، أو كنت أمشي عبر حي كيتسيلانو، أشاهد منازله الخشبية الشاهقة التي تعج بأناس يعيش بعضهم بالقرب من بعض، كما كنا في مقاطعة دنبار الراقية، ذات المنازل أحادية الطابق المبنية من الجص، والأشجار المبتورة فروعها. أو كنت أمشي عبر حي كيريزديل، حيث تزرع الأشجار الأكثر فخامة - كأشجار البتولا - في المروج. أمشي عبر هذا الحي وأشاهد العوارض الخشبية التي تعلو المباني المشيدة على غرار العمارة التيودورية، وأستمتع بتناسق العمارة الجورجية، والبيوت ذات الأسطح الشبيهة بأسطح بيوت قصة بيضاء الثلج المبنية بالقش، أو ربما كانت أسطحا من القش الحقيقي. أنى لي أن أعرف؟
في كل هذه الأماكن التي يعيش فيها الناس، كانت مصابيح منازلهم تضاء بحلول الرابعة عصرا، ثم تضاء بعدها مصابيح الشوارع، ثم أضواء الحافلات الكهربائية. وكانت السحب غالبا ما تتفرق في السماء غربا فوق البحر لتنفذ من خلالها الأشعة الحمراء وقت الغروب. وفي المنتزه - الذي أستدير حين أصله عائدة للمنزل - تتلألأ أوراق شجيرات الشتاء التي يداعبها الهواء الرطب المصاحب لحمرة الأفق الباهتة عند الغروب. كان ذلك هو وقت عودة المتسوقين إلى منازلهم، والوقت الذي يفكر فيه العاملون والموظفون في العودة إلى بيوتهم، ووقت خروج من ظلوا في بيوتهم طوال اليوم ليحظوا بقدر قليل من النزهة تجعلهم يتوقون أكثر لبيوتهم. وفي طريق عودتي، كنت أقابل نساء يدفعن عربات أطفال أمامهن، وأخريات بصحبتهن صغار متذمرون، ولكنني لم أظن قط أنني سأمر بما يمرون به قريبا. قابلت عجائز مع كلابهم، وعجائز آخرين يتحركون ببطء أو يجلسون في مقاعد متحركة، يدفعهم رفاق أو قائمون على رعايتهم. قابلت السيدة جوري تدفع أمامها السيد جوري. كانت ترتدي رداء على كتفيها وقبعة من الصوف الناعم أرجواني اللون (علمت منها أنها تحيك معظم ثيابها بنفسها)، وكانت قد وضعت على وجهها مقدارا كبيرا من الزينة الوردية. أما السيد جوري، فكان - حين رأيتهما - يرتدي قبعة بسيطة ويدثر رقبته بوشاح ثقيل. وعندما رأتني السيدة جوري، ألقت علي تحية صاخبة توحي بأنني من ممتلكاتها، أما هو فلم يلق التحية. لم يبد مستمتعا بجولته، لكن القعداء نادرا ما نجد على وجوههم تعبيرا سوى الإذعان، وإن كان يبدو على بعضهم المهانة أو الحقد الصريح.
قالت لي السيدة جوري بعدها: «عندما قابلناك في المنتزه منذ بضعة أيام، ما كنت في طريقك للعودة إلى المنزل بعد أن بحثت عن عمل، أليس كذلك؟»
كذبت عليها وأجبتها بالإيجاب؛ إذ كنت أميل لإخفاء الحقيقة عنها بخصوص أي شيء. «حسنا. كنت سأقول لك إن كنت تبحثين عن وظيفة، فعليك تحسين مظهرك قليلا. تتفقين معي، أليس كذلك؟»
أجبتها ببلى. «لا أفهم كيف تخرج النساء في أيامنا هذه بالطريقة التي يخرجن بها! فعن نفسي لا يمكن أن أخرج من بيتي منتعلة حذاء خفيضا، دون أن أضع أي زينة على وجهي، حتى إن كانت وجهتي هي متجر البقالة، ناهيك عن طلب الحصول على وظيفة من أحدهم.»
كانت تعلم أنني أكذب. تعلم أنني أقف ساكنة خلف باب شقتي في القبو ولا أجيب نقرها عليه. لم أكن لأندهش إذا ما علمت أنها فتشت في قمامتنا ووجدت أوراقي المتكمشة المتسخة التي سجلت فيها كوارثي باستفاضة، بل وقرأتها. لماذا لم تيأس مني؟ لم تستطع؛ فقد كنت حالة مناسبة لها - ربما يعود ذلك إلى أن طباعي الغريبة وغير اللائقة لم تختلف بالنسبة إليها عن إصابة السيد جوري، وما لا يمكن تصحيحه لا بد من احتماله.
ذات يوم نزلت السيدة جوري الدرج، بينما كنت في وسط القبو أغسل ثيابنا؛ فقد سمحت لي أن أستخدم غسالتها وأحواض الغسيل كل يوم ثلاثاء.
سألتني حينها: «هل عثرت على فرصة عمل؟» فقلت لها دون تفكير إن المسئولين بالمكتبة قالوا إنهم قد يحتاجونني في المستقبل. وفكرت بالفعل أن أتظاهر بالعمل في المكتبة مستقبلا - يمكنني أن أذهب هناك كل يوم وأجلس على إحدى طاولاتها الطويلة كي أقرأ أو حتى أحاول أن أكتب كما كنت أفعل بين الفينة والأخرى في الماضي. بالطبع سينكشف أمري إذا ما ذهبت السيدة جوري إلى المكتبة يوما ما - لكنها لن تستطيع دفع السيد جوري أمامها كل تلك المسافة لأعلى التل - أو إذا ذكرت الموضوع أمام تشيس؛ لكنني لم أظن أن هذا قد يحدث أيضا؛ فقد قالت لي ذات مرة إنها تخشى في بعض الأحيان من أن تلقي عليه التحية؛ لأنه يبدو متجهما.
قالت السيدة جوري: «حسنا لكن في الوقت الحالي ... لقد خطر لي أنك في الوقت الحالي قد تفضلين القيام بوظيفة بسيطة؛ أن تجالسي السيد جوري خلال فترات بعد الظهيرة.»
قالت إنها قد عرضت عليها وظيفة في متجر هدايا مستشفى سانت بول لثلاث أو أربع مرات في الأسبوع خلال فترة بعد الظهيرة، واستطردت: «إنها بلا مقابل مادي، وإلا لأرشدتك لتسألي عنها، وإنما هي عمل تطوعي. يقول الطبيب إن الخروج من المنزل أمر جيد بالنسبة إلي، وإلا - حسب زعمه - فستخور قواي. الأمر ليس له علاقة بحاجتي للمال، حيث إن راي ولد بار. إنما الوظيفة بسيطة وتطوعية، حتى إنني فكرت أن ...» ثم نظرت إلى أحواض الشطف فرأت قمصان تشيس مغمورة في الماء النظيف نفسه مع الروب الخاص بي المزخرف بالزهور، والملاءات ذات اللون الأزرق الباهت.
قالت: «أوه، عزيزتي، لا تقولي إنك وضعت الملابس البيضاء مع الملونة في الحوض نفسه.»
قلت: «نعم. الملابس الفاتحة فحسب؛ ألوانها لا تصبغ الملابس البيضاء.»
فردت: «الملابس الفاتحة ملابس ملونة، ربما تظنين أن القمصان ستظل على بياضها، لكنها لن تكون بيضاء كما كانت.»
قلت لها إنني سأتذكر هذه النصيحة المرة القادمة.
فقالت وهي تضحك ضحكتها المقتضبة الفاضحة: «هذه هي الطريقة التي تعتنين بها بزوجك.»
قلت: «تشيس لا يبالي.» ولم أدرك كيف ستأخذ مصداقية هذه العبارة في النقصان بمرور السنين، وكيف ستحتل تلك المهام التي بدت عرضية وأقرب إلى العبث - وعلى هامش حياتي - مكان الصدارة وتتبلور أمام عيني. •••
قبلت وظيفة مجالسة السيد جوري خلال فترات بعد الظهيرة. كان يوجد بأحد جانبي مقعده الريكلاينر الأخضر طاولة صغيرة، أعلاها منشفة مفترشة - لامتصاص السوائل المنسكبة - وعبوات دوائه من أقراص وشراب، وساعة صغيرة ليعرف الوقت. وعلى الجانب الآخر من الكرسي، اكتظت طاولة أخرى بمواد ليقرأها من صحف ومجلات؛ كصحيفة صباح اليوم، والصحيفة التي صدرت مساء أمس، وإصدارات من مجلات «لايف» و«لوك» و«ماكلينز»، التي لم يكن لها ثقل وقتئذ. وعلى أسفل رف في الطاولة، رأيت مجموعة من الكتب المحتوية على قصاصات مقتطعة من صحف ومجلات - كالتي يستخدمها الأطفال في المدارس - وكانت أوراقها سميكة تميل إلى اللون البني وذات حواف خشنة، وبرز منها بعض أجزاء مقتطفات الأخبار والصور. وكانت هذه الكتب تحوي قصاصات جمعها السيد جوري واحتفظ بها على مر الأعوام إلى أن أصيب بالسكتة الدماغية وتوقف عن اقتطاعها من مصادرها. وأيضا كانت هناك خزانة كتب في هذه الغرفة، تشتمل بالمثل على المزيد من المجلات وكتب القصاصات، وشغلت كتب مدرسية خاصة بالمرحلة الثانوية نصف رف؛ لعلها كانت كتب راي.
ذكرت لي السيدة جوري ذات مرة: «دائما ما أقرأ له الصحيفة. إنه لم يفقد قدرته على القراءة لكنه لا يستطيع الإمساك بها بيديه الاثنتين، كذلك فإن عينيه تؤلمانه حينما يقرأ.»
لهذا كنت أقرأ للسيد جوري في الوقت الذي تسرع فيه زوجته برشاقة إلى المحطة لاستقلال الحافلة، مستظلة بمظلتها المزخرفة بالورود. قرأت له صفحة الرياضة، والأخبار المحلية والدولية، وكل ما يتعلق بجرائم القتل والسرقات، والطقس السيئ، وقرأت له أيضا خطابات القراء إلى المحرر، وإلى الطبيب الذي يعطيهم نصائحه الطبية، وإلى آن لاندرز، وكذلك الرد عليها، وبدا لي أن أكثر ما كان يثير اهتمامه هو أخبار الرياضة وآن لاندرز. كنت أحيانا أخطئ في نطق اسم أحد اللاعبين أو يختلط علي اسم مصطلح ما، فيصير ما أقرؤه عديم المعنى؛ ولذا كان يتذمر وهو يوجهني غير راض عني لأحاول مرة أخرى. حين أقرأ له صفحة الرياضة، ينفعل ويغدو منتبها وعابسا، أما حين أقرأ صفحة آن لاندرز، فيتبدى استرخاؤه على وجهه ويصدر أصواتا - تشبه الخرخرة والغطيط العميق - أظن أنها تنم عن شكره وامتنانه. كان يصدر هذه الضوضاء تحديدا عندما تشير هذه الخطابات إلى بعض الأمور النسوية أو التافهة (مثلا كتبت إحدى السيدات أن أخت زوجها ادعت أنها صنعت كعكة بنفسها، مع أن المنديل الورقي الذي يحمل اسم محل المخبوزات كان لا يزال موجودا تحت الكعكة حين قدمتها للزائرين)، أو حين تمس أي موضوع جنسي بحذر كالعادة في تلك الفترة.
حين كنت أقرأ له صفحة المحرر أو أي مقال مليء بهراء عما قاله الروس أو ما قاله الأمريكيون في الأمم المتحدة، كان يغلق عينيه - أو بالأحرى يخفض جفن عينه السليمة بالكامل تقريبا، على عكس جفن عينه الأخرى الضعيفة الذي يخفضه قليلا - وتصير حركات صدره أثناء تنفسه ملحوظة. وعندها، أتوقف للحظات لأرى إذا ما كان قد نام، لكنه كان يصدر صوتا من نوع آخر؛ صوتا موبخا ومقتضبا على نحو فظ. وبمرور الوقت، إذ اعتدت عليه واعتاد علي، أخذ هذا الصوت يبدو أقل توبيخا، بل ومطمئنا؛ ليس فقط بأنه ليس نائما وإنما لا يحتضر في هذه اللحظة.
كان التفكير في أنه يحتضر أمامي مروعا في البداية؛ فلماذا لا يموت وهو يبدو شبه ميت بالفعل؟ كانت عينه الضعيفة أشبه بصخرة قابعة أسفل مياه مظلمة، وكان فمه مرفوعا لأعلى ومفتوحا من أحد جانبيه، فظهرت أسنانه الطبيعية (إذ كان معظم الناس وقتها يركبون أسنانا صناعية) كريهة المنظر بحشوها الغامق الواضح فيما بين المينا الضعيفة. كان بقاؤه على قيد الحياة في هذا العالم يبدو لي خطأ يمكن أن يصحح في أي لحظة، لكنني بعد ذلك - كما قلت من قبل - اعتدت عليه. كان رجلا ضخما، له رأس ضخم ينم على نبل أصله، وصدر عريض متعب، وكانت يده اليمنى المشلولة تتمدد على بنطاله فوق فخذه الطويلة. كلما أقرأ تغزو هذه الصورة مجال رؤيتي؛ بدا كأثر، كمحارب قديم آت من العصور البربرية. بدا لي مثل أريك بلود آكس أو الملك كانوت:
قال ملك البحار لرجاله: قوتي تخور بسرعة،
لن أبحر غازيا مرة أخرى.
كان هذا هو الشكل الذي بدا عليه، بضخامة جسده شبه المشلول التي تهدد أثاث المنزل وتعرضه للتلف، وتخبطه في الجدران خلال انتقاله إلى دورة المياه. أما عن رائحته، فلم تكن عفنة إلا أنه لم تفح منه أيضا رائحة الأطفال بعد الاستحمام بالصابون واستخدام البودرة المعطرة، وإنما كانت تفوح منه رائحة ملابس ثقيلة علقت بها بقايا رائحة تبغ (على الرغم من أنه لم يعد يدخن)، ورائحة جلد - تخيلته سميكا - يطرح إفرازات مثيرة، ويبعث حرارة تنم عن أنشطة جسده الوظيفية. بالإضافة إلى رائحة بول طفيفة ودائمة، والواقع أن هذه الرائحة كانت ستصيبني باشمئزاز إن فاحت من امرأة، لكنها في حالته أمكن التسامح معها، بل وبدت تعبيرا عن هبة قديمة كان يتمتع بها. وحين كنت أدخل دورة المياه بعده، أشعر أنني في عرين حيوان أجرب وإن كان لا يزال قويا.
قال لي تشيس إنني أهدر وقتي بمجالسة السيد جوري وكأنه طفل. كان الطقس قد أضحى صحوا وصار النهار أطول، وبدأت المتاجر تعرض بضائع جديدة منتفضة من بياتها الشتوي، وأضحى جميعها أكثر قابلية للتفكير في إتاحة وظائف لديها؛ لذا كان علي أن أخرج باحثة بجد عن عمل؛ فالسيدة جوري لم تدفع لي سوى أربعين سنتا في الساعة.
قلت: «لكنني وعدتها.»
وذات يوم، قال لي إنه رآها - من نافذة مكتبه - تترجل عن حافلة، ولم يكن ذلك بالقرب من مستشفى سانت بول على الإطلاق.
قلت: «ربما كانت في استراحة.»
قال تشيس: «لم أرها قط في منتصف النهار من قبل. يا إلهي!»
اقترحت أن أصطحب السيد جوري في نزهة على كرسيه المتحرك بما أن الطقس قد تحسن، لكنه رفض الفكرة بجلبة أنبأتني عن يقين بأنه يبغض أن يدفع على الكرسي المتحرك على الملأ، أو ربما لأن من يدفعه شخص مثلي يأخذ راتبا ليقوم بهذه المهمة.
توقفت عن قراءتي للصحيفة لأطرح عليه هذا الاقتراح، وحينما حاولت مواصلة القراءة لوح بيده وأحدث جلبة أخرى ليخبرني بأنه قد سئم الاستماع إلي. وضعت الصحيفة جانبا، فأشار بيده السليمة نحو كومة من كتب القصاصات الموجودة على الرف السفلي للطاولة بجواره. ومرة أخرى أصدر مزيدا من الأصوات وجلبة أشد. كنت دوما أصف هذه الأصوات بأنها زمجرة أو غطيط أو نحنحة أو نباح أو غمغمة، لكنها هذه المرة بدت لي أشبه بالكلمات؛ بل كانت كلمات. لم يكن وقعها على مسامعي - فقط - كعبارات وطلبات حاسمة (على شاكلة «لا أريد»، أو «ساعديني في النهوض»، أو «دعيني أر كم هو الوقت الآن»، أو «أريد شرابا»)، لكنها بدت جملا أكثر تعقيدا، مثل: «يا إلهي! لماذا لا يكف هذا الكلب عن النباح؟» أو «يا له من جو حار!» (يقولها بعد أن أقرأ له مقالا ما في الصحيفة.)
لكن ما سمعته الآن كان: «دعينا نر إذا كان هناك ما هو أفضل مما في الصحيفة.»
تناولت مجموعة من الكتب من على الرف، ووضعتها على الأرض بالقرب من قدميه. ووجدت على أغلفتها الأمامية تواريخ أعوام قريبة مكتوبة بأقلام الشمع السوداء بخط كبير. تصفحت عام 1952، وطالعت جزءا مقتطفا من جريدة يتناول جنازة جورج السادس، وكان مكتوبا أعلاه بقلم الشمع: «ألبرت فريدريك جورج (1885-1952)»، وبجانبه صورة للثلاث ملكات في ملابس الحداد.
وفي الصفحة التي تليها طالعت خبرا عن طريق ألاسكا السريع.
قلت: «إنه سجل شائق، هل تريد مني مساعدتك في ملء صفحات سجل جديد؟ يمكنك أن تختار ما تريد قصه ولصقه، وسأقوم بالمهمة.»
أحدث جلبة تعني «إنه لمجهود شاق» أو «ما فائدته الآن؟» أو حتى «كم هي حمقاء تلك الفكرة!» أزاح كتاب الملك جورج السادس جانبا ليرى التواريخ المكتوبة على أغلفة كتب أخرى، لكنه لم يجد ضالته. فأشار نحو خزانة الكتب، وأحضرت له مجموعة أخرى من كتب القصاصات. فهمت أنه يريد كتابا يضم أحداث سنة معينة، فأخذت أرفع كل كتاب حتى يتسنى له رؤية الغلاف. وأحيانا كنت أفتح الصفحات بالرغم من اعتراضه. رأيت مقالا عن الأسد الأمريكي في جزيرة فانكوفر، وآخر عن موت لاعب ترابيز، وثالث عن طفل نجا مع أنه قد علق في انهيار ثلجي. تصفحنا ما كتب عن سنوات الحرب، ورجعنا إلى الثلاثينيات، والعام الذي ولدت فيه، ثم نحو عشر سنوات قبله حتى نصل إلى التاريخ الذي كان يريد. وبعدها أصدر لي الأمر، طالعي هذا العام؛ 1923.
بدأت أتصفح قصاصات هذا العام منذ بدايته. «تساقط الجليد في يناير يطمر القرى في ...»
ليس هذا. أسرعي، واستمري في المطالعة.
فبدأت أقلب الصفحات.
ببطء. تمهلي. ببطء.
فأخذت أقلب الصفحات - الواحدة تلو الأخرى - دون توقف لأقرأ أي شيء، حتى وصلنا إلى الصفحة التي أرادها. «هي ذي، فلتقرئي.»
لم يكن بالصفحة أي صورة أو عنوان، وإنما حروف مكتوبة بقلم الشمع لتوثيق: «فانكوفر، الأحد، 17 أبريل، 1923.»
قرأت: «جزيرة كورتز، حسنا؟» «فلتبدئي.» •••
جزيرة كورتز. باكر صباح الأحد أو في ساعة متأخرة من مساء السبت، شبت النار في منزل آنسون جيمس وايلد عند الطرف الجنوبي للجزيرة ودمرته. كان هذا المنزل يبعد بمسافة كبيرة عن أي منزل أو مسكن آخر؛ ولذا لم يلحظ أحد على الجزيرة ألسنة اللهب المتصاعدة منه. تواترت أنباء أن ركاب قارب صيد قد شاهدوا النيران في أول ساعات صباح يوم الأحد، وكان قاربهم يتجه نحو منطقة ديسوليشن ساوند، لكنهم ظنوا أن النار ناتجة عن حرق أحد الأشخاص الحطب. ولأنهم يعلمون أن نار حرق الحطب لا تمثل أي خطر بسبب رطوبة الغابة في ذاك الوقت، واصلوا رحلتهم ولم يبالوا.
كان السيد وايلد مالك بستان فواكه وايلد فروت، وكان يعيش على الجزيرة منذ قرابة خمس عشرة سنة. عاش على أرضها وحيدا، لكنه كان يتعامل مع من يقابلهم بود، وكان له تاريخ في الخدمة العسكرية. كان متزوجا منذ أمد، وله ولد، وشاع أنه ولد في المقاطعات الأطلنطية.
حولت النيران المنزل إلى حطام وانهارت أعمدته، وتم العثور على جثمان السيد وايلد بين الأطلال المتفحمة، وكان محترقا لدرجة لا تسمح بالتعرف عليه.
وعثر بين هذه الأطلال على عبوة من الصفيح متفحمة، قيل إنها كانت تحتوي على كيروسين.
أما زوجة السيد وايلد، فلم تكن في المنزل وقت نشوب الحريق؛ إذ كانت قد لبت يوم الأربعاء السابق للحادث دعوة الذهاب على متن قارب في رحلة إلى مدينة كوموكس لشحن حمولة تفاح من بستان زوجها. كانت تنوي الرجوع في نفس اليوم الذي انطلق فيه القارب، لكنها ظلت هناك ثلاثة أيام وأربع ليال بسبب عطل في محرك القارب. وفي صباح الأحد، عادت مع صديقها الذي عرض عليها هذه الرحلة، ومعا اكتشفا هذه المأساة.
أثيرت المخاوف بشأن الصبي الصغير - ابنهما - الذي لم يكن بالبيت وقت احتراقه؛ فأجري البحث عنه على وجه السرعة، وقبل أن يحل الظلام مساء الأحد تم العثور عليه في الغابة، على بعد أقل من ميل من منزله. كان مبتلا يشعر بالبرد بسبب بقائه في الأدغال عدة ساعات. لكن بخلاف هذا لم يصبه أي أذى. واتضح حينها أنه حمل معه بعض الطعام عندما خرج من البيت؛ إذ وجد معه بعض الخبز عندما عثروا عليه.
سوف تجرى التحقيقات في كورتيناي للوقوف على أسباب الحريق الذي دمر منزل عائلة وايلد، وأسفر عن وفاة رب الأسرة. •••
قلت: «هل تعرف هؤلاء الناس؟» «اقلبي الصفحة.» •••
4 أغسطس 1923: بإجراء التحقيق في كورتيناي بجزيرة فانكوفر حول أسباب الحريق الذي تسبب في موت آنسون جيمس وايلد، القاطن بجزيرة كورتز، في أبريل من هذا العام، تبين أن شبهة إشعال الحريق عن عمد بواسطة الفقيد أو مجهول أو مجهولين لا تقوم على حجة دامغة. ولم يقبل وجود عبوة كيروسين فارغة في مكان الحريق كدليل كاف. فحسبما قال السيد بيرسي كيمبر - صاحب متجر في منتزه مانسونز لاندنج بجزيرة كورتز - كان السيد وايلد يبتاع الكيروسين ويستخدمه بشكل منتظم.
لم يكن لدى ابن الفقيد البالغ من العمر سبع سنين أي دليل يقدمه حول الحريق. وقد عثر عليه فريق بحث على مسافة غير بعيدة عن منزله بعد تجوال استمر عدة ساعات في الغابة. وقال الصبي في الاستجواب إن أباه أعطاه خبزا وتفاحا، وطلب إليه التنزه في مانسونز لاندنج، لكنه ضل طريقه. ومع ذلك، قال بعد أسابيع إنه لا يذكر أن هذا هو ما قد حدث، وإنه لا يعرف كيف ضل طريقه، مع أنه قطع هذا الطريق عدة مرات من قبل. وذكر الطبيب أنتوني هلويل - الذي حضر من مدينة فيكتوريا للنظر في أمره - أنه بالكشف على الصبي، تبين أنه قد هرب ما إن شاهد الحريق، وربما أتيح له الوقت ليأخذ معه بعض الأطعمة؛ وهو ما لا يذكره الآن. على الجانب الآخر، قال أنتوني إن قصة الصبي قد تكون صحيحة، لكن ذكراها ربما تكون قد شوهت في وقت لاحق، وإن مواصلة استجواب الصبي لن تفيد؛ لأنه على الأرجح لا يستطيع التمييز بين ما حدث في الواقع وبين خياله المتعلق بالحادث.
أما السيدة وايلد، فلم تكن في المنزل وقت اندلاع الحريق، بل كانت في جزيرة فانكوفر مستقلة قاربا ملك جيمس تومبسون جوري من مدينة يونيون باي.
وقيدت وفاة السيد وايلد على أنها حادث مأساوي نتج عن حريق مصادره مجهولة. ••• «أغلقي الكتاب الآن.» «أرجعيه إلى مكانه. أعيدي كل الكتب على الرف.» «لا، لا، ليس هكذا. ضعي الكتب على الرف مرتبة وفقا للسنة. هذا أفضل. تماما كما كانت.» «هل هي في الطريق؟ انظري من النافذة.» «حسنا. إنها على وشك العودة.» «ماذا عنك؟ ما رأيك في هذا؟» «لا أبالي. لا أبالي برأيك فيه.» «هل فكرت يوما أن حياة الناس قد تكون على هذا المنوال، أو ينتهي بها المطاف على هذا النحو؟ حسنا، هذا ليس من المستبعد.» •••
لم أخبر تشيس بأي مما جرى، مع أنني اعتدت إخباره بأي شيء حدث وأظن أنه سيثير اهتمامه أو يسليه، إلا أنه دوما ما كان يتجاهل أي ذكر لآل جوري، وكان يصفهم ب «غريبي الأطوار».
أزهرت كل الأشجار الصغيرة التي بدت ذابلة من قبل في المنتزه، وتفتحت أزهارها وردية لامعة كأنها حبات فشار ذات ألوان اصطناعية.
في ذلك الحين، بدأت أعمل في وظيفة بالمعنى الحقيقي.
هاتفني أحد الأشخاص من مكتبة كيتسيلانو، وطلب إلي الحضور بضع ساعات عصر يوم سبت. وهناك، وجدت نفسي جالسة خلف المكتب، أختم الكتب التي يستعيرها الناس بتواريخ استردادها. كانت وجوه مستعيري الكتب مألوفة لي؛ إذ كنت أراهم وأنا أستعير الكتب من المكتبة نفسها، لكنني الآن صرت أبتسم لهم نيابة عن المكتبة، وأقول: «أراك بعد أسبوعين.»
كان بعضهم يضحك قائلا: «أوه، بل قبل هذا بكثير.» كانوا مثلي مدمني قراءة.
تبين لي أن هذه الوظيفة يمكنني التعامل معها؛ فلم يكن بها آلات تسجيل المدفوعات النقدية، كل ما هنالك أنني حين أحصل غرامات تأخير الكتب من مستعيريها، أعطيهم الفكة من درج مكتبي. كذلك كنت أعرف مكان معظم الكتب على الأرفف، أما فيما يتعلق ببطاقات الاستعارة، فقد كنت أعرف الأبجدية.
مع الوقت، عرضت علي المزيد من ساعات العمل، ولم يمض وقت طويل حتى أضحيت أعمل في وظيفة مؤقتة بدوام كامل؛ فقد تعرضت إحدى العاملات الدائمات لإجهاض، واضطرت للتوقف عن العمل شهرين. وقبل أن تنتهي تلك المدة مباشرة، حملت مرة أخرى، فنصحها الطبيب بألا تعود إلى العمل. وبذلك انضممت إلى فريق العمل الدائم بدوام كامل، وظللت أعمل معه حتى صرت في منتصف فترة حملي الأول. عملت مع سيدات كنت أعرفهن لفترة طويلة شكلا فقط - مثل ميفيس وشيرلي والسيدة كارلسون والسيدة يوست - وكلهن يذكرن أنني كنت مواظبة على ارتياد المكتبة، حيث أهيم على وجهي - حسب زعمهن - ساعات كثيرة. تمنيت لو لم ينتبهن إلي هذه الانتباه الشديد، لو لم أتردد كثيرا على المكتبة.
كم كانت متعة بسيطة؛ حيث أجلس في مكاني، وأواجه الناس من وراء مكتبي، وأتعامل بكفاءة ونشاط وود مع زبائني، وأظهر في أعينهم شخصا يعرف خبايا الأمور - شخصا ذا نفع في نظر الجميع - وأن أكف عن التواري عن الآخرين، والتجوال والتخيل، وأصير الفتاة العاملة في المكتبة.
بالطبع، بعد هذه الوظيفة، لم يتح لي الآن وقت كبير للقراءة، وأحيانا كنت أمسك بالكتاب في يدي للحظة وأنا على مكتبي - أمسك به كشيء وليس كإناء لا بد أن أتجرعه على الفور - ثم تنتابني لحظة خوف؛ كما يحدث عندما يحلم المرء بأنه موجود في مكان غير مكانه، أو أنه نسي ميعاد الامتحان، فيدرك أن ما رآه في الحلم ليس سوى جزء ضئيل من مصيبة مجهولة بالنسبة إليه أو غلطة يمكن أن تؤثر على حياته إلى الأبد.
لكن هذه الرهبة سرعان ما كانت تتلاشى.
كذلك تذكرت زميلاتي في المكتبة أيضا رؤيتهن لي وأنا أكتب حيث أعمل الآن.
فقلت لهن إنني كنت أكتب خطابات. «أتكتبين خطاباتك في مفكرات؟»
قلت: «بالطبع؛ فهذا أرخص.»
أهملت مفكرتي الأخيرة، وظلت مختبئة في أحد الأدراج مع أكوام من جواربي وثيابي الداخلية غير المرتبة. ظلت مهملة، وصارت رؤيتي لها تملؤني ريبة وامتهانا. ومع أنني نويت التخلص منها، لم أفعل.
لم تهنئني السيدة جوري على الوظيفة.
بل قالت لي: «لم تخبريني أنك لم تكفي عن البحث عن عمل.»
فقلت لها إنني كنت على قائمة الانتظار في المكتبة منذ وقت طويل، وإنني أخبرتها أيضا بذلك من قبل.
ردت قائلة: «كان هذا قبل أن تبدئي في العمل لدي. فما مصير السيد جوري الآن؟»
قلت: «آسفة.» «لن يفيده الأسف في شيء، أليس كذلك؟»
رفعت حاجبيها الزهريين وهي تخاطبني بأسلوبها المتغطرس الذي اعتدت أن أسمعها تتحدث به مع الجزار أو البقال عبر الهاتف عندما يخطآن فيما طلبت.
قالت: «ما عساي أن أفعل الآن؟ لقد تخليت عني وليس بيدي حيلة، أليس كذلك؟ أتمنى أن تفي بوعدك لرؤسائك أفضل مما فعلت معي.»
كان هذا هراء بالطبع. لم أعدها بأي شيء فيما يتعلق بمدة بقائي معها، لكنني مع هذا خالجني شعور بالقلق يشوبه بعض الذنب؛ إن لم يكن شعورا بالذنب. صحيح أنني لم أعدها بشيء، لكن ماذا عن المرات التي لم أستجب فيها لطرقها على بابي، أو تلك المرات التي كنت أتسلل فيها من المنزل وإليه دون أن تلحظني، خافضة رأسي دون مستوى نافذة مطبخها؟ وماذا عن تظاهري الفاتر بالإخلاص في مصادقتها في مقابل عروضها السخية؟
قالت: «لكن من الرائع أن حدث ذلك، فأنا لا أريد شخصا لا يعتمد عليه يرعى السيد جوري، كذلك فإنني لم أكن راضية بالكامل عن طريقة رعايتك له، أؤكد لك هذا.»
وسرعان ما وجدت جليسة أخرى؛ وكانت امرأة كثيفة شعر الجسم، ضئيلة الحجم، شعرها أسود تغطيه ببونيه شبكي. لم أسمعها تتكلم قط، لكنني كنت أسمع السيدة جوري تكلمها ؛ فقد كان بابها مفتوحا أعلى الدرج وكان من المنطقي سماعها. «لم تغسل حتى الفنجان الذي احتسى فيه الشاي، بل وكانت تنسى في معظم الأوقات أن تعد له الشاي. لا أدري ما كانت فائدتها. تجلس وتقرأ الصحيفة.»
في تلك الأيام، حين كنت أغادر المنزل ذهابا إلى العمل، كانت نافذة المطبخ تصفع ورائي، ويرن صوتها في أذني مع أنها كانت تتحدث ظاهريا مع السيد جوري. «هي ذي تمضي في طريقها دون أن تكلف نفسها عناء التلويح لنا وتحيتنا. لقد منحناها وظيفة وقت لم يقبلها أحد، لكنها لا تبالي بذلك. بالطبع، لا تفعل.»
لم ألوح لهما، وكنت مضطرة أن أسير أمام النافذة الأمامية حيث كان السيد جوري جالسا، لكن راودني التفكير أنني إذا لوحت أو حتى نظرت له، فقد يشعر بالإهانة، أو حتى الغضب؛ فأي شيء سأفعله قد يشعرهما بالإهانة.
لكنني ما كنت أبلغ نهاية المربع السكني الذي يلينا حتى أنسى أمرهما بالكامل. كانت الفترات الصباحية خلال ذلك الوقت من السنة مشرقة. وفي طريقي إلى العمل، كنت أمشي وملئي شعور بالارتياح، معتزمة على تحقيق هدفي. وفي مثل هذه اللحظات، يبدو لي ماضي القريب مشينا بشكل غامض. ساعات قضيتها خلف ستائر المهجع، وساعات قضيتها على طاولة المطبخ أملأ صفحة تلو الأخرى بالفشل، وساعات قضيتها في حجرة قائظة مع رجل هرم؛ السجادة الخشنة، والمفروشات المخملية، ورائحة ثيابه وجسده، وقصاصات الورق الملصقة الجافة، وأوراق الصحف التي تغطي الأرضية فأضطر أن أشق طريقي خلالها؛ والقصة المروعة التي احتفظ بها وجعلني أقرؤها له (لم أفكر للحظة أن ذلك من المآسي الإنسانية التي كنت أعشق قراءتها في الكتب). إن تذكر كل هذا كان أشبه بتذكر فترات مرضي أثناء طفولتي؛ عندما كنت حبيسة - عن طيب خاطر - في فراشي وعلى ملاءتي القطنية الوثيرة التي تنبعث منها رائحة زيت الكافور، حبيسة الإعياء والحمى، وواقعة في شرك رسائل - لم أفك رموزها - حملتها لي أغصان الشجر التي أطللت عليها من نافذتي بالدور العلوي. لم أندم على هذه الأوقات، وإنما كنت أنبذها بطبيعة الحال، لكنها بدت جزءا مني - أكان جزءا مريضا؟ - بدأت الآن أنبذه. قد يظن أحد أن الزواج هو ما أدى إلى هذا التحول، لكن هذا لم يحدث لفترة؛ ففي البداية كبت رغباتي وأعدت الكرة وأبقيت على شخصيتي القديمة؛ شخصيتي العنيدة الكتومة التي لا تليق بامرأة. لكنني الآن خلعت هذا الثوب وأضحيت أشكر ربي على هذا التحول، فقد صرت زوجة وعاملة حسنة المظهر وعلى قدر كاف من الكفاءة لمواجهة الصعاب. وهذا ليس بالغريب، فقد غدوت قادرة على النجاح. •••
طرقت السيدة جوري بابي وبيدها كيس وسادة، وسألتني - وهي ترسم على وجهها ابتسامة عدائية شنيعة تظهر أسنانها - إذا ما كان هذا الكيس يخصني. فأجبتها دون تردد أنه لا يخصني، فكيسا الوسادتين اللذان أملكهما تحشوهما الوسادتان على السرير.
فقالت بلهجة معذبة: «حسنا، فهو ليس ملكي بكل تأكيد.»
قلت: «كيف تجزمين بهذا؟»
صارت ابتسامتها الشيطانية أكثر ثقة شيئا فشيئا. «لأنه ليس مصنوعا من القماش الذي يمكن أن أضعه أبدا تحت رأس السيد جوري أو رأسي.»
ولم لا؟ «لأنه ... رديء ... الخامة.»
لذا اضطررت أن أذهب إلى مهجعي لأنزع الكيسين عن وسادتيهما وأحضرهما لها، وعندئذ تبين لي أن الكيسين ليسا متطابقين كما بدوا لي من قبل؛ فأحدهما من نسيج فاخر - وكان يخصها - وبذلك اتضح أن الكيس الذي في يدها كان يخصني.
قالت: «لا أصدق أنك لم تلحظي الأمر، ما كان ليلحظه أحد غيرك.» •••
سمع تشيس عن شقة أخرى يمكننا استئجارها - شقة حقيقية وليست «جناحا» - بها حمام كامل وغرفتي نوم. كان أحد رفاقه في العمل على وشك تركها؛ لأنه وزوجته قد ابتاعا منزلا. وكانت الشقة تقع في بناية تطل على ملتقى شارعي فيرست أفينيو وشارع ماكدونالد. لن يمنعني هذا الموقع من أن أذهب إلى العمل سيرا على الأقدام، أما هو فسيستقل الحافلة نفسها التي يستقلها الآن. وإذا جمعنا مرتبينا، فيمكننا أن نتدبر قيمة إيجارها. كان رفيقه وزوجته سيتركان بعض الأثاث وسيبيعانه بثمن بخس؛ فلن يناسب بيتهما الجديد، لكن بالنسبة إلينا كان سيبدو أثاثا على قدر كبير من الفخامة. تجولنا في غرف الشقة الجميلة التي تقع في الطابق الثالث، وأعجبتنا جدرانها المطلية باللون الأصفر الباهت، والأرضيات الباركيه من خشب البلوط، وخزانات الأواني الفسيحة الموجودة في المطبخ، وأرضية الحمام المبلطة بالقرميد. وكانت هناك أيضا شرفة صغيرة تطل على أشجار منتزه ماكدونالد. حينئذ، وقع كل منا في حب الآخر بشكل جديد، وقعنا في حب وضعنا الجديد، حيث ارتقاؤنا إلى حياة البالغين صاعدين من القبو الذي لم يكن إلا محطة مؤقتة في طريق حياتنا. وصرنا نأتي على ذكره كمزحة، كاختبار لقوة تحملنا لما سنشهده خلال السنوات القادمة. فكل خطوة خطوناها - المنزل المستأجر، أول منزل امتلكناه، ثاني منزل امتلكناه، أول منزل امتلكناه في مدينة أخرى - كانت تمنحنا شعورا بالتقدم يملؤنا سعادة، فتقوي صلتنا وتوثق رباطنا. وذلك حتى آخر البيوت - وأكبرها حتى الآن - التي دخلتها؛ إذ كان لدي هاجس بوقوع كارثة وشيكة ورغبة في الهرب.
أخبرنا راي بشأن رحيلنا المزمع دون أن نخبر السيدة جوري؛ مما تسبب في زيادة عدائها تجاهنا، بل إنها كادت تفقد عقلها. «يا إلهي! تظن نفسها بارعة وهي لا تستطيع الحفاظ على نظافة حجرتين، وعندما تنظف الأرضية لا تفعل شيئا سوى جر القاذورات إلى أحد الأركان.»
عندما اشتريت مقشتي الأولى، نسيت أن أشتري جاروفا وفعلت ما تحدثت عنه بعض الوقت، لكنها ما كانت لتعرف هذا إلا بدخول غرفتينا بمفتاحها الخاص، ونحن في الخارج، وهو ما اتضح أنه حدث بالفعل. «إنها جبانة تتسلل كاللصوص. عرفت هذا منذ رأيتها لأول مرة. وكاذبة أيضا، ومختلة عقليا؛ فقد كانت تجلس متظاهرة بأنها تكتب الخطابات، لكنها كانت تكتب الكلام نفسه مرارا وتكرارا؛ لم تكتب خطابات، بل تخط نفس الكلام مرة تلو الأخرى. مختلة.»
تأكدت الآن أنها كانت تأخذ الأوراق المتكمشة من سلة قمامتي؛ فعادة ما كنت أحاول أن أبدأ القصة نفسها بنفس الكلمات مرارا وتكرارا، كما قالت.
أضحى الطقس دافئا، وصرت أذهب إلى العمل دون سترتي الثقيلة. وذات مرة، ارتديت سترة ضيقة ووضعت أطرافها في تنورتي، وحزاما محكما علي عند أضيق ثقوبه.
وحينها فتحت السيدة جوري الباب الأمامي وصاحت تجاهي. «الساقطة. انظروا إلى الساقطة، إنها تبرز صدرها إلى الأمام، وتتمايل بمؤخرتها. أتظنين نفسك مارلين مونرو؟»
وأضافت: «لا نريدك في بيتنا. كلما أسرعت بالرحيل كان هذا أفضل.»
ثم هاتفت راي وقالت له إنني حاولت سرقة ملاءة سريرها، وشكت له أنني أتحدث عنها في جميع أرجاء الشارع. كانت قد فتحت الباب حرصا منها على أن أسمع ما تقول، كما كانت تصيح بأعلى صوتها في الهاتف، وهو ما لم يكن ضروريا؛ لأن هاتفنا كان على نفس الخط وكان بإمكاننا سماع ما تقول متى أردنا، لكنني لم أفعل ذلك قط، بل كنت أسد أذني بحركة غريزية كي لا أسمعها وهي تتحدث من أعلى، لكن ذات مساء كان تشيس في المنزل ورفع سماعة الهاتف وتكلم. «لا تلتفت لما تقول يا راي؛ إنها عجوز مخبولة. أعلم أنها أمك، لكني أؤكد لك أنها مخبولة.»
سألته عما قاله راي، وعما إذا كان هذا الكلام قد أغضبه. «لم يقل إلا: «بالطبع، حسنا».»
أغلقت السيدة جوري الخط، وصاحت من أعلى مباشرة: «سأخبرك الآن من هي المخبولة، سأعلمك من الكاذبة المجنونة التي تنشر الأكاذيب عني وعن زوجي ...»
قال تشيس: «لا نسمع ما تقولين. دعي زوجتي وشأنها.» لكنه سألني فيما بعد: «ماذا كانت تعني بقولها إنك تنشرين الأكاذيب عنها وعن زوجها؟»
قلت: «لا أدري.»
قال: «إنها تتعمد مضايقتك؛ لأنك شابة جميلة وهي عجوز شمطاء.»
ثم استطرد: «فلتنسي الأمر.» وسألني على سبيل الدعابة ليسري عني: «ما فائدة العجائز أصلا؟» •••
انتقلنا إلى شقتنا الجديدة مستقلين سيارة أجرة، لا نحمل شيئا سوى حقائب ثيابنا. وقفنا في انتظار السيارة على الرصيف - ظهورنا إلى المنزل - وتوقعت حينها أن تصدر السيدة جوري صياحا أخيرا، لكن لم نسمع أي صوت.
قلت: «ماذا لو كان معها مسدس، ستطلق علي الرصاص في ظهري؟»
فقال تشيس: «لا تتكلمي مثلها.» «أود أن ألوح للسيد جوري؛ لو كان يطل من النافذة.» «الأفضل ألا تفعلي ذلك.» •••
لم ألق نظرة أخيرة على المنزل، بل ولم أمش بعدها قط في هذا الشارع، في هذا المربع السكني الذي يقع في شارع آربيوتس في مواجهة المنتزه والبحر. لم أعد أتذكر بوضوح كيف كان يبدو، رغم أن أشياء قليلة لا تزال عالقة في ذهني، مثل ستار المهجع، وخزانة الآنية الصينية، ومقعد الريكلاينر الأخضر.
تعرفنا على أزواج شباب بدءوا حياتهم - كما فعلنا - بالسكن في أماكن زهيدة الإيجار في بيوت أناس آخرين. سمعنا منهم حكايات عن الفئران والصراصير، والمراحيض التي تقذف الفضلات على مستخدميها، ومالكات البيوت ناقصات العقل. وحكينا لهم بالتأكيد عن صاحبة بيتنا التي كانت مصابة بجنون الارتياب.
لم أفكر في السيدة جوري في غير تلك الحالات.
أما السيد جوري، فكنت أراه في منامي؛ رأيته في أحلامي وقابلته قبل أن يقابل زوجته. كان رشيقا قويا، لكنه لم يكن شابا، ولم يختلف مظهره قط عما بدا عليه وقتما كنت أقرأ له في الغرفة الأمامية. ربما كان يستطيع الكلام، لكن كلامه لم يتجاوز تلك الأصوات التي تعلمت أن أفسرها. كانت أصواتا مبتورة وحاسمة، كانت تعليقا أساسيا - وربما مشمئزا - على ما يحدث في الأحلام. أما الأحداث، فكانت عنيفة وصارخة؛ أحداث أحلام جنسية. فعلى مدار حياتي وأنا زوجة شابة - ولم يمض وقت طويل حتى حملت؛ فما كان هناك ما يدعو للتأجيل - ثم أم دائمة الانشغال والإخلاص لزوجي، الذي حرص على إشباع رغباتي بصورة منتظمة، ظلت الأحلام الجنسية تراودني بين الفينة والأخرى، وفيها تجاوزت المبادرة والاستجابة والاحتمالات أي شيء وهبتني إياه الحياة. كانت أحلامي تخلو من الرومانسية، وكذلك من الاحتشام. كان فراشنا - أنا والسيد جوري - شاطئا مغطى بالحصى، أو متن قارب متينا، أو لفائف من الحبال الناعمة والموجعة. وكنت أشعر - إن شئت فقل - بلذة القبح، حيث رائحة جسده النفاذة، وعينه المريضة، وأسنانه التي تشبه أسنان الكلب. كنت أفيق من هذه الأحلام المحظورة غير عابئة بشيء - حتى الدهشة أو الخزي لم يطرآ على بالي - وإذ بي أغط في النوم مرة أخرى، ثم أنهض في الصباح بذاكرة تعودت إنكارها. ظل السيد جوري يقوم بهذا الدور في حياتي الليلية سنوات طوالا امتدت بكل تأكيد إلى ما بعد وفاته. ظل ذلك يتكرر إلى أن أهلكت الرجل تماما وقضيت عليه، كما يهلك الموتى. لكن هذا لا يعني أنني كنت المسئولة عن استدعائه إلى أحلامي؛ فقد بدا لي أننا شركاء في الأمر؛ وكأنه استدعاني كما استدعيته، وكأنها تجربته كما كانت تجربتي.
أما القارب، ورصيف الميناء، والحصى الذي يغطي الشاطئ، والأشجار الناظرة إلى السماء أو المائلة نحو الأرض أو التي تظلل الماء، ومشهد الجزر المحيطة المعقد، والجبال المعتمة بالرغم من سهولة تمييزها، فكل هذه الأشياء بدت موجودة معا في مشهد طبيعي مربك؛ يزيدني إبهارا - وإن كان يبدو عاديا - بصورة أكبر من أي شيء يمكن أن أحلم به أو أن أختلقه. كان هذا المشهد أشبه بمكان سيظل باقيا سواء وجدت فيه أم لم أوجد، وبالفعل هو باق.
لكنني لم أر قط الأعمدة المتفحمة التي تهاوت على جسد الزوج؛ إذ حدث هذا منذ زمن بعيد قبل أن تنمو أشجار الغابة حول المكان.
عدا الحاصدين
كانت اللعبة التي يلعبانها هي نفسها تقريبا اللعبة التي كانت إيف تلعبها مع ابنتها صوفي أثناء سفرياتهما الطويلة والمملة بالسيارة، عندما كانت صوفي فتاة صغيرة. وقتها، كانت تسمى لعبة الجواسيس، أما الآن فتسمى لعبة الكائنات الفضائية. كان صغيري صوفي، فيليب وديزي، يجلسان في مقعد السيارة الخلفي. ديزي لم تتجاوز السنوات الثلاث ولا تكاد تدرك ما يجري، أما فيليب ففي السابعة، وكان يسيطر على مجريات الأمور؛ فكان هو من اختار السيارة التي سيتبعانها وكانت - في اللعبة - تقل مسافرين عبر الفضاء وصلوا لتوهم وكانوا في طريقهم إلى المقر السري؛ عرين الغزاة. كان المسافرون يعرفون الاتجاهات من الإشارات التي يلوح بها بعض الأفراد مقبولي الشكل من سياراتهم أو من شخص يقف بجانب صندوق بريد أو من شخص يقود جرارا زراعيا في حقل. كثير من الكائنات الفضائية قد وصل بالفعل كوكب الأرض وجرت لهم عمليات التحويل - كما قال فيليب - ولهذا يمكن أن يكون أي ممن حولهما كائنا فضائيا؛ كعمال محطة الوقود أو السيدات اللاتي يدفعن أمامهن عربات الأطفال أو حتى الرضع داخل عرباتهم ؛ جميعهم يمكن أن يكونوا يرسلون إشارات.
عادة ما كانت إيف وصوفي تلعبان هذه اللعبة على طريق سريع مزدحم، حيث يكون هناك زحام مروري كاف يحول دون اكتشاف مراقبتهما (بالرغم من أنهما ذات مرة حادتا عن طريقهما، فوجدتا نفسيهما على الطريق في اتجاه إحدى الضواحي). لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة على الطرق الزراعية التي قطعتها إيف في ذاك اليوم؛ فحاولت أن تحل هذه المشكلة بنصحهما بأن يغيرا المركبة التي يتتبعانها إلى مركبة أخرى؛ لأن الهدف من بعض تلك المركبات هو خداعهما، حيث لا تتجه إلى المقر السري وإنما تضللهما فحسب.
قال فيليب: «كلا، ليس صحيحا؛ فهم يقومون بسحب الناس من سيارة لأخرى تحسبا لأن يكون هناك من يتبعها. فقد يكونون في جسد ما ثم يسحبون ببطء شديد عبر الهواء إلى جسد آخر في سيارة أخرى. ولا يزالون يدخلون في أجساد مختلفة طوال الوقت دون أن يعرف الناس ما حل بهم.»
قالت إيف: «حقا؟ لكن أنى لنا أن نعرف أي سيارة يستقلونها؟»
قال فيليب: «كود السيارة موجود على اللوحة المعدنية، لكنه يتغير عن طريق الحقل الكهربائي الذي تنشئه الكائنات داخل السيارة، حتى يتسنى للمتعقبين في الفضاء تتبعهم. إنه مجرد شيء بسيط لكنني لا أستطيع أن أخبرك إياه.»
قالت إيف: «حسنا، لا تفعل. أعتقد أن قليلا من الناس يعرفونه.»
قال فيليب: «إنني الوحيد في أونتاريو الذي يعرفه.»
كان يجلس حانيا ظهره للأمام بشدة ورابطا حزام مقعده، وأحيانا تصطك أسنانه وهو يركز، ويصدر أصوات صفير خافتة وهو ينبه إيف.
قال: «أوه أوه، انتبهي. أعتقد أن عليك الانعطاف. نعم، نعم. أعتقد ذلك.»
كانوا يتبعون سيارة مازدا بيضاء، وفيما يبدو، عليهم الآن تتبع سيارة شحن خضراء، ماركة فورد. سألته إيف: «هل أنت متأكد؟» «بالطبع.» «هل شعرت بهم وهم يسحبون في الهواء إلى هذه السيارة؟»
قال فيليب: «إنهم يتبدلون في وقت واحد من صورة لأخرى. ربما أكون قد قلت «يسحبون»، لكني ما فعلت هذا إلا ليفهمني الآخرون.»
في البداية، كانت إيف تخطط لأن يكون المقر الرئيسي للكائنات الفضائية هو متجر البلدة الذي يباع فيه الآيس كريم أو الملعب. ويمكن الكشف عن أن جميع الفضائيين يجتمعون هناك في صورة أطفال تغريهم متع تناول الآيس كريم أو اللعب على الزحاليق والأرجوحات، مع تعليق قواهم مؤقتا. ولا خوف من أن يخطفك هؤلاء الفضائيون - أو يدخلوا جسدك - إلا إذا اخترت نكهة الآيس كريم الخاطئة، أو تأرجحت على أرجوحة معينة لعدد مرات غير محدد لك (لا بد أن يكون هناك خطر ما آخر، وإلا فسيشعر فيليب بالإحباط والخزي). لكن فيليب تولى مهمته بالكامل، لدرجة أنه صار من الصعب التحكم في النتائج. كانت سيارة الشحن الآن تنحرف عن الطريق الزراعي السريع الممهد إلى الطريق الجانبي المغطى بالحصى؛ وكانت سيارة شحن بالية غير مغطاة، أكل الصدأ أجزاءها؛ ولهذا فلن تذهب بعيدا. الأرجح أنها متجهة لمزرعة ما؛ وقد لا يقابلون أي مركبة أخرى لتتبعها قبل أن يصلوا لوجهتهم.
قالت إيف: «هل أنت واثق من هذا؟ إنه رجل واحد فحسب ليس بصحبته أحد. فأنت تعلم أنهم لا يسافرون بمفردهم.»
قال فيليب: «معه كلب.»
كان هناك كلب في مؤخرة السيارة المكشوفة، يجري من جانب لآخر وكأن هناك أحداثا تجري عليه أن يتابعها.
قال فيليب: «الكلب واحد منهم أيضا.» •••
في صباح ذلك اليوم، عندما غادرت صوفي لتقابل إيان في مطار تورونتو، أبقى فيليب ديزي منشغلة في غرفة الأطفال. تأقلمت ديزي كثيرا مع ذاك البيت الغريب - فيما عدا أنها كانت تبلل فراشها كل ليلة من ليالي الإجازة - لكن تلك كانت المرة الأولى التي تتركها فيها أمها وتخرج؛ لذا فقد طلبت صوفي من فيليب أن يلهيها، وهو ما فعله بحماس (أكان سعيدا بالمنحى الجديد الذي اتخذته الأمور؟) أخذ يدفع السيارات اللعبة بشدة على الأرضية حتى تغطي أصواتها المزعجة صوت تشغيل محرك السيارة التي استأجرتها صوفي وهي تقودها مبتعدة. وبعدها بفترة قصيرة صاح قائلا لإيف: «هل ذهبت «أ. ح.» الآن؟»
كانت إيف في المطبخ تنظف ما خلفه الإفطار من فتات وغيره، وتفكر فيما ستفعل بعد ذلك. فدخلت إلى غرفة المعيشة ، ورأت شريط فيديو داخل علبته، وكان لفيلم شاهدته مع صوفي الليلة الماضية. «جسور مقاطعة ماديسون.»
قالت ديزي: «ماذا تعني «أ. ح.»؟»
كانت حجرة الأطفال متصلة بحجرة المعيشة؛ فقد كان المنزل صغيرا وضيقا ويشتمل على أثاث رخيص نظرا لأنه يستأجر فترة الصيف. وكانت إيف قد فكرت في استئجار كوخ على ضفة البحيرة لقضاء الإجازة. وكانت تلك هي المرة الأولى لقضاء الإجازة مع صوفي وفيليب منذ خمس سنوات تقريبا، وكذلك أولى المرات على الإطلاق مع ديزي. وقد اختارت هذا الجزء من شاطئ بحيرة هورون؛ لأن والديها كانا يحضرانها إلى هذا المكان مع شقيقها عندما كانا في مرحلة الطفولة. لكن الآن تغيرت الأحوال؛ فصارت كل الأكواخ قوية البناء شأنها شأن المنازل الحضرية، وصارت الإيجارات عالية جدا. كان المنزل يقع في قلب البلدة على بعد نصف ميل من المنطقة الصخرية - التي ما كان أحد ليفضل السكن فيها - شمال الشاطئ الذي كان من الملائم ارتياده، لكنه كان أفضل مكان تستطيع أن تجده. وكان يقع في منتصف حقل ذرة؛ ولذا أخبرت الطفلين بما ذكره لها أبوها من قبل؛ أن بإمكانهم ليلا سماع صوت الذرة وهي تنمو.
وكل يوم، عندما تأتي صوفي بملاءات ديزي - التي تغسلها بيديها - من على حبال الغسيل، كانت تنفض حشرات الذرة من عليها.
قال فيليب وهو ينظر لإيف نظرة تحد ماكرة: «تعني «الأداة الحربية».»
توقفت إيف عند مدخل الباب. وفي الليلة الماضية، كانت قد رأت مع صوفي ميرل ستريب وهي تجلس في شاحنة زوجها تحت المطر؛ تضغط بيديها على مقبض الباب، ويخنقها الشوق بينما يقود حبيبها سيارته مبتعدا. ثم استدارت كل منهما إلى الأخرى، وكانت أعينهما مغرورقة بالدمع، فهزتا رأسيهما وشرعتا في الضحك.
قال فيليب بلهجة استرضائية: «وتعني أيضا «الأم الحنون». أحيانا يسميها أبي هذا الاسم.»
قالت إيف: «حسنا. إذا كان هذا هو ما تسأل عنه، فالإجابة هي نعم.»
تساءلت بينها وبين نفسها عما إذا كان فيليب يعتقد أن إيان هو والده الحقيقي. لم تسأل صوفي عما قالت له هي وإيان، ولم تكن لتسأل عن هذا بالطبع. كان والده الحقيقي رجلا أيرلنديا كثير الأسفار حول أمريكا الشمالية محاولا أن يقرر مصيره بعد أن قرر أنه لن يصبح قسا. كانت إيف تفكر فيه كصديق عابر لصوفي، وقد بدا أن صوفي فكرت به بنفس الطريقة أيضا إلى أن أغوته (قالت: «كان شديد الخجل، حتى إنني ما ظننت قط أن هذا قد يحدث»)، ولم تستطع إيف أن تتصور ملامح فيليب إلا بعد أن رأته، وحينها رأته صورة طبق الأصل من أبيه؛ صبيا أيرلنديا ذا عينين لامعتين، متحذلقا، حساسا، هازئا، متصيدا للأخطاء، متورد الوجنتين، خجولا، مجادلا. قالت إنه يشبه صمويل بيكيت، حتى في تجاعيده، لكن الطفل الآن أكبر سنا فتلاشت التجاعيد.
كانت صوفي في ذلك الحين طالبة متفرغة تماما لدراسة علم الآثار، وكانت إيف تعتني بفيليب عندما تحضر صوفي المحاضرات. وكانت إيف ممثلة - ولا تزال تمثل حين تتاح لها الفرصة - وحتى في الأيام التي لم تكن تعمل فيها أو كانت بروفات العمل نهارا، كانت تصطحب فيليب. ظلوا يعيشون معا عامين - إيف وصوفي وفيليب - في شقة إيف في تورونتو، وكانت إيف هي التي تجر فيليب في عربة الرضع - وبعدها في عربة الأطفال الصغار - بين شارع كوين والجامعة، وشارع سبادينا وشارع أوسينجتون. وخلال تلك النزهات، اكتشفت منزلا صغيرا ممتازا - مع أنه بدا عليه عدم الاعتناء به - معروضا للبيع في شارع مسدود لم تكن تعرفه من قبل، يبعد عن بيتها بمربعين سكنيين، وتحفه الأشجار. أرسلت صوفي لتعاينه، بل وذهبتا معا وتفقدتاه مع وكيل عقارات، وتحدثتا معه عن شرائه بنظام الرهن العقاري، وعن التجديدات التي ستتحملان ثمنها، وأي منها يمكنهما فعله بنفسيهما. تارة تترددان وتارة تغرقان في الخيالات إلى أن بيع المنزل لمشتر آخر، أو إلى أن تملكت إيف نوبة من البخل الشديد التي كانت تنتابها بين الحين والآخر، أو إلى أن أقنعهما أحدهم أن هذه الشوارع الجانبية الضيقة اللطيفة لن توفر لهم - كسيدتين وطفل - الدرجة نفسها من الأمان التي يوفرها مثل ذلك الشارع الحيوي المزعج الصاخب الذي ظلوا يعيشون في أحد منازله.
أما إيان، فلم تكن إيف توليه نفس الاهتمام الذي كانت توليه للشاب الأيرلندي. كان مجرد صديق، ولم يأت مطلقا إلى الشقة إلا بصحبة الآخرين. لكنه سافر ليعمل بوظيفة في كاليفورنيا - كان عالم جغرافيا مدنية - ولذا ارتفعت قيمة فاتورة الهاتف، وهو ما حتم على إيف أن تتحدث مع صوفي بهذا الشأن، وتسبب هذا في تغير الحالة العامة في الشقة (هل كان من الأفضل ألا تطرح إيف موضوع فاتورة الهاتف؟) وسرعان ما تم التخطيط لزيارة لكاليفورنيا - بعد أن سافر - فاصطحبت صوفي فيليب معها؛ لأن إيف كانت تؤدي دورا في مسرحية صيفية على المسرح المحلي.
لم يمض وقت طويل بعدها حتى تواردت الأخبار من كاليفورنيا بأن صوفي وإيان سيتزوجان.
قالت لها إيف عبر الهاتف من النزل الذي كانت تقيم فيه: «أليس من الحكمة أن تجربا العيش معا بعض الوقت؟» فقالت لها صوفي: «أوه، كلا إنه غريب، لا يؤمن بذلك.»
قالت إيف: «لكنني لا أستطيع أن أترك المسرحية من أجل حضور العرس، فالعرض سيستمر حتى منتصف سبتمبر.»
قالت صوفي: «لا بأس؛ فلن يكون عرسا بمعنى الكلمة.»
ولم ترها إيف بعدها حتى هذا الصيف. في البداية كانت كلتاهما في حاجة ماسة إلى المال. عندما كانت إيف تعمل، كان لديها حس دائم بالالتزام نحو ابنتها، لكن عندما توقفت عن العمل لم تعد تستطيع أن تتحمل أي نفقات إضافية؛ فسرعان ما التحقت صوفي هي الأخرى بوظيفة؛ عملت موظفة استقبال في عيادة أحد الأطباء. وذات مرة، كادت إيف أن تحجز تذكرة طيران عندما هاتفتها صوفي قائلة إن والد إيان قد مات، وإن إيان سيسافر جوا إلى إنجلترا كي يحضر الجنازة ويعود بأمه إلى كاليفورنيا.
قالت: «وليس لدينا سوى غرفة واحدة.»
قالت إيف: «يا لها من فكرة مفزعة! اثنتان من الحموات في منزل واحد، فضلا عن غرفة واحدة.»
قالت صوفي: «ربما بعد أن ترحل.»
لكن أم إيان ظلت في المنزل حتى ولدت ديزي، بل ظلت حتى انتقلوا إلى المنزل الجديد؛ أي ثمانية أشهر إجمالا. في ذلك الوقت ، كان إيان قد بدأ في تأليف كتابه، وما كان سيتيسر هذا مع وجود زوار في البيت. لم يكن أمرا يسيرا على أي حال. وبذلك، ولى الوقت الذي شعرت فيه إيف أنها واثقة بنفسها بما يكفي لأن تدعو نفسها إلى زيارة بيتهم. وانتهى الأمر بأن أرسلت صوفي لها صورا لديزي وللحديقة ولجميع غرف المنزل.
وبعد ذلك، أعربت صوفي عن نيتهم - هي وفيليب وديزي - العودة إلى أونتاريو في هذا الصيف؛ سيقضون ثلاثة أسابيع مع إيف، بينما يعمل إيان في كاليفورنيا بمفرده. ومع نهاية الأسابيع الثلاثة، سيلحق بهم إيان، ويسافرون جوا من تورونتو إلى إنجلترا ليقضوا شهرا مع أمه.
قالت إيف: «سأستأجر كوخا على شاطئ البحيرة. كم سيكون هذا رائعا!»
قالت صوفي: «بالفعل، لم أرك منذ فترة طويلة جدا.»
وهكذا جرت الأمور؛ وكانت رائعة بحق كما ظنت إيف. لم يبد أن صوفي انزعجت أو اندهشت من أن ديزي تبلل فراشها. أما فيليب، فظل مهذبا ومتحفظا بضعة أيام، كما كان رد فعله لطيفا عندما أخبرته إيف بأنها تعرفه منذ أن كان رضيعا، لكنه كان يشكو من البعوض الذي يهاجمهم وهم يسرعون عبر غابة الأشجار المتراصة على الساحل في اتجاه الشاطئ. أراد الذهاب إلى تورونتو ليزور المركز العلمي، لكنه ما لبث أن هدأ وبدأ يسبح في البحيرة دون أن يشكو من برودة مياهها. وبعدها شغل نفسه ببعض المشاريع التي كان ينفذها بمفرده؛ مثل سلق سلحفاة ميتة - كان قد أتى بها إلى المنزل - وكشط لحمها حتى يستطيع أن يحتفظ بصدفتها. وكان بطن السلحفاة الميتة يحتوي على جراد بحر غير مهضوم، كما أن صدفتها تكسرت إلى أجزاء؛ لكن أيا من هذا لم يفزعه.
في تلك الآونة، وضعت إيف وصوفي نظاما ممتعا، حيث أداء المهام اليومية صباحا، وقضاء فترة بعد الظهر على الشاطئ، واحتساء النبيذ مع العشاء، ومشاهدة الأفلام في ساعات متأخرة من المساء. كما انشغلتا ببعض الأفكار غير الجادة قليلا بشأن المنزل: ماذا عسانا أن نفعل فيه؟ أولا ننزع ورق الحائط عن جدران غرفة المعيشة - وكان نقشه يشبه الخشب - وننزع مشمع الأرضية المرسومة عليه أشكال سخيفة من زهور الزنبقة الذهبية التي استحالت بنية بفعل الرمال المتشبثة به وماء المسح المتسخ. انهمكت صوفي في الأمر بحماس، حتى إنها نزعت جزءا متعفنا منه أمام الحوض، ووجدت تحته ألواحا من خشب الصنوبر في حاجة إلى السنفرة. وأخذتا تتكلمان أيضا عن تكلفة استئجار ماكينة سنفرة (بافتراض أن المنزل صار ملكهما) وعن الألوان التي ستختارانها لطلاء الأبواب وخشب المنزل، كمصاريع النوافذ والأرفف المكشوفة في المطبخ، مع تجاهل الخزانات المتسخة المصنوعة من الخشب الرقائقي. ماذا عن موقد يعمل بالغاز؟
ترى من سيعيش في هذا المكان؟ إنها إيف؛ فالمتزلجون على الجليد - باستخدام الزلاقات الآلية - الذين عاشوا في هذا المنزل باعتباره ناديا شتويا، كانوا يشيدون مبنى خاصا بهم لهذا الغرض في تلك الآونة، وبالطبع سيسر مالك المنزل إذا ما أجره طوال العام، أو قد يبيعه بثمن بخس بسبب حالته الرثة. ويمكن أن يكون منتجعا للاسترخاء، إذا ما حصلت إيف على الوظيفة التي تأملها في الشتاء القادم. وإذا لم تحصل عليها، فلم لا تؤجر الشقة من الباطن وتعيش فيها؟ سيختلف الإيجار، وكذلك قيمة معاش كبار السن الذي بدأت تتقاضاه في أكتوبر، والنقود التي ما زالت تحصلها من إعلان روجت فيه - باعتبارها ممثلة - لمكمل غذائي. وبذلك يمكنها أن تتدبر أمرها.
قالت صوفي: «وحين نأتي في الصيف، يمكننا أن نسهم في الإيجار.»
سمعهما فيليب، فقال: «كل صيف؟»
قالت صوفي: «أرى أنك أحببت البحيرة. لقد أحببت المكان.»
قالت إيف: «كما أن البعوض لا يكون بهذا السوء كل عام، عادة لا يحدث هذا إلا في بداية الصيف، في شهر يونيو، قبل أن تصلوا؛ إذ تتكون مستنقعات كثيرة في الربيع - وتكون موحلة - فينمو حولها البعوض، ثم تجف تماما من الماء فيختفي البعوض. أما هذه السنة، فقد هطلت أمطار كثيرة، ولم تجف المستنقعات بالكامل، فنال البعوض فرصة ثانية ونما جيل جديد.»
اكتشفت إيف كم يحترم فيليب المعلومات التي ذكرتها، وفضلها على آرائها وذكرياتها.
لم تكن صوفي مولعة بالذكريات بالمثل؛ وكلما جاء ذكر الماضي الذي يجمعها بإيف - حتى خلال تلك الأشهر التي أعقبت ميلاد فيليب والتي كانت تراها إيف أسعد وأصعب وألطف الأوقات وأكثرها إثمارا في حياتها - كان وجه صوفي يكتسي بنظرة جادة تضمر شيئا ما خفيا عن قول تسره في نفسها ولا يكاد يتحرر من قبضتها عليه. أما الماضي الأبعد، حيث طفولة صوفي، فكان يتطلب الحذر ولكن على نحو إيجابي - كما اكتشفت إيف - بينما كانتا تتحدثان عن مدرسة فيليب. وفيما يتعلق بالمدرسة، كانت صوفي ترى أنها صارمة نوعا ما، لكن إيان لم تكن له تحفظات عليها.
قالت إيف: «يا لها من طفرة! اختلاف كبير عن بلاك بيرد.» فقالت صوفي على الفور وبلهجة تكاد تكون عنيفة: «أوه، بلاك بيرد! إنها لمهزلة أن أفكر أنك دفعت تكلفة تعليمي في بلاك بيرد. دفعت أموالك مقابل خدماتها.»
بلاك بيرد مدرسة بديلة ارتادتها صوفي، ولم يكن الطلاب يلتحقون فيها بسنوات دراسية وإنما بمجموعات وفقا لتقييم المدرسين لهم (واسم المدرسة مستوحى من ترنيمة «أشرق الصباح»). كلفت هذه المدرسة إيف أكثر مما تطيق، لكنها كانت تعتقد أنها هي الخيار الأفضل لفتاة تعمل أمها ممثلة وأبوها غير موجود في الصورة. وعندما كانت صوفي في التاسعة أو العاشرة من عمرها، أغلقت المدرسة بسبب خلافات وقعت بين أولياء الأمور.
قالت صوفي: «درست الأساطير اليونانية ولم أعرف أين هي اليونان، بل إنني لم أعرف ما هي. وكنا نقضي حلقة الفنون في صنع شارات مناهضة لاستخدام الأسلحة النووية.»
قالت إيف: «أوه، لم يحدث هذا بالطبع.» «بل حدث، وكانوا يتحرشون بنا لفظيا - تحرشوا بنا بالفعل - كي نتحدث عن الجنس. كان تحرشا لفظيا، وكنت تدفعين مقابل هذا.» «لم أكن أعرف أنها بهذا السوء.»
قالت صوفي: «على كل فقد نجوت بنفسي.»
قالت إيف بارتجافة: «هذا هو المهم، أن تنجي بنفسك.» •••
كان والد صوفي من ولاية كيرلا التي تقع في الشطر الجنوبي من الهند. قابلته إيف وأمضت كل وقتها معه على متن قطار مسافر من فانكوفر إلى تورونتو. كان طبيبا شابا يدرس في كندا للحصول على درجة الزمالة ، وكان متزوجا وله طفلة في موطنه بالهند.
استغرقت رحلة القطار ثلاثة أيام، وعندما توقف مدة نصف ساعة في كالجاري، هرعت إيف والطبيب باحثين عن صيدلية كي يبتاعا منها واقيات ذكرية، لكنهما لم ينجحا في سعيهما. وعندما وصلا وينيبيج - حيث توقف القطار مرة أخرى مدة ساعة كاملة - كان الأوان قد فات. والواقع - كما ذكرت إيف كلما روت قصتهما - أن الأوان قد فات بمجرد تجاوز القطار حدود مدينة كالجاري.
كان الطبيب يستقل عربة قطار عادية؛ فلم تكن منحة الزمالة مجزية للغاية. أما إيف، فكانت مسرفة في هذه الرحلة واستأجرت لنفسها قمرة خاصة. كان هذا الإسراف - الذي اتخذ قراره في اللحظات الأخيرة - وما وفرته القمرة من راحة وخصوصية، هما السببان الأساسيان في وجود صوفي وفي أكبر تغيير طرأ على حياة إيف. هذا بالإضافة إلى أنه ليس بإمكان أحد أن يبتاع واقيات ذكرية من أي مكان بالقرب من محطة كالجاري تحت أي ظرف من الظروف.
وعندما وصلا محطة تورونتو، لوحت بيدها مودعة حبيبها القادم من كيرلا - كما يودع أي أحد شخصا عرفه في القطار - فقد قابلت لتوها رجلا أضحى في ذلك الوقت اهتمامها الرئيسي ومشكلة حياتها الأساسية. كانت اهتزازات وتمايلات القطار هي العلامة التي ميزت الأيام الثلاثة التي استغرقها القطار في رحلته، حتى إن الحركات الجنسية كانت تلقائية وغير متعمدة على الإطلاق، وربما لهذا استسلما لها - فيما يبدو - ولم يصاحبهما أي شعور بالذنب. ولا بد أن شعورهما وحديثهما قد تأثرا بالمثل بهذه التلقائية؛ فقد كانت إيف تتذكر كم كانت هذه المشاعر والأحاديث عذبة وسخية، غير تقليدية أو فاترة. فمن الصعب أن تكون تقليديا عندما تتعامل مع أبعاد ومقاييس قمرة قطار.
أخبرت إيف صوفي باسم والدها الذي عمد به - وهو توماس؛ تيمنا بالقديس - ولم تكن إيف تعرف أن هناك مسيحيين في جنوب الهند قبل أن تقابله. وحين كانت صوفي دون العشرين، شغلت لبعض الوقت بولاية كيرلا؛ إذ كانت تأتي بكتب من المكتبة عن هذه الولاية إلى المنزل، واعتادت أن تذهب إلى الحفلات مرتدية الساري. وعندما كبرت قليلا، كانت تتحدث عن الذهاب إلى هناك للبحث عن أبيها، وبدا لها أن معرفتها باسمه الأول وبتخصصه - أمراض الدم - كافية لأن تجده. لكن إيف أكدت لها أن عدد سكان الهند هائل، وأنه من الممكن ألا يكون قد استقر هناك، غير أن ما لم تستطع أن تشرحه لها هو كم سيكون وجودها عرضيا بكل تأكيد، وغير محتمل بالمرة، في حياة والدها. ولحسن الحظ، تبخرت هذه الفكرة من ذهن الفتاة، وتوقفت عن ارتداء الساري بعدما شاعت تلك الأزياء المثيرة العرقية في كل مكان. ولم تذكر أبيها بعدها إلا حين حملت لأول مرة؛ متندرة على الحفاظ على تقاليد العائلة بخصوص غياب الآباء. •••
لكن الآن لا مجال لهذه النكات؛ فقد نضجت صوفي وصارت تتصف بالرقي والأنوثة المتحفظة. وذات مرة - بينما كانوا يتوغلون في غابة الأشجار بالقرب من الشاطئ للوصول إليه - انحنت صوفي لتحمل ديزي من الأرض كي يتحركوا بسرعة أكبر مبتعدين عن البعوض. وحينها انبهرت إيف بمقومات الجمال التي طرأت على ابنتها مؤخرا؛ جمال فائق هادئ بسيط، ليس نتاج العناية به أو استخدام مستحضرات التجميل، وإنما نتاج إيثارها وانغماسها في الواجبات. أمست تبدو أكثر ميلا لملامح الهنود، فقد أكسبت شمس كاليفورنيا بشرتها الخمرية سمرة أغمق، وظهرت تحت عينيها هالات من أثر إرهاق بسيط ومتواصل.
لكنها ظلت سباحة ماهرة؛ فالسباحة هي الرياضة الوحيدة التي اهتمت بها على الإطلاق. لم يتغير مستواها بمرور الوقت، وكانت تسبح باتجاه منتصف البحيرة - فيما يبدو - أثناء هذه الزيارة. وفي أول يوم سبحت فيه، قالت: «كان هذا رائعا، غمرني شعور قوي بالحرية.» لم يكن السبب وراء قولها هذا أن إيف كانت تعتني بطفليها؛ مما منحها هذا الشعور بالحرية؛ إذ أدركت إيف أن ابنتها ليست في حاجة للإقرار بذلك. وقالت إيف: «إنني سعيدة»؛ مع أنها في الواقع كانت تشعر بالخوف الشديد عليها، فأخذت تناديها مرات ومرات خلال السباحة بينها وبين نفسها: استديري الآن وارجعي. لكن صوفي استمرت في السباحة متجاهلة تلك الرسالة التخاطرية الملحة. وتبدى رأسها الأسود أمام ناظري إيف كبقعة في الماء، ثم كأثر بقعة، ثم كسراب تتقاذفه الأمواج المتلاطمة. لم يكن ما خشيته إيف ولم تستطع التفكير فيه هو تداعي قوتها، وإنما رغبتها في العودة؛ وكأن صوفي الجديدة - تلك المرأة الناضجة التي تقيدها المسئوليات - لا تكترث بحياتها أكثر من الفتاة التي تعرفها إيف؛ صوفي الصغيرة التي تعج حياتها بالمخاطر والرومانسية والأحداث الدرامية. •••
قالت إيف لفيليب: «علينا أن نعيد شريط الفيديو الذي استأجرناه إلى المتجر.» «ربما علينا فعل ذلك قبل أن نذهب إلى الشاطئ.»
قال فيليب: «لقد سئمت الشاطئ.»
لم تكن إيف ترغب في الجدال؛ فبعد أن ذهبت صوفي وتبدلت كل الخطط - لأنهم سيرحلون، كلهم سيرحلون اليوم بعد ساعات - شعرت هي الأخرى أنها سئمت الشاطئ، وسئمت البيت أيضا، وكل ما رأته الآن هو الصورة التي ستبدو عليها الحجرة غدا. ستلملم أقلام الشمع الملونة والسيارات اللعبة والقطع الكبيرة المكونة للعبة الألغاز المبسطة الخاصة بديزي، وتحزم في الأمتعة، وترحل هي الأخرى. ستختفي القصص التي حفظتها عن ظهر قلب. لن تجفف الملاءات على عتبة النافذة، وستبقى إيف بمفردها ثمانية عشر يوما أخرى في هذا المكان.
قالت: «ما رأيك في الذهاب اليوم إلى مكان آخر؟»
قال فيليب: «إلى أين؟» «دعني أفاجئك.» •••
في اليوم السابق ليوم الرحيل، أتت إيف من القرية محملة بالمؤن - وقد صار متجر القرية كبيرا وأنيقا هذه الأيام، وصار بإمكانك العثور فيه على كل متطلباتك - فابتاعت جمبري طازجا لصوفي، وقهوة ونبيذا وخبز الجاودار الخالي من بذور الكراوية؛ لأن فيليب لا يحب مذاق الكراوية، وبطيخة طازجة، والكرز الأسود الذي يحبونه جميعا - مع الحذر من أن تبتلع ديزي بذوره - وعلبة آيس كريم بنكهة الفدج والموكا، بالإضافة إلى الأشياء المعتادة الأخرى التي تكفي أسبوعا آخر.
فصاحت صوفي وهي تنظف ما خلفه الأطفال من فتات وغيره أثناء تناول وجبة الغداء: «أوه، ماذا سنفعل بكل هذه الأشياء؟»
قالت إن إيان اتصل هاتفيا ليخبرها بأنه سيحضر إلى تورونتو غدا جوا؛ لقد أحرز تقدما في كتابه على نحو أسرع مما توقع، ما دفعه إلى تغيير خطته. فلن ينتظر حتى نهاية الأسابيع الثلاثة، وإنما سيأتي غدا ليصطحب صوفي والطفلين في رحلة قصيرة. كان يريد أن يذهب إلى مدينة كيبيك؛ فهو لم يزرها من قبل، وجال بخاطره أنه يجدر بالأطفال أن يزوروا ذاك الجزء الكندي الذي يتحدث سكانه الفرنسية.
قال فيليب: «لقد شعر بالوحدة.»
فضحكت صوفي وقالت: «نعم، افتقدنا.»
دار بخلد إيف أن اثني عشر يوما قد مضت؛ اثني عشر يوما من الأسابيع الثلاثة، لكنها استأجرت المنزل شهرا كاملا. أما عن شقتها، فتركتها لصديقها ديف ليعيش فيها خلال هذا الشهر، وكان هو أيضا ممثلا عاطلا عن العمل، وكان محفوفا بمخاطر مالية جمة - حقيقية أو متخيلة - حتى إنه كان يجيب الهاتف مغيرا صوته بأكثر من نبرة. كانت إيف مولعة بديف، لكنها لا تستطيع العودة إلى شقتها ومشاركته إياها.
قالت صوفي إنهم سيستأجرون سيارة ليذهبوا بها إلى كيبيك، ثم سيستقلونها إلى مطار تورونتو مباشرة، ومن هناك ستعاد السيارة حيث أخذوها. لم تذكر أي شيء بخصوص ذهاب إيف معهم؛ فلم يكن هناك متسع في السيارة المستأجرة. لكن أليس بإمكانها أن تقود سيارتها الخاصة؟ من الممكن أن يركب فيليب معها ليؤنس وحدتها، أو ربما صوفي. فمن الممكن أن يصطحب إيان الطفلين - إذا كان يفتقدهما بشدة - ويترك صوفي مع إيف لتنال قسطا من الراحة بعيدا عن الطفلين. وقد تذهب إيف وصوفي معا في رحلة بالسيارة، كما اعتادتا السفر في الصيف معا إلى مدينة لم تزوراها من قبل، عندما كانت إيف تحصل على دور في عمل جديد.
لكن لم يكن هذا منطقيا؛ إذ إن إيف اشترت سيارتها منذ تسع سنوات، ولم تكن السيارة في حالة تسمح لها بالذهاب في رحلة طويلة. كذلك فإن صوفي هي التي يفتقدها إيان، وبدا هذا واضحا من وجهها الدافئ الذي يتحاشى النظرات، وكذلك لم يطلب أحد من إيف أن تأتي معهم.
قالت إيف: «رائع أنه يتقدم في تأليف كتابه.»
قالت صوفي: «بالفعل.» كانت تميل دوما إلى التحفظ والحذر قليلا عند التحدث عن كتاب إيان، وعندما سألتها إيف عن موضوع الكتاب، اكتفت بقول : «الجغرافيا المدنية.» ربما كان هذا هو السلوك الصحيح لزوجات الأكاديميين؛ ولم تكن إيف تعرف أيا منهن.
قالت صوفي: «على كل، سيتسنى لك الانفراد بنفسك بعض الوقت بعد فض هذا السيرك، وستقررين إذا ما كنت فعلا تريدين الإقامة في الريف، في أحد المنتجعات.»
شرعت إيف في التحدث عن شيء آخر - أي شيء - حتى لا تستعطف صوفي بسؤالها عما إذا كانت لا تزال تفكر في أن تأتي الصيف القادم.
فقالت: «ذهب صديق لي إلى أحد المنتجعات الحقيقية؛ إنه بوذي أو ربما كان هندوسيا، لكنه ليس هنديا.» (عند ذكر الهنود، ابتسمت صوفي بطريقة دلت على أنه يجب تجنب مناقشة هذا الموضوع.) «على كل حال، في هذا المنتجع، لا يمكنك التحدث مدة ثلاثة أشهر. طوال الوقت، يحيطك كثير من الناس، لكنك لا تستطيعين أن تتحدثي معهم. وقال لي هذا الصديق إن أحد الأمور التي كانت تحدث دائما - ويحذر الرواد منها - هو أن يقع المرء في حب أحد هؤلاء الناس الذين لم يتحدث معهم قط؛ فيشعر أنه يتواصل معهم بطريقة خاصة وهو لا يحادثهم. بالطبع هذا الحب روحاني لا حيلة للمرء فيه، لكن المسئولين هناك كانوا صارمين بشأن وقوعه، أو هكذا يزعم صديقي.»
قالت صوفي: «إذن! ماذا يحدث حين يسمح للمرء بالكلام أخيرا؟» «خيبة أمل كبيرة؛ فالشخص الذي ظننت أنك تواصلت معه روحانيا لا يكون قد تواصل معك روحانيا بالمثل على الإطلاق. ربما يظن أنه يتواصل مع شخص آخر، وهذا الشخص يظن أنه ...»
غمر صوفي شعور بالارتياح وضحكت، قائلة: «وهكذا دواليك.» شعرت بالسعادة؛ لأنه لن تكون هناك خيبة أمل مع أمها ولن يكون هناك إيذاء للمشاعر.
ظنت إيف أن الزوجين ربما يكونان قد تشاجرا، وأن هذه الزيارة ربما كانت لحاجة في نفس ابنتها صوفي؛ ربما تكون قد أخذت طفليها ورحلت لتوضح له أمرا ما. رحلت لتقضي بعض الوقت مع أمها، فقط لتوضح له أمرا ما. ربما تخطط لإجازات مستقبلية بدونه كي تثبت لنفسها أنها قادرة على فعل ذلك. ربما تكون وسيلة لتلهية نفسها.
لكن السؤال الملح هو: من الذي هاتف الآخر؟
قالت إيف: «لماذا لا تتركين الطفلين هنا؛ فقط حتى تذهبي إلى المطار؟ وبعدها عودي واصطحبيهما لتبدءوا رحلتكم. هكذا سيتسنى لك أن تقضي وقتا قليلا بمفردك، وبعض الوقت مع إيان. ذهابهما معك إلى المطار سيكون غاية في الصعوبة.»
قالت صوفي: «فكرة رائعة.»
ونفذتها.
جعل هذا إيف تتساءل في نفسها عما إذا كانت قد دبرت لهذا التغيير البسيط حتى يتسنى لها أن تنفرد بفيليب وتتحدث معه. (ألم تكن مفاجأة مذهلة أن يتصل والدك من كاليفورنيا؟
لم يتصل، أمي هاتفته.
حقا؟ لم أكن أعلم. وماذا قالت له؟
قالت: لم أعد أطيق المكان هنا، لقد سئمته، دعنا نضع خطة ما لتبعدني عن هنا.) •••
خفضت إيف صوتها على نحو يوحي بجدية حديثها كإشارة إلى مقاطعة اللعب، وقالت: «فيليب. فيليب، اسمعني. أعتقد أن علينا التوقف عن اللعب. هذه السيارة تخص أحد المزارعين، ولا بد أنها ستنعطف عند مكان ما ولن نستطيع تتبعها.»
قال فيليب: «بل نستطيع.» «كلا، لا نستطيع. إذا استمر الأمر سيتساءلون عما نفعل، وسيستشيطون منا غضبا.» «سنستدعي الطائرات الهليكوبتر كي تقصفهم.» «كفى سخفا؛ تعلم أنها مجرد لعبة.» «ستقصفهم طائراتنا.»
قالت إيف في محاولة جديدة: «لا أعتقد أن الطائرات مجهزة بأي أسلحة - لم يصنع المسئولون أسلحة - قادرة على تدمير الفضائيين.»
قال فيليب: «غير صحيح.» ثم شرع يصف لها بعض أنواع الصواريخ، لكنها لم تسمع ما يقول. •••
حين كانت إيف طفلة تعيش في القرية مع شقيقها وأبويها، كانت تذهب أحيانا في نزهة مع أمها إلى الريف. لم تكن بحوزتهم سيارة - فقد كان زمن حرب - وإنما كانوا يستقلون القطار إلى هذا المكان. وكانت السيدة التي تدير النزل الذي كانت تعيش فيه في القرية صديقة لأم إيف، وأحيانا كانت تدعوهما ليصاحباها في سيارتها عندما تنوي الذهاب إلى الريف لشراء الذرة أو التوت أو الطماطم. وأحيانا كن يتوقفن لاحتساء الشاي وينظرن إلى الصحون القديمة وبعض قطع الأثاث المعروضة للبيع في مدخل بيت إحدى المزارعات اللاتي يدرن مشروعاتهن الخاصة. أما والد إيف، فقد كان يفضل ألا يذهب معهما ليلعب الداما مع رجال على الشاطئ؛ حيث كانت هناك مصطبة كبيرة من الأسمنت على شكل مربع مرسوم عليها لوحة داما، لها سقف للحماية من أشعة الشمس والمطر وليس لها جدران. وهناك - حتى في ظل المطر - كان الرجال يحركون قطع الداما الكبيرة بتأن مستخدمين عصيا طويلة. أما شقيق إيف، فكان يراقبهم أو يتركهم ليسبح دون مراقبة من أحد، فقد كان يكبرها سنا. لكن كل هذا اختفى الآن، حتى المصطبة الأسمنتية، لربما شيد أعلاها مبنى ما. اختفى - أيضا - النزل ذو الشرفات الممتدة فوق الرمال، واختفت محطة القطار التي كان اسم القرية مكتوبا عليها بالزهور، واختفت خطوط السكة الحديدية أيضا، وشيد مكانها مركز تجاري على طراز يتصنع القدم، يشتمل على محل بقالة كبير يلبي حاجات الناس، وحانة، ومحلات ملابس منزلية ومشغولات ريفية.
عندما كانت إيف صغيرة جدا وترتدي على رأسها مشبك شعر كبيرا على شكل فراشة، كانت مولعة بتلك الرحلات الاستكشافية في الريف. فكانت - عندما تذهب إلى هناك - تأكل كعكات صغيرة محشوة بالمربى، وأخرى تغطيها طبقة من الصوص ثم طبقة من الكريمة المتماسكة المتناثرة عليها حبات الكرز. ولم يكن مسموحا لها أن تلمس أيا من الأطباق أو وسائد الدبابيس المصنوعة من الستان والدانتيل، أو الدمى القديمة باهتة الألوان. وكانت أحاديث النساء تمر من فوق رأسها، فتعتريها حالة من الكآبة المؤقتة؛ كأنها سحابات لا سبيل للهرب منها. لكنها كانت تستمتع بالركوب في المقعد الخلفي للسيارة متخيلة نفسها تمتطي صهوة جواد أو تجلس في عربة ملكية. لكن فيما بعد، صارت ترفض الذهاب إلى هذه الرحلات. بدأت تكره السير ظلا لأمها، ومعرفة الناس لها من خلالها؛ فعندما تقول الأم «ابنتي إيف»، يتردد صوتها على مسامع الفتاة ليشي بنبرة تعال وغرور وكأنها - زيفا - من ممتلكاتها (غير أن إيف كانت تستخدم هذه العبارة - أو ما شابهها - في بعض من أكثر عروضها التمثيلية فظاظة وأقلها نجاحا). كذلك كانت تكره الطريقة التي تتأنق بها أمها في العادة وهي ذاهبة إلى الريف؛ القبعات الكبيرة، وقفازات يديها، والفساتين المصممة من أقمشة رقيقة تعلوها نقوش بارزة لزهور بدت كالثآليل. وأخيرا، بدت أحذيتها الخفيضة ذات الأربطة - التي كانت تريح التهاب مسامير الأقدام التي تعانيها - ضخمة ورثة بشكل يسبب الحرج.
وفي السنوات الأولى التي قضتها إيف بعيدا عن المنزل، كانت تلعب مع صديقاتها لعبة «ما أكثر شيء تكرهينه في أمك؟»
قالت إحدى الفتيات: «مشدات الخاصرة.» وقالت أخرى: «المآزر المبتلة.»
بونيه الشعر الشبكي. الذراعان الممتلئتان. الاقتباس من الكتاب المقدس. أغنية «الولد داني».
بينما تقول إيف: «مسامير قدميها.»
كانت قد نسيت هذه اللعبة منذ فترة طويلة ولم تتذكرها إلا مؤخرا، وكانت ذكراها بمنزلة الضغط على جرح عميق.
أبطأت السيارة التي تسير أمامهم، وانعطفت دون أي إشارة تحذيرية إلى حارة طويلة تحفها الأشجار. قالت إيف: «لا يمكن أن أتبعهم لأكثر من هذا يا فيليب.» وواصلت القيادة. لكن وهي تتجاوز الحارة، لمحت أعمدة البوابات. كان شكلها غريبا يشبه المنارات على حالتها الأصلية، لا يزينها سوى حصى مطلي بماء الكلس وقطع من الزجاج الملون. لم يكن أي منها مستقيما، وكانت جميعها شبه مغطاة بنبات عصا الذهب والجزر البري؛ مما أفقدها المظهر الواقعي لأعمدة البوابات، وأحالها إلى عناصر مسرحية محتجبة في أوبريت صارخ الديكور. وما إن رأتها إيف حتى تذكرت شيئا آخر؛ تذكرت سورا يسيج منزلا، سورا مطليا بماء الكلس الأبيض، عليه بعض الصور لمشاهد ثابتة رائعة وطفولية: كنائس ذات قمم مستدقة، وقلاع ذات أبراج، ومنازل مربعة الهيكل ذات نوافذ صفراء مائلة على شكل مربع، وأشجار عيد ميلاد مثلثة الشكل، وطيور ذات ألوان استوائية يبلغ حجمها نصف حجم الأشجار، وجواد سمين ذو أرجل هزيلة وعينان شديدتا الحمرة، وأنهار زرقاء متموجة تبدو كأشرطة طويلة، وقمر ونجوم متناثرة، وزهور عباد شمس كبيرة تميل على أسطح المنازل. كل هذه الصور بارزة على السور بقطع من الزجاج الملون الملصقة في الأسمنت أو الجص. رأت إيف هذا السور من قبل، ولكنه لم يكن في مكان عام، بل في الريف، وكانت وقتها مع أمها. لاحت صورة أمها أمام السور في ذهنها؛ كانت تتحدث مع مزارع عجوز في نفس عمرها، وبدا بالطبع هرما في عين إيف.
كانت أمها ومديرة النزل تذهبان في تلك الرحلات لمشاهدة أشياء غريبة وليس فقط التحف؛ فذهبتا ذات مرة لمشاهدة شجيرة مشذبة على شكل دب وحديقة تفاح أشجارها متناهية في القصر.
لم تتذكر إيف أعمدة البوابات هذه قط، لكنها ظنت أنها لا تنتمي لأي مكان سوى مكانها هذا. رجعت بالسيارة ثم استدارت لتدخل الطريق الضيق الذي تتخلله الأشجار. كانت أشجار صنوبر بري قديمة وضخمة - وربما خطيرة - وكانت تتدلى منها أغصان شبه ميتة، وتفترش الأرض أغصان أخرى عصفت بها الرياح أو تساقطت عن الأشجار، فأضحت ملقاة وسط الحشائش والعشب على جانبي الطريق. أخذت السيارة تتأرجح للأمام والخلف بفعل حفر الطريق، وبدت ديزي سعيدة بتأرجحها؛ فبدأت تصاحبها بأصوات متكررة تشي بابتهاجها.
قد تتذكر ديزي هذا الموقف فيما بعد؛ قد يكون هذا هو كل ما ستتذكره من اليوم. الأشجار الحدباء، واستظلال السيارة تحتها فجأة، وحركاتها الشائقة. وربما تذكرت بياض زهور الجزر البري المحتكة بالنوافذ، وإحساسها بفيليب الذي يجلس بجانبها، وتشوقه الشديد غير المبرر، وتحكمه غير الطبيعي في شعوره بالإثارة المنعكسة على صوته الطفولي، وإحساسها الأكثر غموضا بإيف؛ ذات الذراعين العاريتين المغطاتين بالنمش والتجاعيد الناتجة عن التعرض للشمس، وشعرها الأشقر المتموج - الذي يتخلله الشيب - المشدود للخلف بعصابة سوداء. وربما تذكرت رائحتها أيضا. لم تكن رائحة سجائر - كسابق العهد - أو كريمات ومواد تجميل معروفة أنفقت إيف أموالها عليها في السابق، بل رائحة - فلنقل - بشرة عجوز؟ ثوم؟ نبيذ؟ غسول فم؟ لعل الجدة ستكون في عداد الأموات حين تتذكر ديزي هذا. قد تتباعد المسافات بين فيليب وديزي؛ مثلما حدث مع إيف التي لم تتحدث مع شقيقها منذ ثلاثة أعوام، منذ أن قال لها عبر الهاتف: «لا يجدر بك الاشتغال بمهنة التمثيل، ما لم تملكي ما يؤهلك لأن تتميزي في هذا المجال.»
لم تكن هناك أي إشارة على وجود منزل في الطريق أمامهم، لكن من خلال فرجة بين الأشجار ظهر هيكل حظيرة قائمة، زالت جدرانها وإن بقيت أعمدتها سليمة لم تمس، وسطحها كامل لكنه مائل تجاه أحد جانبيه، فبدا كقبعة غريبة الشكل. تبين لإيف أيضا أن هذا المكان يحتوي على بعض الماكينات وقطع غيار سيارات وشاحنات قديمة متناثرة هنا وهناك على مساحة من الأعشاب اليانعة الكثيفة. ولم تكن إيف في سعة كي تلقي نظرة على المكان؛ فقد كانت مشغولة بالتحكم في السيارة على هذا الطريق الوعر. اختفت السيارة الخضراء من أمامها؛ إلى أي مدى ابتعدت؟ انعطفت سيارة إيف مع انعطاف الطريق؛ فخرجوا من ظل أشجار الصنوبر وسارت السيارة في ضوء الشمس. لكن ظلت زهور الجزر البري - التي تشبه زبد البحر في بياضها - ممتدة أمام ناظريهم، ولم تفارقهم رؤية الخردة الصدئة المتناثرة حولهم. وعلى أحد جانبي الطريق، اصطفت الشجيرات البرية كأنها سياج أخضر يختبئ خلفه المنزل، وأخيرا رأته؛ كان منزلا كبيرا، من طابقين، مبنيا بطوب رمادي مائل للصفرة، وأسفل سطحه مباشرة رأت علية خشبية بها نوافذ تنتأ منها قطع من الإسفنج القذر، بينما لمحت رقائق الألمنيوم تلمع على زجاج نوافذ المنزل من الداخل.
لم يكن هذا هو المكان الذي ظنت أنه هو؛ فهي لا تتذكر هذا البيت على الإطلاق؛ فلم تسيج الحشائش المجزوزة حوله بسور، بينما تناثرت شجيراته فوق العشب بغير ترتيب.
وجدت إيف السيارة واقفة أمامها في هذا المكان، وبعدها مباشرة رأت قطعة أرض خالية من النبات مفروشة بالحصى؛ يمكنها أن تنعطف بالسيارة عندها. لكنها لم تستطع أن تتجاوز السيارة كي تفعل هذا؛ فكان عليها أن تتوقف أيضا. تساءلت عما إذا كان الرجل الموجود في تلك السيارة قد توقف بها في هذا المكان عن عمد حتى تضطر إلى تبرير وجودها هناك. وها هو قد ترجل عن السيارة بتأن، ودون أن ينظر إليها حرر كلبه من رباط رقبته، وكان من قبل يتحرك في السيارة وينبح بغضب شديد. وما إن وضع الكلب أقدامه على الأرض، حتى واصل النباح دون انقطاع لكنه لم يبرح جانب الرجل. كان الرجل يرتدي قبعة تغطي وجهه؛ ولهذا لم تستطع إيف رؤية تعبيرات وجهه. وقف بجانب السيارة ينظر إليهم دون أن يقرر إذا ما كان سيقترب.
حلت إيف حزام مقعدها.
قال فيليب: «لا تخرجي، ابقي في السيارة، استديري وابتعدي عن هنا.»
قالت إيف: «لا أستطيع، الأمر على ما يرام، هذا الكلب لا يفعل شيئا سوى النباح ولن يؤذيني.» «لا تخرجي.»
لم يكن يجدر بها أن تترك اللعبة تخرج عن نطاق السيطرة إلى هذا الحد؛ فطفل في مثل عمر فيليب قد يتطور الأمر معه لأكثر من ذلك. قالت: «هذا ليس جزءا من اللعبة، إنه مجرد رجل.»
قال فيليب: «أعرف، لكن لا تخرجي.»
ردت إيف: «كفى.» ثم خرجت وأغلقت الباب خلفها.
قالت: «مرحبا. آسفة؛ لقد ضللت الطريق، وظننت هذا الطريق يؤدي إلى مكان آخر.»
رد الرجل التحية بكلمة شبيهة.
قالت إيف: «كنت أبحث في الواقع عن مكان آخر؛ مكان أتيته مرة حين كنت صغيرة. كان فيه سور عليه صور من قطع من الزجاج المكسور. أعتقد أنه سور أسمنتي مطلي بماء الكلس الأبيض. عندما رأيت تلك الأعمدة على جانب الطريق اعتقدت أنه المكان ذاته. لا بد أنك ظننتنا نتبعك، كم يبدو الوضع سخيفا!»
سمعت صوت باب السيارة يفتح؛ خرج فيليب وسحب ديزي خلفه من يدها. ظنت إيف أنه جاء ليكون بالقرب منها، فمدت ذراعيها مرحبة به، فابتعد عن ديزي ودار حول إيف مخاطبا الرجل؛ فقد حرر نفسه من خوفه اللحظي وبدا الآن أكثر ثباتا من إيف.
قال بلهجة يشوبها التحدي: «هل كلبك أليف؟»
قال الرجل: «إنها كلبة؛ لن تؤذيك ما دمت موجودا. إنها طيبة، دائمة النباح فقط لأنها مجرد جرو، ما زالت جروا.»
كان رجلا صغير البنية، لا يزيد طوله عن طول إيف، وكان يرتدي بنطالا من الجينز وسترة مفتوحة ملونة - تبدو من منسوجات بيرو أو جواتيمالا - وعلى صدره الأسمر العاري، حتى من الشعر، القوي العضلات، تلمع سلاسل وقلائد ذهبية. وعندما تكلم، أزاح رأسه إلى الخلف، فبدت ملامحه، ورأت إيف أن وجهه يعطيه سنا أكبر مما يوحي به صغر بنيته. وكانت بعض أسنانه الأمامية مخلوعة.
قالت: «لن نزعجك ثانية . فيليب، لقد أخبرت هذا الرجل لتوي أننا دخلنا هذا الطريق بحثا عن مكان أتيته عندما كنت فتاة صغيرة، وكانت به صور من الزجاج الملون معلقة على سور، لكنني أخطأت، وليس هذا هو المكان المقصود.»
تساءل فيليب: «ما اسم الكلبة؟»
قال الرجل: «تريكسي.» وما إن سمعت الكلبة اسمها حتى قفزت وضربت ذراعه؛ فرد لها الضربة كي تتوقف عن القفز، وقال: «لا أعرف أي شيء عن أي صور؛ فأنا لا أعيش هنا، هارولد قد يعرف ما تتحدثين عنه.»
قالت إيف وهي ترفع ديزي من على الأرض: «لا بأس. أرجو منك فقط أن تحرك السيارة للأمام قليلا حتى أنعطف بالسيارة.» «لا أعرف شيئا عن هذه الصور. لو كانت في الجزء الأمامي من المنزل لما استطعت أن أراها؛ لأن هارولد أغلق ذلك الجزء بالكامل.»
قالت إيف: «كلا. كانت الصور في الخارج. لا يهم؛ كان هذا منذ سنين عديدة.»
قال الرجل متحمسا للحوار: «لا. لا، ولم؟ فلتدخلي لهارولد وتتحدثي معه لتسأليه عنها. أتعرفين هارولد؟ إنه مالك هذا المكان. كانت ماري من قبل من تملكه، لكن هارولد ألحقها بدار للمسنين، وصار هو الآن صاحب المنزل. لم يتسبب في ذلك، كان لا بد أن تعيش هناك.» ثم اتجه نحو سيارته والتقط منها صندوقي جعة وقال: «عدت لتوي من البلدة. هارولد أرسلني إلى هناك. فلتدخلي له. ادخلي، سيسر بلقائك.»
قال فيليب متجهما: «إلى هنا يا تريكسي.»
أتت الكلبة تنبح وتقفز حولهم؛ فصرخت ديزي صرخة رعب واستمتاع في آن واحد، وكانوا جميعهم في طريقهم إلى المنزل؛ ديزي على كتف إيف، بينما يسرع فيليب وتريكسي يثبان فوق المطبات الأرضية التي كانت من قبل درجات سلم. تبعهم الرجل ومشى بالقرب منهم، وانبعثت منه رائحة جعة؛ لا بد أنه كان يتجرعها في السيارة.
قال: «تفضلي بالدخول. تقدمي. لا تنزعجي بالفوضى التي تعم المنزل؛ فماري في دار المسنين، ولا أحد يأتيه لتنظيفه وترتيبه كسابق العهد.»
دخلوا منزلا غارقا في الفوضى العارمة التي استغرقت سنوات بالضرورة كي تتراكم بهذا الشكل. تألفت أولى طبقات الفوضى من مقاعد وطاولات وأرائك، وربما موقد أو اثنين، بالإضافة إلى ملاءات قديمة، وأوراق جرائد، وستائر نوافذ، ونباتات ميتة موضوعة في أصص، وقطع أثاث خشبي، وزجاجات فارغة، وأدوات إضاءة مكسورة. فوق كل ذلك طبقة أخرى، وكانت لأعمدة ستائر متراكمة حتى السقف في بعض الأماكن، حتى حجبت ضوء الشمس القادم من الخارج؛ ولتعويض هذا الضوء المحجوب، أضاء المكان مصباح بجانب الباب الداخلي.
ترك الرجل الجعة وفتح الباب ثم صاح مناديا هارولد. كان من الصعب تخمين أي غرفة دخلوها الآن؛ إذ كانت مليئة بخزانات مطبخ ذات أبواب غير مثبتة في مفصلاتها، وبعض المعلبات على الأرفف، وسريرين بلا مفارش، عليهما بطاطين مكرمشة. وكانت النوافذ مغطاة تماما بأثاث أو ألحفة معلقة لا يمكنك تحديد أين كانت في الأساس. كذلك فاحت من تلك الغرفة رائحة محل خردة أو حوض مسدود أو ربما مرحاض مسدود، ورائحة طبخ ودهون وسجائر وعرق وفضلات كلاب وقمامة متراكمة.
لم يجب أحد نداءه، فاستدارت إيف - كان هناك متسع في هذا المكان كي تستدير على عكس ما كان في المدخل - وقالت: «لا أعتقد أنه يصح أن ...» لكن تريكسي وقفت في طريقها، وأسرع الرجل من خلفها كي يطرق بابا آخر.
وقال - دون أن يخفض صوته - صائحا مع أن الباب قد فتح: «ها هو، ها هو هارولد.» في نفس اللحظة، اندفعت تريكسي للأمام وعلا صوت رجل آخر يقول: «اللعنة، أخرج الكلبة من هنا.»
قال الرجل الصغير البنية: «تريد هذه السيدة رؤية بعض الصور.» أنت تريكسي متألمة بعد أن ركلها شخص ما. وهكذا لم تملك إيف أي خيار سوى أن تدلف إلى الغرفة.
كانت غرفة طعام تحتوي على مائدة طعام قديمة وضخمة ذات مقاعد فخمة، جلس حولها ثلاثة رجال يلعبون الورق؛ ورابعهم كان معهم لكنه نهض ليركل الكلبة. وكانت درجة حرارة الغرفة تدنو من التسعين درجة فهرنهايت.
قال أحد الرجال الجالسين حول المائدة: «أغلقوا الباب، أشعر بتيار هواء في الغرفة.»
جر الرجل الصغير البنية تريكسي من تحت المائدة، وألقى بها في الغرفة الخارجية، ثم أغلق الباب خلف إيف والأطفال.
قال الرجل الذي كان قد نهض ليركل الكلبة: «يا إلهي؛ عليها اللعنة!» كان صدره وذراعاه منقوشين تماما بالوشوم حتى بدا لها جلده بنفسجيا أو مائلا للزرقة. هز رجله كما لو كانت تؤلمه؛ ربما ركل رجل المائدة عندما ركل تريكسي.
كان من بين أولئك الرجال شاب مول ظهره إلى الباب؛ كان ذا منكبين ضيقين نحيلين وعنق دقيق. افترضت إيف أنه شاب؛ لأن شعره مصبوغ أشقر ذهبيا ومثبت لأعلى، وكان يرتدي قرطا ذهبيا. لم يستدر هذا الشاب ليواجههم، أما الرجل الجالس قبالته، فكان مسنا في عمر إيف نفسها، وكان حليق الرأس، ذا لحية رمادية مشذبة، وعينين زرقاوين محتقنتين. نظر إلى إيف دون ود من أي نوع، لكن نظرته شابها شيء من الذكاء والحصافة، وبذلك حاد عن سلوك الرجل الموشوم الذي نظر إليها كما لو كانت هلوسة قرر أن يتجاهلها.
وعلى رأس الطاولة - في مقعد المضيف أو الأب - جلس الرجل الذي أصدر الأمر بغلق الباب؛ وفيما عدا هذا لم ينظر أمامه ولم يول مقاطعتهم لهم أي اهتمام. كان سمينا، ذا بنية عريضة ووجه شاحب وشعر مجعد بني مبلل بالعرق، وكان - كما ذكرت إيف - عاريا بالكامل. وكان الرجل الموشوم والشاب الأشقر يرتديان الجينز، أما الرجل ذو اللحية الرمادية فكان يرتدي بنطالا من الجينز أيضا وقميصا منقوشا بمربعات - أزراره كلها مغلقة - وربطة عنق يتدلى منها شريطان على صدره. وعلت المائدة زجاجات وكئوس؛ وكان الرجل الجالس على مقعد المضيف - لا بد أنه هارولد - يشرب الويسكي مع الرجل ذي اللحية الرمادية، والآخران يشربان الجعة.
قال الرجل الصغير البنية: «قلت لها قد تكون هناك بعض الصور في الجزء الأمامي من المنزل، لكنها بالطبع لم تستطع الدخول لأنك قد أغلقته.»
قال هارولد: «اخرس.»
قالت إيف: «إنني جد آسفة.» ما كان أمامها من سبيل - فيما يبدو - سوى التحدث مرارا وتكرارا عن إقامتها في نزل القرية عندما كانت فتاة صغيرة، ورحلاتها بالسيارة مع أمها، والصور التي كانت معلقة على السور وذكرياتها عنها اليوم، وأعمدة البوابات، وخطئها - الذي تبين في النهاية - واعتذارها عنه. تحدثت مباشرة مع ذي اللحية الرمادية، وكان الوحيد الذي أبدى استعدادا للإنصات، وأظهر قدرته على تفهم الوضع. شعرت بألم في كتفها وذراعها من ثقل ديزي، ومن التوتر الذي تملك جسدها كله. وجال بخاطرها كيف يمكن أن تصف موقفها هذا وسطهم؛ لعله يشبه مسرحية صامتة من مسرحيات بنتر، أو كابوسا يداهمها دوما عن جمهور متبلد الحس صامت وعدواني.
تكلم ذو اللحية الرمادية في لحظة لم تجد فيها أي كلام معسول أو ينم عن اعتذار يمكن أن تقوله. قال: «لا أعلم. عليك أن تسألي هارولد. هارولد، هل تعرف أي شيء عن صور مصنوعة من زجاج مكسور؟»
قال هارولد دون أن يرفع عينيه: «أخبرها أنني لم أكن قد ولدت بعد حين كانت تطوف بالسيارة وتشاهد الصور.»
قال ذو اللحية الرمادية: «الحظ ليس حليفك اليوم يا سيدتي.»
أصدر الرجل الموشوم صوت صفير مخاطبا فيليب: «أيها الصبي، هل تستطيع أن تعزف على البيانو؟»
اشتملت الغرفة أيضا على بيانو خلف مقعد هارولد، لكن لم يكن أمامه مقعد دون ظهر أو حتى مقعد عادي يكفي لأكثر من شخص - إذ كان هارولد يحتل معظم المساحة بين البيانو والمائدة - وفوقه تكومت أشياء لا تمت له بصلة كأطباق ومعاطف؛ كما كان الوضع فوق سطح أي شيء في المنزل.
ردت إيف بسرعة: «كلا. لا يستطيع العزف.»
قال الرجل الموشوم: «أسأله هو. هل تعزف أي لحن؟»
قال ذو اللحية الرمادية: «دعه وشأنه.» «إنني أسأله فحسب إن كان يستطيع أن يعزف أي لحن، ما المشكلة في ذلك؟» «دعه وشأنه.»
قالت إيف: «لن أستطيع أن أمضي بسيارتي إلا بعد أن يحرك أحد السيارة الأخرى.»
ظنت إيف أن رائحة مني تنبعث من هذه الغرفة.
كان فيليب صامتا لم يبارح جانبها.
قالت وهي تستدير متوقعة أن تجد الرجل الصغير البنية خلفها: «أرجو أن تحرك ...» لم تكمل الجملة حين رأت أنه ليس موجودا، لم يكن في الحجرة على الإطلاق، لقد خرج ولا تعرف متى فعل هذا. ماذا لو كان قد أغلق رتاج الباب ؟
أمسكت بمقبض الباب وأدارته، فانفتح الباب بصعوبة وشعرت بحركة سريعة على الجانب الآخر منه؛ كان الرجل الصغير البنية جالسا القرفصاء يتنصت.
مضت إيف - دون أن تحادثه - من الغرفة إلى الخارج عبر المطبخ، وهرول فيليب بجانبها كأنه أكثر أطفال العالم طاعة وانصياعا. ساروا عبر الممر الضيق المؤدي إلى المدخل وسط الخردة، وعندما خرجوا إلى الهواء الطلق ملأت صدرها به؛ فهي لم تستنشق هواء حقيقيا منذ وقت طويل.
صاح الرجل الصغير البنية من خلفها: «يمكنك أن تسيري للأمام في هذا الطريق، وتسألي عن بيت ابن عم هارولد؛ يملك مكانا جميلا به منزل جديد، ربة المنزل هناك ترتبه دوما وتحافظ على نظافته. وسيريك أهل البيت صورا أو أي شيء تريدينه. سوف يرحبون بك؛ سيجلسونك ويقدمون لك الطعام. إنهم لا يتركون أحدا يمضي خالي المعدة.»
لا يمكن أن يكون قد ظل كل هذه الفترة جالسا القرفصاء خلف الباب، فلا بد أنه قد خرج وحرك السيارة، ولربما حركها شخص آخر؛ فقد اختفت من المكان، وذهب بها شخص ما لمرأب أو أي مبنى بعيد عن الأنظار.
تجاهلته إيف وربطت حزام مقعد ديزي، بينما ربط فيليب حزامه بنفسه دون أن يذكره أحد. وظهرت تريكسي من مكان ما، وأخذت تحوم حول السيارة بحزن تشتم إطاراتها.
ركبت إيف السيارة وأغلقت الباب خلفها ووضعت يدها المتعرقة على المفتاح. دارت السيارة فانطلقت بها للأمام فوق الحصى؛ وكانت تلك المنطقة محاطة بشجيرات كثيفة - حسبتها شجيرات توت - وشجيرات ليلك قديمة وأعشاب. لكن سويت بعض هذه الشجيرات بالأرض بسبب تراكم أكوام كثيرة من الإطارات القديمة والزجاجات والعلب الصفيح عليها. كان من الصعب تخيل أن كل تلك الأشياء قد ألقيت من ذلك المنزل، في ظل وجود كل ما في داخله من حاجيات، لكنها ظنت أن هذا هو ما حدث. وبينما كانت تنعطف بالسيارة، رأت من وراء تلك الشجيرات المسواة بالأرض بعض أجزاء سور لا يزال ماء الكلس الأبيض عالقا به.
ظنت أنها ترى قطعا متلألئة من الزجاج معشقة فيه.
لكنها لم تبطئ سرعة القيادة كي تطل عليه، وتمنت ألا يكون فيليب قد لاحظه؛ فقد يرغب في أن يتوقفوا لاستطلاع الأمر. وجهت السيارة نحو الحارة وقادتها أمام درجات السلم المغطاة بالقاذورات التي تصل إلى المنزل. وقف الرجل الصغير البنية يلوح بكلتا ذراعيه لهم، وهزت تريكسي ذيلها وقد أفاقت من حالة الانصياع الناتجة عن خوفها الشديد - بعد أن ركلت - ما جعلها قادرة على النباح مودعة إياهم ثم ملاحقتهم بعض الشيء في الحارة. كانت تلك الملاحقة تقليدا لها، وكانت تستطيع اللحاق بهم إذا أرادت. واضطرت إيف لأن تبطئ سرعتها فجأة عندما ارتطمت بحفرة في الطريق.
قادت السيارة ببطء شديد مكن شخصا من الخروج بسهولة من بين الحشائش الطويلة المتراصة على جانب السيارة - ناحية المقعد الذي يقع بجوار مقعد السائق - ثم فتح باب السيارة والقفز داخلها؛ إذ لم تفكر إيف في قفل السيارة قبل أن تتحرك.
كان هذا الشخص هو الرجل الأشقر الجالس على المائدة في المنزل؛ ذاك الرجل الذي لم تر وجهه. «لا تخافي. لا تفزعوا. إنني فقط أتساءل عما إذا كنتم تستطيعون توصيلي معكم يا رفاق، هل توافقون؟»
لم يكن رجلا أو صبيا، بل فتاة؛ فتاة ترتدي في ذلك الحين فانلة قذرة.
قالت إيف: «لا بأس.» واستطاعت التحكم في السيارة وحرصت ألا تخرج عن الطريق.
قالت الفتاة: «لم يكن باستطاعتي أن أطلب منك هذا الطلب حين كنت في البيت. لقد دخلت دورة المياه وهربت من النافذة ثم جريت إلى هنا. الأرجح أنهم لم يعرفوا حتى الآن أنني هربت. إنهم يستشيطون غضبا.» جذبت فانلتها بقبضة يدها - وكانت أكبر من مقاسها بكثير - وشمتها ثم قالت: «عفنة الرائحة؛ جذبتها بسرعة من بين ثياب هارولد الموجودة في دورة المياه. رائحتها عفنة.»
تركت إيف المطبات وخرجت من ظلمة الحارة وانعطفت إلى طريق عادي، فقالت الفتاة: «إلهي! كم أنا سعيدة أنني خرجت من ذلك المكان. لم أعرف أي شيء عن ذلك المكان؛ لم أعرف حتى كيف دخلته. كان ذلك ليلا، ولم يكن المكان مكاني. تعرفين ما أقصده؟»
قالت إيف: «بدوا مخمورين للغاية.» «نعم . آسفة لو كنت أخفتك.» «لا عليك.» «ظننت أنك لن تقفي من أجلي لو لم أقفز داخل السيارة، أليس كذلك؟»
قالت إيف: «لا أدري، ربما كنت سأقف لو علمت أنك فتاة؛ فلم أرك جيدا قبلها.» «نعم. لا أبدو كفتاة الآن، بل أبدو قذرة. لا أقول إنني لا أحب الاحتفال، بل أحبه، لكن شتان بين احتفال وآخر. أتفهمينني؟»
استدارت في مقعدها وأخذت تنظر بثبات إلى إيف، حتى اضطرت إيف أن ترفع عينها عن الطريق لحظة وتبادلها النظر؛ فرأت أن الفتاة أكثر ثملا مما تبدو. كانت عيناها البنيتان الغامقتان باهتتين بلا بريق - وإن كانتا واسعتين، بل ومستديرتين، فيما يبدو، لشعورها بالإرهاق والتعب - كما بدتا لإيف أنهما كسائر عيون السكارى تنقلان لها نفس الرسالة الاستعطافية، وإن كانت بعيدة المنال، في إصرارهما - كمحاولة أخيرة - على خداع من أمامهما. كان جلدها مغطى بعلامات وبقع في بعض المناطق، وجافا في مناطق أخرى أكسبها الجفاف لونا مختلفا عن لون بشرتها، ووجهها بأكمله مجعد من فرط الشراب. كانت فتاة بيضاء البشرة غامقة الشعر - إذ كان لشعرها الذهبي الصبغة المثبت لأعلى جذور غامقة متروكة عن عمد ومثيرة للاشمئزاز - ولها من الجمال، إذا تغاضينا عن مظهرها القذر الحالي، ما يجعل المرء يتساءل ما سلكها مع هارولد ورفاقه. كذلك فإن أسلوب حياتها والذوق السائد في تلك الأيام لا بد أنهما سلبا من وزنها الطبيعي خمسة عشر أو عشرين رطلا، لكنها لم تكن طويلة، ولم تكن قط أكثر ميلا إلى طباع وسلوك الرجال، بل كانت تنزع في الواقع لأن تكون فتاة قصيرة جذابة، كقطعة حلوى.
قالت الفتاة: «هيرب هذا مجنون؛ كيف يدخلك هذا البيت بهذه الطريقة؟ لقد فقد عقله.»
قالت إيف: «أدركت هذا.» «لا أعرف ماذا يعمل هناك، أظنه خادما لدى هارولد، لكنني لا أعتقد أن هارولد يستفيد منه خير استفادة.»
لم تعتقد إيف يوما أنها قد تنجذب إلى النساء انجذابا جنسيا، كما أن تلك الفتاة بحالتها الرثة القذرة لم تكن لتجذب أي شخص. لكن ربما لم تعتقد الفتاة أن هذا صحيح؛ فلا بد أنها اعتادت على أن ينجذب الناس إليها؛ ففي لحظة ما، ألقت يدها لتمسح على فخذ إيف العارية - بعد حافة سروالها القصير - في حركة مدروسة بالرغم من كونها ثملة كصاحبتها؛ إذ كان سيصبح من المبالغة الشديدة أن تفرد أصابعها وتمسك بفخذها من المرة الأولى. كانت حركة مدروسة آملة وتلقائية، لكنها مع هذا تفتقد أي شهوة حقيقية عنيفة حميمية تمزقها إربا، حتى إن إيف شعرت أن يد الفتاة ستسقط من فخذها بتلقائية شديدة على حشية مقعد السيارة وتلامسه.
قالت الفتاة، وقد بدا صوتها - مثل يدها - يشق طريقه بجهد عبر حنجرتها لنقلها هي وإيف إلى مستوى جديد من الحميمية: «إنني جيدة. تعرفين عما أتحدث عنه؟ جيدة.»
قالت إيف سريعا: «بالطبع.» بعدها عادت اليد التي لاطفتها إلى صاحبتها العاهرة المتعبة، لكنها لم تفشل في مهمتها كلية؛ فبالرغم من جرأتها وافتقادها للمشاعر فإنها كانت كافية لتحرك بعض المياه الراكدة.
كم امتلأت إيف شكا بسبب احتمال حدوث هذه العلاقة بطريقة أو بأخرى، ذلك الاحتمال الذي ألقى بظل على الماضي الذي سبق تلك اللحظة، على كل ما حدث في حياتها من علاقات مثيرة للمتاعب تتسم بالتهور من ناحية، وعلاقات جادة تفيض أملا من ناحية أخرى، إلى جانب علاقاتها الأخرى التي لم تندم عليها إلى حد ما. لم يكن شعورا حقيقيا فاجأها بالخزي أو الخطيئة؛ وإنما مجرد ظل مشين. كم ستكون دعابة سخيفة إذا ما بدأت تعبث الآن بعد أن كان سجلها نقيا وصفحتها بيضاء!
لكن قد لا يؤثر هذا على سجلها؛ إذ كانت دائما تواقة للحب.
قالت: «إلى أين تريدين الذهاب؟»
أرجعت الفتاة رأسها للخلف ناظرة للطريق، وقالت: «أين وجهتك؟ هل تسكنين بالقرب من هنا؟» تغيرت نبرة صوتها الإغوائية المشوشة - كما تتغير بالطبع بعد ممارسة الجنس - وتحولت إلى نبرة ثابتة وواثقة وإن بدت متبجحة.
قالت إيف: «هناك حافلة تتنقل بين أرجاء القرية وتتوقف عند محطة الوقود، لقد رأيت لافتتها.»
قالت الفتاة: «نعم، لكن هناك أمرا آخر، ليس معي أي نقود، فكما رأيت خرجت من البيت على عجل ولم يكن هناك وقت لآخذ منهم نقودي؛ لذا فما جدوى أن أستقل الحافلة دون نقود؟»
لم تكن إيف في هذه اللحظة تفكر أن الفتاة يمكن أن تمثل مصدر تهديد. فلتخبرها بأن تشير إلى أي سيارة مارة - ذاهبة إلى وجهتها - إن لم تكن تملك المال. لكنه أيضا ليس من المرجح أن يكون بحوزة الفتاة مسدس تخفيه في سروالها الجينز، وإن أرادت أن تبدو وكأنها تملك مسدسا.
ماذا إذا كانت تخفي سكينا؟
التفتت الفتاة للمرة الأولى إلى المقعد الخلفي.
وقالت: «أيها الطفلان، هل أنتما بخير في الخلف؟»
لم تتلق إجابة.
قالت: «إنهما لطيفان، هل يخجلان من الغرباء؟»
كم كانت إيف غبية وهي تفكر في الجنس، بينما مكمن الخطر في اتجاه آخر!
كانت حقيبة إيف ملقاة على أرضية السيارة أمام قدمي الفتاة، لكن إيف لم تكن تعرف بالضبط كم بها من النقود؛ ربما ستون أو سبعون دولارا أو أكثر بقليل. إذا عرضت عليها نقودا لشراء تذكرة، فستختار الفتاة وجهة عالية التكلفة، كمونتريال أو على الأقل تورونتو، وإذا قالت لها: «خذي كل ما في الحقيبة»، فقد ترى في هذا استسلاما، وستستشعر خوف إيف وربما تتمادى. ما أكثر ما تستطيع فعله؟ تسرق السيارة؟ إذا ما تركت إيف والأطفال على جانب الطريق، فلسوف تسرع الشرطة بمطاردتها، وإذا ما قتلتهم ثم تركت جثثهم بين الشجيرات الكثيفة، فقد تستطيع أن تهرب لمسافة أبعد، أما إذا اصطحبتهم معها حيث تحتاجهم، فستضع سكينا في جانب إيف أو على رقبة أحد الطفلين.
إن مثل هذه الأشياء تحدث، ولكن ليس كثيرا مثلما يعرض في التليفزيون أو في الأفلام السينمائية. هذه الأشياء لا تحدث في العادة.
انعطفت إيف إلى الطريق الزراعي الذي كان مزدحما إلى حد ما. لماذا جعلها هذا تحس ببعض الارتياح؟ فالأمان الذي يشعرها به هذا الطريق هو مجرد وهم؛ فمن الممكن أن تقود سيارتها على الطريق السريع في وضح النهار فتلقي بنفسها والطفلين إلى حتفهم.
قالت الفتاة: «إلى أين يؤدي هذا الطريق؟» «يؤدي إلى الطريق السريع الرئيسي.» «دعينا نخرج إليه.»
قالت إيف: «سأخرج إليه بالفعل.» «إلى أي اتجاه يؤدي هذا الطريق السريع؟» «يتجه شمالا نحو أوين ساوند أو إلى توبرموري حيث يمكنك أن تستقلي قاربا، أو جنوبا إلى ... لا أدري، لكنه يلتقي مع طريق سريع آخر يوصل إلى سارنيا، أو لندن، أو ديترويت، أو إلى تورونتو إذا أكملت في هذا الطريق.»
لم تتبادلا أي كلمة أخرى حتى وصلوا إلى الطريق السريع، فانعطفت إيف إليه وقالت: «ها هو.» «إلى أي طريق ستتجهين الآن؟»
قالت إيف: «شمالا.» «إذن فأنت تعيشين هناك؟» «إنني ذاهبة إلى القرية، سوف أتوقف للتزود بالوقود.»
قالت الفتاة: «لديك وقود؛ أكثر من نصف الخزان ممتلئ.»
ما هذا الغباء؟ كان على إيف أن تقول إنها ذاهبة لشراء بقالة.
أصدرت الفتاة بجانبها زفيرا طويلا يشي بأنها قررت أو ربما تنازلت.
وقالت: «لعله من الأفضل أن أنزل هنا وأشير إلى أي سيارة مارة؛ فمن السهل أن أجد من يقلني هنا كما في أي مكان آخر.»
أوقفت إيف سيارتها على جانب الطريق المغطى بالحصى، وبدأ ما شعرت به من ارتياح يتحول إلى نوع من أنواع الخزي. من المحتمل أن تكون الفتاة قد هربت فعلا دون أن تأخذ معها أي نقود، وأنها لا تملك شيئا. كيف سيكون حال شخص ثمل فاقد الاتزان ولا يملك أي مال وهو واقف على جانب الطريق؟ «أي اتجاه قلت إننا فيه؟»
كررت إيف قولها: «شمالا.» «أي اتجاه قلت يؤدي إلى سارنيا؟» «جنوبا، ما عليك إلا أن تعبري إلى الجهة المقابلة من الطريق، وستجدين السيارات المتجهة جنوبا. احترسي من السيارات.»
قالت الفتاة: «بالطبع» بصوت خبا عنهم بالفعل وبالكاد سمعوه؛ إذ كانت تفكر في الفرص المتاحة لها. كان نصف جسدها خارج السيارة وهي تقول: «إلى اللقاء.» ثم نظرت إلى المقعد الخلفي حيث الطفلان جالسان، وقالت: «إلى اللقاء يا صديقي، فلتكونا مطيعين.»
قالت إيف: «مهلا.» ثم مالت للأمام وتحسست مكان حافظة نقودها في حقيبتها والتقطت منها ورقة بعشرين دولارا، ثم خرجت من السيارة ولفت من أمامها إلى حيث الفتاة تنتظرها، وقالت لها: «تفضلي، سوف تحتاجين هذه النقود.»
قالت الفتاة وهي تدس الورقة النقدية في جيبها، بينما عيناها تنظران إلى الطريق: «حسنا، شكرا.»
قالت إيف: «اسمعي، فلربما لا تستطيعين التصرف؛ لذا سأخبرك أين يقع منزلي لتأتي إلي. إنه على بعد ميلين شمالي القرية، والقرية نفسها على بعد نصف ميل شمالا من هنا. شمالا حيث هذا الاتجاه. أسرتي معي الآن في المنزل، لكنهم سيرحلون في المساء؛ إذا كان وجودهم سيضايقك. ستجدين مكتوبا على صندوق البريد اسم فورد. ليس اسمي ولا أدري سبب وجوده على الصندوق. منزلي هو الوحيد وسط أحد الحقول؛ له نافذة عادية على جانبه الأمامي ونافذة صغيرة غريبة الشكل على الجانب الآخر، هي نافذة دورة المياه.»
قالت الفتاة: «حسنا.» «لقد فكرت فقط، أنك إن لم تجدي من يقلك ...»
قالت الفتاة: «حسنا، بالتأكيد سأفعل.»
عندما استكملوا مسيرتهم بالسيارة، قال فيليب: «كم كانت رائحتها كالقيء!»
وبعد فترة أضاف: «إنها حتى لا تعرف أن عليها النظر للشمس لكي تحدد الاتجاهات. حمقاء، أليس كذلك؟»
قالت إيف: «بلى، أظن هذا.» «شيء مقزز، لم أر في حياتي أحدا بهذه الحماقة.»
وعندما دخلوا القرية سألها إن كان يمكنهم التوقف لشراء آيس كريم، لكن إيف رفضت.
قالت: «كثير من الناس واقفون لشراء الآيس كريم، ومن الصعب أن نجد مكانا نوقف فيه السيارة، كما أن لدينا ما يكفي من الآيس كريم في بيتنا.»
قال فيليب: «لا تقولي بيتنا؛ ما هو إلا مكان نقيم به. الأصح أن تقولي المنزل.»
شرقي الطريق السريع حيث ساروا، رأوا أكواما من القش مربوطة في حزم كبيرة ومتراصة في مواجهة الشمس في أحد الحقول، فبدت لهم كدروع أو أجراس قرصية أو أوجه الأقراص المعدنية المميزة لحضارة الأزتيك. بينما رأوا حقلا بعده انتشر به نبات ذهبي اللون يشبه الريش أو الذيول.
قالت لفيليب: «يطلق على هذا شعير؛ ذاك الشيء الذهبي المذيل.»
فقال: «أعلم.»
استرسلت قائلة: «أحيانا يطلق على هذه الذيول ذقونا.» ثم بدأت تلقي كلمات شعرية: «والحاصدون؛ الحاصدون مبكرا، عبر حقول الشعير ذات الذقون ...»
قالت ديزي: «ما معنى شعير؟»
قال فيليب: «شعير.»
حاولت إيف تذكر كلمات القصيدة: «وحدهم الحاصدون؛ الحاصدون مبكرا ... عدا الحاصدين؛ الحاصدين مبكرا ...» بدت «عدا» لها أفضل من «وحدهم». عدا الحاصدين. •••
ابتاعت صوفي وإيان الذرة من بائع يقف على جانب الطريق ليتناولوها على العشاء. تغيرت الخطة؛ سيبيتون الليل في المنزل مع أمها ولن يرحلا إلا بحلول الصباح. كذلك ابتاعوا قنينة جن وبعض التونيك والليمون. أعد إيان المشروبات بينما قشرت إيف وصوفي الذرة، وقالت إيف: «عشرون كوز ذرة؟ هذا جنون.»
قالت صوفي: «انتظري وشاهدي ما سيحدث؛ فإيان يعشق الذرة.»
انحنى إيان وهو يقدم الشراب لإيف، فقالت له بعد أن تذوقته: «شراب طيب المذاق؛ رائع.»
لم يشبه إيان كثيرا الصورة التي تذكرتها إيف أو كانت في مخيلتها عنه؛ فلم يكن طويلا وما كان يشبه التيوتونيين، وكذلك لم يكن خفيف الظل. كان نحيفا أشقر متوسط الطول سريع الحركة حلو المعشر. ومنذ أن جاء، بدت صوفي أقل ثقة بنفسها وأكثر ترددا في كل ما تقول وتفعل، لكنها بدت أسعد.
روت إيف قصتها؛ بدأت بلوح الداما الموجود على الشاطئ، والنزل الذي اختفى، ورحلاتها الريفية. بعدها انتقلت إلى أزياء أمها التي تشبه أزياء أهل المدن وفساتينها ذات الأقمشة الرقيقة وقمصانها الداخلية التي تتماشى معها، لكنها لم تحك عن ملابسها باشمئزازها القديم. ثم تكلمت عن الأشياء التي كانوا يذهبون إلى الريف لمشاهدتها؛ حديقة التفاح ذات الأشجار المتناهية في القصر، ورف الدمى القديمة، والصور البديعة المؤلفة من الزجاج الملون.
قالت إيف: «تبدو شبيهة برسوم شاجال؟»
قال إيان: «نعم، حتى نحن الجغرافيين المدنيين نعرف شاجال.»
قالت إيف في خجل: «آسفة.» ثم ضحكا كلاهما.
استكملت حديثها لهما، فحكت عن أعمدة البوابات والذكريات المفاجئة والحارة المظلمة والحظيرة المتهدمة والماكينات الصدئة ومنزل الخرائب.
قالت إيف: «كان مالك البيت في الغرفة أيضا يلعب الورق مع أصدقائه، ولم يكن يعرف أي شيء عما أسأل. لم يعرف أو لم يبال. وكلما تذكرت أقول لنفسي: يا إلهي، مرت قرابة الستين عاما على وجودي في المكان الذي أستفسر عنه!»
قالت صوفي: «كم هو أمر محرج يا أمي!» وبدت في غاية الارتياح للتفاهم الذي استشعرته بين إيان وإيف.
وأضافت: «هل أنت متأكدة أنه المكان الذي قصدته؟»
قالت إيف وكررت: «ربما لا.»
لم تذكر لهما الأجزاء التي رأتها من السور خلف الشجيرات؛ وما الجدوى؟ فقد تراءى لها أنه من الأفضل ألا تأتي على ذكر كثير من الأشياء: مثلا اللعبة التي جعلت فيليب يلعبها، وجعلته يتحمس بشكل مبالغ فيه. وكذلك كل شيء تقريبا يتعلق بهارولد ورفاقه، وكل شيء مهما صغر عن تلك الفتاة التي قفزت داخل السيارة.
هناك أناس يتحلون دوما بالتهذيب والتفاؤل، ويلطفون أي أجواء يوجدون فيها، ولا يمكنك أن تقول مثل هذه الأشياء لأناس مثل هؤلاء؛ لأنها قد تفسد تلك الأجواء اللطيفة. اندهشت إيف لاكتشاف أن إيان من أولئك الناس - بالرغم من دماثته اللحظية معها - وأن صوفي هي التي تشكر أقدارها السعيدة التي جمعتها به. في الماضي، كان من المعتاد أن يطلب كبار السن منك الحماية، لكن بدأ الآن أناس أصغر سنا يطلبونها، وكان على شخص مثل إيف كبت شعورها وعدم إظهار كم هي عالقة بين هذا وذاك؛ فحياتها بأكملها عرضة لأن توصم بالتخبط والخطأ الجسيم.
كان بإمكانها ذكر أن رائحة المنزل كانت نتنة أو أن مالكه ورفاقه بدوا في قمة السكر والعربدة، لكنها ما كانت لتقول إن هارولد كان عاريا، وبالطبع ما كانت لتذكر خوفها، وقطعا ما أثار خوفها.
تولى فيليب مسئولية جمع قشور الذرة وحملها لإلقائها بطول حدود الحقل. وبين الحين والآخر، كانت ديزي تلتقط قليلا منها لتوزعها حول المنزل. لم يضف فيليب شيئا لرواية إيف، ولم يبد مهتما بالرواية من الأساس، لكن ما إن أنهت إيف رواية قصتها، وسألها إيان (الذي اهتم بربط هذه النوادر المحلية بمجال دراسته المهنية) عن معلوماتها حول انهيار الأنماط القديمة للحياة القروية والريفية، وانتشار ما يسمى بالأعمال التجارية الزراعية، حتى نظر فيليب لأعلى متوقفا عن جمع القشور منحنيا وزاحفا حول أقدام الكبار ورفع عينيه إلى إيف. نظر إليها نظرة خاوية في لحظة تآمر أجوف، وابتسم ابتسامة دفينة تلاشت قبل أن يلاحظها أحد.
ماذا يعني هذا؟ لا يعني سوى أنه بدأ تخزين الأحداث وكتمان الأسرار، وقرر من تلقاء نفسه ما يجب حفظه في طي النسيان وكيفية حفظه، وماذا ستعني له هذه الأمور فيما بعد، في مستقبله المجهول. •••
إذا حضرت الفتاة لتبحث عنها، فسيكون الجميع حاضرا - فهم لن يرحلوا ليلا - وحينها لن يجدي حرص إيف.
ولكن ما كانت الفتاة لتأتي؛ فلسوف تعرض عليها فرص أفضل قبل أن تمر عشر دقائق على وقفتها على الطريق السريع. ولربما تسنح لها فرص أكثر خطرا لكنها أكثر إثارة للاهتمام، بل والأرجح أكثر ربحا.
ما كانت لتأتي، إلا إذا التقت شابا طائشا متشردا بلا مأوى عديم الشفقة في مثل عمرها (وحينها كانت ستقول له: أعرف مكانا يمكن أن نقيم فيه إذا ما استطعنا التخلص من المرأة العجوز).
ليس الليلة؛ ولكن الليلة التالية، سوف تستلقي إيف في هذا البيت الخاوي بين جدرانه العريضة تتجهز لتخفيف عبء نفسها والتحرر من التفكير في أي عواقب، ومن أي فكرة تدور في ذهنها، خلا حفيف عيدان الذرة الطويلة التي ربما ستتوقف عن النمو لكنها ستواصل إصدار تلك الضوضاء النابضة بالحياة بعد أن يسدل الليل ستائره عليها.
ستبقى الطفلتان
منذ ثلاثين عاما، كانت هناك عائلة تقضي إجازة على الساحل الشرقي لجزيرة فانكوفر؛ هذه العائلة تتكون من أب وأم وابنتيهما الصغيرتين وزوجين أكبر سنا؛ هما والدا الزوج.
كم كان الجو بديعا! في كل صباح - في هذا الطقس الجميل - ينفذ أول ضوء ذهبي للشمس من بين أغصان الأشجار العالية مبددا الضباب الذي يتكاثف فوق مياه مضيق جورجيا الراكدة. انحسر المد - في ذلك الوقت من العام - تاركا وراءه مساحة هائلة من الرمال الخاوية التي ما زالت مبللة بالرغم من سهولة السير عليها وكأنها طبقة من الأسمنت في آخر مراحل جفافه. الواقع أن المد لم يتراجع كثيرا؛ فكل صباح تتقلص مساحة الرمال لكنها ما زالت تبدو شاسعة. كان الجد مهتما للغاية بمسألة تغير المد، ولم يبد أن أي أحد آخر شاركه هذا الاهتمام.
بولين، الأم الشابة، لم تكن في الحقيقة تحب الشاطئ كما كانت تحب ذلك الطريق الذي يمتد شمالا خلف الأكواخ مسافة ميل أو نحو ذلك ليتوقف عند ضفة النهر الصغير الذي يصب في البحر.
لولا المد، لكان من الصعب تذكر أن هذا هو البحر؛ فالناظر عبر الماء يستطيع أن يرى سلاسل الجبال الواقعة على الضفة الأخرى؛ وهي تمثل الحدود الغربية لقارة أمريكا الشمالية. لمحت بولين من بين الأشجار هذه المرتفعات والقمم التي تبرز من بين الضباب بينما كانت تدفع أمامها عربة طفلتها على الطريق. وتلك الجبال أيضا كانت تثير اهتمام الجد، وكذلك ابنه براين - زوج بولين - فقد كان الرجلان يحاولان باستمرار تحديد أي من هذه المعالم هو بالفعل جبل قاري، وأيها مرتفع عارض على الجزيرة بارز على الشاطئ. من المتعذر تحديد هذه الأمور مع تداخل عدد هائل منها بعضها مع بعض، وكذلك لأن ضوء النهار المتغير يؤثر على رؤيتها من حيث القرب والبعد.
لكن هناك خريطة معلقة أسفل مرآة بين الأكواخ والشاطئ، ويمكن للمرء أن ينظر إلى الخريطة ثم يرفع عينيه إلى المرآة ليرى ما أمامه، ثم يعيد النظر إلى الخريطة مرة أخرى حتى يتمكن من تبين ما يراه. لا يزال الجد وبراين يفعلان ذلك كل يوم، وغالبا ما يدفعهما هذا إلى الجدال؛ مع أنه لا داعي للجدال مع وجود الخريطة بين أيديهما. يرى براين أن الخريطة غير دقيقة، في حين لا يقبل أبوه أي نقد لأي شيء في هذا المكان الذي اختاره لقضاء الإجازة؛ فالخريطة والسكن والطقس كلها أمور مثالية من وجهة نظره.
أما أم براين، فما كانت لتنظر إلى الخريطة، قائلة إنها تربكها، وهو ما يضحك الرجلين منها؛ لأنهما يريانها بالفعل دوما مرتبكة. والسبب كما يراه زوجها أنها أنثى، بينما يرى براين أن السبب وراء ارتباكها هو أنها أمه. فهي لا تهتم إلا بالسؤال عما إذا كان أحدهم جوعان أو عطشان، وهل ارتدت الصغيرتان قبعتيهما للوقاية من الشمس، وهل دهنتا مستحضرات الحماية منها، وعن تلك العضة الغريبة على ذراع كيتلن التي لا تبدو كلدغة بعوضة. كما أنها - في هذه الإجازة - أرغمت زوجها على أن يرتدي قبعة كبيرة من القطن تغطي وجهه، وكانت ترى أن براين يجب أن يرتدي قبعة مثلها، مذكرة إياه بإصابته بضربة الشمس في ذاك الصيف الذي قضوه في أوكاناجان عندما كان طفلا. وأحيانا يقول براين لأمه بنبرة يغلب عليها الانفعال: «فلتهدئي يا أمي؛ كفي عن الثرثرة.» لكن أباه يوبخه على تلك الطريقة غير المناسبة التي يخاطب بها أمه هذه الأيام.
فيقول براين: «إنها لا تمانع.»
ويرد أبوه: «أنى لك أن تعرف؟»
فتقول أمه: «أوه، يا إلهي.» •••
في كل صباح، ما إن تستيقظ بولين حتى تنهض من الفراش مبتعدة عن ذراعي وساقي براين، الطويلة الكثيرة الحركة أثناء النوم. تستيقظ على أول ما تصدره طفلتها الرضيعة مارا من همهمة وصراخ متقطع في غرفة الأطفال، ثم على صوت صرير مهدها - هي الآن في شهرها السادس عشر وعلى وشك الانتهاء من فترة الرضاعة - بينما تشد جسدها لأعلى محاولة الوقوف متعلقة بحافة المهد. وتواصل الرضيعة همهمتها اللطيفة الناعمة بينما ترفعها بولين خارج المهد لتذهب بها إلى المطبخ كي تغير حفاضتها على الأرض، في حين تتحرك كيتلن التي دنت من الخامسة من عمرها في فراشها المجاور دون أن تفيق من نومها. بعد ذلك، توضع مارا في عربتها ومعها قطعة من البسكويت وزجاجة من عصير التفاح، في حين ترتدي بولين ثوبها عاري الذراعين المناسب للطقس الحار وتنتعل صندلها، ثم تدلف إلى دورة المياه لتمشط شعرها، بقدر ما تستطيع من سرعة وهدوء. وبعدها، تخرجان من الكوخ متجاوزتين بعض الأكواخ الأخرى لتسيرا على الطريق الوعر غير الممهد الذي لا يزال يخيم على معظمه الظل الصباحي، ليبدو كأرضية نفق تظلل عليها أشجار الأرز والتنوب.
كذلك يعتاد الجد أن يفيق مبكرا، فيراهما من شرفة كوخه، وتراه بولين بالمثل فتلوح له بيدها فحسب. فما من كلام كثير بينهما ليتبادلا أطرافه (مع أنهما في بعض الأحيان يشعران ببعض من التآلف الروحي حين يقوم براين ببعض تصرفاته الغريبة لوقت طويل أو تصدر الجدة بعض الجلبة التي تأسف لها لكن - في الوقت نفسه - تصر عليها؛ وحينها يحرص كلاهما على ألا ينظر أحدهما للآخر حتى لا تشي نظراتهما باستياء قد يسيء للآخرين).
في هذه الإجازة، اختلست بولين وقتا لنفسها؛ ولا يختلف قضاء الوقت مع مارا كثيرا عن قضائه بمفردها؛ فتتنزه في الصباح الباكر، ثم تختلي بنفسها في ساعة متأخرة من الصباح لغسل الحفاضات وتعليقها على الحبال لتجف. وقد تستطيع أن تقتنص ساعة أخرى أو نحو الساعة بعد الظهيرة، حين تغفو مارا. لكن براين أقام مظلة على الشاطئ وكان يحمل سرير اللعب إليها كل يوم حتى تغفو مارا ولا تضطر بولين أن تغيب عنهم؛ إذ يقول إن والديه قد يشعران بإهانة إذا ما تسللت مبتعدة عنهما كل يوم. لكنه مع هذا يرى أنها تحتاج وقتا تراجع فيه دورها في المسرحية التي ستمثلها في سبتمبر المقبل حين يعودون إلى فيكتوريا.
بولين ليست ممثلة، وليس هذا إلا عرضا للهواة مع أنها ليست حتى ممثلة هاوية، كذلك فإنها لم تختبر لأداء هذا الدور، لكن تصادف أنها كانت قد قرأت المسرحية بالفعل. إنها مسرحية «يوريديس» لجان أنويه. وفيما بعد قرأت بولين كل ما يخطر ببال.
تلقت بولين عرضا للاشتراك في هذه المسرحية من رجل كانت قد التقته في يونيو الماضي في حفل شواء. وكان معظم من حضروا الحفل معلمين، ومعهم زوجاتهم أو أزواجهن؛ إذ كان مقاما في بيت ناظر المدرسة التي يعمل بها براين. أتت مدرسة اللغة الفرنسية الأرملة بصحبة ابنها البالغ الذي كان يقيم معها خلال الصيف ويعمل موظفا ليليا في فندق بوسط البلدة. أخبرت الحضور أن ابنها قد حاز وظيفة ليدرس في جامعة بولاية واشنطن الغربية، وأنه سوف يسافر إلى هناك في الخريف.
اسمه جيفري توم، وقال بخصوص اسمه: «توم وليس توم»، وكأنه لا يحتمل أي مزاح بشأن اسمه الذي يختلف عن اسم أمه؛ لأنها ترملت مرتين، وكان هو ابن زوجها الأول. تحدث عن وظيفته قائلا: «لا ضمان أن تلك الوظيفة ستدوم، فالتعاقد محدد بعام واحد.»
ماذا سيدرس؟
قال: «دراما» ماطا شفتيه بأسلوب ساخر.
وتحدث أيضا عن وظيفته الحالية بأسلوب لا يقل استخفافا.
قال: «إنه مكان موحش؛ ربما تكونون قد سمعتم عن غانية قتلت هناك الشتاء الماضي. كذلك فإنه يعج بالبؤساء المعتادين الذين يلتحقون بالدراسة فيه ليفرطوا في تعاطي المخدرات أو يقتلوا أنفسهم.»
لم يجد الناس أي فائدة مما يقول ولذا انصرفوا عنه، فيما عدا بولين.
قال لها: «إنني أفكر في إنتاج مسرحية، هل تحبين أن تشاركي في تمثيلها؟» وسألها عما إذا كانت قد سمعت عن مسرحية تسمى «يوريديس».
ردت عليه بولين: «تعني المسرحية التي ألفها أنويه؟» الأمر الذي أثار دهشته دون تملق أو مجاملة. وعلى الفور قال إنه لا يعرف إذا كانت هذه المسرحية ستنجح، مستطردا: «كل ما هنالك أنني رأيت أنه من الشائق أن أفعل شيئا مختلفا هنا في بلاد نويل كوارد.»
لم تتذكر بولين متى عرضت مسرحية لنويل كوارد في فيكتوريا، لكنها افترضت أن هذا قد حدث عدة مرات، وقالت: «الشتاء الماضي شاهدنا مسرحية «دوقة مالفي» حين عرضت في الجامعة. كما عرضت على المسرح الصغير مسرحية «رنين مدو» لكننا لم نحضر عرضها.»
قال وقد تورد وجهه: «نعم، حسنا.» ظنت بولين أنه يكبرها سنا، على الأقل في سن براين (الذي كان في الثلاثين من عمره، مع أن الناس يقولون له كثيرا إنه لا يتصرف بما يتناسب مع سنه)، لكنه ما إن بدأ يكلمها بأسلوبه المرتجل المستخف متحاشيا النظر إلى عينيها، حتى شكت أنه أصغر مما يبدو عليه. أما الآن، بعد أن تخضب وجهه بهذه الحمرة، فقد صارت متيقنة من هذا.
اتضح بعدها أنه يصغرها بعام واحد؛ فقد كان في الخامسة والعشرين من عمره.
قالت إنها لا تستطيع أن تكون يوريديس؛ لأنها لا تستطيع التمثيل، لكن في تلك اللحظة أتى براين ليستعلم عن موضوع هذا الحديث، ثم قال لها إنه عليها أن تجرب الأمر.
قال براين لجيفري: «إنها في حاجة لدفعة، لا شيء سوى ذلك؛ فهي عنيدة جدا ومن الصعب حثها على فعل شيء. كذلك هي لا تحب لفت الأنظار إلى نفسها، وأنا لا أفتأ أخبرها بذلك طوال الوقت. لكنها ذكية، بل هي في الواقع أذكى مني بكثير.»
حينها نظر جيفري مباشرة في عيني بولين بجرأة وكأنه يحاول أن يتقصى عما بداخلها، فكانت هي من تورد وجهها هذه المرة.
انتقاها جيفري على الفور لتمثل دور يوريديس بسبب مظهرها، وليس لأنها جميلة؛ إذ قال: «ما كنت لأعطي الدور لفتاة جميلة، لا أعتقد أنني قد أعطي أي دور مسرحي لفتاة جميلة، فستكون مبالغة كبيرة تشتت انتباه الجمهور.»
إذن، ماذا كان يعني بمظهرها؟ قال إنه يعني شعرها الطويل الغامق الكثيف (الذي لم يكن الموضة السائدة تلك الأيام) وبشرتها الشاحبة (ما دفعه إلى أن يقول لها حفاظا عليها: «ابتعدي عن الشمس خلال هذا الصيف») وعلى وجه الخصوص حاجبيها.
قالت بولين كذبا: «لم يعجباني قط.» كان لها حاجبان متساويان غامقان وكثيفان يغلبان على وجهها، لكنهما - مثل شعرها - لم يتفقا والموضة السائدة. لكن إذا لم تكن بالفعل معجبة بهما، فلم لم تشذبهما؟
لم يبد أن جيفري قد سمعها؛ إذ قال: «إنهما يكسبانك مظهرا متجهما، وهو أمر يثير انفعال الجمهور، كما أن فكك عريض، وهو ما يجعلك أقرب إلى الإغريق. لعله من الأفضل تمثيل الأسطورة في فيلم سينمائي؛ إذ سيتسنى لي حينها أن آخذ لك لقطة قريبة؛ فمن المعتاد أن يكون ليوريديس مظهر ملائكي، وأنا لا أريد هذا المظهر.»
أخذت بولين تراجع دورها بينما تمشي مع مارا على طول الطريق. كان دورها يتضمن في نهايته بعض السطور التي تقلقها؛ ولذا دفعت العربة أمامها مكررة إياها: «إنك رائع، تعلم هذا، إنك في روعة الملائكة. أتظن أن كل من يمشي للأمام في شجاعتك وروعتك ... أوه، لا تنظر إلي يا حبيبي، رجاء، لا تنظر إلي ... ربما لست ما تمنيت أن أكون عليه، لكنني هنا؛ دافئة، وطيبة، وأحبك. وسأمنحك السعادة على قدر استطاعتي. ولكن لا تنظر إلي. لا تنظر. دعني أعش.»
سقطت منها بعض الكلمات سهوا: «ربما لست ما تمنيت أن أكون عليه، لكنك تشعر بي هنا، أليس كذلك؟ دافئة، وطيبة ...»
قالت لجيفري إن المسرحية رائعة.
فسألها: «حقا؟» لم يسره ما قالت ولم يفاجئه، ويبدو أنه شعر أنه رأي متوقع وعديم الأهمية. لم يكن ليصف أي مسرحية بهذا الوصف، فقد كان يتحدث عنها وكأنها عقبة عليه أن يتجاوزها، أو تحد عليه أن يخوضه للانتصار على أعداء متعددين؛ أعداء على غرار المتعجرفين الأكاديميين - كما يسميهم - الذين عرضوا مسرحية «دوقة مالفي»، وأيضا على غرار الأغبياء الاجتماعيين - كما يسميهم - ممثلي المسرح الصغير. كان يرى نفسه دخيلا يفرض سيطرته على أولئك الأعداء، بتمثيل مسرحيته - كان يسميها مسرحيته - بالرغم من مقتهم ومعارضتهم. في البداية، ظنت بولين أن كل هذا يدور في مخيلته، وأن الأرجح أن هؤلاء الناس لا يعرفون شيئا عنه. ثم حدث أمر ما، قد يكون - لكنه قد لا يكون - مصادفة. كان لا بد من إجراء إصلاحات في قاعة الكنيسة التي ستعرض بها المسرحية، وهو ما جعل عرضها غير ممكن. وكذلك كانت هناك زيادة غير متوقعة في تكلفة طبع الملصقات الدعائية. فوجدت بولين نفسها تنظر للأمر من منظوره؛ فمن يقترب منه وقتا طويلا لا بد أن يرى الأمور من منظوره؛ فالجدال معه خطير ومرهق.
قال جيفري كازا على أسنانه، وإن كان بقليل من الرضا: «الأوغاد. لا أستغرب ما حدث.»
كانت بروفات المسرحية تتم في أحد الأدوار العليا بمبنى قديم بشارع فيسجارد. كان عصر يوم الأحد هو الوقت الوحيد الذي يجتمع فيه الجميع، لكن كانت هناك بروفات جزئية تقام على مدار الأسبوع. كان مرشد السفن المتقاعد الذي يؤدي دور السيد هنري قادرا على حضور جميع البروفات، وكان يثير أعصاب البقية بمعرفته أدوارهم جميعا. لكن مصففة الشعر - التي لم تكن لها أي خبرة إلا بأعمال جيلبرت وسوليفان لكنها الآن وجدت نفسها تؤدي دور أم يوريديس - لم تستطع ترك صالونها فترة طويلة في أي وقت آخر سوى عصر الأحد. وكذلك، كان سائق الحافلة الذي يؤدي دور حبيبها يشتغل بوظيفة يومية، مثله مثل النادل الذي يؤدي دور أورفيوس (وكان الوحيد الذي يأمل بينهم في أن يصبح ممثلا حقيقيا). أما بولين، فقد كانت تضطر أحيانا لأن تعتمد على جليسات أطفال في المرحلة الثانوية لا يعتمد عليهن؛ لأن براين خلال الأسابيع الستة الأولى من الصيف كان منشغلا بالتدريس في المدرسة الصيفية. وكذلك جيفري نفسه كان يتعين عليه أن يوجد في عمله بالفندق بحلول الثامنة مساء. لكن في عصر يوم الأحد، كانوا يوجدون جميعا. وبينما كان غيرهم في الوقت نفسه يسبحون في بحيرة ثيتيس، أو يمشون في منتزه بيكون هيل بارك تحت الأشجار ويطعمون البط، أو يذهبون بسياراتهم خارج البلدة إلى شواطئ المحيط الهادئ، كان جيفري وفريقه يكدحون في غرفة مغبرة ذات سقف عال في شارع فيسجارد. كانت نوافذها مقنطرة، كنوافذ بعض الكنائس البسيطة العريقة، وكانت تفتح في الجو الحار، وتسند بأي غرض يجده أعضاء الفريق أمامهم؛ مثل سجلات حسابات تعود إلى عشرينيات القرن العشرين وتخص متجر قبعات كان مفتوحا في السابق في الطابق السفلي، أو قطع من الخشب متخلفة عن إطارات لوحة زيتية رسمها فنانون على القماش وقد أضحت مكدسة الآن ومهملة عند أحد الجدران. وكان الزجاج متسخا لكن في الخارج انعكس ضوء الشمس على الأرصفة وأماكن ركن السيارات المفترشة بالحصى والمباني الجصية الخفيضة، فيما بدا بريقا خاصا بيوم الأحد. ولم يكد يمر أحد في شوارع وسط المدينة، ولم تكن هناك محال مفتوحة عدا المقهى - أحيانا - محدود المساحة، ومحل البقالة الذي يستعمره الذباب.
كانت بولين هي التي تذهب في الاستراحة لتبتاع المشروبات غير الكحولية والقهوة، وكانت هي أقلهم كلاما عن المسرحية وعن كيفية سيرها - مع أنها الوحيدة التي قرأتها من قبل - وذلك لأنها الوحيدة التي لم تمارس التمثيل من قبل؛ لذا فقد بدا الأفضل لها أن تتطوع لهذا الأمر، وكانت تستمتع بالتمشية القصيرة في الطرقات الخالية؛ وكانت تشعر في تلك الأوقات أنها قد أصبحت شخصا حضريا يعيش في عزلة عن الآخرين وإن سلطت عليه الأضواء في حلم عظيم. أحيانا كانت تفكر في براين وهو يعمل في الحديقة ويراقب الأطفال في المنزل. أو ربما يكون قد أخذهم إلى طريق دالاس؛ إذ وعدهم ذات مرة بأن يتنزهوا بمركب في البركة. بدت لها هذه الحياة مزرية ومملة بالمقارنة بما يحدث في بروفات المسرحية؛ تلك الساعات التي يقضونها في العمل والتركيز والأحاديث الحادة والعرق والتوتر، بل وحتى مذاق القهوة الساخنة المر التي اختارها الجميع وفضلوها على المشروبات الأشهى، غير أنها كانت تفضل المشروبات الباردة الأكثر حفاظا على الصحة. كذلك كانت تحب نوافذ العرض في المتاجر المجاورة. لم يكن الشارع الذي ترتاده للوصول إلى قاعة البروفات واحدا من الشوارع المبهرجة التي تقع قرب الميناء؛ فقد كان يعج بمحال إصلاح الأحذية والدراجات، ومتاجر الأصواف والأقمشة زهيدة الثمن، ومعارض الملابس والأثاث التي ظلت في نوافذ العرض حتى بدت مستعملة، وإن لم تكن كذلك. كذلك كانت بعض نوافذ العرض مغطاة من الداخل بطبقة من البلاستك الرقيق المجعد الذهبي اللون - الشبيه بالسلوفان - لحماية البضاعة المعروضة من أشعة الشمس. غير أن كل هذه المتاجر والمحال كانت تغلق أبوابها في هذا اليوم، الأحد، وإن بدت كما هي - لا تتأثر بتغيير الأيام - كرسوم على جدران الكهوف أو آثار مكتشفة تحت كثبان الرمال. •••
عندما قالت إنها مضطرة أن تتغيب عن البروفات في إجازة لمدة أسبوعين، صعق جيفري - وكأنه لم يتخيل يوما أن حياتها قد تتخللها الإجازات - ثم بدأ يتعامل مع الفريق بجدية وقليل من السخرية؛ وكأن هذه ضربة أخرى كان ينبغي له توقعها. غير أن بولين أوضحت له أنها لن تتغيب عن البروفات سوى يوم واحد - ذاك الأحد الذي يتوسط الأسبوعين - لأنها وبراين سيذهبان بالسيارة إلى الجزيرة يوم الإثنين ثم يعودان صباح يوم الأحد الذي يليه، وقطعت على نفسها عهدا أن تعود في الميعاد المحدد المزمع إقامة البروفة فيه. لكنها تساءلت فيما بينها كيف يمكنها الوفاء بذلك العهد؛ فدائما ما يستغرق الأمر أكثر من المتوقع لحزم الحقائب ومغادرة المكان، وتساءلت أيضا إن كان يمكنها العودة بمفردها، مستقلة الحافلة التي تغادر في الصباح. ولكن قد يكون هذا الطلب مبالغا فيه؛ لهذا لم تذكره لعائلتها.
ما استطاعت أن تسأله هو هل المسرحية هي جل ما يفكر فيه؟ هل مجرد غيابها عن البروفة هو السبب وراء هذه الزوبعة؟ في هذه المرحلة، كان ذلك هو الأقرب إلى الحقيقة؛ فعندما كان يتحدث إليها خلال البروفات، لم يكن هناك أي إشارة إلى أنه يتحدث معها بطريقة تشي بغير ذلك. والاختلاف الوحيد في معاملته إياها مقارنة بالفريق كان انخفاض سقف توقعاته منها ومن أدائها التمثيلي عما يتوقع من الآخرين. وكان هذا أمرا مفهوما للجميع. لقد كانت هي الوحيدة التي اختيرت فجأة لأجل مظهرها، أما الآخرون فقد تقدموا لاختبار أداء بعد أن قرءوا اللافتات الإعلانية التي علقها في المقاهي والمكتبات المنتشرة في أرجاء المدينة. كان يتوقع منها الجمود والارتباك الذي لم يرده من بقيتهم؛ ربما لأنها في أجزاء لاحقة من المسرحية من المفترض أن تمثل دور امرأة قد ماتت بالفعل.
لكنها ظنت أنهم جميعا يعرفون؛ بقية الممثلين كلهم يعرفون ما يجري بالرغم من أساليب جيفري الفظة غير المتوقعة التي لا تتميز بكثير من التحضر. كانوا يعرفون أنه بعد أن يذهب كل منهم لحال سبيله، يمشي عبر الغرفة ويغلق رتاج الباب المؤدي إلى الدرج (في البداية كانت بولين تتظاهر بأنها تغادر مع بقية الممثلين، بل إنها كانت تستقل سيارتها وتدور حول الحي، لكن فيما بعد صارت هذه الحيلة مهينة؛ ليس لنفسها ولجيفري فقط، بل أيضا للآخرين الذين كانت تثق أنهم لن يغدروا بها؛ لأنهم جميعا - مثلها - يقعون تحت تأثير السحر المسرحي القوي مع أنه مؤقت).
يمشي جيفري عبر الغرفة ويغلق رتاج الباب؛ وفي كل مرة يبدو الأمر كقرار جديد لا بد أن يتخذه، وحتى ينتهي مما خطط له، ما كانت لتنظر إليه. صوت الرتاج وهو يندفع في فجوته اندفاعا - ذاك الصوت المشئوم الحتمي لمعدن يضرب معدنا - كان يبث في نفسها صدمة مركزة تدفعها للاستسلام. ما كانت لتتحرك في ذلك الحين، وما كان منها سوى أن تنتظر ليعود إليها بعد أن تزول عن وجهه تعبيرات العناء والجهد والإحباط المعتاد والطبيعي. كل ذلك يتلاشى وتحل محله طاقة مفعمة بالحيوية طالما أدهشتها. •••
تساءل والد براين: «أخبرينا عما تدور حوله هذه المسرحية؛ أهي واحدة من تلك المسرحيات التي يخلع فيها الممثلون ثيابهم على خشبة المسرح؟»
قالت أم براين: «لا تضايقها.»
قبل ذلك الحوار، كان براين وبولين قد وضعا صغيرتيهما في الفراش وتمشيا لكوخ الوالدين كي يحتسيا معهما مشروبا. سارا ومن خلفهما شمس المغيب تفارق السماء أمام غابات جزيرة فانكوفر، وأمام أعينهم الجبال وقد بدت شديدة الوضوح في سماء مضيئة بلون وردي؛ انعكس عليها من قمم بعض الجبال الشاهقة - التي تقع داخل البلاد - وتوجت قممها بثلوج صيفية وردية اللون.
قال براين بصوته التعليمي الجهور: «لا أحد يخلع ثيابه يا أبي، أتدري لماذا؟ لأنهم لا يرتدون أي ثياب في الأساس؛ أحدث صيحات العصر. وبعد هذه المسرحية سيؤدون مسرحية «هاملت» عراة، ثم «روميو وجولييت» عراة. يا إلهي! مشهد الشرفة حين يتسلق روميو التعريشة فيعلق في شجيرات الورد ...»
قالت أمه: «أوه، براين.»
قالت بولين: «تحكي قصة أورفيوس ويوريديس أن يوريديس ماتت، فذهب أورفيوس إلى العالم السفلي محاولا استعادتها مرة أخرى. وهناك أجيب طلبه بشرط واحد؛ هو أن يعد ألا ينظر إليها، ألا ينظر للخلف لرؤيتها. وكانت هي تمشي وراءه ...»
قاطعها براين: «باثنتي عشرة خطوة بالتمام والكمال.»
قالت بولين: «إنها قصة إغريقية عدلت لتناسب العصر الحديث، على الأقل هذه النسخة؛ فهي حديثة إلى حد ما. فأورفيوس موسيقي رحال مع والده - وكلاهما موسيقيان - ويوريديس ممثلة، والقصة تدور أحداثها في فرنسا.»
قال والد براين: «أهي مترجمة؟»
قال براين: «لا، لكن لا تقلق فهي ليست باللغة الفرنسية، إنها مكتوبة بالرومانية.»
قالت أم براين وهي تضحك ضحكة يشوبها القلق: «من الصعب أن يفهم المرء أي شيء حين يكون براين موجودا.»
قالت بولين: «إنها بالإنجليزية.» «وأنت تؤدين دور من؟»
قالت: «يوريديس.» «وهل سيستعيدك بسلام؟»
قالت: «كلا، سينظر إلي؛ ولذا سأظل في عداد الموتى.»
قالت أم براين: «أوه، نهاية غير سعيدة.»
قال والد براين متشككا: «وهل أنت رائعة الجمال حتى لا يستطيع أن يمنع نفسه من النظر إلى الخلف؟»
قالت بولين : «الأمر ليس كذلك.» لكنها أحست أن حماها حقق شيئا ما كان يريده - وطالما أراده في كل مرة جرى بينهما حوار - ألا وهو معرفة تفاصيل أمر ما طلبه منها، ومع أنها تلبي طلبه بطول أناة - وإن كان على مضض - يستخف هو بتفاصيلها ويسفهها بتجاهل ظاهري. فمنذ وقت طويل، كان الحمو يمثل لها خطرا يهددها على هذا النحو، لكن الأمر اختلف هذه الليلة.
أما براين، فلم يكن يعرف شيئا عن ذلك، لكنه ما زال يحاول العثور على مخرج يمكن إنقاذها منه.
قال براين: «بولين فاتنة.»
قالت أمه: «نعم بالفعل.»
فرد أبوه: «ربما، إن ذهبت لمصفف الشعر.» إذ كان شعر بولين الطويل يثير اعتراضه منذ زمن؛ حتى إنه تحول لموضوع دعابة تتندر به العائلة. وحتى بولين ضحكت حينها قائلة: «لا أستطيع تحمل نفقة الذهاب لمصفف الشعر حتى نصلح سقف شرفتنا.» وكذلك ضحك براين ضحكة صاخبة ملؤها الشعور بالارتياح لتقبلها القول على سبيل الدعابة؛ فقد كان دائما يحثها على هذا.
كان يقول لها: «ردي عليه مزاحه؛ هذه هي الطريقة الوحيدة للتعامل معه.»
قال الأب: «نعم معك حق، لكن إن اشتريتما منزلا مناسبا تعيشان فيه.» لكن المنزل لا يختلف شيئا عن شعر بولين من حيث كونه نقطة حساسة اعتاد إثارتها ولا يمكن أن تضايق أحدا. كان براين وبولين قد ابتاعا منزلا جميلا - وإن كانت إصلاحاته غير مجدية - في أحد شوارع فيكتوريا التي بدأت قصورها القديمة تتحول إلى مبان مقسمة إلى شقق يسيء السكان استخدامها. فكان ذاك المنزل، والشارع الكائن فيه، وأشجار البلوط القديمة المزروعة بعشوائية في المكان - وكذلك عدم اشتمال المنزل على قبو أسفله - من الأشياء التي أثارت سخط والد براين. وعادة ما كان براين يوافق والده، بل ويحاول أن يزيد من هذا الشعور؛ فإذا أشار والده إلى البيت المجاور - الذي يتقاطع أمامه سلم الطوارئ بلونه الأسود - وسأل عن طبيعة الجيران الذين يسكنون هذا البيت، يقول براين: «مساكين للغاية يا أبي؛ يدمنون المخدرات.» وعندما يسأله أبوه عن كيفية تدفئة هذا المنزل، يقول: «بمدافئ الفحم؛ لم يتبق منها الكثير هذه الأيام. ومع أن الفحم ثمنه بخس، فإنه بالطبع قذر كريه الرائحة.»
لهذا، كان ما قاله أبوه الآن عن المنزل المناسب بادرة سلام؛ أو يمكن اعتباره كذلك.
كان براين ابنا وحيدا، يعمل مدرسا للرياضيات، أما أبوه فهو مهندس مدني وشريك في شركة مقاولات؛ ولم يذكر قط أنه تمنى يوما لو أن له ابنا مهندسا يعمل معه في الشركة. وبخصوص ذلك، سألت بولين زوجها عما إذا كان يظن أن انتقاد أبيه لمنزلهما وشعرها والكتب التي تقرؤها قد يكون للتغطية على خيبة أمله الكبرى - أن ابنه ليس مهندسا يشاركه العمل في الشركة - لكن براين قال لها: «كلا، في عائلتي نشكو مما نريد أن نشكو منه، فنحن لا نتميز باللباقة يا سيدتي.»
لكن هذا التساؤل لم يغادر ذهن بولين عندما سمعت أمه تتحدث ذات مرة عن أن المدرسين أحق الناس بالتبجيل في العالم بأسره، وعن أنهم لا يلقون نصف التقدير الذي يستحقونه، ولا تدري كيف نجح براين في عمله بمرور الوقت. وحينها كان أبوه يقول: «هذا حقيقي»، أو «مما لا شك فيه أنني لا أرغب في العمل في هذه الوظيفة؛ فلن يمكنهم دفع ما يكفي من المال.»
فيقول براين: «لا تقلق يا أبي، لن يدفعوا لك الكثير.»
إن حياة براين اليومية جعلته شخصا أكثر درامية بكثير من جيفري؛ إذ كان يسيطر على الفصل الدراسي بدعاباته ونكاته وسلوكياته الغريبة المستمرة، فيما يعد امتدادا للدور الذي لا يفتأ يلعبه مع أبيه وأمه؛ كما تظن بولين. كان يتصرف بشكل أخرق، لا تكسره الإهانات المزعومة، بل ويرد عليها المثل بالمثل؛ كانت له اليد العليا مدافعا عن الحق غير مفسد، مزعجا لكن مرحا.
قال ناظر المدرسة لبولين ذات مرة: «فتاك ترك أثرا لدينا بلا شك. لم يكتف بأن عاش بيننا، وهو الشيء الصعب في حد ذاته، وإنما ترك أثرا لدينا.»
فتاك.
كان براين يسمي تلاميذه بالأغبياء، وكانت نبرة صوته معهم رقيقة ولكن متشائمة. قال إن أباه كان ملك الفلسطينيين القدماء - من سلالة البرابرة الخالصة - وإن أمه كانت جميلة جذابة طيبة القلب ولكن أعياها الزمن. ورغم تجاهله لهما، لم يكن يطيق البقاء وقتا طويلا بعيدا عنهما. وكان يأخذ تلامذته أيضا في رحلات تخييم. وما كان يتخيل الصيف دون قضاء الإجازة مع أبيه وأمه. وكل عام كان يرتعب من فكرة أن ترفض بولين الذهاب معهم، أو أنها - إذا ما وافقت - تبتئس وتشعر بالإهانة مما يقول والده، أو تتذمر من طول الوقت الذي تقضيه مع أمه، وتتجهم لعدم استطاعتهما الانفراد بأنفسهما أبدا. وقد تقرر أن تقضي اليوم كله في كوخهما تقرأ، مدعية أنها تعاني حروقا من أثر الشمس.
كل هذه الأمور حدثت في إجازات سابقة، لكنها بدت مستريحة هذه السنة، وقد أخبرها أنه لاحظ ذلك وممتن لأجله.
قال: «أعي ما تبذلين من جهد، أما بالنسبة إلي فالأمر يختلف؛ فهما أبواي وليس من عادتي أخذهما على محمل الجد.»
تربت بولين في عائلة تأخذ الأمور على محمل الجد؛ مما أدى إلى طلاق الأبوين. توفيت أمها منذ فترة، أما أبوها وأختاها - الأكبر سنا - فتجمعها بهم صلة ضعيفة وإن كانت صلة رحم. كانت تقول إنه لا يوجد شيء مشترك بينهم، إلا أنها كانت على دراية بأن براين لا يمكنه أن يفهم أن يكون ذلك سببا للبعد. ولقد لاحظت هذا العام كيف سعد بسير الأمور على ما يرام؛ وكانت ترى في الإجازات السابقة أن كسله أو عدم شجاعته يمنعانه من أن يتوقف عن هذا التقليد المكرر، لكنها الآن ترى أن السبب أكثر إيجابية بكثير؛ فلقد كان يريد أن يجمع زوجته وأبويه وطفلتيه ويجعلهم مترابطين معا؛ أراد أن يدخل بولين إلى حياته مع أبويه، ويدفع أبويه للتعرف عليها؛ مع أن معرفة أبيه بها متحفظة ومتناقضة، ومعرفة أمه سخية وسلسة. وكذلك أراد أن ترتبط بولين وطفلتاه بطفولته؛ أراد أن تكون هذه العطلات متصلة بالعطلات التي كان يقضيها في طفولته ما بين طقس سيئ وطقس بديع، ومشاكل ناتجة عن أعطال بالسيارة، ومخالفات مرورية، وذعر يتخلل الرحلات البحرية، ولدغات النحل، وماراثون ألعاب المونوبولي، إضافة إلى كل الأشياء التي كان يقول لأمه إن سماعها يضجره أيما ضجر. كان يريد أن تلتقط لهم صور هذا الصيف ثم توضع في ألبوم صور أمه، استكمالا لكل الصور التي كان يتأفف من مجرد ذكرها.
لم يستطيعا خلال الإجازة التحدث إلا في آخر الليل، حين يأويان إلى الفراش، لكنهما كانا يتحدثان حينها أكثر مما يتحدثان عادة في بيتهما؛ لأن براين في الغالب يكون مرهقا جدا فيغط في نومه على الفور. وفي أثناء النهار، يكون من الصعب في العادة التحدث إليه بسبب دعاباته المستمرة التي - كما رأت بولين - تضفي لمعانا على عينيه عندما يتلفظ بها (وكان يشبهها في لون الشعر الغامق والبشرة الشاحبة والعينين الرماديتين؛ غير أن عينيها غامقتان وعينيه فاتحتان، كماء صاف يجري فوق الصخور). كانت تلاحظه بينما يبحث بين الكلمات عن تورية لفظية أو بدء قافية - أو أي شيء يمكن أن يخرج به المحادثة إلى حيز العبث - وجسده بأكمله الطويل المرتخي، الذي لا يزال في نحافة المراهقين، يختلج بنزعة كوميدية. وقبل أن تتزوجه بولين، كانت لها صديقة تدعى جراسي؛ وكانت فتاة تبدو متجهمة تكره الرجال. وكان براين يراها في حاجة إلى رفع معنوياتها؛ ولهذا بذل معها أكثر من الجهد المعتاد، حتى إن جراسي قالت لبولين: «كيف تتحملين هذا العرض المستمر؟»
فردت بولين: «هذا ليس براين على حقيقته، فهو يختلف حين نكون بمفردنا.» لكنها حين تتذكر ما حدث، تتساءل هل كان ما قالته صحيحا؟ هل قالت هذا ببساطة كي تدافع عن خيارها كما يفعل المرء حين يعقد عزمه على الزواج؟
لذا كان الكلام معه في الظلام يتعلق بعدم رؤية وجهه، وبمعرفته أنها لا تستطيع النظر إلى وجهه.
ولكنه مع ذلك كان يضايقها قليلا حتى في ظلمة الليل - غير المألوفة لهما - وسكونه. كان يتحدث دوما عن جيفري واصفا إياه ب «السيد المخرج» ناطقا اللقب بالفرنسية؛ مما جعل المسرحية - أو كونها فرنسية - سخيفة إلى حد ما. أو ربما كان المقصود هو جيفري نفسه وجديته بشأن المسرحية.
أما عن بولين، فلم تبال بهذه المضايقات، بل كان من دواعي سرورها وارتياحها ذكر اسم جيفري.
وفي الغالب لم تكن تذكر اسمه، وإنما تدور حول متعة ذكره من بعيد. فكانت تصف الآخرين جميعا؛ مصففة الشعر، مرشد السفن، النادل، والرجل العجوز الذي ادعى أنه سجل في الإذاعة ممثلا ذات مرة. كان يؤدي في المسرحية دور والد أورفيوس، وكان أكثر من أتعب جيفري؛ لأنه صاحب آراء عنيدة حول التمثيل.
أما دور قائد الفرقة الموسيقية - السيد دولاك - الذي هو في منتصف العمر، فكان يلعبه وكيل سفريات في الرابعة والعشرين من عمره. ودور ماتياس - عشيق يوريديس السابق - يؤديه مدير متجر أحذية؛ متزوج وله أطفال.
تساءل براين لماذا لم يعط السيد المخرج كلا من هذين الرجلين دور الآخر.
فقالت بولين: «ذاك هو أسلوبه؛ فما يراه فينا لا يراه غيره.»
قالت على سبيل المثال إن النادل يؤدي دور أورفيوس بشكل أخرق. «فهو لم يتعد التاسعة عشرة من عمره، وخجول جدا، ودوما ما يضايقه جيفري لهذا السبب؛ يطلب منه ألا يؤدي دوره كأنه يمارس الحب مع جدته، ودوما ما يملي عليه ما يجب فعله، مثل: «دعها بين ذراعيك فترة أطول» ... «لاطفها برفق». ولا أدري كيف سينجح هذا الأمر؛ لكن علي أن أثق في جيفري، وفي أنه يعي ما يفعل.»
قال براين: «لاطفها برفق! ربما يجب أن أحضر وأراقب هذه البروفات جيدا.»
عندما بدأت بولين في ترديد كلام جيفري، شعرت باضطرابات في رحمها أو أسفل معدتها، ثم أحست بالصدمة تتقدم تدريجيا لأعلى على نحو غريب حتى ضربت أحبالها الصوتية. كان عليها أن تخفي هذه الرجفة في صوتها بدمدمة وكأنها تحاكي صوت جيفري (مع أن جيفري لم يدمدم قط، وكذلك لم يتحدث بصخب أو بأي طريقة مسرحية على الإطلاق).
فأسرعت قائلة: «لكن هناك هدفا من كونه بهذه البراءة، وعدم جرأته على القرب الجسدي، ومن طبيعته الخرقاء.» ثم أخذت تتكلم عن أورفيوس؛ الشخصية المسرحية، وليس النادل. فأورفيوس كان يعاني من مشكلة مع الحب أو الواقع؛ لم يرض بغير الكمال بديلا، ويريد حبا لا يمت للحياة العادية بصلة. يريد يوريديس المثالية. «أما يوريديس فهي أكثر واقعية. كانت لها علاقات مشينة مع ماتياس والسيد دولاك، وكانت تعيش بالقرب من أمها وعشيق أمها؛ لذا فهي تعرف طبائع الناس. لكنها تحب أورفيوس؛ تحبه بطريقة أفضل من طريقة حبه لها؛ لأنها ليست بحماقته؛ ولأنها تحبه كإنسان.»
قال براين: «لكن هذين الرجلين الآخرين ضاجعاها.» «الواقع أنها اضطرت لمضاجعة السيد دولاك ولم يكن بيدها حيلة. لم تكن ترغب فيه في البداية، لكنها صارت على الأرجح تستمتع بالعلاقة بعد فترة؛ إذ لم تستطع في مرحلة معينة منع نفسها من الاستمتاع.»
أورفيوس هو الملوم؛ حسبما قالت بولين بحزم. وفي العالم السفلي، التفت إلى يوريديس عامدا قتلها والتخلص منها؛ لأنها ليست مثالية. وهكذا بسببه، تموت للمرة الثانية.
قال براين وهو مستلق على ظهره وعيناه مفتوحتان (علمت ذلك من نبرة صوته): «لكن ألا يموت بذلك هو أيضا؟» «نعم، هو من اختار.» «إذن فقد قتل نفسه ليصيرا معا؟» «نعم، مثل روميو وجولييت. «أورفيوس ويوريديس أخيرا معا.» ذاك هو السطر الأخير في المسرحية، يقوله السيد هنري. إنها النهاية.» انقلبت بولين على جانبها ومست بوجنتها كتف براين؛ لا لشيء سوى التأكيد على ما ستقوله: «من ناحية، هي مسرحية جميلة، لكنها من ناحية أخرى سخيفة جدا؛ فهي لا تشبه في الواقع مسرحية «روميو وجولييت»؛ لأن أحداثها لا تعتمد على الحظ العاثر أو الظروف السيئة، وإنما كل شيء يحدث فيها عن عمد؛ لذا فليس على بطليها خوض الحياة بتطورها الطبيعي، من زواج وإنجاب وشراء منزل قديم، ثم إصلاحه و...»
قاطعها براين: «ويخون أحدهما الآخر؛ فهما على كل حال فرنسيان.»
ثم قال: «ويكونان مثل أبوي.»
ضحكت بولين وقالت: «هل يخون أحدهما الآخر؟ يمكنني أن أتخيل هذا.»
قال براين: «طبعا. أقصد مثلهما في أسلوب حياتهما. أرى أنه من المنطق أن يقتل المرء نفسه حتى لا يصير كوالديه. لا أصدق أن امرأ قد يحذو حذو أبويه.»
قالت بولين حالمة: «لكل إنسان اختياراته؛ فأمها وأبوه كلاهما بغيض، لكن ليس بالضرورة أن يكون أورفيوس ويوريديس مثلهما. إنهما ليسا فاسدين. هي ليست فاسدة لمجرد أنها أقامت علاقات مع هذين الرجلين. لم تكن حينها قد وقعت في الحب بعد. لم تكن قد قابلت أورفيوس. هناك مشهد يقول لها فيه إن كل ما فعلته يلازمها طوال الوقت، وإن هذا لأمر مقزز. الأكاذيب التي حدثته عنها، والرجلان اللذان ضاجعاها؛ كل هذا سيلازمها إلى الأبد. وحينها بالطبع سيلعب السيد هنري على هذا الوتر، ويقول لأورفيوس إنه لن يقل عنها سوءا، وإنه يوما ما سيمشي مع يوريديس في الطرقات، وسيبدو كرجل معه كلب يحاول التخلص منه.»
ما أدهشها هو أن براين ضحك.
قالت: «كلا، هذه حماقة. ما قلت ليس حتميا، ليس حتميا على الإطلاق.»
أخذا يتأملان الأمور، ويتجادلان بأريحية بشكل لم يعتاداه؛ وإن لم يكن غريبا عليهما بالكلية. لقد فعلا هذا من قبل على فترات طويلة متقطعة على مدار حياتهما الزوجية. كانا يقضيان نصف الليل يتحدثان عن الرب أو الخوف من الموت، أو يتساءلان كيف يجب أن تتعلم صغيرتاهما، أو عما إذا كان المال مهما. ولكن أخيرا قالا إنهما قد أرهقا على نحو يتعذر معه الفهم والإدراك لفترة أطول، فاتخذا وضعا حميميا واستغرقا في النوم. •••
وأخيرا، أمطرت السماء ذات يوم. استقل براين وأبواه سيارتيهم واتجهوا نحو مدينة كامبل ريفر ليبتاعوا البقالة والجن، وليذهبوا بسيارة الأب إلى ورشة الإصلاح لتفقد المشكلة التي طرأت عليها في الطريق من نانايمو. كانت مشكلة بسيطة جدا، لكن السيارة كانت لا تزال في فترة الضمان؛ لذلك أراد والد براين أن يتم فحص السيارة على وجه السرعة. واضطر براين أن يذهب معهما مستقلا سيارته تحسبا لأن يضطروا لترك سيارة الأب في الورشة. أما بولين فقالت إن عليها أن تظل في البيت حتى تحظى مارا بقيلولتها.
كذلك أقنعت كيتلن بأن تأوي إلى فراشها أيضا، وسمحت لها بأن تأخذ معها صندوق الموسيقى إلى الفراش، شريطة ألا تشغله بصوت عال. وبعد ذلك، فتحت بولين نص المسرحية على طاولة المطبخ، واحتست فنجان قهوة، وأخذت تراجع المشهد الذي يقول فيه أورفيوس إنه من غير المحتمل - في النهاية - أن يظلا جسدين منفصلين، كل منهما منغلق على ما فيه من دم ولحم، كل في عزلته، فتطلب منه يوريديس أن يصمت. «لا تتكلم، لا تفكر، فقط دع يدك تلمسني، دعها تستمتع.»
تقول يوريديس: يدك سبب سعادتي. تقبلها على هذا النحو. تقبل سعادتك.
وبالطبع يقول إنه لا يستطيع.
نادتها كيتلن بشكل متكرر لتسألها كم الساعة. رفعت صوت صندوق الموسيقى، فهرعت بولين إلى غرفة النوم وهمست لها بأن تخفض الصوت لكيلا توقظ مارا. «إذا رفعت صوته مرة أخرى فسوف آخذه منك، أتفهمين؟»
لكن مارا كانت قد بدأت بالفعل تتمتم في مهدها، وخلال دقائق قليلة أخذت كيتلن تتحدث بصوت خفيض مشجعة أختها على الاستيقاظ، كما أنها رفعت صوت صندوق الموسيقى ثم خفضته بسرعة. وبعدها مباشرة هزت مارا حاجز المهد - فأحدث صوتا - وشدت نفسها لأعلى، ملقية زجاجة الرضاعة على الأرض، ثم شرعت تبكي بكاءها الطفولي الذي أخذ يعلو ويعلو حتى أتت أمها.
قالت كيتلن: «لم أوقظها، هي استيقظت من تلقاء نفسها. لقد توقف المطر الآن، فهل يمكن أن نذهب إلى الشاطئ؟»
كانت محقة؛ لم تعد السماء تمطر. فسريعا قامت بولين بتغيير حفاضة مارا، وطلبت من كيتلن أن ترتدي ملابس السباحة وتبحث عن دلو الرمال. وارتدت هي الأخرى ملابس السباحة ثم سروالها القصير تحسبا لأن تصل بقية العائلة وهي على الشاطئ (قالت لها أم براين ذات مرة: «لا يحب حماك الطريقة التي تخرج بها بعض النساء من أكواخهن مرتديات ملابس السباحة، أعتقد أنني وإياه تربينا في زمان آخر»). أخذت نص المسرحية في يدها ليكون معها على الشاطئ، ثم أعادته مكانه مرة أخرى؛ فلقد خشيت أن تنهمك في قراءته فتغفل عن صغيرتيها فترة طويلة.
لم تكن الأفكار التي تراودها عن جيفري في حقيقة الأمر أفكارا، وإنما كانت تغيرات تحدث في جسدها؛ قد يحدث هذا حين تجلس على الشاطئ (محاولة أن تستظل بظل شجيرة كي تحافظ على لون بشرتها الشاحب، كما أمر جيفري)، أو حين تغسل الحفاضات، أو حين تكون مع براين في زيارة لأبويه، وحين تلعب المونوبولي أو لعبة الكلمات المبعثرة أو تلعب بأوراق اللعب. كانت تستمر في التحدث أو الاستماع أو العمل أو مراقبة الأطفال، بينما يجول في ذهنها ذكرى حياتها السرية لتزعجها وتثيرها، ثم يراودها شعور بدفء واطمئنان شديدين يغمرانها. غير أنه شعور لا يدوم، بل يتسلل منها ويتلاشى ارتياحها فتصبح كالبخيل الذي فقد ثروته وظن أن لن يواتيه الحظ مرة أخرى. يغالبها الشوق للقياه، فتعد الأيام والليالي، بل كانت - أحيانا - تقسم الأيام إلى أجزاء كي تحدد كم مضى بالضبط منها.
فكرت أن تذهب إلى كامبل ريفر، وتختلق عذرا ما كي تذهب إلى كابينة اتصالات وتهاتفه؛ فلم يكن بالأكواخ أي هواتف، والهاتف العمومي الوحيد كان موجودا في بهو النزل. لكن لم يكن معها رقم هاتف الفندق الذي يعمل فيه جيفري، وأيضا فإنها لا يمكن أن تذهب إلى كامبل ريفر في المساء، وكانت تخشى إذا هاتفته في البيت نهارا، أن ترد عليها أمه؛ معلمة اللغة الفرنسية؛ فقد قال لها إن أمه نادرا ما تغيب عن البيت خلال الصيف، وذات مرة - لم تتكرر - ركبت البحر إلى فانكوفر لقضاء اليوم على مركب في الماء، وحينها، هاتف جيفري بولين طالبا منها أن تأتيه؛ وقتها كان براين في المدرسة وكيتلن تلعب مع مجموعة اللعب المشتركة فيها.
قالت بولين: «لا أستطيع؛ مارا بصحبتي.»
فقال جيفري: «من؟ أوه، كم هذا مؤسف! لكن ألا يمكن أن تحضريها معك؟»
أجابته بالنفي. «ولم لا؟ ألا يمكنك أن تحضري بعض الألعاب كي تلهو بها؟»
قالت بولين: «لا أستطيع، لا يمكنني أبدا.» بدا لها أمرا خطيرا أن تجر ابنتها معها في هذه الرحلة الآثمة إلى بيت لا توضع فيه سوائل التنظيف على أرفف عالية، أو الحبوب والشراب والسجائر والأزرار في غير متناول الأطفال. وحتى إن لم تتسمم مارا أو تختنق، فمن الممكن أن تختزن في داخلها قنابل موقوتة؛ ذكريات لمنزل غريب كانت تترك فيه وحيدة أمام باب مغلق، ومن ورائه أصوات وصيحات.
قال جيفري: «كل ما أردته أن أحظى بك. أردت أن أحظى بك في فراشي.»
رددت بضعف: «لا.»
ظلت كلماته تتردد في نفسها: «أردت أن أحظى بك في فراشي.» قالها بنبرة صوت مثيرة يشوبها إلحاح وتصميم وعملية، وكأن قوله: «في فراشي» يعني ما هو أكثر من الفراش المتعارف عليه، وشعرت أن له أبعادا أكبر لا تمت للأبعاد المادية بصلة.
هل ارتكبت خطأ جسيما برفضها عرضه؟ هل هذا تذكير بكم هي محاصرة فيما يمكن أن تسمى حياتها الحقيقية؟ •••
كان الشاطئ شبه خال؛ فقد غاب عنه الناس اليوم بسبب المطر، وكانت الرمال مبللة وثقيلة بما لا يمكن كيتلن من بناء قلعة أو حفر قناة ري؛ وهي أنشطة ما كانت الفتاة تمارسها على أي حال إلا في وجود أبيها؛ لأنها كانت تحس بأنه يوليها اهتماما عظيما، بينما لا تبالي بها بولين؛ ولذا أخذت تتجول وحيدة متجهمة على حافة الماء. الأرجح أنها كانت تفتقد وجود أطفال آخرين؛ أولئك الذين تصادقهم ما إن تراهم - على غير علم بأسمائهم - وأحيانا يتحولون إلى أعداء يلقون الأحجار ويركلون الماء بعضهم في وجوه بعض، ولا يتوقفون عن الصياح والعبث بالماء والسقوط فيه أيضا. رأت الفتاة صبيا أكبر منها قليلا يقف وحيدا في البحر - فيما بدا لها - بعيدا عن الشاطئ والماء عند ركبتيه. إذا ما اجتمع الاثنان معا، فسيكون كل شيء على ما يرام؛ إذ ستستطيع الفتاة استرجاع تجاربها على الشاطئ. ولم تستطع بولين تخمين إذا ما كانت كيتلن تجري مثيرة المياه حولها لأجله، وما إذا كان الصبي ينظر إليها منزعجا أم مهتما.
أما عن مارا، فلم تكن في حاجة لصحبة لها على الشاطئ - الآن على الأقل - وكل ما فعلته أنها تعثرت في مشيتها إلى المياه، وحينما شعرت بالماء يلمس قدميها عدلت عن رأيها، فتوقفت ثم أخذت تتلفت حولها، ولما رأت بولين قالت فرحة: «بو. بو.» إذ كانت تنادي بولين بهذا الاسم، بدلا من «ماما»، أو «أمي». أخل تلفتها حولها بتوازنها، فجلست حيثما كانت - نصفها على الرمال ونصفها على الماء - وصاحت متفاجئة للفت نظر أمها إليها. وبعدها أخذت تحاول بشيء من التصميم الذي يعوزه الخفة والتوازن كي تنهض - مستندة إلى يديها - إلى أن وقفت على قدميها متمايلة ظافرة. كانت قد تعلمت المشي منذ ستة أشهر، لكن السير على الرمال كان يمثل تحديا لها. وبعدها عادت إلى بولين، قائلة أشياء مألوفة بلغتها الخاصة.
قالت بولين وهي تمسك في يدها حفنة من الرمال: «انظري يا مارا، إنها رمال.»
لكن مارا صححت لها الاسم ونطقت كلمة أخرى من قاموسها على نفس الوزن. كانت حفاضتها السميكة المبللة - التي ترتديها تحت السروال التحتي البلاستيكي وثياب اللعب المصممة من قماش المناشف القطني - تظهر مؤخرتها سمينة. وهذا كله مع وجنتيها وكتفيها الممتلئتين ونظرتها المغرورة من جانب عينها، جعلها أشبه بامرأة ناضجة متحفزة.
انتبهت بولين لصوت ينادي اسمها، لكنها لم تنتبه له في المرة الأولى - بل في الثانية أو الثالثة - لأنه لم يكن صوتا مألوفا. فوقفت ولوحت بيدها، ووجدت صاحبة الصوت هي المرأة التي تعمل في متجر النزل. كانت تطل من الشرفة وتنادي: «سيدة كيتنج، سيدة كيتنج، اتصال لك سيدة كيتنج.»
رفعت بولين مارا من الأرض وحملتها ساندة إياها على فخذها من أعلى، وصاحت منادية كيتلن التي كانت قد تعرفت على الصبي وأخذا يلتقطان الحجارة من القاع ثم يقذفانها في الماء. لم تسمع نداء بولين في البداية أو فقط تظاهرت بهذا.
صاحت بولين: «إلى المتجر يا كيتلن، إلى المتجر.» كانت واثقة من أن كيتلن ستتبعها إلى المتجر - كانت كلمة «المتجر» تبث في نفسها سرورا بالغا؛ ذاك المتجر الصغير الموجود في النزل حيث تستطيع شراء الآيس كريم والحلوى والسجائر والمشروبات غير الكحولية التي تخلط بالخمر - وبدأت رحلتها عبر الرمال وصعدت الدرج الخشبي متجاوزة الرمال وشجيرات السلال. وفي منتصف الدرج توقفت وقالت مخاطبة مارا: «وزنك ثقيل يا مارا.» ثم نقلت الطفلة إلى الناحية الأخرى، بينما ضربت كيتلن الدرابزين بعصا في يدها. «هل يمكن أن تشتري لي حلوى الفدج المثلج يا أمي؟ أمي، ممكن؟» «سوف نرى.» «أرجوك، هل يمكن أن أشتري الفدج المثلج؟» «انتظري.»
كان بجوار الهاتف العمومي لوحة ملاحظات معلقة على الجانب الآخر من البهو الرئيسي قبالة باب غرفة الطعام، وكانت هناك لعبة بينجو مفترشة بالداخل بسبب هطول المطر خارج النزل.
قالت السيدة التي تعمل في المتجر بصوت مرتفع: «آمل أن يكون ما زال في انتظارك.» ثم توارت خلف الطاولة جالسة على كرسيها.
التقطت بولين سماعة الهاتف المتدلية أمام الطاولة - وهي لا تزال تحمل مارا - وقالت لاهثة: «مرحبا.» كانت تتوقع أن تسمع صوت براين يخبرها عن تأخيرهم في كامبل ريفر أو يسألها ماذا كانت تريد من الصيدلية؛ فقد كان شيء واحد فحسب هو ما نسي تدوينه ليجلبه لها، وهو لوسيون كالامين.
غير أنه كان جيفري، وقال لها: «بولين. إنه أنا.»
أخذت مارا تضرب جانب بولين، وتتملص من يدها لتنزلها إلى الأرض، أما كيتلن فقد مشت عبر البهو حتى دخلت المتجر، وطبعت قدماها آثارا رملية مبللة على الأرض. قالت بولين مكررة: «لحظة واحدة.» وتركت مارا تنزلق من بين يدها، وهرعت لتغلق الباب المؤدي إلى الدرج. لا تذكر أنها أخبرت جيفري باسم هذا المكان مع أنها أخبرته بموقعه تقريبا. سمعت المرأة العاملة في المتجر تخاطب كيتلن بنبرة أكثر حدة من تلك التي تخاطب بها الأطفال الذين يكون ذووهم معهم. «هل نسيت أن تغسلي قدميك تحت صنبور الماء؟»
قال جيفري: «أنا هنا. لم أستطع العيش بدونك، لم أستطع على الإطلاق.»
اتجهت مارا نحو غرفة الطعام، وكأن الصوت الذكوري الذي صاح قائلا: «تحت ال ...» كان دعوة مباشرة لها.
قالت بولين: «هنا، أين؟»
قرأت اللافتات المثبتة على لوحة الملاحظات التي تجاور الهاتف: «غير مسموح لأي طفل دون الرابعة عشرة أن يستقل القوارب والزوارق دون صحبة أحد البالغين.» «سباق صيد.» «سوق مخبوزات ومعرض مشغولات فنية بكنيسة سانت بارثولوميو.» «حياتك في يديك: قراءة الكف والورق قراءة دقيقة ومنطقية؛ فقط اتصل بكلير.» «في نزل بكامبل ريفر.»
عرفت بولين أين هي قبل أن تفتح عينيها، لم يفاجئها شيء؛ نامت لكن نومها لم يكن عميقا حتى تنسى معه كل شيء.
انتظرت براين في مرأب النزل، ومعها البنتان، ثم طلبت منه المفاتيح. أخبرته أمام والديه أنها تحتاج شيئا آخر من كامبل ريفر، فسألها عن هذا الشيء، وعما إذا كان معها نقود.
فردت عليه: «شيء ما.» لعله يظن أنها تقصد فوطا صحية أو وسيلة منع الحمل، ولا تريد أن تذكرها. فقال لها: «حسنا.»
وأضاف: «لكن لا بد أن تزودي السيارة بالوقود.»
لا بد أن تهاتف زوجها فيما بعد؛ هكذا أخبرها جيفري. «لأنه لن يصدق كلامي، سيظن أنني اختطفتك أو ما شابه هذا. لن يصدقني.»
لكن أغرب ما جرى ذلك اليوم أن براين - فيما يبدو - صدق هذا الأمر على الفور، وحينها كان يقف في المكان نفسه الذي لم تطل هي الوقوف فيه متحدثة مع جيفري في الهاتف - في بهو النزل العام - ولكن هذه المرة لم تكن لعبة البينجو مفترشة. غير أنها كانت تسمع على الهاتف أصوات أناس يمرون بجانبه، وكأنهم خارجون من غرفة الطعام بعد تناول العشاء، وإذ به يقول حين أخبرته: «أوه. أوه. أوه. حسنا.» قال هذه العبارات بنبرة صوت تمكن من السيطرة عليها على وجه السرعة، وإن فاضت بقدر هائل من حتمية ومعرفة مسبقة غير طبيعية.
وكأنه كان يعلم جل ما كان يمكن أن يحدث معها بالكامل.
قال: «حسنا، ماذا عن السيارة؟»
وبعد تساؤله، ذكر شيئا آخر - شيئا مستحيلا - ثم أغلق الهاتف، وخرجت هي من كابينة الهاتف التي تجاور بعض مضخات الوقود في كامبل ريفر.
قال جيفري: «جرت المكالمة سريعا وعلى نحو أيسر مما توقعت.»
ردت بولين: «لا أدري.» «لعله كان يعرف أمرنا دون وعي؛ فالناس يحسون بهذه الأمور.»
هزت رأسها وكأنها تطلب إليه ألا يطيل الحديث عن هذا الموضوع، فاعتذر ثم سارا معا في الشارع دون تلامس أو حديث. •••
كان عليهما الخروج للبحث عن كابينة هاتف؛ لأنه لم يكن هناك أي هواتف في غرفة النزل حيث ينامان. وحينذاك، في الصباح الباكر، حين نظرت بولين حولها لتستشعر الراحة بلا أعباء - لأول مرة تحظى بهذه الراحة أو الحرية منذ أتت إلى هذه الغرفة - رأت أن هذه الغرفة لا تحوي الكثير؛ لا تحوي سوى خزانة مستهلكة، وسرير بدون ظهر ، ومقعد منجد دون ذراعين، وستارة فينيسية ذات ضلع مكسور تغطي النافذة، وستارة أخرى من البلاستيك برتقالي اللون - من المفترض أن تبدو كالستائر الشفافة ولا تحتاج لأن تثنى أطرافها - ممزقة من أسفل. وكان هناك جهاز تكييف ذو هدير صاخب، أطفأه جيفري ليلا وترك الباب مفتوحا مع غلق سلسلة الأمان؛ لأن النافذة ما كانت تفتح. لكن الباب مغلق الآن - بعد أن استيقظت - ولا بد أنه استيقظ ليلا فأغلقه.
كان هذا هو كل ما تملك؛ فلقد انقطعت صلتها بالكوخ حيث يرقد براين نائما أو أرقا، وانقطعت صلتها أيضا بالمنزل الذي كان تجسيدا لحياتها مع براين، ولطريقة الحياة التي أرادا أن يعيشاها. لم يعد لديها أثاث؛ فلقد قطعت الصلة بينها وبين كل مكتسباتها الملموسة الضخمة، كالغسالة وآلة تجفيف الملابس والطاولة المصنوعة من خشب البلوط وخزانة الثياب التي تم تجديدها والثريا التي كانت تقليدا لأخرى مرسومة في إحدى لوحات فيرمير. وكذلك بالقدر نفسه قطعت صلتها بمتعلقاتها الخاصة بها؛ كالكئوس المصنوعة من الزجاج المضغوط التي كانت تجمعها، وبساط الصلاة الذي لم يكن بالطبع أصليا لكنه جميل. قطعت صلتها بهذه الأشياء خاصة، وبكتبها أيضا، فالأرجح أنها فقدتها بالكامل، وحتى ثيابها؛ لم يعد لديها الآن سوى التنورة والبلوزة والصندل، وهي الأشياء التي كانت ترتديها خلال رحلتها إلى كامبل ريفر. ما كانت لتعود أبدا كي تطالب بأي من متعلقاتها. إذا ما هاتفها براين ليسألها ما يفعل بما يخصها، فستقول له أن يفعل بها ما يحلو له؛ أن يتخلص من كل شيء في القمامة؛ إذا كان هذا هو ما يريد (لكنها كانت تعلم أنه على الأرجح سيملأ صندوق السيارة - بأمانة شديدة - بمعطفها الشتوي وحذائها ذي الرقبة وأشياء أخرى كمشد خاصرتها الذي ارتدته في حفل زفافهما ولم ترتده مرة أخرى، وأنه سيضع بساط الصلاة فوق كل متعلقاتها كعلامة أخيرة على كرمه، سواء التلقائي أو المرتب له؛ وهو ما قد حدث بالفعل).
أيقنت بولين أنها لن تبالي بعد الآن بالمكان الذي ستسكنه أو الثياب التي سترتديها. لن تسعى أبدا لأن توضح لأي امرئ موقفها وكيف كانت تعيش، بل لن توضح هذا لنفسها. يكفي ما فعلت، ما فعلته يغني عن أي شيء.
ما فعلته هو ما سمعت به وقرأت عنه؛ كان أشبه بما فعلته آنا كارنينا وما أرادت مدام بوفاري أن تفعله، وما فعله مدرس - زميل براين - مع سكرتيرة المدرسة. هرب معها؛ هكذا أطلق على فعلتهما. هربا معا وفرا دون ثالث. تحدث الناس عن فرارهما باحتقار وتندر وغبطة. لقد تجاوزت العلاقة حدود الفحشاء؛ فلا بد أن طرفيها كانا على علاقة بالفعل منذ فترة، بل ومارسا الفحشاء لفترة، قبل أن يصلا إلى قدر كاف من اليأس أو الشجاعة يمكنهما من اتخاذ تلك الخطوة. فبين كل حين طويل وآخر، يدعي حبيبان أن عشقهما نقي لا ينضب، في حين ينظر إليهما الناس - إذا ما صدقوهما - على أنهما جادان للغاية وهدفهما نبيل، لكنهما متهوران على نحو هدام، شأنهما شأن من يغامرون ويتخلون عن كل شيء مقابل الرحيل عن البلد للعمل في إحدى الدول الفقيرة الخطرة.
أما الحبيبان - الزانيان - فإن لم يجدا من يصدقهما فسيعتبرهما الناس غير مسئولين ولا ناضجين، أنانيين، بل وعديمي الشفقة. وكذلك هما محظوظان؛ محظوظان لأن الجنس الذي مارساه من قبل في سياراتهما المتوقفة في المرأب، أو على العشب الطويل، أو في فراش الزوجية المدنس أو - وهو الأرجح - في مثل هذه الأنزال، لا بد أنه رائع، وإلا فما كان أحدهما ليتوق بهذا الشكل لصحبة الآخر مهما كان الثمن، وما كانا ليوقنا أن مستقبلهما معا سيختلف بالكلية عن حياتهما الماضية، بل وسيكون أفضل منها.
سيختلف المستقبل بالكلية. لا بد أن هذا ما كانت بولين تؤمن به بعد رحيلها؛ أن هناك اختلافات أساسية بين أنواع الحياة المختلفة أو زيجات البشر وعلاقاتهم. آمنت أن بعضهم مصيره محتوم لا مفر منه، وبعضهم ليس له هذا المصير. وبالطبع كانت ستردد الرأي نفسه قبل ما حدث بسنة. وكان من سبقها يرددونه أيضا، وكانوا يؤمنون به، ويؤمنون أيضا أن حالتهم هي الأولى من نوعها - حالات فريدة - حتى وإن رأى غيرهم أنهم ليسوا روادا، وإن لم يعرفوا هم أنفسهم عن أي شيء يتحدثون. هي نفسها ما كانت لتعرف عن أي شيء تتحدث. •••
كان جو الغرفة دافئا جدا، وكذلك جسد جيفري، وكأنه يشع ثقة ومشاكسة حتى وهو نائم. كان جذعه أكثر امتلاء من جذع براين؛ إذ كان أكثر بدانة عند الخاصرة، وكان لديه لحم أكثر يغطي العظام؛ وإن لم يكن متدليا. كانت بولين واثقة من أن الناس سيقولون إنه ليس وسيما بشكل عام، كما أنه ليس مهندما. لم تكن تفوح أي رائحة من براين في الفراش، أما جيفري، ففي كل مرة ترقد بجانبه، تفوح منه رائحة زيت - نوعا ما - أو جوز ساخن. لم يستحم الليلة الماضية، وهي كذلك، لكنه اغتسل لاحقا؛ فلم يكن هناك وقت للاستحمام. ولكن هل يمكن أن تجد معه فرشاة أسنان؟ لم تكن معها فرشاتها؛ لكنها لم تكن تعرف أنها ستبيت.
عندما قابلت جيفري في هذا المكان، كان يدور في خلدها ضرورة اختلاق كذبة كبيرة كي تغطي على الحقيقة عندما تعود إلى المنزل، ولكن الأمور جرت معها - بل معهما - على وجه السرعة. فعندما قال لها جيفري إنه قرر عدم افتراقهما، وضرورة أن تذهب معه إلى ولاية واشنطن، وحتمية التخلي عن إكمال المسرحية لأن الأمر لن يتيسر لهما في فيكتوريا، أخذت تنظر إليه نظرة خاوية كتلك التي ترتسم على عيني أي شخص لحظة بدء وقوع زلزال. كانت مستعدة لأن تخبره بكل الأسباب التي تحول دون موافقتها، وظلت معتقدة أنها ستخبره بها، لكن حياتها سارت على غير هدى في هذه اللحظة. وإذا ما حاولت التراجع، فسيكون الأمر أشبه بوضع رأسها داخل كيس يكتم أنفاسها.
لم تقل سوى: «هل أنت واثق مما تقول؟»
رد عليها: «بالطبع.» ثم أردف بإخلاص: «لن أتخلى عنك البتة.»
ليس هذا من كلامه المعتاد؛ ثم أدركت بعد حين أنه يقتبس من المسرحية، ويا لها من مفارقة! اقتبس عبارته من حديث أورفيوس ليوريديس خلال دقائق من لقائهما الأول في كافيتريا المحطة.
هكذا انقلبت حياتها وسارت خطوات للأمام؛ أضحت من أولئك الذين هربوا، صارت امرأة تخلت عن كل شيء بشكل صادم غير مفهوم. قد يقول الناس هازئين إنها هربت من أجل الحب، لكنهم يقصدون من أجل الجنس. ما كان أي من هذا ليحدث لولا الجنس.
لكن هل هناك اختلاف كبير؟ ليس هناك اختلاف بالرغم من كل ما يقال. تلامس واحتكاك، حركات، اتصال، ونتائج. ليست بولين من النساء اللائي يصعب التوصل معهن إلى نتائج. براين خرج بتلك النتائج، الأرجح أن أي شخص كان سيخرج بتلك النتائج؛ أي شخص ليس أخرق أو مثيرا للاشمئزاز من الناحية الأخلاقية.
لكن، في الواقع، ليس جميع الرجال متماثلين. مع براين - خاصة مع براين الذي منحته شعورا أنانيا بالرضا والذي عاشت معه في شراكة زوجية - لم يكن ليحدث أبدا مثل هذا التعري، هذا الهروب الحتمي، لم تكن لتشعر معه أبدا بهذه المشاعر التي تشعر بها الآن دون معاناة وإنما تستسلم لها كما تستسلم للتنفس أو الموت. غير أنها تظن أنها ما كانت لتشعر بكل هذا إلا وهي عارية في أحضان جيفري؛ نظرا للحركات التي يقوم بها جيفري، وثقل جسد جيفري الذي يحوي داخله قلب جيفري، وكذلك عاداته وأفكاره وطباعه الغريبة وطموحه ووحدته (وكل ذلك - حسب علمها - يرجع في جزء كبير منه إلى شبابه).
حسب علمها، وليس لها من العلم الكثير. لا تكاد بولين تعرف شيئا عما يفضله في الطعام أو الموسيقى، وعن الدور الذي تلعبه أمه في حياته (لا شك أنه دور غامض لكنه مهم، مثل الدور الذي يلعبه والدا براين). أمر واحد فقط هو الذي تثق به ثقة عمياء، هو أن كل ما يرغبه أو يمقته محدد وبدقة.
تسللت من تحت يد جيفري ونهضت من تحت الغطاء - الذي تفوح منه رائحة منظف نفاذة - ونزلت إلى الأرض حيث كانت ملاءة السرير ملقاة، ولفت جسدها بذات الملاءة الصفراء المائلة للخضرة. ما أرادت أن يفتح عينيه ويراها من الخلف عارية فيلاحظ تدلي مؤخرتها. صحيح أنه رآها عارية من قبل، لكنه نظر إليها نظرة عامة في لحظات أخرى أكثر تسامحا.
مضمضت فمها واغتسلت بماء وقطعة صابون؛ جامدة كالحجارة، وصغيرة في سمك قالبي شوكولاتة رفيعين. كان مهبلها المتورم كريه الرائحة منهكا من كثرة ممارسة الجنس. كما أنها تبولت بصعوبة شديدة، وعانت أيضا الإمساك فيما يبدو. في الليلة الماضية حين خرجا وتناولا البرجر، لم تجد في نفسها رغبة في الأكل. من المرجح أنها ستتعلم الاعتياد على هذه الأشياء مرة أخرى، وستظل تلعب دورها المهم الطبيعي في حياتها، لكنها في تلك اللحظة لا تملك أن توليها فيما يبدو انتباهها.
كان لديها في حقيبة يدها بعض النقود، فوجدت أنه من الضروري أن تخرج لتبتاع فرشاة ومعجون أسنان ومزيلا لرائحة العرق وشامبو، وكذلك جيل مهبليا. ففي الليلة الماضية، استخدما الواقي الذكري في المرتين الأوليين، لكنهما لم يستخدما أي شيء في الثالثة.
لم تحضر معها ساعة يدها، ولم يكن جيفري يرتدي ساعته، وبالطبع لم يكن في الحجرة ساعة. فكرت أن الوقت ما زال مبكرا؛ فلا يزال ضوء النهار يبدو مبكرا بالرغم من ارتفاع درجة الحرارة. والأرجح أن المتاجر لم تفتح أبوابها بعد، لكن لا بد أن هناك مكانا يمكن أن تحتسي فيه القهوة.
تقلب جيفري على جانبه الآخر، لا بد أنها أيقظته من نومه للحظات.
سوف يكون لهما غرفة نوم ومطبخ وعنوان لبيتهما، سوف يذهب هو إلى العمل وستذهب هي إلى المغسلة. وربما ستذهب هي أيضا إلى العمل، بائعة أو نادلة، أو مدرسة خاصة لبعض التلاميذ. إنها تتقن الفرنسية واللاتينية - ولكن هل تدرس الفرنسية واللاتينية في المدارس الثانوية الأمريكية؟ هل يمكن أن يحظى غير الأمريكي بوظيفة؟ فجيفري ليس أمريكيا.
تركت له المفتاح؛ لذا سيكون عليها أن توقظه حين تعود، وليس لديها قلم أو ورقة لتترك له رسالة.
الوقت لا يزال مبكرا. يقع النزل على الطريق السريع على الحد الشمالي للمدينة قرب الجسر. لم تبدأ حركة المرور بعد؛ ولذا سارت فترة طويلة تجر قدميها تحت أشجار الحور القطني قبل أن تسمع صوت مركبة من أي نوع على الجسر؛ مع أن مرور السيارات على هذا الجسر كان يهز فراشهما بين الحين والآخر في وقت متأخر من الليل.
اقترب قدوم شيء بعد حين؛ شاحنة، لكنها ليست مجرد شاحنة، بل حقيقة عظيمة قاتمة تقترب منها. كذلك فإنها لم تأت من المجهول؛ بل كانت تنتظرها، تلكزها بغير شفقة منذ أفاقت من نومها، بل طوال الليل.
كيتلن ومارا.
الليلة الماضية، وبعد أن حدثها براين عبر الهاتف بصوت هادئ غير منفعل لا يشي بأي عاطفة - وكأن كبرياءه أبت عليه أن يبدو مصدوما أو يعترض أو يتوسل إليها - ما لبث أن انفجر فيها، وحينها قال بازدراء وغضب شديد، غير مكترث بمن قد يسمعه: «وماذا عن الصغيرتين؟»
بدا ارتعاد صوته واضحا عبر الهاتف.
فقالت له: «سوف نتحدث ...» لكن لم يبد أنه سمعها.
وأضاف بذات الصوت المرتعد الناقم: «الطفلتين»؛ وبدت لها الإشارة إلى البنتين بكلمة «الطفلتين» بدلا من «الصغيرتين» وكأنها صفعة على وجهها، تهديد خطير، عادل وجدي.
قال براين: «ستبقى الطفلتان معي يا بولين، هل تسمعينني؟»
قالت بولين: «لا. سمعتك لكن ...» «حسنا. لقد سمعتني. تذكري دائما، ستبقيان معي.»
لم يكن بوسعه فعل شيء أكثر من هذا كي يجعلها ترى عواقب فعلتها، وما كانت ستئول إليه الأمور، ويعاقبها به - إن أصرت - وما كان أحد ليلومه على هذا. ربما سيصدر منها بعض التحايل والمساومات، وبلا شك ستذل نفسها في سبيل إبقائهما معها. لكن تلك المشكلة ستكون أشبه بغصة في حلقها، وستظل هذه الغصة مكانها حتى تعدل عن رأيها تماما؛ ستبقى الطفلتان معه.
كانت سيارتهما - سيارتها هي وبراين - لا تزال في مرأب النزل منذ أن حضرت، ولعل براين سيطلب من أحد أبويه أن يوصله كي يحضر السيارة من هناك. كانت المفاتيح في حقيبة يدها، لكن للسيارة مفاتيح احتياطية ولا بد أنه سيحضرها. ومع ذلك، فتحت باب السيارة وألقت المفاتيح على المقعد، ثم قفلت الباب من الداخل.
فات أوان التراجع، لم يعد باستطاعتها أن تلج إلى سيارتها وتقودها عائدة له معترفة بجنونها. إذا فعلت هذا، فسيسامحها لكنه لن يستطيع تجاوز الأمر ولن تتجاوزه هي أيضا. لكن مع هذا، سيستكملان حياتهما معا كما فعل غيرهما.
خرجت من المرأب وسارت بجوار الرصيف متجهة نحو المدينة.
تذكرت ثقل مارا على مفصل ساقها بالأمس، وتذكرت آثار أقدام كيتلن على الأرض. «بو. بو.»
لا تحتاج بولين المفاتيح كي تعود إليهما، لا تحتاج السيارة؛ يمكنها طلب توصيلة من الطريق السريع. فلتستسلم؛ تستسلم وتعود إليهما مهما كانت العواقب، فكيف لا يمكنها فعل ذلك؟
كأن رأسها داخل كيس يكتم أنفاسها، كلما فكرت في العودة.
اختيارها المتذبذب - اختيارها الواهم - ينسكب على الأرض كالماء فيتحول ثلجا على الفور ويتخذ شكلا لا يمكن تجاهله. •••
كم يعتصرها الألم! ألم مزمن، سيظل يصاحبها أبد الدهر وإن لم يكن متواصلا. ولعلها لن تموت بسببه. لن تتحرر منه لكنها لن تموت بسببه. لن تشعر به كل دقيقة، لكن لن تمر عليها أيام عدة دون أن تشعر به. ستتعلم بعض الحيل لتطفئ لهيبه أو تبدده، محاولة ألا ينتهي بها الأمر إلى تدمير ما تحملت كل هذا الألم لأجله. ليس هذا خطأه؛ فهو لا يزال بريئا أو همجيا لا يعلم أن في الدنيا ألما مزمنا. فلتقنع نفسها إذن أنها ستفقدهما على أي حال. ستكبران؛ وكل أم تترقب دائما هذه اللحظة المأساوية، السخيفة إلى حد ما. ستنسيان هذه المرحلة، ستتبرآن منها بطريقة أو بأخرى. أو - على العكس - ستظلان معها إلى أن تعجز عن إدراك ما يمكن أن تفعل بشأنهما؛ كما فعل براين.
مع هذا، كم هو ألم شديد سيصاحبها وتعتاده حتى يصير ماضيها فقط هو ما تحزن لأجله، ولا يكون أمامها أي حاضر يمكن أن ترثيه! •••
كبرت طفلتاها ولم تكرهاها لهروبها أو بعدها عنهما، لكنهما لم تسامحاها أيضا. ولعلهما ما كانتا لتسامحاها أبدا على أي حال؛ ولكن لأسباب مختلفة.
تتذكر كيتلن القليل عن ذاك الصيف الذي قضوه في النزل، أما مارا فلا تتذكر شيئا البتة. وذات يوم، أتت كيتلن على ذكر النزل لبولين قائلة عنه: «المكان الذي أقام فيه جدي وجدتي.»
وأضافت: «المكان الذي كنا فيه حين هربت. لم نعرف إلا بعدها بفترة أنك هربت مع أورفيوس.»
قالت بولين: «لم يكن أورفيوس.» «حقا؟ اعتاد أبي أن يقول هذا. كان يقول: «وبعدها هربت أمكما مع أورفيوس».»
قالت بولين: «لعله كان يمزح.» «لقد ظللت أعتقد أنه أورفيوس، ذاك الذي هربت معه. إذن هو شخص آخر.» «كان شخصا آخر له علاقة بالمسرحية، وقد عشت معه فترة.» «ليس أورفيوس.» «نعم، لم يكن هو.»
ثراء فاحش
في مساء إحدى الليالي الصيفية عام 1974 - وحين كانت الطائرة على وشك التوقف عند صالة الوصول - انحنت كارين لتلتقط بعض الأشياء من حقيبة ظهرها؛ قبعة بيريه سوداء اعتمرتها وأمالتها على إحدى عينيها، وأحمر شفاه تزينت به متخذة من زجاج النافذة مرآة - إذ كان الظلام قد حل في تورونتو - ومبسم سجائر طويل أسود اللون أمسكت به لتضعه بين أسنانها في اللحظة المناسبة. كان البيريه ومبسم السجائر من مقتنيات زوجة أبيها، وقد سرقتهما كارين من بين الأشياء التي ارتدتها زوجة أبيها عندما تنكرت في زي إيرما لادوس في إحدى الحفلات. أما أحمر الشفاه، فكانت قد ابتاعته لنفسها.
كانت تعرف أنه من الصعب أن يراها الناس امرأة بالغة، لكنها كذلك ما كانت لتبدو في أعينهم نفس الفتاة ذات العشرة أعوام التي سافرت على متن الطائرة في أواخر الصيف الماضي.
لم تلفت انتباه أحد، حتى عندما وضعت طرف مبسم السجائر في فمها ورسمت على وجهها تعبيرا متجهما؛ إذ كان الجميع في حالة من التشويق أو الارتباك أو الابتهاج أو الحيرة، وبدا أن معظمهم يرتدي زيا تنكريا. فالرجال السود كانوا يرفلون في عباءات براقة وقبعات صغيرة مزخرفة، والنسوة العجائز يجلسن مقوسات الظهر على الحقائب ويلففن رءوسهن بالشيلان، وشباب الهيبيز يرتدون الملابس الغريبة ويتزينون بالحلي. وما لبثت أن وجدت نفسها محاطة بمجموعة من الرجال المتجهمين، يعتمرون قبعات سوداء وتتدلى على وجناتهم خصلات من الشعر المجعد.
ما كان من المفترض أن يصل أولئك الأشخاص الذين كانوا ينتظرون الركاب إلى هذا المكان، لكن هذا ما حدث؛ إذ تسللوا عبر الأبواب الأوتوماتيكية. ومن بين الحشود على الجانب الآخر من سير الحقائب، رأت كارين أمها - روزماري - التي لم تلحظها بعد . كانت روزماري ترتدي فستانا طويلا، لونه أزرق داكن ومنقوش بدوائر ذهبية وبرتقالية، وكانت قد صبغت شعرها منذ قريب؛ إذ كان شديد السواد، ومصففا لأعلى وملفوفا بميل كعش الطائر. بدت أكبر سنا من الصورة التي احتفظت بها كارين في مخيلتها، وبائسة قليلا. لم تتوقف نظرات كارين عندها، وإنما استمرت تجول ببصرها باحثة عن ديريك. كان من السهل العثور عليه بسبب قامته الطويلة وجبهته اللامعة وشعره الفاتح المتموج الذي يصل طوله إلى كتفيه. كان من السهل العثور عليه أيضا بسبب عينيه اللامعتين ذواتي النظرات الثابتة، وفمه الذي يرتسم عليه تعبير ساخر، وقدرته على الثبات وعدم الحركة، على عكس روزماري التي ما توقفت في هذا الحين عن التحرك وشد جسمها لأعلى والتحديق في الركاب بارتباك وإحباط.
لم يكن ديريك يقف خلف روزماري، بل لم يكن بجوارها من الأساس. إن لم يكن في دورة المياه، فهو لم يأت معها.
انتزعت كارين مبسم السجائر من فمها وضبطت البيريه للخلف. إذا لم يكن ديريك موجودا، فلا معنى لهذه المزحة؛ إذ لن يكون لها تأثير على روزماري سوى الارتباك، وهو ما كانت تشعر به في هذه اللحظة إلى جانب تعاستها. •••
قالت روزماري في دهشة وعيناها مغرورقتان بالدموع: «تضعين أحمر شفاه.» وطوقت كارين بأردانها التي كانت تشبه الجناحين، وانبعثت منها رائحة زبدة الكاكاو. «لا تقولي إن أباك سمح لك باستخدام أحمر الشفاه.»
ردت كارين: «كنت أود المزاح معك، أين ديريك؟»
قالت روزماري: «ليس هنا.»
رأت كارين حقيبتها على سير الحقائب، فانحنت وشقت طريقها بين الناس وجرتها. حاولت روزماري أن تساعدها في حملها، لكن كارين قالت: «لا عليك، لا عليك.» تدافعتا حتى وصلتا إلى أبواب الخروج وتخطتا حشود المنتظرين الذين لم يكن لديهم جرأة أو صبر على التدافع. لم تتحدثا معا حتى خرجتا إلى الهواء الحار ليلا، وتحركتا نحو مرأب السيارات. ثم قالت كارين: «ما الأمر؟ عاصفة جديدة؟» «عاصفة» هي الكلمة التي كانت روزماري وديريك أنفسهما يستخدمانها لوصف شجاراتهما التي كانا يرجعانها إلى صعوبات عملهما معا في كتاب ديريك .
قالت روزماري بهدوء مخيف: «لم نعد نتقابل، لم نعد نعمل معا.»
قالت كارين: «حقا؟ أتعنين أنكما انفصلتما؟»
قالت روزماري: «ذلك إذا كان من الممكن أن ينفصل اثنان مثلنا.» •••
كانت أضواء السيارات لا تزال تغمر طرقات المدينة كلها، وفي الوقت نفسه تنبعث منها حول الجسور الممتدة ذات المنعطفات والجداول المائية أسفلها. لم تكن سيارة روزماري تحتوي على مكيف هواء؛ ليس لأنها لا تستطيع تحمل ثمنه، بل لأنها لا تؤمن بضرورته؛ ولهذا فقد كان من الضروري أن تفتح نوافذ السيارة مما أدى إلى تسلل ضوضاء السيارات الأخرى كالنهر المتدفق. كانت روزماري تكره القيادة في تورونتو، حتى إنها تستقل الحافلة حين تأتي مرة أسبوعيا لمقابلة الناشر الذي تعمل معه، وفي أوقات أخرى يقلها ديريك. ظلت كارين صامتة وهما تنحرفان عن طريق المطار السريع، واتجهتا شرقا على طريق 401، ثم انعطفتا بعد نحو ثمانين ميلا - سيطر خلالها شرود الذهن على الأم بين الحين والآخر - إلى الطريق السريع الثانوي الذي يصل بهما إلى حيث تعيش روزماري.
قالت كارين: «إذن فقد رحل ديريك! هل سافر في رحلة؟»
ردت روزماري: «ليس على حد علمي. وحتى لو فعل، ما كنت لأعرف.» «وماذا عن آن؟ ألا تزال هناك؟»
قالت روزماري: «هذا محتمل؛ فهي لا تذهب إلى أي مكان.» «هل أخذ كل أغراضه معه؟»
كان ديريك قد أتى بأغراض تفوق بكثير ما لزمه للعمل في التأليف مستعينا برزم كثيرة من النصوص، ووضعها في الكارافان حيث تعيش روزماري. وما كانت هذه الأغراض سوى كتب بالطبع؛ ولكنها ليست فقط الكتب التي سيستخدمها كمراجع، بل كتب ومجلات يقرؤها في فترات استراحة تتخلل عمله بينما هو مستلق على فراش روزماري، وأسطوانات موسيقى، وملابس وأحذية طويلة الرقبة ينتعلها إذا ما قرر أن يتنزه سيرا على قدميه بين الشجيرات، وحبوب لعلاج اضطرابات المعدة ونوبات الصداع، بل إنه أحضر معه أخشابا ومعدات لصنع مظلة خشبية. كان يحتفظ في دورة المياه بأدوات الحلاقة، وكذلك الفرشاة ومعجون الأسنان المخصص للثة الحساسة. وكانت مطحنة القهوة الخاصة به على طاولة المطبخ (وكانت هناك مطحنة أخرى أحدث وأفخر ابتاعتها آن ووضعتها على طاولة المطبخ داخل المنزل الذي كان لا يزال يسكن فيه).
قالت روزماري: «لم يترك منها شيئا.» ثم توقفت بالسيارة بجوار متجر كعك - كان لا يزال يفتح أبوابه - على أطراف أول مدينة قابلتاها على الطريق السريع.
قالت: «سأبتاع قهوة لتبقيني يقظة.»
عادة عندما كانت روزماري تتوقف أمام هذا المتجر وبصحبتها كارين وديريك من قبل، لم تكن الابنة وديريك يترجلان عن السيارة؛ فديريك لم يكن يحتسي تلك القهوة، وكان يقول لكارين: «أمك تدمن ارتياد مثل هذه الأماكن؛ لأن طفولتها كانت بائسة.» لم يكن يعني أن روزماري كانت تصطحب لمثل هذه الأماكن، وإنما كانت محرومة من دخولها، كما كانت محرومة من كل الأطعمة المقلية أو المحلاة، وأجبرت على الالتزام بحمية قوامها الخضراوات والعصيدة اللزجة. ولم يكن هذا لفقر والديها - فقد كانا ثريين - وإنما لهوسهما وخوفهما من أطعمة بعينها منذ الصغر. عرف ديريك روزماري لفترة قصيرة - مقارنة بالسنين التي عرفها فيها تيد، والد كارين - لكنه كان يتحدث بسلاسة أكثر من تيد عن طفولتها وإفشاء أسرار تلك الفترة - مثل طقس الحقنة الشرجية الأسبوعي - التي كانت روزماري تتجاهل الحديث عنها.
لم يحدث قط خلال الوقت الذي قضته كارين في المدرسة بصحبة تيد وجريس أن وجدت نفسها في مكان تنبعث منه تلك الرائحة المزعجة للسكر المحروق والدهن ودخان السجائر والقهوة. أما روزماري فقد طافت عيناها بسعادة بين أرفف الكعك المحلى بالكريمة - المحشو بالجيلي والمغطى بطبقة من السكر البني والزبد والشوكولاتة - والبقلاوة والإكلير والحلوى المخروطية والكرواسون المحشي وكعك الشوفان والشوكولاتة. لم تجد سببا لأن ترفض أيا من هذه الأصناف، ربما بالطبع فيما عدا الخوف من السمنة، ولم تكن قادرة على تصور ألا تكون هذه المأكولات هي ما يشتهيه الجميع.
وعلى طاولة المتجر - حيث لا يسمح لأحد بالجلوس أكثر من عشرين دقيقة كما تقول اللافتة - جلست روزماري بالقرب من امرأتين شديدتي البدانة، شعرهما كثيف مموج، وبينهما رجل نحيل طفولي المظهر رغم تجاعيد وجهه، كان يتحدث بسرعة وبدا يتندر بالنكات. وبينما كانت السيدتان تهزان رأسيهما وتضحكان - وروزماري تلتقط الكرواسون باللوز من الطبق - غمز الرجل بعينه لكارين على نحو بذيء وإيحائي؛ نبهتها هذه الغمزة إلى أن أحمر الشفاه لا يزال على شفتيها. ثم قال لروزماري: «لا تستطيعين مقاومة الحلوى، أليس كذلك؟» فضحكت على اعتبار أن ما قاله دال على الألفة المميزة لأهل المدينة.
ردت عليه: «بلى، لا أستطيع البتة.» ثم التفتت لكارين وسألتها: «أواثقة أنك لا تريدين شيئا؟ قطعة حلوى واحدة؟»
فقال الرجل صاحب التجاعيد: «تحرص فتاتك الصغيرة على العناية بقوامها.» •••
كادت شوارع ذاك الجزء الشمالي من المدينة تخلو من أي سيارات مارة. بدأ الجو يبرد وتفوح منه رائحة رطوبة عطنة، وعلا صوت نقيق الضفادع حتى إنه غطى على صوت السيارة في بعض الأماكن. انعطف هذا الطريق السريع ذو الحارتين أمام صف من الشجيرات الكثيفة دائمة الخضرة وحقول أشجار العرعر الأقل كثافة والمزارع التي تمتد حتى الغابة، ثم انعطف مرة أخرى فأنارت مصابيح السيارة الأمامية الطريق وسقط ضوءها على أول كومة من الأحجار؛ كان بعضها ذا لون رمادي ووردي لامع، والبعض الآخر أحمر بلون الدم الجاف. وسرعان ما تكرر المرور بهذه الأحجار مرة تلو الأخرى، وفي بعض الأماكن رأتاها بألوان رمادية أو بيضاء مائلة للخضرة؛ متراصة في طبقات سميكة أو رفيعة - وكأن شخصا ما نظمها على هذا النحو - غير مكومة معا كأول مرة صادفتاها. تعرفت كارين على هذه الأحجار؛ إنها أحجار الكلس التي تبنى بها الأساسات، وفي هذه الأماكن كانت مختلطة بأحجار الدرع الكندي. ديريك هو من قال لها هذا. كان يقول إنه يتمنى لو كان جيولوجيا؛ لأنه يحب الصخور، لكنه ما كان ليفضل ذهاب الربح لصالح شركات التعدين. وكان شغوفا بالتاريخ أيضا؛ كان له مزيج غريب من الأشياء المفضلة. كان يقول إن التاريخ يصلح للرجل البيتوتي، والجيولوجيا للرجل المنطلق المحب للعمل في الهواء الطلق؛ يردد ذلك بوقار ورزانة يوحيان بأنه يسخر من نفسه.
الشيء الذي أرادت كارين أن تتخلص منه الآن - بل وتمنت أن تطيح به من نوافذ السيارة ليتلاشى في ظلمة السماء مع الهواء المندفع - هو مشاعر الازدراء والتعالي نحو حلوى الكرواسون باللوز والقهوة الرديئة التي تحتسيها روزماري خلسة، وذاك الرجل الذي كان يجلس على طاولة المتجر، بل وأيضا فستان روزماري المتصابي الذي كان أقرب لثياب الهيبيز، وشعرها المشعث. أرادت أيضا التخلص من شعورها بافتقاد ديريك، وبأنه خلف فراغا كبيرا، وبأن فرصة لقائه آخذة في التضاؤل. لكنها قالت بصوت عال: «إنني سعيدة؛ سعيدة أنه رحل.»
قالت روزماري: «أحقا أنت سعيدة؟»
قالت كارين: «ستكونين أكثر سعادة.»
ردت روزماري: «نعم، لقد بدأت أستعيد احترامي لذاتي. لا يدرك المرء إلى أي حد قد فقد احترامه لذاته، وإلى أي مدى يفتقده إلا بعد أن يبدأ في استعادته. أود أن نحظى معا بعطلة صيفية طيبة بالفعل. يمكن أن نخرج في رحلات قصيرة معا. لا مشكلة لدي في الذهاب بالسيارة إلى أي مكان آمن. يمكننا أن نسير في الغابة حيث كان يصطحبك ديريك. أحب أن نفعل هذا.»
قالت كارين: «حسنا» مع أنها لم تكن واثقة تماما أنهما لن تضلا الطريق دون ديريك. لم تكن تلك النزهات هي ما يشغل تفكيرها، بل انشغلت بمشهد حدث الصيف الماضي. حينها كانت روزماري مستلقية على الفراش، متدثرة بلحافها، تنتحب وتعض بأسنانها عليه وعلى الوسادة من الغضب والحزن، بينما يجلس ديريك أمام الطاولة - حيث كانا يعملان - وفي يده صفحة من النص يقرؤها. قال لكارين: «هل بإمكانك أن تفعلي شيئا لتهدئة أمك؟»
قالت كارين: «إنها في حاجة إليك أنت.»
قال ديريك: «لا أستطيع أن أتعامل معها حين تكون في هذه الحالة.» وضع من يده الصفحة التي انتهى منها، ثم التقط أخرى. وبين الصفحة والأخرى، ينظر إلى كارين وعلى وجهه عبوس ومعاناة. بدا مرهقا عجوزا تعبا. قال لها: «لا أستطيع تحملها. أنا آسف.»
لذا دلفت كارين لغرفة النوم حيث تستلقي روزماري وأخذت تربت على ظهرها، فاعتذرت لها روزماري.
وتساءلت: «ماذا يفعل ديريك؟»
ردت كارين: «يجلس في المطبخ.» إذ لم ترد أن تقول إنه «يقرأ». «ماذا قال؟» «طلب إلي أن آتي لأتكلم معك.» «آه يا كارين؛ كم أشعر بالخزي الشديد!»
ماذا حدث ليبدأ هذا الشجار؟ كانت روزماري دائما ما تقول لها - بعد أن تهدأ وتهندم نفسها - إن السبب هو خلاف بشأن العمل. وفي تلك المرة، قالت لها كارين: «إذن لم لا تتوقفين عن العمل في كتابه هذا؟ لديك من الأمور الخاصة بك ما يشغلك.» كانت روزماري محررة نصوص، وهو الأمر الذي جعلها تقابل ديريك؛ ليس لأنه تقدم بكتابه إلى الناشر الذي تعمل لديه - فلم يكن قد عرفه بعد - بل لأنها كانت تعرف أحد أصدقائه الذي قال له: «أعرف امرأة يمكن أن تساعدك.» ولم يمض وقت طويل حتى انتقلت روزماري إلى الريف، ثم إلى الكارافان - الذي لم يكن بعيدا عن بيته - كي تكون قريبة منه لتنجز له عمله. في البداية، احتفظت بالشقة التي تمتلكها في تورونتو، لكنها تخلت عنها؛ لأنها صارت تقضي جل وقتها في الكارافان. ولكنها في الوقت نفسه، لم تتوقف عن العمل على تحرير نصوص أخرى - وإن لم تكن كثيرة - واستطاعت أن تلتزم بالعمل يوما واحدا أسبوعيا في تورونتو، فكانت تخرج في الساعة السادسة صباحا وتعود بعد الحادية عشرة ليلا.
سأل تيد كارين: «ما موضوع هذا الكتاب؟»
فردت عليه: «يتحدث عن المستكشف لاسال والهنود.» «أهذا الرجل مؤرخ؟ هل يدرس في الجامعة؟»
لم تكن لدى كارين إجابة عن هذا السؤال؛ فقد عمل ديريك في مهن كثيرة؛ عمل مصورا، وفي منجم، وخبير معاينة، أما عن عمله في التدريس فلعله - كما ظنت كارين - قد عمل في مدرسة ثانوية. وكانت آن تقول عن عمله: «إنه لا يتسم بأي نظام.»
كان تيد نفسه يدرس في الجامعة؛ إذ كان أستاذ اقتصاد.
بالطبع لم تخبر كارين تيد وجريس أي شيء عما حدث من مآس ناتجة عن الخلافات المتعلقة - ظاهريا - بهذا الكتاب. كانت روزماري تلوم نفسها على هذه الخلافات وترجعها أحيانا إلى التوتر، وأحيانا أخرى إلى مرورها بسن اليأس. ولقد سمعتها كارين تتحدث إلى ديريك ذات مرة قائلة: «سامحني»، فرد عليها ديريك بنبرة رضا تعوزها الحماسة: «ليس ثمة ما أسامحك عليه .»
حينها غادرت روزماري الغرفة. لم يسمعاها تشرع في النحيب مرة أخرى، لكنهما ظلا يترقبان بكاءها. أمعن ديريك النظر في عيني كارين، وعلى وجهه تعبير هزلي يمتزج فيه الألم بالحيرة.
لعله كان يقول في نفسه: «ماذا فعلت هذه المرة؟»
قالت كارين بصوت يفيض شعورا بالخزي: «إنها حساسة للغاية.» أيرجع هذا إلى سلوك روزماري؟ أم لأن ديريك بدا وكأنه يقحمها - أي كارين - في ذلك الشعور بالرضا والاستخفاف الذي تجاوز كثيرا هذه اللحظة؛ لأنه لا يسعها إلا أن تشعر بالفخر؟
أحيانا كانت تخرج من البيت غير مكترثة، وتسلك الطريق قاصدة زيارة آن، ودائما ما كانت آن تسعد لقدومها. لم تسأل قط عن سبب الزيارة، لكن إن قالت كارين: «جرى بينهما شجار أحمق»، أو «إنهما يمران بإحدى عواصفهما» - وذلك فيما بعد عندما أصبحا يشيران إلى خلافاتهما بكلمة عاصفة - فحينها لا يبدو عليها أي شيء يدل على دهشة أو استياء. ولعلها تقول: «ديريك كثير المطالب» أو «أظنهما سيسويان أمورهما معا.» لكن إن أرادت كارين أن تستفيض قائلة: «روزماري تبكي»، فإن آن تقول حينها: «هناك أمور أفضل عدم الحديث عنها، ألا ترين هذا؟»
لكن هناك أمورا أخرى كانت تنصت إليها بابتسامة تنم عن التحفظ. كانت آن امرأة جميلة المحيا، ممتلئة القوام، شيباء الشعر منسدل على كتفيها، وعلى جبهتها. حين كانت تتحدث، كانت عيناها ترمشان في العادة، ولا تنظر في عيني محدثها (قالت روزماري إن ذلك بسبب اضطراب في أعصابها). وكانت شفتاها - شفتا آن - رفيعتين للغاية وتظهران بالكاد عندما تبتسم، وما ابتسمت قط وفمها مفتوح، بل أغلقته دوما كأنها تحبس شيئا لا تريد إخراجه.
قالت كارين: «هل تعرفين كيف قابلت روزماري تيد؟ في محطة انتظار الحافلة وسط المطر، بينما كانت تضع أحمر الشفاه.» ثم استطردت لتشرح أن روزماري كانت تضطر للتزين في المحطة؛ لأن والديها لم يكونا يعرفان أنها تستخدم مساحيق التجميل؛ فالديانة التي كانوا يؤمنون بها تحرم أحمر الشفاه، وكذلك الأفلام، وارتداء الكعب العالي، والرقص، والسكر والقهوة والمشروبات الكحولية، والسجائر بالطبع. وكانت روزماري في عامها الأول في الجامعة، ولم تكن ترغب أن تبدو متشددة. وكان تيد مدرسا مساعدا في الجامعة.
أضافت كارين: «لكن كلا منهما كان يعرف الآخر مسبقا.» ثم أخذت تشرح لها أنهما كانا يعيشان في الشارع ذاته؛ تيد في بيت صغير ملحق بأكبر بيوت الأثرياء - كان والده السائق والبستاني وأمه مدبرة المنزل - وروزماري في أحد بيوت الأثرياء العادية على الجهة الأخرى من الشارع (مع أن حياة والديها لم تكن حياة أثرياء إطلاقا؛ فلم يكن أفراد الأسرة يمارسون أي رياضة أو يذهبون إلى حفلات أو رحلات، ولسبب ما لم يكن في المنزل ثلاجة، وإنما ظلوا يستخدمون صناديق ثلج لحفظ الأطعمة، إلى أن توقف متجر الثلج عن العمل).
كان تيد يمتلك سيارة اشتراها بمائة دولار، وفي تلك الليلة - حيث تقابلا - أشفق على روزماري من المطر فعرض عليها أن يقلها في سيارته.
بينما كانت كارين تسرد هذه القصة على آن، تذكرت حينما كان والداها يقصانها عليها ويضحكان ويقاطع أحدهما الآخر بطريقتهما المعتادة. دائما ما كان تيد يذكر سعر السيارة وطرازها وسنة إنتاجها (ستودبيكر، 1947)، وتذكر روزماري أن الباب الأمامي - الملاصق للمقعد الذي يجاور مقعد تيد - لم يكن يفتح، فكان تيد يضطر للخروج من السيارة حتى تركب هي في البداية عبر مقعده. وكان يذكر أيضا أنه بعد لقائهما الأول تحت المطر بفترة وجيزة اصطحبها - بعد الظهيرة - لدار السينما لمشاهدة أول فيلم في حياتها، واسم الفيلم «البعض يحبها ساخنة»، وأنه يومها خرج من السينما في وضح النهار وأحمر الشفاه يلطخ وجهه؛ لأن روزماري لم تكن تعلم وقتها ماذا كانت الفتيات الأخريات يفعلن بأحمر الشفاه. كان يردد دائما: «كانت روزماري شديدة الحماس.»
بعدها تزوجا وعقدت المراسم في منزل القس؛ وكان ابنه صديقا لتيد. ما كان أهلهما يعرفان بزيجتهما هذه، وبعد مراسم الزفاف مباشرة جاءتها الدورة الشهرية، فكانت أولى المهام الزوجية التي اضطلع بها تيد كرجل متزوج هي شراء الفوط الصحية. «هل تعرف أمك أنك تلقين على مسامعي هذه الأخبار يا كارين؟» «لو علمت لن تعترض. بعدها، حين اكتشفت أمها أمر الزواج ، آوت إلى فراشها من الصدمة، وتملكها شعور مروع لهذا الخبر. لو علم والداها أنها ستتزوج كافرا، لحبساها في المدرسة الدينية التابعة للكنيسة بتورونتو.»
قالت آن: «كافر؟ حقا؟ وا أسفاه!»
ربما كانت تأسف لعدم استمرار الزواج بعد كل هذا العناء. •••
تزحزحت كارين لأسفل على مقعدها في السيارة، فأصبح رأسها يصطدم بكتف روزماري.
قالت: «هل يضايقك هذا؟»
قالت روزماري: «لا.»
قالت كارين: «لن أنام، أريد أن أكون مستيقظة حين ندخل الوادي.»
فشرعت روزماري في الغناء:
فلتستيقظ، استيقظ يا عزيزي كوري ...
غنت بصوت خفيض متأن مقلدة صوت بيت سيجر في تسجيله للأغنية، ولم تفق كارين من نومها إلا حين توقفت السيارة بعد أن صعدت طريقا منحدرا قصيرا مليئا بالحفر حتى وصلت إلى الكارافان، ثم ظلت واقفة تحت الأشجار بجانبه. كان المصباح مضاء فوق الباب مباشرة. لم يكن ديريك بالداخل، وكذلك أي من أغراضه. لم ترد كارين أن تتحرك من السيارة، وإنما أخذت تراوغ وتحتج على نحو لطيف، ولم تكن لتتصرف على هذا النحو في وجود أي شخص سوى روزماري.
قالت روزماري: «هيا اخرجي. اخرجي، ستأوين إلى الفراش بعد دقيقة، هيا.» ثم أكملت وهي تجرها وتضحك: «أتظنين أنني أستطيع حملك؟» وعندما جرت كارين للخارج، ما أدى إلى تعثر الفتاة بالقرب من الباب، قالت: «انظري إلى النجوم، انظري إلى النجوم، إنها رائعة.» وما كان من كارين إلا التذمر وهي ما زالت تخفض رأسها.
قالت روزماري: «إلى الفراش، إلى الفراش.» دخلتا الكارافان، وانبعثت منه رائحة طفيفة خلفها ديريك؛ حيث الماريجوانا وبذور القهوة والأخشاب. انبعثت منه أيضا رائحة المكان نفسه الناتجة عن عدم تهويته لفترة، إلى جانب رائحة السجاد والطبخ. استلقت كارين بثيابها كاملة على فراشها الصغير، وألقت لها روزماري بمنامتها التي كانت ترتديها العام الماضي وقالت: «بدلي ثيابك وإلا فسيصاحبك شعور مزعج حين تستيقظين. سوف نحضر حقيبتك في الصباح.»
بذلت كارين ما بدا لها مجهودا مضنيا وهي تعتدل جالسة لتخلع ثيابها ثم ترتدي المنامة. أما روزماري، فانشغلت بفتح النوافذ، وآخر ما سمعته كارين منها هو قولها : «ماذا عن أحمر الشفاه؟ ماذا كان الغرض منه؟» وكان آخر ما أحست به هو ملمس قطعة القماش المبللة التي مسحت به أمها فمها لإزالة أحمر الشفاه؛ فبصقت كارين ما دخل فمها من مذاق سيئ، مستمتعة بشعورها الطفولي، وبرودة الفراش أسفل منها، ورغبتها الشديدة في النوم. •••
كان ذلك ليلة السبت والساعات الأولى من صباح الأحد. وفي صباح الإثنين، تساءلت كارين: «هل يمكنني الخروج لزيارة آن؟» فقالت روزماري: «بالطبع. اذهبي.»
كانت كارين وأمها قد نامتا في وقت متأخر ليلة الإثنين، ولم تغادرا الكارافان طوال يوم الأحد. فزعت روزماري لهطول المطر وقالت: «الليلة الماضية كانت النجوم متلألئة في السماء، وكذلك عندما عدنا إلى البيت، وها هي تمطر في أول أيام إجازتك الصيفية.» كان على كارين أن تؤكد لها أن الأمر على ما يرام، فهي على أي حال تشعر بالكسل ولا تريد الخروج. أعدت روزماري لها قدحا من القهوة بالحليب، وقطعت بطيخة لتأكلاها معا غير أنها لم تكن ناضجة تماما (كانت آن تلاحظ هذا، لكن روزماري لم تلاحظ)، ثم قامتا في الرابعة عصرا بإعداد وجبة عامرة من لحم الخنزير وكعك الوافل والفراولة والكريمة الصناعية. وفي قرابة الساعة السادسة، غابت الشمس وهما لا تزالان ترتديان منامتيهما. وهكذا انتهى اليوم بلا فائدة. قالت روزماري: «على الأقل لم نشاهد التليفزيون؛ وهذا إنجاز نهنئ أنفسنا عليه.»
قالت كارين وهي تشغله: «حتى الآن.»
كانتا تجلسان وسط كومة من المجلات القديمة التي سحبتها روزماري من الخزانة. كانت هذه المجلات موجودة في الكارافان عندما انتقلت إليه، وأخرجتها روزماري هذا اليوم وفي نيتها التخلص منها أخيرا، لكن بعد أن تطلع عليها لتصنفها وترى إذا كان من بينها ما يستحق الاحتفاظ به. غير أنها لم تصنفها كما قالت؛ بل ظلت تقرأ بصوت عال ما تجده من أخبار. ضجرت كارين في بادئ الأمر، لكنها تركت نفسها لاحقا تنجذب إلى هذا الزمان الغابر، بإعلاناته الطريفة وصور السيدات بتسريحات الشعر غير العصرية.
لاحظت كارين أن هناك دثارا مطويا وموضوعا فوق الهاتف، فقالت: «ألا تعرفين كيف توقفين تشغيل الهاتف؟»
قالت روزماري: «لا أريد إيقاف تشغيله، وإنما أريد سماع رنينه ولا أجيبه. أود أن أمتلك القدرة على تجاهله. كل ما في الأمر أنني لا أريد رنينه عاليا.»
لكنه لم يرن طوال اليوم.
في صباح الإثنين، ظل الدثار فوق الهاتف، وعادت المجلات إلى الخزانة؛ لأن روزماري لم تقرر أي منها ستتخلص منه. كانت السماء ملبدة بالغيوم لكنها لم تمطر. استيقظتا في وقت متأخر جدا مرة أخرى؛ لأنهما ظلتا مستيقظتين تشاهدان فيلما حتى الثانية صباحا.
فردت روزماري بعض الأوراق المطبوعة على طاولة المطبخ. لم تكن صفحات من كتاب ديريك؛ فهذه الكومة الكبيرة قد اختفت. قالت كارين: «أكان كتاب ديريك شائقا بالفعل؟»
لم تفكر قبل اليوم في أن تتحدث مع روزماري عنه، فقد كان نص كتابه من وجهة نظرها يشبه كومة كبيرة ومتشابكة من الأسلاك الشائكة الموضوعة باستمرار على الطاولة، وديريك وروزماري يحاولان دوما فكها.
قالت روزماري: «لم يتوقف عن إضافة التغييرات والتعديلات؛ كان شائقا لكنه مربك. في البداية، كان لاسال شغله الشاغل، ثم بعدها تحول إلى بونتياك وحاول أن يغطي الكثير عنه، لكنه لم يستطع أن ينجز ما يرضيه.»
قالت كارين: «إذن، فأنت سعيدة بأنك تخلصت منه.» «غاية في السعادة، فلم يكن إلا سلسلة لا تنتهي من التعقيدات.» «لكن، ألا تفتقدين ديريك؟»
قالت روزماري منشغلة بينما تميل متطلعة في إحدى الأوراق لتضع عليها علامة: «انتهت صداقتنا.» «وماذا عن آن؟» «وتلك الصداقة أيضا أظنها تلاشت، بل إنني فكرت ...» وضعت القلم من يدها، ثم أكملت: «فكرت في الرحيل من هنا، لكنني رأيت أن أنتظرك. لم أرغب أن ترجعي لتجدي كل شيء قد تغير. السبب الذي جئت هنا لأجله هو كتاب ديريك، بل هو ديريك نفسه، وأنت تعلمين هذا.»
قالت كارين: «ديريك وآن.» «نعم. ديريك وآن. والآن اختفى السبب.»
كان هذا حين تساءلت كارين: «هل يمكنني الخروج لزيارة آن؟» وقالت روزماري: «بالطبع. اذهبي. لسنا مضطرتين لاتخاذ قراراتنا في عجالة. إنها مجرد فكرة راودتني.» •••
سارت كارين على الطريق المفترش بالحصى، وأخذت تتساءل عما تغير بخلاف الغيوم التي لم تكن ضمن ما تحمل من ذكريات عن الوادي. بعدها أدركت أين يكمن التغيير؛ ففي الماضي لم تكن هناك أبقار ترعى في الحقول، وأيضا نما العشب؛ مما جعل شجيرات الصنوبر تنتشر، فصار من المتعذر رؤية مياه الجدول.
كان الوادي طويلا ضيقا، وعند نهايته يقع بيت ديريك وآن ذو الطلاء الأبيض. وكان سطح الوادي مفترشا بالعشب المسطح المشذب الذي اخترقه الجدول صافيا رقراقا العام الماضي (أجرت آن الأرض - الآن - لرجل يمتلك قطيعا من أبقار آنجس). وعلى جانبي الوادي، اصطفت المرتفعات المنحدرة المغطاة بالأشجار والنباتات والتقت معا عند حدوده خلف المنزل. كان الكارافان الذي استأجرته روزماري معدا في الأساس ليسكنه والدا آن، اللذان انتقلا إليه عندما امتلأ الوادي بالجليد في الشتاء؛ إذ أرادا العيش بالقرب من المتجر الذي كان يقع وقتها على ناصية طريق البلدة. لكن لم يتبق من المتجر الآن سوى رصيف أسمنتي به فتحتان - حيث توجد أسطوانتا الغاز - وحافلة قديمة تغطي نوافذها الأعلام ويعيش بها بعض أفراد الهيبيز. وأحيانا كانوا يجلسون على الرصيف ويحرصون على التلويح لروزماري وهي تمر أمامهم بسيارتها على نحو يوحي باحترامهم لها.
قال ديريك إن هؤلاء الشباب يزرعون الماريجوانا بين الشجيرات، لكنه لم يكن يشتري منهم؛ لأنه لا يثق في قدرتهم على اتخاذ التدابير الأمنية.
كانت روزماري ترفض أن تدخن مع ديريك.
ذات مرة قالت له: «أشعر بالارتباك حين أكون بالقرب منك؛ لا أظن أنه شيء سأشعر بالراحة وأنا أفعله.»
فرد عليها: «افعلي ما يحلو لك، مع أن هذا قد يساعدك.»
لم تكن آن لتدخن هي الأخرى؛ قالت إنها لو دخنت لشعرت بالحماقة؛ فهي لم تدخن أي شيء من قبل، بل إنها لا تعرف حتى كيف تستنشق الدخان.
لم تعرف أي منهما أن ديريك سمح لكارين ذات مرة أن تدخن، ولم تكن كارين نفسها تعرف كيف تستنشق الدخان؛ ولذا لزم عليه أن يعلمها. بذلت مجهودا كبيرا في المحاولة، استنشقت الدخان بعمق أكثر من اللازم، وكم قاومت لئلا تتقيأ. حدث ذلك في الحظيرة، حيث احتفظ ديريك بكل عينات الصخور التي جمعها من المرتفعات، وحينها أخذ ديريك يحثها على الثبات بأن طلب منها النظر إلى الصخور.
قال لها: «انظري إليها فحسب. انظري إليها وتأملي الألوان. لا تضغطي على نفسك وأنت تحاولين. فقط انظري وانتظري.»
لكن ما بعث على شعورها بالهدوء في النهاية كانت الكلمات المنقوشة على صندوق من الورق المقوى. كانت هناك مجموعة كبيرة من الصناديق المصنوعة من الورق المقوى التي حزمت آن فيها الأغراض عندما انتقلت هي وديريك إلى هنا من تورونتو منذ بضعة أعوام. أحد هذه الصناديق كان يحمل على جانبه رسما للعبة على شكل سفينة حربية، والكلمتين «بارجة حربية». وكانت أولى هاتين الكلمتين - بارجة - مكتوبة بخط أحمر، وكانت الحروف تومض وكأنها كتبت بمصابيح نيون لتحث كارين على تجاوز معنى الكلمة والانشغال بما هو أكثر؛ إذ أخذت تفكك الحروف وتكون كلمات مختلفة منها.
قال لها ديريك: «ما الذي يضحكك؟» فأخبرته عما تفعل، وأخذت الكلمات تنهمر على لسانها على نحو مثير للإعجاب.
بار. جرة. جبر. جرب. جراب. جر. بر. بر. تجارب. وكانت كلمة «تجارب» أفضل الكلمات؛ لأنها اشتملت على كل حروف «بارجة»، باستثناء أن التاء مفتوحة.
قال ديريك: «رائع، رائع يا كارين. البار جر الجرة.»
لم يشعر بالحاجة قط لأن يطلب منها عدم ذكر أي مما حدث لأمها أو لآن. وعندما قبلتها روزماري في تلك الليلة، اشتمت شعرها وضحكت قائلة: «يا إلهي، رائحته في كل مكان. ديريك حشاش بمعنى الكلمة!»
كانت تلك واحدة من المرات التي شعرت فيها روزماري بالسعادة؛ فقد كانت في بيت ديريك وآن يتناولون العشاء في الشرفة المغطاة. قالت آن: «تعالي معي يا كارين لنرى إذا كنت تستطيعين مساعدتي في إخراج القشدة المخفوقة من القالب.» فتبعتها كارين، لكنها عادت متحججة بإحضار منقوع النعناع.
كان روزماري وديريك حينها متكئين على الطاولة يداعب كل منهما الآخر - وكأنما يتبادلان القبلات - ولم يرياها عندما عادت.
ربما كانت تلك الليلة ذاتها هي التي مزحت فيها روزماري عند رؤية كرسيين بجوار الباب الخلفي وهي راحلة إلى الكارافان . كانا كرسيين قديمين من المعدن لونهما أحمر داكن، وعليهما وسادتان. كان وضعهما تجاه الغرب، نحو آخر ما تبقى من أشعة الشمس الغاربة.
قالت آن: «أعلم أن هذين الكرسيين القديمين بشعان. إنهما ملك والدي.»
قال ديريك: «إنهما ليسا مريحين حتى.»
قالت روزماري: «كلا، إنهما جميلان؛ يشبهانكما. أنا أحبهما. انظرا. ديريك وآن. ديريك وآن. ديريك وآن يشاهدان الغروب في نهاية يوم عمل شاق.»
قال ديريك: «هذا لو استطاعا مد البصر خلال عروش البازلاء.»
وفي المرة اللاحقة، عندما خرجت كارين من المنزل لتجمع خضراوات تحتاجها آن، لاحظت أن الكرسيين قد اختفيا، لكنها لم تسأل آن عما حدث. •••
كان مطبخ آن في قبو المنزل، ويقع جزء منه تحت الأرض، حتى إن من يريد أن يدخله ينزل أربع درجات إلى أسفل. نزلت كارين هذه الدرجات، ثم ألصقت وجهها بالباب الشبكي حتى تستطيع الرؤية. كان المطبخ مظلما؛ إذ كانت الشجيرات تنمو أمام نوافذه العالية فتحول دون دخول الضوء، ولم تأته كارين قط قبل هذه المرة والمصابيح غير مضاءة. لكنها الآن غير مضاءة، حتى إنها لأول وهلة ظنت أن الغرفة خالية. لكنها بعد ذلك رأت أن هناك من يجلس على مائدة الطعام؛ كانت آن، لكن رأسها كان مختلفا، وكانت تسند ظهرها إلى الباب.
لقد قصت شعرها فصار أقصر ومشعثا، فبدت كأي كهلة شيباء. وكانت تفعل شيئا وهي جالسة على مائدة الطعام؛ لأن مرفقيها كانا يتحركان. كانت تعمل في العتمة؛ ولذا لم تستطع كارين التحقق مما تفعل.
جربت حيلة حتى تستدير آن؛ أخذت تحدق في رأسها من الخلف، لكنها لم تفلح؛ فجربت أن تحرك أصابعها بخفة على شبكة الباب. وأخيرا، أصدرت صوتا لتلفت انتباهها. «ووو ... وو ... ووو ... ووو.»
نهضت آن على مضض، حتى ظنت كارين سريعا - وبما لا يتفق مع المنطق - أن آن كانت تعلم أنها وراءها طوال الوقت؛ فربما رأتها قادمة ولذا جلست هكذا في هذا الوضع الحذر.
قالت كارين: «إنها أنا؛ ابنتك الضالة.»
قالت آن وهي تفتح سلسلة الباب: «لماذا فعلت ذلك؟» ولم تحي كارين باحتضانها ؛ وما فعلت ذلك قط معها، وكذلك ديريك.
لقد ازدادت بدانة - أو أن شعرها القصير جعلها تبدو أكثر بدانة - وكان وجهها ملطخا ببقع حمراء، كأنها لدغات حشرات. وبدت عيناها محتقنتين.
قالت كارين: «هل تؤلمك عيناك؟ ألهذا تعملين في الظلام؟»
قالت آن: «يا إلهي، لم ألحظ هذا. لم ألحظ أن المصابيح غير مضاءة. كنت أنظف بعض الفضيات، وظننت أنني أراها بشكل جيد.» ثم بذلت مجهودا كبيرا لتبدو أكثر بهجة، متحدثة مع كارين كأنها تخاطب طفلة أصغر بكثير من عمر كارين الحقيقي، قائلة لها: «تنظيف الفضيات عمل ممل للغاية، لا بد أنني انغمست فيه، ما جعلني لا أدري بما يحدث حولي. كم سيكون رائعا أن تساعديني فيه!»
وهكذا صارت كارين مؤقتا - وبتخطيط منها - الابنة الأصغر عمرا من سنها الحقيقية؛ فتمددت على الكرسي المجاور للمائدة وقالت بصخب: «إذن، أين ديريك العجوز؟» جال بخاطرها أن سلوك آن الغريب قد يعني أن ديريك ربما ذهب في واحدة من رحلاته الاستكشافية في المرتفعات ولم يعد بعد، تاركا وراءه آن وروزماري، أو أنه ربما يكون مريضا أو مكتئبا. سبق وأن قالت آن: «ما كان ديريك يشعر بنصف هذا الاكتئاب عندما تركنا المدينة.» وتساءلت كارين عما إذا كانت كلمة: «الاكتئاب» هي الكلمة الصحيحة لوصف ما يمر به؛ فقد بدا لها ديريك ناقدا، وأحيانا نافد الصبر. أهذا هو الاكتئاب؟
قالت آن: «أظنه بالقرب منا بلا شك في مكان ما.» «لقد انفصل هو وروزماري، هل علمت هذا؟» «نعم يا كارين. علمت.» «أتشعرين بالأسى لما حدث؟»
قالت آن: «هذه طريقة جديدة ابتدعتها لتنظيف الفضيات. سأعلمك إياها. ما عليك إلا أن تلتقطي ملعقة أو شوكة أو أي شيء آخر وتغمسيه في هذا المحلول الموجود في هذا الحوض، وتتركيه للحظة ثم تلتقطيه وتغمسيه في ماء الشطف وتجففيه بمنشفة. أترين؟ إنها تلمع تماما كما كانت تلمع عندما أدعكها وأجليها. أو هكذا أظن. أعتقد أنها براقة للغاية. سوف أحضر بعض مياه الشطف النقية.»
غمست كارين شوكة في المحلول وقالت: «بالأمس قضينا - أنا وروزماري - اليوم كما حلا لنا، حتى إننا لم نبدل ثياب النوم. صنعنا كعك الوافل وقرأنا بعض الأخبار في المجلات القديمة؛ منها أعداد قديمة من «ليديز هوم جورنالز».»
قالت آن بشيء من الغلظة: «هذه المجلات تخص أمي.»
قالت كارين: «قرأت فيها الإعلان المروج لأحد الكريمات: «إنها جميلة. إنها مخطوبة. إنها تستخدم مستحضرات بوندز».»
كم أسعدها هذا الحديث! فابتسمت وردت عليها: «نعم، أتذكره.»
قالت كارين بنبرة صوت خفيضة وحزينة: «ألا يمكن إنقاذ هذه الزيجة؟» ثم تغيرت نبرتها إلى المداعبة الممزوجة بالتذمر. «المشكلة أن زوجي سيئ الطباع للغاية، ولا أدري كيف أتصرف معه. لقد التهم جميع أطفالنا؛ ليس لأنني لا أطهو له طعاما شهيا - فأنا أطهو له ما لذ وطاب - بل إني أقف كادحة طوال اليوم أمام موقد حار كي أطهو له عشاء شهيا، ليأتي هو إلى المنزل وأول ما يفعله هو خلع ساق أحد الأطفال عن جسده ...»
قالت آن ولم تعد تبتسم: «كفى. كفى يا كارين.»
فقالت كارين بهدوء وإصرار: «لكنني فعلا أريد أن أعرف؛ ألا يمكن إنقاذ هذه الزيجة؟»
طوال العام المنصرم، حين كانت كارين تفكر في أكثر مكان تود أن تكون فيه، كان ذهنها يوجهها نحو هذا المطبخ، وهو حجرة كبيرة تظل أركانها معتمة حتى عندما توقد المصابيح، وتتخلل نوافذه أوراق الشجر الخضراء وتحتك بها مع حركة الرياح. وكل ما يوجد فيه بلا استثناء لا يمكن أن ينتمي لمطبخ بطبيعة الحال: ماكينة الخياطة ذات الدواسة، والمقعد ذو الذراعين الضخمتين المبطنتين؛ بغطائه الكستنائي الذي استحال أخضر مائلا للرمادي عند الذراعين، وتلك اللوحة الكبيرة المرسوم عليها شلال الماء التي رسمتها أم آن منذ زمن بعيد عندما كانت عروسا لديها ما يكفي من الوقت الذي لم يتح لها فيما بعد. (قال ديريك ذات مرة: «وهو من حسن حظنا جميعا».)
سمعت كارين وآن صوت سيارة في باحة المنزل، فتساءلت كارين؛ أيمكن أن تكون روزماري؟ هل يمكن أن تكون روزماري من السيدات اللاتي يكتئبن حين يتركن بمفردهن، فقررت أن تتبع كارين طالبة صحبتها؟
لكنها حين سمعت وقع حذاء على درج السلم بالمطبخ، عرفت أنه ديريك.
فصاحت: «مفاجأة، مفاجأة، انظري من القادم.»
دلف ديريك إلى المطبخ، وقال: «مرحبا كارين.» قالها دون ذرة ترحيب. وضع على الطاولة كيسين، فقالت له آن برقة: «هل أحضرت الفيلم الذي تريد؟»
قال ديريك: «نعم. ما هذه القذارة؟»
قالت آن: «كنت أنظف الفضيات.» ثم وجهت كلامها لكارين وكأنها تعتذر عما قال: «لقد ذهب للمدينة لشراء فيلم فوتوغرافي للكاميرا ليلتقط صورا للصخور.»
انحنت كارين على السكين الذي كانت تجففه. أسوأ ما يمكن أن تفعل في تلك اللحظة هو أن تشرع في البكاء (كان هذا مستحيلا في الصيف الماضي). سألت آن ديريك عن بعض الأشياء الأخرى - البقالة - التي أحضرها، بينما رفعت كارين عينيها متعمدة وثبتتهما على الجزء الأمامي من الموقد. قالت لها آن ذات مرة إنه لم يعد يصنع، فهو مزيج من الأفران الخشبية والكهربائية، وعلى بابه صورة مركب شراعي مكتوب فوقها «مواقد كليبر».
هذا أيضا كانت تتذكره طوال العام المنصرم.
قالت آن: «أعتقد أن كارين يمكنها مساعدتك في ترتيب الصخور.»
سادت فترة من الصمت، ربما نظر أحدهما إلى الآخر خلالها، ثم قال ديريك: «حسنا يا كارين، تعالي ساعديني في التقاط الصور.» •••
كان كثير من تلك الصخور منتشرا على أرضية الحظيرة، ولم تكن قد صنفت بعد أو وضعت عليها بطاقات للتعريف بها، لكن كانت هناك صخور أخرى موضوعة على الأرفف منفصلة، وأمام كل منها بطاقة مطبوعة لتعريفها. ظل ديريك صامتا لفترة، بينما يحرك الصخور ويعبث بالكاميرا محاولا التوصل إلى أفضل زاوية وأفضل إضاءة. وعندما بدأ في التقاط الصور، أخذ يصدر أوامر مقتضبة لكارين كي تغير أماكن الصخور أو تميلها أو تلتقط صخورا أخرى من الأرض كي يصورها، حتى وإن كانت بلا بطاقات تعريف. بدا لها أنه لا يحتاج - أو لا يريد - عونها بالفعل، ولأكثر من مرة يتأهب ويلتقط أنفاسه وكأنه على وشك إخبارها بهذا - أو بأمور أخرى هامة وغير سارة - لكن بعدها لا يقول سوى: «حركيها إلى اليمين قليلا» أو «أديريها لأرى جانبها الآخر.»
طوال الصيف الماضي، ما فتأت كارين تلح إلحاح الصبية المزعجين وتطلب بجدية الذهاب مع ديريك في واحدة من رحلاته الاستكشافية، إلى أن وافق أخيرا، لكنه صعب عليها الأمر قدر استطاعته، وجعل اصطحابها له هذه المرة بمنزلة الاختبار. رشا جسديهما برذاذ أوف الطارد للحشرات، لكنه لم يمنع عنهما الحشرات بالكلية، فقد تسللت إلى شعريهما وإلى ما تحت ياقتيهما وأساور قميصيهما. وكان عليهما أن يخوضا في الوحل وتبتل أحذيتهما طويلة الرقبة من أسفل، ثم يتسلقا منحدرات شاهقة مغطاة بقصب التوت وشجيرات الورد البري ونباتات معترشة وعرة تعيق مسيرتهما. وكذلك كان عليهما أن يتسلقا نتوءات صخرية ملساء ومائلة. وكان كل منهما يضع جرسا حول عنقه كي يعرفا أماكنهما من على بعد إذا ما افترقا، وحتى تعرف الدببة أنهما قادمان فتبتعد عنهما.
وبينما يسيران، أتيا على كومة كبيرة من فضلات الدببة، وكانت لامعة بما يشير إلى أنه لم يمر وقت طويل على إخراجها، وميزا فيها قلب ثمرة تفاح نصف مهضومة.
وخلال هذه الرحلة، أخبرها ديريك أنه كانت هناك مناجم كثيرة متناثرة في أنحاء هذه البلدة، وأن هذه المناجم تكاد تحوي بداخلها جميع أنواع المعادن، لكن بكميات زهيدة تحول دون جعلها مربحة. وقد زار هو نفسه كل هذه المناجم المهجورة التي كادت تسقط في طي النسيان، حيث كسر الصخور ليأخذ عينات، أو التقطها ببساطة من على الأرض. وفي هذا الشأن قالت آن: «أول مرة أتيت به إلى المنزل اختفى في أحد المرتفعات واكتشف منجما، حينها عرفت أنه - على الأرجح - سيتزوجني.»
كانت المناجم تمثل خيبة أمل لكارين، مع أنها لم تقل هذا قط؛ فقد كانت تحلم بشيء كمغارة علي بابا، تتلألأ فيها الأحجار اللامعة في الظلام. لكن ما حدث أن ديريك أراها مدخلا ضيقا - يبدو كشق طبيعي في الصخور - وقد صارت تسده الآن شجرة حور امتدت جذورها في هذا المكان السخيف فنمت منحنية. أما عن المدخل الثاني، الذي قال ديريك إنه الأسهل، فقد كان مجرد فجوة في جانب تل، وبه عوارض متعفنة - بعضها مسجى على الأرض وبعضها ما زال يدعم جزءا من السقف - وقوالب طوب تحجز ثرى وحطام صخري. قام ديريك بتحديد الآثار الباهتة للقضبان التي كانت تسير فوقها عربة نقل المعادن. وحول المكان تناثرت قطع من مادة الميكة فقامت كارين بجمعها؛ على الأقل كانت جميلة وبدت كنزا حقيقيا، كانت أشبه برقائق من الزجاج الأسود الناعم الذي يتحول لونه إلى الفضي عندما تنعكس عليه أشعة الشمس.
قال ديريك إن بإمكانها أن تأخذ قطعة واحدة منها لتحتفظ بها لنفسها وليس لتعرضها على الناس: «احفظي هذا السر، فأنا لا أريد أن يتحدث أحد عن هذا المكان.»
قالت كارين: «أتريدني أن أقسم ألا أفعل؟»
قال: «فقط تذكري ما قلته.» ثم سألها إذا كانت تريد أن ترى القلعة.
وتلك خيبة أمل أخرى، ومزحة أيضا. قادها ديريك إلى مكان ذي جدران أسمنتية ألم به الخراب، وقال إنه كان على الأرجح مكانا لتخزين المعادن. أراها كذلك الطريق الذي يتخلل الأشجار الطويلة - الممتلئ الآن بالشجيرات - وأوضح أنه المكان الذي امتدت فيه قضبان عربات نقل المعادن منذ زمن. أما المزحة، فتتمثل في أن بعض شباب الهيبيز ضلوا طريقهم في هذه المنطقة منذ بضع سنوات، ثم عادوا بأخبار عن قلعة عثروا عليها. كان ديريك يكره أن يقع الناس في مثل هذه الأخطاء دون أن يتحققوا مما يرونه أمام أعينهم، وما يمكن إدراكه على نحو صحيح.
سارت كارين حول قمة الجدار المتداعي، ولم ينبهها ديريك كي تأخذ حذرها وتحترس في خطواتها كي لا تقع فينكسر عنقها.
وفي طريق عودتهما، هبت عاصفة رعدية فاضطرا أن يأويا إلى أجمة كثيفة من أشجار الأرز. لم تستطع كارين التحلي بالهدوء - ولم تستطع أن تحدد طبيعة ما تشعر به: أهو خوف أم ابتهاج؟ بعدها توصلت إلى أنه ابتهاج، فأخذت تقفز وتجري في دوائر وترفع ذراعيها لأعلى وهي تصيح تحت وميض البرق الذي اخترق مأواهما. طلب منها ديريك أن تهدأ وتجلس ثم تعد حتى خمسة عشر بعد كل ومضة لترى هل ساعد هذا في عدم حدوث المزيد من الرعد.
مع ذلك ظنت أنه فرح بها. لم يظن أنها مذعورة.
إنها لحقيقة أن هناك من الناس من إذا سببت لهم إزعاجا إيجابيا أسعدتهم، وديريك واحد من هؤلاء. وإذا ما فشلت مع مثل هؤلاء الناس، فسوف يضعونك في تصنيف في أذهانهم لن تخرج منه أبدا، بل وسوف يكنون لك الاحتقار إلى الأبد. ولعل الخوف من البرق أو رؤية فضلات الدببة، أو الرغبة في تصديق أن هذا الخراب اليباب هو بقايا قلعة - بل وحتى عدم القدرة على التعرف على الخصائص المختلفة لكل من الميكة والبيريت والكوارتز والفضة والفلسبار - كل هذا كان يمكن أن يدفع ديريك لأن ييأس منها، كما يئس بشكل أو بآخر من روزماري وآن. إنه هنا مع كارين على طبيعته حقا، يولي كل شيء اهتماما جادا. فقط حين يكون معها هي، وليس حين يكون مع أي منهما. •••
تساءل ديريك: «أتلاحظين أن الأجواء تشوبها الكآبة هنا اليوم؟»
مررت كارين يدها على قطعة من الكوارتز، بدت أشبه بقطعة من الثلج بداخلها شمعة وسألته: «روزماري هي السبب؟»
رد ديريك: «كلا، الأمر جدي. تلقت آن عرضا لشراء هذا المكان. أتى إليها أحد المحامين من ستوكو وأخبرها أن شركة يابانية تريد أن تشتريه. إنهم يريدون الميكة كي يصنعوا محركات سيارات من السيراميك. وهي تفكر في الأمر، يمكنها أن تبيعه إذا أرادت. فهو ملكها.»
قالت كارين: «ولم ترغب في هذا؟ في بيعه؟»
قال ديريك: «المال. لأجل المال.» «ألا تدفع لها روزماري إيجارا كافيا؟» «إلى متى سيدوم هذا؟ لن يؤجر المرعى هذه السنة؛ لأن الأرض مشبعة بالماء. والمنزل في حاجة إلى الإنفاق عليه لترميمه وإلا فسينهار. لقد عكفت أربع سنوات على كتاب لم أنته من تأليفه، وقد أوشكنا على الإفلاس. هل تعلمين ماذا قال لها سمسار العقارات ذاك؟ قال: «هذا المكان قد يكون مدينة سدبري أخرى.» لم يكن يمزح.»
لم تدر كارين لماذا قد يمزح؛ فهي لا تعرف أي شيء عن سدبري. قالت: «لو كنت ثرية لاشتريت المكان، وحينها ستستمر فيما تفعل كما هو الحال الآن.»
قال ديريك بجدية: «يوما ما ستصبحين ثرية، لكن هذا اليوم ليس بقريب.» وضع الكاميرا في حقيبتها، وقال: «فلتبقي بجانب أمك؛ فهي ثرية ثراء فاحشا.»
شعرت كارين بسخونة في وجهها واستشعرت صدمة هذه الكلمات. كانت جملة لم تسمعها من قبل. ثراء فاحش. وبدت العبارة مقيتة.
قال: «حسنا، سأذهب إلى المدينة لأعرف متى سيقبلون على ذلك.» لم يسألها إذا ما كانت تريد الذهاب معه، وما كانت هي لتجيبه؛ فقد اغرورقت عيناها بالدموع؛ إذ صدمها ما قاله وطغى عليها.
كانت في حاجة لأن تذهب لدورة المياه؛ ولذا سارت باتجاه المنزل.
انبعثت رائحة طيبة من المطبخ؛ رائحة لحم يطهى على نار هادئة.
دورة المياه الوحيدة في البيت كانت تقع في الطابق العلوي، وعندما صعدت كارين سمعت صوت آن تتحرك في غرفتها. لم تنادها أو تنظر إليها. لكن عندما بدأت كارين تنزل بعد أن قضت حاجتها، نادتها آن.
كانت قد وضعت مساحيق التجميل على وجهها؛ ولذا اختفى أثر البقع منه.
وعندما دخلت غرفتها، وجدت أكواما من الملابس ملقاة على الفراش وعلى الأرض.
قالت آن: «أحاول أن أرتبها. لدي ملابس نسيت أنني أمتلكها، وعلي أن أتخلص من بعضها إلى الأبد.»
هذا يعني أنها جادة بشأن الانتقال، وتتخلص من بعض الأشياء قبل أن ترحل. عندما كانت روزماري تتهيأ للانتقال من قبل، حزمت متاعها في صندوق السيارة بينما كانت كارين في المدرسة. لم ترها كارين وهي تختار الأشياء التي حزمتها. لم ترها إلا حين أخرجتها في شقة تورونتو ثم في الكارافان؛ وسادة، وزوج من الشمعدان، وطبق كبير يبدو شكله مألوفا لكنه دائما ما يوضع في غير محله. وفي رأي كارين، كان من الأفضل ألا تحضر أي شيء على الإطلاق.
قالت آن: «أترين تلك الحقيبة؟ هناك أعلى الدولاب. أتستطيعين أن تصعدي على الكرسي وتميليها على الحافة حتى أتمكن من التقاطها؟ حاولت أن أفعل هذا لكني أصبت بدوار. فقط أميليها وسوف ألتقطها.»
صعدت كارين على الكرسي، ودفعت الحقيبة فمالت نحو حافة الدولاب، فالتقطتها آن. شكرت كارين وهي تلتقط أنفاسها، وألقت الحقيبة على الفراش.
قالت: «لدي المفتاح، لدي المفتاح هنا.»
كان القفل متيبسا، والمشابك مستعصية على الفتح؛ فقامت كارين بمعاونتها. وعندما فتحت الحقيبة، فاحت رائحة كرات العث من كومة الملابس الرطبة التي بداخلها. كانت كارين تألف تلك الرائحة؛ إذ كانت تشمها في محال الملابس المستعملة التي تحب روزماري التسوق منها.
قالت: «أهذه الأشياء القديمة تخص أمك؟»
قالت آن وهي تضحك ضحكة خافتة: «إنه ثوب زفافي يا كارين ملفوفا في ملاءة قديمة.» التقطت الملاءة المائلة إلى اللون الرمادي وطرحتها جانبا، ثم أخرجت ثوبا من قماش التفتة والدانتيل. أخلت كارين له مكانا على الفراش لتضعه عليه؛ ثم بدأت آن تقلب الثوب بكل حرص. وكان قماش التفتة يصدر صوتا كحفيف الشجر.
قالت آن وهي ترفع طبقة من نسيح رقيق ملتصق بقماش الثوب: «وطرحتي أيضا. كان يجدر بي أن أعتني بها أفضل من هذا.»
كان ثوب الزفاف من أسفل تنورته به شق رفيع وطويل؛ يبدو من صنع شفرة حادة.
قالت آن: «كان ينبغي لي أن أعلقه، كان علي حفظه في إحدى الحافظات التي يؤتى بها من المغسلة؛ فقماش التفتة رقيق للغاية، وهذا الشق من أثر طي الثوب. كنت أعلم هذا. يجب ألا تطوى التفتة.»
ثم شرعت تفصل طبقات الثوب واحدة تلو الأخرى - رويدا رويدا - ومع كل طبقة ترفعها تصدر صوتا خافتا تشجع به نفسها، إلى أن تمكنت من ضبط الطبقات كلها في شكل ثوب. أما الطرحة، فكانت ملقاة على الأرض، والتقطتها كارين.
قالت: «إنها من القماش المغزول.» تكلمت كي تخرج من ذهنها صوت ديريك.
فقالت آن: «بل من التل. التل والدانتيل. كم كنت مخطئة حين لم أعتن بها بصورة أفضل. إنه لمن الغريب أنها ما زالت موجودة حتى وقتنا هذا، بل من العجيب أنها لم تتمزق.»
قالت كارين: «التل، لم أسمع يوما به، وكذلك لم أسمع يوما بالتفتة.»
قالت آن: «كانت رائجة في الماضي.» «هل لك صورة في هذا الثوب؟ ألديك صور من حفل زفافك؟» «أبي وأمي كانت لديهما صورة، لكني لا أدري ما حل بها. وديريك ليس ممن يحبون صور الزفاف، بل ليس ممن يحبون حفلات الزفاف. لا أدري كيف أفلت بهذا الحفل. عقدناه في كنيسة ستوكو، وكانت معي صديقاتي الثلاث؛ دوروثي سميث وموريال ليفتون ودون تشاليراي. عزفت دوروثي على الأرغن في الحفل، وكانت دون وصيفتي، بينما غنت موريال.»
قالت كارين: «أي الألوان ارتدت وصيفتك؟» «لون التفاح الأخضر، كان ثوبا من الدانتيل المطعم بالشيفون. كلا، العكس؛ كان ثوبا من الشيفون المطعم بالدانتيل.»
وصفت آن ثوب صديقتها بصوت يشوبه الشك، بينما تتفحص غرز الخياطة في ثوبها. «ماذا غنت صاحبتك؟» «موريال، غنت «أيها الحب المثالي»: «أيها الحب المثالي، يا من ظنه الناس فوق العادة ...» لكنها في الواقع ليست أغنية بل ترنيمة تتحدث عن نوع سام من الحب. لا أدري من اختار هذه الترنيمة لتغنيها.»
مست كارين التفتة بيدها فوجدتها جافة وباردة.
قالت: «فلترتديه.»
قالت آن: «أنا؟ إنه مصمم لفتاة محيط خصرها أربع وعشرون بوصة. هل ذهب ديريك إلى المدينة؟ هل أخذ معه فيلمه؟»
لم تسمع كارين وهي ترد عليها بالإيجاب، لا بد أنها قد سمعت صوت السيارة بالطبع.
قالت: «إنه يصر على أن يعد سجلا مصورا، ولا أدري فيم العجلة. بعدها، سوف يضع الصور في صناديق، ويضع على كل صندوق بطاقة تعريف. إنه - فيما يبدو لي - يظن أنه لن يرى المكان مرة أخرى. هل أوحى لك بطريقة ما أن هذا المكان سيباع؟»
قالت كارين: «لا، ليس بعد.» «نعم، ليس بعد، ولن أفعل إلا إذا اضطررت إليه. لن أبيعه إلا إذا اضطررت لذلك، لكنني أعتقد أنني سوف تدفعني الضرورة لبيعه. أحيانا تصير بعض القرارات ضرورية، ولكن يجب ألا يعتبر الناس هذه القرارات مأساوية أو يأخذوها على محمل شخصي كنوع من العقاب.»
قالت كارين: «هل يمكن أن أجرب أنا ارتداءه؟»
رمقتها آن بنظرة متفحصة وقالت: «علينا أن نكون في منتهى الحرص.»
خلعت كارين حذاءها وسروالها القصير ونزعت قميصها، وأدنت آن الثوب من رأسها لتلبسها إياه، فجعلتها تشعر للحظة بأنها حبيسة داخل سحابة بيضاء. كان عليهما التعامل بحذر أثناء ارتداء الردنين المخيطين من قماش الدانتيل حتى أسدلا على ظهري كفي كارين، فأعطيا يديها لونا بنيا مع أن بشرتها لم تكتسب السمرة بعد بسبب التعرض لأشعة الشمس. بعد ذلك، أخذت آن تغلق المشابك الجانبية حتى أسفل الخصر، إلى جانب مشابك شريط زينة العنق من الخلف، وكان من الدانتيل؛ ليثبت بإحكام حول عنق كارين. ولأنها لم تكن ترتدي شيئا تحت الثوب سوى سروالها التحتي، فقد شعرت بملمس الدانتيل الشائك على بشرتها؛ فالدانتيل أكثر جرأة في اتصاله بالجسد، أكثر من أي شيء آخر عرفته. نفرت من ملمسه على حلمتيها، لكن لحسن حظها كان الثوب واسعا عند الصدر - حيث كان ثديا آن يملآنه حين الزفاف - وما كانت كارين ناهدة، إلا أن حلمتيها كانتا تتورمان أحيانا وتؤلمانها، وكأنهما على وشك البروز.
بعد ذلك، أخذتا تبعدان التفتة عن ساقيها حتى تأخذ تنورة الثوب شكل الجرس، ثم أسدلتا الدانتيل عليها فظهرت حلقاته.
قالت آن: «إنك أطول مما ظننت؛ يمكنك أن تمشي إذا ما رفعته قليلا.»
التقطت فرشاة شعر من منضدة الزينة، وبدأت تمشط شعر كارين لينسدل على كتفيها المغطاتين بالدانتيل.
قالت: «شعرك بني بلون الجوز. أتذكر أنه في الكتب توصف الفتيات بأن شعورهن بنية في لون الجوز. وقد كن بالفعل يستخدمن الجوز لصبغ شعورهن. ذكرت لي أمي أن الفتيات كن يغلين الجوز لإعداد صبغة الشعر، ثم يصبغن بها شعورهن. وحينها بالطبع كانت أيديهن تتلطخ باللون البني فينكشف السر، وكان من العسير إزالته.»
قالت: «قفي ثابتة.» ضبطت الطرحة فوق شعرها الناعم، ثم وقفت أمامها لتثبتها بالدبابيس، ثم قالت: «لقد اختفى تاج الطرحة، لا بد أنني استخدمته استخداما آخر أو أعطيته لإحداهن كي ترتديه في عرسها. لا أتذكر. لكن على أي حال، ما كان ليبدو أنيقا في الوقت الحالي؛ كان من طراز الأشياء التي ترتديها ماري ملكة اسكتلندا على رأسها.»
تلفتت حولها ثم انتقت بعض الزهور الصناعية من الحرير - وكانت على شكل إكليل من زهور التفاح - من مزهرية موضوعة على منضدة الزينة. لكن هذه الفكرة الجديدة - أي استخدام فرع الزهور - تعني أن عليها فك الدبابيس والبدء من جديد، عن طريق طي إكليل زهور التفاح حول الرأس واستخدامه بديلا للتاج. غير أن فرع الزهور كان صلبا، وبعد محاولات طوته أخيرا وثبتته كما حلا لها. تحركت من أمام كارين، وجعلتها في مواجهة المرآة.
فقالت كارين: «يا إلهي! هل يمكنني الاحتفاظ به لارتدائه حين أتزوج؟»
لكنها لم تكن تعني هذا؛ فهي لم تفكر قط في الزواج، بل قالت ذلك كي تسعد آن بعد كل المجهود الذي بذلته، وحتى تخفي خجلها الذي ظهر عليها حين نظرت في المرآة.
فردت آن: «حينها ستكون هناك صيحات جديدة؛ فهذا الثوب ليس مناسبا هذه الأيام.»
أشاحت كارين بصرها عن المرآة، ثم أعادت النظر مرة أخرى بعد أن هيأت نفسها. رأت أمام عينيها قديسة؛ الشعر اللامع، البراعم الشاحبة، ظلال الدانتيل الخافتة على وجنتيها، الصدق في إتقان الدور، الجمال المدرك لذاته على نحو يؤكد أنه عرضة لشيء ما حتمي، لشيء سخيف. حاولت أن ترسم تعبيرا آخر على وجهها يغير ذلك الانطباع لكنها لم تفلح؛ وكأن العروس - الفتاة وليدة المرآة - هي صاحبة القرار الآن.
قالت آن: «أتساءل عما سيقول ديريك الآن إذا ما رآك، بل وأتساءل إن كان سيعرف أن هذا هو ثوب زفافي؟» رمشت عيناها في خجلها المضطرب المعهود، ووقفت بالقرب من كارين لإزالة البراعم وفك الدبابيس، فشمت كارين رائحة صابون من تحت إبطيها، ورائحة ثوم في أصابعها.
قالت كارين - بنبرة جهورية مقلدة صوت ديريك - بينما تفك آن عنها الطرحة: «سيقول: أي ثوب أحمق هذا؟»
تناهى إلى مسامعهما صوت السيارة قادمة عبر الوادي؛ فقالت آن: «ذكرناه، فألقت به الريح.» الآن صارت في عجلة من أمرها لتفك مشابك الثوب، فأخذت أصابعها تتعثر وترتجف. وحين حاولت خلع الثوب من رأس كارين، علق بشيء ما.
فقالت آن: «اللعنة!»
قالت كارين وهي ملتحفة بالثوب عالقة به: «اذهبي أنت، ودعيني أكمل. أستطيع خلعه.»
وحين خلعته، رأت ملامح آن متغيرة في حزن.
قالت: «كنت أمزح بشأن ديريك.»
لكن ربما كانت نظرة آن مجرد انتباه واهتمام بالثوب.
إذ ردت عليها: «ماذا تقصدين؟ حسنا ، صه! فلتنسي الأمر.» •••
وقفت كارين ثابتة على الدرج تسترق السمع إليهما وهما يتحدثان في المطبخ. وكانت آن قد سبقتها إلى أسفل.
قال ديريك: «هل سيكون شهيا؟ ذلك الطعام الذي تطهينه أيا كان؟»
قالت آن: «هذا ما أتمناه. إنها الأوسو بوكو الإيطالية؛ من اللحم والخضار.»
تغير صوت ديريك الآن وسكت عنه الغضب، فأضحى تواقا للصحبة والتودد. بدا أيضا الارتياح في صوت آن، وحاولت - وهي بالكاد تتنفس - أن تواكب حالته المزاجية الجديدة.
قال: «هل لدينا ما يكفي لمن يشاركنا الطعام؟» «من؟» «روزماري فقط. أرجو أن يكون لدينا ما يكفي من الطعام لأنني دعوتها.»
قالت آن بهدوء: «روزماري وكارين. لدينا ما يكفي من الطعام، لكن ليس لدينا نبيذ.»
قال ديريك: «بل لدينا؛ أحضرت معي بضع زجاجات.»
سمعت كارين بعد ذلك شيئا من الهمهمة أو الهمس من ديريك لآن؛ لا بد أنه كان يقف بالقرب منها ويتحدث بصوت خافت لا يكاد يسمع. يبدو أنه كان يمازحها ويرجوها ويطمئنها ويعدها بأن يعوضها، كل ذلك في آن واحد. وكانت كارين تخشى من أن تتناهى إلى مسامعها كلمات قد تفهمها ولا تتمكن من نسيانها، حتى إنها نزلت تدب بقدميها على درج السلم ودخلت المطبخ تصيح: «من هذه الروزماري؟ هل سمعت اسم روزماري؟»
قال ديريك: «لا تتسللي هكذا أيتها الطفلة، أصدري صوتا يفصح عن قدومك.» «هل سمعت اسم روزماري؟»
قال: «نعم، اسم أمك. أقسم لك إنني أقصد اسم أمك.»
لقد ذهب عنه غضبه العارم، وصار الآن مفعما بروح التحدي وارتفعت معنوياته، كما كان الصيف الماضي في بعض الأحيان.
نظرت آن إلى النبيذ وقالت: «كم هو نبيذ شهي يا ديريك! سوف يناسب الطعام الذي أعده. دعنا نر. كارين، هلا تساعدينني! سوف نعد المائدة الطويلة في الشرفة. وسنستخدم الأطباق الزرقاء والفضيات الفاخرة - أليس هذا من حسن الحظ أننا قد نظفناها لتونا؟ سنضع مجموعتين من الشموع، الصفراء الطويلة في منتصف المائدة يا كارين، والبيضاء القصيرة حولها في دائرة.»
قالت كارين: «مثل زهرة الربيع.»
قالت آن: «هذا صحيح؛ عشاؤنا احتفالي بمناسبة عودتك لقضاء الصيف معنا.»
قال ديريك: «وماذا عساي أن أفعل؟» «دعني أر. يمكنك أن تذهب لتحضر لنا بعض مكونات السلطة: الخس ونبات الحماض. وانظر هل يوجد نبات الرشاد بالقرب من الجدول.»
قال ديريك: «موجود. رأيت بعضا منه.» «فلتحضره للسلطة أيضا.»
مرر يده على كتفيها، وقال: «كل شيء سيكون على ما يرام.» •••
بينما كادوا ينتهون من التجهيز لحفلهم، قام ديريك بتشغيل أسطوانة موسيقى. كانت واحدة من الأسطوانات التي أخذها معه إلى منزل روزماري، ولا بد أنه أعادها معه إلى هنا. كان اسمها «ألحان ورقصات قديمة على أنغام العود»، وكان لها غلاف يحمل صورة لمجموعة سيدات نحيلات للغاية - في ملابس قديمة الطراز مرتفعة الخصر، وشعر متموج قصير حتى الأذن - يرقصن في دائرة. كانت هذه الموسيقى دائما ما تثير في ديريك الرغبة في التمايل في رقصة احتفالية مضحكة تشترك معه فيها كارين وروزماري، وكانت كارين تراقصه بنفس مستواه، على العكس من روزماري؛ مع أنها بذلت مجهودا كبيرا، لكن حركتها كانت متأخرة عن خطواته قليلا، وما كان منها سوى محاولة محاكاة ما يجب أن يكون تلقائيا.
بدأت كارين الرقص حول مائدة المطبخ ما إن بدأت الموسيقى، بينما كانت آن تقطع السلطة، وديريك يفتح زجاجة النبيذ. أخذت كارين تغني بمرح وسعادة: «ألحان ورقصات قديمة على أنغام العود»، وتقول: «ستأتي أمي على العشاء، ستأتي أمي على العشاء.»
قال ديريك: «ستأتي أم كارين على العشاء.» ثم رفع يده وقال: «صه، صه. أهذا هو صوت سيارتها الذي أسمعه؟»
قالت آن: «يا إلهي، علي أن أغسل وجهي على الأقل.» ألقت ما بيدها من خضراوات، وهرعت عبر البهو صاعدة الدرج.
ذهب ديريك كي يوقف أسطوانة الموسيقى، لكنه رفع إبرة الفونوغراف ثم أعادها إلى البداية، وعندما شغلها مرة أخرى، ذهب لمقابلة روزماري بالخارج؛ وهو أمر لم يكن معتادا عليه. كانت كارين تنوي الذهاب لمقابلتها بنفسها، لكن عندما فعل ديريك هذا، قررت ألا تذهب وتبعت آن أعلى الدرج، لكنها لم تصعد الدرج كله؛ فعلى منبسط الدرج، كانت هناك نافذة صغيرة لم يكن أحد يتوقف عندها أو يطل منها، وكانت مغطاة بستارة من نسيج رقيق لا يكاد يرى من خلالها من يقف وراءها.
وصلت إلى النافذة بسرعة مكنتها من أن ترى ديريك يخطو على عشب الحديقة، متجاوزا الفجوة التي تتخلل صف الشجيرات. قطع بخفة خطوات طويلة تواقة؛ لعله يصل في الوقت المناسب كي ينحني لها ويفتح باب السيارة بحركة مسرحية ويساعدها في الترجل منها. لم تره كارين يفعل ذلك من قبل، لكنها كانت تدرك أنه تعمد فعل ذلك الآن.
في ذلك الحين، كانت آن لا تزال في دورة المياه - إذ سمعت كارين صوت الدش - وبذلك ما زال أمام كارين بضع دقائق تراقب فيها ما يحدث بالأسفل دون أن يزعجها أحد.
سمعت صوت غلق باب السيارة، لكنها لم تسمع صوتيهما؛ ما استطاعت سماعهما والموسيقى تتردد في جنبات المنزل. كذلك فإنهما لم يصلا إلى الفجوة بين الشجيرات حتى تراهما. وقفت تنتظر وطال انتظارها. •••
ذات مرة، بعد أن فارقت روزماري تيد عادت مرة أخرى، لكنها لم تعد إلى البيت؛ فلم يكن من المفترض أن تعود إليه. حينها أتى تيد بكارين إلى مطعم، وكانت روزماري هناك. تناولا الغداء، وتناولت كارين رقائق بطاطس وعصير الرمان، وأخبرتها روزماري أنها ذاهبة إلى تورونتو؛ لأنها حصلت على وظيفة هناك لدى أحد الناشرين. لم تعرف كارين وقتها معنى كلمة ناشر. •••
ها هما قد أتيا ومرا معا خلال الفجوة التي تتخلل الشجيرات، في حين أنه كان من الأجدر أن يمر أحدهما تلو الآخر. كانت روزماري ترتدي بنطالها الواسع - الشبيه بسروال علاء الدين - من القطن الرقيق الناعم، ولونه وردي بلون التوت البري، وخلاله كانت ظلال ساقيها بادية، أما قميصها، فكان من قماش قطني أكثر سمكا، به زخارف ومطرز بخرز صغير يعكس الضوء كالمرآة. بدت قلقة بشأن شعرها المرفوع لأعلى؛ فقد كانت يدها تتحسسه بحركة عصبية ساحرة لإسدال بعض الخصلات المتموجة، فتتدلى وترفرف على وجهها (بدت كالخصلات المتموجة المتدلية بجانب آذان السيدات المصورات على غلاف الأسطوانة)، وكانت أظفارها مطلية بلون يتماشى مع لون بنطالها.
لم يلمس ديريك أي جزء من جسدها، مع أنه بدا دائما على وشك لمسها. •••
قالت لها كارين في المطعم: «حسنا، لكن هل ستنتقلين للعيش هناك؟» •••
رأت كارين ديريك وهو يحني قامته الطويلة، بالقرب من شعر روزماري الجميل الجامح، وكأنه طائر يستعد لدخول العش. بدا لها أنه مصمم على ذلك، سواء لمسها أم لا، تحدث معها أم صمت. كان يجذبها نحوه، ولم يأل جهدا في مهمته هذه على الإطلاق، بالرغم من انجذابه هو نفسه إليها، وبالرغم من ميله إلى إسعادها. لاحظت كارين إحساس هذا الغزل الجميل.
في هذه اللحظة، ترددت روزماري بشأن ما ينبغي عليها فعله، لكنها رأت أنه ليس عليها فعل شيء الآن. كم هي شديدة الاهتمام بهيئتها؛ حبيسة ملابسها الوردية، وشعرها المرفوع لأعلى - كغزل البنات - ورقة حديثها، وجاذبيتها الأنيقة.
قالها ديريك ذات مرة: «ثراء فاحش.»
خرجت آن من الحمام، وشعرها الرمادي الداكن المبلل مشدود للخلف، ووجهها متورد من الاستحمام. «كارين، ماذا تفعلين هنا؟» «أشاهد شيئا.» «ماذا تشاهدين؟» «عصفورين متحابين.»
قالت آن وهي تنزل الدرج: «كفي يا كارين.»
سرعان ما تعالت صيحات مبتهجة من جهة الباب الأمامي (إنها لمناسبة خاصة) ومن جهة البهو: «ما هذه الرائحة الطيبة؟» (روزماري) «بضعة عظام قديمة تطهوها آن.» (ديريك).
قالت روزماري وهي تتحرك بود وانفتاح نحو غرفة المعيشة: «وهذه ... جميلة.» وتقصد باقة من الأوراق الخضراء ونباتات الخويفيرة وبعض زهور السوسن البرتقالية، المقطوفة في بداية موسمها، التي وضعتها آن في إناء خزفي بجوار باب غرفة المعيشة للزينة.
قال ديريك: «إنها مجرد أعشاب قديمة أحضرتها آن إلى المنزل.» فقالت آن: «نعم، ظننتها جميلة.» فكررت روزماري قولها السابق: «جميلة.» •••
بعد الغداء، في المطعم، قالت روزماري إنها تريد إهداء كارين شيئا، ليس بمناسبة عيد ميلادها أو رأس السنة، وإنما بغير مناسبة؛ هدية جميلة.
ذهبتا إلى متجر كبير، وكلما أبطأت كارين لتتفحص شيئا ما، سارعت روزماري وتحمست واستعدت لشرائه. كانت مستعدة لشراء معطف مخملي ذي ياقة وأساور من الفراء، وحصان هزاز مطلي بطلاء التحف، وفيل من نسيج البلش وردي اللون؛ حجمه ربع حجم الفيل الطبيعي. ولكي تنهي كارين هذه الحيرة البائسة، انتقت حلية زهيدة الثمن؛ تمثالا لراقصة باليه واقفة فوق مرآة. لم تكن راقصة الباليه تدور حول نفسها، ولم تنبعث موسيقى من الحلية تتراقص عليها، ولم يكن هناك قط ما يبرر هذا الاختيار. المتوقع أن تفهم روزماري هذا؛ أن تفهم أن هذا الاختيار يدل على أن كارين لا يمكن إسعادها بالهدية، وأنه ما من سبيل لتعويضها، وما من سبيل لنيل تسامحها. لكنها لم تفهم هذا، أو بالأحرى اختارت ألا تفهمه، وقالت: «تعجبني الهدية، راقصة رشيقة وستبدو جميلة على منضدة زينتك. حقا جميلة.»
إلا أن كارين دست الهدية في أحد الأدراج، وعندما وجدتها جريس، أوضحت لها كارين أن إحدى صديقاتها في المدرسة أهدتها إياها، ولم تشأ هي أن تجرح صديقتها بأن تقول لها إنها ليست من الأشياء التي تروق لها.
وقتها، ما كانت جريس معتادة على التعامل مع الأطفال بعد، وإلا لشككت في هذه القصة.
فقالت: «أفهم ما تقولين. سوف أتبرع بها في مزاد المستشفى؛ لا أظن أنها قد تراها هناك. وعلى كل حال، يصنع المئات منها، فلن تلاحظ أن هذه هي التي أهدتك إياها.» •••
سمعت كارين من الطابق السفلي صوت مكعبات الثلج بينما يلقيها ديريك في المشروبات، وسمعت آن تقول: «كارين في الجوار؛ أثق أنها ستظهر في أي لحظة.»
تحركت كارين بخفة، وصعدت ما تبقى من الدرج بخفة، ثم دلفت إلى غرفة آن. رأت على الفراش ثيابا متراكمة، وأعلاها ثوب الزفاف بعد أن أعيد لفه في الملاءة للاحتفاظ به. فخلعت سروالها القصير وقميصها وحذاءها، وبدأت محاولتها البائسة الصعبة لارتداء الثوب. لكن بدلا من أن ترتديه من أعلى، قررت ارتداءه من أسفل، فأخذت ترفعه بصعوبة عبر تنورته المقطوعة وجزئه العلوي من الدانتيل. ثم أدخلت ذراعيها في الكمين بحذر خشية أن تشق قماشه بأظفارها، مع أنها كانت أقصر مما يسمح بوقوع هذا، ومع هذا توخت الحذر. جذبت أطراف الدانتيل على الكمين فوق كفيها، ثم عقدت كل المشابك عند الخصر. كان أصعب ما في الأمر المشابك الموجودة في الرقبة من الخلف؛ مما اضطرها إلى إحناء رأسها وكتفيها للأمام بغية الوصول إلى المشابك وعقدها على نحو أسهل. لكن مع هذا حدثت كارثة؛ إذ تشقق الدانتيل قليلا تحت أحد الإبطين. صدمها ما حدث، بل وأوقفها عن إكمال عقد المشابك للحظة. لكن بعدها فكرت أنها قطعت شوطا كبيرا بما لا يسمح بالتراجع الآن؛ فأكملت عقد باقي المشابك دون أي مشاكل أخرى. عندما تخلع الثوب، فلعلها تخيط ما تمزق منه، أو قد تكذب وتقول إنها لاحظت تمزقه قبل أن ترتدي الثوب. وقد لا تراه آن على أي حال.
والآن وقت ارتداء الطرحة. عليها أن تكون في منتهى الحذر معها؛ لأن أي تمزق فيها سيظهر واضحا. نفضتها ثم حاولت تثبيتها بإكليل زهور التفاح؛ بالضبط كما فعلت آن، لكنها لم تستطع طي الإكليل كما ينبغي، أو تثبيته بالدبابيس الناعمة المراوغة؛ ولذا فكرت أنه من الأفضل أن تثبت الطرحة بشريط أو حزام. فتحت خزانة آن باحثة عن شيء من هذا القبيل، وفيها رأت مشجبا لربطات عنق تخص ديريك، مع أنها لم تره يوما يرتدي ربطة عنق.
التقطت من المشجب ربطة عنق مخططة، وربطتها حول جبهتها وعقدت الربطة عند مؤخرة رأسها فثبتت الطرحة بإحكام. كانت أمام المرآة حينما فعلت ذلك، وحين انتهت، نظرت إلى نفسها ورأت أنها أضافت على الثوب لمحة غجرية؛ لمحة أفقدت الثوب أناقته وإن كانت كوميدية. ثم طرأت على ذهنها فكرة جعلتها تفك كل تلك المشابك - بمجهود شاق - ثم تحشو مقدمة الثوب عند الصدر بملاءة ملفوفة بإحكام أخذتها من على فراش آن. أخذت تحشو وتحشو صدر الثوب المتهدل عليها، الذي كان مصمما وفقا لمقاس صدر آن. هكذا أفضل، وسيثير ضحكهم أكثر، ولكنها لم تستطع بعد ذلك أن تعقد جميع المشابك، فعقدت ما يكفي لتثبيت النهدين القماشيين في مكانهما، وكانت أشبه بالمهرجين. واستطاعت أيضا أن تحكم تثبيت شريط زينة العنق. وحين انتهت كان العرق يتفصد من جسدها كله.
لم تكن آن تتزين بأحمر شفاه أو أي مساحيق للعين، لكن ما يثير الدهشة أن كارين وجدت على منضدة الزينة عبوة تحوي بودرة وجه متيبسة من القدم. بصقت كارين فيها ثم لطخت وجنتيها بها. •••
كان الباب الأمامي يقود إلى بهو يقع أسفل الدرج، وفي هذا البهو يوجد باب جانبي يؤدي إلى شرفة من الزجاج من المفترض أن تسمح بامتصاص الحرارة من أشعة الشمس المنعكسة عليها، وباب آخر (في ذات الجانب) يؤدي إلى غرفة المعيشة. وهناك أيضا باب يصل مباشرة بين الشرفة وغرفة المعيشة، يقع عند نهاية الشرفة. قالت آن ذات مرة إن تصميم هذا البيت غريب، أو لعله لم يبن وفق أي تصميم على الإطلاق، بل إن الغرف والمساحات تغيرت عما كان مخططا له أو تحددت وفقا لأهواء الناس؛ فالشرفة الطويلة الضيقة المحاطة بالزجاج لم تكن مناسبة لامتصاص الحرارة من أشعة الشمس؛ لأنها كانت تقع في جانب المنزل الشرقي، بل وكانت مظللة بمجموعة من شجيرات الحور القطني سريعة النمو التي يصعب جزها شأنها شأن أشجار الحور القطني. وحين كانت آن طفلة، كانت الشرفة تستخدم أساسا كمكان لحفظ التفاح، مع أنها أحبت هي وأختها ذاك الطريق غير المباشر الذي يصل بين الأبواب الثلاثة، أما الآن، فهي تحب المساحة التي تتيحها هذه الشرفة لتقديم العشاء خلال أيام الصيف. لكن وقتما تقام المائدة هناك، لا تكاد تكون هناك مساحة كافية للسير بين المقاعد وجدران الشرفة الداخلية، غير أنه عندما يجلس الجميع على جانب واحد من الشرفة وفي كل من طرفيها أمام النوافذ - وهكذا أقيمت المائدة هذه الليلة - يكون هناك متسع لشخص نحيل - مثل كارين - كي يمر.
نزلت كارين إلى الطابق السفلي حافية القدمين، ولم يكن بمقدور أحد أن يراها من غرفة المعيشة. كذلك فإنها اختارت ألا تدخل الغرفة من الباب المعتاد، وقررت دخول الشرفة والسير بمحاذاة المائدة، وبعدها تطل عليهم - أو لنقل تفاجئهم - من الشرفة من حيث لا يتوقعون مجيئها.
كانت الشرفة معتمة بالفعل قليلا؛ فقد أوقدت آن الشمعتين الطويلتين الصفراوين، ولم توقد الشموع الصغيرة البيضاء المتراصة حولها. وكانت الشمعتان الصفراوان تنبعث منهما رائحة الليمون، وهو ما كانت آن تعول عليه كي تبدد جو الغرفة الخانق، إلى جانب أنها فتحت النافذة الموجودة عند أحد طرفي المائدة. وحتى في أقل الليالي نشاطا للرياح، أصبح يهب على الشرفة نسيم من شجيرات الحور.
استخدمت كارين كلتا يديها كي ترفع التنورة بينما تسير بجوار المائدة؛ إذ اضطرت لرفعها قليلا حتى تستطيع السير، ولم تكن تريد أن يصدر أي صوت من احتكاك قماش التفتة بالمائدة أو الجدار. ونوت أن تشرع في غناء: «ها قد أتت العروس» وهي تطل من مدخل الباب:
ها قد أتت العروس
شقراء، سمينة، ضخمة
انظروا كيف تتمايل
من جانب إلى جانب ...
هب نسيم عليها - بل تيار هواء شديد - جعل طرحتها ترفرف للخلف، لكنها كانت مثبتة برأسها بإحكام، ولم تخش كارين أنها قد تطير عن رأسها.
وبينما تستدير لدخول غرفة المعيشة، رفع الهواء الطرحة فاندفعت نحو لهب الشمعتين. ما إن رآها الجالسون في الغرفة حتى لاحظوا النار التي تطاردها من الخلف. وقد شمت هي نفسها رائحة احتراق الدانتيل بفعل اللهب، وكانت رائحته كريهة غريبة طغت على رائحة نخاع العظم المطهو على العشاء. وسريعا ما شعرت كارين بسخونة لا تحتمل، وتعالى صراخها، وأخذت تثب على قدميها ألما في عتمة الليل.
كانت روزماري أول من وصل إليها، فأخذت تضرب رأسها بوسادة لإطفاء النار. وهرعت آن إلى الإناء الخزفي الموجود في البهو، وألقت كل ما به من ماء وزهور سوسن وأعشاب على طرحتها وشعرها المشتعلين. أما ديريك، فقد انتزع السجادة من على أرضية الغرفة - مطيحا بما عليها من مقاعد وطاولات ومشروبات - واستطاع أن يلف بها كارين بإحكام، وأن يخنق آخر ألسنة اللهب. ظلت بعض شذرات الدانتيل مشتعلة عالقة بشعرها المبلل، وأحرقت روزماري أصابعها وهي تنزعها. •••
شوهت الحروق جلد كتفيها وأعلى ظهرها وأحد جانبي عنقها، بينما أبعدت ربطة عنق ديريك الطرحة عن وجهها قليلا، فجنبتها الإصابة بآثار حروق واضحة. لكن عندما نما شعرها من جديد وصارت تمشطه للأمام، لم يخف آثار كل ما حل بعنقها من تشوهات.
خضعت كارين لسلسلة من عمليات ترقيع الجلد، وبالفعل تحسن مظهرها. وعندما التحقت بالجامعة، صارت قادرة على أن ترتدي ثوب سباحة. •••
عندما فتحت عينيها للمرة الأولى في غرفتها بمستشفى بيلفيل، رأت أمامها جميع أنواع زهور الربيع: البيضاء والصفراء والوردية والأرجوانية، حتى على عتبة النافذة.
قالت آن: «أليست جميلة تلك الزهور؟ لا يتوقفان عن إرسالها، مع أن ما أرسلاه في البداية لا يزال يانعا، أو على الأقل لم يصل إلى مرحلة الذبول الشديد الذي يدفعنا لنتخلص منه. كلما توقفا في محطة من محطات رحلتهما، أرسلا المزيد من الزهور. لا بد أنهما في كاب بريتون الآن.»
قالت كارين: «هل بعت المزرعة؟»
نادتها روزماري: «كارين.»
أغمضت كارين عينيها وحاولت مرة أخرى استعادة وعيها.
قالت روزماري: «هل ظننت أنني آن؟ آن وديريك قد ذهبا في رحلة، كنت سأخبرك لتوي. لقد باعت آن المزرعة أو أوشكت على بيعها على أي حال. كم هو غريب أن تفكري في ذلك!»
قالت كارين: «إنهما يقضيان شهر العسل.» وكانت تلك خدعة منها؛ لكي ترجع آن عن مزاحها إذا كانت هي فعلا من حادثتها في البداية؛ لكي تجعلها تقول بتوبيخ: «أوه يا كارين.»
قالت روزماري: «ثوب الزفاف هو ما يجعلك تقولين هذا. إنهما بالفعل في رحلة يبحثان عن المكان الذي يريدان العيش فيه في المرحلة المقبلة.»
إذن، فهي فعلا روزماري. وآن قد ذهبت في رحلة. آن ذهبت في رحلة مع ديريك.
قالت روزماري: «لا بد أن هذا شهر العسل الثاني. لا نسمع أبدا عن أن أحدا يقضي شهر العسل الثالث، أليس كذلك؟ أو شهر العسل الثامن عشر؟»
الآن، كل شيء على ما يرام، كل في مكانه الصحيح. أحست كارين أنها هي التي فعلت كل هذا بمجهود مضن. كانت تعرف أنها سوف تشعر بالرضا، وهي الآن تشعر به، لكن بدا لها كل هذا بلا جدوى؛ وكأن آن وديريك - وربما روزماري - وراء صف من الشجيرات الكثيفة يتعذر عليها اختراقه.
قالت روزماري: «لكنني موجودة هنا، طوال الوقت معك، لكنهم لا يتركونني ألمسك.»
قالت تلك الجملة الأخيرة بلهجة حسرة وأسى . •••
ظلت تردد هذه الجملة بين الحين والآخر. «أكثر شيء أتذكره هو أنني لم أستطع لمسك، وكنت أتساءل عما إذا كنت تتفهمين أم لا.»
ردت عليها كارين مؤكدة تفهمها. ما لم تعبأ بذكره هو أنها - في ذلك الحين - كانت ترى أن حزن روزماري غير عقلاني؛ بدت روزماري كمن يشكو فشله في عبور قارة؛ لأن هذا هو ما شعرت كارين بأنها تحولت إليه؛ تحولت إلى قارة وامضة شاسعة المساحة - كفيلة بأن توفر كل احتياجاتها - تعلو أرضها ألما في بعض الأماكن، وتهبط مسطحة عندما يسكت عنها الألم، فتمتد لمسافات طويلة مملة. وعلى مسافة بعيدة منها، على الطرف الآخر للقارة، تقف روزماري. كانت كارين قادرة متى شاءت أن تختزل أمها إلى مجموعة من النقاط السوداء المزعجة، بينما هي نفسها - كارين - كان يمكن أن تمتد وتنكمش في الوقت نفسه في منتصف منطقتها، فتصير كحبة خرز أو كخنفساء صغيرة.
لقد خرجت من هذه الحالة بالطبع. عادت إلى نفسها، عادت إلى كارين. رآها الجميع تعود إلى طبيعتها بالضبط كما كانت، فيما عدا بشرتها. لم يعرف أحد كيف تغيرت، وكم صار طبيعيا بالنسبة إليها أن تصبح مستقلة عن الآخرين، مهذبة، ومعتمدة على نفسها بكل براعة. لم يعرف أحد شيئا عن شعور الظفر المتزن الذي كان ينتابها في الأوقات التي تتأكد فيها من مدى استقلالها عن الآخرين.
قبل التغيير
عزيزي آر، شاهدت أنا وأبي مناظرة كينيدي ونيكسون؛ لقد اقتنى أبي منذ آخر مرة كنت فيها هنا تليفزيونا. إنه جهاز ذو شاشة صغيرة وله هوائيان يشبهان أذني الأرنب. التليفزيون موضوع أمام الخزانة في غرفة الطعام؛ ولهذا صار الوصول إلى الفضيات الفاخرة أو مفارش المائدة في الخزانة أمرا عسيرا. لماذا يضعانه في غرفة الطعام حيث لا يوجد مقعد واحد مريح؟ لأنهما ما عادا يتذكران أن لديهما غرفة معيشة في المنزل، أو لأن السيدة باري تحب مشاهدة التليفزيون وقت العشاء.
هل تذكر هذه الغرفة؟ لا جديد فيها سوى التليفزيون. الستائر الثقيلة لا تزال موجودة على كلا الجانبين - بلونها البيج ونقوش أوراق الشجر المرسومة عليها بلون النبيذ - والستائر الشفافة بينها، وكذلك صورة السير جالاهاد يمتطي صهوة جواده، وصورة غزال جلينكو الأحمر كناية عن المذبحة التي حدثت بها. أما خزانة حفظ الملفات القديمة التي أتى بها أبي من عيادته منذ سنين عديدة، فما زلنا نبحث لها عن مكان؛ ولذا فقد ظلت في الغرفة كما هي دون حتى أن تسند إلى الجدار. ولم تبرح ماكينة خياطة أمي محكمة الإغلاق مكانها (لم يشر أبي قط إلى أمي سوى مرة واحدة حين قال «ماكينة خياطة أمك»)، وكذلك نفس صف النباتات - أو ما تبدو كنباتات - في أصصها الفخارية أو العلب الصفيحية؛ كما هي ليست يانعة ولا ميتة.
ها أنا قد عدت إلى البيت، ولم يتساءل أحد قط عن المدة التي غبت فيها عنه. لقد ملأت سيارتي الميني كوبر بكل كتبي وأوراقي وملابسي وتوجهت بها إلى هنا من أوتاوا، واستغرقت الرحلة يوما واحدا. هاتفت أبي لأخبره أنني انتهيت من أطروحتي (والحقيقة أنني تخليت عنها ولكنني لم أعبأ أن أخبره بهذا) وفكرت في أنني أحتاج إلى راحة.
فقال لي: «راحة؟» وكأنه لم يسمع بشيء كهذا من قبل، ثم أكمل قائلا: «حسنا، ما دمت لا تعانين من انهيار عصبي.»
قلت: «ماذا؟»
فرد علي: «انهيار عصبي.» قالها بصخب محذرا؛ فهذه الكلمة لا يزال يستخدمها لوصف نوبات الفزع والقلق الحاد والاكتئاب والانهيار التي تصيب مرضاه، وحينها يطلب منهم على الأرجح أن يتحلوا بالقوة والإيجابية في التعامل مع حالاتهم.
هذا ظلم. غالبا ما يصرفهم بعد أن يصف لهم حبوبا مهدئة ويقول لهم بعض العبارات الرقيقة الجادة؛ إنه يستطيع أن يتعامل مع ضعف الآخرين أسهل بكثير من أن يتعامل مع ضعفي.
عندما وصلت إلى المنزل، لم ألق ترحيبا حافلا، ولم أشعر بأنه قلق علي. فقط أخذ يدور حول سيارتي، ثم انزعج لما رآه وأخذ يتفحص الإطارات.
قال: «متفاجئ أنك فعلتها وحضرت.»
فكرت أن أقبله؛ ادعاء أكثر منه عاطفة جياشة، هذا ما أفعله الآن، لكن ما إن لامست قدماي الأرض المفترشة بالحصى، حتى أدركت أنني لا أستطيع تقبيله. هنالك كانت السيدة بي (باري) واقفة بين طريق السيارات المؤدي إلى المنزل وباب المطبخ، فذهبت وطوقتها بذراعي واحتك أنفي بشعرها الأسود القصير المصفف على نحو غريب يشبه شعر المرأة الصينية، الذي يحيط بوجهها الصغير الذابل. شممت رائحة سترتها المبطنة من الصوف المحبوك، ورائحة مواد التبييض على مئزرها، وشعرت بملمس عظامها الرفيعة الناتئة الشائخة. طولها يصل بالكاد حتى ترقوتي.
قلت في ارتباك: «إنه ليوم جميل، قيادة السيارة فيه كانت ممتعة.» وقد كان يوما جميلا بالفعل، وكانت القيادة فيه ممتعة بالفعل؛ فلم تكن أوراق الأشجار قد ذبلت بعد، وإنما تغيرت حوافها فقط إلى لون الصدأ، وبدت الحقول بعد حصادها ذهبية اللون مما تبقى من الزرع عليها. إذن، لماذا تبدد جمال الطبيعة في حضور أبي وفي منطقته (ودعنا لا ننس أيضا أنه كان في حضور السيدة باري وفي منطقتها)؟ لماذا يبدو ما قلته - أو تحدثت به بصدق وتلقائية - متوافقا مع احتضاني للسيدة بي؟ ففي أحد الأمرين مبالغة، وفي الآخر زيف عاطفي.
عندما انتهت المناظرة، نهض أبي وأطفأ التليفزيون؛ لأنه لن يشاهد الإعلانات الدعائية إلا في وجود السيدة بي، وحين تتكلم مادحة إياها قائلة إنها تريد أن ترى الطفل الجميل ذا الأسنان الأمامية البارزة، أو تلك الدجاجة تطارد ذلك الشيء الذي لا تذكر اسمه (لم تكن تحاول أن تنطق كلمة «نعامة» أو أنها لا تستطيع أن تتذكرها). وكل إعلان يمتعها يسمح بمشاهدته، حتى إعلان رقائق الذرة الراقصة، وقد يقول هو: «الحقيقة أن فكرة الإعلان ذكية.» أعتقد أن هذا نوع من التحذير لي.
ما رأيه في كينيدي ونيكسون؟ «ما هما إلا مواطنان أمريكيان.»
حاولت أن أفتح المجال للمحادثة قليلا. «ماذا تعنين؟»
عندما يسأله أحد عن موضوع يظن أنه لا داعي للحديث فيه - أو عندما يطلب منه أن يدخل في نقاش عن أمر لا يحتاج إلى دليل إثبات - كان يلجأ إلى طريقته المعهودة في رفع شفته العليا من جانب واحد في اشمئزاز مظهرا سنين كبيرتين ملطختين بآثار التبغ.
كرر: «ما هما إلا مواطنان أمريكيان .» وكأنني أنا من نطقت هذه العبارة في البداية.
وهكذا جلسنا، بلا حديث وبلا صمت أيضا؛ لأنه - كما تتذكر - يتنفس بصخب؛ وكأنه يتنفس فيما يبدو من أعماق أزقة مبنية بالحجر تتصاعد منها أنفاسه خلال بوابات ذات صرير، تصدر صوتا ضعيفا يشبه سقسقة الطائر الصغير ثم صوت قرقرة ماء؛ وكأن جهازا غير بشري انطفأ في صدره. أتخيله من أنابيب بلاستيكية وفقاعات ملونة. لا يفترض بك أن تلاحظ أنفاسه، وسأعتادها عما قريب، لكنها تطغى على أي غرفة يوجد فيها، شأنها شأن كرشه الكبير وساقيه الطويلتين وتعبير وجهه. ترى ما هذا التعبير؟ يبدو كأنه حصل على قائمة من الأخطاء، بعضها قديم لم يطوه النسيان وبعضها متوقع، وقد رسم على وجهه تعبيرا يقصد به إنذار المرء - صاحب الأخطاء - كم هو صبور على الأخطاء التي يعلم المرء نفسه أنه ارتكبها، وأيضا على الأخطاء التي لا يراوده شك أنه سيقع فيها. أظن أن كثيرا من الآباء والأجداد يتكلفون كثيرا من العناء كي تكون لهم هذه النظرة - حتى أولئك الذين ليس لهم أي سلطة بعيدا عن بيوتهم، على عكسه - لكنه هو الوحيد الذي يتقنها تماما وبشكل دائم. •••
آر، لدي الكثير هنا لأفعله ولا وقت - كما يقولون - لفتور الهمة. حجرة الانتظار قد بليت جدرانها من أثر الأجيال المتعاقبة من المرضى الذين كانوا يسندون بكراسيهم محتكين بها. أعداد قديمة بالية من مجلة ريدرز دايجستس موضوعة على المنضدة. ملفات المرضى محفوظة في صناديق من الكرتون وموضوعة أسفل سرير الفحص، وسلال القمامة - حالها أنكى وأمر - متآكلة من أعلى، وكأن الفئران قرضتها. ولم يكن حال البيت أفضل؛ ففي حوض الغسيل بالطابق السفلي شقوق بنية اللون رفيعة كالشعر، وفي المرحاض بقعة صدئة مزعجة. لا بد أنك قد لاحظت أنه أمر أحمق، لكن أكثر ما أزعجني هو كل تلك الكوبونات والمطبوعات الدعائية. إنها داخل الأدراج أو تحت صحون فناجين القهوة أو ملقاة هنا وهناك، مع أن العروض أو التخفيضات التي تعلن عنها قد انتهت منذ أسابيع أو أشهر أو سنين عديدة مضت.
ليس الأمر أنهما ما عادا يتحكمان في زمام الأمور، أو أنهما كفا عن المحاولة؛ كل ما في الأمر أن كل شيء صار معقدا. فقد صارا يرسلان ثيابهما إلى المغسلة، وهو تصرف سديد، بدلا من أن تظل السيدة بي عاكفة على غسل الملابس بنفسها، لكن أبي لا يستطيع أن يتذكر الموعد المحدد لإحضار الثياب، فيحدث تلك الجلبة الشائنة المعهودة لعدم وجود ما يكفي من الملابس. والأدهى من ذلك أن السيدة بي تعتقد أن المغسلة تغشها، وتستغرق هذا الوقت الطويل في انتزاع البطاقات من على ثيابهم ثم تثبيتها على ثياب غيرها أقل منها جودة؛ ولذلك لا تفتأ تتشاجر مع عامل توصيل الثياب، متهمة إياه بأنه يتعمد أن يكون بيتهم هو آخر بيت يوصل إليه الملابس، وهذا - على الأرجح - هو ما يفعله.
وكذلك تحتاج الأفاريز إلى تنظيف، وكان من المفترض أن ينظفها ابن أخت السيدة بي، لكنه أصيب في ظهره؛ لذلك فإن ابنه سوف يأتي ليحل محله، لكن ابنه لديه مشاغل كثيرة متأخر في تنفيذها ... وهكذا الحال باستمرار.
ينادي أبي ابن ابن أخيه باسم ابن أخيه؛ إنه يفعل هذا مع الجميع. ويسمي جميع محال ومتاجر البلدة بأسماء مالكيها السابقين أو ربما من كانوا يملكونها قبلهم. يعدو هذا كونه مجرد إخفاق بسيط في الذاكرة، فهو أقرب للغطرسة؛ إذ إنه يضع نفسه في مكانة من لا يحتاج لأن يصحح الأمور، أو يلاحظ التغيرات، أو الأشخاص.
سألته أي الألوان أطلي به جدران حجرة الانتظار: أخضر فاتح أم أصفر فاتح؟ فسألني عمن سيطليها. «سأطليها بنفسي.» «لم أعهدك يوما تجيدين الطلاء.» «لقد طليت من قبل أماكن عشت فيها.» «ربما ما تقولينه صحيح، لكنني لم أر مجهودك فيها. وماذا ستفعلين بمرضاي وأنت تطلين الغرفة؟» «سوف أطليها يوم الأحد.» «لن يهتم بعضهم عند معرفة أن الجدران ستطلى.» «هل تمزح؟ في هذه الأيام وفي هذا العصر الذي نعيش فيه؟» «قد لا تكون الأيام والعصر اللذين في مخيلتك. ليس في هذا المكان.»
حينها قلت إنني أستطيع أن أقوم بهذه المهمة ليلا، فأجابني بأن الرائحة ستظل حتى اليوم التالي وستصيب كثيرا من المرضى بالغثيان. وهكذا لم أستطع أن أفعل شيئا، في النهاية، سوى أن أتخلص من أعداد مجلة ريدرز دايجستس، وأستبدل بها أعدادا من مجلات ماكلينز وشاتيلين وتايم وساترداي نايت. ثم قال إن المرضى يشكون؛ إذ يفتقدون قراءة النكات التي يتذكرونها في مجلة ريدرز دايجستس، وبعضهم لا يحب الكتاب الجدد من أمثال بيير بيرتون.
قلت وأنا عاجزة عن التصديق حتى إن صوتي ارتجف: «إنه لأمر سيئ.»
بعد ذلك، صببت تركيزي على خزانة حفظ الملفات الموجودة في غرفة الطعام؛ فقد ظننت أنها - على الأرجح - مليئة بملفات المرضى الذين ماتوا منذ زمن بعيد، وأنني إذا ما استطعت التخلص من هذه الملفات يمكنني حينها ملؤها بملفات أخرى من الصناديق، ثم أنقل الخزانة إلى العيادة؛ حيث مكانها الأصلي.
وحين رأت السيدة بي ما أفعله، ذهبت لتحضر أبي دون أن تخاطبني بكلمة.
فقال: «من قال لك إنك تستطيعين العبث كما يحلو لك في هذا المكان؟ لم أقل هذا.» •••
آر، في الأيام التي كنت فيها موجودا هنا، لم تكن السيدة بي في المنزل؛ إذ رحلت للاحتفال بعيد الميلاد مع أسرتها (لديها زوج قضى نصف حياته مريضا بانتفاخ الرئة، ولم يكن لديها أبناء، بل قطيع من أبناء وبنات الإخوة والأخوات، إلى جانب معارفها). لا أظن أنك رأيتها قط، لكنها رأتك. بالأمس قالت لي: «أين ذلك السيد الذي كان من المفترض أن يعقد خطبته عليك؟» لقد رأتني، بالطبع، لا أرتدي خاتمي.
قلت: «أتوقع أن يكون في تورونتو.»
في عيد الميلاد الماضي، كنت أزور ابنة أختي، فرأيناكما تمشيان بمحاذاة ماسورة المياه الرئيسية، فقالت ابنة أختي: «أتساءل، يذهب كلاهما إلى أين؟» إنها تتحدث هكذا بالضبط، بهذا الترتيب العجيب للكلمات، وكلامها لا يبدو طبيعيا إلا بعد أن أدونه. أعتقد أنها كانت تقصد بحديثها أننا كنا متجهين إلى مكان ما لنقيم علاقة، لكن الحقيقة أننا لم نكن نفعل ذلك في هذه الأيام - كما تتذكر - وكنا نتمشى لنبتعد عن المنزل. كلا، بل خرجنا من المنزل كي نستكمل شجارنا الذي كان بوسعنا السيطرة عليه وكبحه فترة طويلة.
بدأت السيدة بي في العمل لدى أبي في ذات الوقت الذي بدأت فيه الدراسة تقريبا. وقبلها جاءت أكثر من امرأة شابة للعمل لدينا، لكنهن رحلن الواحدة تلو الأخرى كي يتزوجن أو يعملن في المصانع الحربية. عندما كنت في التاسعة أو العاشرة من عمري، وحين كنت أذهب إلى بيوت بعض من صديقاتي، قلت لأبي: «لماذا تتناول الخادمة الطعام معنا؟ الآخرون لا يسمحون للخدم بتناول الطعام معهم.»
فقال: «عليك أن تنادي السيدة باري بلقب السيدة باري، وإذا كنت لا تحبين أن تتناولي الطعام معها، فاذهبي وتناوليه في سقيفة تخزين الحطب.»
بعدها اعتدت قضاء أوقات طويلة معها في محاولة دفعها للتحدث معي، لكنها في أغلب الأحوال لم تكن تتجاوب، وحين كانت تتحدث كنت أسعد بحديثها أيما سعادة؛ إذ كنت أستمتع بتقليدها في المدرسة. (أنا) شعرك شديد السواد يا سيدة باري. (السيدة بي) كل أفراد عائلتي سود الشعر، كلهم شعورهم سوداء لا تشيب أبدا. هذا الأمر وراثي من طرف أمي؛ يظل شعرهم أسود حتى وهم في الأكفان. عندما مات جدي، أبقوه في المقبرة طوال الشتاء دون دفن؛ لأن أرض المقبرة ظلت متجمدة طوال الشتاء، ثم جاء الربيع فهموا بأن يواروه تحت الثرى لكن أحدهم قال: «لنلق عليه نظرة لنرى ما فعل به الشتاء.» لذا، فقد جعلنا أحدهم يرفع غطاء النعش، فوجدنا جثمانه بخير حال. وجهه لم يسود أو ينحل، ولم يصبه أي سوء، وشعره كان أسود. أسود.
كنت أستطيع كذلك أن أقلد ضحكاتها القصيرة التي تضحكها، ضحكات قصيرة مقتضبة كالنباح، ليس الغرض منها التعليق على أمر طريف، بل تستخدمها كنوع من أنواع علامات الترقيم الصوتية.
لكن قرابة الوقت الذي عرفتك فيه، كنت قد سئمت من فرط تقليدي لها.
بعد أن أخبرتني السيدة بي تلك المعلومات عن شعرها، قابلتها في أحد الأيام خارجة من دورة المياه الموجود في الطابق العلوي. كانت تهرول كي تجيب الهاتف، ذلك الهاتف الذي كنت ممنوعة من الرد عليه. كان شعرها ملفوفا في منشفة لأعلى، وعلى جانب وجهها تتقاطر قطرات مياه غامقة، لونها يميل إلى الأرجواني، حتى إنني ظننتها تنزف.
وكأن دمها غريب مختلف عن دم الناس، قاتم من الخبث الذي يبدو متأصلا في طبعها في بعض الأحيان.
فقلت لها: «رأسك ينزف.» وردت علي: «أفسحي الطريق.» ثم أسرعت لترد على الهاتف. ذهبت إلى دورة المياه، فوجدت بقعا أرجوانية في الحوض وصبغة الشعر على الرف. لم نتبادل كلمة عن هذا الموضوع، واستمرت في حديثها عن احتفاظ أفراد عائلة أمها بسواد شعرهم إلى أن يوضعوا في أكفانهم، وأنها ستكون مثلهم. •••
في تلك الأعوام، كان أبي يستخدم طريقة غريبة في التعامل معي ومحادثتي؛ كان أحيانا يمر بالغرفة التي أجلس فيها، فيقول متظاهرا بأنه لم يرني:
أكبر عيوب هنري كينج
أنه يلوك قطعا صغيرة من الخيط ...
وأحيانا كان يخاطبني بصوت مسرحي خفيض: «مرحبا أيتها الفتاة الصغيرة، أتريدين قطعة من الحلوى؟»
فكنت أرد بصوت طفلة صغيرة تتدلل: «نعم يا سيدي.»
فيرد مطيلا بعض الحروف: «حسنا، لن تنالي أي حلوى.»
كان يقول: «سولومون جراندي، ولد يوم الإثنين ...»
ثم يشير لي بإصبعه كي أكمل الأغنية: «عمد الثلاثاء ...» «تزوج الأربعاء ...» «مرض الخميس ...» «ساءت حالته الجمعة ...» «مات السبت ...» «ودفن الأحد ...»
ثم نردد معا بصوت كأنه الرعد: «وهذه كانت نهاية سولومون جراندي.»
وحين ننتهي من هذه الأغنية، لا يعلق أحد أو يقول أي شيء. حاولت أن أناديه سولومون جراندي على سبيل المزاح، لكنه بعد المرة الرابعة أو الخامسة قال لي: «كفاك، هذا ليس اسمي، أنا أبوك.»
ومن بعدها، لم نغن هذه الأغنية معا مرة أخرى.
عندما قابلتك في الجامعة لأول مرة - وكنت وحيدا مثلي - بدوت كأنك تذكرتني، لكنك لم تقرر أن تقولها لي؛ حينها كنت قد انتهيت لتوك من تدريسنا تلك المحاضرة الوحيدة، حالا محل محاضرنا الأساسي الذي كان مريضا، وكانت المحاضرة عن الإيجابية المنطقية، وحينها تندرت بشأن إحضار أستاذ من كلية اللاهوت كي يدرس مثل هذه المادة.
بدوت مترددا في إلقاء التحية علي؛ لذا قلت لك: «ملك فرنسا السابق أصلع.»
كان هذا هو المثال الذي ذكرته لنا على عبارة ليس لها أي معنى؛ لأن موضوعها لا وجود له. لكنك رمقتني بنظرة اندهاش وحرج، وسرعان ما أخفيتها بابتسامة عملية. ماذا ظننت بي؟
فتاة ذكية مزعجة. •••
آر. ما زال بطني منتفخا قليلا. ليس عليه أي علامات، لكنني أستطيع أن أقبض على اللحم الزائد بيدي. فيما عدا هذا، كل شيء على ما يرام. عاد وزني إلى وضعه الطبيعي أو أقل منه بقليل، لكن مع هذا أعتقد أنني أبدو أكبر من سني، أعتقد أنني أبدو أكبر من فتاة في الرابعة والعشرين. ما زال شعري طويلا غير مصفف على الطريقة العصرية، بل هو في الواقع فوضوي المظهر. هل تركته كذلك لأجل ذكراك؛ لأنك لم تكن تحب أن أقصه؟ لا أدري.
على كل، فقد بدأت أمشي مسافات طويلة حول البلدة على سبيل التريض. اعتدت في طفولتي أن أذهب في الصيف إلى أي مكان أريده. لم تقيدني أي قواعد، ولم أفكر في مراعاة الفروق الطبقية بين الناس. ربما كان هذا لأنني لم أرتد أي مدرسة في هذه البلدة، أو لأن منزلنا يقع خارج البلدة في آخر الزقاق الطويل. خالجني إحساس بعدم الانتماء بينما ذهبت إلى إسطبلات الخيول المجاورة لمضمار سباق الخيول؛ حيث كان الرجال هناك إما مالكي خيول أو مدربين مستأجرين، أما بقية الأطفال الآخرين فكلهم كانوا صبية. لم أعرف أيا من أسمائهم، لكنهم جميعا كانوا يعرفون اسمي. بعبارة أخرى، كانوا مضطرين لأن يتحملوني لأجل أبي. سمح لنا بأن نضع الطعام والسماد خلف الخيل، وكنا نرى في هذا ضربا من المغامرة. ارتديت إحدى قبعات الجولف القديمة الخاصة بأبي، وسروالا قصيرا واسعا. كنا نصعد إلى السطح فيتصارعون ويدفع أحدهم الآخر، لكن لم يقترب مني أحد منهم. وبين الفينة والأخرى، ينهرنا الرجال طالبين منا أن نغرب عن وجوههم، وكانوا يقولون لي: «أيعرف أبوك أنك هنا؟» ثم يشرع الصبية يتمازحون بأصوات كأنهم يتقيئون، وكنت أعرف أنهم يسخرون مني بهذه الأصوات؛ لهذا كففت عن الذهاب إلى هناك. تخليت عن فكرة كوني فتاة الغرب الذهبي . ذهبت إلى المرسى وأخذت أنظر إلى القوارب التي تعبر البحيرة، لكنني لا أعتقد أنني بالغت وحلمت بأن أصبح عاملة على قارب. كذلك فإنني لم أخدعهم ليظنوا أنني أكثر من مجرد فتاة. ذات مرة، مال نحوي رجل وصاح قائلا: «مرحبا، هل نما عليه شعر أم ليس بعد؟»
قلت: «معذرة؟» لم أشعر بالخوف أو الإهانة قدر شعوري بالارتباك من اهتمام رجل بالغ يعمل عملا مسئولا بشعيرات تنمو بين فخذي، ومن اشمئزازه منها كما أوحى لي صوته بكل تأكيد.
تهدمت إسطبلات الخيل الآن، ولم يعد الطريق المؤدي إلى الميناء منحدرا كما كان، وصارت هناك صومعة حبوب جديدة تعمل بالآلات، وتقسيمات جديدة لضواح شبيهة جدا بضواحي البلدات الأخرى؛ ولهذا أحبها الجميع. ولم يعد هناك من يسير على قدميه في الطرقات الآن؛ فالكل يقود السيارات. أيضا تخلو طرقات الضواحي الجديدة من أرصفة للمشاة، والأرصفة الموجودة في الشوارع القديمة لم يعد يسير عليها أحد؛ لأنها مصدعة وغير مستوية بفعل الثلج، بل ومختفية تحت العشب والتراب. انطمر الطريق الطويل غير الممهد الذي تظلله أشجار الصنوبر بطول زقاقنا تحت أكوام من أعواد الصنوبر والشجيرات البرية وسيقان توت العليق البري. على مدى عشرات السنين، كان الناس يسيرون على هذا الطريق ذاهبين إلى الطبيب بعد أن يخرجوا من البلدة سائرين على امتداد قصير لرصيف المشاة على الطريق السريع (لم يكن هنالك امتداد آخر سوى ذاك الذي يؤدي إلى المقابر)، ثم يسيرون بين صفي أشجار الصنوبر في ذاك الجانب من الزقاق. كل هذا لرؤية طبيب يسكن هذا المنزل منذ أواخر القرن الفائت.
طوال فترة ما بعد الظهيرة، كان يرتاد العيادة جميع أنواع المرضى الصاخبين المثيرين للازدراء؛ أطفالا وأمهات وعجائز، أما المرضى الهادئون فكانوا يأتون فرادى في المساء. اعتدت وقتها أن أختبئ بجوار شجرة كمثرى محاطة بمجموعة من شجيرات الليلك لأتلصص عليهم؛ لأن الفتيات الصغيرات يحببن التلصص. اختفت شجيرات الليلك الآن، اجتثت لتسهيل عمل ابن بنت أخت السيدة بي في جز الأعشاب بجزازة العشب الكهربائية. كنت أتلصص على السيدات اللائي كن يتأنقن ، وقتها، لزيارة الطبيب. أتذكر طراز الملابس السائد في تلك الفترة؛ الفترة التي تلت الحرب مباشرة: التنورات الطويلة والأحزمة المربوطة بإحكام والبلوزات الأنيقة - وأحيانا كن يرتدين قفازات قصيرة بيضاء، حيث كانت النساء في ذاك الزمان يرتدين القفازات في الصيف أيضا، ولا يقتصر ارتداؤها على الكنيسة فقط، وكذلك القبعات لم تكن ترتدى في الكنيسة فقط - قبعات الباستيل المصنوعة من القش التي كانت تحدد الوجه، والثياب الصيفية ذات الأهداب البسيطة، من أعلى عند الكتفين في شكل حرملة صغيرة، ومن أسفل حزام يبدو كشريط يلف الخاصرة. وكانت الحرملة ترفرف مع الريح، فترفع السيدة يدها في قفازها المشغول بالكروشيه لتشيح الحرملة عن وجهها؛ وكانت هذه الحركة رمزا لجمال أنثوي يصعب الوصول إليه؛ لحظة تلاقي نسيج الثوب الرقيق بالشفاه الناعمة. ربما كان شعوري هذا نتيجة عدم وجود أم في حياتي، لكنني لم أعرف أحدا له أم تشبه هؤلاء السيدات. كنت أجلس القرفصاء تحت الشجيرات آكل ثمار الكمثرى الصفراء المنقطة وأتطلع غزلا في هؤلاء السيدات.
كانت إحدى معلماتنا في المدرسة تجعلنا نقرأ أناشيد قديمة مثل: «باتريك سبنس» و«الغرابان»، وكان في المدرسة إقبال على تأليف الأناشيد:
أسير في الردهة
لأقابل صديقتي
ذاهبة إلى دورة المياه
لأقضي حاجتي ...
كانت كلمات الأناشيد تتسارع في ذهني متراصة في قوافيها قبل أن أجد فرصة كي أعرف معانيها؛ لهذا كنت أؤلفها وفمي مملوء بالكمثرى الناضجة:
مشت وقطعت طريقا طويلا
تركت المدينة وراءها
تركت بيتها وغضب أبيها
ذهبت تلاقي مصيرها ...
لكن عندما كانت الدبابير تضايقني أعود إلى المنزل، لأجد السيدة باري في المطبخ؛ تدخن السيجار وتستمع إلى الراديو إلى أن يناديها أبي. كانت تظل حتى ينصرف آخر مريض وتتأكد من ترتيب المكان. وإذا ما صاح بها أحد من العيادة، تضحك ضحكتها الصغيرة الشبيهة بالنباح، وتقول: «صح كما يحلو لك.» لم أكن أعبأ بأن أصف لها ثياب النسوة اللاتي رأيتهن أو مظهرهن العام؛ لأنني كنت أعرف أنها لا يمكن أن تعجب بأي أحد لجمال شكله أو أناقة ثيابه. وما كانت تعجب أيضا بقدرتهن ومعرفتهن بشيء غير ضروري، كإتقان لغة أجنبية ما، لكنها كانت تعجب فقط باللاتي يجدن لعب الورق ويتقن وبسرعة صناعة المشغولات بالكروشيه. وكانت ترى أنه لا توجد فائدة من كثير من الناس. كذلك قال أبي أيضا. لا فائدة منهم. جعلني هذا أريد أن أتساءل: ماذا إذا كانت هناك فائدة منهم؟ فما عساها تكون؟ لكنني كنت أعرف أن أيا منهما لن يجيبني، بل وسيطلبان مني أن أكف عن التذاكي:
أتى عمه إلى فريدريك هايد
يترنح مخمورا في الوحل
أخذ يهزه من جنب إلى جنب
آلمه كثيرا من الضرب ...
إذا ما قررت أن أبعث بكل هذا إليك، فما الوجهة التي أرسل إليها؟ عندما أفكر في كتابة العنوان كاملا على مظروف الخطاب، أعجز ولا أفعل شيئا. كم هو مؤلم أن أفكر أنك موجود في ذات المكان وحياتك تسير بشكل طبيعي بدوني! والأسوأ أن أفكر أنك غير موجود وأنك في مكان آخر أجهله! •••
عزيزي آر، عزيزي روبين، كيف تظن أنني لم أعرف؟ لقد كان الأمر واضحا أمامي طوال الوقت. لو التحقت بالمدرسة هنا، لعرفت بلا شك. لو كان لدي أصدقاء، لأخبرتني قطعا إحدى الفتيات الأكبر مني سنا في المدرسة الثانوية.
رغم ذلك، كان لدي سعة من الوقت خلال العطلات، ولو لم أكن منغلقة إلى هذه الدرجة على نفسي أتسكع في طرقات البلدة أؤلف الأناشيد، لخمنت الأمر بنفسي. والآن حين أفكر في الأمر، أدرك أن بعض هؤلاء المريضات المسائيات؛ هؤلاء السيدات، كن يأتين على متن قطار. لقد ربطت بينهن وملابسهن الجميلة بالقطار المسائي. كان هناك قطار يغادر في ساعة متأخرة من الليل لا بد أنهن كن يغادرن فيه. وبالطبع، كان من السهل عليهن أن يأتين بسيارة تقلهن حتى نهاية زقاقنا.
علمت - من السيدة بي، على ما أظن، وليس منه - أنهن كن يأتين لأبي ليحصلن على حقن الفيتامينات. عرفت هذا لأنني كنت كلما سمعت صوت امرأة تصيح أفكر أنها الآن تأخذ الحقنة، وكنت أندهش قليلا من أن هؤلاء النساء الراقيات الرزينات غير قادرات على تحمل وخزات الإبر.
وحتى الآن، استغرق الأمر مني أسابيع عديدة كي أعتاد النظام الذي تسير به الأمور في هذا البيت، إلى درجة أنني صرت لا أجرؤ على أن ألتقط فرشاة دهان، وأتردد قبل أن أعدل وضع درج غير مستو أو أتخلص من إيصال مشتريات بقالة قديم دون أن أستأذن السيدة بي (التي لا تستطيع أبدا أن تقرر ما تفعل)، إلى درجة أنني توقفت عن محاولة إقناعهما بأن يقبلا القهوة المغلية (إنهما يفضلان القهوة سريعة التحضير؛ لأن لها نفس المذاق).
اليوم، الأحد، على طاولة الغداء وضع أبي شيكا بجانب طبقي. السيدة باري لا توجد هنا أبدا أيام الآحاد. نتناول في هذا اليوم غداء باردا أعده بنفسي من شرائح اللحم والخبز والطماطم والمخللات والجبن، وذلك عندما يعود أبي من الكنيسة. لم يطلب مني قط الذهاب معه إلى الكنيسة، لعله يظن أنه إذا طلب مني ذلك، فسيتيح لي بذلك فرصة الإعراب عن بعض الآراء التي لا يهتم بسماعها.
كان الشيك بمبلغ خمسة آلاف دولار.
وقال لي: «هذا لك كي يكون لديك بعض المال. يمكنك وضعه في البنك أو استثماره كيفما تشائين. فلتتعرفي على الأسعار؛ إنني لا أتابع هذا الأمر. وستحصلين، بالطبع، على المنزل أيضا؛ بعد عمر طويل، كما يقولون.»
رشوة؟ هذا ما ظننته. مال كي أبدأ مشروعا صغيرا أو أذهب في رحلة ما. مال أدفعه مقدما لمنزل صغير يكون ملكا لي أو أعود إلى الجامعة للحصول على ما أطلق عليه درجاتي الجامعية غير القابلة للبيع والشراء.
خمسة آلاف دولار للتخلص مني.
شكرته، ولإطالة الحديث معه بشكل أو بآخر سألته عما فعله بأمواله؛ فأجابني أنه لم يفعل شيئا جديرا بالذكر.
واستطرد قائلا: «عليك بسؤال بيلي سنايدر، إذا كنت تبغين النصح.» ثم تذكر أن بيلي سنايدر لم يعد يعمل في مجال المحاسبة؛ فقد تقاعد عن العمل.
فقال لي: «ثمة شخص مستجد يحمل اسما غريبا؛ اسما مثل يبسلانتي، لكنه ليس يبسلانتي.»
فقلت له: «يبسلانتي اسم مدينة في ميشيجان.»
ورد أبي: «نعم، إنه اسم مدينة في ميشيجان، لكنه كان اسما لرجل قبل أن يكون اسما لمدينة.» يبدو أنه كان اسما لقائد إغريقي حارب ضد الأتراك في مطلع القرن التاسع عشر.
قلت له: «نعم، تذكرت الآن ... حرب بايرون.»
فقال أبي متعجبا: «حرب بايرون؟ لماذا تطلقين عليها هذا الاسم؟ بايرون لم يخض أي حروب، ولقي حتفه جراء الإصابة بمرض التيفوس، وبعد أن توفي، جعلوا منه بطلا مغوارا، وقالوا إنه توفي أثناء دفاعه عن الإغريق وما إلى ذلك.» قال أبي ذلك على نحو مشاكس عنيف، كما لو كنت أحد المسئولين عن هذا الخطأ وهذه الضجة المثارة حول بايرون، لكنه استعاد هدوءه فيما بعد، وقص علي - أو بالأحرى ذكر نفسه - مراحل الحرب ضد الإمبراطورية العثمانية؛ فتحدث عن الباب العالي، وأردت أن أخبره بأنني لم أكن على يقين قط مما إذا كان هذا الباب بابا فعليا أم أنه يرمز إلى القسطنطينية أو بلاط السلطان؟ لكن من الأفضل دائما عدم مقاطعة أبي أثناء تحدثه؛ فعندما يبدأ في التحدث بهذا الشكل، يسود نوع من الهدنة أو فرصة لالتقاط الأنفاس في حرب سرية غير معلنة بيننا. كنت أجلس في مواجهة النافذة، وتمكنت من رؤية أكوام أوراق الشجر الصفراء المائلة للون البني - متناثرة على الأرض - عبر الستائر الشفافة في ضوء الشمس الساطع (لعلنا لن نشهد مثل هذا اليوم لفترة طويلة؛ إذ لا يبشر بذلك صوت الرياح الذي سمعناه في تلك الليلة)، وذكرني ذلك بارتياحي وسعادتي السرية التي كنت أشعر بها في طفولتي كلما تمكنت من جعله يستطرد في الحديث على هذا النحو بطرحي سؤالا ما عليه أو عن طريق الصدفة كهذه المرة.
ومن الأمثلة على ذلك حديثه عن الزلازل؛ فهي تحدث في الحواف البركانية، لكن أحد أعتى هذه الزلازل حدث في وسط القارة، بمقاطعة نيو مدريد في ولاية ميزوري عام 1811. عرفت ذلك منه، وكذلك معلومات عن الأودية المتصدعة، وحالة عدم استقرار التربة التي لا توجد أي دلالات عليها، والكهوف التي تتشكل داخل حجر الجير، والمياه الجوفية، والجبال التي تتآكل بمرور الوقت وتتحول إلى حطام.
وهناك أيضا الأرقام؛ فقد سألته ذات مرة عن الأرقام، وقال لي إنها تعرف بالأرقام العربية، وما من أحد يجهل ذلك. وأضاف أن الإغريق كان بإمكانهم تطوير نظام جيد للأرقام، لكنهم لم يتوصلوا إلى مفهوم الصفر. «مفهوم الصفر» عبارة احتفظت بها في ذاكرتي لأعود إليها يوما ما فيما بعد.
لا شك أنه عند وجود السيدة بي معنا، لا يكون هناك أي أمل في الحصول على مثل هذه المعلومات من أبي.
فكان يقول لي في هذه الأوقات: «لا عليك، فلتكملي طعامك.»
كان يفعل ذلك وكأن أي سؤال أطرحه له مغزى خفي، وأظن أن هذا هو ما كان عليه الحال بالفعل. فقد كنت أحاول توجيه دفة المحادثة بيننا، ولم يكن من اللياقة عدم إشراك السيدة بي في الحديث؛ ومن ثم، كان علينا الإذعان لموقفها تجاه أسباب الزلازل أو تاريخ الأرقام (الموقف الذي لم يقتصر على عدم الاكتراث فحسب، بل أيضا الازدراء)؛ ليكون لهذا الموقف الغلبة في النهاية. •••
وبذلك، نعود للحديث عن السيدة بي مجددا؛ السيدة بي في الوقت الحالي.
وصلت إلى المنزل الليلة الماضية الساعة العاشرة مساء. كنت في اجتماع الجمعية التاريخية، أو بالأحرى اجتماع لمحاولة تأسيس هذه الجمعية وتنظيمها. حضر الاجتماع تلك الليلة خمسة أشخاص، من بينهم اثنان يسيران على عكازين. وعندما فتحت باب المطبخ، رأيت السيدة بي في مدخل الباب المؤدي إلى الرواق الخلفي الذي يصل بين العيادة من ناحية ودورة المياه والجزء الأمامي من المنزل من ناحية أخرى. كانت تحمل إناء كبيرا مغطى في يديها في طريقها إلى دورة المياه، وكان بوسعها المضي قدما باجتياز المطبخ الذي دخلت إليه في تلك اللحظة. وما كنت لألمحها إن فعلت، لكنها توقفت متسمرة في مكانها فجأة، واستدارت ناحيتي قليلا، وقد ارتسم على وجهها عبوس؛ لأنها فوجئت برؤيتي.
لقد أوقعت بها.
هرولت، بعد ذلك، مسرعة إلى دورة المياه.
اتسمت كل تصرفاتها بالافتعال والتصنع؛ المفاجأة والإجفال والإسراع في الخطى، بل والطريقة التي حملت بها أيضا الإناء كي أتمكن من ملاحظته؛ كلها تصرفات متعمدة من جانبها.
كان بإمكاني سماع صوت همهمة أبي في العيادة، متحدثا إلى أحد المرضى. رأيت أنوار العيادة مضاءة أثناء دخولي المنزل، ورأيت سيارة المريضة بالخارج؛ فلم يعد أحد يسير على قدميه الآن.
خلعت معطفي، وصعدت إلى الطابق العلوي. كان شغلي الشاغل آنذاك هو عدم السماح للسيدة بي بتحقيق ما تبغيه. ما من أسئلة، أو إدراك صادم، ما من «ما الذي تحملينه في هذا الإناء يا سيدة بي؟» أو «ما الذي تدبرانه أنت وأبي؟» (لم أكن أدعوه «أبي» قط)، وانشغلت على الفور بالبحث في أحد صناديق الكتب التي لم أفرغها بعد. كنت أبحث عن مذكرات آنا جيمسون؛ إذ كنت قد وعدت أحد الذين حضروا الاجتماع، والذي لم يكن عمره يتجاوز السبعين عاما، بإحضارها له. هو يعمل مصورا ويعلم بعض الأمور عن تاريخ كندا العليا؛ وكان يراد أن يصبح مدرس تاريخ، لكنه يعاني من لعثمة منعته من ذلك. أخبرني بذلك في نصف الساعة التي وقفنا فيها على الرصيف نتبادل أطراف الحديث، بدلا من اتخاذ خطوة أكثر جدية بالذهاب إلى مكان ما لاحتساء القهوة. وعند توديع أحدنا الآخر، أخبرني بأنه ود لو دعاني لاحتساء القهوة، لكنه يجب عليه العودة إلى المنزل ليحل محل زوجته في رعاية طفلهما الذي يعاني من المغص.
أفرغت صندوق الكتب بالكامل قبل أن أصل إلى ما أريد؛ كان الأمر أشبه بالبحث عن آثار من عصر قديم. أخذت أبحث فيها جميعا إلى أن رحلت المريضة واصطحب أبي السيدة بي إلى منزلها، وصعد إلى الطابق العلوي؛ استخدم دورة المياه، وخلد إلى النوم. أخذت أقرأ قليلا حتى أصابني النعاس، وكدت أغفو على الأرض. •••
واليوم، أثناء تناولنا الغداء، قال أبي أخيرا: «من يبالي بالأتراك على أي حال؟ صاروا نسيا منسيا.»
ولزم علي القول: «أعتقد أنني أعلم بما يدور هنا.»
فعاد برأسه إلى الوراء، ونخر كالحصان العجوز. «تعلمين، أليس كذلك؟ ما الذي تظنين أنك على علم به؟»
فقلت له: «إنني لا أدينك بشيء. لست أمانع.» «أهكذا إذن؟»
فقلت: «إنني أومن بالإجهاض، وبأنه يجب أن يكون قانونيا.»
فقال لي: «لا أريد سماع هذه الكلمة منك مرة أخرى في هذا المنزل.»
فسألته: «ولم؟» «لأنني من يقرر ما يقال في هذا المنزل.» «أنت لا تفهم ما أقوله.» «ما أفهمه أنك صرت وقحة، وفقدت ما لديك من عقل. تعليم كثير، وعقل صغير.»
لكنني لم أصمت، وقلت له: «ينبغي أن يعلم الناس.» «حقا؟ ثمة فارق بين المعرفة والثرثرة. ضعي هذا الكلام في ذهنك، ولا تتحدثي في هذا الموضوع مجددا أبدا.» •••
لم نتحدث مجددا طوال ما تبقى من ذلك اليوم. طهوت لحما مشويا كالمعتاد على العشاء، وتناولناه دون أن ينبس أي منا ببنت شفة. لا أظن أنه وجد صعوبة في ذلك على الإطلاق، وكذلك أنا؛ لأن كل شيء بدا غبيا ومهينا، وكنت أشعر بالغضب، لكنني لن أظل على هذا الحال إلى الأبد، وربما أعتذر عما بدر مني (قد لا يدهشك سماع ذلك). صار من الجلي للغاية أنه قد حان موعد مغادرتي المنزل.
أخبرني الرجل الذي قابلته ليلة أمس أنه عندما يشعر بالراحة والسكينة، تختفي لعثمته تماما، مثلما كان الحال وهو يتحدث معي، حسبما قال. يمكنني على الأرجح إيقاعه في غرامي، إلى حد ما. يمكنني فعل ذلك بغية الترفيه؛ فتلك هي نوعية الحياة التي يمكنني الحصول عليها هنا. •••
عزيزي آر، لم أغادر المنزل لأن سيارتي الميني كوبر لم تكن في حالة تسمح بأن تقلني، فأرسلتها للفحص. هذا فضلا عن أن الطقس قد تغير، وصارت الرياح عاتية كعادتها في فصل الخريف؛ تثير مياه البحيرة، وتضرب الشاطئ بقوة؛ فأصابت السيدة باري على درجات سلم منزلها الأمامية، وعصفت بها على الرصيف، فكسر مرفقها؛ مرفقها الأيسر. بيد أنها قالت إن بوسعها العمل باستخدام ذراعها اليمنى، لكن أبي أخبرها بأن الكسر مضاعف، وينبغي عليها الراحة طوال هذا الشهر. وسألني عما إذا كان لدي مانع في تأجيل مغادرتي للمنزل. كانت هذه كلماته بالضبط «تأجيل مغادرتي». لم يسألني عن المكان الذي أخطط للذهاب إليه؛ كان يعلم فقط بأمر السيارة.
أنا أيضا كنت أجهل المكان الذي سأذهب إليه.
فوافقت على البقاء ما دام لي نفع في المكان ؛ ومن ثم، صار هناك احترام بيننا في الحديث؛ وقد كان في الواقع أمرا مريحا. حاولت فعل ما كانت ستفعله السيدة بي في المنزل. تخليت عن أي محاولة لإعادة التنظيم، أو التحدث عن إجراء الإصلاحات (كانت الأفاريز قد نظفت بالفعل؛ عندما جاء قريب السيدة بي، شعرت بالذهول والامتنان)، وتمكنت من إغلاق باب الفرن مثلما كانت تفعل السيدة بي بوضع كتابين ثقيلين - عن مجال الطب - على كرسي بدون مساند ودفعه قبالة الفرن لإبقاء الباب مغلقا. طهوت اللحم والخضراوات كما تفعل، ولم أفكر قط في جلب ثمر أفوكادو أو زجاجة من لب ثمرات الخرشوف أو رءوس الثوم إلى المنزل، بالرغم من ملاحظتي توافر كل هذه الأشياء الآن في المتجر. أعددت القهوة سريعة التحضير، وحاولت احتساءها لأرى ما إذا كان بإمكاني الاعتياد عليها، وتمكنت بالطبع من ذلك. نظفت العيادة في نهاية كل يوم، وتوليت أمر غسل الملابس. وكان العامل بالمغسلة يفضل التعامل معي؛ لأنني لم أكن أتهمه بأي شيء.
سمح لي أيضا بالرد على الهاتف، لكن إذا كان المتصل امرأة تطلب التحدث مع أبي، ولا ترغب في الكشف عن أي تفاصيل عن حالتها، كان علي تسجيل رقمها وإخبارها بأن الطبيب سيعاود الاتصال بها. وهذا ما كنت أفعله، وفي بعض الأحيان كانت المرأة تغلق السماعة قبل أن أنهي المكالمة. وعندما أخبرت أبي بذلك، قال لي: «ستعاود الاتصال على الأرجح.»
لم يكن هناك عدد كبير من هذا النوع من المريضات، اللاتي يسميهن أبي الحالات الخاصة. لا أعلم العدد بالضبط؛ ربما واحدة في الشهر. أما أغلب الحالات التي كان يعالجها أبي، فقد كانت حالات التهاب في الحلق، أو تقلص في القولون، أو خراج في الأذن، أو تسارع في نبضات القلب، أو حصوات على الكلى، أو قرحة في المعدة. •••
آر، طرق أبي الليلة باب غرفتي. طرقه مع أنه لم يكن مغلقا تماما. كنت أطالع أحد الكتب آنذاك، فطلب مني - دون توسل بالتأكيد، وإنما بنوع من الاحترام المعقول - مساعدته في العيادة.
كانت تلك هي الحالة الخاصة الأولى في غياب السيدة بي.
فسألته عما يريدني أن أفعله.
قال لي: «ليس عليك سوى الحفاظ على ثباتها؛ فهي صغيرة السن، وليست معتادة على الأمر بعد. فلتغسلي يديك جيدا باستخدام الصابون الموجود في الزجاجة بدورة المياه في الدور السفلي.»
كانت المريضة مستلقية على سرير الفحص، تغطيها ملاءة من أول خصرها حتى أسفلها. أما الجزء العلوي من جسدها، فكان مغطى بالكامل بسترة من الصوف المحبوك ذات لون أزرق داكن - مغلقة أزرارها حتى أعلاها - وبلوزة بيضاء مزينة بالدانتيل عند حافة ياقتها. انسدلت هذه الملابس فوق عظمة الترقوة الناتئة وصدرها الذي كاد يكون مسطحا. كان شعرها أسود، وقد أحكمت جذبه إلى الخلف، وربطته على شكل جديلة، وثبتته بدبوس أعلى رأسها. وهذا الشكل المحتشم المزري جعل عنقها يبدو طويلا، وأوضح بنية العظام البارزة لوجهها ذي البشرة البيضاء؛ ومن ثم، بدت عن بعد وكأنها امرأة في الخامسة والأربعين من عمرها، لكن عند الاقتراب منها، اتضح أنها لا تزال في ريعان شبابها، ربما في العشرينيات من العمر. كانت قد علقت تنورتها خلف الباب، وبدا من خلفها طرف السروال الداخلي الأبيض الذي علقته بعناية تحتها.
أخذت ترتجف بقوة، مع أن جو العيادة لم يكن باردا.
قال أبي: «والآن يا مادلين، أول شيء يجب أن نفعله هو رفع ركبتيك لأعلى.»
تساءلت عما إذا كان يعرفها، أم أنه يسأل المريضة فحسب عن اسمها، ويدعوها بأي اسم ترد عليه به؟
قال لها: «برفق، برفق!» ووضع الركاب في المكان المخصص له، ثم أدخل قدميها فيه. كانت ساقاها عاريتين، وبدتا وكأنهما لم تتعرضا لأشعة الشمس قط، وكانت لا تزال ترتدي حذاءها الخفيف.
ارتجفت ركبتاها كثيرا في هذا الوضع الجديد حتى إنهما اصطكتا معا.
قال لها أبي: «عليك التزام الثبات أكثر من ذلك؛ فلا يمكنني، كما تعلمين، القيام بمهمتي إلا إذا قمت أنت بما عليك فعله. هل ترغبين في وضع بطانية عليك؟»
ثم قال لي: «فلتحضري لها بطانية. ستجدينها على الرف السفلي هناك.»
أحضرت البطانية ووضعتها على الجزء العلوي من جسد مادلين. لم تنظر إلي. وكانت أسنانها تصطك بعضها ببعض، وقد زمت شفتيها محكمة إغلاق فمها.
قال أبي لها: «والآن، عليك بإنزال جسمك قليلا إلى أسفل.» ثم توجه إلي بالحديث قائلا: «أمسكي بركبتيها، وباعدي بينهما برفق.»
فوضعت يدي على الجزء البارز من ركبتيها، وباعدت بينهما برفق قدر الإمكان. وملأ صوت أنفاس أبي الغرفة بتعليقاته المبهمة التي تدل على الانهماك. ووجب علي الإمساك بركبتي مادلين بقوة كي لا تنتفضا.
سألت مادلين: «أين تلك السيدة العجوز؟»
فأجبتها: «إنها في منزلها؛ وقعت وأصيبت. وأنا أحل محلها الآن.»
لقد سبق لها، إذن، المجيء إلى هنا.
فقالت لي: «إنها قاسية.»
كان صوتها في الواقع عبارة عن دمدمة، وإن لم يكن عصبيا بالقدر الذي توقعته من ارتجاف جسدها.
قلت لها: «أتمنى ألا أكون بهذه القسوة.»
فلم تجبني. والتقط أبي أداة رفيعة تشبه إبرة الخياطة.
وقال: «والآن، الجزء الصعب.» كان يتحدث بنبرة حوارية على نحو أرق من أي مرة سمعتها منه. واستطرد قائلا: «وكلما زاد تشنجك، بات الأمر أصعب؛ لذا عليك الاسترخاء. نعم، هكذا! أحسنت يا فتاة!»
حاولت التفكير في شيء ما أقوله لتهدئتها أو إلهائها؛ فقد أدركت في تلك اللحظة ما يفعله أبي. على قطعة قماش بيضاء مفروشة على المائدة المجاورة له، اصطفت مجموعة من الأدوات، جميعها لها نفس الطول، لكن سمكها متدرج. كانت تلك الأدوات التي سيستخدمها، واحدة تلو الأخرى، لفتح عنق الرحم وتوسيعه. ومن موقعي خلف الحاجز، الذي صنعته الملاءة وراء ركبتي الفتاة، لم أتمكن من مشاهدة التقدم الفعلي لأبي في استخدام هذه الأدوات. بيد أنه كان بوسعي الشعور بما يحدث من موجات الألم التي أصابت جسدها وتغلبت على تشنجات الخوف لديها، فجعلتها أكثر هدوءا بالفعل.
من أين أنت؟ ما المدرسة التي ذهبت إليها؟ هل تعملين؟ (لاحظت خاتم زفاف في يدها، لكن على الأرجح، جميعهن يلبسن مثل هذه الخواتم) هل تحبين وظيفتك؟ هل لديك إخوة أو أخوات؟
ما الذي يمكن أن يدفعها إلى الإجابة عن أي من هذه الأسئلة، حتى وإن لم تكن تعاني الألم في تلك اللحظة؟
التقطت أنفاسها بصعوبة من بين أسنانها، واتسعت عيناها وهي تنظر إلى السقف.
قلت لها: «أعلم، أعلم أنك تتألمين.»
قال أبي: «لقد أوشكنا على الانتهاء. أحسنت صنعا يا فتاة! لم يعد أمامنا الكثير.»
قلت لها: «كنت سأقوم بطلاء هذه الغرفة، لكنني لم أتمكن من فعل ذلك. ما اللون الذي تختارينه إذا كنت مكاني؟»
فتنفست بعنف على حين غرة.
قلت لها: «أصفر؛ فكرت في الأصفر الفاتح. وما رأيك في الأخضر الفاتح؟»
بحلول ذلك الوقت، كنا قد وصلنا إلى الأداة الأكثر سمكا. دفعت مادلين رأسها بعنف إلى الخلف على الوسادة المسطحة، وبسطت عنقها الطويل، ومطت شفتيها من الألم وزمتهما على أسنانها.
قلت لها: «فكري في فيلمك المفضل. ما فيلمك المفضل؟»
سبق أن سألتني إحدى الممرضات هذا السؤال عند وصولي إلى مرحلة بشعة من الألم ظننتها ستلازمني. شعرت في تلك اللحظات أنني لن أنال الراحة أبدا. كيف يمكن أن يكون للأفلام وجود في العالم بعد هذه اللحظات؟ والآن، أقول نفس الشيء لمادلين التي نظرت إلي نظرة خاطفة بتعبير ذاهل لا مبال لشخص يرى أن الإنسان لا يزيد نفعا عن ساعة متعطلة.
جازفت برفع إحدى يدي من على ركبتها، ولمست يدها. وأدهشني مدى السرعة والقوة الذي أمسكت به يدي، وسحقت أصابعي معا، وأخيرا صرت ذات نفع.
همست من بين أسنانها: «قولي شيئا ... ألقي ... على مسامعي.»
قال أبي: «لقد أوشكنا على الانتهاء.»
ألقي على مسامعي.
ماذا كان يفترض مني أن ألقي على مسامعها؟ أغنية «هيكوري ديكوري دوك»؟
ما ورد على ذهني في تلك اللحظة الأغنية التي اعتدت أنت ترديدها؛ «أغنية إينجس المتجول». «ذهبت إلى شجرة البندق؛ لأن نارا اشتعلت في رأسي ...»
لم أتذكر ما تلا ذلك من أبيات، ولم أستطع التفكير، ثم تذكرت المقطع الأخير بأكمله:
مع أنني شبت من التجول،
في الأغوار وأعالي التلال،
سوف أعثر عليك،
وأقبل وجهك وأضم يديك ...
هل لك أن تتخيل إلقائي قصيدة أمام أبي؟
لم أعرف رأيها فيها؛ فقد أغمضت عينيها.
ظننت أنني سأخشى الموت؛ لأن أمي ماتت على هذا النحو؛ عند الولادة، لكنني ما إن وصلت إلى هذه الدرجة من الألم حتى اكتشفت أن الموت والحياة مفهومان غير مرتبطين. ووصلت إلى أقصى حدود هذا التفكير، واقتنعت بأنه لا يمكنني فعل أي شيء لتحريك ما شعرت بأنه بيضة عملاقة أو كوكب مشتعل، وليس طفلا على الإطلاق. لقد علق، وأنا أيضا علقت، في المكان والزمان اللذين سيستمران إلى الأبد. لم يبد أمامي أي سبب يجعلني أنجو من هذا الموقف، وجميع احتجاجاتي كانت قد تلاشت بالفعل.
قال أبي: «إنني بحاجة إليك الآن. أريدك هنا. فلتحضري الإناء الكبير.»
حملت نفس الإناء الذي رأيت السيدة باري تحمله من قبل، وظللت أحمله أثناء كشطه رحم الفتاة باستخدام أداة مطبخ ملائمة (لا أعني أنها أداة مطبخ بالفعل، وإنما كانت تشبه قليلا الأدوات المنزلية في نظري).
إن الجزء السفلي من جسد أي امرأة شابة حتى ولو نحيفة يبدو في هذا الوضع كبير الحجم وممتلئا. وفي الأيام التي تعقب الولادة - في جناح التوليد بالمستشفى - ترقد السيدة غير مكترثة بشيء، بل وفي حالة تمرد وعناد، بسبب الجروح الملتهبة والتمزقات العنيفة غير المضمدة، والخيوط الطبية السوداء البادية، وكذلك الأنسجة المخيطة المثيرة للشفقة، ومؤخرتها وفخذيها الكبيرتين البائستين. كم كان المشهد من الجانب الآخر من الملاءة مذهلا حقا!
خرجت من الرحم تكتلات - تشبه هلام النبيذ - ودماء، والجنين في مكان ما بينهما، كاللعبة الصغيرة الموجودة في علبة حبوب الفطور أو الجائزة الصغيرة المخبأة وسط حبات الفشار؛ فكان أشبه بدمية بلاستيكية دقيقة الحجم، تافهة لا قيمة لها كظفر الإصبع. لم أبحث عنه، وإنما رفعت رأسي لأعلى، مبعدة إياها عن رائحة الدماء الدافئة.
قال أبي: «والآن إلى دورة المياه. ستجدين غطاء هنا.» كان يقصد قطعة القماش المطوية الموضوعة بجوار الأدوات الملوثة بالدماء. لم أرغب في أن أسأله: «هل أتخلص من محتويات الإناء في المرحاض؟» إلا أنني سلمت جدلا بأن هذا ما يقصده. حملت الإناء متجاوزة الرواق حتى وصلت إلى دورة المياه في الدور السفلي، وتخلصت من محتويات الإناء، وكسحت مياه المرحاض مرتين، ثم شطفت الإناء بالماء، وأعدته إلى العيادة. كان أبي يضمد الفتاة آنذاك، ويقدم لها بعض التعليمات. أجاد أبي ذلك، كعادته دائما؛ بيد أن وجهه بدا متجهما ومرهقا للغاية. وتبادر إلى ذهني أنه كان بحاجة إلي في ذلك المكان طوال العملية، خشية أن ينهار أثناء العمل؛ فالسيدة بي، على الأقل في الأيام الخوالي، كانت تنتظر على ما يبدو في المطبخ حتى اللحظات الأخيرة من العملية، لكن لعلها تنتظر معه طوال فترة العملية بعدما رأيته الآن.
وإذا حدث وانهار بالفعل، فلا أعلم ما كنت سأفعل حينها.
ربت على ساقي مادلين، وأخبرها بأنها ينبغي عليها الاستلقاء على ظهرها.
وقال: «لا تحاولي النهوض لبضع دقائق. هل رتبت مع أحد ليقلك إلى المنزل؟»
فأجابت بصوت واهن، لكنه ناقم في الوقت نفسه: «من المفترض أن يكون هنا منذ البداية؛ وألا يكون قد غادر المكان بالخارج.»
فخلع أبي رداءه، وذهب إلى نافذة غرفة الانتظار.
وقال لها: «إنه لا يزال هنا.» وهمهم بصوت مستنكر معقد قائلا: «أين سلة الغسيل؟» ثم تذكر أنها في الغرفة ذات الإضاءة العالية حيث كان يعمل، فعاد ووضع الرداء فيها، ثم قال لي: «سأكون ممتنا للغاية إن تمكنت من تولي أعمال التنظيف.» والتنظيف هنا تعني التعقيم ومسح الأرضية بوجه عام.
فوافقت.
فقال أبي: «حسنا، سأودعك الآن، وسوف ترشدك ابنتي إلى الخارج عندما تكونين مستعدة.» اندهشت قليلا لسماع كلمة «ابنتي» منه، بدلا من اسمي. لا ريب أنني سمعتها منه من قبل عندما كان يقدمني إلى أحد الأشخاص، لكنني، مع ذلك، دهشت لسماعها.
أنزلت مادلين ساقيها عن سرير الفحص لحظة خروج أبي من الغرفة، ثم سارت مترنحة، فتقدمت لمساعدتها. قالت: «حسنا، حسنا! لقد نهضت عن السرير سريعا فقط. أين وضعت تنورتي؟ لا أريد الوقوف هنا بهذه الصورة.»
أحضرت لها التنورة والسروال الداخلي من وراء الباب، فارتدتهما دون مساعدة مني، لكنها أخذت ترتعش أثناء فعل ذلك.
قلت لها: «يمكنك الانتظار دقيقة، وسوف ينتظر زوجك.»
فردت علي قائلة: «إن زوجي يعمل في الغابات بالقرب من كينورا، وسوف أنتقل للعيش معه الأسبوع المقبل؛ فقد حصل على مكان حيث يمكنني الإقامة معه فيه.»
واستطردت: «والآن، لقد وضعت معطفي في مكان ما هنا.» •••
الفيلم المفضل لدي - الذي تعلمه حسب ظني، والذي كنت سأتذكره عندما سألتني الممرضة عنه - هو «التوت البري». أتذكر دار السينما الصغيرة عتيقة الطراز التي اعتدنا مشاهدة جميع الأفلام السويدية واليابانية والهندية والإيطالية فيها، وأتذكر أنها كانت في ذلك الحين قد تحولت لتوها عن عرض أفلام كاري أون، وأفلام فرقة مارتن ولويس، لكنني لا أتذكر اسمها. وبما أنك كنت تدرس الفلسفة للقساوسة المستقبليين، فلا شك أن فيلمك المفضل هو «الختم السابع»، أليس كذلك؟ أظن أنه كان يابانيا ولا أتذكر عما كانت تدور أحداثه. على أي حال، اعتدنا السير إلى المنزل من السينما التي كانت تبعد عنه نحو ميلين، وكانت تدور بيننا عادة حوارات محتدمة عن الحب والأنانية والرب والإيمان واليأس. وعند وصولنا إلى المنزل الذي كنت أؤجر فيه غرفة مؤثثة، كان علينا التزام الصمت، وصعود الدرج بهدوء تام وصولا إلى غرفتي.
وما إن ندلف إلى الغرفة حتى تتنفس الصعداء في امتنان وإعجاب. •••
كنت سأشعر بالتوتر الشديد عند دعوتي لك للمجيء إلى هنا في عيد الميلاد الماضي، لو لم يكن الخلاف بيننا محتدما بالفعل. كنت سأخشى عليك من مقابلة أبي. «روبين؟ أهذا اسم رجل؟»
فأجبته: «نعم، إنه اسمي.»
وادعى أبي أنه لم يسمع بهذا الاسم من قبل قط.
بيد أنكما، في الواقع، انسجمتما معا على نحو جيد، ودارت بينكما مناقشة حول الصراعات الحادة بين مراتب مختلفة من الرهبان في القرن السابع الميلادي، أليس كذلك؟ وكان الخلاف بين أولئك الرهبان يدور حول الكيفية التي ينبغي عليهم حلق رءوسهم بها.
دعاك أبي بالشاب الطويل النحيل ذي الشعر المتموج. وكان هذا الوصف منه أشبه بالمجاملة.
وعندما أخبرته عبر الهاتف فيما بعد أننا لن نتزوج، كان رده: «يا إلهي! هل تعتقدين أنه بإمكانك مقابلة شخص آخر والزواج منه؟» ولو اعترضت على ما قاله، لقال لي كعادته إنه كان يمزح. وقد كانت بالفعل مزحة. لم أقابل شخصا آخر لأتزوجه، لكنني ما كنت على الأرجح في أفضل أحوالي لأحاول فعل ذلك. •••
عادت السيدة باري بعد أقل من ثلاثة أسابيع، مع أنه كان من المفترض أن تستمر إجازتها شهرا. بيد أنه صار عليها العمل عدد ساعات أقل يوميا مقارنة بما سبق؛ فقد أصبحت تستغرق وقتا طويلا للغاية في ارتداء ملابسها وأداء الأعمال المنزلية؛ ومن ثم، صار من النادر مجيئها إلى هنا (كان من يقوم بتوصيلها هو ابن أختها أو زوجته) قبل الساعة العاشرة صباحا تقريبا. «يبدو والدك منهكا.» كانت تلك أولى كلماتها لي، وأظن أنها كانت محقة فيها.
فقلت لها: «ربما ينبغي عليه نيل قسط من الراحة.»
فقالت: «يزعجه الكثيرون.»
أحضرت السيارة الميني كوبر من ورشة الإصلاح، وها هي الأموال قد دخلت في حسابي المصرفي، وما وجب علي فعله الآن هو المغادرة، لكن ثمة أفكارا حمقاء تراودني. ماذا إذا جاءت حالة خاصة أخرى؟ كيف يمكن للسيدة بي مساعدة أبي؟ فهي لا تستطيع استخدام يدها اليسرى بعد في حمل أي شيء ثقيل، ولا يمكنها بأي حال من الأحوال حمل الإناء باستخدام يدها اليمنى فحسب. •••
آر، اليوم هو أول الأيام التي تلت تساقط الثلوج بغزارة. حدث ذلك أثناء الليل، وفي الصباح أضحت السماء صافية؛ لم تعد هناك رياح، وصار ضوء النهار مبهرا، فخرجت للمشي باكرا تحت أشجار الصنوبر. تساقط الثلج من بين أغصانها بلونه البراق كتلك الأشياء التي تعلق على أشجار عيد الميلاد، أو كالماس. كانت الثلوج قد جرفت بالفعل من على الطريق السريع، وكذلك الزقاق الذي يوجد فيه منزلنا؛ ومن ثم، كان بإمكان أبي قيادة سيارته إلى المستشفى، وربما كان بإمكاني أيضا قيادة سيارتي ومغادرة المنزل وقتما أشاء.
مرت بعض السيارات إلى داخل المدينة وخارجها، كما هو الحال في أي صباح آخر.
وقبل أن أدخل إلى المنزل، أردت معرفة ما إذا كان من الممكن تشغيل سيارتي، وقد دارت بالفعل. وعلى المقعد المجاور لمقعد السائق، رأيت علبة؛ علبة شوكولاتة تزن رطلين وتشبه علب الشوكولاتة التي تباع في الصيدليات. لم أعرف كيف وصلت إلى السيارة ، وتساءلت عما إذا كانت هدية من الشاب الذي التقيته في الجمعية التاريخية. كانت فكرة حمقاء. لكن من غيره يمكن أن يفعل ذلك؟
تخلصت من الثلج المتراكم على حذائي طويل الساقين على عتبة الباب الخلفي، وذكرت نفسي بضرورة وضع مكنسة بالخارج، ورأيت المطبخ منيرا بضوء النهار الباهر.
اعتقدت أنني أعلم ما كان سيقوله أبي. «أكنت في الخارج تتأملين الطبيعة؟»
رأيته جالسا على كرسيه أمام المائدة، مرتديا قبعته ومعطفه. وفي ذلك الوقت عادة، يكون قد غادر لمتابعة مرضاه في المستشفى.
سألني: «هل جرفوا الثلوج عن الطريق؟ وماذا عن الزقاق؟»
فأجبته بأن كليهما قد جرف منه الثلج تماما. كان بوسعه رؤية أن الزقاق قد جرفت منه الثلوج بالنظر من النافذة. قمت بتشغيل الغلاية، وسألته عما إذا كان يرغب في فنجان آخر من القهوة قبل خروجه.
فأجاب: «حسنا، طالما أن الثلوج قد جرفت، ويمكنني الخروج.»
قلت له: «يا له من يوم!» «لا بأس به طالما أنك لم تعلقي بالثلوج في الخارج.»
أعددت فنجانين من القهوة سريعة التحضير، ووضعتهما على المائدة. جلست في مواجهة النافذة والضوء النافذ إلى المنزل، في حين جلس هو على الجانب الآخر من المائدة، وعدل اتجاه كرسيه موليا ظهره للضوء. لم أتمكن من تبين التعبير الذي ارتسم على وجهه، لكن أنفاسه ظلت معي كالعادة.
شرعت في التحدث عن نفسي. لم تكن لدي أي نية لفعل ذلك على الإطلاق؛ كنت أنوي الحديث عن مغادرتي المنزل، لكنني ما إن فتحت فمي حتى بدأت الكلمات تخرج منه. سمعتها بقدر متساو من الجزع والرضا في الوقت نفسه، كما هو الحال عندما يسمع المرء ما يقوله عندما يكون مخمورا.
قلت له: «لم تعلم قط أنني أنجبت. كان ذلك في السابع عشر من يوليو، في أوتاوا. لطالما فكرت كم كان ذلك مثيرا للسخرية.»
أخبرته بأن أحدهم قد تبنى الطفل فور ولادته، وأنني لم أعرف هل كان ذكرا أم أنثى؛ فقد طلبت عدم إخباري بنوع المولود، وألا أراه.
وأضفت: «أقمت مع جوسي. لعلك تتذكر حديثي معك عن صديقتي جوسي. إنها في إنجلترا الآن، لكنها كانت تعيش وحدها في منزل أبيها آنذاك. فقد بعث والداها إلى جنوب أفريقيا. وكانت مصادفة جيدة.»
أخبرته عن والد الطفل؛ فقلت له إنه أنت، تحسبا لاستفساره. وقلت إنه نظرا لأننا كنا مخطوبين بالفعل - مخطوبين رسميا - فقد رأيت أنه ينبغي علينا الزواج.
لكن ذلك لم يكن رأيك، وطلبت مني البحث عن طبيب لإجهاض الطفل.
لم يذكرني أبي في تلك اللحظة بأنه ينبغي لي عدم نطق هذه الكلمة أبدا في منزله.
أخبرته بأنك قلت لي إننا لا يمكننا المضي قدما في هذا الأمر وإتمام الزواج؛ إذ يمكن لأي أحد إجراء الحسابات، ومعرفة أنني كنت حاملا بالطفل قبل الزواج؛ ومن ثم، لا يمكننا الزواج إلا عندما أتخلص تماما من هذا الحمل.
وإن لم أفعل، فقد تخسر وظيفتك في الكلية اللاهوتية.
يمكن أيضا أن تمثل أمام إحدى اللجان التي قد تصدر بدورها حكما بأنك غير مؤهل أخلاقيا لأداء وظيفتك كمعلم لصغار القساوسة، وقد يحكم عليك بأنك شخصية طالحة. حتى وإن افترضنا عدم حدوث ذلك، وأنك لن تخسر وظيفتك ويتم تعنيفك فحسب - أو حتى لا يتم تعنيفك، وإنما لن تترقى أبدا - ستكون هناك نقطة سوداء في سجلك المهني. وإن لم يقل لك أحد أي شيء على الإطلاق، فسوف يكون لديهم حجة ضدك، الأمر الذي لا يمكنك احتماله. والطلاب الجدد بالمدرسة ستصل إلى مسامعهم أخبارك من الطلاب القدامى؛ وسوف يتبادلون النكات عنك، وستسنح الفرصة لزملائك للتعالي عليك، وقد يكونون متفهمين على الجانب الآخر، لكن الأمر لن يقل سوءا عن التعالي عليك. وكنت ستصبح رجلا مهانا جدا أو إلى حد ما، وستفشل في حياتك.
وقلت لك إن هذا لن يحدث بالتأكيد.
فأجبتني أن هذا هو ما سيحدث قطعا، وقلت لي إنه ينبغي علي عدم التقليل أبدا من وضاعة نفوس البشر، وإن الأمر سيكون مدمرا لي أيضا؛ فزوجات الأساتذة الأكبر سنا يتحكمن في الكثير من الأمور، ولن يدعوني أنسى، حتى وإن كن طيبات القلب، بل لا سيما إذا كن طيبات.
فقلت لك إنه بإمكاننا الانتقال إلى مكان آخر وحسب؛ مكان لا يعرف فيه أحد بأمرنا.
فأجبتني بأنهم سيعلمون؛ فثمة شخص دائما ما يحرص على أن يعلم الناس بمثل هذه الأمور.
هذا فضلا عن أن ذلك سيعني أنك ستضطر إلى البدء من الصفر مجددا، وسوف تبدأ براتب أقل، راتب زهيد. كيف يمكننا إذن إعالة طفل صغير في هذه الحالة؟
أدهشتني تلك المجادلات التي لا تتفق مع أفكار الشخص الذي أحببته. سألتك عما إذا كانت الكتب التي قرأناها معا، والأفلام التي شاهدناها، والأمور التي تحدثنا عنها، تعني لك أي شيء على الإطلاق؛ فأجبتني بالإيجاب، لكن ما نحن بصدده الآن هو الحياة الواقعية. سألتك عما إذا كنت من الأشخاص الذين لا يتحملون سخرية الآخرين منهم، ويستسلمون أمام مجموعة من زوجات الأساتذة.
أجبتني بأن الوضع ليس كذلك على الإطلاق.
فأطحت بخاتمي الماسي، وتدحرج أسفل إحدى السيارات المتوقفة على جانب الطريق؛ فقد كنا نتجادل أثناء سيرنا في شارع قريب من المنزل الذي توجد به غرفتي المستأجرة. كنا في الشتاء، كما هو الحال الآن؛ ربما يناير أو فبراير، لكن العراك بيننا استمر فترة طويلة بعد ذلك؛ فقد كان من المفترض أن أتوصل إلى معلومات عن الإجهاض من صديقة لها صديقة شاع عنها أنها قد خضعت لهذه العملية، لكنني استسلمت لك، وقررت إجراء العملية. ولم تخاطر حتى بالاستفسار عن الأمر بنفسك، لكنني كذبت، وقلت إن الطبيب قد غادر المدينة. وبعد ذلك، اعترفت بكذبي، وقلت لك إنني لا يمكنني الخضوع لهذه العملية.
لكن هل كان ذلك من أجل الطفل؟ إطلاقا؛ بل السبب أنني على حق في هذا النزاع.
شعرت بالاشمئزاز عندما رأيتك تنزل على ركبتيك لتدخل يدك تحت السيارة المتوقفة على جانب الطريق وراء الخاتم، وأذيال معطفك ترفرف على مؤخرتك. أخذت تنبش في الثلج بأظافرك بحثا عن الخاتم، وشعرت براحة شديدة عند عثورك عليه، وكنت على استعداد لمعانقتي والضحك معي، معتقدا أنني سأشعر بنفس الراحة، وأننا سنتصالح في تلك اللحظة، لكنني قلت لك إنك لن تفعل أي شيء يمكنني الإعجاب به في حياتك بأكملها.
ونعتك بأستاذ الفلسفة المنافق دائم التبرم.
لكن لم تكن تلك هي النهاية؛ فقد تصالحنا بالفعل، لكننا لم يسامح أحدنا الآخر، ولم نحاول فعل ذلك، بل وفات الأوان على فعله، ورأينا أن كلا منا قد استثمر الكثير من الجهد في التأكيد على صحة رأيه؛ فانفصلنا، وشعرنا بالارتياح لذلك. نعم، في ذلك الوقت كنت متأكدة أن ذلك أشعر كلينا بالراحة، وكان نصرا مؤزرا.
سألت أبي: «أليس ذلك مثيرا للسخرية؟ أتفكر في الأمر؟»
سمعت السيدة باري في الخارج تنظف حذاءها طويل الساقين، فطرحت هذا السؤال سريعا. جلس أبي طوال الوقت في مكانه بلا حركة، مع شعور بالإحراج - على ما أظن - أو نفور شديد.
فتحت السيدة باري الباب وهي تقول: «ينبغي إحضار المكنسة إلى هنا ...» ثم صاحت: «ما الذي تفعلينه بالجلوس هنا؟ ما خطبك؟ ألا ترين أن الرجل ميت؟»
لم يكن ميتا؛ وإنما كان في الواقع يتنفس بصوت عال، وربما أعلى من أي وقت مضى. ما رأته السيدة باري، وما كان من المفترض أن أراه حتى وأنا في مواجهة ضوء النهار، لو لم أتجنب النظر إليه أثناء رواية قصتي، هو أنه تعرض لصدمة أصابته بالشلل والعمى. جلس مائلا قليلا إلى الأمام، والمائدة تضغط على انحناءة بطنه المكتنز. وعندما حاولنا تحريكه من كرسيه، لم نتمكن إلا من هزه، فنزل رأسه على المائدة بقوة مقاومة هائلة. لم تنخلع القبعة عن رأسه، وظل فنجان القهوة في مكانه على بعد بضعة سنتيمترات من عينيه التي فقدت الرؤية والتي كانت لا تزال شبه مفتوحة.
قلت للسيدة باري إنه لا يمكننا فعل أي شيء معه؛ فهو ثقيل للغاية. توجهت إلى الهاتف، واتصلت بالمستشفى كي يحضر إلينا أحد الأطباء. لم تكن هناك سيارة إسعاف في البلدة بعد، ولكن لم تلق السيدة باري اهتماما بما قلته، وواصلت جذب ملابس أبي، وفك أزرارها، وانتزاع المعطف، والتذمر والتأوه أثناء فعل ذلك جراء المجهود. ركضت إلى الزقاق بالخارج، تاركة الباب مفتوحا. عدت مرة أخرى، وأحضرت المكنسة، ووضعتها بالخارج بجانب الباب. توجهت بعد ذلك إلى السيدة بي، ووضعت يدي على ذراعها، وقلت: «لا يمكنك ...» أو شيئا من هذا القبيل، فرمقتني بنظرة قطة حانقة.
حضر أحد الأطباء، وتمكنت معه من جر أبي إلى الخارج نحو السيارة، وإجلاسه في المقعد الخلفي، ودلفت إلى السيارة بجانبه للإمساك به والحيلولة دون سقوطه للأمام. كان صوت تنفسه أقوى من أي وقت مضى، وكأنه يعترض على أي شيء نفعله، لكن الواقع هو أنه كان بإمكاننا حمله الآن، ودفعه بقوة، والتحكم في جسده كيفما نشاء، الأمر الذي بدا غريبا للغاية.
تراجعت السيدة بي وهدأت لحظة رؤيتها الطبيب، حتى إنها لم تتبعنا إلى خارج المنزل لرؤية أبي وهو ينقل إلى السيارة.
بعد ظهيرة ذلك اليوم نحو الساعة الخامسة، توفي أبي. وقيل لي إن ذلك من حسن حظ الجميع. •••
كان لدي الكثير من الأشياء الأخرى التي أرغب في الإفصاح عنها لأبي لحظة دخول السيدة باري. كنت سأقول: «ماذا إذا تغير القانون؟» فقد يتغير قريبا. ربما، وربما لا. حينئذ، سيتوقف عن العمل، أو بالأحرى سيتوقف عن أداء جزء من عمله. فهل سيشكل ذلك فارقا كبيرا له؟
ما الجواب الذي كنت سأتوقعه منه؟ «إن عملي ليس من شأنك.»
أو سأستمر في كسب عيشي.
وسأرد عليه بأنني لا أقصد المال. أقصد المخاطرة، والسرية، والسلطة.
هل بتغيير القانون، وتغيير ما يفعله الشخص، ستتغير شخصيته؟
أم أنه سيبحث عن مخاطر أخرى ليخوضها، وعقدة أخرى ليصنعها في حياته، وفعل رحيم آخر سري وإشكالي يقوم به؟
وإذا تغير هذا القانون، يمكن أن تتغير أمور أخرى أيضا معه. إنني أفكر فيك الآن؛ ماذا إذا لم تخجل من الزواج بامرأة حامل؟ ما كان هناك أي شيء يدعو للخجل في الأمر. وإذا تقدمنا للأمام بضع سنوات فحسب، فقد يتحول الأمر إلى احتفال. عروس حامل تكلل بالورود وتقاد إلى المذبح، حتى وإن كان ذلك في كنيسة الكلية اللاهوتية.
بيد أنه إذا حدث ذلك، فسيكون هناك شيء آخر على الأرجح يدعو للخجل أو الخوف، وستكون هناك أخطاء أخرى يجب تجنبها.
ماذا عني إذن ؟ هل سيلزم علي دائما الثقة بصحة موقفي؟ هل سأحرص على الأخلاق الحميدة، وتحمل الصعاب، والالتزام بالحق على نحو يمكنني من التباهي بخسائري؟ «تغيير الإنسان» عبارة نرددها جميعا آملين في تحقيقها.
غير القانون، يتغير الإنسان. لكننا لسنا في حاجة لأن يفرض علينا كل شيء - والقصة بأكملها - من خارج أنفسنا. لسنا في حاجة إلى تشكيل ما نحن عليه - كل ما نحن عليه - على هذا النحو.
إلام يشير هذا الضمير «نحن» الذي أتحدث عنه؟ •••
عزيزي آر، يقول محامي أبي: «هذا غريب للغاية.» وأنا أدرك أن تلك الكلمة قوية ومؤثرة عندما ينطق بها محام.
يوجد ما يكفي من الأموال في حساب أبي المصرفي لتغطية مصروفات الجنازة؛ أي ما يكفي لدفنه، كما يقال (لم تكن تلك كلمات المحامي بالطبع، فهو لا يتحدث على هذا النحو)؛ فيما عدا ذلك، ليس هناك الكثير؛ فليست هناك أي شهادات أسهم في خزينة ودائع الأمانات، أو أي سجل استثماري. لا شيء على الإطلاق؛ لا إرث موصى به إلى المستشفى، أو إلى الكنيسة التي كان يرتادها، أو المدرسة الثانوية لتمويل منحة دراسية. والأكثر إثارة للصدمة هو أنه لم يترك أي أموال للسيدة باري. المنزل ومحتوياته ملكي؛ وهذا كل شيء. ولدي الخمسة آلاف دولار التي منحها إياي.
يبدو المحامي محرجا للغاية، وقلقا بشأن هذا الوضع. لعله يظن أنني قد أشك في إساءة تصرف من جانبه، وأن أحاول تشويه سمعته. أراد أن يعرف ما إذا كانت هناك خزينة في منزلي (منزل أبي)، أو أي مكان سري على الإطلاق يمكن إخفاء كميات كبيرة من الأموال فيه؛ فأجبته بالنفي. حاول أن يوضح لي - على نحو متحفظ وغير مباشر جعلني لا أدرك في البداية ما كان يتحدث عنه - أنه ربما تكون هناك أسباب دفعت أبي للاحتفاظ بما يجنيه من أموال سرا؛ ومن ثم، فإن وجود كمية كبيرة من الأموال مخبأة في مكان ما أمر محتمل.
فأخبرته بأنني لا أهتم كثيرا بالمال.
يا له من قول غريب! ولم يتمكن المحامي من النظر في عيني.
قال لي: «ربما يمكنك الذهاب إلى المنزل والبحث جيدا، ولا تتجاهلي الأماكن الواضحة؛ فمن الممكن أن توجد الأموال في علبة الكعك، أو في صندوق تحت السرير؛ فالأماكن التي يختارها الناس لإخفاء الأموال مدهشة حقا، حتى أكثرهم عقلانية وذكاء.»
وأضاف أثناء خروجي من الباب: «أو في كيس أي وسادة.» •••
امرأة على الهاتف ترغب في التحدث مع الطبيب. «آسفة، لقد توفي.» «أقصد دكتور ستراكن، هل اتصلت بالرقم الصحيح؟» «نعم، لكنه توفي. آسفة.» «هل هناك شخص آخر؟ هل كان لديه أي شريك يمكنني التحدث معه؟ هل هناك أي شخص آخر يحل محله؟» «كلا، لا يوجد شركاء.» «هل يمكنك إعطائي أي رقم آخر يمكنني الاتصال به؟ هل هناك طبيب آخر يمكنه ...» «لا، ليست لدي أي أرقام، ولا أعرف أحدا.» «لا بد أنك تعلمين ما أتصل بشأنه. الأمر مهم للغاية، وثمة ظروف خاصة جدا ...» «آسفة.» «ليست لدي أي مشكلة بشأن المال.» «كلا.» «رجاء حاولي التفكير في أي شخص آخر. إذا توصلت إلى أي شخص فيما بعد، هل يمكنك الاتصال بي؟ سوف أترك لك رقمي.» «لا يجدر بك تركه.» «لا يهمني ذلك، فأنا أثق بك. على أي حال، الأمر لا يخصني. أعلم أن الكل يقول ذلك، لكن هذه هي الحقيقة. إنه يخص ابنتي؛ وهي تعاني من حالة نفسية سيئة للغاية.» «يؤسفني ذلك.» «لو تعلمين ما مررت به للحصول على هذا الرقم لحاولتي مساعدتي.» «آسفة.» «أرجوك.» «آسفة.» •••
كانت مادلين آخر الحالات الخاصة التي عالجها أبي، وقد رأيتها في الجنازة. لم تذهب إلى كينورا، أو لعلها عادت من هناك. لم أتعرف عليها في بادئ الأمر؛ لأنها كانت ترتدي قبعة سوداء عريضة الحواف وعليها بعض الريش. لا ريب أنها استعارتها؛ فلم تبد معتادة على تدلي الريش على عينها. تحدثت إلي في صف الاستقبال بقاعة الكنيسة، وقلت لها العبارة ذاتها التي قلتها للجميع. «لفتة طيبة منك أن تأتي.»
بعدها انتبهت إلى غرابة ما قالته لي. «كنت أعول على أنك من محبي الحلوى.» •••
قلت للمحامي: «لعله لم يكن يحصل دائما على أتعاب لقاء عمله . لعله كان يعمل بلا مقابل أحيانا؛ فبعض الناس يعملون من باب الإحسان.»
اعتاد المحامي علي الآن، فقال: «ربما.»
واستطردت: «أو ربما كانت هناك جمعية خيرية يدعمها أبي دون أن يترك لنا أي سجل عنها.»
نظر المحامي في عيني للحظة.
ثم قال: «جمعية خيرية.»
فقلت: «حسنا، إنني لم أحفر أرضية القبو بعد.» فابتسم مندهشا من هذا التحول المفاجئ في حديثي. •••
لم تقدم السيدة باري إخطارا بالاستقالة، وإنما لم تعد تأتي إلى المنزل وحسب. لم يعد هناك شيء معين لتفعله؛ نظرا لأن الجنازة كانت في الكنيسة، والاستقبال في القاعة الملحقة بها. لم تحضر إلى الجنازة، ولا أي فرد من أسرتها. حضر الجنازة عدد كبير من الناس، حتى إنني ما كنت لألاحظ عدم مجيئهم لولا أن شخصا ما قال لي: «لم أر أيا من أقارب السيدة باري، هل رأيتهم؟»
اتصلت بها هاتفيا بعد عدة أيام، وقالت لي: «لم أذهب إلى الكنيسة؛ لأنني كنت أعاني من نزلة برد شديدة.»
قلت لها إن هذا ليس سبب اتصالي بها. وأضفت أنني تمكنت من تدبير الأمر بنفسي، لكنني تساءلت عما كانت تخطط له. «لا أرى داعيا للعودة الآن.»
فقلت لها إنها ينبغي عليها العودة للحصول على شيء ما من المنزل والاحتفاظ به كتذكار. كنت قد علمت آنذاك بأمر المال، وأردت أن أخبرها بأسفي لأنها لن تحصل على شيء، لكنني لم أعرف كيفية قول ذلك.
فقالت لي: «ثمة أشياء تركتها في المنزل. سوف آتي لأخذها عندما أتمكن من ذلك.»
وما كان منها إلا أن جاءت صبيحة اليوم التالي. وكانت الأشياء التي لزم عليها جمعها هي مماسح ودلاء وفرش تنظيف وسلة ملابس. كان من الصعب تصديق أنها تهتم باستعادة مثل هذه الأشياء. ومن الصعب أيضا تصديق أنها أرادتها لأسباب عاطفية، لكن ربما كانت هذه هي الحقيقة بالفعل؛ فقد كانت أشياء ظلت تستخدمها سنوات، بل طوال كل السنوات التي عملت بها في هذا المنزل حيث قضت عدد ساعات أكثر من تلك التي قضتها في منزلها.
سألتها: «هل من شيء آخر تودين الحصول عليه؟ للاحتفاظ به كتذكار؟»
فنظرت في أرجاء المطبخ، وهي تعض على شفتها السفلى، ولعلها كانت ستبتسم، ثم تراجعت في الأمر.
وقالت: «لا أظن أن ثمة شيئا آخر هنا يمكنني الاستفادة منه.»
كنت قد أعددت لها شيكا، ولم يتبق سوى كتابة المبلغ عليه. لم أستطع اتخاذ قرار بشأن القدر الذي سأمنحها إياه من الخمسة آلاف دولار الخاصة بي. فكرت أن يكون ألف دولار، لكن يبدو ذلك الآن مخزيا في نظري، ففكرت في مضاعفته.
أخرجت الشيكات التي خبأتها في أحد الأدراج، وعثرت على قلم، وكتبت أربعة آلاف دولار.
قلت لها: «هذا لك، وشكرا لك على كل شيء.»
أمسكت بالشيك في يدها، ونظرت فيه نظرة خاطفة، ثم وضعته في جيبها. ظننت أنها ربما لم تستطع قراءة الرقم المكتوب، ثم لاحظت عليها حمرة الوجه الداكنة، وشعور الخزي المتدفق، وصعوبة التعبير عن الامتنان.
تمكنت السيدة باري من التقاط كل الأشياء التي جمعتها باستخدام يدها السليمة. وفتحت الباب لها، وكلي لهفة أن تقول أي شيء، حتى إنني كدت أقول لها: «عذرا، هذا كل ما يمكنني تقديمه.»
لكنني وجدت نفسي أقول لها: «ألم يتحسن حال مرفقك بعد؟»
فأجابت: «لن يتحسن أبدا.» ثم طأطأت رأسها كما لو كانت تخشى تقبيلي لها، وقالت: «حسنا، شكرا جزيلا. وداعا!»
شاهدتها أثناء سيرها إلى السيارة. افترضت توصيل زوجة ابن أختها لها إلى هنا.
لكن السيارة لم تكن سيارة زوجة ابن أختها التي اعتدت رؤيتها، فتبادر إلى ذهني أنها ربما عملت مع شخص آخر، بغض النظر عن حالة ذراعها، ربما يكون شخصا ثريا، ولعل ذلك السبب وراء تعجلها، وشعورها بالخزي الذي انتابها سريعا.
كانت زوجة ابن أختها هي التي خرجت لمساعدتها في حمل ما كان معها من أشياء. لوحت لها، لكنها كانت مشغولة للغاية بإقحام المماسح والدلاء في السيارة.
صحت عاليا: «سيارة رائعة!» لأنني ظننت أنها ستكون مجاملة تقدرها كلتا المرأتين. لم أعرف طراز السيارة، لكنها كانت جديدة تماما وكبيرة وبراقة. كان لونها أرجوانيا مائلا للفضي.
فصاحت زوجة ابن الأخت: «نعم ، معك حق!» وطأطأت السيدة باري رأسها مصدقة على الكلام.
بالرغم من ارتجافي في ملابس المنزل أثناء وقوفي بالباب، شعرت بأنني مجبرة على ذلك لما انتابني من شعور بالأسف والحيرة، فظللت واقفة هناك ولوحت للسيارة حتى ابتعدت عن مرمى البصر.
لم أستطع الاستقرار على شيء ما لفعله بعد ذلك، فأعددت بعض القهوة لنفسي، وجلست في المطبخ. أخرجت شوكولاتة مادلين من الخزانة وأكلت قطعتين، بالرغم من عدم اشتهائي الحلوى بالدرجة التي تجعلني أستمتع بالحشو ذي اللونين الصناعيين البرتقالي والأصفر داخلها. تمنيت لو أنني شكرتها، ولا أرى سبيلا لفعل ذلك الآن؛ فأنا حتى لا أعلم اسمها بالكامل.
قررت الخروج للتزلج. كانت هناك محاجر خلف منزلنا، أظن أنني قد أخبرتك بشأنها. ارتديت الزلاجات الخشبية القديمة التي اعتاد أبي ارتداءها عندما كانت الطرق الخلفية لا تجرف منها الثلوج في فصل الشتاء، وكان ينبغي عليه عبور الحقول لتوليد سيدة أو استئصال الزائدة الدودية لأحد المرضى. كانت هناك أربطة مثبتة بالعرض فقط بهذه الزلاجات لتثبيت قدميك بها.
تزلجت حتى وصلت إلى المحجر الذي غطت منحدراته الحشائش على مر السنوات، وصارت الآن مغطاة أيضا بالثلوج. ظهرت عليها آثار سير الكلاب، وآثار أخرى للطيور، ودوائر غير واضحة صنعتها خطوات فأر الحقول أثناء ركضه سريعا، لكنه ما من أثر لأي بشر. تحركت صعودا ونزولا على نحو متكرر، اخترت في البداية منحدرا آمنا، ثم توجهت إلى منحدرات أكثر حدة. أخذت أسقط بين الحين والآخر، لكن بخفة على الكميات الكبيرة من الثلج المتساقط حديثا. وبين إحدى اللحظات التي سقطت فيها واللحظة التي تلتها ووقفت فيها على قدمي، اكتشفت شيئا ما.
لقد عرفت أين ذهبت الأموال. «ربما عمل خيري.» «سيارة رائعة.»
وأربعة آلاف دولار من إجمالي خمسة آلاف. •••
منذ تلك اللحظة وأنا أشعر بالسعادة.
شعرت بما يمكن أن ينتاب المرء من شعور عند رؤية الأموال وهي تتبعثر من فوق جسر أو تتناثر عاليا في الهواء. الأموال، والآمال، وخطابات الحب، كلها أشياء يمكن أن يطاح بها في الهواء وتنزل إلى الأرض بعد أن تتغير . تنزل وقد خفت وزنا وتحررت من سياقها.
الأمر الذي لم يسعني تخيله هو استسلام أبي للابتزاز؛ لا سيما لأناس لا يتسمون بقدر كبير من المصداقية أو المهارة؛ وخاصة عندما يبدو أن المدينة كلها ستأخذ صفه، أو على الأقل ستؤثر الصمت.
لكن ما يمكنني تخيله هو تلك البادرة الراقية غير المتوقعة التي صدرت عن أبي لاستباق طلب المبتزين أو لمجرد إظهار عدم اكتراثه. والآن، بعد أن توفي، أتطلع إلى رؤية المحامي مصدوما، وإلى بذلي المزيد من الجهد لاستكشاف شخصية أبي.
لا. لا أظن أنه كان سيفكر على هذا النحو، ولا أظن أنني كنت أرد على ذهنه كثيرا، ليس كثيرا على الإطلاق بالقدر الذي أود تصديقه.
ما كنت أتجنبه هو احتمالية فعله ذلك بدافع الحب.
إنه الحب إذن. ينبغي علي عدم استبعاد ذلك الاحتمال أبدا. •••
تسلقت منحدرات المحجر لأخرج منه، وما إن خرجت إلى الحقول حتى ضربتني الرياح. عصفت الرياح بالثلج على مسارات الكلاب، وتسلسل آثار فأر الأرض غير الواضحة، والأثر الذي سيكون على الأرجح آخر ما تحدثه زلاجات أبي على الثلج.
عزيزي آر، روبين، ما آخر شيء ينبغي علي قوله لك؟
وداعا وحظا سعيدا.
مع حبي. (ماذا إذا فعل الناس ذلك حقا؟ ماذا لو أرسلوا حبهم عبر البريد ليتخلصوا منه؟ في أي صورة سيرسلونه إذن؟ علبة شوكولاتة محشوة بمادة تشبه صفار بيض الديك الرومي، أم دمية من الصلصال بتجويفين مكان العينين، أم باقة من الورود تفوق رائحتها الجميلة رائحة التعفن، أم علبة ملفوفة بورق جرائد مغطى بالدماء لن يرغب أحد في فتحها؟)
اعتن بنفسك.
وتذكر ... ملك فرنسا الحالي أصلع.
حلم أمي
أثناء الليل - أو أثناء نومها - هطلت الثلوج بغزارة.
أطلت أمي من النافذة الكبيرة المقنطرة، التي تشبه نوافذ القصور أو المباني العامة عتيقة الطراز. نظرت نحو الأسفل إلى المروج الخضراء، والشجيرات، والأسيجة، وحدائق الأزهار، والأشجار، وقد غطتها جميعا الثلوج التي تراكمت عليها وطوقت حوافها، دون أن تحرك لها الرياح ساكنا. ولم يكن بياضها بالذي يزعج العينين - كما هو الحال في ضوء الشمس - بل كان بياضا كلون الثلج في ظل السماء الصافية قبيل الفجر. خيم السكون على كل شيء؛ وبدت الأجواء كتلك التي تتغنى بها ترنيمة عيد الميلاد «يا مدينة بيت لحم الصغيرة!» فيما عدا النجوم التي غادرت صفحة السماء.
بيد أن خطأ ما شاب هذا المشهد؛ فجميع الأشجار، والشجيرات، والنباتات كانت وارفة الأوراق كحالها في فصل الصيف، أما الحشائش، التي كانت تحت هذه النباتات في بقاع متفرقة مستظلة بها وكأنها تحتمي من الثلوج، فقد بدت خضراء ونضرة. طغت الثلوج بين عشية وضحاها على رفاهة الصيف في تغير طرأ على أحد فصول العام دون تفسير أو توقع. كان الجميع قد رحلوا أيضا عن المكان - وإن لم تستطع تذكر من هم «الجميع» - وصارت أمي وحدها في المنزل العالي الفسيح بين أشجاره وحدائقه المنمقة.
رأت أن أيا كان ما حدث، فسوف تعلمه سريعا، لكن لم يأت أحد، ولم يدق الهاتف؛ ولم يرفع مزلاج بوابة الحديقة. لم تستطع سماع أصوات أي سيارات، ولم تعرف حتى الاتجاه المؤدي إلى الشارع، أو الطريق، حال كونها في الريف. ولزم عليها مغادرة المنزل حيث صار الهواء خانقا وساكنا.
عندما خرجت من المنزل، تذكرت أنها تركت طفلة رضيعة في الخارج بمكان ما قبل هطول الثلوج بفترة طويلة. صاحب هذه الذكرى وهذا اليقين رعب اعتراها، كما لو كانت قد استيقظت من حلم. استيقظت من حلم داخل حلمها لتصطدم بمسئوليتها وخطئها. لقد تركت طفلتها الرضيعة بالخارج طوال الليل، ونسيتها. تركتها دون شيء يحميها في مكان ما، كما لو كانت دمية سئمت منها. وربما لم تفعل ذلك الليلة الماضية، وإنما الأسبوع أو الشهر الماضي. وربما تركتها طوال أحد فصول العام أو على مدى فصول عدة. لقد انشغلت بأمور أخرى، وربما تكون قد سافرت بعيدا وعادت لتوها، وقد نسيت ما عادت من أجله.
ذهبت للبحث تحت الأسيجة والنباتات عريضة الأوراق. تصورت حالة الضعف والذبول التي ستكون عليها الطفلة من التجمد. لعلها ستجدها قد ماتت، ووهنت وتحولت بشرتها إلى اللون البني، وصار رأسها كحبة الجوز ، وارتسم على وجهها الصغير الصامت تعبير لا يدل على الألم وإنما التفجع، كعجوز مريض حزين. لن تظهر أي لوم أو اتهام لها - لأمها - وإنما نظرة صبر وعجز انتظرت بهما إنقاذها أو قدرها.
كان الحزن الذي اعترى أمي حزنا على انتظار الطفلة لها، وعدم علمها بهذا الانتظار الذي مثلت لها فيه أملها الوحيد، بينما نسيتها هي تماما. طفلة صغيرة حديثة الولادة عاجزة حتى عن الاحتماء من الثلوج. شعرت بصعوبة في التنفس لما انتابها من أسى وحزن. لن يبقى بداخلها متسع لأي شيء على الإطلاق، سوى إدراكها للجرم الذي ارتكبته.
ومن ثم، كان عثورها على طفلتها نائمة في مهدها أشبه بإرجاء تنفيذ حكم بالإعدام عليها. كانت نائمة على بطنها، ورأسها إلى أحد الجانبين، وكان لون بشرتها شاحبا وجميلا كقطرات الثلج، وأسفل رأسها مائلا للحمرة كضوء الشمس عند الفجر. نبت شعر أحمر، كشعرها، على رأس طفلتها التي تنعم بالأمان التام ولا يمكنها أن تخطئها. شعرت بالسعادة آنذاك لاكتشاف أنها قد غفر لها.
تلاشت الثلوج والحدائق وارفة الأشجار والمنزل الغريب تماما. والأثر الوحيد المتبقي من اللون الأبيض الذي رأته كان لون الغطاء في المهد. كان غطاء أطفال من الصوف الأبيض الخفيف، متغضنا حتى نصف ظهر الطفلة. ونظرا لأن الطقس كان حارا قائظا - كما هو الحال في فصل الصيف - لم تكن الطفلة ترتدي سوى حفاضة وسروالا بلاستيكيا للحفاظ على جفاف الملاءة، وزينت السروال رسوم لفراشات.
سحبت أمي - التي كانت لا تزال تفكر بلا شك في الثلوج والبرد الذي يصاحبها عادة - الغطاء لأعلى لتغطي ظهر الطفلة وكتفيها العاريتين ورأسها ذا الشعر الأحمر من أسفل. •••
في العالم الواقعي، حدث ذلك في الصباح الباكر من أحد أيام شهر يوليو عام 1945. كانت الطفلة نائمة، مع أنها اعتادت طلب رضعتها الأولى في ذلك التوقيت من صبيحة أي يوم آخر، لكن الأم، بالرغم من وقوفها على قدميها وعينيها المفتوحتين، فإنها كانت لا تزال تغط في نوم عميق داخل رأسها، ما حال دون تساؤلها عن سبب عدم طلب طفلتها الرضعة. لقد أنهكت قوى الأم والطفلة جراء معركة طويلة، الأمر الذي نسيته الأم حتى في تلك اللحظات. تعطلت بعض الوظائف في رأسها، وسيطرت على عقلها وعلى طفلتها أقصى درجات السكون. لم تدرك الأم - أمي - ضوء الشمس الذي أخذ يتزايد مع مرور كل لحظة، ولم تفهم أن الشمس تشرق أثناء وقوفها في ذلك المكان. لم تحركها أي ذكرى عن اليوم السابق أو ما حدث في منتصف الليل. سحبت الغطاء لأعلى على رأس الطفلة وغطت ملامحها النائمة الوديعة القانعة، ومشت بخطى خافتة عائدة إلى غرفتها، واستلقت على السرير، ودخلت مرة أخرى في حالة من اللاوعي.
لم يشبه المنزل الذي حدث فيه ذلك المنزل الذي ظهر في الحلم على الإطلاق؛ إذ كان منزلا خشبيا مطليا بالطلاء الأبيض، ومكونا من طابق واحد وعلية. وبالرغم من ضيق مساحته، فقد كان مناسبا، وبه شرفة على بعد بضعة أقدام من الرصيف، ونافذة بارزة في غرفة الطعام تطل على فناء صغير مسيج. كان المنزل بشارع خلفي في بلدة صغيرة يتعذر - على الغريب - تمييزها من بين الكثير من البلدات الصغيرة الأخرى التي يفصل بينها عشرة أميال أو خمسة عشر ميلا في الأرض الزراعية التي اكتظت بالسكان في السابق بالقرب من بحيرة هورون. نشأ أبي وأختاه في هذا المنزل، وكانت أمه وأختاه لا يزلن يعشن فيه عندما انضمت إليهن أمي - وأنا أيضا بما أنني كنت جنينا بداخلها آنذاك - بعد أن لقي أبي مصرعه في الأسابيع الأخيرة من الحرب في أوروبا. •••
وقفت أمي جيل بجوار مائدة الطعام في ضوء ما بعد الظهيرة الباهر. امتلأ المنزل بالناس الذين دعوا إليه بعد انتهاء مراسم حفل التأبين في الكنيسة. أخذوا يحتسون الشاي والقهوة، وبين أصابعهم الشطائر الصغيرة، أو شرائح خبز الموز أو خبز المكسرات أو الكعك الإسفنجي. أما كعك الكاسترد أو الزبيب المخبوز من العجين سهل التفتت، فكان من المفترض تناولها بأشواك الحلوى من على أطباق خزفية صغيرة مزينة برسوم زهر البنفسج التي رسمتها حماة جيل عليها عندما كانت عروسا. التقطت جيل كل شيء بأصابعها، وتساقط فتات العجائن وإحدى حبات الزبيب من يديها، فلطخت قماش القطيفة الأخضر الذي صمم منه فستانها. كان فستانا مثيرا على نحو لا يليق بالمناسبة، وأيضا فإنه ليس فستان حمل على الإطلاق، بل رداء فضفاض مصمم للحفلات الموسيقية التي كانت جيل تعزف فيها على الكمان أمام الجماهير. وبسببي، ارتفعت حاشية الثوب من الأمام، لكنها لم تكن تملك من الملابس ما هو كبير وأنيق بما فيه الكفاية لارتدائه في حفل تأبين زوجها سوى هذا الفستان.
ما كل هذا النهم؟ لم يسع الناس سوى الانتباه للكميات الكبيرة من الطعام التي كانت جيل تتناولها. قالت إيلسا لمجموعة من ضيوفها: «إنها تأكل لشخصين»؛ كي لا يحرجوها بأي شيء يقولونه أو لا يقولونه عن زوجة أخيها.
شعرت جيل بالغثيان طوال اليوم حتى أدركت على حين غرة أثناء وجودها في الكنيسة أنها تتضور جوعا؛ وذلك عندما كانت تفكر في مدى سوء العزف على آلة الأرغن. وطوال عزف ترنيمة «أيتها القلوب الباسلة»، أخذت تفكر في شريحة هامبورجر سميكة تتقاطر منها عصارة اللحم والمايونيز، ثم صارت تفكر في بديل لما تشتهيه؛ وصفة طعام من الجوز والزبيب والسكر البني - مزينة من أعلى بمسحوق جوز الهند له مذاق شديد الحلاوة - أو بعض قطع خبز الموز الذي يقلل من الشعور بالتوتر أو القليل من الكاسترد. وبالطبع، ما من شيء كان سيرضيها، فواصلت التخيل. فعند إرضاء جوعها الفعلي، يظل جوعها التخيلي مستمرا، وتتزايد سرعة اهتياجها إلى حد النهم، ما يجعلها تتخم فمها بما لم يعد بإمكانها تذوقه. لم تجد تفسيرا لهذا الاهتياج سوى أنه يتعلق بارتدائها الفرو وضيق الملابس. سياج أزهار البرباريس الكثيفة المتصلبة تحت أشعة الشمس - الذي تطل عليه النافذة - وملمس الفستان القطيفة الذي يلتصق بإبطيها المتعرقين، وخصلات الشعر المتموج - الذي كان بنفس لون الزبيب المحشو به الكعك - المرفوعة لأعلى رأس أخت زوجها، إيلسا، بل وزهور البنفسج المرسومة على الأطباق الخزفية أيضا؛ وتبدو كقشور يمكنك نزعها من على الطبق؛ كل هذه الأشياء بدت بشعة وقابضة لصدرها - في نظرها - بالرغم من علمها بأنها أشياء طبيعية تماما. لكنها ربما حملت رسالة ما عن حياتها الجديدة غير المتوقعة.
لماذا غير متوقعة؟ فهي تعلم منذ فترة بشأن حملها بي، كما أنها تعلم أن جورج كيركم قد يلقى حتفه؛ فهو في سلاح الطيران (والناس من حولها في منزل آل كيركم بعد ظهيرة هذا اليوم يتحدثون - وإن لم يكن معها بوصفها أرملته أو مع أختيه - عن أنه من ذلك النوع من الناس المتوقع موتهم دوما. والسبب في نظرهم أنه وسيم ومتقد النشاط ومصدر الفخر لأسرته التي تعلق عليه كل الآمال). كانت تعلم ذلك، لكنها واصلت حياتها العادية، حاملة الكمان الخاص بها في صباح أيام الشتاء المظلمة، تستقل الترام إلى معهد الموسيقى حيث تتمرن ساعة تلو الأخرى - وأصوات الآخرين تحيط بها - لكنها تظل وحدها في غرفة تملؤها الأوساخ لا يصحبها فيها سوى ضجيج جهاز التدفئة المركزية فحسب. كانت أصابعها يتغير لونها من البرد في البداية، ثم تصير جافة نتيجة للحرارة والجفاف بالداخل. واصلت حياتها في غرفة مستأجرة، بها نافذة لم تثبت كما ينبغي، ما جعلها تسمح بدخول الحشرات في الصيف، ويتناثر الثلج على عتبتها في الشتاء. وواصلت أحلامها - عندما لا تشعر بالغثيان - بالسجق وفطائر اللحم وقطع الشوكولاتة الداكنة الكبيرة. وفي معهد الموسيقى، تعامل الناس مع حملها بحرص، كما لو كان ورما. لم يظهر الحمل عليها إلا بعد فترة طويلة على أي حال، كما هو الحال مع حالات الحمل الأولى بوجه عام لدى الفتيات ذوات البنيان الضخم والحوض الواسع. وحتى مع تقلباتي في بطنها، ظلت تعزف الموسيقى أمام الجماهير. فعزفت عزفا منفردا لأهم مقطوعة موسيقية لها - وهي مقطوعة كونشرتو مندلسون للكمان - وهي ممتلئة الجسم على نحو مهيب، وشعرها الأحمر الطويل مسترسل على كتفيها، ووجهها عريض ومشرق، والتعبير المرتسم عليه يدل على التركيز الكامل الجدي.
أولت بعض الاهتمام آنذاك بالعالم من حولها، وفكرت خارج نطاق دائرتها؛ إذ علمت أن الحرب أوشكت على الانتهاء، ففكرت في احتمالية عودة جورج بعد ولادتي. وكانت تعلم أنها لن تتمكن من الاستمرار في العيش بالغرفة التي عاشت فيها آنذاك، وسينبغي عليها الانتقال للعيش معه في مكان آخر. كذلك علمت أنني سأكون هناك معهما، لكنها رأت في ميلادي نهاية لشيء ما أكثر من كونه بداية؛ فسوف يكون نهاية للركل في الجزء المؤلم دائما بجانب بطنها، والألم الذي تشعر به من أسفل في أعضائها التناسلية عند وقوفها لاندفاع الدم في هذا المكان (كما لو كان بداخله ضمادة مشتعلة)، ولن تصير حلمتا ثدييها كبيرتين وداكنتين وجافتي الملمس بعد الولادة، ولن تطوق بالأربطة ساقيها بسبب اتساع شرايينهما وامتلائها بالدم، قبل نزولها من الفراش كل صباح. ولن تضطر للتبول كل نصف ساعة أو نحو ذلك، وسوف تنكمش قدماها لتلائما أحذيتها كما كانت من قبل. كانت تعتقد أنها بولادتي ستستريح من متاعبي.
وبعد أن علمت بعدم عودة جورج من الحرب، فكرت في إبقائي فترة من الوقت في نفس الغرفة التي كانت تعيش فيها، واشترت كتابا عن الأطفال، بالإضافة إلى الأشياء الأساسية التي سأحتاج إليها. كانت هناك سيدة عجوز في المبنى ستتولى مهمة رعايتي عند خروج أمي لتدريباتها الموسيقية. وكانت أمي تحصل على معاش أرملة محارب، وفي غضون ستة أشهر ستكون قد تخرجت في معهد الموسيقى.
لكن إيلسا حضرت بالقطار، واصطحبت أمي معها، وقالت لها: «لا يمكننا تركك على هذا الحال هنا وحدك؛ فالجميع يتساءل عن سبب عدم مجيئك أثناء غياب جورج، وحان الوقت الآن للانتقال للعيش معنا.» •••
قال جورج لجيل في إحدى المرات: «أهلي مخبولون؛ فإيونا تعاني التوتر، وإيلسا كان من المفترض أن تكون رقيبا أول في الجيش، أما أمي فعجوز مخرفة.»
وأضاف أيضا: «ورثت إيلسا الذكاء، لكنها اضطرت لترك المدرسة والعمل في مكتب البريد عند وفاة أبي. وورثت أنا الوسامة، ولم يتبق شيء لإيونا المسكينة سوى البشرة المعيبة والأعصاب المتوترة.»
التقت جيل بأختيه للمرة الأولى عندما جاءتا إلى تورونتو لتوديع جورج عند سفره. لم تحضرا حفل الزفاف الذي كان قد عقد قبل ذلك الحين بأسبوعين، ولم يحضره أحد، في الواقع، سوى جورج وجيل والقس وزوجة القس وأحد الجيران الذي دعي ليكون الشاهد الثاني عليه. أما أنا، فكنت من بين الحضور أيضا؛ إذ كنت في أحشاء جيل، لكنني لم أكن السبب وراء الزفاف، ولم يعلم أحد بوجودي آنذاك. وبعد ذلك، أصر جورج على أن يلتقط مع جيل لنفسيهما صور زفاف في إحدى كبائن التقاط الصور الذاتية، متعمدين عدم إظهار أي تعبير على وجهيهما. لقد كان دوما مرحا ومازحا. وعندما نظر إلى الصور، قال لها: «سوف تفي هذه بالغرض.» وتساءلت جيل عما إذا كان هناك شخص معين يقصده جورج بهذه العبارة؛ هل يقصد إيلسا؟ أم الفتيات الجميلات اللطيفات المرحات اللاتي كن يلاحقنه، ويكتبن له الخطابات الغرامية، وينسجن له جواربه مربعة النقش؟ كان جورج يرتدي تلك الجوارب متى تمكن، ويضع الهدايا في جيوبه، ويقرأ تلك الخطابات بصوت عال في الحانات على سبيل المزاح.
لم تتناول جيل أي شيء على الفطور قبل حفل الزفاف، وفي منتصف الحفل أخذت تفكر في فطائر البان كيك ولحم الخنزير. •••
بدت الأختان طبيعيتين على نحو فاق ما توقعته جيل. بيد أن جورج ورث بالفعل الوسامة؛ إذ كان يتمتع بتموج حريري في شعره الأشقر الداكن، ولمعة مبهجة في عينيه، وملامح واضحة يحسد عليها. وكان عيبه الوحيد أنه لم يكن طويل القامة؛ فبلغ من الطول ما سمح له بالنظر في عيني جيل والعمل طيارا في القوات الجوية.
قال لها في إحدى المرات: «إنهم لا يتطلبون رجالا طوال القامة للعمل بمهنة الطيار؛ فقد تغلبت على المتقدمين الآخرين، أولئك الملعونين طوال القامة النحاف. وأيضا فإن الكثير من ممثلي السينما قصار القامة، ويقفون على صناديق في مشاهد التقبيل.» (كان جورج شديد الصخب في دور السينما، وكان يبدي استياءه من مشاهد التقبيل، ولم يكن محبا للقبلات في الحياة الواقعية أيضا، وإنما كان يفضل بدء الأمر دون مقدمات، على حد تعبيره.)
كانت الأختان قصيرتي القامة أيضا، وتمت تسميتهما على اسم مكانين في اسكتلندا، حيث قضى والداهما شهر العسل قبل أن تخسر الأسرة أموالها. كانت إيلسا أكبر من جورج باثني عشر عاما، وإيونا بتسعة أعوام. ووسط الزحام في محطة قطار يونيون ستيشن، بدتا قصيرتي القامة، وممتلئتين، ومتحيرتين. كانت كل منهما ترتدي قبعة وبزة جديدتين، كما لو كانتا هما المتزوجتين حديثا. وشعرتا بالانزعاج لنسيان إيونا قفازيها الأنيقين بالقطار. كانت بشرة إيونا معيبة بالفعل، وإن لم تظهر بها آنذاك أي بثور، وربما كانت أيام إصابتها بحب الشباب قد ولت. بيد أن بشرتها امتلأت بالكتل الدهنية مع آثار ندبات قديمة، وبدت ربداء تحت بودرة الوجه الوردية. أما شعرها، فانزلق من تحت قبعتها في خصلات لولبية منسدلة. كانت عيناها دامعتين؛ إما بسبب توبيخ إيلسا لها أو لسفر أخيها لخوض الحرب. أما إيلسا، فكان شعرها مصففا في خصل متموجة بعناية، تعلوها قبعة، وكانت لها عينان شاحبتان فطنتان ارتدت عليهما نظارة ذات إطار متلألئ، ووجنتان مستديرتان متوردتان، وغمازة بذقنها. تمتعت كلتا الفتاتين بجسم ممتلئ؛ وثديين ناهدين، وخصر صغير، وفخذين عريضتين. لكن هذا الجسم بدا على إيونا وكأنه شيء حصلت عليه عن طريق الخطأ، وحاولت إخفاءه بالانحناء بكتفيها للأمام وعقد ذراعيها على صدرها. أما إيلسا، فقد تعاملت مع انحناءات جسدها على نحو واثق وليس مثيرا في الوقت نفسه، كما لو كانت مصنوعة من نوع متين من السيراميك. وكان لكلتيهما نفس لون الشعر الأشقر الداكن - مثل جورج - دون لمعة عينيه، ولم يبد أنهما تشاركانه نفس حس الفكاهة أيضا.
قال جورج: «حسنا، سوف أرحل الآن لأموت بطلا بميدان باشنديل.» فقالت له إيونا: «يا إلهي! لا تقل ذلك. لا تتحدث على هذا النحو.» بينما استهجنت إيلسا قوله وصاحت ساخرة مما قاله.
وقالت: «بوسعي رؤية لافتة «المفقودات» من هنا، لكنني لا أعلم ما إذا كانت هذه اللافتة تتعلق بالأشياء التي فقدت في المحطة أم تلك التي يعثرون عليها في القطارات. باشنديل كانت في الحرب العالمية الأولى.»
فقال جورج وهو يضرب بيده على صدره: «حقا؟ هل أنت متأكدة؟ هل تأخرت على المعركة لهذا الحد؟»
وبعد بضعة أشهر من ذلك اليوم، لقي حتفه بعد اشتعال الطائرة التي حلق بها في إحدى الجولات التدريبية فوق البحر الأيرلندي. •••
ارتسمت الابتسامة دائما على وجه إيلسا في حفل التأبين، وكانت تقول: «حسنا، أنا فخورة. بالطبع فخورة. ولست الوحيدة التي فقدت شخصا عزيزا عليها. لقد فعل ما وجب عليه فعله.» رأى بعض الناس روحها المعنوية المرتفعة أمرا صادما قليلا، في حين رثى آخرون لحالها؛ فبعد كل هذا الاهتمام بجورج، وادخار المال لإرساله إلى كلية الحقوق، يخدعها ليشترك في الحرب ويتركها ليقتل. لم يستطع الانتظار.
ضحت أختاه بتعليمهما، بل وبتقويم أسنانهما أيضا؛ فبالرغم من أن إيونا دخلت كلية التمريض بالفعل، فإنه اتضح أنها كانت ستستفيد بتقويم أسنانها استفادة أكبر. والآن، انتهى الأمر بها وبإيلسا أختين لأحد أبطال الحرب. الجميع يؤكد ذلك؛ جورج بطل. ويرى الشباب أن وجود بطل في الأسرة أمر عظيم، ويعتقدون أن أهمية هذه اللحظة ستدوم مع إيلسا وإيونا إلى الأبد، وستتعالى أنغام ترنيمة «أيتها القلوب الباسلة» حولهما دائما. أما الأشخاص الأكبر سنا، ممن يتذكرون الحرب السابقة، فيعلمون أن كل ما سيتبقى لهم في النهاية هو مجرد اسم على النصب التذكاري. أما الأرملة، التي تعول نفسها، فهي التي ستحصل على المعاش.
أصابت إيلسا حالة من التوتر، ويرجع أحد أسباب ذلك إلى عدم نومها ليلتين متتاليتين لأداء أعمال التنظيف؛ ليس لأن المنزل لم يكن نظيفا بما فيه الكفاية، بل لأنها شعرت بالحاجة لغسل كل طبق وأصيص وحلية بالمنزل، وجلي الزجاج الموجود على كل صورة، وسحب الثلاجة والتنظيف خلفها، وغسل درجات سلم القبو، وسكب مادة التبييض في صندوق القمامة. ورأت أيضا أنه يلزم عليها تفكيك أجزاء الثريا فوق مائدة الطعام، وغمر كل قطعة منها في الماء والصابون، ثم شطفها، وتجفيفها، وإعادة تركيبها. ونظرا لعملها في مكتب البريد، لم تتمكن من البدء في هذه الأعمال إلا بعد العشاء. وبالرغم من أنها صارت الآن مديرة المكتب، وكان بإمكانها منح نفسها إجازة في ذلك اليوم، فإنها لم تفعل؛ فهذا من شيمها.
والآن، فقد بدت مثيرة بأحمر الشفاه الذي وضعته، ومتوترة في فستانها الأزرق الداكن المصمم من قماش الكريب، وياقته الدانتيل. لم تستطع البقاء ساكنة في مكانها، وإنما أخذت تعيد ملء أطباق التقديم وتمررها بين الضيوف، وتستنكر أن يكون الشاي قد برد، فتسرع لإعداد المزيد منه. اهتمت براحة ضيوفها، وأخذت تسألهم عن أحوالهم مع الروماتيزم وغيره من الأمراض البسيطة الأخرى التي يعانون منها. ابتسمت في وجه مأساتها، وقالت مرارا وتكرارا إن مصيبتها يعاني الكثيرون مثلها، وينبغي عليها عدم الشكوى بما أن هناك العديد من الآخرين في نفس المركب، وأن جورج ما كان ليرغب في حزن أصدقائه عليه، وإنما كان يود أن يمتنوا لانتهاء الحرب تماما. قالت ذلك بصوت عال وحازم يحمل نبرة تأنيب ودي اعتاد الناس عليها منها في مكتب البريد. فجعلتهم بذلك يشكون في قولهم شيئا لا يصح قوله، كما يحدث لهم في مكتب البريد حيث تشعرهم أحيانا بأن خط أيديهم سيئ للغاية، أو أن الطرود التي يودون إرسالها قد ربطت على نحو غير متقن.
أدركت إيلسا أن صوتها عال، وأنها تبتسم كثيرا، وأنها قد صبت الشاي لأناس أوضحوا عدم رغبتهم في الحصول على المزيد. وبينما كانت في المطبخ لتسخين إبريق الشاي، قالت: «لا أعلم ما خطبي؛ إنني متوترة للغاية!»
وجهت هذا الحديث إلى دكتور شانتس، وهو جار لها يقع منزله على الجانب الآخر من الفناء الخلفي لمنزلها.
قال لها: «سرعان ما سينتهي الأمر. هل ترغبين في حبة برومايد؟»
تغير صوته عندما فتح باب المطبخ الذي يؤدي إلى غرفة الطعام، وخرجت منه كلمة «برومايد» على نحو يدل على الحزم والمهنية.
تغير صوت إيلسا أيضا، من البؤس إلى الشجاعة، وقالت له: «شكرا لك! سوف أحاول تحمل الأمر دون أي أدوية.» •••
تمثلت مهمة إيونا في مراقبة أمها، والتأكد من عدم سكبها الشاي الذي تشربه؛ الأمر الذي قد تفعله ليس لحماقتها بل لنسيانها. كان عليها أيضا مراقبتها لإبعادها عن الحفل إذا بدأت في البكاء. بيد أن سلوك السيدة كيركم كان، في الواقع، راقيا أغلب الوقت، وعملت على خدمة الضيوف على نحو أسرع من إيلسا. وعلى مدى ربع ساعة، أدركت الموقف - أو بدا عليها ذلك - وتحدثت بشجاعة واقتناع عن أنها ستظل تفتقد ابنها دائما، لكنها ممتنة لأنها لا تزال بصحبة ابنتيها: إيلسا الفتاة الكفء التي يمكن الاعتماد عليها والمذهلة كعادتها دوما؛ وإيونا ذات القلب الطيب الحنون. تذكرت أيضا التحدث عن زوجة ابنها، التي تزوجها حديثا، لكنها قالت شيئا دل على اضطرابها، وذلك عندما ذكرت ما لا تذكره معظم النساء في سنها في أي تجمع اجتماعي وفي حضور الرجال؛ إذ نظرت إلى جيل وإلي، وقالت: «وجميعنا سنستريح قريبا.»
لكن بعد تجولها بين الغرف والضيوف، نسيت تماما ما يحدث، ونظرت في أرجاء المنزل، وقالت: «لماذا نحن هنا؟ يا له من جمع كبير من الناس! بم نحتفل؟» وعند إدراكها أن الاحتفال له علاقة بجورج، قالت: «هل هذا حفل زفاف جورج؟» ومع إدراكها هذه المعلومة الجديدة، فقدت بعضا من رشدها، فسألت إيونا: «هذا ليس حفل زفافك، أم أنه كذلك؟ كلا، لا أظن؛ فأنت لم تحظي برفيق من قبل، أليس كذلك؟» طغت على صوتها نبرة تشي بحاجتها إلى مواجهة الحقائق وبأنها تأخرت كثيرا عن معرفة مجريات الأمور. وعندما وقعت عيناها على جيل، ضحكت. «هذه ليست العروس، أم أنها هي؟ يا إلهي! لقد اتضح الأمر الآن.»
لكنها تذكرت الحقيقة بعد ذلك فجأة، مثلما نسيتها بالضبط.
فسألت: «هل من أخبار عن جورج؟» وفي تلك اللحظة، بدأ البكاء الذي خشيت إيلسا منه.
فقالت إيلسا: «فلتبعديها عن المكان، إذا بدأت في لفت الأنظار بتصرفات تثير السخرية.»
بيد أن إيونا لم تتمكن من إبعاد أمها عن المكان - فهي لم تستطع قط فرض سيطرتها على أي أحد في حياتها - لكن زوجة الدكتور شانتس أمسكت بذارع السيدة العجوز.
سألت السيدة كيركم بخوف: «أمات جورج؟» فأجابتها السيدة شانتس: «نعم، لكن أتدرين؟ زوجته ستنجب طفلا عما قريب.»
اتكأت السيدة كيركم عليها، وتغيرت قسمات وجهها، ثم قالت برفق: «هل لي أن أتناول بعض الشاي؟» •••
أينما توجهت أمي ببصرها في ذلك المنزل، رأت صورة لأبي. الصورة الأخيرة والرسمية له وهو يرتدي زيه الرسمي وضعت على مفرش مطرز على ماكينة الخياطة محكمة الإغلاق بالقرب من نافذة غرفة الطعام. وضعت إيونا الورود حولها، لكن إيلسا أبعدتها؛ إذ قالت إنها تجعله يبدو كقديس كاثوليكي. وأعلى درجات السلم، ثمة صورة أخرى له وهو في السادسة من عمره على الرصيف خارج المنزل جالسا في عربة الأطفال. وفي الغرفة التي نامت فيها جيل، هناك صورة له بجوار دراجته حاملا حقيبته المطبوع عليها «فري بريس». أما غرفة السيدة كيركم، فاحتوت على صورة له وهو يرتدي ملابس الأوبريت الذي شارك فيه وهو في الصف الثامن بالمدرسة، وفوق رأسه تاج ذهبي اللون من الكرتون. فنظرا لعدم قدرته على الغناء، لم يتمكن من الحصول على أحد الأدوار الرئيسية بالأوبريت، لكنه اختير بالطبع لأداء أفضل دور ثانوي؛ وهو دور الملك.
وفوق البوفيه، ثمة صورة أخرى له ملطخة ببصمات الأصابع كانت قد التقطت له في استوديو للتصوير الفوتوغرافي عندما كان في الثالثة من عمره؛ طفلا صغيرا أشقر غير واضح الملامح ويجر دمية من القماش من إحدى ساقيها. فكرت إيلسا في إبعاد هذه الصورة؛ لأنها قد تثير البكاء، لكنها فضلت تركها بعد ذلك كي لا تترك بقعة فاتحة اللون في ورق الحائط في المكان الذي وضعت فيه. ولم يقل أي أحد أي شيء عن هذه الصورة سوى السيدة شانتس؛ وذلك عندما كفت عن الحديث، ثم قالت ما اعتادت قوله أحيانا من قبل، دون بكاء وإنما بإعجاب رقيق. «يا إلهي! كريستوفر روبين.»
اعتاد الناس عدم الانتباه كثيرا لما تقوله السيدة شانتس.
في جميع صوره، يبدو جورج متألقا؛ هناك دائما خصلات براقة من شعره الأشقر منسدلة على جبهته، إلا إذا كان يرتدي قبعته العسكرية أو تاجه. حتى عندما كان طفلا صغيرا، بدا وكأنه موقن بأنه شخص مرح وداهية وساحر، شخص لا يترك الناس وشأنهم أبدا، ويدفعهم للضحك دائما، ويكون ذلك على حسابه في بعض الأحيان، لكنه في الغالب على حساب الآخرين. تذكرت جيل كيف كان يشرب الخمر، ولا يبدو مخمورا أبدا، وكيف اهتم بدفع الآخرين للسكر كي يعترفوا له بمخاوفهم، أو أكاذيبهم، أو عذريتهم، أو تدليسهم، وتحويله هذه الأمور فيما بعد إلى نكات، أو نعت هؤلاء بألقاب مهينة ادعى أصحابها - من ضحاياه - استمتاعهم بها؛ ولذا، كان لديه عدد هائل من التابعين والأصدقاء، الذين ربما رجع تعلقهم به إلى الخوف، أو ربما لأنه كان يضفي حيوية على ما حوله، كما كان يقال عنه دوما. فحيثما وجد، كان محور الاهتمام، وأشاع من حوله روح المخاطرة والبهجة.
ماذا كان بوسع جيل فعله حيال حبيب بهذه الطباع؟ كانت في التاسعة عشرة من عمرها عندما التقت به، ولم يتقرب إليها أحد من قبل. لم تستطع فهم ما جذبه إليها، ورأت أنه ما من أحد تمكن من فهم ذلك أيضا. لقد كانت بمثابة اللغز لمعظم من كانوا في سنها، لكنه لغز ممل؛ فهي فتاة كرست حياتها لدراسة الكمان، ولم يكن لديها أي اهتمامات أخرى.
لكن ذلك لم يكن صحيحا تماما؛ فقد كانت تستلقي باسترخاء تحت ألحفتها الرثة وتتخيل حبيبا ما. بيد أنه لم يكن قط حبيبا مهرجا متألقا مثل جورج؛ فكانت تفكر في شخص ضخم دافئ المشاعر، أو موسيقي شهير يكبرها بعقد من الزمان ويتميز بالفحولة. كانت مفاهيمها عن الحب أوبرالية، وإن لم يكن هذا هو نوع الموسيقى الذي تفضله. أما جورج، فقد كان يطلق النكات أثناء جماعها؛ ويتبختر في أنحاء الغرفة بعد انتهائه؛ ويصدر أصواتا وقحة وطفولية. لم تشعرها هذه التصرفات الطائشة من جانبه بالقدر نفسه من المتعة الذي حظيت به في تخيلاتها، لكنها في الوقت نفسه لم تصبها بالإحباط التام.
ما شعرت به حقا هو الذهول من السرعة التي جرت بها الأمور. لقد توقعت أن تكون سعيدة - وممتنة - عندما أدركت الواقع المادي والاجتماعي من حولها. بدا اهتمام جورج بها وزواجها به امتدادا رائعا لحياتها. كان الأمر أشبه بدخولها غرفا زاخرة بالإضاءة والروعة المذهلة. وبعد ذلك، وقعت الكارثة غير المتوقعة التي كانت أشبه بانفجار قنبلة أو هبوب إعصار مفاجئ أطاح بهذا الامتداد الجديد لحياتها برمته. تلاشى وانهار وما عادت تملك شيئا سوى حياتها القديمة نفسها والخيارات التي أتيحت لها من قبل. خسرت شيئا ما بالتأكيد، لكنه لم يكن بالشيء الذي تمسكت به حقا، أو اعتبرته أكثر من مخطط افتراضي للمستقبل فحسب.
صار لديها الآن في حفل التأبين ما يكفي من الطعام لتناوله. شعرت بالألم في ساقيها جراء الوقوف طويلا، وسألتها السيدة شانتس التي كانت تقف بجوارها: «هل سنحت لك فرصة الالتقاء بأي من أصدقاء جورج هنا؟»
كانت تعني الشباب الذين وقفوا وحدهم عند مدخل الردهة؛ فتاتان حسنتا المظهر، وشاب لا يزال يرتدي الزي البحري الرسمي، وآخرون. عندما نظرت إليهم جيل، اتضح لها أنه ما من أحد حزين حقا لوفاة جورج. ربما إيلسا حزينة، لكنها لها أسبابها الخاصة. لم يحزن أحد، ولا حتى الفتاة التي أخذت تبكي في الكنيسة وبدا أنها لن تكف عن البكاء بعض الوقت. تتذكر تلك الفتاة الآن حبها لجورج، وتعتقد أنه كان مغرما بها أيضا - بالرغم من كل شيء - دون أن تخاف مما قد يفعله أو يقوله جورج ليثبت عدم صحة ما تقوله. ولم يعد أحد منهم الآن مضطرا للتساؤل - عندما تدوي ضحكات مجموعة من الناس الملتفين حول جورج - علام يضحكون أو ما الذي يخبرهم به جورج. ولن يبذل أي منهم الجهد لمجاراته أو للتوصل إلى ما يجعلهم ينالون رضاه بعد الآن.
لم تفكر جيل في احتمالية تغير شخصية جورج، لو أنه نجا من الموت. ويرجع السبب في ذلك إلى أنها هي نفسها لم تفكر في تغيير شخصيتها.
أجابت عن سؤال السيدة شانتس على نحو يفتقر إلى الحماس: «كلا.» وهو ما جعل السيدة شانتس ترد عليها قائلة: «إنني متفهمة؛ فمن الصعب الالتقاء بأناس جدد؛ لا سيما ... لو أنني مكانك، لنلت قسطا من الراحة.»
كانت جيل شبه متأكدة من أن السيدة شانتس كانت ستقول: «لذهبت لاحتساء مشروب.» لكن ما من مشروبات تقدم في الحفل سوى الشاي والقهوة. لم تشرب جيل الخمر كثيرا على أي حال، غير أنه كان بوسعها تمييز رائحته في أنفاس من أمامها، وقد اعتقدت أنها شمته في أنفاس السيدة شانتس.
سألتها السيدة شانتس: «لم لا تذهبين؟ مثل هذه المناسبات تسبب توترا شديدا. سوف أخبر إيلسا بذلك. فلتذهبي الآن.» •••
السيدة شانتس امرأة ضئيلة الجسم ذات شعر رمادي ناعم، وعينين لامعتين، ووجه مغطى بالتجاعيد حاد الملامح. اعتادت قضاء شهر كامل وحدها في فلوريدا كل شتاء. كانت امرأة ثرية. والمنزل، الذي أسسته مع زوجها، خلف منزل آل كيركم، كان ممتدا بالعرض على مساحة كبيرة وغير مرتفع، وكان مطليا بلون أبيض ناصع للغاية، وله زوايا منحنية وامتدادات من قوالب الزجاج المربع الصالح للبناء. وكان دكتور شانتس يصغرها بعشرين أو خمسة وعشرين عاما. وهو شاب وسيم مفعم بالنشاط، قصير وممتلئ القوام، ذو جبهة مرتفعة ناعمة وشعر أشقر متموج. لم يكن لديهما أي أطفال. ومن المعروف أنها لديها أطفال من زواجها الأول، لكنهم لا يأتون لزيارتها. وفي الحقيقة، كان دكتور شانتس صديق ابنها الذي حضر إلى منزله أثناء دراستهما بالجامعة، ووقع في غرام والدة صديقه، ووقعت هي في غرام صديق ابنها، فحصلت على الطلاق، وها هما الآن متزوجان، ويعيشان عيشة رغدة في منأى عن الناس.
اشتمت جيل رائحة ويسكي بالفعل في أنفاس السيدة شانتس؛ فقد كانت تحضر معها قنينة خمر في أي تجمع تذهب إليه وتشعر أنها لن تستمتع به، حسبما قالت؛ فالشراب كان يمنعها من الضحك دون توقف أو تحريف ما تقوله - ما يؤدي إلى إساءة الفهم - أو اختلاق العراك أو التلويح بذراعيها في وجوه الناس. والحقيقة هي أنها ربما تكون دائما مخمورة قليلا، لكنها لا تكون أبدا في حالة ثمالة تامة؛ فقد اعتادت احتساء الكحول على نحو معقول ومطمئن؛ كي لا يسيطر على خلايا مخها بالكامل أو تحرم خلاياها منه. وما كان يبوح بسرها فقط هو الرائحة (التي أرجعها الكثير من الناس في هذه البلدة المملة إلى دواء ما لزم عليها تناوله، أو ربما مرهم تدهن به صدرها). ربما فضحها أيضا تأنيها في الحديث ومباعدتها بين الكلمات ببضع ثوان. وكانت تقول، بالطبع، أشياء ليس من عادة امرأة نشأت في هذه الأرجاء قولها. كانت تتحدث عن نفسها، وعن أن الناس يظنون خطأ بين الحين والآخر أنها والدة زوجها. وعند علمهم بالحقيقة، يشعرون بالخجل الشديد. لكن ثمة امرأة - ربما تكون نادلة - رمقتها بنظرة احتقار ولسان حالها يتساءل: «ما الذي يفعله بتضييع حياته معك؟»
اعتادت السيدة شانتس الرد على مثل هؤلاء الناس قائلة: «أعلم أن هذا ليس عدلا، لكن الحياة ليست عادلة، وقد تعتادون عليها أيضا بدوركم.»
لم تتمكن السيدة شانتس بعد ظهيرة ذلك اليوم من العثور على أي مكان يمكنها ارتشاف الويسكي فيه على نحو ملائم؛ فمن الممكن أن تمر السيدات بالمطبخ، بل وغرفة التخزين الضيقة أيضا التي تقع خلفه، في أي وقت؛ ومن ثم، لزم عليها الصعود إلى دورة المياه في الطابق العلوي، ولم يحدث ذلك كثيرا. وعندما فعلت ذلك في وقت متأخر من بعد ظهيرة ذلك اليوم، بعد أن اختفت جيل بقليل، وجدت باب دورة المياه مغلقا، ففكرت في احتساء الخمر في إحدى غرف النوم، وتساءلت أي الغرف فارغة وأيها تشغلها جيل. سمعت، بعد ذلك، صوت جيل الصادر من دورة المياه وهي تقول: «لحظة واحدة!» أو شيئا من هذا القبيل. قالت عبارة عادية للغاية، لكن نبرة صوتها شابها التوتر والخوف.
ارتشفت السيدة شانتس رشفة سريعة في الرواق حيث وقفت، متحججة بالحالة الطارئة التي تواجهها. «جيل؟ هل أنت بخير؟ هل تسمحين لي بالدخول؟»
كانت جيل جاثمة على الأرض مستندة إلى يديها وركبتيها، محاولة مسح بركة المياه الصغيرة التي أفلتت منها على أرضية دورة المياه. كانت قد قرأت عن نزول الماء عند الوضع، مثلما قرأت أيضا عن الانقباضات، ومرحلة نزول الدم، ومرحلة الاندفاع، والمشيمة، لكنها فوجئت بنزول سائل دافئ من مهبلها، كما فوجئت في المراحل الأخرى. اضطرت إلى استخدام مناديل المرحاض؛ لأن إيلسا كانت قد أبعدت كل المناشف العادية، ووضعت مكانها قطعا صغيرة ناعمة من المناديل المطرزة تسمى مناشف الضيوف.
أمسكت بحافة حوض الاستحمام لتنهض، وفتحت مزلاج الباب، وبدأ المخاض في تلك اللحظة. لم تشعر بألم بسيط في البداية أو أي بشائر، ولم تمر بأي مرحلة أولية معتادة أثناء الوضع؛ وإنما كان وضعها أشبه بالهجوم الوحشي ومخاضها يمزقها إربا.
قالت السيدة شانتس وهي تحاول دعمها قدر الإمكان: «هدئي من روعك ... أخبريني فقط أي من هذه الغرف غرفتك، وسوف نساعدك للاستلقاء فيها.»
وقبل حتى أن تصلا إلى الفراش، غرزت جيل أصابعها في ذراع السيدة شانتس النحيلة من الألم حتى تحولت بشرة ذراعها إلى اللونين الأسود والأزرق.
قالت السيدة شانتس: «يا إلهي! المخاض سريع. ليس من المعتاد أن يكون وضع الطفل الأول بهذه الشدة. سوف أذهب لاستدعاء زوجي.»
وهكذا، ولدت في هذا المنزل قبل الموعد المحدد لولادتي بعشرة أيام، إن كانت حسابات جيل صحيحة. تمكنت إيلسا من إخلاء المنزل من الضيوف قبل أن يمتلئ بضجيج جيل وصرخاتها المستنكرة، وأنينها وتأوهاتها الفاضحة العالية التي تلت.
كان من المعتاد آنذاك نقل الأم ووليدها إلى المستشفى بعد الولادة، حتى وإن كانت الأم قد وضعت فجأة في المنزل، غير أنه تفشى في البلدة في ذلك الوقت نوع ما من الأنفلونزا الصيفية، وازدحمت المستشفى بأسوأ الحالات؛ لذا قرر دكتور شانتس أنه من الأفضل بقائي أنا وجيل بالمنزل. وقد كانت إيونا قد أنهت جزءا من تدريبها كممرضة، وبوسعها الحصول على إجازتها التي بلغت مدتها أسبوعين لرعايتنا. •••
لم تعرف جيل شيئا عن الحياة وسط عائلة؛ إذ كانت قد نشأت في ملجأ للأيتام، ومن سن السادسة إلى السادسة عشرة كانت تنام في مسكن جماعي تابع له، وكانت المصابيح في هذا المسكن تضاء وتطفأ في أوقات محددة، والتدفئة المركزية لا تعمل أبدا قبل أو بعد موعد معين. وكانت هناك مائدة طويلة مغطاة بمفرش من المشمع يتناول عليها الأيتام الطعام ويقومون بأداء واجباتهم المدرسية. وعلى الجانب الآخر من الشارع الذي وجد فيه الملجأ، كان هناك مصنع. أحب جورج ذلك، وقال إن هذه الظروف تصنع فتاة قوية، واثقة بنفسها، صلبة، منغلقة على ذاتها، لا تتوقع أي هراء رومانسي. بيد أن المكان لم يكن يدار بقسوة كما اعتقد جورج على الأرجح، والأشخاص الذين أداروه لم يكونوا بخلاء. اصطحبت جيل إلى حفل موسيقي برفقة آخرين عندما كانت في الثانية عشرة من عمرها، وهناك قررت تعلم العزف على الكمان . كانت آنذاك تتسلى بالفعل بالعزف على البيانو في الملجأ. واهتم شخص ما بها بالقدر الذي جعله يهديها كمانا مستعملا، ويمنحها بعض الدروس للعزف عليه. وأدى ذلك، في النهاية، إلى حصولها على منحة في معهد الموسيقى. وأقيم حفل حضره الرعاة والمديرون بالملجأ، ارتدت فيه النساء أفضل الفساتين، وقدم فيه شراب بنش الفواكه والكعك، وألقيت فيه الخطابات. وكان من المفترض أن تلقي جيل خطابا قصيرا تعبر فيه عن امتنانها، لكنها رأت في الحقيقة أن ما حدث كان أمرا مسلما به. وكانت موقنة أنها والكمان مرتبطان على نحو طبيعي ومصيري، وكانا سيلتقيان دون أي مساعدة بشرية.
حظيت في المسكن ببعض الأصدقاء، لكنهم غادروا المكان مبكرا للعمل في المصانع والمكاتب، ونسيتهم. وفي المدرسة الثانوية، التي كان الأيتام يرسلون إليها، تحدثت معها إحدى المعلمات. ووردت في الحديث كلمتا «عادية» و«متعددة الإمكانيات». بدا الأمر وكأن المعلمة ترى أن الموسيقى وسيلة للهروب من شيء ما أو تعويض لشيء ما؛ ربما الإخوة والأخوات والأصدقاء والعلاقات الغرامية. واقترحت على جيل توزيع طاقتها على الكثير من الأمور، بدلا من التركيز على شيء واحد فقط. اقترحت عليها التخلص من توترها، ولعب الكرة الطائرة، والانضمام إلى أوركسترا المدرسة إذا كانت الموسيقى هي ما تبغيه.
بدأت جيل في تجنب تلك المعلمة على وجه الخصوص؛ فكانت تصعد الدرج أو تدور حول المبنى كي لا تتحدث معها. وتوقفت أيضا عن قراءة أي صفحة ظهرت بها كلمتا «متعددة الإمكانيات» أو «عادية».
وفي معهد الموسيقى، سارت الأمور على نحو أكثر سلاسة؛ فالتقت هناك بأشخاص ليسوا متعددي الإمكانيات، ولديهم دافع قوي لما يفعلونه مثلها. وكونت بعض الصداقات القليلة التنافسية دون أن تعي ذلك. وكان لأحد أصدقائها أخ أكبر في القوات الجوية، تصادف كونه ضحية لجورج كيركم ومتيما به. حضر ذلك الأخ برفقة جورج إلى عشاء عائلي بمساء أحد أيام الآحاد، وكانت جيل مدعوة إليه، وكانوا سيقصدون مكانا آخر لاحتساء الخمر. وهكذا التقى جورج بجيل؛ هكذا التقى أبي بأمي. •••
لزم وجود شخص في المنزل طوال الوقت لمراقبة السيدة كيركم؛ لذا، عملت إيونا في النوبة الليلية بالمخبز. كانت تزين الكعكات - بما في ذلك أجمل كعكات الزفاف - وتضع أول أرغفة الخبز في الفرن الساعة الخامسة صباحا. ويداها، اللتان ارتجفتا بشدة على نحو حال دون تقديمها كوبا من الشاي لأي أحد أثناء حفل التأبين، اتسمتا بالقوة والمهارة والتمهل، بل والإلهام أيضا، عند قيامها بأي عمل وحدها.
وفي صبيحة أحد الأيام بعد أن ذهبت إيلسا إلى عملها - كان ذلك خلال الفترة القصيرة التي قضتها جيل في المنزل قبل ولادتي - همست إيونا من غرفة النوم أثناء مرور جيل أمامها، نادتها وكأنها ستسر لها قولا، لكن من كان في المنزل آنذاك لتخفي السر عنه؟ من المستبعد أن تكون السيدة كيركم.
بذلت إيونا جهدا في فتح درج عالق بمكتبها. قالت وهي تقهقه: «تبا! ها هو ذا.»
امتلأ الدرج بملابس أطفال؛ لم تكن قمصانا وملابس نوم بسيطة كالتي ابتاعتها جيل من أحد المحلات التي تبيع الملابس المستعملة وبواقي المصانع في تورونتو، وإنما قلنسوات منسوجة من التريكو، وسترات صوفية، وجوارب صوفية محبوكة، وأغطية حفاضات من الصوف، وثياب صغيرة يدوية الصنع. وكانت جميع الملابس ملونة بكل الألوان الفاتحة الرقيقة الممكنة، ومجموعات الألوان المتداخلة أيضا دون التقيد باللونين الأزرق أو الوردي، مع حواف مزينة بالكروشيه وتطريز دقيق على شكل زهور وطيور وحملان. ما كادت جيل تعلم بوجود مثل هذه المستلزمات للأطفال، ولعلها كان بإمكانها أن تعلم بها، إذا أجرت بحثا دقيقا في أقسام الأطفال أو دققت النظر في عربات الأطفال، لكنها لم تفعل.
قالت إيونا: «لا أعلم بالطبع ما لديك من مستلزمات الطفل، ولعل لديك الكثير من الأشياء بالفعل، أو لعلك لا تحبين الأشياء يدوية الصنع، لا أعلم ...» كانت قهقهتها أشبه بعلامات الترقيم في حديثها، فضلا عن كونها امتدادا لنبرة الاعتذار في صوتها. كل كلمة تقولها، وكل نظرة، وكل إيماءة بدت محجوبة بمعسول الكلام أو التنفس بصوت مسموع في دلالة على الاعتذار، ولم تعلم جيل كيفية التعامل مع هذا الأمر.
قالت لها بشيء من الفتور: «إنها جميلة حقا.» «لم أعرف حتى ما إذا كنت بحاجة إليها. لم أعرف ما إذا كانت ستعجبك في المقام الأول.» «إنها جميلة.» «ليست جميعها من صنع يدي؛ فقد ابتعت بعضا منها. ذهبت إلى بازار الكنيسة والبازار الملحق بالمستشفى، وظننت أنها ستكون لطيفة، لكنها إن لم تنل إعجابك أو كنت لا تحتاجينها، فيمكنني التبرع بها لأوجه الخير.»
فقالت جيل: «إنني أحتاجها بالفعل؛ فلم أشتر أي شيء مثلها على الإطلاق.» «حقا؟ ما صنعته ليس رائعا، لكن ما صنعته السيدات في الكنيسة أو ملحق المستشفى قد يكون جيدا. ربما ستجدينه كذلك.»
هل هذا ما عناه جورج عندما تحدث عن توتر إيونا؟ (وفقا لإيلسا، يرجع سبب انهيار إيونا العصبي في كلية التمريض إلى حساسيتها المفرطة قليلا وقسوة المشرف عليها قليلا.) قد يظن المرء أن صخبها في الحديث معها يعود إلى حاجتها للاطمئنان، لكن أيا كان الاطمئنان الذي تحاول منحه إياها، فهو يبدو غير كاف أو لا يصل إليها. شعرت جيل وكأن كلمات إيونا وقهقهتها وأنفاسها المسموعة وتعرقها (لا شك أن يديها كانتا تتعرقان أيضا) أشياء تتسلل إليها - إلى جيل - كحشرات العث التي تحاول الانسلال تحت جلدها.
لكنها اعتادت هذه الأمور مع الوقت، أو أن إيونا هي التي قللت منها قليلا. شعرت كلتاهما بالراحة عند انغلاق الباب وراء إيلسا في الصباح، كما لو كانت معلمة تغادر الفصل المدرسي. واعتادتا احتساء كوب ثان من القهوة معا، بينما تغسل السيدة كيركم الأطباق. كانت تغسلها ببطء شديد، مع نظرها حولها بحثا عن الدرج أو الرف الذي ينبغي وضع ما غسلته فيه أو عليه، مع بعض الهفوات أحيانا. مارست بعض الطقوس أيضا أثناء ذلك، وهي الطقوس التي لم تنسها قط؛ مثل نثر رواسب القهوة على إحدى الشجيرات الموجودة بالقرب من باب المطبخ.
همست إيونا: «إنها تعتقد أن القهوة تساعد الشجيرة على النمو، حتى وإن وضعتها على الأوراق، وليس على التربة ذاتها. ويلزم علينا كل يوم أخذ الخرطوم وشطف ما سكبته عليها.»
رأت جيل أن إيونا تشبه الفتيات اللاتي تعرضن في أغلب الأحيان للإزعاج في الملجأ، وتقن دوما لإزعاج الآخرين، لكن ما إن يدفع المرء إيونا لتجاوز عقبة اعتذاراتها المتوترة أو الاتهامات البسيطة الموجهة إليها («بالطبع، أنا آخر شخص يمكن أن يستشيروه بشأن أي شيء في المتجر»، «بالطبع، إيلسا لن تستمع إلى رأيي»، «بالطبع، جورج لم يخف قط مدى نفوره مني») حتى يمكنها التحدث عن أمور مثيرة للاهتمام قليلا. فأخبرت جيل عن المنزل الذي كان ملكا لجدهم وصار الآن الجناح المركزي بالمستشفى، وعن الصفقات المشبوهة التي جعلت والدهم يخسر وظيفته، وعن العلاقة الغرامية التي جمعت بين اثنين متزوجين في المخبز. ذكرت إيونا كذلك التاريخ السابق - المفترض - لآل شانتس، بل وحقيقة تعامل إيلسا الرقيق مع دكتور شانتس أيضا. يبدو أن علاج الصدمات الذي تلقته إيونا بعد انهيارها العصبي قد أحدث خللا في حسن تمييزها وقدرتها على حفظ الأسرار، والصوت الذي نتج عن هذا الخلل - بعد استبعاد كل ترهات الادعاءات - كان شريرا وماكرا.
كان بإمكان جيل أيضا قضاء أوقاتها في الثرثرة؛ إذ كانت أصابعها متورمة آنذاك على نحو حال دون محاولتها العزف على الكمان. •••
جاءت بعد ذلك ولادتي، ومعها تغير كل شيء؛ لا سيما حياة إيونا.
تعين على جيل ملازمة الفراش مدة أسبوع، لكن حتى بعد تركها له، كانت تتحرك كسيدة عجوز متيبسة العضلات، وكانت تتنفس بحذر في كل مرة تلقي فيها بنفسها على أي كرسي لتجلس. قطب جرحها بأكمله بالغرز على نحو مؤلم، وربط بطنها وثدياها بإحكام كالمومياء، كما كان معتادا آنذاك. نزل اللبن بغزارة من ثدييها؛ وتسرب عبر الأربطة وعلى ملاءة السرير. أرخت إيونا الأربطة، وحاولت وضع حلمة ثدي أمي في فمي، لكنني رفضت ذلك؛ رفضت ثدي أمي، ودوت صرخاتي عاليا في المكان. ربما بدا لي آنذاك الثدي المتصلب الكبير كوحش بخطم ينقب في وجهي. حملتني إيونا، وأعطتني بعضا من الماء المغلي الدافئ، فهدأت. بيد أن وزني بدأ يقل؛ إذ لم يكن ممكنا أن أعيش على الماء؛ لذا، مزجت إيونا بعضا من حليب الأطفال الصناعي، وأخذتني من بين ذراعي جيل حيث تيبس جسدي وأخذت أتأوه. وعملت على هدهدتي وتهدئتي وملامسة وجنتي للحلمة المطاطية الصناعية، وكان ذلك ما فضلته. شربت اللبن الصناعي بنهم ولم أتقيأه، وصارت ذراعا إيونا والحلمة التي كانت مسئولة عنها ملاذي المفضل. ولزم ربط ثديي جيل على نحو أكثر إحكاما، بالإضافة إلى إمساكها عن السوائل (جدير بالذكر هنا أن ذلك حدث في الصيف الحار) وتحملها الألم حتى جف اللبن بثدييها.
دندنت إيونا: «يا لك من طفلة مزعجة، أترفضين لبن أمك اللذيذ؟»
سرعان ما زاد وزني وقوتي، وصار بإمكاني البكاء بصوت أعلى. كنت أبكي إذا حاول حملي أحد غير إيونا. نبذت إيلسا والدكتور شانتس بيديه الدافئتين الودودتين، لكن نفوري من جيل كان الأكثر لفتا للانتباه.
عندما كانت جيل تنزل من السرير، كانت إيونا تهم بمساعدتها للجلوس على المقعد الذي اعتادت هي نفسها الجلوس عليه عادة لإطعامي؛ وكانت تضع بلوزتها حول كتفي جيل وزجاجة اللبن في يدها.
بيد أن ذلك لم يكن يجدي نفعا؛ فلم أكن أنخدع به. كنت أضرب بوجنتي الزجاجة وأفرد ساقي وأصلب بطني ليصير كالكرة. لم أرتض عن إيونا بديلا، وأخذت أبكي، ولم أستسلم.
كانت صرخاتي لا تزال صرخات ضعيفة لطفلة حديثة الولادة، لكنها أحدثت إزعاجا في المنزل، وكانت إيونا الوحيدة القادرة على إيقافها؛ فإن لمسني أحد أو تحدث إلي غير إيونا، كنت أبكي. وعند النوم، إذا لم تهدهدني إيونا، كنت أبكي حد التعب وأنام عشر دقائق، ثم أستيقظ متأهبة لمواصلة البكاء. لم أمر بأوقات جيدة وأخرى مزعجة؛ وإنما أوقات بها إيونا وأخرى بدونها، وكانت هذه تزداد سوءا إذا قضيتها مع أشخاص آخرين؛ لا سيما مع جيل.
كيف إذن كان لإيونا العودة إلى العمل عند انتهاء إجازتها التي امتدت أسبوعين؟ لم يكن بإمكانها ذلك، وكان ذلك أمرا غير قابل للجدل، ولزم على المخبز تعيين شخص آخر. وتحولت إيونا من الشخص الأكثر إهمالا إلى الأكثر أهمية في المنزل؛ فكانت الشخص الذي يفصل بين من يعيشون في المنزل وبين الضجيج الدائم والشكوى المتعذر حلها. كان عليها البقاء مستيقظة طوال الوقت للحيلولة دون تعرض أي من أفراد المنزل لأي نوع من الإزعاج. أصاب ذلك دكتور شانتس بالقلق؛ وإيلسا نفسها شعرت بذلك أيضا. «إيونا، لا ترهقي نفسك كثيرا.»
لكن ثمة تغييرا رائعا حدث؛ شحب وجه إيونا، لكن بشرتها توردت، كما لو كانت قد تخطت مرحلة المراهقة أخيرا، وصار بوسعها النظر في عيني أي أحد. اختفى الارتجاف، والقهقهة، والخنوع الماكر في صوتها الذي صار آمرا ناهيا كصوت إيلسا، وأكثر مرحا منها (لا سيما عند توبيخها إياي بسبب موقفي من جيل).
قالت إيلسا للناس: «تنعم إيونا بسعادة غامرة؛ فهي تعشق الطفلة الصغيرة.» لكن سلوك إيونا، في حقيقة الأمر، بدا طائشا على نحو يحول دون الإعجاب به؛ فلم تهتم بقدر الضوضاء التي تحدثها أثناء تهدئتها لي، وكانت تصعد الدرج سريعا وهي تنادي لاهثة: «إنني قادمة! إنني قادمة! كفي عن البكاء.» وكانت تحملني دون احتراس بيد واحدة، بينما تؤدي مهمة أخرى تتعلق برعايتي باليد الأخرى. سيطرت على المطبخ، واستحوذت على الموقد لتعقيم الرضعات، والمائدة لمزج اللبن الصناعي، والحوض لتنظيف جسم الطفلة بالماء. وكانت تسب وتشتم بمرح، حتى في وجود إيلسا، عند وضعها شيئا ما في غير موضعه أو سكبها إياه.
وعند شروعي في البكاء، كانت إيونا تعرف أنها الوحيدة التي لن تنفر مني ولن تشعر بالخطر المستبعد المتمثل في انهزامها أمام صيحاتي وعدم قدرتها على تهدئتي، وإنما كانت الوحيدة التي يقفز قلبها من السعادة، وتشعر بالرغبة في الرقص لإحساسها بالقوة التي تملكها والامتنان لذلك.
ما إن نزعت الأربطة عن جسد جيل ورأت تسطح بطنها حتى نظرت إلى يديها، فلاحظت اختفاء التورم تماما؛ فنزلت إلى الطابق السفلي، وأخرجت الكمان الخاص بها من الخزانة ونزعت عنه غطاءه؛ فقد صارت مستعدة لمحاولة العزف عليه.
حدث ذلك بعد ظهيرة أحد أيام الآحاد. غفت إيونا قليلا، وأذنها منتبهة كعادتها تحسبا لبكائي. كانت السيدة كيركم نائمة أيضا، وإيلسا تطلي أظافر يديها في المطبخ. بدأت جيل في العزف على أوتار الكمان.
لم يكن لدى أبي أو أسرته أي اهتمام حقيقي بالموسيقى، بل كانوا يجهلون هذه الحقيقة . ظنوا أن التعصب، بل والعدائية التي شعروا بها تجاه نوع معين من الموسيقى (الأمر الذي اتضح في الكيفية التي نطقوا بها كلمة «كلاسيكي») أمر يرجع إلى قوة الشخصية واستقامتها والعزم على عدم الانخداع بأي شيء، وكأن الموسيقى التي تصدر عن لحن بسيط تحاول فرض شيء ما على المرء. كان الجميع يعلم ذلك في قرارة أنفسهم، لكن بعض الناس - من باب الغطرسة وافتقارهم للبساطة والأمانة - لا يعترفون أبدا بهذه الحقيقة. ومن هذا التصنع والتعصب المتزعزع ظهرت جميع ألحان الأوركسترا السيمفونية، والأوبرا، والباليه، والحفلات الموسيقية التي أشعرت الناس بالملل.
شعر أغلب الناس في هذه المدينة بنفس الشعور، لكن نظرا لأن جيل لم تنشأ في هذا المكان، فلم تفهم عمق هذا الشعور وإلى أي مدى هو مسلم به. لم يتباه أبي به قط، أو يظهره كفضيلة؛ لأنه لم يهتم بالفضائل. أحب فكرة اشتغال جيل بالموسيقى؛ ليس من أجل الموسيقى في حد ذاتها، بل لأنها جعلتها اختيارا مختلفا، كما هو الحال مع ملابسها وأسلوب حياتها وشعرها الغجري. باختياره لها، أظهر للناس رأيه فيهم، ولأولئك الفتيات اللاتي سعين لإيقاعه في شباكهن رأيه فيهن، ولإيلسا أيضا.
أغلقت جيل أبواب غرفة المعيشة الزجاجية المغطاة بالستائر، وأخذت تعزف بهدوء تام. ولربما لم يصدر أي صوت على الإطلاق. وإذا سمعت إيلسا أي شيء في المطبخ، فقد تظن أن مصدر الصوت من خارج المنزل؛ ربما المذياع عند الجيران.
بدأت جيل، بعد ذلك، في عزف النغمات الموسيقية. ومع أن أصابعها لم تعد منتفخة، فقد شعرت بأنها متيبسة. شعرت بهذا التيبس في جسمها بالكامل. ولم تكن وقفتها طبيعية بشكل كامل؛ إذ شعرت بالآلة الموسيقية معلقة عليها على نحو يوحي بعدم الثقة، لكنها لم تهتم، وعزمت على عزف النغمات الموسيقية الخاصة بها؛ فقد كانت متيقنة من أن هذا الشعور راودها من قبل، بعد إصابتها بالأنفلونزا أو عند شعورها بالتعب الشديد بعد إرهاق نفسها في التمرين أو حتى بدون سبب على الإطلاق.
لكنني في تلك اللحظات استيقظت من النوم دون تذمر من شيء معين ودون سابق إنذار أو مقدمات. بدأ الأمر بصرخة واحدة تبعها هدير من الصرخات التي ملأت المنزل. كانت صرخة لم تشبه أي صرخة أصدرتها من قبل، وكان الأمر أشبه بالتحرر من ألم مؤكد وحزن أنزل عقابه على العالم بوابل من الويلات المرسلة من نفس معذبة.
استيقظت إيونا على الفور، وقد أصابها الرعب للمرة الأولى من ضجة أحدثتها، فصاحت متسائلة: «ما الأمر؟ ما الأمر؟»
هرعت إيلسا لإغلاق النوافذ وهي تصيح: «إنه الكمان! إنه الكمان!» وفتحت بقوة أبواب غرفة المعيشة. «جيل! جيل! هذا مريع حقا. أكثر من مريع. ألم تسمعي طفلتك؟»
جذبت بعنف الستارة التي كانت خلف زجاج نافذة غرفة المعيشة كي تتمكن من إسدالها. كانت تجلس برداء الكيمون لطلاء أظافرها؛ وبينما تحاول إسدالها، لمحها صبي على دراجة بالخارج، ورأى الكيمون المفتوح ليكشف قميصها التحتي.
فقالت: «يا إلهي!» لم يسبق لها من قبل فقدان سيطرتها على نفسها إلى هذا الحد. وأضافت موجهة حديثها لجيل: «هل يمكنك إبعاد هذا الشيء؟»
فأنزلت جيل الكمان من يديها.
وركضت إيلسا إلى الردهة وهي تنادي على إيونا. «إنه يوم الأحد. ألا يمكنك إسكاتها؟»
سارت جيل في صمت وتأن إلى المطبخ، فوجدت هناك السيدة كيركم تقف على قدميها مرتدية الجوارب دون حذاء، وتتشبث بالطاولة.
سألتها: «ما خطب إيلسا؟ ماذا فعلت إيونا؟»
خرجت جيل وجلست على عتبة المنزل الخلفية، ونظرت إلى الجدار الخلفي لمنزل آل شانتس الأبيض البراق وقد انعكست عليه أشعة الشمس. وانتشرت تلك الأفنية والجدران الساخنة للمنازل الأخرى، وبداخلها أشخاص يعرفون بعضهم بعضا جيدا بالشكل والاسم والتاريخ. وعند تجاوز ثلاثة مربعات سكنية شرق هذه البقعة، أو خمسة غربا، أو ستة جنوبا، أو عشرة شمالا، تظهر حدود حقول المحاصيل الصيفية التي نمت عاليا من الأرض، وسيجت حقول القش والقمح والذرة. ففي هذه البلدة بأكملها، لا مجال لاستنشاق الهواء بسبب الرائحة النفاذة للمحاصيل والحظائر والحيوانات المتدافعة التي تمضغ الطعام بأصوات عالية. وعلى مرمى البصر، تبدو مزارع الأشجار كبرك من الظلال تنعم بالسلام وتصلح لأن تكون مأوى، لكنها في الواقع تعج بالحشرات.
كيف يمكنني وصف ما تعنيه الموسيقى لجيل؟ إنها ليست - في نظرها - كالمشاهد الطبيعية والصور الذهنية والمحادثات مع الآخرين، بل هي أقرب للمشكلة التي يجب عليها حلها بحزم وجرأة، وحملتها على عاتقها كمسئوليتها في الحياة. ومن ثم، إذا نزعت منها الأدوات التي تخدمها في حل هذه المشكلة، فسوف تظل المشكلة قائمة كما هي وسيتحملها آخرون، لكنها ستنزع منها فحسب. وكانت هذه العتبة الخلفية والحائط البراق أمامها وصوت صراخي أشبه بالسكين الذي ينزع من حياتها كل شيء لا فائدة منه؛ كل شيء لا فائدة منه لي.
نادتها إيلسا عبر الباب الشبكي: «ادخلي! ما كان ينبغي علي الصراخ فيك. ادخلي الآن! سوف يرانا الناس.»
وعندما حل المساء، كان من الممكن تجاوز هذا الأمر برمته بسلاسة. قالت إيلسا للدكتور شانتس وزوجته: «لا بد أنكما سمعتما الصراخ الذي دوى في المنزل عندنا اليوم.» كانا قد دعاها للجلوس في فناء منزلهم المرصوف، بينما عملت إيونا على تهدئتي كي أنام. «من الواضح أن الطفلة لا تهوى الكمان، ليست كأمها.»
ضحك الجميع، حتى السيدة شانتس. «إنه ذوق مكتسب.»
سمعتهم جيل، أو على الأقل سمعت الضحكات، وتكهنت بما كان يضحكهم. كانت مستلقية في سريرها تقرأ رواية «جسر سان لويس راي» التي أحضرتها لنفسها من خزانة الكتب دون أن تدرك ضرورة الاستئذان من إيلسا أولا. وبين الحين والآخر، فقدت تركيزها وسمعت الضحكات بفناء آل شانتس، ثم تمتمة إيونا بالغرفة المجاورة متعبدة، فأصابها التجهم وتعرق جسدها. ولو أنها في قصة خرافية، لنهضت من الفراش بقوة شابة عملاقة، وهاجت في أرجاء المنزل لتكسر الأثاث والأعناق. •••
عندما بلغت من العمر نحو ستة أسابيع، لزم على إيلسا وإيونا اصطحاب أمهما إلى إحدى الزيارات السنوية لبعض الأقارب بمدينة جويلف لليلة واحدة. وأرادت إيونا اصطحابي، لكن إيلسا استعانت بالدكتور شانتس لإقناعها بأنه ليس من المستحسن اصطحاب طفلة صغيرة في مثل هذه الرحلة في الطقس الحار؛ ومن ثم، فضلت إيونا البقاء في المنزل.
فقالت لها إيلسا: «لا يمكنني القيادة ورعاية أمي في الوقت نفسه.»
وأضافت قائلة إن إيونا صارت متعلقة للغاية بي، وإن رعاية الطفلة مدة يوم ونصف لن يمثل عبئا كبيرا على جيل. «أليس كذلك يا جيل؟»
فصدقت جيل على كلامها.
حاولت إيونا التظاهر بأن رغبتها في البقاء معي ليست هي السبب في موقفها، وإنما يرجع ذلك إلى أنها عندما قادت السيارة في أحد أيام الطقس الحار، أصيبت بالغثيان.
قالت إيلسا: «لا تقودي السيارة؛ ليس عليك سوى الجلوس فيها فحسب. وماذا عني؟ إنني لا أفعل ذلك بغية المتعة، وإنما لأن أقاربنا يتوقعون منا ذلك.»
كان على إيونا الجلوس بالمقعد الخلفي بالسيارة الذي زاد من شعورها بالغثيان حسب قولها، لكن إيلسا قالت إنه ليس من اللائق جعل أمهما تجلس بالخلف. ومع أن السيدة كيركم أوضحت أنها لا تمانع، فإن إيلسا رفضت. أنزلت إيونا زجاج السيارة عندما قامت إيلسا بتشغيل السيارة، وحدقت في نافذة غرفة الطابق العلوي حيث أنزلتني من يدها لأنام بعد حمام الصباح وتناول اللبن الصناعي. لوحت إيلسا لجيل التي وقفت عند الباب الأمامي للمنزل.
وصاحت: «وداعا أيتها الأم الصغيرة!» بصوت مبتهج متحد ذكر جيل قليلا بجورج. ويبدو أن رؤيتها مغادرتهن المنزل، والابتعاد عما انطوى عليه المنزل من خطر الإخلال بالنظام الأسري الذي طرأ مؤخرا، قد رفع من معنويات إيلسا. ولعل عودة إيونا أيضا إلى وضعها الطبيعي قد منح إيلسا شعورا جيدا؛ شعورا بالاطمئنان. •••
غادرت الأسرة المنزل نحو الساعة العاشرة صباحا، وكان هذا اليوم هو الأطول والأسوأ في حياة جيل على الإطلاق؛ حتى إنه لا وجه للمقارنة بينه وبين يوم ميلادي وما شهدته من معاناة أثناء وضعي؛ فقبل أن تصل السيارة إلى البلدة التالية، استيقظت من النوم في حالة سيئة، وكأنني شعرت بابتعاد إيونا عني. كانت إيونا قد أطعمتني قبل ذلك الحين بفترة قصيرة، ما جعل جيل تستبعد احتمالية أن أكون جائعة، لكنها اكتشفت، بعد ذلك، أنني مبتلة. وبالرغم من أنها قد قرأت أنه لا حاجة لتغيير حفاضة الطفل الصغير في كل مرة يبلل فيها نفسه، وأن هذا الأمر لا يكون دائما السبب وراء بكائه ، فقد قررت تغيير الحفاضة لي. لم تكن تلك المرة الأولى التي تفعل فيها ذلك، لكنها لم تفعله بسهولة قط. وكانت إيونا، في الواقع، تتولى الأمر غالبا وتنجزه. أما أنا، فبذلت أقصى ما في وسعي لإفساد الأمر عليها؛ فأخذت أضرب بذراعي وساقي، وحنيت ظهري، وحاولت جاهدة الاستدارة على الجانب الآخر، ولم أنقطع عن الصراخ عاليا بالطبع. ارتجفت يدا جيل، وواجهت صعوبات في إتمام الأمر. تظاهرت بالهدوء، وحاولت التحدث إلي، وتقليد الطريقة التي تتحدث بها إيونا معي وتدليلها إياي، لكن دون جدوى؛ فهذا الرياء غير المتقن أثار حنقي أكثر وأكثر. وبعد تثبيت الحفاضة، حملتني وحاولت وضعي على صدرها وكتفها، لكنني تيبست في مكاني، وكأن جسدها مليء بالإبر المتأججة بالحرارة. فجلست وأخذت تهدهدني، ثم وقفت وأخذت تأرجحني لأعلى ولأسفل. غنت لي كلمات رقيقة لإحدى أغاني الهدهدة، لكنها كلمات مرتعشة ملأها الحنق والغضب اللذان شعرت بهما، بالإضافة إلى ما يمكن وصفه بالاشمئزاز.
كان كل منا أشبه بالوحش في نظر الأخرى.
وأخيرا، وضعتني في الفراش برفق يفوق ما كانت ترغب فيه، وهدأت لأنني بذلك سأتخلص منها. فخرجت من الغرفة على أطراف أصابعها، ولم يمض وقت طويل حتى بدأت في البكاء مجددا.
واستمر الأمر على هذا الحال. ما كنت أواصل البكاء، لكنني كنت أستريح قليلا بين الحين والآخر دقيقتين أو خمس أو عشر دقائق أو عشرين دقيقة. وعندما حان وقت تقديمها زجاجة اللبن لي، قبلتها منها، واستلقيت على ذراعها متصلبة، أتنفس بصوت مسموع تحذيري أثناء شربي اللبن. وعندما فرغت من شرب نصف الزجاجة، عدت إلى مضايقتي لها. وانتهيت، أخيرا، من شرب الزجاجة بأكملها بذهن شارد، مع مواصلة النواح طوال الوقت. غلبني النعاس، وأنزلتني جيل من يديها، ونزلت بخطى خافتة على السلم؛ وقفت في الردهة وكأنها تحدد سبيلا آمنا للمضي فيه. تعرق جسدها جراء المحنة التي كانت تواجهها، بالإضافة إلى الطقس الحار لذلك اليوم. تحركت وسط هذا الهدوء الثمين الذي كان من السهل القضاء عليه في أي لحظة، نحو المطبخ، وأقدمت على وضع إبريق القهوة على الموقد .
وقبل الانتهاء من إعدادها، أنزلت صرخاتي المدوية كالصاعقة فوق رأسها.
فأدركت نسيانها شيئا ما؛ ألا وهو جعلي أتجشأ بعد شرب اللبن. فصعدت السلم ثابتة العزم، وحملتني، وسارت بي وهي تربت على ظهري المنتفض من الغضب وتدلكه. وبعد فترة، تجشأت، لكنني لم أتوقف عن البكاء، فاستسلمت للأمر، وأنزلتني من يدها.
ما الذي يجعل بكاء الطفل الرضيع بهذا القدر من القوة؟ ما الذي يجعله قادرا على القضاء على النظام الذي يعول المرء عليه، سواء داخل نفسه أو خارجها؟ إنه أشبه بالعاصفة؛ عاصفة شديدة هوجاء، لكنها صادقة وغير مصطنعة في الوقت ذاته. إنه بكاء تأنيبي أكثر منه توسليا، وينتج عن غضب يصعب التعامل معه، غضب يحق للطفل عند الولادة ولا مكان فيه للحب أو الشفقة، وبإمكانه سحق مخك داخل الجمجمة.
كل ما كان بإمكان جيل فعله هو التجول في أرجاء المكان، إلى أعلى وإلى أسفل على سجادة غرفة المعيشة، وحول مائدة الطعام، وخروجا إلى المطبخ حيث توضح لها الساعة مدى البطء الذي يمر به الوقت. لم تستطع الثبات في مكان واحد لتحصل على أكثر من رشفة واحدة من القهوة. وعندما أصابها الجوع، لم تستطع التوقف لإعداد شطيرة لنفسها، وإنما أخذت تأكل رقائق الذرة من بين يديها، مخلفة آثارا وراءها في جميع أنحاء المنزل. الأكل والشرب وفعل أي شيء عادي آخر بدا خطرا كفعله على قارب صغير وسط عاصفة هوجاء أو في منزل تنهار أعمدته بفعل رياح عاتية. لا يمكن للمرء في هذه الحالة تحويل انتباهه عن العاصفة، وإلا فسوف تطيح بآخر وسائله الدفاعية. وسعيا منه للحفاظ على قواه العقلية، يحاول التركيز على بعض التفاصيل الهادئة من حوله، لكن دوي صوت الرياح - أو بالأحرى دوي صرخاتي - قادر على أن يسكن في أي وسادة أو رسم على السجادة أو دوامة صغيرة في زجاج النافذة. فلا هروب مني.
كان المنزل مغلقا بالكامل. انتقل بعض من شعور الخزي الذي راود إيلسا إلى جيل، أو لعلها تمكنت من خلق شعور الخزي الخاص بها. أم لا تستطيع تهدئة طفلتها ، يا له من أمر مخز؟ أبقت على الأبواب والنوافذ مغلقة. ولم تدر المروحة لأنها في الواقع نسيت وجودها؛ فلم تعد تفكر في الراحة الواقعية. لم تفكر أن يوم الأحد في هذا الأسبوع هو أحد أيام الصيف الأكثر حرارة، وربما يكون هذا سبب انزعاجي. أي أم متمرسة وتتمتع بغريزة الأمومة كانت ستوفر لي بعض التهوية بالتأكيد، بدلا من إعطائي أسباب الغضب على هذا النحو. أي أم متمرسة كانت ستفكر في الحر المثير للضيق، بدلا من اليأس التام.
وفي وقت ما بعد ظهيرة ذلك اليوم، اتخذت جيل قرارا أحمق، أو لعله كان بائسا فحسب؛ فلم تغادر المنزل وتتركني بداخله، وإنما نظرا لأنها رأت نفسها حبيسة المنزل بسببي، فكرت في خلق مساحة لنفسها كمهرب لها داخل المنزل. أخرجت الكمان، الذي لم تلمسه منذ اليوم الذي حاولت العزف فيه عليه، وحولته إيلسا وإيونا إلى أضحوكة في الأسرة. لم يستطع عزفها إيقاظي؛ لأنني كنت مستيقظة بالفعل، وما كان بإمكانه أيضا إثارة غضبي على نحو يفوق ما كنت عليه بالفعل.
أسدت إلي معروفا بطريقة ما؛ إذ توقفت عن محاولة تهدئتي الزائفة، والتظاهر بغناء أغاني الهدهدة أو الاهتمام بآلام بطني، وملاعبتي لاكتشاف ما يزعجني. وعقدت العزم، بدلا من ذلك، على عزف مقطوعة كونشرتو مندلسون للكمان، وهي المقطوعة التي عزفتها في حفلها الموسيقي، وعليها عزفها مرة أخرى في الاختبار الذي سيؤهلها للحصول على شهادة التخرج.
اختارت جيل مقطوعة ماندلسون بدلا من كونشترو بيتهوفن للكمان التي أكنت لها شغفا أكبر؛ لأنها كانت تعتقد أن مقطوعة ماندلسون ستمنحها درجات أعلى، وأن بإمكانها إتقانها - وقد أتقنتها بالفعل - على نحو أكبر. كذلك فإنها كانت موقنة من أنها ستؤدي عرضا مذهلا وتبهر الممتحنين دون أدنى خوف من حدوث أي كارثة أثناء العزف. وقد توصلت إلى أن ذلك لم يكن بالعمل الذي سيزعجها طوال حياتها؛ فهو ليس بالشيء الذي ستبذل فيه الجهد وتحاول إثبات نفسها فيه إلى الأبد.
سوف تعزف فحسب.
أخذت تعزف بعض الألحان، وحاولت تجاهل صوتي. علمت أن جسمها يعاني من التيبس ، لكنها مستعدة هذه المرة للعزف. توقعت أن تقل مشكلاتها عند انهماكها في الموسيقى.
بدأت في العزف، واستمرت حتى نهاية المقطوعة. وكان عزفها بشعا يعذب أذن من يسمعه، لكنها استمرت في العزف، معتقدة أن الأداء سيتغير بالتأكيد، وأن بإمكانها تغييره، لكنها لم تستطع. فكان كل شيء دون المستوى؛ عزفها سيئ للغاية مثل عزف جاك بيني في إحدى محاكاته الساخرة الجريئة، والكمان كالذي نزل به السحر، فصار يكرهها ويرد عليها بألحان مشوهة ومشاكسة لكل لحن تحاول عزفه. ما من شيء أسوأ من ذلك يمكن أن يحدث لها؛ إنه أسوأ من نظرها في المرآة ورؤيتها لوجهها، الذي يعول على جماله، وقد نحل وبدا عليه الإرهاق وينظر إليها شزرا. كان ذلك أشبه بالخدعة التي لا يمكنها تصديقها، فتحاول دحضها بالنظر بعيدا ثم معاودة النظر في المرآة مرارا وتكرارا. وعلى النحو ذاته، استمرت في العزف في محاولة لدحض الخدعة التي تواجهها، لكن دون جدوى؛ فعزفها يزداد سوءا، وتتساقط قطرات العرق على وجهها وذراعيها وجانبي جسدها، وتنزلق يدها عن الكمان. باختصار، لم يكن هناك حد أقصى لسوء عزفها.
لقد قضي عليها تماما. والمقطوعة التي أتقنتها إتقانا تاما قبل ذلك الحين بعدة أشهر ولم يعد بها أي شيء يصعب عليها أو يتطلب حذرها، قضت عليها تماما الآن، ورأت نفسها فيها شخصية سلبت ونهبت ودمرت بين عشية وضحاها.
لكنها لم تستسلم، وعزفت على أسوأ نحو ممكن. ففي هذه الحالة من الإحباط، بدأت تعزف مجددا، لكنها هذه المرة ستحاول عزف مقطوعة بيتهوفن. وبالطبع، لم يجد ذلك نفعا، بل زاد الأمر سوءا. وبدت وكأنها تنتحب، بل وتموج كالبحر الهائج من الداخل. أنزلت القوس والكمان من يدها على أريكة غرفة المعيشة، ثم التقطتهما وزجت بهما تحت الأريكة لتبعدهما عن نظرها؛ لأنها تصورت نفسها تحطمهما على ظهر أحد الكراسي في عرض درامي يثير الغثيان.
لم أتوقف عن البكاء طوال هذا الوقت، وما كنت لأفعل ذلك في مواجهة هذه المنافسة.
استلقت جيل على الأريكة غير الوثيرة المغطاة ببياضات مطرزة ذات لون أزرق فاتح ، حيث لا يستلقي أو يجلس أحد إلا عند استقبال الضيوف. وغطت في النوم فعليا. استيقظت بعد فترة لا تعلمها، ووجهها الساخن في مواجهة بياضات الأريكة المطرزة التي طبعت رسومها على وجنتها. سال بعض من لعابها على الأريكة ولطخ البياضات. استمرت الضجة التي أحدثتها، تارة عالية وتارة منخفضة كالصداع الذي على هيئة دقات مطرقة. أصيبت جيل أيضا بالصداع. نهضت وشقت طريقها بصعوبة - هكذا بدا الأمر - وسط الهواء الساخن وصولا إلى خزانة المطبخ حيث احتفظت إيلسا بالمسكن. ذكرها الهواء الخانق بالمجاري. ولم لا؟ فبينما كانت نائمة، لوثت حفاضتي، وملأت رائحتها الكريهة المنزل بمرور الوقت.
تناولت المسكن، ودفأت زجاجة لبن أخرى، ثم صعدت السلم. غيرت حفاضتي دون أن ترفعني من المهد. كانت الملاءة والحفاضة متسختين تماما. لم يحدث المسكن تأثيرا بعد، وازداد الصداع حدة أثناء انحنائها. أزالت الأوساخ، ونظفت أجزاء جسمي الملتهبة، ووضعت لي حفاضة جديدة، ثم أخذت الحفاضة والملاءة المتسختين إلى دورة المياه لتنظفهما في المرحاض، فوضعتهما في الدلو المحتوي على المطهر، الذي امتلأ عن آخره بالفعل بسبب عدم غسل ملابس الطفلة كالمعتاد ذلك اليوم. وبعد ذلك، عادت إلي حاملة الزجاجة. هدأت مرة أخرى كي أرتشف اللبن من الزجاجة، وكان من العجيب أن تظل لدي الطاقة لفعل ذلك، لكن هذا ما حدث؛ فقد تأخرت الرضعة أكثر من ساعة عن موعدها، وشعرت بجوع حقيقي يمكنني إضافته إلى شكاواي المتعددة؛ أو ربما هزم هذا الجوع كل تلك الشكاوى. انتهيت من شرب اللبن، وأنهيت الزجاجة، ثم غلبني النعاس نظرا لما كنت أشعر به من إنهاك. وهذه المرة، استغرقت في النوم.
خف الصداع الذي شعرت به جيل، فغسلت الحفاضات والقمصان والثياب والملاءات الخاصة بي، وهي تترنح. دعكتها وشطفتها، بل وغلت الحفاضات أيضا كي لا أصاب بالطفح الجلدي الناتج عن ارتداء الحفاضات. عصرتها بيديها ونشرتها داخل المنزل؛ لأن اليوم التالي هو يوم الأحد، ولن ترغب إيلسا عند عودتها في رؤية أي شيء منشور بالخارج يوم الأحد. علاوة على ذلك، فضلت جيل عدم الظهور بالخارج، لا سيما الآن وقد اشتدت حلكة الليل وخرج الناس للجلوس خارج منازلهم للاستمتاع بانخفاض درجة الحرارة؛ فقد خشيت من رؤية الجيران لها، بل ومن تحية آل شانتس الودودين لها أيضا، بعدما سمعوه بالتأكيد اليوم.
مر هذا اليوم ببطء شديد، استغرق وقتا طويلا كي ينتهي، ويخبو ضوء الشمس الكاسح، وتختفي الظلال الممتدة وتفسح الحرارة الشديدة المجال لبعض النسيم البارد اللطيف. وفجأة ظهرت مجموعات من النجوم في السماء، وبدت الأشجار وكأنها تزداد حجما كالسحب في السماء، وتضفي سلاما على الأرجاء، لكن ذلك لم يستمر طويلا، ولم تشعر به جيل. فقبل انتصاف الليل، علا صوت بكاء ضعيف. لم يكن بكاء مترددا، لكنه ضعيف على الأقل أو تجريبي، كأنني فقدت مهارتي بالرغم من ممارستي البكاء طوال اليوم، أو كأنني أتساءل عما إذا كان الأمر يستحق فعلا ما أبذله من مجهود. لأنعم إذن ببعض الراحة، أو الاستجمام المزيف، أو الاستسلام، لكنني واصلت البكاء بعد ذلك بكل قوتي وعلى نحو معذب وبلا شفقة. كان ذلك عندما بدأت جيل في إعداد المزيد من القهوة لتتخلص من آثار الصداع التي لا تزال تشعر بها، وتصورت تلك المرة أنها قد تستطيع الجلوس إلى المائدة واحتساء القهوة.
وعند سماعها البكاء، أطفأت الموقد.
حان موعد احتساء زجاجة اللبن الأخيرة لذلك اليوم. وإن لم تتأخر الرضعة السابقة، لكنت مستعدة الآن لتناول هذه الرضعة. وربما أكون مستعدة بالفعل. وحين قامت جيل بتدفئة الزجاجة، فكرت في الحصول على المزيد من حبوب المسكن، ثم فكرت أن هذا قد لا يفي بالغرض وأنها بحاجة لشيء ما أقوى؛ لذا قصدت خزانة دورة المياه، لكنها لم تجد فيها سوى عقار بيبتو بيسمول، وملينات، وبودرة للقدمين، وعقاقير لا تؤخذ إلا بإذن الطبيب ما كانت لتلمسها، لكنها كانت تعلم أن إيلسا تأخذ عقارا قويا لآلام الطمث، فذهبت إلى غرفتها، وبحثت في أدراج مكتبها حتى وجدت زجاجة من حبوب تسكين الآلام فوق كومة من الفوط الصحية؛ الأمر الذي بدا منطقيا. كانت حبوبا لا تؤخذ أيضا إلا بأمر الطبيب، لكن الملصق الموجود عليها يشير إلى ما تستخدم لعلاجه بوضوح. أخذت حبتين، وعادت إلى المطبخ لتجد الماء في الوعاء حول زجاجة اللبن قد بدأ في الغليان، وصار اللبن ساخنا للغاية.
أمسكت بالزجاجة تحت مياه الصنبور لتبريدها، وصرخاتي تنزل عليها كضجيج الطيور الجارحة فوق نهر هائج. نظرت إلى حبتي المسكن اللتين وضعتهما على الطاولة، وأخذت تفكر حتى توصلت في النهاية إلى فكرة معينة. أخرجت السكين، وكشطت جزءا من إحدى الحبتين، ثم نزعت حلمة الزجاجة، والتقطت ما كشطته من حبة الدواء على نصل السكين، ونثرته كالتراب الأبيض فوق اللبن، ثم بلعت الحبة الأخرى وما تبقى من الحبة التي كشطتها، وصعدت بالزجاجة إلى أعلى. رفعت جسدي الجامد على الفور من المهد، ووضعت الحلمة في فمي المليء بالاتهامات. كان اللبن لا يزال دافئا على نحو لم يرق لي. ومع أول رشفة، أخرجته من فمي، لكنني بعد ذلك أحببت مذاقه وقررت أن أبتلعه بالكامل. •••
إيونا تصرخ. جيل تستيقظ من النوم وقد ملأت المنزل أشعة الشمس الحارقة وصرخات إيونا.
كان من المخطط أن تزور إيلسا وإيونا وأمهما أقاربهم في مدينة جويلف حتى وقت متأخر من فترة بعد الظهيرة كي يتجنبن قيادة السيارة أثناء حرارة النهار، لكن ما حدث هو أن إيونا بعد تناول الفطور أخذت تثير ضجة؛ فقد أرادت العودة إلى المنزل من أجل الطفلة، وقالت إنها لم تستطع النوم طوال الليل من القلق. وكان من المحرج الاستمرار في الجدال معها أمام الأقارب؛ ومن ثم، استسلمت إيلسا لها، ووصل الثلاثة إلى المنزل في وقت متأخر من الصباح، وفتحن باب المنزل ليجدن الهدوء قد خيم عليه.
قالت إيلسا: «أف! هل هذه رائحة المنزل دوما؟ أم أننا اعتدنا عليها لدرجة حالت دون ملاحظتنا لها؟»
مرت إيونا مطأطئة رأسها بجوارها، وصعدت السلم.
ودوت صرخاتها. «ماتت! ماتت! قاتلة!»
لم تعلم شيئا عن الحبوب، لماذا إذن تصرخ «قاتلة»؟! البطانية هي السبب؛ فقد رأتها تغطي رأسي؛ لذا، فإنها تتحدث عن اختناق، وليس تسمم. وفي أقل من نصف ثانية، تحول رد فعلها من «ماتت» إلى «قاتلة». يا له من تحول سريع! رفعتني من المهد وبطانية الموت ملفوفة حولي، ثم حملت هذه الصرة الملفوفة في البطانية ودفعتها نحو جسدها، ثم ركضت وهي تصرخ إلى خارج الغرفة لتدخل غرفة جيل.
استيقظت جيل بصعوبة - كأنها تحت تأثير مخدر - بعد اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة ساعة من النوم.
صرخت إيونا في وجهها: «لقد قتلت طفلتي.»
لم تصحح جيل ما قالته إيونا؛ فلم تقل لها «بل طفلتي.» مدت إيونا يدها التي تحملني إلى الأمام على نحو اتهامي لتريني لجيل، لكن قبل أن تتمكن جيل من إلقاء أي نظرة علي، انتزعتني إليها مجددا. أنت إيونا وانحنت للأمام في ألم كأنها ضربت بالرصاص في بطنها. ظلت تحملني بين يديها وهي تنزل متعثرة على السلم حتى اصطدمت بإيلسا التي كانت في طريقها إلى أعلى. وكانت إيلسا في حالة ذهول تام؛ تعلقت بدرابزين السلم، ولم تنتبه لها إيونا؛ فيبدو أنها كانت تحاول دفع تلك الصرة - التي أنا بداخلها - في فجوة جديدة مخيفة وسط جسدها. وخرجت منها كلمات وسط التأوهات المترتبة على إدراكها الحديث لما حدث. «طفلتي. الحبيبة. العزيزة. آه. يا ويلتي! خنقتك. بالغطاء. الطفلة. الشرطة!»
كانت جيل قد نامت بدون غطاء عليها ودون تغيير ملابسها وارتداء رداء النوم؛ ومن ثم، كانت لا تزال ترتدي السروال القصير والقميص عاري الظهر والذراعين اللذين ارتدتهما بالأمس. ولما استيقظت، لم تكن متأكدة مما إذا كانت قد استيقظت من النوم ليلا أم من قيلولة في وسط النهار. لم تكن متأكدة أيضا من المكان الذي توجد فيه أو حتى أي يوم هو ذا. ماذا قالت إيونا؟ تلمست جيل طريقها من تحت غطاء صوفي دافئ، وهي ترى - دون أن تسمع - صرخات إيونا التي كانت أشبه بالومضات الحمراء أو العروق الساخنة في جفنيها. تعلقت برفاهية عدم الحاجة للفهم، لكنها أدركت حينذاك أنها فهمت ما يحدث، وأن كل ذلك يتعلق بي.
لكن جيل اعتقدت أن إيونا مخطئة؛ فقد وصلت إلى الجزء الخاطئ من الحلم؛ فهذا الجزء قد انقضى تماما.
والطفلة بخير. لقد اعتنت بها جيل. خرجت ووجدتها ودثرتها في مهدها. وكل شيء على ما يرام.
في الردهة أسفل السلم، أخذت إيونا تصيح بكل ما أوتيت من قوة ببعض الكلمات في عبارة كاملة: «لقد سحبت الغطاء على رأس الطفلة بالكامل، وخنقتها.»
نزلت إيلسا من على السلم مستندة إلى الدرابزين.
وقالت لإيونا: «فلتنزليها! أنزليها من يديك!»
فحضنتني إيونا بقوة وتأوهت، ثم حملتني إلى الأمام لتريني لإيلسا، وقالت لها: «انظري! انظري!»
أشاحت إيلسا برأسها جانبا، وقالت: «لن أنظر إليها.» فاقتربت منها إيونا لتدفعني في وجهها. كنت لا أزال ملفوفة بالكامل في الغطاء، لكن إيلسا لم تعلم ذلك، وإيونا لم تلاحظ أيضا أو لم تهتم.
والآن، صارت إيلسا هي التي تصرخ. ركضت إلى الجانب الآخر من مائدة الطعام وهي تصرخ: «أنزليها من يديك، أنزليها! لن أنظر إلى الجثة!»
دخلت السيدة كيركم من المطبخ، وهي تقول: «ما خطبكما أيها الفتاتان؟ لا أستطيع تحمل ذلك.»
فقالت إيونا: «انظري.» تجاهلت إيلسا واستدارت حول المائدة لتريني إلى أمها.
بينما ذهبت إيلسا تجاه الهاتف في الردهة وأعطت عامل التشغيل رقم الدكتور شانتس.
فقالت السيدة كيركم وهي تزيح الغطاء بقوة: «يا إلهي، الطفلة!»
فقالت إيونا: «لقد خنقتها.»
وردت السيدة كيركم: «يا إلهي!»
تحدثت إيلسا مع الدكتور شانتس عبر الهاتف. قالت له بصوت مرتجف أن يحضر إلى المنزل على الفور. وبعد أن أنهت المكالمة، نظرت إلى إيونا، وأخذت تتنفس بسرعة شديدة لتستعيد توازنها، وقالت: «والآن، كفي عن الصراخ.»
فصرخت إيونا صرخة عالية في تحد، وركضت مبتعدة عنها عبر الردهة وصولا إلى غرفة المعيشة. كانت لا تزال متشبثة بي.
وظهرت جيل أعلى السلم، ولمحتها إيلسا.
وقالت لها: «انزلي هنا.»
لم تكن لديها أي فكرة عما ستفعله مع جيل أو ما ستقوله لها عند نزولها من أعلى. بدت وكأنها ترغب في صفعها، لكنها قالت: «لا فائدة الآن من أي تصرف هستيري.»
التف قميص جيل جزئيا حول جسدها، وتدلى جزء كبير من أحد ثدييها منه.
قالت لها إيلسا: «هندمي نفسك. هل نمت بملابسك؟ تبدين مخمورة.»
شعرت جيل بأنها لا تزال تسير في ضوء الثلوج التي رأتها في حلمها، لكن هؤلاء المخبولات اقتحمن الحلم.
تمكنت إيلسا الآن من التفكير في بعض الأمور التي ينبغي فعلها. أيا كان ما حدث، فلن تكون هناك جريمة قتل؛ فالأطفال يموتون دون سبب أثناء النوم، فقد قرأت عن ذلك من قبل. ولن تكون هناك شرطة، أو تشريح؛ مجرد جنازة بسيطة هادئة وحزينة. لكن العقبة الوحيدة هي إيونا. يمكن أن يعطي الدكتور شانتس إيونا حقنة الآن لتنام، لكنه لن يستطيع إعطاءها حقنة كل يوم.
الحل إذن هو إيداع إيونا مستشفى مورسفيل؛ وهو مستشفى للمجانين كان يسمى في السابق مصحة الأمراض العقلية، وسيسمى فيما بعد مستشفى الأمراض النفسية، ثم وحدة الصحة العقلية، لكن معظم الناس يطلقون عليه مورسفيل فقط، نسبة إلى القرية القريبة منه.
كان الناس يقولون إن فلانا سيذهب إلى مورسفيل، أو لقد أرسلوها إلى مورسفيل، أو استمري على هذا النحو وسوف ينتهي بك الحال في مورسفيل.
سبق لإيونا الذهاب إلى مورسفيل بالفعل، ويمكنها العودة إليه. يمكن للدكتور شانتس إيداعها وتركها هناك حتى يبت في شأن إمكانية خروجها منه. سيقال إنها تأثرت بوفاة الطفلة وسيطرت عليها الأوهام. وعندما يثبت ذلك، لن تمثل تهديدا، ولن يلقي أحد بالا لما تقوله. سوف يقال إنها مصابة بانهيار عصبي، وفيما يبدو ربما يكون هذا هو ما حدث في الواقع؛ فربما تكون في طريقها للانهيار العصبي بالفعل، بالوضع في الاعتبار كل هذا الصراخ والركض في أرجاء المنزل. وربما لا تكون الحالة مؤقتة وتستمر معها، وربما لا يحدث ذلك، ولكن، تتوافر كافة أنواع العلاج الآن؛ سوف تهدئ الأدوية من روعها، وعلاج الصدمات أيضا - إن كان الأفضل في علاجها - قد يساعد في محو بعض الذكريات. وهناك كذلك العمليات الجراحية التي تجرى عند الضرورة للأشخاص الذين يعانون من حالات عضال من الاضطراب والبؤس، لكنهم لا يجرون مثل هذه العمليات في مورسفيل، وإنما يرسلون المريض إلى المدينة.
وفي كل تلك الأمور، التي تبادرت إلى ذهنها في لحظة واحدة، ستعتمد إيلسا على الدكتور شانتس، وعلى عدم فضوله عند تقديم المساعدة ورغبته في أن تسير الأمور كما تريد، لكن ذلك ليس صعبا على أي شخص يعلم ما مرت به في حياتها، وما بذلته في سبيل جعل تلك الأسرة جديرة بالاحترام، والمصائب التي تعرضت لها؛ بدءا من أعمال أبيها المشبوهة واضطرابات أمها العقلية، وصولا إلى انهيار إيونا العصبي في كلية التمريض وذهاب جورج إلى الحرب التي لقي فيها حتفه. فهل تستحق إيلسا التعرض لفضيحة أخرى؛ فضيحة تنشرها الصحف، ومحاكمة، وربما أيضا إيداع زوجة أخيها السجن؟
سيستنكر الدكتور شانتس ويرى أنها لا تستحق ذلك؛ ليس فقط لأنه يستطيع عد هذه الأسباب مما لاحظه باعتباره جارا تربطه علاقات ودية مع الأسرة، وليس فقط لأن بإمكانه تقدير فكرة أن الناس الذين يعيشون بدون احترام يشعرون بالفتور في حياتهم آجلا أو عاجلا.
وإنما الأسباب التي دفعته لمساعدة إيلسا انعكست جميعها في صوته أثناء مجيئه راكضا من الباب الخلفي في تلك اللحظة، عبر المطبخ، مناديا اسمها.
قالت جيل التي صارت الآن أسفل السلم: «الطفلة بخير.»
فقالت لها إيلسا: «اصمتي تماما حتى أخبرك بما يتعين عليك قوله.»
وقفت السيدة كيركم في مدخل الباب بين المطبخ والردهة، في طريق الدكتور شانتس.
قالت له: «كم أنا سعيدة برؤيتك. إيلسا وإيونا غاضبتان ويتعاركان. وجدت إيونا طفلة على باب البيت، وتقول الآن إنها ميتة.»
أمسك الدكتور شانتس بالسيدة كيركم، وأزاحها جانبا، وقال مجددا: «إيلسا؟» ومد ذراعيه أمامه، لكن انتهى به الحال واضعا يديه بقوة على كتفيها.
خرجت إيونا من غرفة المعيشة خاوية الوفاض.
سألتها جيل: «ماذا فعلت بالطفلة؟»
فأجابتها إيونا بوقاحة: «خبأتها.» وعبست في وجهها على النحو الذي يعبس به شخص خائف ليتظاهر بالشر.
قالت إيلسا: «سوف يعطيك الدكتور شانتس حقنة؛ وسوف يضع ذلك حدا لتصرفاتك.»
تلا ذلك مشهد عبثي ركضت فيه إيونا في الأرجاء، مندفعة نحو الباب الأمامي، وقفزت إيلسا لتقف في طريقها، ثم صعدت إيونا الدرج، وهناك أمسك بها الدكتور شانتس، وجعلها في قبضته ممسكا بذراعيها وهو يقول: «والآن يا إيونا، فلتهدئي! ستصبحين بخير بعد قليل.» فصرخت إيونا ، وتأوهت، ثم هدأت. الضجيج الذي أحدثته، وانطلاقها في كل مكان، وجهودها للهرب؛ كل ذلك بدا مصطنعا زائفا. يبدو أنها - بالرغم من حيرتها وقلة حيلتها - رأت أن مجابهة إيلسا والدكتور شانتس تكاد تكون مستحيلة؛ ومن ثم لا يسعها سوى تدبر أمرها عن طريق هذه التمثيلية التهكمية، التي أوضحت أنها لا تجابههما على الإطلاق، وإنما تتداعى أمامهما. وربما كان هذا غرضها في الحقيقة. تداعت على نحو محرج وغير لائق على الإطلاق، ما جعل إيلسا تصرخ فيها: «ينبغي عليك الاشمئزاز من نفسك.»
وعند إعطائها الحقنة، قال الدكتور شانتس: «أحسنت يا إيونا! لقد انتهينا.»
وقال لإيلسا التي كانت تقف وراءه: «اعتن بأمك. دعيها تسترح.»
مسحت السيدة كيركم دموعها بأصابعها. قالت لإيلسا: «أنا بخير يا عزيزتي. كنت أتمنى فقط ألا تتعاركا معا، وكان عليك إخباري بأن إيونا قد أنجبت طفلة، كما كان عليك مساعدتها في الحفاظ على رضيعتها.»
دخلت السيدة شانتس - التي كانت حينها ترتدي كيمونو يابانيا فوق منامة صيفية - إلى المنزل من باب المطبخ.
وسألت: «هل الجميع بخير؟»
رأت في تلك اللحظة سكينا على طاولة المطبخ، واعتقدت أنه من الحكمة إبعاده في أحد الأدراج؛ فعندما يكون هناك عراك، يكون السكين آخر شيء يود المرء رؤيته في المتناول.
وسط كل ذلك، اعتقدت جيل أنها سمعت صوت بكاء خافتا، فنزلت السلم متعثرة استنادا على الدرابزين لتفادي إيونا والدكتور شانتس - وكانت قد ركضت، بعد أن نزلت، على الدرج في طريقها لأعلى عندما رأت إيونا تركض في الاتجاه نفسه - ثم جلست على الأرض. ولما نهضت، عبرت البابين المزدوجين وصولا إلى غرفة المعيشة، حيث لم تر في البداية أي أثر لي، لكن البكاء الخافت تكرر، فاتبعت الصوت حتى وصلت إلى الأريكة، ونظرت تحتها.
وهناك وجدتني بجانب الكمان.
أثناء تلك الرحلة القصيرة من الردهة إلى غرفة المعيشة، تذكرت جيل كل شيء، فبدا الأمر وكأن أنفاسها توقفت، ولجم الرعب فمها، ثم عادت للحياة بومضة سعادة وفرح؛ وذلك عندما عثرت على الطفلة حية - كما حدث بالضبط في الحلم - وليست جثة صغيرة هامدة برأس متصلب. حملتني، ولم أصلب جسدي أو أركل بقدمي أو أحن ظهري، فلا أزال أغط في نوم عميق بسبب المسكن الذي وضع في اللبن وأفقدني الوعي ليلة كاملة ونصف اليوم التالي، والذي لو زادت كميته - قليلا - عما حصلت عليه، لقضى علي تماما. •••
لم يكن الغطاء هو السبب على الإطلاق؛ فلو ألقى أي أحد نظرة جادة عليه لرأى أنه خفيف للغاية وليس منسوجا بغرز ضيقة تمنع عني الهواء الذي أحتاج إليه لأعيش؛ فكان يمكن التنفس عبر غرزه على القدر نفسه من سهولة التنفس عبر شبكة صيد السمك.
لعل الإرهاق لعب دورا في الحالة التي أصبت بها، فربما يكون قضاء يوم كامل في الصياح، وكأنني أحاول إثبات ذاتي بغضب وصخب، قد أنهك قواي. هذا فضلا عن المسحوق الأبيض الذي وضع في اللبن الذي شربته، وأدخلني في سبات عميق لم أحرك فيه ساكنا وجعلني أتنفس برقة شديدة دفعت إيونا لعدم ملاحظة أنفاسي. ولعل ما يتبادر إلى الذهن الآن هو أن إيونا كان من المفترض أن تلاحظ أن جسمي ليس باردا، وأن كل هذا النواح والبكاء والركض من المفترض أن يعيدني إلى وعيي سريعا، لكنني لا أعلم لماذا لم يحدث ذلك. أعتقد أن إيونا لم تلحظ ذلك بسبب هلعها، والحالة التي انتابتها حتى قبل أن تعثر علي. أما سبب عدم بكائي في وقت مبكر عن ذلك، فأجهله، أو لعلني بكيت، لكن لم يسمعني أحد وسط الهرج والمرج الذي ساد المكان، أو لعل إيونا سمعتني، ونظرت إلي، ثم وضعتني تحت الأريكة؛ لأن بحلول هذا الوقت كان الاضطراب قد حدث بالفعل.
وبعد ذلك سمعتني جيل. كانت جيل هي من عثرت علي وسمعت بكائي.
حملت إيونا إلى نفس الأريكة، ونزعت إيلسا حذاءها للحفاظ على بياضات الأريكة المطرزة، وصعدت السيدة شانتس لأعلى لإحضار غطاء خفيف لوضعه عليها.
قالت: «أعلم أنها لا تحتاج إليه للتدفئة، لكنني أظن أنها ستشعر بتحسن عندما تجده عليها عندما تستيقظ.»
قبل كل ذلك، بالطبع، تجمع الجميع حولي للتأكد من أنني حية، ولامت إيلسا نفسها لعدم اكتشافها ذلك على الفور، وكرهت الاعتراف بأنها كانت خائفة من النظر إلى طفلة ميتة.
قالت: «لا بد أن عصبية إيونا أمر معد. كان ينبغي علي ملاحظة ذلك بالتأكيد.»
نظرت إلى جيل وكأنها على وشك إخبارها بأن تذهب وترتدي بلوزة فوق قميصها العاري، ثم تذكرت القسوة التي تحدثت بها معها، ولم يكن معها حق فيها كما اتضح بعد ذلك؛ ومن ثم، لم تقل لها أي شيء. لم تحاول حتى إقناع أمها بأن إيونا لم تنجب طفلة، لكنها قالت للسيدة شانتس بصوت خافت: «حسنا، لعلها شائعة القرن.»
قالت السيدة كيركم: «إنني في قمة سعادتي لعدم حدوث أي كارثة؛ فقد اعتقدت للحظة أن إيونا قد تخلصت من الطفلة. حاولي ألا تلومي أختك يا إيلسا.»
فقالت لها إيلسا: «لن أفعل يا أمي. تعالي لنجلس في المطبخ.»
كانت هناك زجاجة من اللبن معدة بالمطبخ، وكان من المفترض أن أتناولها في وقت مبكر من ذلك الصباح. وضعتها جيل على الموقد لتسخنها، وحملتني على ذراعها طوال الوقت.
بحثت على الفور عن السكين عند دخولها المطبخ، وتعجبت من عدم وجودها هناك، لكنها تمكنت من مسح الآثار الطفيفة للمسحوق المكشوط من حبة الدواء من على الطاولة؛ أو ظنت أنها مسحتها. مسحتها بيدها التي لا تحملني بها قبل أن تفتح الصنبور للحصول على الماء لتسخين الزجاجة.
شغلت السيدة شانتس نفسها بإعداد القهوة. وإلى أن تعد، وضعت جهاز تعقيم الرضعات على الموقد، وغسلت زجاجات اللبن التي شربتها اليوم السابق. اتسمت باللباقة والكفاءة، وتمكنت من إخفاء حقيقة أن ثمة شيئا ما في كل هذه الفوضى واضطراب المشاعر يجعلها تشعر بالسعادة والثقة.
قالت: «أظن أن إيونا مهووسة بالطفلة؛ وشيء كهذا كان لا بد أن يحدث.»
وباستدارتها عن الموقد لتوجه آخر هذه الكلمات إلى زوجها وإيلسا، رأت الدكتور شانتس وهو ينزل يدي إيلسا اللتين وضعتهما على جانبي رأسها، ثم يبعد يديه سريعا على نحو يوحي بشعوره بالذنب. ولو لم يفعل ذلك، لبدا الأمر وكأنه محاولة عادية لتهدئة إيلسا، الأمر الذي له الحق في فعله بالتأكيد بصفته طبيبا.
قالت السيدة شانتس بتعاطف ودون توقف: «أظن يا إيلسا أن أمك ينبغي أن تنال قسطا من الراحة أيضا. سوف أذهب لإقناعها بذلك. فإن استطاعت أن تنام، فربما ستنسى كل ما حدث، وربما ستنساه إيونا أيضا، إن حالفنا الحظ.»
خرجت السيدة كيركم من المطبخ بمجرد دخولها إليه، وعثرت عليها السيدة شانتس في غرفة المعيشة وهي تنظر إلى إيونا وتعبث بالغطاء لتتأكد من أنه يغطيها جيدا. لم ترغب السيدة كيركم في النوم، وإنما أرادت تفسير ما حدث، فكانت تعلم أن تفسيراتها ليست سليمة بعض الشيء، وأرادت أن يتحدث معها الناس مثلما كانوا يفعلون من قبل، وليس بأسلوب رقيق ومرض للذات كما يفعلون الآن، لكن نظرا لدماثة خلقها المعتادة، وعلمها بأنها لا سلطة لها في المنزل، سمحت للسيدة شانتس باصطحابها إلى الدور العلوي.
كانت جيل تقرأ إرشادات إعداد لبن الأطفال، التي كانت مطبوعة وموضوعة بجانب علبة شراب الذرة، وعندما سمعت صوت الخطوات الصاعدة على الدرج، جال بخاطرها أنها يجدر بها فعل شيء ما والفرصة سانحة أمامها؛ فحملتني إلى غرفة المعيشة، ووضعتني على أحد الكراسي.
وهمست إلي بثقة: «والآن، ابقي هادئة.»
جثت على ركبتيها، وأخرجت الكمان برفق من مخبئه، ووجدت غطاءه وعلبته، ووضعتهما بعيدا. وظللت هادئة - وربما لم أكن قادرة بعد على الاستدارة - وصامتة.
على الأرجح لم يستغل الدكتور شانتس وإيلسا فرصة تركهما وحدهما في المطبخ ليتعانقا، وإنما تبادلا النظرات فحسب؛ النظرات التي تدل على المعرفة، لكن دون وعود أو يأس. •••
اعترفت إيونا أنها لم تجس نبضي، ولم تدع قط أن جسدي كان باردا، لكنها قالت إنها شعرت بأنني متيبسة، ثم قالت إنني لم أكن متيبسة وإنما ثقيلة؛ ثقيلة للغاية، ما جعلها تظن على الفور أنني ميتة. شعرت بوزني الثقيل وظنت أني ميتة.
أظن أن ثمة شيئا ما في هذه القصة؛ فلا أعتقد أنني كنت ميتة أو أنني عدت للحياة بعد الموت، لكنني أظن أنني كنت في مكان بعيد، ربما كنت سأعود منه وربما لا. أظن أن النتيجة لم تكن مؤكدة، وأن الإرادة كان لها دور في ذلك؛ أعني أن الأمر عاد إلي فيما يتعلق بالطريق الذي اخترته في تلك اللحظة.
ولكن حب إيونا، الذي كان بلا شك أصدق صور الحب التي حظيت بها، لم يكن هو الدافع وراء قراري؛ فبكاؤها ودفعها لي نحو جسدها لم يجد نفعا، ولم يكن مقعنا في النهاية؛ وذلك لأنها لم تكن إيونا التي كان سيقع عليها اختياري (هل كان من الممكن أنني علمت ذلك؟ هل كان من الممكن أنني علمت أن إيونا لن تكون الشخصية التي ستعود علي بأكبر قدر من النفع في النهاية؟) لقد كانت جيل التي ستفعل ذلك. كان علي اختيار جيل وما يمكنني الحصول عليه منها، حتى وإن كان أقل القليل.
أظن أنني في تلك اللحظة فقط أصبحت أنثى. أعلم أن هذا الأمر قد تقرر قبل ولادتي بفترة طويلة، وكان واضحا للجميع منذ بداية حياتي، لكني أعتقد أنه فقط في اللحظة التي قررت فيها العودة، توقفت عن صراعي مع أمي (الصراع الذي كان بالتأكيد من أجل إخضاعها لي تماما)، وعندما فضلت النجاة على الانتصار (كان الموت سيصبح انتصارا)، قبلت طبيعتي كأنثى.
قبلت جيل أيضا طبيعتها كأنثى إلى حد ما. استعادت وعيها وشعرت بالامتنان، ولم يكن بمقدورها حتى التفكير فيما نجت منه لتوها؛ فبدأ حبها لي؛ لأن بديل هذا الحب كان كارثة. •••
ساورت الدكتور شانتس بعض الشكوك، لكنه تغاضى عنها، فسأل جيل عن حالي في اليوم الماضي. وهل كنت صعبة الإرضاء أم لا، فأجابت بأنني كنت صعبة الإرضاء للغاية. فقال لها إن الأطفال الذين يولدون قبل أوانهم، ولو بقليل، عرضة للصدمات؛ لذا، ينبغي التعامل معهم بحرص. وأوصاها بأن تجعلني أنام دوما على ظهري.
لم تكن إيونا في حاجة للعلاج بالصدمات؛ فقد أعطاها الدكتور شانتس الحبوب المناسبة لحالتها، وقال إنها قد أرهقت نفسها للغاية في رعايتي. ولأن السيدة التي عينت مكانها في المخبز رغبت في ترك العمل - إذ لم تكن تحب العمل ليلا - عادت إيونا للعمل بالمخبز. •••
ما يلي هو أفضل ما أتذكره عن زياراتي الصيفية إلى عمتي عندما كنت في السادسة أو السابعة من عمري. كان يتم اصطحابي إلى المخبز في وقت غريب غير معتاد بمنتصف الليل، وهناك أشاهد إيونا وهي ترتدي قبعتها البيضاء ومئزرها الأبيض، وتعجن الكتلة الكبيرة البيضاء من العجينة التي يتغير شكلها وتظهر فيها الفقاقيع وكأنها كائن حي، ثم تقطع الكعك، وتقدم لي ما تبقى منه لأتناوله. وفي بعض المناسبات الخاصة، كنت أشاهدها وهي تعد كعكة الزفاف. كم كان هذا المطبخ منيرا وساطعا وقد خيم ظلام الليل على كل نوافذه! كنت أتناول فتات زينة الكعك من الوعاء؛ ذلك السكر الشهي الذي يذوب في الفم ولا يمكن مقاومته.
رأت إيلسا أنه لا ينبغي لي السهر لوقت متأخر من الليل، وألا آكل الكثير من هذه الحلوى، لكنها لم تفعل أي شيء حيال ذلك، بل تساءلت عن رأي أمي في ذلك، كما لو كانت جيل هي التي تعاني زيادة الوزن، وليست هي. كان لدى إيلسا بعض القواعد التي لم ألتزم بها في المنزل - مثل تعليق السترة، وشطف الكوب قبل تجفيفه حتى لا تظهر به أي بقع يختلف لونها عن لون الزجاج - لكنني لم أر قط شخصيتها القاسية المزعجة التي كانت جيل تتذكرها.
لم يقل أحد أي شيء يدل على الاستخفاف فيما يتعلق بالموسيقى التي تعزفها جيل؛ فهي، في النهاية، تكسب قوت يومها منها. لم تهزمها مقطوعة ماندلسون في النهاية، وحصلت على شهادتها وتخرجت في معهد الموسيقى، وقصت شعرها، وقد صار خفيفا، وتمكنت من تأجير منزل من طابقين بالقرب من حديقة هاي بارك في تورونتو، وتعيين امرأة للعناية بي بعض الوقت؛ نظرا لأنها كانت تحصل على معاش أرملة محارب. وحصلت على وظيفة، بعد ذلك، في أوركسترا الإذاعة، وكانت فخورة بأنها عملت طوال حياتها موسيقية، ولم تضطر يوما لممارسة مهنة التدريس. وكانت تقول إنها تعلم أنها ليست عازفة كمان عظيمة، وإنها لا تملك موهبة أو مستقبلا مذهلا، لكنها على الأقل يمكنها كسب قوتها بفعل ما تريده. وحتى بعد زواجها من زوجها الثاني، وبعد انتقالنا معه إلى إدمنتون (وكان يعمل جيولوجيا)، واصلت العزف في الأوركسترا السيمفوني هناك، وظلت تعزف حتى قبل ولادة أختي غير الشقيقتين بأسبوع واحد. وقالت إنها كانت محظوظة؛ لأن زوجها لم يعارضها قط في ذلك.
أصيبت إيونا بنكستين أخريين؛ أشدهما عندما كنت في الثانية عشرة من عمري، وأودعت مستشفى مورسفيل عدة أسابيع. وأظن أنها تعاطت الإنسولين هناك؛ وعادت ممتلئة الجسم وثرثارة. ذهبت لزيارة المنزل حين كانت هي في المستشفى، وصاحبتني جيل وأختي الصغيرة حديثة الولادة. وفهمت من الحديث الذي دار بين أمي وإيلسا أنه لم يكن مستحسنا إحضار طفلة إلى المنزل لو أن إيونا كانت موجودة؛ فقد «يثيرها» ذلك. ولا أعلم ما إذا كان للسبب الذي جعلها تعود إلى مورسفيل أي علاقة بالأطفال.
شعرت بالإقصاء في تلك الزيارة؛ فكانت جيل وإيلسا تدخنان معا، وتجلسان حتى وقت متأخر من الليل تحتسيان القهوة وتدخنان السجائر على مائدة المطبخ، أثناء انتظارهما موعد رضعة الطفلة الساعة الواحدة (أرضعت أمي تلك الطفلة من ثدييها؛ وشعرت بالسعادة لعلمي أنني لم أحصل على مثل هذه الوجبات الحميمية من ثديي أمي). أتذكر نزولي الدرج عابسة لعدم تمكني من النوم، ثم ثرثرتي وحديثي الجريء بعدم جدية وأنا أحاول فرض نفسي عليهما في محادثتهما، لكنني أدركت أنهما كانتا تتحدثان عن أشياء لا تودان سماعي لها. لقد صارتا صديقتين حميمتين على نحو غير مفهوم.
أمسكت بإحدى السجائر، فقالت أمي: «فلتذهبي الآن، واتركي هذه السجائر هنا. إننا نتحدث.» وطلبت مني إيلسا أن أحضر لنفسي مشروبا من الثلاجة، مياها غازية أو جعة زنجبيل. ففعلت، وبدلا من أن أصعد به إلى أعلى، ذهبت إلى الخارج.
جلست على عتبة المنزل الخلفية، لكن صوت السيدتين انخفض على الفور، ولم أتمكن من تبين أي شيء من أصواتهما المنخفضة النادمة أو المطمئنة؛ ومن ثم، ذهبت للتجول في الفناء الخلفي، متجاوزة بقعة الضوء التي انعكست من الباب الشبكي.
المنزل الأبيض العالي، ذو الزوايا المشيدة بقوالب الزجاج يسكنه الآن أشخاص آخرون. انتقل آل شانتس بعيدا ليعيشا على الدوام في فلوريدا، وكانا يرسلان لعمتي برتقالا قالت عنه إيلسا إنه سيجعلني أشعر بالتقزز من البرتقال الذي نشتريه في كندا. حفر السكان الجدد للمنزل حمام سباحة استخدمته في أغلب الأحيان الابنتان المراهقتان الجميلتان - اللتان كانتا تنظران إلي مباشرة عند مقابلتي لهما في الشارع - وصديقاهما الشابان. نمت بعض الشجيرات عاليا بين فناء منزل عمتي وفناء هذا المنزل، لكن ظل بإمكاني مشاهدتهم وسماع صيحاتهم وهم يركضون حول الحمام ويدفعون بعضهم بعضا فيه لتتناثر المياه عاليا. ازدريت هزلهم؛ لأنني كنت آخذ الحياة بجدية ولدي مفهوم أكثر سموا ورقة للرومانسية، لكنني تمنيت لفت انتباههم كما يفعلون، وأن يرى أحدهم المنامة الباهتة التي أرتديها وهي تتحرك في الظلام، ويصرخ بجدية معتقدا أنني شبح.
Shafi da ba'a sani ba