فقد أحبته الأميرة صبيحة، وكان يؤكد هذه الصفات في نظرها شيخوخة زوجها، وكان هو يطمعها في نفسه، ويظهر لها الحب نفاقا ومكرا؛ طمعا في الصعود إلى أعلى المراتب التي كان يشتهيها؛ فكان إذا غاب عنها تواترت منه الهدايا، وكان مما أهداها نموذج لقصرها «الزهراء» مصنوع من فضة، وقد نقشت جدرانه أبدع نقش، وقد حملت هذه الهدية باحتفال كبير، اصطف فيه الجمهور على جوانب الشوارع، وهو يعجب برؤية هذه التحفة الغريبة.
وأخذ الناس يتساءلون من أين يأتي ابن أبي عامر بكل هذه الأموال، ينفقها في بذل الهدايا إلى الأميرة. ولما كان أمينا على خزانة الدولة، لم يكن بد من الشك في أنه يختلس الأموال منها، فسعوا عند الخليفة حتى جعلوه يطلب من ابن أبي عامر أن يقدم حساب خزانة الدولة، وأمر أن ينظر في مطابقة الحساب على ما فيها من الأموال.
فكاد يسقط في يد ابن أبي عامر، ويأفل نجمه في هذه الصدمة؛ لأنه ينفق عن سعة من هذه الخزانة ، ولم يكن مرتبه يكفي إنفاقه، ولكن التوفيق كان لا يزال ملازمه؛ إذ تذكر أحد أصدقائه المخلصين ابن خضير، فقصد إليه وناشده الصداقة أن ينجيه من هذه الورطة، فدفع إليه ابن خضير جميع ما ينقص خزانة الدولة، وعمل الحساب وطوبق على الموجود من الأموال، فظهرت للخليفة أمانته، وأعاده إلى مركزه.
وكان الخلفاء في مثل تلك الظروف يتوجسون من الشبان، ورأى الذين كانوا يحبون ابن أبي عامر أن الخليفة يوشك أن يجفوه ويقصيه، فأوعزوا إليه أن يبرح قرطبة إلى إشبيلية، ويسافر منها إلى مراكش حتى تصفو الحال بينه وبين الخليفة، ثم يعود.
فلما كانت سنة 358ه سافر إلى إشبيلية، ثم برحها إلى مراكش، حيث بقي عاما، هدأت فيه العاصفة التي أثارها عليه أعداؤه في قرطبة، فعاد في سنة 359ه، والخليفة عنه راض وبقدره عارف؛ فقد رأى وقت غيابه مبلغ الارتباك الذي نال شئون الدولة على أيدي من قاموا بعمله، وهم لم يحصلوا على دربته وتجاربه.
وبقي في مركزه إلى سنة 365ه. •••
مرض الخليفة وأشفى على الهلاك، وكان ابنه هشام يبلغ من العمر 11 عاما. وكان للخليفة أخ يدعى المغيرة، وكان عمره نحو 27 عاما، وكان هو أحق بالخلافة من هشام؛ لأن تقاليد الشرع تشترط الخلافة للأرشد من الأسرة، بخلاف الحال عند سائر الأمم، حيث يرتقي العرش الابن عن الأب، كائنا ما كان عمره.
وكان هذا الخاطر يجول برأس الحكم وهو في مرض الموت فيزعجه، فأفضى بسريرة نفسه إلى ابن أبي عامر، ولم يكن أسرع من أن يجمع ابن أبي عامر مجلسا من كبراء الدولة ووجوهها، حملهم فيه على أن يقروا بولاية العهد لابنه هشام دون المغيرة.
وكان ابن أي عامر يرمي إلى مطامعه الشخصية في ذلك؛ لأنه كان يعرف أنه بعد وفاة الخليفة، لا تجد الأميرة صبيحة من تعتمد عليه سواه في إدارة الدولة ما دام الخليفة لم يبلغ سن الرشد، فإذا صار وصيا، اتسعت أمامه الفرص لكي يصير هو نفسه خليفة.
ومات الخليفة في سنة 366ه، ولكي يخلو الجو لابن أبي عامر ذهب في الحال إلى قصر المغيرة بثلة من الجنود، واقتحم عليه القصر وخنقه.
Shafi da ba'a sani ba