Labaran Shairanci
حكايات شاعرية: قصائد قصصية من الأدب الألماني الحديث
Nau'ikan
بلغ خبر جمالها وما حصده منجله الناصع الفتاك إلى آذان الأسقف الكبير؛ فأصدر أمره باستدعائها للمثول أمام سلطة الكنيسة ومجمعها الخطير، لكن الأسقف - فيما يروى ويشاع - انبهر بجمال الساحرة، وكاد يفقد الوعي والشعور. لا ندري ماذا قال لنفسه، لكننا سمعنا عما قاله لها في تأثر شديد: أنت أيتها الخاطئة المسكينة، أنت يا لورا لاي، من أغراك ومن أغواك بهذا السحر الشرير؟
قالت الساحرة الجميلة قاتلة الرجال، ومحطمة قلوب العشاق: مولاي الأسقف، سيدي القسيس الكبير، لقد تعبت من الحياة، تعبت من الحياة. أتوسل، أبتهل إليك أن تأمر بموتي الآن وفي الحال؛ لأنني ما دمت حية فسوف ينتهي كل من تقع عليه عيناي، أو تقع عيناه علي إلى الهلاك والضياع والبوار والخسران. وماذا أملك من حظي يا سيدي الأسقف الكبير؟ هل أنا التي جعلت من عيني جمرتين من النار واللهيب؟ أم أنا التي حولت ذراعي إلى عصا ساحر داهية ورهيب؟ أتوسل وأبتهل إليك يا مولاي، أن تأمر بإلقائي في النار قبل فوات الأوان، وتكسر عصاي قبل أن تلتف ذراعي كالحية حول أعناق الرجال في كل مكان. - لن أمسك بسوء يا ابنتي، ولن أستطيع أن ألعنك على الإطلاق، حتى تعترفي لي وتقولي يا لورا لاي، كيف أمكنك أن تقذفي بقلبي - وأنا رجل الله - في قلب النيران؟ كيف يمكنني أن أكسر عصاك فأكسر معها قلبي نصفين وأصبح كالمجانين والعشاق. أعترف بأني أكاد أصدق الآن ما بلغني عنك من أخبار، لكني أرجو أن تعترفي أنت وتكشفي عن قلبك النقاب يا لورا لاي. - لا تسخر مني يا سيدي القسيس الكبير، فما أنا يا مولاي إلا ساحرة مسكينة، وادع ربك وربي الرحيم أن يغفر ذنوب خاطئة بغير ذنبها وملعونة، تريدني أن أعترف؟ - أجل، أجل. كيف صعقت الملاح البائس بشعاع من عينيك وأنت على قمة جبل عال؟ وكيف ...؟ - وكيف اصطدمت مركبه بالصخرة فتحطمت المركب وتحطم معها الملاح؟ أوليس كذلك ما ترويه الأغنية على ألسنة الملاحين والفلاحين، وتردده النسوة وعجائز تلك البلدة والشبان مع الأطفال. مولاي تعبت من الأغنية ومن غناها ويغنيها صبح مساء. ولهذا جئت إليك لتنفذ حكمك في وتأمر. - ليس قبل أن تعترفي وتقولي، ما حكاية هذا الملاح؟ وماذا فعلت به يا لورا لاي؟ - صدقني فالأمر بسيط يا مولاي، وهو كما حدث بعيد عما يحكون. لم أذنب فيه - علم الله - ولم أقصد أن أوذي الرجل المسكين. - لكن شعاع الجمر بعينيك، ماذا فعل؟ اعترفي، قولي. - صدقني لم يحدث هذا عن قصد، لم أجن عليه، بل لم أعرف أن الرجل على مركبه يتأرجح فوق الموج الهادئ، بل لم أره ولا أطللت عليه. كان الجو جميلا قبل الشفق ترف علي الأنسام الرطبة، وأنا أجلس فوق القمة، قمة جبل تلمع كالذهب، وتتدفأ في نور الشمس الغاربة المنحدرة خلف الأفق كما التفاحة في غور الهاوية المعتم توشك أن تغرق. كان الراين هنالك من تحتي يتدفق ويسيل وديعا وحييا بالأمواج العذراء الرائعة الفتنة، وأنا العذراء الفاتنة هنالك فوق القمة، وأمشط شعري الذهبي بمشط ذهبي، وحليي تلمع في عنقي وعلى صدري وبمعصمي وفي كفي تضيء الظلمة، وكنت أغني يا مولاي، أغني للموج الناعم في الأعماق وللنسمة والطير العابر، والتفاحة تشحب حمرة خديها، تتصارع مع جيش الظلمة، توشك أن تغرق في العتمة. كانت أغنيتي رائعة اللحن كما يروون، جاشت بالنغم الآسر، صعدت للملأ الأعلى، ثم انحدرت هابطة للأمواج تهدهدها بالترنيمة والإيقاع. ما ذنبي أنا والملاح العابر في مركبه ينظر لي، ويطيل النظر إلى القمة؟ ما ذنبي أن سحرته أشعة عيني الذهبية حتى اختبل، انشغل عن الخطر الداهم، وارتطم المركب بالصخر الوعر فحطمه وتحطم معه، وغاصا في الأعماق المظلمة البشعة؟ ما ذنبي؟ قل لي يا مولاي الأسقف ما ذنب عيون لم تره أصلا، وذراع لم تلتف على صدره؟ ما ذنبي إن كانت أغنيتي خلبته وأخذت منه اللب مع الوجدان، فظل يصعد عينيه لأعلى، غفل عن المركب والدفة، حتى اصطدم بتلك الصخرة وابتلعته الأمواج؟ - حقا حقا، لا ذنب عليك، لا ذنب عليك. - بل أنا مذنبة يا مولاي، وذنبي أعظم من أن يغفر؛ لهذا جئت إليك ورحت أبثك شكواي وأتوسل لك، أتوسل أن تطلب من فرسانك أن تقتلني وتخلصني من قدري البائس والمخجل والمزري. - ولماذا المخجل والمزري؟ هل ذنبك أنك ساحرة العينين، وأن ... - أجل ذنبي ذنبي، لم تكتف عيناي بتكبيل العشاق جميعا بخيوط السحر الكامن في نظرتها، بل جعلته يهرب مني ويفر إلى البلد النائي. - من هذا؟ من هذا الهارب من سحرك؟ قولي. - هو حبي الأوحد في الدنيا يا مولاي، حول عينيه عني، غدر وخان، ذهب إلى البلد النائي. - خوفا من فتنتك وسحر عيونك. مفهوم مفهوم، ولهذا ... - لهذا جئت إليك الآن، وكلي العزم مع التصميم أن تخرجني من دائرة السحر الملعون. لفت تلك الدائرة ذراعيها حولي كالثعبان، وها أنا أتسمم وبنفس السم القاتل للعشرات وللعشرات من العشاق. ربي يعلم أني امرأة ساكنة ووديعة. إن الكلمات إذا خرجت من شفتي كذلك ساكنة ووديعة، لا عيني أو كلماتي قصدت يوما أن تجرح أحدا، دع عنك بأن تقتل أو تؤذي وتصيب الأفئدة بداء لا ينفع معه دواء. أنا نفسي أتألم من جرحي يا مولاي الأسقف. أرجوك ارحمني من جرحي وارحم قلب العاشق والمجنون. يكفي أني أتألم، يشتد علي الألم إذا عيني لمحت عيني في المرآة. أتوسل لك أرجوك. هبني أن أستغرف وأكفر عن ذنبي في حق الناس وفي حق حبيبي. تعبت تعبت، وما عاد لعيشي طعم فأمر يا مولاي. - بإلقائك في النار كما قلت؟ لا، لا. بل ألقيك قريبا في الدير لتعتكفي فيه كراهبة، وتعدي نفسك لمغادرة الأرض إلى أحضان السيد كالعذراء الطاهرة بموكب أحباب الرب. يا فرسان، استدعوا لي الفرسان هنا من قبل غروب الشمس، هيا هيا استدعوا الفرسان.
وحضر ثلاثة فرسان قبل مغيب الشمس. امتطوا صهوات جيادهم، ومضوا إلى الدير ومعهم لورا لاي. - يأيها الفرسان، يأيها الفرسان ، أرجوكم أن تقفوا الآن، دعوني أصعد تلك الصخرة في هذا الجبل الوعر لألقي آخر نظرة، وأطل على قصر حبيبي من تلك الصخرة. - من تلك الصخرة؟ في هذا الجبل الوعر المنحدر إلى هاوية الموت؟ - أجل، من تلك الصخرة يا فرسان، دعوني ألقي آخر نظرة، آخر ما تشهد عيناي من الدنيا هو قصر حبيبي الغائب. ودعوني أيضا ألقي آخر نظرة، من فوق الصخرة، للموج المحبوب الناعم في نهر الراين. أرجوكم أبتهل إليكم يا فرسان، قبل دخولي الدير لأصبح عذراء الرب القادر أن يغفر ذنبي وخطاياي.
والصخرة عالية وعرة، وجدار الصخرة ينحدر إلى الأعماق الخطرة، لكن الساحرة - بإذن من فرسان الرب الطيب - تتقدم منها، تتسلقها حتى تصل إلى قمتها وتطل على الوادي منها، وعلى السهل القابع في الأعماق. بعدت هذي الساحرة عن العالم، وارتفعت فوق الأرض وفوق جميع العشاق.
نظر الفرسان إليها، حسدوها أو غاروا منها أو نقموا أن تفلت منهم، فيكون نصيبهم القتل أو الطرد من النعمة والخذلان.
وربطوا جيادهم في السهل، وصمموا على الصعود إليها هناك فوق القمة الخطرة العالية. ها هم يتسلقون ويتسلقون، وهي هناك تطل على النهر الهادي المحبوب، على النهر الفاتن والمفتون، وماذا ترى هناك في الأسفل السحيق؟ قلبها يخفق، ويشتد ضرباته، وتسرع وتكاد تختلج مع الموج العميق. فهي تلمح سفينة صغيرة تتأرجح على الأمواج فتقول لنفسها: لا بد أن حبيبي الغائب فيها، لا بد أن هذا الواقف هناك هو حبيبي الذي لم يكن ولن يكون لي سواه. هنالك تميل على الحافة، تحني جذعها ورأسها وتلقي بنفسها من أعلى الصخرة إلى عمق الأعماق.
وماذا عن الفرسان الثلاثة؟ ماذا عن فرسان الرب الشجعان الأمجاد؟ يقال إنهم بعد أن صعدوا بشق الأنفس، ووصلوا إلى القمة عجزوا تماما عن الهبوط. كان من نصيبهم أن يهلكوا هناك على القمة التي غادرتها الساحرة الفاتنة إلى الأعماق . وهكذا كتب عليهم أن يموتوا وحدهم هناك، يموتوا وحدهم بلا قسيس يناولونه الاعتراف الأخير، ولا مثوى في قبر يضم الجسد الفاني والعظام.
هكذا انتهت الأغنية الغريبة العجيبة ، الأغنية التي ترنم بها ملاح يمخر بسفينته أو قاربه أمواج نهر الراين الهادئة الوديعة، ثم أخذها عبر الأجيال من بعده ملاحون آخرون. ودائما كان يتردد - فيما يحكى ويقال - من أعلى الصخرة المشهورة هذا النداء، دائما ما كان يتردد في سمع الملاحين والفلاحين على ضفاف الراين الحنون، ومن أعلى الصخرة التي عرفت بصخرة العذراء والفرسان الثلاثة، دائما ما كان يتردد هذا النداء:
لورا لاي.
لورا لاي.
Shafi da ba'a sani ba