من أفضل ما قيل عن الكتاب
شكر وتقدير
حب امرأة طيبة
جاكارتا
جزيرة كورتز
عدا الحاصدين
ستبقى الطفلتان
ثراء فاحش
قبل التغيير
حلم أمي
Shafi da ba'a sani ba
من أفضل ما قيل عن الكتاب
شكر وتقدير
حب امرأة طيبة
جاكارتا
جزيرة كورتز
عدا الحاصدين
ستبقى الطفلتان
ثراء فاحش
قبل التغيير
حلم أمي
Shafi da ba'a sani ba
حب امرأة طيبة
حب امرأة طيبة
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
أميرة علي عبد الصادق
شهاب ياسين
مراجعة
إيمان عبد الغني نجم
من أفضل ما قيل عن الكتاب
Shafi da ba'a sani ba
مجموعة قصصية رائعة ... أخاذة ... إن الإحساس العالي الذي تتعامل به مونرو مع شخصياتها لا يقل أصالة ونقاء عن إحساس تشيكوف.
ذا نيويورك تايمز بوك ريفيو
تثبت لنا مونرو فهمها العميق للطبيعة البشرية الذي يتجاوز حدود قدراتنا الطبيعية على الفهم، في صفحات هذه المجموعة الرائعة ... المعجزة في تفاصيلها وتطابقها المذهل مع الواقع.
ذا وول ستريت جورنال
رائعة ... عظيمة ... إنها كاتبة لكل العصور.
نيوزداي
نبيلة ... آسرة للألباب ... يبدو أنها تكتب روايات بأكملها ببضعة آلاف من الكلمات فحسب، ثم تتركنا في حيرة نتساءل عما يفعل الروائيون التقليديون في صفحاتهم الكثيرة المبالغ فيها.
ذا فيلادلفيا إنكوايرر
أليس مونرو واحدة من أفضل كتاب القصة القصيرة الحاليين، وتدفع قصصها المرء إلى التفكير مليا في سر سحرها الخلاب.
ذا واشنطن تايمز
Shafi da ba'a sani ba
جذابة ... مثيرة للعاطفة ... تستهدف أليس مونرو موضوعات مهمة - كالحب والموت، العاطفة والخيانة، الطموح وخيبة الأمل - بأسلوب نثري سلس ثري بالتفاصيل.
ذا سان دييجو يونيون-تريبيون
مذهلة ... ومثيرة ... ويصعب التنبؤ بأحداثها ... مونرو ليست فقط واحدة من أعظم كتاب العالم، وإنما هي أيضا أحد المؤلفين الصادمين الذين لا يخشون أبدا كشف الستار عن الحقائق المعقدة لتجارب المرأة.
فرانسين بروز، مجلة «إل»
رواية مونرو أشبه بالعمل الاستخباراتي الذي يضم معلومات وفيرة تفي بحاجة القارئ إلى المعرفة، دون أن تتعدى على - أو تقلل من قدر - الغموض المحوري الذي هو مصدر عظمة كل الفنون.
شيكاجو تريبيون
تعد تلك المجموعة أشبه بالنجوم النابضة؛ فالقليل من الكلمات البراقة يزن الكثير ... فكل هذا التعقيد الذي تنطوي عليه الرواية منظوم في عشرات من الصفحات فحسب.
ذا بلين ديلر
أليس مونرو هي تشيكوف هذا العصر، ولسوف يبقى ذكرها أطول من أي من معاصريها.
سينثيا أوزيك
Shafi da ba'a sani ba
لا جدال في أن أليس مونرو «أستاذة» فن القصة القصيرة ... يصعب أن نتخيل أن هناك مجموعة قصصية أفضل من هذه.
ذا واشنطن بوست بوك وورلد
مجموعة قصصية رائعة ... آسرة للألباب ... تتخلل فيها اللحظات الشاعرية السرد القصصي الواقعي بمقادير مضبوطة ليس فيها زيادة أو نقصان.
سان فرانسيسكو كرونيكل
إلى آن كلوس
محررتي القديرة وصديقتي الدائمة.
شكر وتقدير
فيما يتعلق ببعض المعلومات المتخصصة التي كانت ضرورية لهذه القصص، أتوجه بعميق الشكر والتقدير إلى كل من روث روي، وماري كار، ودي سي كولمان. كذلك أتقدم بخالص الشكر إلى ريج تومبسون لبذله جهدا بحثيا بارعا كان مصدر إلهام لي في الكثير من المواضع.
حب امرأة طيبة
على مدى العقدين الماضيين، كرس متحف في والي لحفظ الصور، ومماخض اللبن، وعدد الخيل، إضافة إلى كرسي عيادة أسنان قديم، ومقشرة تفاح ضخمة وغريبة الشكل، وغير ذلك من المقتنيات النادرة مثل العوازل الكهربائية الصغيرة جميلة الشكل المصنوعة من الخزف والزجاج التي كانت تستخدم على أعمدة التلغراف.
Shafi da ba'a sani ba
احتوى ذلك المتحف كذلك على صندوق أحمر منقوش عليه «دكتور ويلينس، أخصائي بصريات»، وملحوظة بجانب الاسم نصها: «يتمتع هذا الصندوق الذي يحتوي على أدوات أخصائي بصريات - بالرغم من عدم قدمه - بأهمية كبيرة على المستوى المحلي؛ إذ إنه يخص الدكتور ويلينس الذي غرق في نهر بيريجرن عام 1951. ولم يتأثر هذا الصندوق بالحادث المؤسف، وعثر عليه - فيما يبدو - متبرع مجهول الهوية، وهو الذي أرسله إلى المتحف لضمه إلى مجموعة التحف المعروضة لدينا.»
قد يذكرك منظار العين الموجود في هذا الصندوق برجل الثلج؛ فالجزء العلوي منه - وهو الجزء المثبت فوق مقبض مقعر - عبارة عن قرص كبير يعلوه قرص أصغر حجما. ويحتوي هذا القرص الكبير على ثقب للنظر عبره عند تحريك العدسات المتعددة. أما المقبض، فهو ثقيل الوزن؛ لأنه لا يزال يحتوي على البطاريات بداخله. وإذا أخرجت هذه البطاريات منه، ووضعت - بدلا منها - قضيب التوصيل المزود مع المجموعة، الذي يحتوي على قرص بكلا طرفيه، فسيمكنك توصيل سلك كهربي به. لكن ربما كان من الضروري استخدام هذه الأداة في أماكن تخلو تماما من الكهرباء.
يبدو منظار الشبكية أكثر تعقيدا من ذلك؛ فأسفل أداة تثبيت الجبهة الدائرية يوجد شيء شبيه برأس الجني الصغير المصور في حكايات الجن، له واجهة مسطحة مستديرة وغطاء معدني مستدق الطرف. ويميل هذا الشيء بزاوية مقدارها خمس وأربعون درجة ناحية عمود رفيع من المفترض أن ينبعث من أعلاه مقدار بسيط من الضوء. والواجهة المسطحة مصنوعة من الزجاج، وهي أشبه بمرآة داكنة.
طغا اللون الأسود على كافة الأدوات، لكنه لم يكن سوى طلاء. وفي بعض المواضع التي احتكت بها يدا أخصائي البصريات كثيرا، زال هذا الطلاء، وصار من الممكن رؤية رقعة من المعدن الفضي اللامع أسفله. (1) جوتلند
اسم هذا المكان جوتلند. وقد ضم في السابق طاحونة ومستوطنة صغيرة، لكن كل هذه الملامح اختفت بحلول نهاية القرن الماضي. ولم يحظ هذا المكان بأي أهمية في أي مرحلة من تاريخه على الإطلاق. واعتقد الكثير من الناس أنه سمي بهذا الاسم تيمنا بالمعركة البحرية الشهيرة التي اندلعت أثناء الحرب العالمية الأولى، لكن الحقيقة هي أن هذا المكان بأكمله قد تحول إلى أطلال قبل تلك المعركة بسنوات.
لكن الصبية الثلاثة، الذين ذهبوا إلى ذلك المكان في الصباح الباكر من أحد أيام السبت في ربيع عام 1951، ظنوا - شأنهم شأن معظم الأطفال آنذاك - أن هذا الاسم الذي يعني «الأرض الناتئة» مستوحى من الألواح الخشبية القديمة الناتئة من الأرض على ضفة النهر، وغيرها من الألواح الأخرى السميكة المستقيمة التي برزت عموديا في المياه بالقرب من الضفة لتصنع سياجا غير مستو من الأوتاد الخشبية (كانت هذه الأخشاب في الواقع بقايا سد قديم شيد قبل عصر السدود الأسمنتية). الألواح الخشبية، وكومة من أحجار البناء، وشجيرة ليلك، وبعض أشجار التفاح الضخمة التي شوهها مرض العقد السوداء، والقناة الضحلة التي كانت تزود الطاحونة بالمياه وتمتلئ بأعشاب القراص في فصل الصيف، كانت هذه هي الآثار الوحيدة الأخرى المتبقية التي تدل على ما كان موجودا في ذلك المكان فيما مضى.
كان هناك طريق، أو بالأحرى مسار ضيق، متفرع من طريق البلدة، لكنه لم يرصف قط بالحصى، وبدا على الخرائط كخط منقط فقط؛ فقد كان أرضا احتفظت بها الحكومة لإقامة طريق عام عليها. اعتاد الناس قيادة سياراتهم على هذا الطريق في فصل الصيف وصولا إلى النهر لممارسة السباحة، كذلك كان مهما للأحبة الذين يبحثون عن مكان لإيقاف سياراتهم ليلا. وكان هناك منعطف قبل الوصول إلى القناة، لكن المنطقة بأكملها اجتاحتها أعشاب القراص ونباتات الهرقلية الصوفية وأعشاب الشوكران البرية الخشبية في السنوات كثيرة الأمطار، الأمر الذي أجبر بعض السيارات أحيانا على الرجوع للخلف للخروج من ذلك الطريق واستخدام الطريق المهيأ للسير عليه.
كان من اليسير في صباح ذلك اليوم الربيعي ملاحظة آثار السيارة التي وصلت إلى حافة المياه. بيد أنها لم تلفت نظر الصبية الثلاثة الذين لم يشغل تفكيرهم سوى السباحة فقط، أو هكذا سيسمونها على الأقل، عندما يعودون للبلدة ويخبرون الناس بأنهم سبحوا في جوتلند قبل ذوبان الجليد.
اتسم ذلك المكان الموجود أعلى النهر بأنه أكثر برودة من المسطحات المتكونة من رواسب النهر والقريبة من البلدة. لم تكن قد نمت بعد أي أوراق على الأشجار الموجودة على ضفة النهر، واللون الأخضر الوحيد الذي كان من الممكن رؤيته هو لون رقع الكراث على الأرض، ونباتات قطيفة الأهوار النضرة مثل السبانخ، التي انتشرت بطول أي مجرى صغير شق طريقه وصولا إلى النهر. وعلى الضفة المقابلة تحت بعض أشجار الأرز، رأى الصبية ما كانوا يبحثون عنه على وجه التحديد، ألا وهو كتلة ثلجية متصلبة، ممتدة لمسافة طويلة ومنخفضة الارتفاع، رمادية اللون مثل الحجارة.
لم يكن الثلج قد ذاب بعد.
Shafi da ba'a sani ba
عزم الصبية على القفز في الماء واستشعار الصقيع كطعنات خناجر ثلجية تخترق أجسادهم لتصل إلى ما وراء أعينهم وإلى أعلى جماجمهم من الداخل، وبعدها يحركون أذرعهم وسيقانهم بضع مرات، ثم يخرجون بصعوبة من الماء، مصدرين أصواتا كأصوات البط من أفواههم وصريرا من أسنانهم، ويدفعون أطرافهم الخدرة في الملابس، فيشعرون بألم عودة الدماء تجري في أجسادهم؛ ومن ثم الارتياح لتحقيق ما سيتباهون به.
امتدت آثار السيارات التي لم يلاحظها هؤلاء الصبية إلى القناة المائية التي خلت من أي أعشاب أو نباتات آنذاك، ولم تحتو إلا على بعض حشائش العام الماضي الميتة التي استحال لونها إلى الصفرة وطفت على السطح. امتدت الآثار عبر القناة وحتى النهر دون أي شيء يدل على محاولة دوران السيارة للخلف. خطا الصبية فوقها، لكنهم كانوا قد اقتربوا للغاية حينذاك من الماء، الأمر الذي حال دون أن يلفت انتباههم أي شيء، حتى وإن كان أكثر غرابة من آثار سيارة على الأرض في هذا المكان.
كانت هناك لمعة من اللون الأزرق الباهت في الماء، لكنها لم تكن منعكسة من السماء، وإنما كانت لسيارة غارقة في وضع مائل في البركة التي تزود الطاحونة بالماء، بحيث غرز الإطاران الأماميان والمقدمة في الوحل بالقاع، في حين برز الجزء العلوي من السيارة بالكاد فوق سطح الماء. كان اللون الأزرق الفاتح لونا غير مألوف كطلاء للسيارات آنذاك، كذلك شكل تلك السيارة ذات المنحنى البارز أيضا، الأمر الذي ساعد الصبية في التعرف عليها على الفور. إنها السيارة الإنجليزية الصغيرة - طراز أوستن - والوحيدة من نوعها بلا شك في المقاطعة بأسرها. كانت سيارة السيد ويلينس، أخصائي البصريات، الذي كان يشبه الشخصيات الكرتونية عند قيادته لها؛ إذ كان قصيرا، مكتنز الجسم، عريض المنكبين، وكبير الرأس. بدا دوما محشورا في سيارته الصغيرة كما لو كانت بذلة تكاد تتمزق فوق جسده.
احتوى سقف السيارة على جزء متحرك اعتاد السيد ويلينس فتحه في الطقس الدافئ، وقد كان مفتوحا عند عثور الصبية على السيارة، لكنهم لم يتبينوا جيدا ما كان بالداخل. ولون السيارة جعل شكلها واضحا في الماء، لكن هذا الماء لم يكن نظيفا تماما، حتى إنه أعتم الأجزاء غير الواضحة من السيارة. جثم الصبية على ضفة النهر، ثم استلقوا على بطونهم ودفعوا رءوسهم للخارج مثل السلاحف محاولين النظر داخل السيارة . رأوا شيئا داكن اللون ومكسوا بالفراء يشبه ذيل حيوان كبير، وكان ذلك الشيء مدفوعا عبر الفتحة الموجودة بالسقف، ويتحرك بتراخ في الماء، وسرعان ما اتضح لهم أنها ذراع مغطاة بكم معطف داكن اللون مصنوع من نسيج ثقيل كثير الزغب، وبدا أن ثمة جثة داخل السيارة - بالتأكيد جثة السيد ويلينس - في وضع غريب؛ فلا بد أن قوة المياه - التي كانت شديدة في ذلك الوقت من العام؛ حتى في بركة المياه الصغيرة التي تزود الطاحونة بالماء - رفعت السيد ويلينس على نحو ما من مقعده ودفعته في ناحية أخرى بحيث صارت إحدى كتفيه قرب سقف السيارة فخرجت منه إحدى ذراعيه. أما رأسه، فقد ارتطم بالتأكيد بالنافذة والباب المجاورين لمقعد السائق، وانغرز أحد الإطارين الأماميين لعمق أكبر في قاع النهر من الإطار الآخر، ما عنى أن السيارة كانت مائلة على أحد جانبيها، مثل ميلها من الخلف للأمام. ولا بد أن النافذة كانت مفتوحة ويبرز منها رأس الجثة ليكون ذلك وضع باقي الجسم. لم يتمكن الصبية من رؤية ذلك، لكنهم تصوروا وجه السيد ويلينس كما يعرفونه؛ وجها مربعا ضخما ارتسم عليه عادة نوع من العبوس المتكلف الذي لم يخف أحدا قط بحق. أما شعره المجعد الخفيف، فكان مائلا للون الأحمر أو النحاسي في الجزء العلوي منه، وكان يصففه على نحو مائل فوق جبهته، وكان لون حاجبيه أغمق من شعره، كما كانا كثيفين ومجعدي الشعر كما لو كانا يرقانتين ملتصقتين أعلى عينيه. كان وجها قبيحا بالفعل في نظر الصبية، شأنه شأن الكثير من وجوه البالغين الآخرين، ولم يخشوا رؤيته غارقا، لكن كل ما تمكنوا من رؤيته هما تلك الذراع واليد الشاحبتين. واستطاعوا رؤية اليد بوضوح ما إن اعتادوا النظر عبر الماء، كانت تطفو هناك مترنحة كالريشة، وإن بدت كعجينة متصلبة. ومع اعتيادهم على رؤيتها، صار مظهرها عاديا؛ فبدت الأظافر كالوجوه الصغيرة الجميلة التي ترتسم عليها نظرة ترحيب عادية مدركة، تبرأ من الظروف المفروضة عليها.
قال الصبية في ذهول: «يا للهول!» قالوها بقوة وبنبرة تدل على احترام عميق، بل وامتنان أيضا. «يا للهول!» •••
كانت تلك هي المرة الأولى التي يخرجون فيها ذلك العام. عبروا الجسر الذي يعلو نهر بيريجرن - وهو جسر من حارة واحدة ومقطعين - والذي يعرف محليا باسم «بوابة جهنم» أو «شرك الموت»، مع أن الخطر الحقيقي كان في المنعطف الحاد في الطرف الجنوبي من الطريق أكثر من الجسر نفسه.
كان هناك ممر مستو للمشاة، لكنهم لم يستخدموه، أو بالأحرى لم يتذكروا قط استخدامهم له؛ فربما كانوا يفعلون ذلك قبل ذلك الحين بسنوات، عندما كانوا صغارا يحملون على الأيدي. لكن ذلك العهد قد ولى في نظرهم؛ وكانوا يرفضون الإقرار به حتى وإن عرضت عليهم أدلة مشيرة إليه في صور التقطت لهم أو أجبروا على الاستماع إلى هذه الأدلة في إحدى المحادثات العائلية.
أما الآن، فقد صاروا يسيرون بمحاذاة الرصيف الحديدي الممتد على الجانب الآخر من الجسر المقابل لممر المشاة. بلغ عرض ذلك الرصيف ثماني بوصات، وبلغ ارتفاعه قدما أو نحو ذلك فوق أرضية الجسر. دفع نهر بيريجرن ثلوج الشتاء وجليده - الذي ذاب بحلول ذلك الوقت - نحو بحيرة هورون. وأصبحت المياه محصورة بالكاد بين ضفتيه بعد الفيضان السنوي الذي حول المسطحات المترسبة بجانبه إلى بحيرة، واقتلع الأشجار الصغيرة من جذورها، وأطاح بأي قارب أو كوخ مر عليه. وبسبب الرواسب الفيضانية التي أتت من الحقول وعكرت صفو المياه بالوحل، وضوء الشمس الباهت المنعكس على صفحة النهر، بدت المياه كبودنج الباترسكوتش الذي يغلي على النار، لكنك إذا نزلت فيها، فسوف تجمد الدم في عروقك وتقذف بك في البحيرة، هذا إذا لم تهشم رأسك على الدعامات الخشبية أولا.
أطلقت السيارات نفيرها - تحذيرا أو توبيخا للصبية الثلاثة - لكنهم لم يلقوا لها بالا، وواصلوا سيرهم صفا واحدا بهدوء كالسائرين نياما. ثم في الطرف الشمالي للجسر، سلكوا طريقا مختصرا وصولا إلى الأراضي المسطحة، مع محاولة تحديد أماكن المسارات التي يتذكرونها من العام السابق. لم يمر وقت طويل على الفيضان، ما صعب اتباع هذه المسارات، فكان عليهم شق طريقهم فيها بين الأغصان المقطوعة، والقفز بين أكوام الحشائش الملتصقة بفعل الوحل، وكان أولئك الصبية يقفزون أحيانا بلا مبالاة، فيهبطون في الوحل أو برك المياه التي خلفها الفيضان. وعندما كانت أرجلهم تبتل، كانوا لا يبالون بعد ذلك بموطئها. أخذوا يخوضون في الوحل، وينثرون المياه بإنزال أرجلهم في البرك، ما جعل المياه تصل إلى أعلى أحذيتهم الطويلة الرقبة المصنوعة من المطاط. كانت الرياح دافئة؛ فمزقت السحب مكونة أشكالا تشبه خيوط الصوف القديم، وكانت طيور النورس والغربان تتشاجر وينقض بعضها على بعض فوق النهر. حامت الصقور الجارحة أيضا فوقهم مراقبة إياهم من أعلى؛ وطيور أبو الحناء أيضا عادت لتوها، وطيور الشحرور ذات الأجنحة الحمراء انطلقت في أزواج، عاكسة ألوانا براقة كأنها غمست في طلاء ما. «ليتنا أحضرنا بندقية الصيد عيار 22.» «ليتنا أحضرنا بندقية الصيد عيار 12.»
لقد كانوا أكبر من أن يرفعوا العصي الخشبية ويقلدوا صوت إطلاق الرصاص؛ فكانوا يتحدثون بنبرة آسفة اعتيادية، كما لو كانت هذه الأسلحة متوفرة لديهم بالفعل.
Shafi da ba'a sani ba
تسلقوا الضفاف الشمالية وصولا إلى مكان مغطى بالرمال المكشوفة التي من المفترض أن تضع فيها السلاحف بيضها. لكن الأوان كان مبكرا على ذلك، كما أن هذه القصة الخاصة ببيض السلاحف يرجع تاريخها إلى سنوات عديدة سابقة، ولم يرها أي من هؤلاء الصبية قط من قبل. لكنهم مع ذلك ركلوا الرمال وداسوا عليها؛ تحسبا لاكتشاف أي من هذا البيض. تلفتوا، بعد ذلك، حولهم بحثا عن المكان الذي عثر فيه أحدهم العام الماضي - برفقة صبي آخر - على جزء من هيكل عظمي لبقرة جرفه الفيضان من مخلفات أحد المجازر، فكان من المعتاد كل عام أن يجرف النهر عددا كبيرا من الأشياء المدهشة أو التافهة، العجيبة أو العادية، ويرسبها في مكان آخر. ومن الأمثلة على ذلك لفائف من الأسلاك، أو سلم نقال سليم، أو مجرفة منثنية، أو إناء صنع الفشار. وقد عثر الصبيان على عظم البقرة معلقا في أحد فروع شجرة سماق - الأمر الذي بدا ملائما؛ لأن كل هذه الأفرع اللينة بدت مشابهة لقرون الأبقار أو الغزلان، وكان لبعضها أطراف مخروطية صدئة اللون.
أخذوا يتجولون في المكان بعض الوقت، فأشار سيسي فيرنس إلى فرع الشجرة الذي عثر على العظم عليه بالضبط، لكنهم لم يعثروا على أي شيء.
كان سيسي فيرنس ورالف ديلر هما من اكتشفا العظم، وعند سؤالهما عن مكانه الآن، قال سيسي فيرنس: «لقد أخذه رالف معه.» علم الصبيان، اللذان كانا مع سيسي الآن - وهما جيمي بوكس وباد سولتر - السبب وراء صدق سيسي في حديثه، فما كان بوسعه اصطحاب أي شيء معه إلى المنزل، إلا إذا كان بحجم يسمح له بإخفائه من والده.
تبادلوا أطراف الحديث، بعد ذلك، عن الأشياء الأكثر نفعا التي يمكن العثور عليها أو عثر عليها بالفعل في السنوات الماضية؛ فألواح الأسياج الخشبية يمكن استخدامها في صنع الأطواف؛ وقطع الأخشاب المتناثرة يمكن جمعها لتصميم كوخ أو قارب، وإذا حالفك الحظ، فستعثر على بعض أشراك فئران المسك المفككة. يمكنك حينئذ بدء مشروعك الخاص؛ فيمكنك جمع ما يكفي من الأخشاب لصنع ألواح لشد الجلود، وسرقة السكاكين لنزع هذه الجلود من على الفئران. كذلك تحدث الصبية عن الاستيلاء على حظيرة فارغة يعرفونها في الزقاق المظلم الموجود خلف ما كان يستخدم في السابق كإسطبل للخيول. كانت تلك الحظيرة مغلقة بالقفل، لكن يمكن الدخول إليها عبر النافذة بعد إزالة الألواح الخشبية عنها في الليل ووضعها ثانية مع بزوغ الفجر. يمكن كذلك اصطحاب كشاف كهربائي لاستخدامه هناك. لا، ليس كشافا كهربائيا، وإنما قنديل. يمكن بذلك نزع الجلود عن فئران المسك، وشدها، وبيعها مقابل الكثير من المال.
عاش الصبية في تصور هذا المشروع كأنه واقع، لدرجة جعلتهم يبدءون في القلق بشأن ترك أي جلود ذات قيمة في الحظيرة طوال اليوم، وكان على أحدهم مراقبة المكان، بينما يخرج الآخرون للبحث عن الأشراك (لم يذكر أحد المدرسة).
هكذا كانت طبيعة حديث أولئك الصبية عند ابتعادهم عن البلدة؛ كانوا يتحدثون كما لو كانوا أفرادا مستقلين، أو شبه مستقلين، وكأنهم لا يذهبون إلى المدرسة، أو يعيشون مع أسرهم، أو يعانون من أي صور للمهانة والذل بسبب سنهم الصغيرة. كانوا يتحدثون كذلك كما لو كان الريف والمنشآت التي تخص أشخاصا آخرين ستوفر لهم ما يحتاجون إليه لتنفيذ مشروعاتهم ومغامراتهم، مع أقل قدر ممكن من المخاطرة والجهد من جانبهم.
من الملامح الأخرى للتغير في حديثهم خارج البلدة أنهم كانوا يتخلون جزئيا عن استخدام الأسماء؛ فلم يناد بعضهم بعضا بأسمائهم الحقيقية كثيرا على أي حال، ولا حتى بألقاب أسرهم، مثل باد. لكن كان لأغلب الأشخاص في المدرسة أسماء أخرى، ارتبط بعض هذه الأسماء بمظهر الشخص أو طريقة حديثه، مثل الجاحظ أو المتلعثم، والبعض الآخر - مثل مغتصب الدجاجات وذي المؤخرة المتقرحة - ارتبط بأحداث حقيقية أو متخيلة في حياة من تطلق عليهم هذه الأسماء، أو حياة إخوانهم أو آبائهم أو أعمامهم وأخوالهم، وتكون الأسماء في هذه الحالة قد تداولتها الألسنة على مدار عقود من الزمان. كانت هذه الأسماء هي التي يتخلون عنها عند خروجهم إلى الأحراش أو ضفاف النهر. وعند الحاجة للفت بعضهم نظر بعض، كانوا يصيحون: «يا صاح!» حتى استخدام الأسماء البذيئة والفاحشة التي من المفترض أنها لم تتردد إطلاقا على مسامع الكبار كان سيفسد تلك الحالة التي كانت تنتابهم في تلك الأوقات؛ حالة التسليم بمظهرهم، وعاداتهم، وأسرهم، وتاريخهم الشخصي بالكامل.
ومع ذلك، فقد كانوا لا يعتبرون أنفسهم أصدقاء، ولا يتخذ بعضهم من بعض أخلاء مقربين أو أخلاء مقربين بدلاء، أو يستبدلونهم كما تفعل الفتيات؛ فأي صبي من بين عشرة صبية على الأقل يمكن استبداله بأي من أولئك الثلاثة، ويتقبله الآخرون على النحو نفسه بالضبط. تراوحت أعمار هؤلاء الصبية بين التاسعة والثانية عشرة؛ أي أكبر من أن يقيدوا باللعب في الأفنية والأحياء السكنية، وأصغر من الاشتغال بأي وظيفة، بما في ذلك كنس الأرصفة أمام المتاجر أو توصيل طلبات البقالة بالدراجات. عاش أغلبهم في الطرف الشمالي من البلدة، ما عنى أنه كان من المتوقع اشتغالهم بهذا النوع من الوظائف بمجرد وصولهم إلى السن المناسبة، وعدم إرسالهم إلى كلية آبلبي أو كلية كندا العليا. ولم يعش أي منهم في كوخ، وما كان لهم أقرباء في السجن. كانت هناك اختلافات بارزة أيضا بين طبيعة حياتهم في المنزل وما هو متوقع منهم في الحياة، لكن هذه الاختلافات سرعان ما كانت تتلاشى بابتعادهم عن سجن المقاطعة وصومعة الغلال التي تعمل بالآلات، وأبراج الكنيسة، وأجراس ساعة قاعة المحكمة. •••
أسرع الصبية الثلاثة في خطاهم في طريق عودتهم إلى منازلهم، هرولوا، لكن دون ركض. لم يقفزوا، أو يتسكعوا، أو يرشوا المياه. لقد نسوا كل ذلك، وكذلك الأصوات التي كانوا يصدرونها من صياح وعواء. وأي شيء جرفته مياه الفيضان لاحظوه، لكنهم تجاوزوه دون اكتراث. لقد ساروا، في الواقع، كما يفعل الكبار، بسرعة ثابتة قليلا، وباتباع أكثر السبل عقلانية؛ فقد شغلهم أين سيذهبون وماذا ستكون خطوتهم التالية. كانت ثمة صورة تلوح أمام أعينهم وتحول بينهم وبين العالم؛ الأمر الذي يبدو عليه الكبار أغلب الوقت. إنها صورة البركة والسيارة والذراع واليد. فكروا أنهم عند وصولهم إلى بقعة معينة، سيبدءون في الصياح، سيدخلون البلدة وهم يصرخون معلنين عما لديهم من أنباء، وسيتسمر الجميع في أماكنهم ليستوعبوا ما حدث.
عبروا الجسر بطريقتهم المعتادة؛ على الرصيف الحديدي، لكن لم تراودهم أي مشاعر مخاطرة أو شجاعة أو عدم اكتراث، ولربما أيضا ساروا على الممشى.
Shafi da ba'a sani ba
وبدلا من الطريق ذي المنعطف الحاد الذي يمكن الوصول منه إلى المرفأ والميدان، صعدوا ضفة النهر مباشرة متبعين طريقا قريبا من مرائب السكك الحديدية. دقت أجراس الساعة معلنة انقضاء ربع ساعة بعد الساعة الثانية عشرة. •••
كان ذلك موعد عودة الناس إلى منازلهم لتناول وجبة الغداء، ومن كانوا يعملون في المكاتب كانوا يحصلون على إجازة بقية اليوم، أما من يعملون في المتاجر، فكانوا يحصلون على ساعة الراحة الاعتيادية؛ إذ كانت المتاجر تظل مفتوحة حتى الساعة العاشرة أو الحادية عشرة مساء السبت.
كان أغلب الناس في طريقهم إلى منازلهم لتناول وجبة ساخنة مشبعة من شرائح اللحم أو السجق أو اللحم البقري المسلوق أو اللحم المملح، إلى جانب بعض البطاطس بالتأكيد، سواء المهروسة أو المقلية؛ وبعض الخضراوات الجذرية المخزنة من الشتاء أو الملفوف أو البصل بالكريمة (وبعض الزوجات، الأيسر حالا أو الأقل مهارة، كن يفتحن علبة من البازلاء أو الفاصوليا البيضاء)، هذا إلى جانب الخبز وكيك المافن والأطعمة المحفوظة والفطائر. حتى أولئك الذين لا يملكون منزلا في البلدة يرجعون إليه في هذه الساعة، أو من كان لديهم سبب ما يجعلهم لا يرغبون في العودة إليه؛ كانوا يتناولون نفس نوع الطعام تقريبا في مطعم ديوك أوف كمبرلاند أو فندق ميرشانتس هوتيل، أو يحصلون عليه مقابل قدر أقل من المال وهم جالسون خلف النوافذ الضبابية لحانة شيرفيلز ديري بار.
كان أغلب من يسيرون عائدين إلى منازلهم لتناول هذه الوجبة من الرجال، أما السيدات، فكن بالمنزل بالفعل - فقد كن هناك على الدوام - لكن ثمة سيدات، ممن كن في منتصف العمر وعملن أيضا في المتاجر أو المكاتب لسبب ما ليس بأيديهن حيلة بشأنه - كوفاة أزواجهن أو مرضهم أو عدم تزوجهن في الأساس - كن صديقات أمهات هؤلاء الصبية؛ ومن ثم، اعتدن إلقاء التحية عليهم، حتى لو كانوا يسيرون على الجانب الآخر من الطريق على نحو معين يوحي بالمرح والاستمتاع يذكر الصبية بأن هؤلاء السيدات يعلمن كل شيء عن شئون أسرهم أو مرحلة طفولتهم البعيدة (وأكثر من تأثر سلبا بهذا الأمر هو باد سولتر الذي اعتادت هؤلاء السيدات مناداته باسم بادي؛ وتعني «يا رفيق»).
أما الرجال، فلم يتجشموا عناء إلقاء التحية على الصبية بالاسم، حتى وإن كانوا يعرفونهم حق المعرفة؛ فكانوا يطلقون عليهم «الأولاد» أو «الصغار» أو أحيانا «السادة». «صباح الخير يا سادة.» «هل أنتم في طريقكم إلى المنزل الآن يا أولاد؟» «ما المصيبة التي تدبرونها هذا الصباح أيها الصغار؟»
انطوت كل تحية من هذه التحيات على درجة من المزاح، لكن ثمة اختلافات بينها؛ فمن أطلقوا عليهم وصف «الصغار»، كانوا ينعمون بحالة مزاجية أفضل ممن أطلقوا عليهم وصف «الأولاد» - أو رغبوا في أن يبدوا بهذه الحالة؛ فتعبير «الأولاد» يدل على أن الصبية سيتعرضون بعد قوله إلى تأنيب وتوبيخ بسبب أي إساءة اقترفوها، سواء أكانت مبهمة أم محددة، وتعبير «الصغار» يوحي بأن المتحدث مر من قبل بهذه المرحلة من صغر السن، أما «السادة»، فقد كانت استخفافا وسخرية صريحة منهم، لكنها لا تفتح المجال أمام أي توبيخ؛ لأن من قال هذا الوصف شخص لا يمكن إزعاجه.
وعند الرد على هذه التحيات، كان الصبية بالكاد يرفعون أعينهم للنظر إلى حقيبة يد السيدة أو إلى عنق الرجل، ويقولون بوضوح: «مرحبا»؛ لأنهم قد يجلبون على أنفسهم المتاعب إذا لم يردوا. وتمثلت إجاباتهم عن الأسئلة السابقة في «نعم يا سيدي»، و«كلا يا سيدي»، و«لا شيء»، ولم يختلف هذا الحال في ذلك اليوم، فتسببت الأصوات المتحدثة إليهم في بعض الانتباه والارتباك من جانبهم، وأجابوا أصحابها بتحفظهم المعتاد.
كان عليهم الانفصال عند وصولهم إلى ناصية معينة، وكان سيسي فيرنس الأكثر قلقا دوما بشأن الرجوع إلى المنزل؛ فسبقهم وهو يودعهم قائلا: «أراكم بعد الغداء.»
ورد عليه باد سولتر: «نعم، وسنذهب إلى وسط المدينة حينئذ.»
عنى ذلك، كما فهموا جميعا: «قسم البوليس بوسط المدينة»؛ فبدون استشارة بعضهم بعضا، بدا الأمر وكأنهم قد وضعوا خطة جديدة للإبلاغ عما رأوه بأسلوب أكثر وعيا، لكنهم لم يصرحوا بوضوح عن عدم الإفصاح عن أي شيء في المنزل، فما كان من سبب مقنع يحول دون إفصاح باد سولتر أو جيمي بوكس عما شاهداه في المنزل.
Shafi da ba'a sani ba
أما سيسي فيرنس، فلم يخبر أحدا في المنزل بأي شيء من قبل قط. •••
لقد كان سيسي فيرنس ابنا وحيدا، وكان والداه أكبر سنا من آباء الصبية الآخرين وأمهاتهم، أو هكذا بدا عليهما بسبب حياتهما البائسة معا. عندما ترك سيسي الصبية الآخرين، أخذ يهرول كعادته عند وصوله إلى المنطقة التي يقع فيها منزله. لم يكن السبب وراء ذلك هو تلهفه للعودة إلى المنزل، أو اعتقاده بأنه من الممكن أن يفعل شيئا أفضل عند وصوله، ولكن ربما كان السبب هو رغبته في جعل الوقت يمر سريعا؛ لأن اقترابه من المنزل كان يملؤه بالخوف.
وجد سيسي والدته في المطبخ عند وصوله. هذا أمر جيد. لقد نهضت من السرير، وإن كانت لا تزال ترتدي إزار النوم. لم يكن والده في المنزل، وهذا أمر جيد أيضا؛ لقد كان يعمل في صومعة الغلال التي تعمل بالآلات، ولا يعمل بعد ظهيرة أيام السبت؛ لذا، فإن عدم وجوده في المنزل بحلول ذلك الوقت كان معناه على الأرجح أنه قد ذهب مباشرة إلى كمبرلاند، ما عنى بدوره أنهم لن يضطرا للتعامل معه حتى وقت متأخر من اليوم.
كان والد سيسي يدعى سيسي فيرنس أيضا، وقد كان اسما مشهورا ومحبوبا بوجه عام في والي. وعندما يروي أحد قصة تدور أحداثها حول شخص بهذا الاسم - حتى بعد مرور ثلاثين أو أربعين عاما من ذلك الحين - كان سيسلم بأن الجميع سيعرفون أنه يتحدث عن الأب، وليس الابن. وإذا كان المستمع وافدا جديدا نسبيا على المدينة، وعقب على الحديث قائلا: «لا يبدو أنك تتحدث عن سيسي»، فكان يقال له إن سيسي الابن ليس هو المقصود من الحديث. «ليس هو، إننا نتحدث عن والده.»
تحدث الناس عن المرة التي ذهب فيها سيسي فيرنس إلى المستشفى - أو بالأحرى تم نقله إلى هناك - لإصابته بالالتهاب الرئوي أو داء آخر ميئوس منه. فلفته الممرضات في مناشف وملاءات مبللة لمعالجة الحمى التي كان يعاني منها، وأخذ جسده يتعرق مع انخفاض درجة حرارته حتى استحالت جميع المناشف والملاءات إلى اللون البني. لقد كان لون النيكوتين الذي يمتلئ به جسده. لم تر الممرضات شيئا كهذا من قبل. شعر سيسي بالغبطة؛ إذ ادعى أنه اعتاد شرب السجائر والكحوليات منذ أن كان في العاشرة من عمره.
تحدث الناس، كذلك، عن المرة التي ذهب فيها إلى الكنيسة. من الصعب تصور السبب وراء فعله ذلك، لكنها كانت كنيسة معمدانية، وكانت زوجته تتبع هذا المذهب؛ لذا، ربما فعل ذلك لإرضائها؛ وإن كان ذلك أصعب في التصور. وقد كانت الكنيسة تقدم القربان المقدس في يوم الأحد الذي ذهب فيه، وفي الكنائس المعمدانية، يقدم الخبز، لكن بدلا من النبيذ يقدم عصير العنب. وعند تقديم العصير لسيسي فيرنس، صاح بصوت عال: «ما هذا؟ إن كان هذا دم الحمل، فقد كان بلا ريب مصابا بفقر الدم.»
أعدت وجبة الظهيرة في مطبخ آل فيرنس؛ فوضعت شرائح الخبز على المائدة، وفتحت علبة من مكعبات الشمندر، وقليت بعض شرائح السجق الإيطالي، قبل البيض، مع أنه من المفترض قليها بعده، وأبقيت أعلى الموقد للحفاظ عليها دافئة. وكانت والدة سيسي قد بدأت حينذاك في قلي البيض. انحنت السيدة على الموقد وهي تمسك بملعقة البيض في إحدى يديها، بينما ضغطت باليد الأخرى على معدتها لشعورها بألم فيها.
فأمسك سيسي الملعقة من يدها، وخفض درجة حرارة الموقد الكهربائي العالية للغاية، وأبعد المقلاة عن الشعلة حتى تنخفض درجة حرارتها، وذلك لمنع بياض البيض من أن يجمد أو يحترق من الجوانب. لم يكن قد وصل في الوقت المناسب لتنظيف المقلاة من الدهن القديم ووضع بعض الدهن الجديد فيها، فلم تكن أمه تزيل الدهن القديم قط، وإنما تتركه في المقلاة لاستخدامه في وجبة بعد أخرى، وتضع القليل من الدهن الجديد عند الضرورة.
عندما صارت درجة الحرارة مناسبة من وجهة نظر سيسي، وضع المقلاة على الموقد وأخذ يلملم جوانب بياض البيض المتشعبة صانعا منها دوائر مرتبة، وعثر على ملعقة نظيفة وضع بها بعض الدهن الساخن على الصفار لطهيه. أحب هو ووالدته البيض بهذا الشكل، لكنها لم تتمكن عادة من طهيه على النحو الصحيح. أما والده، فأحب تناول البيض مقليا من الجانبين فيتم قلبه وتسويته كفطائر البان كيك، ويفضله شديد النضج حتى يصير كجلد الأحذية، وأسود اللون لامتلائه بالفلفل الأسود. وكان بوسع سيسي طهي البيض كما يفضله والده أيضا.
لم يعرف أي من الصبية الآخرين مدى براعة سيسي في المطبخ، كما لم يعرف أي منهم أيضا المكان الذي كان يختبئ فيه خارج المنزل في الزاوية المظلمة الموجودة بجوار نافذة غرفة الطعام خلف شجرة البرباريس اليابانية.
Shafi da ba'a sani ba
جلست والدته على الكرسي بالقرب من النافذة، في حين انتهى هو من إعداد البيض. أخذت تراقب الطريق من النافذة؛ فلم يفت الأوان بعد على وصول والده للمنزل لتناول الطعام. وربما لم يسكر بعد، لكن سلوكه لم يعتمد دوما على مدى سكره؛ فإن دخل إلى المطبخ الآن، فسيطلب من سيسي على الأرجح إعداد بعض البيض له أيضا، ثم سيسأله عن مئزر المطبخ الخاص به، ويقول له إنه سيصير زوجة بارعة في المستقبل. هكذا يكون سلوكه عندما يكون في حالة مزاجية جيدة، أما إذا كان في حالة مزاجية أخرى، فسيحدق في سيسي على نحو معين يعكس تعبيرا تهديديا عبثيا ومبالغا فيه، ويقول له إنه يجدر به الاحتراس. «تظن نفسك غلاما ذكيا، أليس كذلك؟ حسنا، لن أقول لك سوى أنه يجدر بك الاحتراس.»
وإذا نظر إليه سيسي - أو ربما أيضا إذا لم يفعل - أو إذا أسقط ملعقة البيض أو وضعها على نحو جعلها تصدر صوتا - أو حتى إذا توخى الحذر الشديد لعدم إسقاط أي شيء وإصدار أي ضوضاء - كان والده يكشر عن أنيابه ويزمجر كالكلب. قد يرى البعض مظهره مضحكا - بل إنه كذلك بالفعل - لكنه يكون جادا حين يفعل ذلك؛ فبعد دقيقة، يكون الطعام والأطباق على الأرض، والكراسي أو المائدة مقلوبة، وقد يطارد سيسي أيضا في أرجاء الغرفة وهو يصيح موضحا كيف سينال منه هذه المرة، ويسوي وجهه على الموقد الساخن، ويسأله عن رأيه فيما سيحدث له. وأي شخص يراه سيظن أنه مجنون. بيد أنه إذا طرق الباب في تلك اللحظات - ليعلن مثلا عن حضور أحد أصدقائه لاصطحابه إلى الخارج - كان وجهه يعود إلى طبيعته في الحال، ويفتح الباب، وينادي صديقه باسمه بصوت مازح. «سأكون معك في لحظات. كنت سأدعوك للدخول، لكن زوجتي ترمي الأطباق في أرجاء المنزل كعادتها.»
لم يكن يعتقد أن أحدا سيصدق ذلك، لكنه كان يقول مثل هذه الأشياء ليحول ما كان يحدث في منزله إلى مزحة.
سألت الأم سيسي عما إذا كان الطقس يزداد دفئا وأين ذهب ذلك الصباح.
فأجابها: «نعم، إنه يزداد دفئا، وقد ذهبت إلى الأراضي المسطحة بجوار النهر.»
فقالت له إنها بإمكانها شم رائحة الريح به.
واستطردت: «أتعلم ماذا سأفعل بعد تناولنا الطعام مباشرة؟ سآخذ زجاجة مياه ساخنة وأعود إلى السرير؛ لعلي أستعيد بعضا من عافيتي، وأشعر بأنني أفعل شيئا ذا قيمة.»
كان هذا ما تقوله عادة، لكنها كانت تصرح به دوما كما لو كان فكرة طرأت لها فجأة، مجرد قرار مفعم بالأمل. •••
كان لباد سولتر أختان أكبر منه لا تفعلان شيئا نافعا في الحياة إلا إذا أجبرتهما والدتهما على ذلك؛ فلم تقصرا ما تفعلانه من تصفيف الشعر، وطلاء الأظافر، وتنظيف الأحذية، ووضع مساحيق الزينة، بل وكل ما يتعلق بملابسهما أيضا، على غرف نومهما أو دورة المياه، وإنما كانتا تلقيان بالأمشاط وأدوات عقص الشعر وبودرة الوجه وطلاء الأظافر وملمع الأحذية بجميع أرجاء المنزل، وتملآن كذلك كل مساند الكراسي بالفساتين والبلوزات المكوية، هذا إلى جانب تجفيف السترات على المناشف على كل بقعة فارغة على الأرض (ثم تصرخان في وجه من يخطو بالقرب منها). اعتادتا، أيضا، تأمل نفسيهما في العديد من المرايا - مرآة حامل المعاطف، ومرآة بوفيه غرفة الطعام، والمرآة المعلقة بجوار باب المطبخ التي يمتلئ الرف الموجود أسفلها دوما بالدبابيس المشبكية، ودبابيس الشعر، والعملات المعدنية، والأزرار، وما تبقى من أقلام الرصاص. وأحيانا، كانت تقف إحداهما أمام إحدى هذه المرايا عشرين دقيقة كاملة أو نحو ذلك لتتأمل نفسها من عدة زوايا، وتفحص أسنانها، وتجذب شعرها للخلف ثم تنفضه للأمام، ثم تسير مبتعدة عن المرآة وقد بدا عليها الرضا بمظهرها، أو على الأقل الانتهاء مما كانت تفعله، لكنها ما إن تصل إلى الغرفة المجاورة وتمر بمرآة أخرى حتى تبدأ في تكرار كل ما فعلته مجددا كما لو كانت قد بدلت رأسها برأس جديد.
وفي اللحظة التي دخل فيها باد إلى المنزل، كانت أخته الكبرى - المفترض أنها جميلة - تنزع الدبابيس من شعرها أمام مرآة المطبخ، وقد لفته على شكل تموجات لامعة كالحلازين. أما أخته الأخرى، فكانت تهرس البطاطس؛ بأمر من والدتها، وكان أخوه، الذي يبلغ من العمر خمسة أعوام، يجلس في مكانه على المائدة، ويقرع بالشوكة والسكين بقوة لأعلى وأسفل، وهو يصيح: «أرغب في بعض الخدمة ... أرغب في بعض الخدمة.»
Shafi da ba'a sani ba
تعلم الفتى الصغير هذه العبارة من والده الذي كان يرددها أحيانا على سبيل الدعابة.
مر باد بجوار كرسي أخيه وقال هامسا: «انظر! إنها تضيف قطع البطاطس الكبيرة على صحن البطاطس المهروسة ثانية.»
كان باد قد أقنع أخوه في السابق أن قطع البطاطس الكبيرة من الإضافات الموجودة في خزانة المطبخ وتوضع في البطاطس المهروسة، شأنها شأن الزبيب الذي يوضع في حلوى الأرز باللبن.
فتوقف الأخ الأصغر عن الغناء، وبدأ في التذمر. «لن أتناول هذه البطاطس إذا وضعت فيها القطع الكبيرة. يا أمي! لن أتناول البطاطس إذا وضعت فيها القطع الكبيرة.»
فقالت له الأم التي أخذت تقلي شرائح التفاح وحلقات البصل مع شرائح اللحم: «يا إلهي! كفاك سخفا! توقف عن التذمر كالطفل الصغير.»
فقالت الأخت الكبرى: «باد هو السبب؛ لقد أخبره بأنها تضع القطع الكبيرة في البطاطس. إنه يقول له ذلك دوما، ولا يفلح إلا في ذلك.»
وعقبت دوريس - الأخت التي كانت تهرس البطاطس - بقولها: «إن باد يستحق تهشيم وجهه.» لم تقتصر مثل هذه العبارات دوما على كونها تهديدا فحسب، وإنما أصابت دوريس باد ذات مرة بندبة في وجنته بأحد أظافرها.
تحرك باد نحو خزانة الأطباق حيث استقرت أعلاها فطيرة راوند تركت لتبرد. التقط شوكة، وبحرص شديد أخذ يفحصها سرا، والبخار يتصاعد منها حاملا رائحة القرفة الشهية. حاول فتح أحد الشقوق الموجودة أعلاها ليتمكن من تذوق الحشو، فرأى الأخ الأصغر ما كان باد يحاول فعله، لكن خوفه الشديد منعه من أن يفتح فاه. كان أخوه مدللا، وتدافع عنه الأختان دوما؛ لكن باد كان الشخص الوحيد الذي يحترمه الأخ الأصغر في المنزل.
فكرر ما كان يقوله لكن بصوت خفيض رصين: «أرغب في بعض الخدمة.»
تحركت دوريس نحو خزانة الأطباق لتحضر وعاء للبطاطس المهروسة، فتحرك باد على نحو أهوج، وهبطت قطعة من الطبقة الخارجية للفطيرة نحو الداخل.
Shafi da ba'a sani ba
فقالت دوريس: «والآن، إنه يفسد الفطيرة. يا أمي! باد يفسد الفطيرة.»
قال باد: «فلتغلقي هذا الفم اللعين!»
فقالت الأم بحدة توحي بالتمرس والهدوء إلى حد ما: «ابتعد عن الفطيرة. وتوقفوا عن السباب. كفوا عن اللغو وتصرفات الصغار!» •••
جلس جيمي بوكس على مائدة مزدحمة لتناول وجبة الغداء، كان يعيش مع والده ووالدته وأختيه البالغتين من العمر أربعة وستة أعوام في منزل جدتهم الذي سكنته أيضا الجدة وأختها ماري وخاله الأعزب. امتلك والده ورشة لإصلاح الدراجات في السقيفة الموجودة خلف المنزل، وعملت والدته في متجر هونيكرز متعدد الأقسام.
وقد كان والده أعرج بسبب إصابته بفيروس شلل الأطفال الذي هاجمه في الثانية والعشرين من عمره، ما جعله يسير منحنيا للأمام ومتكئا على عكاز. لكن ذلك لم يبد واضحا أثناء عمله في الورشة؛ لأن طبيعة العمل تطلبت منه في الغالب الانحناء للأمام؛ بيد أنه عند سيره في الشارع، كان يبدو غريبا للغاية، لكن ما من أحد أهانه أو قلد حركاته متهكما. فقد كان في السابق لاعب هوكي وبيسبول بارزا في البلدة، وحتى الآن ظل محتفظا ببعض من رونق الماضي وبطولاته؛ مما جعل الناس ينظرون إلى حالته الحالية بعقلانية على أنها مجرد مرحلة يمر بها (وإن كانت نهائية). وقد ساعد والد جيمي في تكوين هذه النظرة لدى الناس بإطلاقه النكات دوما ونبرة حديثه التفاؤلية، منكرا الألم الذي بدا واضحا في عينيه الغائرتين وأرق جفنيه في كثير من الليالي. هذا فضلا عن عدم تغييره أسلوبه في الحديث عند عودته إلى المنزل، على عكس والد سيسي فيرنس.
لكن هذا المنزل لم يكن منزله بالطبع؛ فقد تزوجته زوجته بعد إصابته بالعرج، لكنهما كانا مخطوبين قبل ذلك الحين، وبدا من الطبيعي أن ينتقلا بعد الزواج إلى منزل والدتها كي تتمكن الجدة من رعاية الأحفاد أثناء خروج الأم لعملها. وبدا من الطبيعي أيضا لوالدة الزوجة أن ترعى أسرة أخرى، ولأختها ماري أن تنتقل للعيش معهم في نفس المنزل بعد فقدان بصرها، وأن يظل ابنها فريد - الذي اتسم بخجله الشديد - معها في المنزل إلى أن يجد مكانا آخر يستريح فيه أكثر من هذا المنزل. كانت عائلة تتقبل شتى صور الأعباء بأقل قدر ممكن من التذمر. وفي الواقع، ما من أحد في ذلك المنزل تحدث من قبل عن إعاقة والد جيمي أو فقدان أخت الجدة ماري لنظرها كأعباء أو مشكلات تفوق مشكلة خجل فريد مثلا. وما كانت العلل والشدائد بالأمور الملاحظة بينهم، أو البارزة بمقارنتها بنقائضها.
ساد في تلك العائلة اعتقاد بأن جدة جيمي طباخة ماهرة؛ ولعل ذلك كان حقيقيا في وقت من الأوقات، لكن في الآونة الأخيرة كان هناك تراجع في هذه البراعة؛ فحرصت الجدة على الاقتصاد عند إعداد الطعام على نحو لم تعد العائلة بحاجة إليه آنذاك؛ فقد كانت والدة جيمي وخاله يحصلان على رواتب جيدة، وأخت جدته ماري كانت تحصل على معاش، وكان العمل يسير على نحو جيد أيضا في ورشة الدراجات؛ ومع ذلك، كانت الجدة تستخدم بيضة واحدة، بدلا من ثلاث بيضات، وتضيف إلى رغيف اللحم كوب شوفان إضافيا، وتحاول تعويض الأمر بطهي صوص ورسيسترشير جيد أو رش الكثير من جوز الطيب على الكاسترد. لكن ما من أحد تذمر، بل مدحها الجميع. فكاد ذلك المنزل يخلو من أي نوع من الشكوى على الإطلاق. واعتاد الجميع أيضا الاعتذار بعضهم لبعض، حتى الفتاتان الصغيرتان كانتا تعتذران إحداهما للأخرى إذا اصطدمتا خطأ. مرر الجميع الطعام للآخرين، ورضي كل منهم بما قدم له، وتبادلوا عبارات الشكر على المائدة كما لو كان هناك ضيوف معهم كل يوم. هكذا سارت الحياة في ذلك المنزل المكتظ بالسكان الذي تكومت فيه الملابس على كل حامل، وتعلقت المعاطف على درابزين السلم، وأعدت الأسرة النقالة دوما في غرفة الطعام لجيمي وخاله فريد. هذا فضلا عن اختفاء البوفيه تحت أكوام من الملابس في انتظار كيها أو إصلاحها. ولم يكن أحد يحدث ضوضاء بصعوده أو نزوله السلم، أو يغلق الأبواب بقوة، أو يرفع صوت المذياع، أو يتفوه بأي كلمة سيئة.
لكن هل يفسر ذلك عدم إفصاح جيمي عما حدث ذلك اليوم عند تناوله الغداء مع عائلته؟ في الواقع، لم يفصح أي من الصبية الثلاثة عما حدث. ومن اليسير فهم السبب في حالة سيسي؛ فما كان والده ليتقبل أبدا ادعاء جيمي هذا الاكتشاف الخطير، وكان سيتهمه بلا شك بالكذب. ووالدته أيضا - التي كانت تحكم على كل شيء من منظور تأثيره على والده - كانت سترى - وستكون صائبة في ذلك - أنه حتى ذهاب سيسي إلى قسم الشرطة للإبلاغ عن الحادث سيتسبب في مشكلات في المنزل؛ ومن ثم، كانت ستطلب منه عدم الإفصاح عما رآه. لكن الصبيين الآخرين كانا يعيشان في أسرتين تتسمان بالعقلانية إلى حد بعيد، وبوسعهما الإفصاح؛ ففي منزل جيمي، كانت القصة ستسفر عن ذعر وبعض الاستنكار، لكن أسرته كانت ستقر في النهاية أن ما حدث لم يكن لجيمي يد فيه.
أما باد، فكانت أختاه ستتهمانه بالجنون، وربما تحرفان الأمر ليبدو أن اكتشافه لجثة رجل ما أمر يليق به وبعاداته الكريهة؛ بيد أن والده كان عقلانيا وصبورا واعتاد سماع الكثير من الهراء العجيب في عمله بوصفه وكيل شحن في محطة القطار؛ ومن ثم، كان سيسكت أختيه، وبعد التحدث معه بجدية بعض الوقت للتأكد من أنه لا يكذب ولا يبالغ، كان سيتصل بالشرطة.
لكن ما حال دون تحدث الصبية الثلاثة هو أن منازلهم بدت ممتلئة للغاية، وثمة أمور كثيرة تحدث فيها. ولا يستثنى من ذلك منزل سيسي؛ فحتى في ظل غياب والده، يسود المنزل دوما شعور بالتهديد وذكرى وجوده وما يصاحبه من اهتياج. ••• «هل أبلغتهم؟» «هل فعلت أنت؟» «لم أبلغهم أنا أيضا.»
Shafi da ba'a sani ba
سار الثلاثة في وسط البلدة على غير هدى حتى وصلوا إلى شارع شيبكا، ليجدوا أنفسهم يمرون بمنزل مبني من الجص ومكون من طابق واحد حيث كان يعيش السيد ويلينس وزوجته. لم يتعرفوا عليه إلا بعد وصولهم أمامه مباشرة. كان للمنزل نافذة بارزة صغيرة على كل جانب من جانبي الباب الأمامي، وكانت آخر درجة في السلم من أعلى تكفي لمقعدين اعتاد السيد ويلينس وزوجته وضعهما عليها في ليالي الصيف، لكنها خلت منهما آنذاك. كان هناك أيضا جزء ملحق بأحد جوانب المنزل ذو سطح مستو، وله باب آخر يطل على الشارع وممشى منفصل يؤدي إليه، وثمة لافتة بجوار الباب مكتوب عليها: «دكتور ويلينس، أخصائي بصريات». لم يكن أي من الصبية الثلاثة قد زار تلك العيادة من قبل، لكن أخت جدة جيمي - ماري - كانت تتردد عليها بانتظام للحصول على قطرات العين الخاصة بها، وجدته أيضا حصلت على نظارتها من هذه العيادة، وكذا فعلت والدة باد سولتر.
كان الجص الذي بني به المنزل من اللون الطوبي، وكانت أطر النوافذ والأبواب مطلية باللون البني، ولم تكن النوافذ الواقية من العواصف قد أزيلت بعد، كما هو الحال في معظم منازل البلدة، ولم يكن هناك أي شيء مميز في ذلك المنزل على الإطلاق، لكن فناءه الأمامي اشتهر بزهوره؛ فقد ذاع صيت السيدة ويلينس لبراعتها في أعمال البستنة؛ إذ لم تكن تزرع الزهور في صفوف طويلة مجاورة لحديقة الخضراوات، مثلما فعلت جدة جيمي ووالدة باد، وإنما كانت تزرعها في أحواض مستديرة وهلالية الشكل، وفي كافة أرجاء الحديقة، وفي دوائر تحت الأشجار. وكان من المنتظر أن تملأ هذه الحديقة في غضون أسابيع قليلة أزهار النرجس البري، لكن في ذلك الوقت، لم يكن شيء قد أزهر بعد في المكان سوى شجيرة زيتون كادت تصل إلى الإفريز في أحد أركان المنزل، وكانت تنثر أوراقها الصفراء في الهواء مثلما تنثر النافورة مياهها.
اهتزت أوراق الشجيرة، لكن ليس بفعل الرياح، وإنما لمرور شخص خرج من المنزل بجانبها. كان منحني الظهر ويرتدي ملابس بنية اللون. لقد كانت السيدة ويلينس في ملابس البستنة القديمة الخاصة بها. كانت سيدة قصيرة ممتلئة الجسم ترتدي بنطالا فضفاضا، وسترة ممزقة، وقبعة ذات حافة، وكانت واسعة على رأسها فنزلت إلى عينيها حتى كادت تخفيهما، لعلها كانت تخص زوجها، وحملت في يديها مجزا.
تقدموا ببطء للأمام؛ فما كان أمامهم خيار سوى ذلك أو الهرب. ولعلهم اعتقدوا أنها لن تلاحظهم، وأنهم سيقفون دون حراك كأنهم أعمدة، لكنها كانت قد رأتهم بالفعل؛ وكان هذا سبب خروجها مسرعة من المنزل.
قالت لهم السيدة ويلينس: «لقد رأيتكم تحدقون في شجيرة الزيتون في حديقتي. هل تريدون الحصول على بعض من أزهارها لتصطحبوها معكم إلى المنزل؟»
لكنهم لم يحدقوا في الشجيرة، وإنما في المشهد بالكامل؛ فالمنزل كان كعادته، واللافتة معلقة بجوار باب العيادة، والستائر تسمح بدخول الضوء إلى المكان. لم يكن هناك أي شيء يستحق التأمل أو ينذر بسوء، أو يدل على أن السيد ويلينس لم يكن موجودا بالداخل أو أن سيارته ليست في الجراج خلف العيادة، وإنما في بركة جوتلند. والسيدة ويلينس أيضا خرجت للعمل في حديقتها كما هو متوقع في ذلك الوقت من العام بعد ذوبان الجليد. نادت عليهم بصوتها المألوف الذي صار خشنا بسبب السجائر، بنبرة مباغتة وتحد، لكنه خلا في الوقت نفسه من العدائية. كان صوتا يسهل التعرف عليه من على بعد.
قالت لهم: «انتظروا، سوف أحضر لكم بعضا منها.»
أخذت تقطف بعض الأفرع ذات اللون الأصفر الزاهي منتقية إياها ببراعة، وعندما حصلت على كل ما تريده، تقدمت نحو الصبية خلف ستار من الأزهار.
وقالت لهم: «تفضلوا، خذوها إلى المنزل لأمهاتكم. إن رؤية هذه الزهور تدخل السرور دوما إلى النفس؛ فهي أول ما يزهر في الربيع.» وقسمت الأفرع بينهم، وهي تقول: «نقسمها إلى ثلاثة أقسام، مثل بلاد الغال قديما. لا ريب أنكم تعلمون ما أعني إذا كنتم تدرسون اللغة اللاتينية.»
فرد عليها جيمي، الذي كان أكثر تأهبا للتحدث مع السيدات مقارنة برفيقيه بسبب طبيعة حياته في المنزل: «لم نلتحق بالمدرسة الثانوية بعد.»
Shafi da ba'a sani ba
فقالت له: «حقا؟ حسنا، في انتظاركم أشياء كثيرة لتطلعوا إليها. اطلبوا من أمهاتكم وضع هذه الأزهار في ماء فاتر. بل لا تقولوا لهن شيئا؛ فأنا موقنة أنهن يعلمن ذلك بالفعل. لقد أعطيتكم أغصانا لم يكتمل نضجها بعد؛ ولذلك ستظل مزهرة فترة طويلة.»
شكرها الصبية؛ جيمي في البداية، ثم تبعه الآخران، وساروا تجاه وسط البلدة وأذرعهم محملة بالأغصان. لم تكن لديهم أي نية للرجوع والعودة بها إلى المنزل، وإنما اعتمدوا على جهل السيدة ويلينس بأماكن منازلهم. وبعد أن ابتعدوا بعض الشيء عنها، اختلسوا النظر وراءهم ليروا ما إذا كانت تراقبهم.
لم تكن تراقبهم، كما أن المنزل الكبير القريب من الرصيف حجب الرؤية بينهم وبينها على أي حال .
منحتهم الأزهار شيئا ليفكروا فيه؛ فكروا في الإحراج من حملها، وفي مشكلة التخلص منها، ولولا ذلك، لفكروا في السيد ويلينس وزوجته، وانشغال الزوجة في الحديقة بينما زوجها غارق في سيارته. هل كانت تعلم مكانه أم لا؟ بدا الأمر وكأنها لا تعلم. هل كانت تعلم حتى باختفائه؟ لقد تصرفت كأن كل شيء على ما يرام. وعندما كانوا واقفين أمامها، بدا لهم أن تلك هي الحقيقة بالفعل؛ فشعروا بأن ما يعلمونه وما رأوه يزوي وينهزم أمام جهل الزوجة به.
مرت بهم فتاتان تقودان دراجتيهما عند ناصية الشارع. كانت إحداهما دوريس، شقيقة باد، وعند رؤية الصبية، أخذتا في الصياح عاليا. «يا لها من أزهار جميلة! ترى أين حفل الزفاف؟ كم تبدن جميلات يا وصيفات العروس!»
فصاح باد بأفظع ما اهتدى إليه من كلمات. «انظري، الدماء تغرق مؤخرتك.»
بالطبع، لم تكن هناك أي دماء، لكن هذا ما حدث ذات مرة أثناء عودتها من المدرسة عندما بللت الدماء تنورتها، ورآها الجميع. كان موقفا لن يمحى من ذاكرتها إلى الأبد.
كان باد موقنا من أنها ستشي به في المنزل، لكنها لم تفعل؛ فخزيها من ذلك الحادث كان هائلا على نحو حال دون ذكرها أي شيء عنه، حتى وإن كان الغرض هو إيقاعه في المتاعب. •••
أدرك الصبية حينذاك أن عليهم التخلص من الأزهار على الفور؛ فما كان منهم إلا أن ألقوا بها تحت إحدى السيارات المتوقفة بجانب الطريق، ونفضوا عن ملابسهم أي بتلات متساقطة عليها أثناء توجههم نحو الميدان.
كانت أيام السبت لا تزال مهمة آنذاك؛ إذ كان يحضر أهل الريف إلى البلدة خلالها. كانت السيارات قد توقفت بالفعل حول الميدان وفي الشوارع الجانبية. وشباب الريف من الجنسين - والأطفال الأصغر منهم سنا من سكان البلدة والريف - يتوجهون للسينما لحضور الحفلة النهارية.
Shafi da ba'a sani ba
وجب على الصبية الثلاثة المرور بمتجر هونيكرز في المربع السكني الأول. وهناك، رأى جيمي والدته وقد بدت واضحة للجميع في إحدى واجهات المتجر. كانت قد عادت للعمل حينذاك، وأخذت تضع القبعة على رأس تمثال العرض، وتضبط البرقع الشبكي، ثم كتفي الفستان. كانت امرأة قصيرة؛ لذا لزم عليها الوقوف على أطراف أصابعها لفعل ذلك على نحو صحيح. خلعت حذاءها لتسير على السجادة المفروشة على أرضية الواجهة. وكان من الممكن رؤية كعبيها الممتلئين المتوردين عبر الجوارب التي كانت ترتديها. وعندما بسطت جسمها واقفة على أطراف أصابعها، كان من الممكن رؤية باطن ركبتيها عبر فتحة التنورة الخلفية. وأعلى ذلك كانت مؤخرتها العريضة، والمتناسقة في الوقت نفسه مع قوامها، ثم حافة ملابسها الداخلية أو المشد. كان بوسع جيمي سماع تذمرها الخافت في رأسه، وشم رائحة جواربها التي كانت تخلعها فور وصولها المنزل للحفاظ عليها من البلى. الجوارب والملابس الداخلية - حتى الملابس الداخلية الحريمي النظيفة - كانت لها رائحة باهتة من نوع خاص، جذابة ومثيرة للاشمئزاز في الوقت نفسه.
تمنى جيمي أمرين حينذاك؛ الأمر الأول هو ألا يكون رفيقاه قد لاحظا أمه (لكنهما لاحظاها بالفعل؛ بيد أن فكرة تأنق الأم كل يوم وخروجها للحياة العامة في البلدة كان أمرا غريبا للغاية بالنسبة إليهما، ما حال دون تعليقهما عليه، فتجاهلاه فحسب). والأمر الثاني هو ألا تستدير والدته وتراه؛ فإن فعلت ذلك، كانت ستطرق على زجاج الواجهة، وتلقي التحية عليه؛ فقد كانت تتخلص عند ذهابها إلى العمل من التحفظ الصامت والدماثة المتأنية التي سادت المنزل، ويتحول لطفها وكرمها مع الآخرين من إذعان إلى حيوية وجرأة. واعتاد جيمي أن يسعد بهذا الجانب المرح من شخصيتها، كما كان يسعد بمتجر هونيكرز وما به من مناضد بيع ضخمة مصنوعة من الزجاج والخشب اللامع، ومرايا كبيرة أعلى السلم حيث تمكن من رؤية نفسه وهو يصعد إلى قسم الملابس الحريمي بالطابق الثاني.
كانت والدته تقول عند رؤيته: «ها قد جاء شيطاني الصغير»، وتلقي له أحيانا بعشرة سنتات. ولم يتمكن قط من البقاء معها أكثر من دقائق معدودة؛ إذ من المحتمل أن يكون السيد هونيكر وزوجته يراقبان ما يحدث. «شيطاني الصغير.»
كلمات أسعده سماعها في السابق، شأنها شأن رنين السنتات، لكنها صارت مصدر خجل له الآن عليه إخفاؤه.
فقد أصبحت ماضيا منسيا.
وفي المربع السكني التالي، كان عليهم المرور بمطعم ديوك أوف كمبرلاند، لكن سيسي لم يكن قلقا؛ لأن عدم حضور والده إلى المنزل في موعد الغداء يعني أنه سيظل في ذلك المطعم عدة ساعات تالية، لكن كلمة «كمبرلاند» كان لها دوما وقع ثقيل في نفسه؛ حتى قبل أن يعرف معناها، كانت تنزل عليه كالحمل الثقيل المقبض للصدر، مثل الثقل الذي يرتطم بقاع المياه المظلمة.
وبين مطعم كمبرلاند ومبنى البلدية زقاق غير ممهد، وخلف هذا المبنى كان قسم الشرطة. دخل الصبية الزقاق، وسرعان ما سمعوا ضوضاء عالية غير تلك الصادرة من الشارع. لم تكن هذه الضوضاء صادرة من المطعم الذي كتمت الأصوات داخله؛ إذ لم يحتو البار إلا على نوافذ صغيرة عالية، مثل المراحيض العامة، وإنما كانت صادرة عن قسم الشرطة، الذي فتح بابه في ظل اعتدال الطقس، وفاحت منه رائحة السيجار وتبغ الغليون التي كان من الممكن شمها من الزقاق في الخارج. ولم يكن رجال الشرطة وحدهم الجالسين بالداخل، لا سيما في فترات بعد الظهيرة أيام السبت، مع تشغيل المدفأة في فصل الشتاء والمروحة في الصيف، وترك الباب مفتوحا للسماح للهواء العليل بالدخول في أيام الطقس المعتدل مثل ذلك اليوم. فكان من المتوقع وجود كولونيل بوكس بالداخل، بل إن الصبية تمكنوا في الواقع من سماع صوت حشرجة أنفاسه الطويلة التي كانت تلي ضحكته المشوبة بآثار الربو الذي كان يعاني منه. كان الكولونيل بوكس أحد أقارب جيمي، لكن ثمة برودا ساد في العائلة تجاهه بسبب عدم موافقته على زواج والد جيمي. وكان يتحدث مع جيمي - عندما يتعرف عليه - بنبرة ساخرة مندهشة. وقد أوصت والدة جيمي الفتى قائلة: «إذا قدم لك ربع دولار أو أي شيء من هذا القبيل، فأخبره أنك لست بحاجة إليه.» لكن الكولونيل بوكس لم يعرض عليه أي أموال قط.
كان السيد بولوك، الذي عمل في الصيدلية قبل تقاعده، بالداخل أيضا على الأرجح، وكذلك السيد فيرجس سولي، الذي لم يكن غبيا، لكن مظهره أوحى بذلك بسبب تعرضه للغازات في الحرب العالمية الأولى. قضى هؤلاء الرجال وآخرون يومهم بالكامل في لعب الورق، والتدخين، ورواية القصص، وشرب القهوة على نفقة البلدة (كما كان والد باد يقول)، وأي أحد يرغب في تقديم شكوى أو بلاغ ما، كان عليه فعل ذلك على مرأى - وربما أيضا على مسمع - منهم جميعا.
لقد وقعوا في الفخ.
وصل الصبية الثلاثة بالكاد أمام الباب الأمامي، لم يلاحظهم أحد، وهناك سمعوا كولونيل بوكس يقول: «إنني لم أمت بعد.» مكررا العبارة الأخيرة لقصة ما يرويها؛ فبدءوا في السير ببطء بعيدا عن المكان، وقد طأطئوا رءوسهم وأخذوا يركلون الحصى بالطريق. وعند الوصول إلى زاوية المبنى، أسرعوا في خطاهم، وعند مدخل مرحاض الرجال العام، وجدوا خطا من القيء الحديث المتكتل على الحائط، وعددا من الزجاجات الفارغة على الأرض. لزم عليهم السير بين صناديق القمامة والنوافذ العالية - التي كشفت المكان بالكامل - لمكتب أمين سجلات البلدية، ليخرجوا من الطريق المليء بالحصى عائدين إلى الميدان.
Shafi da ba'a sani ba
قال سيسي لرفيقيه: «معي نقود.» أشعرهم الإفصاح عن امتلاكه المال بالراحة، وخشخش سيسي بالعملات المعدنية في جيبه. لقد كانت الأموال التي منحته إياها والدته بعد غسيله الأطباق وذهابه لها في غرفة النوم الأمامية ليخبرها بأنه سيخرج. قالت له: «خذ خمسين سنتا من على منضدة الزينة.» امتلكت والدته بعض المال أحيانا، مع أنه لم ير والده يمنحها أي أموال قط، وعندما كانت تقول له «خذ» كذا، أو تعطيه بعض العملات المعدنية، كان سيسي يدرك أنها خجلة من حياتهم وخجلة من أجله، ومنه. وفي تلك اللحظات، كان يكره رؤيتها (وإن كان يسعد برؤية المال)، لا سيما عندما كانت تقول له إنه فتى صالح ويجب ألا يظن أبدا أنها لا تشعر بالامتنان له لكل ما يفعله.
سلك الصبية الثلاثة الطريق المؤدي إلى المرفأ. وبجوار محطة بنزين باكيت، كان هناك كشك تبيع فيه السيدة باكيت الهوت دوج والآيس كريم والحلوى والسجائر. وقد رفضت في السابق بيع السجائر لهم، حتى بعد أن قال لها جيمي إنه يشتريها لخاله فريد. لكنها لم تتحامل عليهم بسبب هذه المحاولة. كانت امرأة كندية من أصل فرنسي، جميلة وممتلئة القوام.
اشتروا بعض حلوى عرق السوس الأسود والأحمر، واعتزموا شراء الآيس كريم لاحقا، عندما يخف شعورهم بالامتلاء بسبب وجبة الغداء. توجهوا نحو مقعدي سيارة قديمين موضوعين بجوار السور تحت شجرة تظلل المكان في فصل الصيف، وتشاركوا معا حلوى عرق السوس.
جلس كابتن تيرفيت على المقعد الآخر.
عمل كابتن تيرفيت قبطانا حقيقيا لأعوام عديدة على متن القوارب في البحيرة، أما الآن، فقد حصل على وظيفة مسئول أمن خاص؛ إذ كان يوقف السيارات للسماح للأطفال بعبور الطريق أمام المدرسة، ويحميهم من الانزلاق بالشوارع الجانبية في الشتاء. كان ينفخ في صافرة يحملها في إحدى يديه، في حين يرفع يده الأخرى الضخمة التي بدت كيد المهرج وهي مغطاة بالقفاز الأبيض. كان لا يزال طويلا مشدود البنية وعريض المنكبين، بالرغم من كبر سنه وشعره الأبيض. وامتثلت السيارات لأوامره، وكذلك الأطفال.
وفي الليل، كان يتفقد أبواب جميع المتاجر ليتأكد من غلقها بالأقفال، ومن خلوها من أي أحد يحاول سرقتها، أما نهارا، فكان ينام عادة في الأماكن العامة؛ ففي الطقس السيئ، ينام في المكتبة، وعندما تتحسن الأحوال الجوية، كان ينتقي أي مقعد في الهواء الطلق. لم يقض الكثير من الوقت في قسم الشرطة، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى ضعف سمعه الذي حال دون متابعته للمحادثات التي كانت تجري هناك إلا إذا ارتدى السماعة الخاصة به، التي كرهها شأنه شأن كل ضعاف السمع؛ هذا فضلا عن اعتياده العزلة، بالتأكيد أثناء عمله قبطانا وتحديقه في الخلاء من فوق قوارب البحيرة.
أغمض الكابتن عينيه ومال برأسه للخلف كي يسمح لأشعة الشمس بالتدفق على وجهه، وعندما ذهب الصبية للتحدث معه (اتخذ هذا القرار دون أي مشاورة، ولم يتبادلوا سوى نظرة واحدة توحي بالإذعان والتردد) كان عليهم إيقاظه من غفوته. استغرق وجهه لحظة ليدرك المكان والزمان والأشخاص من حوله، ثم أخرج ساعة كبيرة عتيقة من جيبه، كما لو كان اعتاد على سؤال الأطفال له دوما عن الساعة، لكنهم بدءوا في التحدث معه وقد بدا على ملامحهم الارتباك وبعض الخجل. قالوا له: «السيد ويلينس في بركة جوتلند»، و«لقد رأينا السيارة»، و«لقد غرق.» فحينها وجب على الكابتن رفع يده والتلويح لهم ليصمتوا، بينما بحث بيده الأخرى في جيب بنطاله ليخرج سماعة أذنه. أومأ برأسه بجدية وعلى نحو تشجيعي، كما لو كان يقول لهم «مهلا، مهلا»، بينما كان يضع السماعة في أذنه. ثم، رفع كلتا يديه ليطلب منهم الانتظار حتى يختبر تشغيلها. وفي النهاية، أومأ برأسه ثانية على نحو أكثر نشاطا، وقال لهم «فلتتحدثوا الآن» بصوت حازم، وإن كان يمزح إلى حد ما بشأن هذا الحزم.
كان سيسي - الأكثر هدوءا بين رفيقيه، في حين كان جيمي الأكثر أدبا، وباد الأكثر ثرثرة - هو الذي غير مجرى الحديث تماما.
فقال للكابتن: «سحاب بنطالك مفتوح.»
ثم صاحوا جميعا بمرح، وفروا سريعا. •••
Shafi da ba'a sani ba
لم يختف مرحهم في الحال، لكنه لم يكن بالشيء الذي يمكنهم مشاركته مع الآخرين أو التحدث عنه؛ لذا، لزم عليهم الافتراق.
عاد سيسي إلى منزله ليعمل على تجهيز مكان اختبائه. كانت الأرضية المغطاة بالورق المقوى التي غطاها الثلج في فصل الشتاء قد صارت مبتلة الآن وبحاجة لاستبدالها. أما جيمي، فقفز إلى علية المرأب حيث اكتشف مؤخرا صندوقا به مجلات دوك سافيدج قديمة تخص خاله فريد. عاد باد أيضا إلى المنزل حيث لم يجد سوى والدته التي أخذت تلمع أرضية غرفة الطعام بالشمع، فتصفح بعض الكتب الهزلية مدة ساعة أو نحو ذلك، ثم باح لها بسره. اعتقد باد أن والدته ليست لها أي خبرة أو سلطة خارج المنزل، وأنها لن تتخذ أي قرار بشأن ما يجب فعله إلا بعد اتصالها بوالده، لكن ما أدهشه هو أنها اتصلت على الفور بالشرطة، ثم بوالده. وذهب شخص ما لإحضار سيسي وجيمي.
توجهت إحدى سيارات الشرطة إلى جوتلند متبعة طريق البلدة الرئيسي، وتأكد الخبر. ومن ثم، ذهب أحد رجال الشرطة وقس الكنيسة الأنجليكية للسيدة ويلينس.
ورد في التقارير أنها قالت لهما: «لم أرغب في إزعاجكم؛ كنت سأمهله حتى حلول الظلام.»
وأخبرتهما أن السيد ويلينس قد قاد سيارته متوجها إلى الريف ظهيرة اليوم السابق لإيصال بعض قطرات العين إلى رجل ضرير مسن. وأضافت أنه كان يتعطل أحيانا في طريق عودته بسبب زيارته لبعض الناس أو تعطل السيارة في الطريق.
سألها الشرطي إن كان مكتئبا أو أي شيء من هذا القبيل.
فأجاب القس: «كلا بالتأكيد. لقد كان يلعب دورا رئيسيا في جوقة المنشدين بالكنيسة.»
وقالت السيدة ويلينس: «لم يعرف الاكتئاب قط.»
كون الناس انطباعا عن الصبية الثلاثة الذين عادوا إلى منازلهم، وتناولوا الغداء، ولم ينبسوا ببنت شفة عما رأوه، ثم اشتروا حلوى عرق السوس، فأطلقوا عليهم اسما مستعارا، وهو «الميت»، وظل هذا الاسم ملازما لهم. حمله جيمي وباد إلى أن غادرا البلدة، أما سيسي، الذي تزوج وهو في سن صغيرة وعمل في صومعة الغلال، فشهد انتقال الاسم إلى ابنيه. وبحلول ذلك الوقت، لم يعد أحد يفكر فيما يرمز إليه الاسم.
أما إهانتهم للكابتن تيرفيت، فظلت سرا.
Shafi da ba'a sani ba
توقع كل منهم أي نوع من التذكير بما حدث من جانب الكابتن - كنظرة توحي بالاحتقار أو الإدانة - في المرة التالية التي مروا فيها تحت ذراعه المرفوعة ليعبروا الطريق إلى المدرسة، لكنه رفع يده المغطاة بالقفاز الأبيض، تلك اليد النبيلة الأشبه بأيدي المهرجين، برزانته الخيرة المعتادة، ليعلن عن سماحه لهم بعبور الطريق. (2) سكتة قلبية «التهاب كبيبات الكلى»، هكذا كتبت إنيد في مفكرتها. كانت تلك أول حالة تراها مصابة بهذا المرض. في الواقع، كانت كليتا السيدة كوين تعانيان تلفا شديدا، وما من شيء يمكن فعله حيال ذلك. أصيبت الكليتان بالجفاف، وصارتا كتلتين صلبتين وحبيبيتين لا فائدة منهما، كما أصبح بولها شحيحا ولونه غير صاف، وكانت رائحة أنفاسها وبشرتها نفاذة ومنذرة بالسوء. وانبعثت منها أيضا رائحة أخرى أقل حدة، تشبه رائحة الفواكه العطنة، رأت إنيد أنها مرتبطة بالبقع ذات اللون البني الباهت الموجودة على جسدها. ارتعشت ساقاها بفعل تشنجات الألم المفاجئ، وصارت بشرتها معرضة للحكة العنيفة، ما جعل إنيد تدعكها بالثلج الذي كانت تلفه في المناشف، وتضغط به على البقع المصابة.
سألت أخت زوج السيدة كوين: «كيف يصاب المرء بهذا المرض؟» كانت تدعى السيدة أوليف جرين (ويعني الاسم بالعربية «الزيتون الأخضر») (لم يخطر ببالها قط ما سيبدو عليه اسمها إلا بعد أن تزوجت وصار الجميع يسخرون منها فجأة، على حد قولها). عاشت في مزرعة تبعد بضعة أميال عن الطريق السريع، وكانت تعرج على منزل السيدة كوين كل بضعة أيام لتأخذ الملاءات والمناشف وملابس النوم إلى منزلها لتغسلها، وكانت تغسل ملابس الأطفال أيضا، ثم تعيد كل شيء بعد كيه وطيه. كانت تكوي أشرطة ملابس النوم أيضا. شعرت إنيد بالامتنان لها؛ إذ عملت قبل ذلك بوظائف أجبرتها على غسل الملابس بنفسها، أو فعل ما هو أسوأ من ذلك، وهو أن تحملها إلى والدتها التي كانت تدفع المال مقابل تنظيفها في البلدة. لم ترغب إنيد في الرد بوقاحة على سؤال السيدة جرين، لكنها استشفت ما سيئول إليه الحوار بعد ذلك، فأجابت: «يصعب تحديد ذلك بالضبط.»
فردت السيدة جرين عليها: «السبب وراء سؤالي هو أننا نسمع أمورا كثيرة؛ فأي سيدة يمكن أن تتعاطى بعض الحبوب أحيانا، مثل تلك التي تؤخذ عند تأخر الدورة الشهرية. وإذا التزمت بإرشادات الطبيب عند تعاطيها، وكان الغرض منها حسنا، فلا بأس. لكن السيدات يأخذن أحيانا أعدادا كبيرة من هذه الحبوب ولأغراض سيئة، فتتعرض الكلى للتلف في أجسامهن. أليس كذلك؟»
فقالت إنيد: «لم يسبق لي التعامل مع حالة كهذه من قبل.»
كانت السيدة جرين امرأة طويلة وبدينة، وشأنها شأن أخيها روبرت - زوج السيدة كوين - كان وجهها مستديرا متجعدا ولكنه مقبول، وأنفها أفطس، وكانت والدة إنيد تشبه الشخص الذي يمتلك هذه الملامح بالبطاطس الأيرلندية. لكن خلف ذلك التعبير البشوش الذي ارتسم على وجه روبرت، توارى الارتياب والتحفظ. وخلف وجه السيدة جرين، توارى التوق، وإن لم تعلم إنيد إلى أي شيء تتوق السيدة جرين، لكنها سعت إلى معرفة المزيد في أي محادثة بسيطة. لعلها كانت تتوق لمعرفة المزيد من الأخبار عن شيء ما مهم، أو بالأحرى عن حدث مهم.
وبالطبع ، كان هناك حدث مهم على وشك الحدوث؛ حدث جلل على الأقل في هذه الأسرة؛ فقد كانت السيدة كوين على وشك الموت وهي في سن السابعة والعشرين (وهي السن التي توقعتها لنفسها، وإن كانت إنيد قد توقعت أن تزيد عن ذلك ببضعة أعوام، لكن عندما يستمر المرض حتى هذه السن، يصير من الصعب التكهن بالعمر الذي سيصل إليه المريض). فعندما ستتوقف كليتاها عن العمل تماما، سيتوقف كذلك القلب، وتموت. قال الطبيب لإنيد: «ستظلين تراعينها حتى فصل الصيف، لكنك ستحظين على الأرجح بإجازة قبل انتهاء الفصل.»
وفي إحدى المرات، قالت السيدة جرين لإنيد: «قابلها روبرت عند ذهابه إلى الشمال. كان قد انتقل إلى هناك وحده حيث عمل في الغابات. وكانت تعمل في أحد الفنادق. لست متأكدة من طبيعة عملها، ربما عاملة تنظيف للغرف، لكنها لم تنشأ في ذلك المكان؛ وإنما تقول إنها نشأت في ملجأ للأيتام في مونتريال. أمر لا ذنب لها فيه. وقد تتوقعين تحدثها الفرنسية لهذا السبب، لكنها إن كانت تتحدثها فعلا، فهي تبقي الأمر سرا عن الآخرين.»
فردت إنيد: «حياة مثيرة.» «قوليها ثانية!»
كررت إنيد قولها: «حياة مثيرة.» لم تستطع إنيد أحيانا كبح جماح نفسها؛ فكانت تطلق النكات في مواقف يصعب أن تؤثر فيها هذه النكات على من أمامها. وفي ذلك الموقف، رفعت إنيد حاجبيها على نحو تشجيعي، وابتسمت السيدة جرين بالفعل.
لكن هل جرح ذلك مشاعر السيدة جرين؟ لقد تشابهت ابتسامتها مع ابتسامة روبرت عند محاولته تجنب استهزاء الآخرين به عندما كان في المدرسة الثانوية.
Shafi da ba'a sani ba