تمهيد‏

1 - ساحرة من نهر الراين‏

2 - الحب الصادق وحد بينهما‏

3 - طوبى للعصيان‏

4 - حكاية من سالف الزمان‏

5 - حكاية عن رجل شجاع‏

6 - صار الخبز يباع بسعر غال والدم واللحم بأرخص سعر‏

7 - عرس في حقل القمح الملغوم‏

8 - لما حمل الليل العاصفة على حجره‏

9 - صار العبد الخاضع سيد نفسه‏

نبذة عن كل شاعر‏

تمهيد‏

1 - ساحرة من نهر الراين‏

2 - الحب الصادق وحد بينهما‏

3 - طوبى للعصيان‏

4 - حكاية من سالف الزمان‏

5 - حكاية عن رجل شجاع‏

6 - صار الخبز يباع بسعر غال والدم واللحم بأرخص سعر‏

7 - عرس في حقل القمح الملغوم‏

8 - لما حمل الليل العاصفة على حجره‏

9 - صار العبد الخاضع سيد نفسه‏

نبذة عن كل شاعر‏

حكايات شاعرية

حكايات شاعرية

قصائد قصصية من الأدب الألماني الحديث

جمع وترجمة

عبد الغفار مكاوي

تمهيد

(1) لم يؤثر في نفسي فن من فنون الشعر الغربي كما أثرت فيها «البالادة»؛ أي القصيدة القصصية أو القصة الغنائية. أتيح لي في سنوات الطلب أن أطلع على بعض نماذجها الخالدة للشاعرين: جوته وشيللر، اللذين يمثلان الذروة التي بلغتها، سواء في مرحلة شبابهما العاصف المندفع، أو في مرحلتهما الكلاسيكية المتزنة المتوازنة. ثم تيسر لي على فترات متقطعة أن أقرأ بعض «البالادات» لشعراء مختلفي الميول والاتجاهات من القرنين التاسع عشر والعشرين، فأدركت بفطرتي مدى تنوع هذا الفن الشعري تنوع الحياة نفسها بكل ما فيها من حب وكره، وحزن وشجن، وسحر وخرافة، وغدر وظلم، وبؤس وتعاسة، وحلم دائم بالممكن أو بالمستحيل، وطموح لتغيير الأوضاع الظالمة بالإرادة الثورية، والرغبة في تحقيق عالم إنساني ومستقبلي خال من علاقة السيد والعبد، والغني المتخم والفقير المعدم، والمستبد المتجبر والضحية البريئة، ولعلني قد أدركت بفطرتي أيضا أمرا لا يقل أهمية عما سبق، وهو أن «البالاد» مجمع فنون أدبية مختلفة تؤلف بين أساليبها التعبيرية وموضوعاتها وأشكالها وموادها في وحدة غنائية تنتظر دائما من يستمع لها وينصت لألحانها؛ ففيها السرد الذي أخذته من الملحمة والقصة والرواية، وفيها الصراع والحوار اللذان استعارتهما من الدراما، وفيها العاطفة الأسيانة والشجن العميق الرقيق اللذان يجريان مجرى الدم في عروق الشعر الغنائي، وفيها - قبل ذلك كله - نصيب موفور من التأثر بالأغنية الشعبية بتراثها العريق وأشكالها ومضامينها البسيطة المؤثرة تأثيرا مباشرا على الوجدان، وهو تأثير تظل محتفظة به مهما تعقد شكل بنائها في مقطوعات وأوزان مختلفة الأطوال، ولوازم غنائية متكررة، وحرص على الإيقاع والقافية بطرق وأساليب متعددة، أو على التخلي عنها في كثير من الأمثلة النقدية المتأخرة من الناحية الزمنية.

وقد تبين لي بعد ذلك أن هناك من سبقني بسنوات طويلة، وبعمق ونفاذ بصيرة لا قبل لي بهما، إلى إدراك ما أدركته بفطرتي المباشرة العاجزة؛ فقد فطن شاعر الألمان الأكبر «جوته» (1749-1832م) إلى تلك الخصوصية النادرة في البالاد أو القصيدة القصصية، ونبه خلال حديثه عن الأنواع الأدبية - ضمن ملاحظاته وتعليقاته على «ديوان الشرقي للشاعر الغربي» - إلى الإمكانيات الثرية التي تنطوي عليها عندما كتب يقول:

هناك ثلاثة أشكال طبيعية وأصيلة فقط للشعر: الشكل السردي الواضح، والشكل الحماسي المنفعل، والشكل الفعال من خلال الأشخاص، وهي تتمثل على الترتيب في الملحمة والشعر الغنائي والدراما. هذه الأساليب المختلفة للإنشاء الأدبي يمكنها أن تؤثر مجتمعة أو بطريقة مستقلة؛ فنحن كثيرا ما نجدها مجتمعة في أصغر قصيدة، وكأنما هي مجتمعة في بيضة أصلية حية، بحيث تبرز من خلال هذا التجميع في أضيق حيز ممكن أروع بنية أدبية على نحو ما نلمسها في «البالادات» الجديرة بأعظم التقدير عند الشعوب كافة. (2) تمتد جذور «البالاد» إلى أغاني وأناشيد البطولة الجرمانية المتأخرة، كما تتمثل في آخر نماذجها وهو أغنية أو أنشودة هيلد براند الأحدث (من القرن الثالث عشر الميلادي)، وربما امتد تاريخها إلى زمن الأدب الشفاهي.

1

ولم يقدر لهذا النوع من الأدب الغنائي والقصصي أن يستمر في أدب العصر المسيحي الوسيط، وذلك إذا صرفنا النظر عن بعض أغنيات الفرسان وأغنيات الحياة اليومية التي تحمل بعض سمات البالاد. كذلك لا يمكننا أن نؤكد وجود البالاد بمعناها الدقيق في الشعر القصصي والغنائي الذي وصلنا من أدب عصر الإصلاح الديني (القرن السادس عشر)، ولا من أدب القرن السابع عشر؛ فالأغاني القصصية المقفاة التي كانت ترتل في الأسواق والاحتفالات الدينية، وتعتمد على سرد قصص الجرائم المثيرة والكوارث الطبيعية الفظيعة وأخبار الحروب المرعبة (وهي التي توصف أحيانا بأغاني البنك و«الموريثات»)

2

لم يكن فيها سوى أثر ضعيف للبالاد بسبب طابعها البدائي الفج (لا الشعبي الحقيقي) القائم على الإثارة والتهويل.

والواقع أن الدافع الحقيقي وراء ازدهار البالاد - في الأدب الألماني بوجه خاص - قد جاءت «صدمته» من خارج الحدود الألمانية. ففي سنة 1765م نشر الشاعر الإنجليزي توماس بيرسي مجموعة من ثلاثة مجلدات تضم عددا كبيرا من قصائد الشعر الإنجليزي والاسكتلندي القديم تحت عنوان: «الآثار المتبقية من الشعر الإنجليزي القديم». وقد تحمس لهذه القصائد الشعبية الأصيلة (بجانب التحمس لمجموعة مكفرسون التي ورد الحديث عنها في الهامش السابق) - بما تضمنته من تصوير حي للقوى الطبيعية الثائرة، وللشخصيات القدرية والبطولية الكبيرة - تحمس لها عدد كبير من الشعراء الشبان الذين أرادوا لقصائدهم أن تكون الضد المقابل لشعر البلاط المتكلف الذي بسط ظلاله الفقيرة المجدبة على أدب الطبقة الوسطى. وقد تأثرت «البالادات» الألمانية بالطابع المأساوي الفاجع الذي اتسمت به تلك القصائد القصصية الإنجليزية والاسكتلندية (راجع في هذه المجموعة قصيدة إدوارد التي ترجمها ونظمها الأديب وفيلسوف التاريخ هيردر (1744-1803م) الذي سبق أن تحدثنا عن مدى اهتمامه بالأدب الشعبي عامة، وبتلك القصائد خاصة، وكان من أوائل الذين سارعوا إلى إعادة نظم عدد منها لتكون نماذج للتعبير الصادق عن الطاقة الإبداعية الفطرية للشعوب، وللإنسان العادي البسيط)، ثم اتجه هؤلاء الشعراء بعد ذلك إلى اقتباس مادة قصائدهم القصصية من تراثهم القومي الزاخر بالأحداث والشخصيات والغرائب والعجائب والخرافات، مع تطعيمها في الوقت نفسه بالروح النقدية والثورية التي توشك أن تكون سمة ملازمة «للبالاد» الألمانية بدءا من نماذجها الأولى الناضجة - عند «بيرجر» على سبيل المثال - إلى نماذجها الواقعية والنقدية الساخرة سخرية مريرة عند «هيني»، وعند بعض الشعراء «المحتجين» في النصف الثاني من القرن العشرين، والمعروفين بتوجههم الثوري والنقدي الحاد (مثل: بريشت وبيشر وبيرمان وفيمان وفيرتيل وفاينرت وتسيميرنج وإنستر برجر ... وغيرهم).

ومن ناحية أخرى لا يمكننا أن نغفل تأثير «الرومانسة» (القصة الخيالية والشاعرية العاطفية) التي ازدهرت في إسبانيا منذ أواخر العصور الوسطى، وساعدت الشعراء الألمان على اكتشاف المنابع الحية لشعرهم الملحمي والدرامي، ووجدت عددا كبيرا من المترجمين والمقلدين الذين تأثروا بها في بداية الأمر إلى الحد الذي استحال معه التفرقة الدقيقة بين «الرومانسة» و«البالاد»، وذلك قبل أن تختفي الحواجز والحدود التي كانت تميز البالادة «الشمالية» - المكونة من مقطوعات ذات بيتين ينتهيان بقافية ولازمة متكررة - وبين الرومانسة «الجنوبية» ذات المقطوعات المكونة من أربعة أبيات غير مقفاة، وذلك بعد أن ظهرت أشكال وبنى جديدة للمقطوعات والأبيات والقوافي، بحيث تداخلت البالاد مع الرومانسة وأصبحا حتى القرن التاسع عشر يمثلان نوعا أدبيا واحدا هو القصيدة القصصية ذات الأحداث الدرامية الواضحة التي يمكن أن تعد المقابل الشعري والغنائي للأقصوصة أو القصة القصيرة في الأدب السردي. (3) ذكرنا فيما سبق أن «البالاد» أو القصيدة القصصية قد نشأت بداياتها الزاهرة على أيدي شعراء وأدباء مثل هيردر، وبيرجر، وأولاند، وجوته في شبابه، لكن يمكننا القول أيضا بأنها بلغت ذروتها الناضجة في عام 1797م، وهو الذي يصفه مؤرخو الأدب الألماني بأنه العام الكلاسيكي لبالادة جوته وشيللر. في هذا العام العجيب - أو قبله وبعده بقليل - ظهرت أعمال، أو بالأحرى كنوز خالدة، يعتز بها منجم البالادة الثري، وذلك مثل قصائد جوته القصصية «عروس كورنثه» والإله - الهندي - والراقصة، وصبي الساحر، والباحث عن كنز، وملك العفاريت (التي تجد ثلاثتها الأخيرة في هذه المجموعة واعتمدت الأخيرة - التي كتبها جوته سنة 1782م - على بالادة شعبية دنماركية كان هيردر قد سبق أن ترجمها تحت عنوان: «ابنة ملك العفاريت»، ومثل بعض قصائد شيللر كالغواص، وفارس توجنبرج، والقفاز، والضمان أو العهد، وإبيكوس، وأسراب الكركي التي تجد ثلاثتها الأخيرة في هذه المجموعة، وكلها بالادات فكرية ومثالية تؤكد استقلال الإنسان وحريته وكرامته وقدرته على مواجهة القدر الباطش بإنسانيته وإرادته وكبريائه وموقفه المثالي المتعالي والمتصارع مع عالم المادة والغرائز الوحشية من خلال «التربية الجمالية للإنسان» كما سمى إحدى رسائله الفلسفية المهمة).

ولم يتوقف كبار الشعراء الألمان، وصغارهم أيضا، منذ عهد هذين الشاعرين الكبيرين، عن محاولة كتابة القصائد القصصية والدرامية التي تعالج شتى المضامين والمشكلات في نظم شعري ملتزم بالوزن والقافية في معظم الأحوال، أو في أشكال شعرية حرة ومتحررة منهما؛ كما نرى عند بعض الشعراء المتأخرين والمعاصرين، بحيث اتسعت هذه البالادات لموضوعات شديدة التنوع والخصوبة؛ كالحب والألم، والسحر والخرافة، والمرح والسخرية، والنقد الاجتماعي الجريء للظلم الاجتماعي والطبقي على اختلاف صوره عبر العصور، والدفاع عن حرية الإنسان وكرامته وحقه في الحياة الطيبة السعيدة. (4) لقد أثبتت «البالاد» من موقعها الوسط بين الأقصوصة أو القصة الشعرية والدراما، قدرتها على التعبير العاطفي الصادق عن هذه الموضوعات بالأسلوب الغنائي والشعبي الذي تميزت به، لا سيما في فترات الثورة والتمرد على القهر والظلم الاجتماعي وسحق حرية الإنسان واستقلاله وأبسط حقوقه المشروعة في الحياة بغير خوف ولا ذل، بحيث بلغت قمما رفيعة من الجمال وشدة التأثير في عصور الثورات المختلفة، وحروب التحرير الوطني - كما حدث أيام حرب التحرير من قبضة نابليون - والاحتجاج على النظام النازي الأسود وحكمه اللاإنساني والشمولي المرعب. ولو تتبعت بعض النماذج التي تقدمها هذه المجموعة - وسبقت الإشارة إلى بعضها - لأخذك العجب من التنوع الشديد الذي يمتد قوسه ليشمل الموضوعات السابق ذكرها، وتتعدد صوره وانعكاساته بأكثر من تعدد ألوان الطيف. ويمكنك أن تتأمل - على سبيل المثال لا الحصر - قصائد للشاعر الرومانسي كليمنس برنتانو

3 (1778-1842م) لتلمس فيها شدة القرب من الروح الشعبية والأغنية الشعبية (كما في قصيدته عن «حكاية لورا لاي» الأسطورية التي ما يزال الملاحون والفلاحون على شواطئ نهر الراين يرددونها على ألسنتهم)، وتستطيع بسهولة أن تتبين سمات الاحتجاج والنقد السياسي والاجتماعي في بعض قصائد الشاعر والقصاص الفرنسي الأصل أدالبير فون شاميسو (1781-1838م) مثل: لعبة العمالقة والحلاق المناسب، وملك من الشمال، ونساء فينسبرج، وكذلك في بعض قصائد الشاعر هينريش هيني (1797-1856م) الذي اشتهر بعذوبته وسخريته القاسية، وشدة إحكامه للبناء الشعري (راجع قصائده القصصية عن بني عذرة وأنثى، ووادي الآلام، وشارل الأول، والنساجون) بالإضافة إلى قصائد الشاعر لودفيج أولاند برؤيته التاريخية الواضحة، وإلمامه الواسع بالتراث والقدر الألماني وأساطيره الجهمة المظلمة (انظر في هذه المجموعة قصائده القصصية: ابنة صاحبة الفندق، ولعنة المغني، وقصر على البحر)، وقد استطاع أمثال هؤلاء الشعراء - الذين عاشوا وكتبوا في القرن التاسع عشر - أن يضعوا الأسس الراسخة لجل الشعراء الذين جاءوا بعدهم، سواء من الواقعيين والطبيعيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (مع العلم بأن البالادة قد جربت أقسى فترات تدهورها وجفافها في عصري الواقعية والطبيعية)، أو في أوائل القرن العشرين من التأثيريين والتعبيريين، أو من الشعراء الثوريين الذين عاش شبابهم وكهولتهم بالمحنة النازية القاسية، ولا يزال بعضهم أحياء يعملون ويبدعون. ونذكر من أسماء الشعراء الكبار في القرن التاسع عشر: نيكولاوس ليناو (1802-1850م)، وجوتفريد كيللر (1819-1890)، وفريدريش هيبيل (1813-1863م)، وفردنياند فرايليجرات (1810-1876م)، وديتليف فون ليلينكرون (1844-1900م)، وتيودور فونتانه (1819-1898م)، وفريدرش ريكرت (1788-1866م)، وذلك حتى الشعراء الثوريين من أكثر من جيل في القرن العشرين الذين تحولت بعض قصائدهم القصصية إلى نداءات، أو دعوات تحريضية للنهوض والانتفاض على الظلم والحرب وسحق الحرية وإذلال الإنسان مثل: برتولت بريشت (1898-1956م)، ويوهانيس بيشر (1899-1958م)، وريشارد ديميل (1863-1920م)، وبرتولد فيرتيل (1885-1953م)، وإريش فينرت (1890-1953م)، وإميل جينكيل (1893-1959م)، حتى الأصغر منهم سنا مثل: فرانز فيمان (ولد 1922م)، وهاينز كالاو (ولد 1931م)، وكارل ميكيل (ولد 1936م)، وماكس تسيمرينج (ولد 1909م)، وفولكر براون (ولد 1939م)، وراينز كيرش (ولد 1934م)، وغيرهم حتى وقتنا الحاضر. (5) حاولت تصنيف هذه القصائد القصصية وترتيبها في تسع مجموعات تنتظم موضوعات ومشكلات متقاربة وضعتها تحت عناوين توخيت فيها الشاعرية، واقتبست بعضها من ثنايا السطور، وإذا كنت ستجد عددا كبيرا من الشعراء الذين ذكرت أسماءهم ممثلين في هذه المجموعة بقصيدة أو أكثر، فسوف تفتقد بطبيعة الحال عددا آخر ربما لم ترق لي «بالاداتهم» التي أتيح لي الاطلاع عليها، أو لم تشجعني على الاستجابة لها ونقلها إلى شواطئ لغتنا ومشاعرنا واهتماماتنا. لهذا أسارع بالاعتذار؛ لأن المجموعة التي اخترتها أو اختارتني لن تقدم رؤية كاملة ووافية للقصيدة القصصية في الأدب الألماني الغني بها غنى ملحوظا، ولكن لعلها - فيما أرجو - أن تقدم نماذج دالة على «البالاد» وتطورها وتحولاتها خلال فترة زمنية تقرب من ثلاثة قرون، وذلك منذ أن بدأت أول ينابيعها السخية - كما سبق القول - في التدفق بفضل شعراء كبار يعدون اليوم أجدادها الشرعيين. ومن المألوف والمعتاد في مثل هذه المختارات المنتخبة أن يفتقد هذا الشاعر أو ذاك، وهذه القصيدة أو تلك من القصائد التي كانت تعد درة فريدة في عصرها وتزين كتب المطالعة في أجيال سابقة، لكن الكمال مستحيل، وحسب هذه المجموعة أن تقدم للقارئ العربي عددا من أشهر وأنضج «البالادات» الألمانية، وتعطيه فكرة طيبة عن تطورها وتحولاتها في أحد الآداب العالمية المهمة.

ولا بد أيضا من الاعتذار مرة أخرى والاعتراف بالحسرة التي يشعر بها كاتب هذه السطور، وهو يدعو القارئ للاطلاع - أو بالأحرى للاستماع - إلى قصائد محرومة من الوزن والقافية والإيقاعات التي تميز بها معظمها في النصوص الأصلية. وقد سبق أن قلت إن هذه القصائد القصصية لا تنفصل في أغلب الأحوال عن الغناء، وربما عن الرقص أيضا، ولكنني لست شاعرا كبيرا ولا صغيرا، لكي أعيد نظمها في لغتي، وأحافظ على الأوزان الأصلية، وأبتدع لها القوافي الملائمة، وحتى هذه المحاولة لا يضمن نجاحها ولو قيض لها شاعر كبير في لغته؛ لأنها تؤدي بالضرورة إلى التصرف الشديد في ألفاظ الأصل ومعانيه وتراكيبه، ناهيك عن اضطرارها في كثير من الأحيان للنظم الجاف المصطنع وبعدها الحتمي عن رنين الكلمات الأصلية وعذوبة الأوزان والقوافي المرتبطة بها؛ لذلك حاولت أن أنقلها إلى العربية بأسلوب يراعي روح الأصل، ويعوض عن ضياع الإيقاعات والقوافي بقدر من الموسيقى الداخلية، أو من السجع والتساوق الملائم في نهايات السطور. وإذا كنت قد تصرفت تصرفا محدودا في بعض هذه البالادات أو في إعادة صياغة القليل منها، فإنني آمل - على كل حال - أن يتعاطف القارئ مع هذه «الكنوز»، وأن يشعر - ولو من بعيد - بجمالها وقيمتها إذا تحتم أن يغيب عنها بريق ذهبها وجواهرها، وأن يحس بشاعريتها التي أتمنى أن تعوضه قليلا عن «شعريتها» الضائعة. (6) وفي النهاية لا أستطيع أن أترك القلم قبل أن أعبر عن أمل آخر كبير ، وهو أن يلتفت أدباؤنا وشعراؤنا، من الشباب بوجه خاص، إلى القصيدة القصصية، ويتابعوا بقدر الإمكان أفضل نماذجها سواء في الأدب الألماني أو في غيره من آداب الشعوب كافة، لا سيما في الأدبين الإنجليزي والفرنسي وغيرهما من الآداب الغربية، وليس عندي أدنى شك في أن أدباءنا وشعراءنا سيجدون في القصيدة القصصية منبع إلهام صاف يمكن أن يساعدهم على الاغتراف من منابعهم التراثية الخاصة، ومن أدبهم الشعبي الغني بالكنوز. وربما حفزهم أيضا على شق طرق جديدة تعطي للقصيدة القصصية والدرامية في أدبنا العربي الحديث ما تستحقه من حب وعناية واهتمام، وتضيف إلى نماذجها الرائعة والنادرة عند بعض رواد شعرنا الجديد نماذج أخرى لأدباء وشعراء أحدث منهم سنا، وربما أكثر جرأة وإقداما على المغامرة في خوض بحار المجهول الساحر الذي نسميه الإبداع.

أحمده سبحانه على عونه وتوفيقه، وأستغفره وأسأله الصفح عن القصور والتقصير، إليه ترجع الأمور، وإليه المصير.

القاهرة في ديسمبر 2003م

عبد الغفار مكاوي

الفصل الأول

ساحرة من نهر الراين

(1) ملك العفاريت

من هذا الذي يسري في الليل والبرد والريح؟

إنه الأب مع ولده المسكين.

بالأمس اشتعلت نار الحمى في الجسد الصغير، لمسته كف الأم ومرت على الصدر والوجه والجبين.

صرخت من لسع الجمر المتقد، وصاحت: ولدي! يا ولداه!

خذه إلى المستشفى القريب. لا تنتظر الصبح لكيلا نندم، لا تبطئ حتى لا يذهب منا ويضيع.

لفته في حزام من الصوف، وغطته بالملاءة البيضاء.

ركب الأب حماره وحمل معه الولد العليل. احتضنه وضمه إلى صدره، وعلى الكتف أراح الرأس المحموم. - ولدي! لم تخفي وجهك؟ مم تخاف؟ - أبي يا أبي، ألا تراه يا أبي هناك؟ - من يا صغيري؟ من هذا الذي تراه؟ - إنه يا أبي ملك العفاريت، يشير إلي ويدعوني. على رأسه التاج المرصع بالذهب والياقوت، ومن ظهره يتدلى الذيل الأسود الطويل. - لا تخف يا ولدي، ما الشبح الذي تتخيله إلا غيمة من غيوم الضباب. - أبي. إنه يقول لي: تعال، تعال معي يا ولدي الحبيب! سوف نلعب معا أجمل الألعاب. وسنجري معا على الشط وحولنا الورود والأزهار، وأمي العجوز ستهديك الثوب الذهبي الذي أعدته لهذا اللقاء. - اهدأ يا ولدي، اهدأ. - ألا تسمعه يا أبي؟ ألا تسمع همسه في أذني بالكلام الحلو والوعود؟ - قلت اهدأ يا ولدي، اهدأ فالمستشفى يقترب، المستشفى غير بعيد. - ما زال يلح يا أبي ويقول: ألا تريد أن تأتي معي يا ولدي الصغير؟ إن بناتي اللطيفات ينتظرنك يا ولدي من زمن طويل، سوف يرحبن بك ويستقبلنك كالأمير، وسيرقصن على شرفك، ثم يهدهدنك ويضعنك وسط الحلقة ويهللن ويهتفن باسمك وبأعذب لحن سيغنين. - اهدأ يا حبة عيني، ليس ما تسمعه سوى أصوات الريح ترفرف في أوراق الشجر الذابلة الصفراء. - كيف لا تراهن يا أبي؟ بنات ملك العفاريت هناك في الأيك البعيد. في ذلك المكان الساكن المعتم الكئيب. - ليس ما تراه يا ولدي سوى أغصان الصفصاف، تترنح في البرد والليل والريح. - اسمع يا أبي، اسمع ما يقوله ملك العفاريت: أحبك، أحبك ويسحرني وجهك الفاتن وشكلك البديع، تعال معي تعال معي تعال، ولا تكن الولد العنيد! وإذا لم تطعني فسوف أستخدم معك قوتي وبأسي الشديد، آه!

إنه يمد يده إلي ويمسك بخناقي بيد من حديد. آه! أنقذني يا أبي، أحس في صدري وجنبي بالألم الشديد.

والأب أيضا أحس بالألم الشديد وداهمه الرعب المخيف، ضرب بعصاه الحمار العجوز الذي لم يكف عن لكزه طول الطريق، لف ذراعه حول الجسد الواهن المحترق وشده إلى صدره ليحميه من البرد والضباب والريح، ما هي إلا خطوات حتى لاح المبنى الأبيض كالوجه الطيب من بعيد.

وعندما وصل إلى البوابة الضخمة نزل من على الحمار الذي ربطه إلى حديد السور، وانطلق يجري إلى الداخل ليسلم الولد للطبيب.

قلب هذا في جسد الولد، تحسس جبينه، مال بجذعه وأحنى رأسه، ووضع أذنه على صدره، ثم رفع قامته، ووضع يده على كتف الأب الفقير وهو يقول: مات الولد. الولد مات.

1 (2) لورا لاي

لا لست أدري ما الذي جرى لي، ولا لماذا تتملك قلبي الأحزان؛ لأن هذه الحكاية من سالف العصر والأوان، لا تريد أبدا أبدا أن تغيب عن بالي.

في بلدة تقع على نهر الراين اسمها باخاراخ، كانت تعيش ساحرة فاتنة آسرة الجمال، لا تسل عن ضحايا سحرها وفتنتها، ولا عن القلوب التي حطمتها ومزقتها، فربما كانت تعد بالمئات أو الآلاف. اقتنع الناس - وهم في رعب - بأن على يدها مصارع الرجال، وبأن القيود التي تأسرهم بها عيناها وتوردهم موارد الهلاك، لا سبيل للخلاص منها، وكيف السبيل من سحر عينيها إلى الخلاص أو الإنقاذ؟

بلغ خبر جمالها وما حصده منجله الناصع الفتاك إلى آذان الأسقف الكبير؛ فأصدر أمره باستدعائها للمثول أمام سلطة الكنيسة ومجمعها الخطير، لكن الأسقف - فيما يروى ويشاع - انبهر بجمال الساحرة، وكاد يفقد الوعي والشعور. لا ندري ماذا قال لنفسه، لكننا سمعنا عما قاله لها في تأثر شديد: أنت أيتها الخاطئة المسكينة، أنت يا لورا لاي، من أغراك ومن أغواك بهذا السحر الشرير؟

قالت الساحرة الجميلة قاتلة الرجال، ومحطمة قلوب العشاق: مولاي الأسقف، سيدي القسيس الكبير، لقد تعبت من الحياة، تعبت من الحياة. أتوسل، أبتهل إليك أن تأمر بموتي الآن وفي الحال؛ لأنني ما دمت حية فسوف ينتهي كل من تقع عليه عيناي، أو تقع عيناه علي إلى الهلاك والضياع والبوار والخسران. وماذا أملك من حظي يا سيدي الأسقف الكبير؟ هل أنا التي جعلت من عيني جمرتين من النار واللهيب؟ أم أنا التي حولت ذراعي إلى عصا ساحر داهية ورهيب؟ أتوسل وأبتهل إليك يا مولاي، أن تأمر بإلقائي في النار قبل فوات الأوان، وتكسر عصاي قبل أن تلتف ذراعي كالحية حول أعناق الرجال في كل مكان. - لن أمسك بسوء يا ابنتي، ولن أستطيع أن ألعنك على الإطلاق، حتى تعترفي لي وتقولي يا لورا لاي، كيف أمكنك أن تقذفي بقلبي - وأنا رجل الله - في قلب النيران؟ كيف يمكنني أن أكسر عصاك فأكسر معها قلبي نصفين وأصبح كالمجانين والعشاق. أعترف بأني أكاد أصدق الآن ما بلغني عنك من أخبار، لكني أرجو أن تعترفي أنت وتكشفي عن قلبك النقاب يا لورا لاي. - لا تسخر مني يا سيدي القسيس الكبير، فما أنا يا مولاي إلا ساحرة مسكينة، وادع ربك وربي الرحيم أن يغفر ذنوب خاطئة بغير ذنبها وملعونة، تريدني أن أعترف؟ - أجل، أجل. كيف صعقت الملاح البائس بشعاع من عينيك وأنت على قمة جبل عال؟ وكيف ...؟ - وكيف اصطدمت مركبه بالصخرة فتحطمت المركب وتحطم معها الملاح؟ أوليس كذلك ما ترويه الأغنية على ألسنة الملاحين والفلاحين، وتردده النسوة وعجائز تلك البلدة والشبان مع الأطفال. مولاي تعبت من الأغنية ومن غناها ويغنيها صبح مساء. ولهذا جئت إليك لتنفذ حكمك في وتأمر. - ليس قبل أن تعترفي وتقولي، ما حكاية هذا الملاح؟ وماذا فعلت به يا لورا لاي؟ - صدقني فالأمر بسيط يا مولاي، وهو كما حدث بعيد عما يحكون. لم أذنب فيه - علم الله - ولم أقصد أن أوذي الرجل المسكين. - لكن شعاع الجمر بعينيك، ماذا فعل؟ اعترفي، قولي. - صدقني لم يحدث هذا عن قصد، لم أجن عليه، بل لم أعرف أن الرجل على مركبه يتأرجح فوق الموج الهادئ، بل لم أره ولا أطللت عليه. كان الجو جميلا قبل الشفق ترف علي الأنسام الرطبة، وأنا أجلس فوق القمة، قمة جبل تلمع كالذهب، وتتدفأ في نور الشمس الغاربة المنحدرة خلف الأفق كما التفاحة في غور الهاوية المعتم توشك أن تغرق. كان الراين هنالك من تحتي يتدفق ويسيل وديعا وحييا بالأمواج العذراء الرائعة الفتنة، وأنا العذراء الفاتنة هنالك فوق القمة، وأمشط شعري الذهبي بمشط ذهبي، وحليي تلمع في عنقي وعلى صدري وبمعصمي وفي كفي تضيء الظلمة، وكنت أغني يا مولاي، أغني للموج الناعم في الأعماق وللنسمة والطير العابر، والتفاحة تشحب حمرة خديها، تتصارع مع جيش الظلمة، توشك أن تغرق في العتمة. كانت أغنيتي رائعة اللحن كما يروون، جاشت بالنغم الآسر، صعدت للملأ الأعلى، ثم انحدرت هابطة للأمواج تهدهدها بالترنيمة والإيقاع. ما ذنبي أنا والملاح العابر في مركبه ينظر لي، ويطيل النظر إلى القمة؟ ما ذنبي أن سحرته أشعة عيني الذهبية حتى اختبل، انشغل عن الخطر الداهم، وارتطم المركب بالصخر الوعر فحطمه وتحطم معه، وغاصا في الأعماق المظلمة البشعة؟ ما ذنبي؟ قل لي يا مولاي الأسقف ما ذنب عيون لم تره أصلا، وذراع لم تلتف على صدره؟ ما ذنبي إن كانت أغنيتي خلبته وأخذت منه اللب مع الوجدان، فظل يصعد عينيه لأعلى، غفل عن المركب والدفة، حتى اصطدم بتلك الصخرة وابتلعته الأمواج؟ - حقا حقا، لا ذنب عليك، لا ذنب عليك. - بل أنا مذنبة يا مولاي، وذنبي أعظم من أن يغفر؛ لهذا جئت إليك ورحت أبثك شكواي وأتوسل لك، أتوسل أن تطلب من فرسانك أن تقتلني وتخلصني من قدري البائس والمخجل والمزري. - ولماذا المخجل والمزري؟ هل ذنبك أنك ساحرة العينين، وأن ... - أجل ذنبي ذنبي، لم تكتف عيناي بتكبيل العشاق جميعا بخيوط السحر الكامن في نظرتها، بل جعلته يهرب مني ويفر إلى البلد النائي. - من هذا؟ من هذا الهارب من سحرك؟ قولي. - هو حبي الأوحد في الدنيا يا مولاي، حول عينيه عني، غدر وخان، ذهب إلى البلد النائي. - خوفا من فتنتك وسحر عيونك. مفهوم مفهوم، ولهذا ... - لهذا جئت إليك الآن، وكلي العزم مع التصميم أن تخرجني من دائرة السحر الملعون. لفت تلك الدائرة ذراعيها حولي كالثعبان، وها أنا أتسمم وبنفس السم القاتل للعشرات وللعشرات من العشاق. ربي يعلم أني امرأة ساكنة ووديعة. إن الكلمات إذا خرجت من شفتي كذلك ساكنة ووديعة، لا عيني أو كلماتي قصدت يوما أن تجرح أحدا، دع عنك بأن تقتل أو تؤذي وتصيب الأفئدة بداء لا ينفع معه دواء. أنا نفسي أتألم من جرحي يا مولاي الأسقف. أرجوك ارحمني من جرحي وارحم قلب العاشق والمجنون. يكفي أني أتألم، يشتد علي الألم إذا عيني لمحت عيني في المرآة. أتوسل لك أرجوك. هبني أن أستغرف وأكفر عن ذنبي في حق الناس وفي حق حبيبي. تعبت تعبت، وما عاد لعيشي طعم فأمر يا مولاي. - بإلقائك في النار كما قلت؟ لا، لا. بل ألقيك قريبا في الدير لتعتكفي فيه كراهبة، وتعدي نفسك لمغادرة الأرض إلى أحضان السيد كالعذراء الطاهرة بموكب أحباب الرب. يا فرسان، استدعوا لي الفرسان هنا من قبل غروب الشمس، هيا هيا استدعوا الفرسان.

وحضر ثلاثة فرسان قبل مغيب الشمس. امتطوا صهوات جيادهم، ومضوا إلى الدير ومعهم لورا لاي. - يأيها الفرسان، يأيها الفرسان ، أرجوكم أن تقفوا الآن، دعوني أصعد تلك الصخرة في هذا الجبل الوعر لألقي آخر نظرة، وأطل على قصر حبيبي من تلك الصخرة. - من تلك الصخرة؟ في هذا الجبل الوعر المنحدر إلى هاوية الموت؟ - أجل، من تلك الصخرة يا فرسان، دعوني ألقي آخر نظرة، آخر ما تشهد عيناي من الدنيا هو قصر حبيبي الغائب. ودعوني أيضا ألقي آخر نظرة، من فوق الصخرة، للموج المحبوب الناعم في نهر الراين. أرجوكم أبتهل إليكم يا فرسان، قبل دخولي الدير لأصبح عذراء الرب القادر أن يغفر ذنبي وخطاياي.

والصخرة عالية وعرة، وجدار الصخرة ينحدر إلى الأعماق الخطرة، لكن الساحرة - بإذن من فرسان الرب الطيب - تتقدم منها، تتسلقها حتى تصل إلى قمتها وتطل على الوادي منها، وعلى السهل القابع في الأعماق. بعدت هذي الساحرة عن العالم، وارتفعت فوق الأرض وفوق جميع العشاق.

نظر الفرسان إليها، حسدوها أو غاروا منها أو نقموا أن تفلت منهم، فيكون نصيبهم القتل أو الطرد من النعمة والخذلان.

وربطوا جيادهم في السهل، وصمموا على الصعود إليها هناك فوق القمة الخطرة العالية. ها هم يتسلقون ويتسلقون، وهي هناك تطل على النهر الهادي المحبوب، على النهر الفاتن والمفتون، وماذا ترى هناك في الأسفل السحيق؟ قلبها يخفق، ويشتد ضرباته، وتسرع وتكاد تختلج مع الموج العميق. فهي تلمح سفينة صغيرة تتأرجح على الأمواج فتقول لنفسها: لا بد أن حبيبي الغائب فيها، لا بد أن هذا الواقف هناك هو حبيبي الذي لم يكن ولن يكون لي سواه. هنالك تميل على الحافة، تحني جذعها ورأسها وتلقي بنفسها من أعلى الصخرة إلى عمق الأعماق.

وماذا عن الفرسان الثلاثة؟ ماذا عن فرسان الرب الشجعان الأمجاد؟ يقال إنهم بعد أن صعدوا بشق الأنفس، ووصلوا إلى القمة عجزوا تماما عن الهبوط. كان من نصيبهم أن يهلكوا هناك على القمة التي غادرتها الساحرة الفاتنة إلى الأعماق . وهكذا كتب عليهم أن يموتوا وحدهم هناك، يموتوا وحدهم بلا قسيس يناولونه الاعتراف الأخير، ولا مثوى في قبر يضم الجسد الفاني والعظام.

هكذا انتهت الأغنية الغريبة العجيبة ، الأغنية التي ترنم بها ملاح يمخر بسفينته أو قاربه أمواج نهر الراين الهادئة الوديعة، ثم أخذها عبر الأجيال من بعده ملاحون آخرون. ودائما كان يتردد - فيما يحكى ويقال - من أعلى الصخرة المشهورة هذا النداء، دائما ما كان يتردد في سمع الملاحين والفلاحين على ضفاف الراين الحنون، ومن أعلى الصخرة التي عرفت بصخرة العذراء والفرسان الثلاثة، دائما ما كان يتردد هذا النداء:

لورا لاي.

لورا لاي.

لورا لاي.

2 (3) الولد الضائع في المرج الشاسع

يرى الولد، فيما يرى النائم أنهم أرسلوه، ومعه ثلاثون «تالرا»

3

إلى المرج الشاسع البعيد، وأنه في الحلم المرعب قد قتل على الطريق بسبب تلك النقود، مع أنه لم يكن يوما بالكسول ولا البليد.

وبينما هو غارق في العرق والقلق الفظيع، هزه المعلم من نومه، وأمره بارتداء ثيابه بغير إبطاء. سأله متعجبا عن سبب الفزع الذي أصابه، ثم وضع له النقود على الفراش فوق الغطاء. - آه يا معلمي، يا معلمي، ورأيتك تضربني بقسوة، حتى أصبت بالإغماء، وكانت الشمس يا معلمي بلون الدم المسفوح في كبد السماء. - انفض عنك الأحلام الصبيانية، وانهض على الفور يا غلام، فالشمس لا تبدو لك وحدك محمرة، بل لكل الأنام، قم من نومك أيها الكسول وإلا ضربتك بالسوط على رجليك كالبهائم والأغنام. - رحماك يا معلمي، هذا ما كنت تقوله وتفعله على الدوام، وكم رأيت هذا على وجهك، في نظرتك، وفي نبرة الكلام، وها أنت تمد ذراعك.

وقبل أن يكمل العبارة كانت العصا تنهال على اللحم والعظام. - آه، آه، سأذهب، سأذهب، ولكن يا معلمي الكبير، إذا سألت أمي عني فقل لها ابنك يقول لك الوداع، وحتى لا تتوه مع الرياح الأربع في كل اتجاه وتخاف، قل لها يا معلمي إنها ستجدني هناك، هناك في المرج تحت شجرة الصفصاف.

خرج الولد من المدينة فاستقبلته الأعاصير والرياح، وامتد أمامه المرج الشاسع الملفوف في الضباب والمسكون بالأشباح والأرواح.

آه، تكاد الريح تقذفني في الهواء، والخطوة في هذا المرج المخيف كأنها آلاف الخطوات، وكل شيء ساكن من حولي، كل شيء صامت أخرس تحت السماء، وعبثا أحس أو أرى أو أشعر بأنفاس أحد الأحياء، فلا شيء في هذا التيه إلا الطيور الجائعة كالغيلان، تنقض من أعلى على فرائسها من الحشرات والديدان.

ويصل الولد إلى بيت وحيد يبدو كالكوخ المهجور، وبينما هو يقترب منه إذ يظهر على بابه راع فقير، يخفق قلب الولد من الرعب، وتعلو دقاته، فتشل خطاه، ويقف في مكانه كالشحاذ الكسير: أيها الراعي الطيب، تبدو على وجهك التقوى والصلاح، لقد ادخرت من مصروفي القليل أربعة قروش، فأمر يا سيدي الراعي خادمك الأمين، أن يصحبني حتى القرية القريبة، ويدلني على الطريق، سأعطيه يا سيدي الراعي أربعة قروش، يمكنه أن ينفقها يوم الأحد على كأس من البيرة أو من النبيذ. سأعطيه هذه القروش التي تثقل علي بالهم والوسواس، فقد رأيت في المنام أنني أقتل بسببها، وتخمد مني الأنفاس.

أشار الراعي إلى خادمه القوي الطويل، الذي خبر دروب المرج، وطرق فيه كل سبيل. وظهر الخادم على الباب فارتعب الولد المسكين، الوجه جهم غليظ، والشر يلمع في العين، ويبدو على الملامح والجبين. - أيها المعلم، أيها الراعي، سامحني لا لا لا، الأفضل أن أمضي وحدي بغير رفيق ولا دليل.

ضحك الخادم الطويل، وقالت نظرته الساخرة للراعي العجوز: يريد أن يحتفظ لنفسه بالقروش هذا الولد البخيل. - ها هي ذي القروش الثلاثة.

رمى الولد القروش، ولم يدر إن كانت قد وقعت تحت قدمي الراعي الطيب أو تلقفتها يد الخادم المتجهم الطويل؛ فقد انطلق مسرعا زائغ البصر مبلبل الخاطر والبال، وسرعان ما تبدت أمامه شجرة الصفصاف من بعيد، وما درى بأن السائر خلف ظهره هو الخادم العنيد. رن الصوت الوحشي وراءه: أنت يا ولد لا تحتمل مشقة الطريق، لا تنس أنك طفل، ولا تستغني عن الصاحب والرفيق. آه لا تسرع في خطواتك، تأن ففي التأني السلامة، وإذا كانت النقود ثقيلة عليك فتعال هنا ولا تخف، تعال نسترح معا تحت الشجرة، شجرة الصفصاف. واحك يا ولدي عن ذلك الكابوس البشع الفظيع، فربما أكون أنا أيضا قد رأيت مثل هذا الكابوس المريع، والتقت أحلامنا السوداء كما نلتقي الآن في هذا المرج الشاسع البديع.

مد الخادم ذراعه، وضغط على يد الولد ضغطة ثقيلة صارمة، وأرتج على الولد فلم يبد أي مقاومة. هناك راحت أوراق الأشجار تهمس في الريح بصوت كالأنين، والجدول تتدفق في صمت وهدوء قطرات مائه الحزين. - قل لي يا ولدي. تقول إنك حلمت حلما فظيعا. ما الذي رأيت في الحلم؟ - حلمت برجل يتقدم مني، رجل جهم الوجه غزير الشعر الطويل. - هل كنت أنا هذا الرجل؟ انظر لي وتمعن في.

أحسب أني هذا الرجل وأنك لم تر أحدا غيري، أوليس كذلك؟ قل لي ماذا حدث؟ تكلم، ماذا حدث بهذا الحلم؟ - سحب الرجل السكين. - هل كانت تشبه هذي السكين؟ - أجل، هي هي، هي نفس السكين. - أمسكها في قبضته.

ثم طعن. - طعنك في الرقبة؟ أوليس كذلك؟ - آه، ما جدوى أن أتعذب وأعذبك بكلماتي، ما الجدوى من أن ... هيا خذها الآن.

وتسألون ما الذي جرى وما الذي حدث؟ إذن فلا توجهوا السؤال لي، بل إلى الغراب والحمامة، كانا هناك يا قارئي الكريم، شاهدا وشهدا على الحكاية؛ أما الغراب من موقعه على ذرى الصفصافة، فقد رأت عيناه واستخفه النعيق والسرور والفرح، وخافت الحمامة الحنون، أطلقت هديلها، وانطلقت مع الرياح للسماء، وبقي الغراب ينعي ذلك الشرير يحكي عما اقترفت يداه، وكيف أقبل الجلاد بعدما شم روائح الجريمة، وراحت الحمامة الأليفة البيضاء، تروي لكل من يسمع قصة الصبي البائس المسكين، وكيف راح يطلق الصياح والصلاة والرجاء والبكاء، ولم يزل ليومنا هذا يواصل البكاء.

4 (4) الباحث عن كنز

فقيرا في الجيب، مريضا في القلب.

رحت أجر ورائي أيامي المظلمة المملولة والملعونة.

رأيت أن الفقر أعظم المصائب،

والجاه والثراء أعظم النعم.

ولكي أضع حدا لهمومي وآلامي السقيمة، رحت أبحث عن كنز تحدثت عنه الكتب النادرة القديمة. يا نفسي، آه يا نفسي . لا بد أن تحصلي على هذا الكنز، ولتعلمي أنني راهنت بدمي على تحقيق هذا الفوز.

وهكذا انطلقت إلى المكان المعلوم، وأخذت أرسم دوائر حول دوائر تتسع وتتقاطع وتتعانق، وأشعلت النيران التي حولت الأرض إلى سماء تتوهج بالنجوم الساطعة، وتنذر بالبروق الصاعقة. لم أنس أن ألقم النار بالأعشاب الشهيرة الموصوفة، وأن أغذي وقودها بعظام الموتى اليابسة المخيفة. وبدأت أتلو تعاويذي المحفوظة، وأهيب بالشياطين الفظيعة والأرواح الرقيقة والغليظة. ثم شرعت أحفر في الموقع المحدد المحدود، وأنا واثق بالعثور على الكنز العتيد التليد. آه ما أبشعها من ظلمة، الليلة كانت عاصفة سوداء.

وفجأة لاح نور يخفق ويبرق من بعيد، كأنه نجم أو كوكب سعيد، وتزامن هذا مع دقات الساعة منتصف الليل. هنالك أخذت على غرة، وأشرق الضوء الساطع من كأس كالدرة، يحملها في يده صبي فاتن الجمال على جبينه غرة.

أبصرت أمامي عينين ببريق خاطف اللمعان، تحت تاج مرصع بالزهور التي تسطع ألوانها كالياقوت والمرجان. وعلى الضوء السماوي الساطع للشراب، دلف الصبي إلى الدائرة التي كنت أحفر فيها بالظفر والناب. ابتسم وحياني ودعاني أن أشرب باطمئنان. قلت لنفسي: يستحيل أن يكون هذا الصبي من نسل الشيطان، ما دام يقدم لي هذه الهدية الرائعة التي تستحق العرفان والامتنان: اشرب وتذوق شجاعة الحياة الصافية، عندئذ تفهم سر الموعظة الغالية، وتقلع عن تعاويذ الشر وتهاويل البهتان، ولا تفكر أبدا في الرجوع إلى هذا المكان. كف عن الحفر هنا، وتوقف عن هذا العمل الباطل، اجعل يومك للعمل المثمر والشاق، واجعل ليلك للسمر مع الأضياف وللبهجة والأشواق. اقض أسابيع العمر مع الكد المر، واترك نفسك للمتعة في الأعياد وللمرح الحر، ولتصبح كلماتي في المستقبل هي تعويذتك، وحكمتك، وكلمتك السحرية.

5 (5) صياد بجبال الألب - ألا تريد يا ولدي أن ترعى الأغنام؟ الأغنام الهادئة الطيبة التي تعيش على الأعشاب، وتمرح لاعبة على شط الغدير؟ - أمي، أمي دعيني أمضي يا أمي للصيد، هنالك فوق أعالي جبل الألب. - ألا تحب يا ولدي أن تجذب القطيع الصغير، ليسير وراءك على أنغام البوق المرح وألحان النفير؟ فترن الأجراس بصوتها المحبوب، وتندمج مع غناء الغابة العجيب؟ - أمي، أمي، قلت لك دعيني أسرح وأهيم، فوق أعالي الجبل الموحشة هناك. - ألا يعجبك يا ولدي أن تتعهد الأزهار اللطيفة التي تنمو وتزدهر في أحواض الزهور؟ هناك لن تجد البستان ولا الحديقة التي ترحب بك وتدعوك، فما أفظع الوحشة في الأعالي المقفرة الجدباء! - اتركي الزهور في حالها لتنمو وتزدهر في سكون، ودعيني يا أمي أذهب إلى قمة الجبل المكين.

وانطلق الصبي في رحلة الصيد كما أراد، وقلبه يجيش بالرغبة والقلق والاندفاع الجسور، نحو البقعة المقفرة التي يرتفع فيها الجبل الموحش المهول. مرت أمامه بسرعة أشد من سرعة الريح، غزالة تعدو هاربة مرتعشة بعد أن لمحت ظله النحيل. راحت تتسلق أضلاع الصخر العارية كأنها تسبح أو تطير، وما إن لمحت شقا في الحجر المتصدع حتى قفزت تختبئ فيه، لكن الصبي النزق الجريء كان يتبعها وفي يده قوس الموت الوشيك. ها هي ذي فوق الحافة تتعلق بنتوء في أقصى الطرف الحاد، تتلفت حولها وتحتها، فلا ترى من درب أو سبيل، بل صخور منحدرة في عمق الهاوية السحيق، وتنظر خلفها ولا تلمح سوى العدو المتربص بها من قريب. إنها ترسل نظرات الرعب الخرساء، وتبتهل وتتوسل لصبي قاسي الفؤاد، لكن تتوسل عبثا إذ ها هو يضع يديه على القوس، ويدخل فيه النبل الفتاك.

وفجأة ينشق الصدع الأسود في الجبل الأجرد عن روح طيب، ويتقدم منها عجوز الجبل ليهدئ من روعها، ويمر بيده الإلهية على ظهر الحيوان المعذب، ثم ينادي بأعلى صوت: أحتم عليك أن تجلب الموت والرعب إلى هذا المرتفع الذي أعيش فيه؟ إن الأرض تتسع للجميع، فلماذا تصر على مطاردة هذا الغزال البريء وملاحقة قطيعي؟!

6 (6) لعبة العمالقة

قلعة «نيديك» في منطقة الإلزاس اسم ذاع صيته في الحكايات والأساطير، واشتهر برجه العالي الذي كان يعيش فيه العمالقة قبل أزمان وأزمان. لقد سقط البرج العالي وانهار، وآلت القلعة اليوم إلى الخراب والوحشة والبوار. ولو سألت عن العمالقة فلن تعثر لهم على أثر وسط الأنقاض.

ذات يوم خرجت طفلة من نسل العمالقة من القلعة لتلعب أمام الباب، ودفعها الفضول لأن تهبط المنحدر إلى الوادي البعيد؛ إذ تاقت نفسها لمعرفة ما يجري هناك في الأعماق.

قطعت خطوات قليلة وسريعة لتجد نفسها قد عبرت الغابة، وسرعان ما بلغت الأرض التي يعيش فيها البشر. والمدن والقرى والحقول المزروعة بدت لعينيها من عالم غريب.

وبينما هي تطل تحت قدميها متطلعة لما تراه هناك، وقع بصرها على فلاح يعمل في حقله الصغير. كان الكائن الصغير منكبا على عمله الشاق العجيب، ومحراثه يلمع تحت وهج الشمس، ويسطع بضوء غريب.

هتفت صائحة: «ياه! يا لها من لعبة طريفة! سأحملها وأعود بها إلى البيت.» ثم انحنت بسرعة وبسطت منديلها على الأرض، وكنست بيديها كل ما كان يتحرك هناك، وكومت ما جمعته وطوته في منديلها الصغير. وأخذت تقفز بسرعة وهي تهلل بالفرح على عادة الأطفال، ودخلت القلعة وانطلقت في لهفة تبحث عن أبيها في كل مكان. - أبي، أبي الحبيب، أترى هذه اللعبة البديعة العجيبة؟ لم يسبق لي أن رأيت مثلها في قلعتنا العالية الأبواب والأسوار.

كان العجوز يجلس إلى المائدة، ويحتسي كأسا من النبيذ، نظر إلى ابنته في هدوء وسألها في حنان: «ما هذا الشيء المثير الذي تطوينه في منديلك اللطيف؟ أراك تتقافزين يا ابنتي من الفرح، فدعيني أنظر ما تحملين.»

نشرت الطفلة منديلها الصغير، وبدأت تصف على المائدة كل ما احتواه: الفلاح والمحراث والحصان الذي كان يجر المحراث. راحت تضع كلا منها في مكانه، وهي تصفق بيديها وتثب إلى أعلى وتهلل بالفرح والصياح.

تجهم وجه الأب واكفهرت ملامحه، هز رأسه في هدوء، ثم قال: «ما الذي فعلته يا ابنتي؟ ليست هذه لعبة على الإطلاق! هيا احمليها يا ابنتي على الفور، وأعيديها إلى الموضع الذي أخذتها منه. هيا يا ابنتي فليس الفلاح لعبة، ولا أدري كيف خطر لك هذا على بال. هيا نفذي الأمر بلا تردد أو إبطاء، فلولا الفلاح يا ابنتي ما عرفت الخبز الذي تأكلين كل صباح ومساء. هل غاب عنك أن نسل العمالقة من صلب الفلاحين؟ لا ليس الفلاح لعبة يا ابنتي، وليحمنا الله من شر هذه الأفكار.»

في منطقة الإلزاس ذاع اسم قلعة «نيديك» ورددته الأساطير والحكايات. واشتهر برجها العالي الذي سكنه العمالقة في سالف العصر والأوان. لقد سقط البرج العالي وانهار، وآلت القلعة في أيامنا إلى الوحشة والخراب والبوار. ولو سألت عن العمالقة لما عثرت لهم على أي أثر وسط الخرائب والأنقاض.

7 (7) صبي الساحر

أخيرا غادر المعلم والساحر الخطير. صرت وحدي وخلا علي البيت الكبير. سأجعل أرواحه وعفاريته طوع إرادتي، وآمرها بأن تتصرف كما أحب وأشاء. حقا أنا صبيه الذي يتعلم على يديه، لكنني سمعت كلماته وراقبت حركاته وسكناته وعاداته، وبقوتي وعزمي سأفعل الآن ما أريد، وأحقق مثله العجائب والمعجزات.

أيتها المياه، أيتها المياه،

تدفقي تدفقي،

وانطلقي وأغرقي

البيت والفناء،

والبهو والحديقة،

وليهدر الطوفان

من داخل الحمام،

وينتهي إليه

ولتغمر الدلاء

الزرع والبناء

بالماء ثم الماء،

تصبه عليه

والويل كل الويل

حين يفيض السيل

لمن يسد طريقه، أو ينكر الحقيقة.

تدفقي وفوري

وانطلقي وثوري.

أيتها المياه،

أيتها المياه.

وأنت أيتها المكنسة القديمة، هيا تعالي والعبي لعبتك الحميمة. هيا ارتدي أسمالك البالية السقيمة، قد كنت دائما خادمة مطيعة؛ فامتثلي لأمري الآن، حققي إرادتي ورغبتي الفظيعة. قفي على رجليك، وارفعي الرأس لأعلى، واحملي الوعاء فوقه ممتلئا بالماء. هيا اذهبي وعودي، عودي واذهبي دون تلكؤ ولا إبطاء. تحركي، تحركي أيتها المكنسة القديمة الحمقاء.

تدفقي تدفقي

أيتها المياه.

انطلقي وأغرقي

البيت والفناء،

والبهو والحديقة.

تدفقي وفوري،

وانطلقي وثوري

أيتها المياه، أيتها المياه.

ها هي المكنسة تنحدر هابطة إلى شاطئ النهر حقا، بل ها هي تملأ الوعاء وترجع مسرعة كالبرق، ثم تصل إلى هنا وتصب سيول الماء مرة بعد مرة بعد مرة، حتى يفيض الحوض وتمتلئ الجرار والقدور، والأوعية والأطباق والصحون، وتدفق من أفواهها الماء بعد الماء.

كفى، كفى

توقفي توقفي

أيتها المكنسة المجنونة،

أيتها المكنسة الملعونة.

لقد فعلت ما استطعت،

أعطيت فوق ما انتظرت منك.

شكرا ثم شكرا لك.

لكن توقفي الآن توقفي توقفي . أوشكت المياه أن تسيل كالطوفان،

وتغرق النبات والجماد والإنسان.

قلت توقفي.

لماذا تمعنين في العصيان؟ يا أنت يا نسل الجحيم أقلعي عن غيك الشنيع، عودي كما كنت وأعطيني الأمان.

أواه ما الذي فعلته وما الذي لا زلت تفعلين؟

وكيف أوقف المياه عند حدها وأتقي أذى السيل اللعين؟

ويلي، يا ويلي نسيت الكلمة! الكلمة التي ستوقف المكنسة الملعونة.

الكلمة التي توقفها فورا إذا أخرجها من فمه المعلم الحكيم.

ويلي أنا الغبي والملعون يا ويلي نسيت الكلمة! الكلمة التي ترجعها كما كانت وتمنع المصيبة.

توقفي، قلت توقفي أيتها المكنسة الرهيبة.

لا لن أطيق هذا. لن أطيق أن يغمرني التيار،

ويغمر السلم والحجرة والبهو وكل ما في الدار.

لن أطيق هذه الكارثة الفظيعة،

لا بد أن أمسكها المكنسة المجنونة الخليعة.

ويلي يا ويلي ماذا قد جرى؟

قد غمر السيل المكان واستبد وطغى، هل أترك البيت يضيع كالفريسة

لهذه المكنسة الخسيسة؟

قفي قفي، توقفي أيتها الدسيسة، هيا ارجعي كما كنت، وأوقفي لعبتك الحقيرة.

الماء فاض، أغرق الأعتاب، وحطم الدولاب، جرف الأبواب، هدد السقوف والرفوف والحظيرة.

ما زلت لا تريدين أن تقفي عند حدك. إذن فلا بد من الإمساك بك مهما كان الثمن. سألقي بنفسي عليك وأشطرك نصفين. ها هي البلطة في يدي ولن تهربي من مصير المارقين. ها هي ذي تعود وفوقها الوعاء يترنح ويدلق الماء. انتظري أيتها الروح الجاحدة، فسوف تركعين الآن وتندمين. ها هي ذي الضربة تقصم ظهرك الملعون، تقطع خشبتك المهترئة بحدها المسنون، انشطرت إلى نصفين، وأستطيع الآن أن أتنفس وأستريح من القلق والجنون.

ويلي، ويلي!

الشطران يقومان الآن من الأرض

يسابق أحدهما الآخر،

ويحث الخطو إلى النهر، ويمضي بالقدر الملآن. آه أيتها الأرواح العلوية، كوني في عوني،

لا تذريني وحدي،

لا تدعيني أهلك وأموت وأغرق كالفأر السكران،

ويهلك معي البيت مع الأغنام مع الجيران.

وتواصل المكنسة - التي أصبحت مكنستين - لعبتها السخيفة. ويبتل كل شيء وتطمره المياه؛ القاعة والأعمدة والسلالم والحجرات والشرفات.

آه ويلي من هذا السيل المرعب!

تعب القلب فأقبل ، أقبل يا سيدي الساحر والراعي والأب.

اسمع صوتي، أدركني، سامحني واغفر لي هذا الذنب. المحنة - يا من علمت صبيك - قاسية مرة.

أنقذني وأنا أعدك ألا أفعلها أبدا ، أعدك هذي آخر مرة.

زين لي الطيش الأحمق أن أدعو الأرواح فلبت وإذا البيت يصير بحيرة، لكني حين رأيت الخطر الداهم حاولت وحاولت لكي أصرفها،

واستعصى الأمر علي ولم أعرف سره، ونسيت الكلمة، وانقلب السحر على الساحر كاد يكلفه عمره.

أدركني يا سيدي ومولاي،

أقر بجهلي ورعونتي وهذي هي آخر مرة.

وجاء المعلم الساحر العجوز فهتف على الفور:

أيتها المكنسة اللطيفة

هيا إلى الزاوية الأليفة،

عودي إلى الركن الحبيب عودي.

وعندما يدعوك صوت غير صوت الساحر العجوز فاصمتي لا تسمعي للوعد والوعيد،

قولي له: السر لا يعرفه الصبي

بل يعلمه المعلم الذي علمني، الذي ألزمني حدودي.

8

الفصل الثاني

الحب الصادق وحد بينهما

(1) ابنة صاحبة الفندق

كان ثلاثة فتيان يتمشون على شط الراين الهادئ الوديع. بحثوا عن مكان يستريحون فيه، ثم رأوا أمامهم الفندق الصغير. طرقوا الباب ففتحت صاحبة الفندق. - «أيتها السيدة المحترمة، هل لديك بيرة ونبيذ؟ وابنتك الساحرة الجمال، أين هي الآن؟» - «عندي بيرة طازجة ونبيذ صاف، أما ابنتي فهي في الحجرة المجاورة ترقد في التابوت.»

اتجهوا ناحية الحجرة وفتحوا الباب. وجدوا الفتاة ممددة داخل تابوت يغلفه السواد.

تقدم الفتى الأول ورفع عن وجهها النقاب، ثم أخذ يتأملها بنظراته الحزينة. «آه لو كنت الآن حية، أيتها الفتاة الفاتنة الجمال، إذن لأحببتك على الفور من كل قلبي وبدءا من اللحظة والآن.»

وأقبل الفتى الثاني على التابوت، ومد يده فغطى وجه الفتاة بالنقاب، ارتد إلى الوراء قليلا، ثم راح جسده يرتج من البكاء: «آه، ما أقسى أن أجدك راقدة في هذا التابوت! كم أحببتك ورعيت عهودك عدة سنوات!»

واندفع الفتى الثالث نحو التابوت، فرفع النقاب عن الوجه الشاحب الحزين، وانحنى على الفتاة وقبل الفم الذابل وهو ينتفض من البكاء والأنين: «أما أنا فأحببتك دائما، وما زلت أحبك وسوف أظل أحبك للأبد.»

1 (2) القفاز

جلس الملك «فرانز » أمام حديقته التي تحبس بين أسوارها وفي أقفاصها الأسود، منتظرا بداية الصراع بين الوحوش بعضها وبعض، وبين الوحوش والإنسان.

اتخذ كبار رجال البلاط أماكنهم من حوله، أما كرائم السيدات فجلسن في الشرفة العالية، وقد تألقت زينتهن، وسطعت حليهن، ووضعت على رءوسهن أكاليل الزهور.

لم يكد الملك يعطي الإشارة من إصبعه حتى انفتح أحد أبواب الحلبة الواسعة، ودخل منها أسد يمشي بخطى ثقيلة متأنية، ويتلفت حوله بنظرات متوانية صماء. فتح فمه على اتساعه، وأخذ يتثاءب، ويهز عرفه الأشقر المتهدل على رأسه، ثم تمطع قليلا قبل أن يتمدد على الأرض ويستريح.

عاد الملك يشير بإصبعه، فانفتح على الفور باب ثان، خرج منه نمر ضخم أخذ يقفز قفزات وحشية خاطفة. ولم يكد يرى الأسد الراقد أمامه، حتى دوت زمجرته العالية، وأخذ يضرب الأرض بذيله ذات اليمين وذات اليسار، ثم بدأ يلف في دائرة بعيدة عن الأسد، وقد تدلى لسانه، وراح يلعق به شفتيه قبل أن يتمطى على الأرض، وهو يدمدم بصوت متحشرج مكتوم.

وأشار الملك بإصبعه من جديد، فأفلت من الباب المزدوج فهدان مخيفان مرة واحدة. اندفعا بكل ما فيهما من شهوة العراك وشراسة النزال نحو النمر الممدد على الأرض، فلم يكن منه إلا أن صدهما بمخلبيه الأماميين، بينما نهض الأسد واقفا وهو يزأر فساد الهدوء وخيم السكون على الجميع. وهكذا رقدت القطط الوحشية المرعبة، والتأم شملها في شبه دائرة تتصاعد من داخلها روائح التحفز للقتل والقتال.

فوجئ الجميع بقفاز ألقت به من فرجة في الشرفة إحدى الأيدي الجميلة، ورأوه وهو يسقط وسط الدائرة التي تضم الأسد والنمر والفهدين، وترامى إليهم صوت تبين لهم أنه صوت الحسناء «كونيجوند» التي لاحظوا أنها تميل برأسها ناحية الفارس «ديلورجس» وتقول له بنغمة مرحة ساخرة: أيها الفارس، إن كان حبك هو الحب الصادق الحار كما تؤكد لي كل يوم وكل ساعة، فأثبت لي ذلك بأن ترجع القفاز الذي سقط من يدي.

نهض الفارس فورا على قدميه، وأسرع بالنزول إلى الحلبة المخيفة بخطوات راسخة ثابتة، وتقدم من الدائرة المرعبة فالتقط القفاز بإصبعه الجسور في لمحة خاطفة.

ارتسم الذعر والذهول على وجوه الفرسان والكبراء والحسان النبيلات وهم يتابعون المشهد لاهثين مضطربين. وعندما أقبل الفارس ومعه القفاز الذي أرجعه للحسناء رددت كل الألسن، ولهجت كل الأصوات بآيات التمجيد والثناء، وعبرت كل النظرات التي تركزت عليه عن الإعجاب والإكبار، لكن نظرة الحسناء «كونيجوند» تميزت عن سائر النظرات؛ إذ كانت مفعمة بالحب والحنان غنية بالوعود والمواعيد.

أما الفارس نفسه فقد رمى القفاز في وجهها وهو يقول: وفري الشكر يا سيدتي فأنا في غنى عنه.

وانطلق مغادرا المكان في نفس اللحظة.

2 (3) أنثى

ربط الحب قلبيهما برباط وثيق، أما هي فأنثى ماكرة لعوب، وأما هو فلص قاتل ووغد زنيم. وفي كل ليلة يرجع إليها من مغامراته الإجرامية، كانت تلقي بنفسها على السرير وتنخرط في نوبة من الضحك الشديد.

كانا يمضيان نهار اليوم بين اللذة والسرور، وفي المساء كانت ترقد واضعة رأسها على صدره العريض، وعندما ألقوا القبض عليه وأخذوه معهم إلى السجن المظلم البعيد، وقفت في النافذة، وأخذت تضحك في حبور.

أرسل إليها من يقول لها على لسانه: تعالي في أقرب وقت، أنا في شوق لك، قلبي يهتف باسمك ويحن إليك.

لم يكن منها بعد أن بلغتها الرسالة إلا أن هزت رأسها، وأغرقت في الضحك السعيد.

في السادسة صباحا شنقوه، في السابعة غيبوه في قبره، لكنها في الثامنة راحت ترتشف النبيذ الأحمر، بينما كانت تطل من النافذة وتضحك.

3 (4) بنو عذرة

في كل مساء كانت ابنة السلطان الفاتنة الحسناء، تتمشى جيئة وذهابا عند النبع الصغير، النبع الذي توشوش فيه وتتناثر منه المياه البيضاء.

وفي كل مساء كان العبد الشاب يقف عند النبع الذي توشوش فيه المياه البيضاء، وكان وجهه في كل يوم يزداد عليه الشحوب والاصفرار.

في أحد الأيام اندفعت الأميرة نحو العبد، وقالت له بكلمات خاطفة حادة: أريد أن أعرف اسمك. أعرف وطنك وقبيلتك وأصلك.

أجاب العبد بقوله: اسمي محمد، وأنا من اليمن السعيد، وقبيلتي هي قبيلة بني عذرة، أولئك الذين يموتون عندما يحبون ويخلصون.

4 (5) قصة حب موضوعية

بعد أن عرفا بعضهما ثماني سنوات كاملة (ويمكن القول بأنهما عرفا بعضهما معرفة لا بأس بها)، ضاع منهما الحب فجأة كما تضيع من المرء عصا أو مظلة أو غطاء للرأس.

كانا حزينين، وحاول كل منهما أن يبدو مرحا وطبيعيا، بل حاولا أن يتبادلا القبل، وكأن كل شيء لم يزل على حاله كما كان. ثم نظر كل واحد منهما للآخر، واحتارا كيف يتصرفان. عندها انفجرت في البكاء الشديد، ووقف هو بجوارها صامتا لا يدري ماذا يقول.

كانت شمس العصر تفرش أشعتها على أسطح البيوت. قال إن الساعة ربما جاوزت الرابعة بقليل، وقد حان الوقت لتناول القهوة أو الشاي، وسمعا بالقرب منهما أصوات عزف على البيانو.

دخلا أصغر مقهى وجداه في المكان، ثم راحا يقلبان الملاعق في الأكواب. وهبط المساء وهما ما يزالان في مكانهما جالسين، جالسين وحدهما وبكلمة واحدة لا ينطقان، ولا يتصوران - ببساطة - كيف حدث لهما ما حدث.

5 (6) ملك من تولا

6

عاش في جزيرة تولا من قديم الزمان، ملك صان عهد الوفاء حتى الرمق الأخير. كانت زوجته قد أهدته وهي في غيبوبة الاحتضار، كأسا ذهبية رائعة الحسن والجمال.

لم يكن يفوق حبه لهذه الكأس شيء في الوجود، فهو يفرغ خمرها في جوفه مع كل طعام أو شراب. وكلما ارتشف منها ولو قطرة واحدة، طفرت إلى عينيه الدموع الغزار.

عندما كبر في السن وشعر بأن أجله قد حان، أحصى المدن والقلاع والأصقاع في المملكة، ثم قام بتوزيعها على ورثته من الأمراء، وتخلى عن كل شيء ولم يحتفظ لنفسه إلا بالكأس.

جلس إلى المأدبة الملكية للمرة الأخيرة، ومن حوله جموع الفرسان والنبلاء والأمراء، هناك في البهو الفخم العالي بهو الآباء، في قصره الشامخ المطل على البحر الكبير.

ونهض السكير العجوز ووقف أمام النافذة، وراح يرتشف آخر جمرات الحياة، ثم انحنى ورمى الكأس المقدسة من يده في ماء البحر الجياش بالرياح والأمواج.

أخذ يراقبها وهي تصطدم وترتطم بدوامات المياه، ثم تسقط وتغيب على مهل في الأعماق. هنالك أغمض عينيه وانسدلت فوقهما الجفون، ثم لم يذق بعد ذلك قطرة واحدة.

7

الفصل الثالث

طوبى للعصيان

(1) طوبى للعصيان

كان هناك سبع عنزات صغيرة، وكان يسمح لهن بأن يتطفلن على كل شيء، باستثناء صندوق الساعات، الذي حرمته عليهن الأم، حتى لا تفسده وتدمره.

كانت هناك ست عنزات مؤدبة، أرادت أن تتطفل على كل شيء، إلا على صندوق الساعات، الذي حرمته الأم عليهن، حتى لا تفسده وتدمره.

وكانت هناك عنزة عاصية، أرادت أن تتطفل على كل شيء، بما في ذلك صندوق الساعات، الذي أفسدته ودمرته كما خشيت الأم.

ثم جاء الذئب الشرير.

كانت هناك ست عنزات مؤدبة، اختفت عندما شعرت بأن الذئب قد جاء؛ تحت المائدة، وتحت السرير، وتحت الكرسي الكبير، ولم يختف أحد منها في صندوق الساعات، فافترس الذئب العنزات الست جميعا.

كانت هناك عنزة غير مؤدبة، قفزت في صندوق الساعات، كانت تعلم أنه فارغ ومجوف، ولذلك لم يعثر عليها الذئب، فبقيت على قيد الحياة.

عندئذ فرحت أم العنزات.

1 (2) الحلاق المناسب «إذا جاز لي على طريقة المتحذلقين، أن أحلق ذقني وخدي، فسأسمح لنفسي لليوم الأخير، بأن أستغل ذقني الطويلة، بذلك يرتعد من الرعب كل من يراها، وكل من يواجه غضبي الشديد.

هاللو، أنت يا صاحب الفندق، خذ حصاني بسرعة، وقدم له ما يحبه من العلف. هل لديكم هنا في المنطقة حلاق؟ إذن فادع الحلاق المناسب على الفور. لقد جبت الغابة من الشمال للجنوب، وقطعت هذه البلاد الملعونة بالطول والعرض، ومع ذلك لم أعثر أبدا على الحلاق المناسب.

تعال هنا، اقترب يا حلاق الذقون، عليك أن تحلق لي ذقني، لكن لا تنس أن جلدي حساس، سوف أنفحك مائة قطعة ذهبية،

2

وإذا لم تؤد عملك على ما يرام وسالت مني قطرة دم واحدة، فسوف يطعنك هذا الخنجر في قلبك.»

كان الحديد البارد المسنون يلمع فوق المائدة، وعلى مقربة من هذا الشيء الملعون، كان الرجل متجهم الوجه أسمر الشعر، يجلس على صهوة جواده، مرتديا سترة قصيرة سوداء، تتدلى منها أهداب أشد سوادا.

أحس الحلاق بالرعب الشديد ، أراد أن يسن الموسى ويبدأ عمله، ثم نظر إلى الخنجر، وإلى الضيف الماثل أمامه، فتملكه الخوف والفزع، وأخذ يرتعش كورقة الخريف، وفجأة قرر أن ينفذ بجلده من الإعصار، واستأذن في أن يرسل صبيه بدلا منه. «مائة قطعة ذهبية أعرضها عليك إذا وجدتك تجيد صنعتك، لكن حذار أن تخدش جلدي، وإلا طعنتك بالخنجر حتى الموت.»

قال الصبي: «أعوذ بالله من الشيطان، ليس هذا من العادات المألوفة في بلادنا.» وجرى مسرعا، وأرسل إليه صبيا أصغر. «أأنت الحلاق المناسب، أيها (البرص) الصغير؟ هيا إذن إلى العمل، وابدأ في الحلاقة، هنا المال أمامك، وهنا الخنجر، ويمكنك أن تختار ما تشاء، لكن إذا جرحتني أو خدشت جلدي بخدش بسيط، فسوف أطعنك الطعنة الرحيمة القاضية، ولن تكون في ذلك الأول ولا الأخير.»

تفكر الصغير في العملات الذهبية، لم يتردد طويلا وهتف بصوت جسور: «اجلس الآن في هدوء، لا تتحرك، وليرعك الله ويبارك فيك.»

أخذ - بثبات ورباطة جأش - يغمر وجهه بالصابون، يشحذ في يده الموسى، ويقص الشعر، يحك الجلد، ويدهنه ويدعكه. «والآن، بحمد الله، نعيما عليك.» «خذ، أيها القزم المضحك، نصيبك من المال، إنك شيطان حقيقي، لم يفكر أحد قبلك في الحصول على النقود، وأنت الوحيد الذي لم تعتره الشكوك، ولا أصابته الرعشة والارتجاف. ولو سالت مني قطرة دم واحدة، لما ترددت في طعنك بالخنجر.» «سيدي الكريم، لم يكن الأمر كما تتصور، فقد كنت أمسك طول الوقت برقبتك، ولو كنت حركت وجهك حركة بسيطة، وارتبكت يدي لحظة واحدة في الحلاقة، لما تركت لك الوقت لتنفيذ ما تقول، فقد كنت مصمما وعلى أتم استعداد أن أقطع رقبتك على الفور.» «كذا، كذا، يا لها من دعابة ملعونة.»

ساءت حال السيد وشعر بالتعب والضيق، وشحب وجهه كوجوه الأموات، وراح جسده ينتفض ويرتعش بعد الأوان. «كذا، كذا، شيء كهذا لم يخطر أبدا على بالي، مع ذلك فقد لطف بي الرحمن الرحيم، ولن أنسى هذا الدرس في المستقبل ما حييت.»

3 (3) تاجر من أصفهان

فرضت ضريبة جديدة، على التجار في مدينة أصفهان، لكن أحد التجار رأي بعد تفكير، أن الضريبة تجاوز قدرة حافظة نقوده بكثير.

أخذ يعد، ويحسب، ويقارن ويزن الأمور، ثم هب من فوره وانطلق على الطريق، ليعلن شكواه للمحتسب الكبير، لعل الشيخ يستجيب لظلامة المستجير.

جاب الحارات الضيقة وشق طريقه وسط الزحام: سيدي، لن أسدد الضريبة الجديدة. - إذن، فعليك أن تغادر هذه المدينة.

قالها المحتسب في تأن وهدوء. - سيدي، أنا عاجز هنا عن سداد الضريبة، وإلى أين أذهب وليس لي في العالم مكان؟ - اذهب إلى شيراز أو حتى إلى كاشان، أو اذهب كما تشاء إلى أي مكان.

تجرأ التاجر وقال: في شيراز، يا سيدي، يعمل شقيقك الأصغر منك، وابن أختك يمسك بالدفة في كاشان، فأي شيء يمكن أن أرجوه هنا أو هناك؟ - تستطيع أن تتوجه إلى البلاط، وهناك تشكو الظلم الواقع عليك. - في البلاط يا سيدي يقبض على زمام السلطة شقيقك الأكبر وهو الوزير. - اذهب إذن إلى الجحيم، وتوقف عن حمقك ووقاحتك.

رد عليه التاجر قائلا: ربما وجدت هناك والدك رحمه الله، فما أصعب أن يفلت منك أي إنسان! - اذهب إذن وتوكل على الله، وسوف أفكر في الأمر بنفسي حتى لا تقع على رأس أحد من جنسي تهمة ظلمك في الدنيا وفي الآخرة.

4 (4) مرسال

رجع الدوق من مهرجان سباق الخيول، فرأى خادمه يمرق مسرعا بجانبه: هالو، إلى أين تحملك رجلاك؟ تكلم يا خادمي وقل لي في أي اتجاه تسير. - إنني أتمشى يا سيدي وأروض أعضائي، وبالمرة أبحث لي عن مسكن أعيش فيه. - مسكن؟ ما هذا الذي تقوله؟ تكلم بصراحة، ماذا حدث لمسكننا، للبيت الذي نعيش فيه؟ - لم يحدث شيء ذو بال، مجرد أن كلبك الأبيض الصغير، يرقد الآن مجروحا بجرح مميت. - كلبي العزيز مجروح؟! مجروح حتى الموت؟! تكلم كيف جرى هذا لكلبي الحبيب؟ - أصاب الفزع حصانك فقفز فوقه، وبعدها جرى في اتجاه النهر فابتلعته الأمواج. - حصاني الجميل! زينة حظيرة الخيول! وما الذي أفزع الحيوان المسكين؟ - إن لم تخني الذاكرة فقد داهمه الرعب الشديد، عندما رأى ابنك الصغير يسقط من النافذة. - ابني ؟ وهل جرح ابني العزيز؟ لا بد أن زوجتي الحلوة ترعاه الآن. - الدوقة عاجلتها الضربة على الفور عندما رأت أمامها جثمان السيد الصغير. - ولماذا مع كل هذه المصائب والأهوال لم تبق هناك، أيها الوغد، لتحرس البيت؟! - البيت؟ أي بيت تقصد يا سيدي! بيتك الآن فحم وتراب! كانت المرأة التي غسلت الجثث بالقرب من النعش نائمة، حين شبت في ثوبها وشعرها النار، واحترق القصر والإسطبل باللهب الذي أججته الريح، كما احترق الخدم والحشم أجمعين. أنا وحدي الذي ادخره القدر من المأساة، وأرسلني إليك لأصف لك في رفق تلك الأحداث.

5 (5) صبي الشيطان

ولما رجع الجندي من الحرب، وفي جسده سبعة ثقوب فداء لمليكه، لم يجد مأوى في وطنه، فمضى ذاهبا إلى الجحيم. هناك وجدوا له وظيفة، فكان عليه أن يقوم بتسخين القدور، كما كان عليه ألا يبخل بالفحم والوقود، وبذلك صار صبي الشيطان.

وعندما تقدم من القدر الأول، وجد ضابطه السابق يطل برأسه: أنت يا رفيقي العزيز، ساعدني على الخروج من الجحيم. - طبعا لا، لن يحدث شيء من هذا، لكم عذبتني على الأرض وأهنتني، فابق إذن في أسفل الجحيم، وجبة سائغة للشيطان.

وعندما أقبل على القدر الثانية، اكتشف أن فيها المارشال. - آه يا رفيقي الطيب، ساعدني على الخروج من الجحيم. - لا، لا. هذا شيء مستحيل. لقد طالما عذبتني على الأرض وأهنتني، فابق عندك في أعماق الجحيم، وجبة دسمة للشيطان.

ولما اقترب من القدر الثالثة وجد مليكه يطل منها برأسه. - أنت يا رفيقي العزيز، ساعدني على الخروج من الجحيم. - لا، لا. لن يحدث هذا أبدا، لقد عذبتني على الأرض وأهنتني، فابق في أسفل درجات الجحيم، وجبة لذيذة للشيطان. وإذا بقيتم جميعا في الجحيم، فسوف تحيا الأرض في رخاء ونعيم، عندئذ يمكنني، أنا صبي الشيطان، أن أرجع أخيرا إلى بيتي.

ترك زبانية جهنم يعملون ويسبحون، ووضع تحت القدر مزيدا من الفحم والوقود، ثم تسلل مغادرا الجحيم، على أمل ألا يعود إليه أبد الآبدين.

6 (6) الطفل الذي سقط في البئر

كان الطفل الصغير - على عادة الأطفال - مشغولا باللهو واللعب والمرح. لم ينتبه إلى البئر المفتوح القريب منه، فوجد نفسه فجأة يسقط فيه.

صحيح أنه عندما سقط لم يصب بسوء، لكن الطفل هو الطفل، ولا بد من أنه شعر بالفزع والبرد الشديد في ذلك الثقب الرطب الكئيب. المهم أن البئر كان قريبا من البيت الذي يسكن فيه، ولم يكن عميقا على كل حال، ولذلك استطاع أن ينادي من مخبئه بصوت كله استعطاف ورجاء: أتوسل إليكم، ساعدوني على الخروج.

جاء الأب مسرعا، وجاء معه أخوه، وحضر كذلك أقرب جار، بل إن رجال الإطفاء أقبلوا أيضا، مع أنه لم يكن هناك نار ولا دخان. أخذوا ينظرون معا إلى الطفل الصغير المحبوس في الأعماق، سألوه بصوت واحد: ما الذي حدث وكيف وقعت فيه؟ تنهد الطفل وسأل: وكيف أخرج من هنا؟ هتف أبوه قائلا: أنت يا ولدي العجيب لا مبدأ لك. أما أخوه فضرب بيده على صدره، وقال على وجه التقريب: كنت أعلم على الدوام أن أخي سيئ الطباع.

وقال الجار بصوت لين حنون: لقد قذف زجاج نافذتي مرة بحجر صغير، أجل إنه ولد متوحش وشرير.

صاح الأب بصوت عال: اعترف يا ولد، لقد فعلتها وأنت عامد متعمد.

وأكمل أخوه بصوت خفيض: والسر في ذلك أنه تعود أن يسرق التفاح.

ومع أن فتحة البئر لم يكن يصعد منها نار ولا دخان، فإن رجال الإطفاء هددوا الطفل بالخرطوم الأسود الكبير.

نفد صبر الجميع ودمدموا بصوت عال وغليظ: اعترف بذنبك إذن، وإلا سلطنا عليك المياه، هتف الطفل الصغير: نعم، نعم، نعم. كان غطاء البئر مكشوفا، ولذلك سقطت فيه. صحيح أنني أعترف بذنبي، لكن الآخرين أيضا مذنبون.

ولا بد وأنه قال ذلك تحت تهديد الخرطوم.

المهم أنهم أخرجوه أخيرا ووضعوا على البئر الغطاء.

كبر الطفل الآن، وانتهت اللعبة. ومن يكذب وينافق، هو وحده الذي يجد الراحة والأمان.

7

الفصل الرابع

حكاية من سالف الزمان

(1) حكاية عن نشأة كتاب «الطريق والفضيلة» (تاو-تي-كنج) الذي أملاه الحكيم «لاو-تزو» وهو في طريقه إلى المهجر

1

لما بلغ السبعين من عمره وأحس بالضعف الشديد، تاقت نفس المعلم إلى الراحة؛ فقد تداعت أركان الخير في البلاد، والشر عاد إلى سطوته. وربط حذاءه.

2

ثم حزم ما يحتاج إليه . متاع قليل، لكنه يضم شيئا من هنا ومن هناك: الغليون الذي تعود أن يدخن فيه كل ليلة، والكتيب الذي تعود أن يقرأ فيه، ومن الخبز الأبيض على قدر النصيب.

3

فرح قلبه برؤية الوادي للمرة الأخيرة، ثم نسيه عندما سار في طريق الجبل. فرح ثوره بالعشب الندي فراح يمضغ منه والعجوز فوق ظهره، ولم يكن هذا في عجلة من أمره.

4

لكن في اليوم الرابع عند أسفل الجبل، سد عليه الطريق عامل الجمرك: هل من شيء نفيس يستحق الضريبة؟ «لا، لا شيء.»

والغلام الذي يسحب الثور تكلم قائلا: لقد كان يعلم الناس. واحتاج هذا أيضا إلى بيان.

5

وعاد الرجل يسأل بلهجة مرحة: وهل خرج من ذلك بشيء؟ وتكلم الغلام فقال بأن الماء الذي يجري بنعومة ولين، يهزم الصخر الجبار بمرور الزمن، وبهذا إن كنت فهمت، يغلب الصلب والخشن.

6

ولكي لا يضيع عليهما ضوء النهار الأخير، ساق الغلام الثور، وما إن اختفى الثلاثة خلف شجرة صنوبر سوداء، حتى كان الرجل يعدو خلفهما وهو يصيح: أنت، توقف، أجب على السؤال.

7 «ماذا تقصد بحكاية الماء أيها العجوز؟» توقف المعلم: «وهل يهمك أن تعرف هذا؟» قال الرجل: «ما أنا إلا عامل جمرك بسيط، لكن يهمني أن أعرف من ينتصر على من، إن كنت تعرف الجواب فتكلم.»

8 «اكتبه لي، أمله على هذا الغلام. شيء كهذا لا يأخذه المرء معه ويغادر البلاد. الورق عندنا والمداد. وعندنا كذلك وجبة طعام للعشاء، أنا أسكن هناك، هل اتفقنا الآن؟»

9

تطلع المعلم العجوز إلى الرجل من فوق كتفيه. السترة مرقعة، القدم حافية. وعلى الجبهة تجعيدة واحدة. آه، ما هو بغالب هذا الذي يعترض طريقه. وتمتم المعلم: أنت أيضا؟

10

كان المعلم العجوز فيما بدا عليه، أعجز من أن يرد ررجاء وجه إليه بأدب شديد؛ لذلك رفع صوته قائلا: «من يسأل يستحق أن يتلقى الجواب.» وتكلم الغلام فقال: «وسوف يبرد الجو بعد قليل.» «حسن، فلنهبط هنا إلى حين.»

11

ونزل الحكيم من على مطيته. سبعة أيام وهما يكتبان، وعامل الجمرك يحضر الطعام (كان في هذه الأثناء يلعن المهربين بصوت خفيض)، وبعدها تم كل شيء على ما يرام.

12

وذات صباح ناول الغلام عامل الجمرك إحدى وثمانين حكمة. وبعد تقديم الشكر على الزاد القليل الذي قدمه لهما، انعطفا حول شجرة الصنوبر وغابا في حضن الجبل. قولوا الآن: هل يمكن أن يكون الإنسان أكثر أدبا من ذلك؟

13

لكن لا ينبغي علينا أن نمجد الحكيم وحده، الذي يسطع اسمه على صدر الكتاب. فمن الضروري أن تنتزع الحكمة من الحكيم؛ لذلك استحق الشكر كذلك عامل الجمرك، الذي عرف كيف يطلبها منه.

1 (2) إدوارد (عن حكاية اسكتلندية) - إدوارد، يا إدوارد، ما الذي جعل سيفك محمرا بالدماء؟ أنت يا إدوارد، يا إدوارد، كيف أصبح سيفك مصبوغا بالدماء؟ ولماذا تسير هكذا وأنت محزون الوجه والخطى؟ - آه، لقد قتلت صقري يا أمي، قتلته يا أمي، وليس لدي صقر سواه، ولا صقر يشبهه. - إدوارد، يا إدوارد، دم صقرك ليس بهذا الاحمرار! تكلم يا ولدي بصراحة، اعترف لي. - آه، قتلت حصاني الأحمر يا أمي، حصاني الأحمر قتلته يا أم، وكم كان مزهوا بنفسه هذا الحصان. - كان حصانك عجوزا، ولم تكن بحاجة إلى ذلك. نعم يا إدوارد، يا إدوارد، كان حصانك عجوزا، ولم يكن للقتل أي داع. تكلم يا ولدي، لا بد أن هناك ألما آخر يضنيك. - آه يا أمي، يا أمي! لقد قتلت أبي، قتلت أبي وقلبي يتحسر، يتحسر عليه يا أمي، نعم قتلت أبي وقلبي يتحسر عليه. - إدوارد، يا إدوارد، وكيف تكفر عن ذنبك الآن؟ كيف تكفر عن ذنبك؟ آه، كلمني يا ولدي بصراحة. - أمي، يا أمي، لا أريد أن تبقى قدمي على هذه الأرض، أريد أن أرحل بعيدا، بعيدا وراء البحر. - إدوارد، يا إدوارد، وما المصير الذي سينتهي إليه بلاطك وقاعاتك؟ ما مصير قصرك يا ولدي وبلاطك، وهما نموذج الروعة والجمال؟ - آه يا أمي! سأتركهما في مكانهما حتى يسقط كل منهما ويتداعى، سأتركهما يا أمي ورائي، ولن أراهما مرة ثانية. - وما مصير زوجك وطفلك يا إدوارد؟ آه، ما مصيرهما يا ولدي؟ ومتى تسافر بالبحر؟ - العالم واسع يا أمي، دعيهما يا أمي يتسولان في أرجائه، ولن أراهما أبدا. آه، لن أراهما أبدا بعد ذلك. - وكيف يا إدوارد تترك أمك العزيزة؟ قل لي يا ولدي إدوارد: كيف تترك أمك العزيزة الغالية؟ - آه يا أمي! يا أمي، سأترك لك اللعنة ونار الجحيم، سأتركك للعنة يا أمي ولنار الجحيم، فأنت، أنت التي أوعزت لي بأن أقتله.

2 (3) قصر على البحر - هل رأيت القصر، القصر العالي الذي يقع على البحر؟ إن السحب الذهبية والوردية تسبح فوقه وتظلله.

وهو يود لو ينحني ويلمس التيار اللامع الصافي كالمرآة، بل يريد لو استطاع أن يصعد ويغوص في وهج السحب العابرة في المساء. - حقا لقد رأيته بنفسي، ذلك القصر العالي على البحر، ولمحت القمر الواقف فوقه، والضباب المنتشر حواليه. - صوت الريح وجيشان البحر، هل سمعت لحنهما الشجي وعزف الأوتار ونشيد الاحتفال؟ هل سمعتهما يترددان من الأبهاء العالية؟ - كانت الرياح كلها والأمواج راقدة في سكون عميق؛ فقد سمعت ترنيمة حزينة باكية، تنحدر لسمعي من القاعة ممزوجة بالدموع. - وهل أبصرت الملك وزوجه يمشيان هناك في الأعالي؟ وأحسست برفيف المعاطف الحمراء ولمحت أشعة التيجان الذهبية؟

ألم يكونا يشيعان عذراء فاتنة الجمال، رائعة كالشمس، متألقة بشعرها الذهبي؟ - نعم رأيت الأبوين معا، بغير أضواء التيجان، رأيتهما في ملابسهما السوداء، أما العذراء الشابة فلم تقع عليها عيناي.

3 (4) أحد ملوك الشمال

كان في قديم الزمان ملك يعيش في الشمال، ملك متكبر وثري وجبار، لم يخلفه أحد مثله، ولن يشبهه أحد سواه.

ولما حان أجله واقترب من الموت، وكان يجلس متأملا البحر الخاوي الكئيب، تسلل ورثته والتفوا حوله: الذئب، والبومة، والدب الكبير.

قال للدب ذي الشعر الكثيف: «سأترك لك الأيك والغابة، ولن يجرؤ صياد على إزعاجك، أثناء وجودك ومقامك فيها.»

ثم توجه للبومة وقال لها: «سأترك لك مدنا وحصونا لا تحصى ولا تعد، وعليك أن توزعيها بالعدل على أبنائك وبناتك.»

وقال كذلك للدب الكبير: «سأترك لك حقلا هادئا وفي غاية السكون، تتزاحم فيه جثث فوق جثث من القتلى الذين أرديتهم في عهدي.»

وبعد أن انتهى من هذا الكلام مدد أعضاءه على الأرض ليستريح، وانطلقت في الجو عاصفة أو إعصار غطاه بالبرد والصقيع.

4 (5) نساء فينسبرج

كان الملك كونراد، أول ملوك أسرة هو هنشتاوفين، يحاصر بجيشه الجرار مدينة فينسبرج منذ أيام طويلة. صحيح أن خصمه «فيلفي» كان قد انهزم، ولكن الحصن ظل يقاوم، كما أصر مواطنو المدينة على عدم التسليم.

لكن الجوع جاء، الجوع الذي يشبه الشوكة الحادة. حاول المواطنون أن يسترحموا الملك الجبار فلم يلقوا منه إلا الغضب العنيف: «لقد قتلتم عددا كبيرا من فرساني المقربين إلي، وحتى لو فتحتم أبوابكم وبواباتكم فسوف أعمل فيكم السيف.»

حضرت نساء المدينة إليه، وتشفعن لديه قائلات: «إذا كنتم مصممين على رأيكم، فاسمحوا لنا بأن ننسحب نحن ونخرج من المدينة، إن أيدينا طاهرة وبريئة من الدم.» عندئذ ترطب غضب البطل المستعر أمام أولئك النسوة المسكينات، بل شعر بأن قلبه يرف بالرحمة والإشفاق عليهن. «تستطيع النساء أن تنسحبن، ومن حق كل واحدة منهن أن تحمل معها ما تشاء، وأن تخرج ومعها أعز ما تملكه من متاع، دعوهن يرحلن، ولا يقف أحد في طريقهن، هذا هو رأي الملك، وتلك هي كلمته.»

ولم يكد الصبح يطل بوجهه الرمادي في الشرق البعيد، حتى رأى الجنود المقيمون في المعسكر مشهدا عجبا؛ فقد انفتحت البوابة العتيقة في هدوء شديد، وترنح موكب النساء خارجا منها بخطوات متأنية وثقيلة.

كانت تضطرهن الأحمال التي يضعنها على ظهورهن إلى إحناء رءوسهن؛ فقد كن يحملن أزواجهن، وهم عندهن أعز متاع. «أوقفوا هؤلاء النسوة الوقحات.» هكذا صاحت بعض الأصوات بالتهديد، وقال مستشار الملك بلهجة استنكار: «لا لم يكن هذا هو رأي الملك على الإطلاق.»

لما سمع السيد الصالح بما حدث أغرق في الضحك: «صحيح أن هذا لم يكن هو رأيي، ولكنهن قد أحسن التصرف. لقد قلت ما قلت، وكلمة الملك لا تتغير ولا تحيد، وليس من حق أي مستشار أن يلوي عنقها أو يسيء التفسير.»

هكذا كان ذهب التاج خالصا من الشوائب وطاهرا من الدنس. وما زالت أصداء الحكاية تتردد آتية إلينا من زمن شبه منسي. ففي عام ألف وأربعين للميلاد، كما وجدت ذلك بنفسي في بعض الأسفار، كانت كلمة الملوك لا تزال لها قدسيتها في وطننا الألماني.

5 (6) التتويج الحزين

عاش في قديم الزمان ملك واسمه «ميليسنت»، أريد الآن أن أحكي لكم حكايته؛ فقد اغتال ابن شقيقه؛ ليضع على رأسه تاج الملك. وتم الاحتفال بالتتويج، بالأبهة والفخامة في قصر «ليفاي». آه يا أيرلندا، يا أيرلندا، هل كنت عمياء إلى هذا الحد؟

كان الملك جالسا في منتصف الليل، في القاعة المرمرية الخالية. أخذ ينظر مذهولا لما حوله من تحف ونفائس، وكأنه قد سكر من كثرة الشراب على المأدبة الملكية، التفت إلى ولده قائلا: أحضر لي التاج لألبسه مرة أخرى، لكن تبين أولا من الذي فتح الأبواب.

هنالك بدأت لعبة الموتى النادرة، إذ دخل موكبهم بخطى خافتة هامسة، والموكب يضم عددا كبيرا من الضيوف الملثمين ووسطهم يهتز ويترنح تاج، وتتزاحم الأرواح وتتدافع داخلة من الباب، وهي تدمدم وتتهامس بغير كلام، أما الملك فيشحب وجهه، ويرتسم عليه الرعب والوجوم.

ومن وسط الزحام الأسود يتطلع طفل لم يزل جرحه ينزف الدماء، يبتسم كالمحتضر ويطرق رأسه، ثم يدور في القاعة الواسعة قبل أن يخطو نحو العرش بخطى وئيدة الإيقاع، ويمد يده إلى الملك بالتاج، إلى الملك الذي نفذ سهم الرعب في فؤاده.

عندئذ انسحب الموكب من ذلك المكان، بينما كان يرف حواليه نسيم الصباح. ظلت أنوار الشموع تخفق على نحو عجيب، وظل القمر يصغي وهو يضع خده على النافذة، انحنى الابن في صمت، وقد تملكه الرعب الشديد أمام أبيه الممدد على العرش ومال عليه، وسرعان ما اكتشف أنه مال على جثة هامدة.

6 (7) لعنة المغني

في قديم الزمان كان هناك قصر شامخ عال، تسطع أضواؤه فوق الأرض، حتى شواطئ البحر الأزرق، ومن حوله تزدهر باقة نضيرة من الحدائق العطرة ، تفور فيها ينابيع متدفقة تحت أنوار قوس قزح الساطعة.

هناك عاش ملك متغطرس، واسع الثراء في الممالك والانتصارات، يجلس على عرشه متجهم السحنة شاحب الوجه؛ لأنه لا يفكر إلا في الرعب، ولا يبصر غير الغضب والانتقام، كما أن كلامه سوط عذاب، وكتابته تسيل منها الدماء.

وذات يوم توجه نحو هذا القصر مغنيان نبيلان، تنسدل على ظهر أحدهما خصلات شعر ذهبية، ويكسو رأس الآخر البياض، كان العجوز يحمل قيثارته، ويجلس على صهوة جواد متألق بزينته، وكان يمشي إلى جواره رفيقه اليافع الشاب.

قال العجوز للشاب: «كن على أتم استعداد يا ولدي. تفكر في أغانينا الصادرة من الأعماق، وترنم بأعذب الأنغام. عبئ كل طاقاتك لتعبر عن الفرح والألم؛ فعلينا اليوم أن نحرك قلب الملك المتحجر.»

ها هما المغنيان يقفان في القاعة الفخمة العالية، وعلى العرش يجلس الملك مع قرينته، أما الملك فرائع روعة مخيفة كأنه ضوء دموي من الشمال، وأما الملكة فحلوة ورقيقة كأنها البدر في التمام.

لمس العجوز الأوتار، فانبعثت أعجب الألحان، وراحت تنثال على الأسماع بأعذب وأجمل الأنغام، ثم انساب صوت الشاب كأنه إشراقة السماء، بينما تدخل غناء العجوز كأنه جوقة من الأرواح خافتة الأداء.

أخذا يتغنيان بالحب والربيع والماضي السعيد، بالحرية والوفاء والطهر والعفاف وكرامة الإنسان، بكل ما هو حلو عذب يجيش في صدور البشر، وكل ما هو نبيل ورفيع يخفق به القلب والوجدان.

وجمت وجوه الحاشية، وكفت عن الدعابة والسخرية، والمحاربون الأشداء من جند الملك خشعوا لله، أما الملكة فذابت في لهيب الأسى، وفي نشوة البهجة، فانتزعت وردة من صدرها، وألقت بها إلى المغنيين. «لقد أغويتما رعيتي، فهل تتجرآن الآن على إغواء زوجتي؟» هكذا صرخ الملك من شدة الغضب، وراح جسده كله ينتفض، ثم أمسك سيفه وقذفه بقوة، فنفذ كالصاعقة في صدر الشاب، صدره الذي تفجر منه الدم وسال بدلا من الأغاني الذهبية.

وفجأة تبددت حشود المستمعين كأن عاصفة هبت عليهم، وأخذ الشاب يحتضر بين ذراعي معلمه، معلمه الذي لفه في المعطف، ووضعه على ظهر الحصان، وبعد أن أحكم ربطه غادر معه القصر وما فيه.

توقف المغني العجوز أمام البوابة العالية، وأمسك بقيثاره الذي يغار منه أي قيثار، ثم رفع يده وحطمه على عمود مرمري ، وأخذ ينادي ويصيح بصوت جلجل في القصر وفي الحدائق الغناء: «ويل لك أيتها القاعات المغرورة، أبدا لن يتردد في أبهائك وتر، لن يصدح فيك غناء. لا لا، بل أصوات الآهات والحسرات وخطوات عبيد، حتى تدوسك روح الانتقام وتحولك إلى عفن ورماد.

ويل لك أيتها الحدائق المعطرة في ضوء الربيع البديع، ها أنا ذا أريك الوجه المشوه لهذا الميت الحبيب، حتى تجف أوراقك وأشجارك، وينضب كل نبع فيك، وتتحجري في مستقبل الأيام، وتتحولي إلى صحراء يباب.

ويل لك أيها القاتل الملعون، أنت يا لعنة الغناء والمغنين، ليذهب أدراج الرياح كل كفاحك للحصول على أكاليل المجد الدموي، لينس اسمك، وليغص في أعماق الليل الأبدي، وليتبدد في الخلاء كحشرجة الاحتضار الأخير.»

نادى العجوز واستجابت السماء للنداء؛ فتداعت الجدران والأسوار، وخربت الأبهاء، وبقي عمود عال يشهد على الأبهة الزائلة، بل إن هذا العمود يمكن أن يتهاوى بين ليلة وضحاها.

هكذا استحالت الحدائق المعطرة الغناء برية موحشة، ما من شجرة تلقي ظلا، ولا من نبع تسيل مياهه في الرمال، اسم الملك لا يتردد في أغنية ولا نشيد، ولا تذكره أية سيرة من سير الأبطال، نسي الاسم وغاص في العدم، وتلك هي لعنة المغني والغناء.

7 (8) إبيكوس وأسراب الكركي

توجه إبيكوس، حبيب الآلهة، إلى مضيق كورنت، للمشاركة في مهرجان سباق العربات والأناشيد الذي يجمع شمل قبائل الإغريق في كل عام. كانت الآلهة قد منحته موهبة الغناء، وأنعم عليه «أبوللو» بفم الأغنيات العذب. وهكذا انطلق وفي يده عصاه الخفيفة وغادر بلده «ريجيوم»،

8

وهو مفعم الصدر بنعمة إله الفن والطرب والغناء.

بدأت تلوح لعيني المتجول الجواب معالم كورنثه الشامخة على ظهر الجبل العالي، وخطت قدماه في مرج «بوزيدون»،

9

الذي تتكاثف فيه أشجار الصنوبر والشربين. كان كل شيء هادئا وما من شيء يتحرك حوله، باستثناء أسراب قاتمة من طيور الكركي التي احتشدت في السماء، وراحت تصحبه في رحلته وهي ترفرف في طريقها إلى دفء الجنوب. - «مرحبا بك أيتها الأسراب الودودة التي نعمت بصحبتها، حتى بلغت شواطئ البحر. كم أتفاءل بك ، وأحس بأن قدري يشبه قدرك. فكلانا بدأ سفره من مكان بعيد، وراح يتوسل للآلهة أن تظله بسقف يحميه. فليتلطف بنا المضيف الذي نلبي دعوته، هذا المضيف الذي يرعى الغريب ويذود عنه الذل والعار.»

هكذا راح يغذ خطاه وهو منتش ومنتعش، حتى وجد نفسه في قلب الغابة، هنالك سد عليه الطريق فجأة مجرمان قاتلان. اضطره الموقف أن يتأهب للقتال، ولكن سرعان ما سقطت يده هامدة باردة، يده التي تدربت على أوتار القيثار، ولم يحدث لها أبدا أن شدت قوسا ولا أطلقت سهما.

أخذ يستغيث بالبشر وبالآلهة، لكن ضراعته لم تصل لأحد يمكن أن ينقذه، ومهما صرخ وصاح بأعلى صوت، فما من مخلوق حي يلمحه البصر في هذا المكان: «آه! قضي علي أن أموت هنا وحيدا مهجورا، هنا على أرض غريبة لا يبكيني فيها أحد. آه! كتب علي أن أهلك هنا بأيدي أشقياء أشرار، حيث لا يظهر شبح إنسان ينتقم لي.»

تهاوى ساقطا على الأرض متأثرا بجرحه الشديد، بينما كانت أجنحة أسراب الكركي ترف وترفرف من فوقه، واستطاع أن يسمع - بعد أن صار عاجزا عن الرؤية - الأصوات القريبة تتنادى وتتصايح في أذنيه: «أنت أيتها الكراكي الحبيبة، لترفعي أنت - حين يصمت كل صوت آخر - صوت الشكوى والتظلم من جريمة قتلي.» ولم يكد هذا الأنين يتسرب من بين شفتيه حتى انطفأ نور بصره، وأغمض عينيه.

تم العثور على جثته العارية، ومع أن وجهه تشوه من أثر الجروح التي أصابته، فقد استطاع مضيفه وصديقه الكورنثي، الذي دعاه للمشاركة في المهرجان، أن يتعرف على ملامحه العزيزة على قلبه: «كيف تحتم علي أن أراك على هذه الصورة؟ أنا الذي كنت آمل أن أضع إكليل الغار على رأسك بعد أن تنتهي من الغناء، ويتوهج وجهك هذا ببريق المجد الساطع.»

شعر كل الضيوف - الذين تجمعوا في الاحتفال بأعياد بوزيدون - بالأسى والغضب عند سماعهم بالنبأ الحزين، بل إن بلاد الإغريق بأكملها قد غمرها الألم الفظيع، وأحس كل قلب بأنه قد فقد عزيزا عليه. اندفعت حشود الشعب الغاضبة إلى بيت الحاكم مطالبة بالانتقام للقتيل والتكفير عن تلك الجريمة بسفك دماء القتلة المذنبين.

لكن كيف يمكن العثور على أثر واحد يدل على الآثم البغيض وسط زحام الجماهير المتدفقة التي جذبتها روعة الاحتفالات والألعاب؟ هل كان القاتل أو كان القتلة من اللصوص؟ أم فعل الفعلة الشنعاء عدو خفي يحسد أمير الغناء؟ لا أحد يمكنه أن يقول الحقيقة سوى هيليوس (إله الشمس) الذي ينشر ضياءه على كل ما هو أرضي.

من يدري إن كان الآثم ينقل الآن خطاه الوقحة وسط حشود الإغريق؟ من يدري إن كان يجني ثمار جريمته الشنعاء في الوقت الذي تلاحقه فيه آلهة الانتقام؟ بل لعله يقف على أعتاب معبد الآلهة متحديا لها، ويحشر نفسه بوقاحة وسط أمواج البشر التي تتدفق حشودها نحو المسرح.

ها هم المتفرجون يجلسون على المقاعد متلاصقين في الزحام الشديد، الذي توشك بسببه أن تنهار أعمدة الخشبة، وشعوب الإغريق لا تنفك تتوافد جموعها من بعيد ومن قريب، لتقف هناك منتظرة بداية العروض. وتفور حشودهم وتمور كأمواج البحر الجياش بالبشر، بحيث يمتد القوس المترامي بالمسرح وبالناس ليلتحم بالأفق الأزرق للسماء.

ولكن من ذا الذي يمكنه أن يحصي الجموع التي توافدت على المهرجان أو يذكر أسماءهم؟ لقد تدافعوا قادمين من مدينة ثيسيوس،

10

وشواطئ أوليس،

11

ومن فوكيس،

12

ومن إسبرطة، ومن الشواطئ الآسيوية البعيدة، ومن كل الجزر المتناثرة، حضروا للاستماع إلى الألحان المهيبة المخيفة التي ترددها الجوقة التي تقف، أو تتحرك على خشبة العرض المسرحي.

ويظهر أفراد الجوقة قادمين من الخلفية، وعلى وجوههم ترتسم أمارات الجدية والجلال والإحكام التي تقضي بها التقاليد العريقة، وبخطوات بطيئة ومتزنة يتجولون ذهابا وجيئة في ساحة العرض. لا، ليست مغنيات الجوقة من نسل البشر، ولم ينجبهن إنسان فان. أجل، إن أجسامهن شامخة القوام لتفوق مقاييس البشر الأرضية.

إن المعاطف السوداء لترف حول خصورهن، وأيديهن النحيلة المعروقة تؤرجح الوهج المحمر المعتم للمشاعل التي يحملنها، حتى لتبدو خدودهن وقد غابت عنها الدماء. وحيثما رفت خصلات شعورهن حول الجباه خيل للمتفرجين أنها حيات وأفاع منتفخة البطون، ومتخمة بالسم.

وهكذا تدور نساء الجوقة في دوائر محددة، وتنطلق أصواتهن المخيفة مرددة ألحان النشيد الذي يتغلغل في الأفئدة ويمزقها، ويلف حباله حول عنق المذنب الأثيم. ويرن نشيد الأيرينيات،

13

ويدوي من بعيد، فيذهل الألباب ويخلب الأفئدة، حتى ليكاد يصيب الأعصاب والأصلاب في الصميم، ويجعلها تنفر من الاستماع إلى رنين القيثار: «طوبى للأبرياء من كل ذنب وخطيئة. طوبى لمن يحافظ على طهارة الروح وطفولتها النقية، أولئك الذين لا يحق لنا أن نفكر في الانتقام منهم؛ لأنهم يسيرون في حياتهم على الطريق المستقيم، لكن ويل لمن تسلل كاللص، وارتكب جريمته الشنعاء. سوف نتعقب آثاره ونسلط عليه نسل الليل المخيف.

وإذا سولت له نفسه أن يفر ويهرب، فسوف تطارده حشودنا المجنحة، وتلقي عليه الحبال التي تلتف حول قدميه، ويسقط منهارا على الأرض. هكذا نلاحقه بلا كلل ولا نقبل منه الندم على فعلته، ثم نتعقبه حتى يغيب في مملكة الظلال، وهناك أيضا لا نرحمه، ولا نغفل عنه.»

هكذا رددت الجوقة النشيد، ثم أدت رقصتها، وخيم على المكان كله سكون أشبه بصمت الموت، وكأن روحا إلهية تقترب منه، وتجوب أنحاءه. وكما جرى العرف واقتضت التقاليد القديمة، أخذ أفراد الجوقة يذرعون خشبة المسرح بخطوات بطيئة محسوبة، وذلك قبل أن يختفي الجميع في الكواليس الخلفية.

وبين الوهم والحقيقة أخذت المخاوف والظنون توسوس في الصدور التي بدأت تنتفض وتبتهل للقوة المخيفة التي تحرس العدالة، وتصرف في الخفاء حكم القضاء، وتنسج عقدة الأقدار المظلمة بطريقة تستعصي على كل محاولة لفهمها وسبر غورها، وإن كانت تعلن عن سرها للقلوب العميقة، وتهرب دائما من نور الشمس.

وفجأة يسمع من أعلى درجات المسرح صوت يهتف وينادي: «انظر، انظر هناك يا تيموثيوس، انظر إلى كراكي إبيكوس.»

وفي لمح البصر تظلم السماء، وتتطلع الأنظار لأعلى المسرح، فترى أسرابا سوداء من طيور الكركي تمر فوق الرءوس في موكب كثيف. «إبيكوس، يا له من اسم غال يجدد الحزن والكمد في كل صدر، وكما تتدافع الأمواج موجة في إثر موجة في البحر، كذلك يسري الاسم بسرعة من فم إلى فم .

أليس هو إبيكوس الذي نبكيه؟ أليس هو الذي قضت عليه يد قاتل غادر؟ ما الذي أجرى الاسم على اللسان؟ ما معنى أن يذكر هذا الاسم الآن؟ وما هو السر وراء موكب الكراكي السوداء؟»

ولا تفتأ الأصوات ترتفع شيئا فشيئا بالسؤال، ويتطاير هذا التحذير كومض البرق أو الصاعقة من قلب إلى قلب. «انتبهوا، لقد تجلت قدرة الأويمينيدات

14

على الانتقام للشاعر الطيب المسكين، وها هو ذا القاتل يقدم نفسه بنفسه! أمسكوه، ألقوا القبض على الرجل الذي نادى بالاسم، وعلى الرجل الذي كان يوجه إليه النداء.»

حاول الرجل الذي أفلتت الكلمة من لسانه أن يبقيها حبيسة صدره، لكن عبثا حاول. فسرعان ما دل الفم الشاحب المفزوع على المجرم الآثم، وأظهره للعيان. شدوا الرجلين وجروهما أمام القاضي، وتحول المشهد كله إلى محكمة، واعترف الشريران بجريمتهما بعد أن أصابتهما سهام الانتقام.

15

الفصل الخامس

حكاية عن رجل شجاع

(1) العهد

1

إلى مقر الطاغية ديونيس تسلل دامون، وكان يخفي خنجرا في ثوبه. قبض عليه الحجاب وقيدوه في الأغلال، وقال له المستبد العابس المخيف: «ماذا كنت تريد بهذا الخنجر؟ تكلم.» - «أردت أن أحرر المدينة من الطاغية.» - «وسوف تندم على هذا عندما ترفع على الصليب.»

قال دامون: «أنا على استعداد للموت، ولا أتوسل إليك لتبقي على حياتي، ومع ذلك فإن شئت أن تتعطف وتتكرم علي فإني أستسمحك في مهلة لمدة ثلاثة أيام، حتى أزوج أختي لعريسها المنتظر، سوف أترك لك الصديق كضمان، ويمكنك أن تقتله إذا لم أوف بعهدي.»

ابتسم الملك ابتسامة ماكرة، وقال بعد أن فكر في الأمر قليلا: «سأمنحك من عندي ثلاثة أيام، لكن بشرط أن تعلم: إذا انقضت المهلة قبل أن تسلم نفسك فسوف ينتهي أجل صديقك بدلا منك، كما ستعفى أنت من العقاب.»

ثم التفت للصديق وقال: «أمر الملك أن أموت على الصليب، تكفيرا عن ذنبي وجريرتي، وقد قبل أن يمهلني ثلاثة أيام، حتى أنتهي من تزويج شقيقتي، فابق أنت هنا لدى الملك، وكن الضامن لعهدي، إلى أن أعود وأفك عنك الأغلال.»

احتضنه الصديق الوفي في صمت وسكون، ثم سلم نفسه للطاغية، وذهب الآخر لحال سبيله، وقبل أن يشرق فجر اليوم الثالث كان قد جمع شمل شقيقته مع زوجها، وأسرع راجعا إلى موطنه بقلب مهموم خشية أن تنقضي المهلة، ويتأخر عن الموعد المرسوم.

وتصادف أن انهمرت الأمطار بغزارة، واندفعت السيول من أعالي الجبال، وجاشت الجداول والأنهار بالموج الصخاب. لم يكد يبلغ الشاطئ، ويلقي عصا الترحال، حتى أطاحت الدوامة بالجسر وشدته للأعماق، وأخذت الأمواج التي تقصف كالرعد في هدم أعمدته وتحطيم أقواسه.

راح يذهب ويجيء على حافة الشاطئ، لم يجده أن يرسل البصر ويستطلع الآفاق، ولا أن يبعث بصوت ندائه في كل اتجاه، فلم يتحرك قارب واحد ليغادر الشط، وينقله إلى بلده الحبيب، ولم يحرك نوتي شراعه صوب المكان الذي يقف فيه، وتدافعت الأمطار، فحولت النهر الوحشي إلى بحر.

جلس على الشاطئ وراح يبكي ويبتهل لزيوس بيدين مرفوعتين للسماء: «أوقف يا إلهي غضب النهر، إن الساعات تمر والشمس الآن في الظهيرة، وإذا غابت قبل أن أصل إلى المدينة، فسوف يضيع مني الصديق بلا مراء.»

لكن النهر تزايد غضبه باستمرار، وتكسرت الأمواج على الأمواج، وانصرمت الساعات واحدة بعد الأخرى. عندئذ حفزه القلق المخيف فواتته الشجاعة وألقى بنفسه وسط الطوفان الهدار، وراح يشق النهر بذراعيه القويتين، بينما الإله يباركه ويرأف بحاله.

وأخيرا بلغ الشاطئ، وأسرع خطواته، وهو يشكر للإله الذي أنقذه. وفاجأه ظهور عصبة من قطاع الطرق انشقت عنها ظلمات الغابة المعتمة، سدوا عليه الطريق، وراحوا يشهقون، ويزفرون بأنفاس قاتلة، لم يكتفوا بإيقافه عن السير، بل أخذوا يهددونه بالهراوات.

هتف ووجهه شاحب من الرعب والذهول: «ماذا تريدون مني؟ أنا لا أملك غير حياتي، وحياتي سأسلمها حتما للملك.»

وفجأة انتزع الهراوة من أقربهم منه وهتف: «بحق السماء، أليس في قلوبكم رحمة.»

وبضربات عاجلة جندل ثلاثة من الأشقياء فلاذ الآخرون بالفرار.

والشمس ترسل حممها الحارقة، ويسقط على ركبتيه، وقد أضناه الجهد والعناء: «لقد أنقذتني من أيدي قطاع الطرق، وترفقت بي، وأعنتني على عبور النهر إلى بلدي المقدس، فهل قضيت علي بأن أهلك في هذا المكان، بينما الصديق، صديقي الحبيب، يموت هناك؟!»

أنصت وإذا به يسمع صوت خرير ناعم، يتدفق ويتألق بالقرب منه، وإذا بنبع يتفجر من قلب الصخر، ويتمتم ويثرثر، ويركع على ركبته وقد غلبته الفرحة، ويطفئ ظمأه وينعش أعضاءه الملتهبة.

وتطل الشمس من خلال الغصون والأوراق، وترسم ظلالا هائلة على الأشجار وخضرتها الناصعة. رأى اثنين يعبران الطريق من بعيد، وخطر له أن يهرب منهما بسرعة، وإذا به يسمع أحدهما يقول: «إنهم يضعونه الآن على الصليب.»

زود القلق قدميه المسرعتين بجناحين، وطاردته أشباح الهم والعذاب، وومضت من بعيد على ضوء أشعة الأصيل أسوار «سيراقوزة» وقمم أبراجها، وأقبل نحوه راعي بيته الأمين فيلوستراتوس بعد أن تعرف - وهو مفزوع - على سيده: «ارجع يا سيدي، لن تستطيع أن تنقذ الصديق، أسرع أنت بإنقاذ حياتك. إنه يعاني الموت الآن، وقد راح ينتظر ساعة بعد ساعة، يحدوه الأمل في عودتك في الميعاد، ولم تستطع سخرية الطاغية أن تسلب الإيمان الراسخ الشجاع.» - «حتى لو كان الوقت تأخر، ولم يعد في إمكاني أن أنقذه فعلى الموت أن يوحد بيننا، بحيث لا يزهو الطاغية الدموي بأن الصديق قد خان عهد صديقه، وبذلك يذبح ضحيتين لا ضحية واحدة، ويؤمن في المستقبل بوجود الحب والوفاء.»

وتميل الشمس للمغيب، ويقف على الباب الكبير، ويرى الصليب الذي رفعوه من بعيد، والجماهير المحتشدة حوله تبحلق فيه، ولم يكد الجلادون يرفعون الصديق بالحبال، حتى شق صفوف الجوقة الكثيفة المتزاحمة، وهتف بصوت عال: «اقتلني أنا أيها الجلاد، ها أنا ذا الذي ضمنه الصديق.»

وتستولي الدهشة على جماهير الشعب الحاشدة، ويتعانق الصديقان، ومن الألم والفرح يبكيان، هنالك لم تر عين خالية من الدموع، ويبلغ الملك بالخبر العجيب، فيرق قلبه لأول مرة، ويأمر بمثولهما أمام العرش.

ويطيل النظر إليهما، وهو في عجب شديد، ثم يقول: «لقد نجحتما أيما نجاح، واستطعتما التأثير على فؤادي، حتى اقتنعت بأن الوفاء ليس كلمة جوفاء. ضماني إذن إلى صفكما، واعتبراني نعم الرفيق، ولأكن، إذا تعطفتما علي، ثالث اثنين معكما على الطريق.»

2

الفصل السادس

صار الخبز يباع بسعر غال والدم واللحم بأرخص سعر

(1) وادي الآلام

تصفر ريح الليل خلال الفتحات، وفي غرفة بائسة على السطوح ترقد روحان مسكينتان يرتسم على وجهيهما النحول والشحوب.

تقول إحدى الروحين المسكينتين: «طوقني بذراعيك، اضغط شفتيك على شفتي بشدة، أبغي أن أستدفئ بك.»

وتقول الروح الأخرى المسكينة: «حين أرى عينيك، يذهب عني حزني، بؤسي، جوعي، كل تعاستي على الأرض.»

تبادلا قبلات كثيرة، وذرفا دموعا أكثر، تعانقت أيديهما وهما يتنهدان ويتأوهان، ضحكا أحيانا، بل انطلقا في الغناء، ثم أطبق عليهما الصمت في النهاية.

في الصباح جاء المفتش، ومعه جاء جراح بارع، عاين بنفسه الجثتين.

قال موضحا رأيه: «الطقس القاسي مع جوع المعدة، هما السبب في موتهما، أو هما - على أقل تقدير - اللذان عجلا به.»

أضاف قائلا: «عندما يسقط الجليد تحتم الضرورة على الإنسان أن يتدثر بالأغطية الصوفية، وذلك على سبيل الاحتياط.» ثم أوصى - وهو يختم كلامه - بالغذاء الصحي.

1 (2) الشحاذ وكلبه «كيف يفرض علي أن أدفع رسوم كلبي ثلاث تاليرات؟ فلتخسف بي السماء إلى سابع أرض، ماذا يدور في عقول هؤلاء السادة في أقسام الشرطة؟ أليس لهذا العذاب من آخر؟

إنني رجل عجوز ومريض، غير قادر على كسب قرش واحد، لا مال عندي ولا خبز، ولا أعيش إلا على الجوع والضنك.

لما مرضت ولما حل علي الفقر، من ذا الذي رأف بحالي؟ ومن الذي عادني أو سأل عني حين وجدت نفسي وحيدا في دنيا الله؟

من ذا الذي أحبني عندما أصابتني الهموم والآلام؟ ومن أدفأني حين ارتجفت من البرد؟ ومن الذي واساني فجاع معي عندما جعت ولم يتقزز أو يمتعض من حالي؟

لقد تدهور بنا الحال نحن الاثنين، ولا بد يا كلبي أن نفترق كل في طريق. أنت مثلي عجوز ومريض، وعلي الآن أن أغرقك في النهر، وهذا هو جزاء الإحسان.

نعم هذا هو جزاء الإحسان، وهو أجرك ومكافأتك. مصيرك يشبه مصائر بعض أبناء الأرض. اللعنة، لقد شاركت في أكثر من حرب، لكنني لم أقم أبدا بدور الجلاد.

هذا هو الحبل ، وهذا هو الحجر، وهذا هو الماء، لا بد مما ليس منه بد. تعال هنا، يا عديم الأصل، ولا تتطلع إلي، لم يبق إلا ركلة واحدة، وينتهي كل شيء.»

عندما لف الحبل على رقبة الكلب، راح هذا يلعق يده ويهز ذيله. تراجع على الفور ونزع الحبل من رقبته، ثم لفه بسرعة على عنقه.

أخذ يطلق اللعنات المرعبة المخيفة، ثم جمع طاقته وحشد آخر قواه، ورمى نفسه في التيار المتدفق الذي ارتفع سطحه، واهتز برنة ضعيفة، ثم التف حول نفسه في دائرة صغيرة قبل أن يغطيه بالصمت والسكون.

أخذ الكلب يقفز وينبح، ويستغيث بالمنقذين، ووصل صوت نباحه إلى البحارة، وأقلق راحتهم، وراح يعدو وراءهم، ويشدهم من أطراف ثيابهم وهو يبكي وينوح، ولما استطاع البحارة أخيرا أن يعثروا عليه، كان قد فارق الحياة.

في هدوء واروه التراب، وكان الكلب هو الوحيد الذي تبع جثمانه، وهو يطلق العويل والنواح. ولما رآهم يهيلون عليه التراب مدد جسده على الأرض، ودخل في غيبوبة الاحتضار.

2 (3) الساحرة الصغيرة

كان اسم الصغيرة هو «إلزا فات». تربت في بيت من بيوت اليتامى، حيث كانوا يعتبرونها معوقة ومنافقة. والسبب في ذلك أنها لم تكن تنطق بكلمة واحدة، وأنهم كانوا يرتابون في شأنها ارتيابا شديدا؛ إذ يأخذون عليها شبهة الضحك بصوت شديد الخفوت بعد أن تستيقظ مبكرا من نومها.

وبسبب تصرفاتها الغريبة سموها الساحرة الصغيرة. كانوا في كل مكان يعيبون سلوكها، ومع ذلك فلم يجسر أحد على ضربها؛ لأنها كانت قد ولدت عمياء. وقد اعتبروها طفلة وقحة؛ لأنها كانت تتضاحك بصوت خفيض كلما أخذوها إلى النوم في فراشها.

وذات يوم رقدت «إلزا» في سريرها الصغير شاحبة الوجه مرهقة، إلزا المريضة، الهادئة، العمياء، وراحت تحتضر. كانت تبتسم كأنها قادمة من عوالم أخرى، وعندما مسحت إحدى الموظفات في بيت اليتامى على رأسها برفق نطقت قائلة لها بصوت عال وبسعادة لا حد لها: شكرا لك.

3 (4) الطفل الواقف أمام الجنة

وصل الطفل الصغير إلى باب الجنة، وكان حارسها القديس بطرس واقفا أمامه. كان الطفل رقيقا غاية في الرقة واللطف. وكان من الواضح عليه أنه بلا ذراع ولا ساق. - «اسمح لي أيها الحارس العزيز بالدخول. فما أنا - علم الله - إلا خنزير صغير مسكين، ولدت هناك في هيروشيما، بعد مرور اثنتي عشرة سنة على وقوع الكارثة.» - «لن أسمح لك يا صغيري بالدخول. لا بد أن الجحيم كان قد اشتعل هناك. ومن ولد في الجحيم ضاعت عليه جنة النعيم.»

4

الفصل السابع

عرس في حقل القمح الملغوم

(1) أجراس إيرفورت

أجراس كنيسة إيرفورت، التي صبت من المدافع التي كان يطلقها الجنود الفرنسيون على الجنود الألمان.

هذه الأجراس كانت في حرب السبعين، هي المدافع التي استولى عليها الألمان، وتبرع بها القيصر لتكون أجراسا تتوج الكنيسة.

كانت تدق وكأن الحديد قد انصهرت فيه بقوة هزيمة العدو التقليدي القديم مع مجد ألمانيا وشرفها.

وعندما نشب الصراع من جديد في عام ألف وتسعمائة وأربعة عشر، تحولت الأجراس إلى مدافع، وذلك في الجانب الألماني.

هكذا تم صهرها وصبها في مواسير حارقة راعدة، تحول المصلون إلى جنود، والحرب ... الحرب انتهت بالهزيمة.

ومع ذلك استطاع الألمان أن يغنموا مدافع فرنسية، من حديدها صبت أجراس، راحت تدق من جديد في إيرفورت داعية الإله الألماني في تضرع أثناء الصلاة أن يقود بفضله الشعب الألماني في الحرب التي سيشنها للانتقام.

وجاء هتلر فأقسم على ذلك، ولكن بنغمة مختلفة؛ ففي عام ألف وتسعمائة وتسعة وثلاثين نادى بالتعبئة العامة للأجراس.

وتحولت أجراس إيرفورت من جديد إلى مدافع، وانطلقت الحشود الشقراء لمحاربة العالم كله.

لم ترجع الأجراس، ولم تدق مرة أخرى، وأصبح على إيرفورت أن ترتب بدونها دعاءها في الصلاة: «ترفق بنا يا إلهي!»

1 (2) عرس في حقل القمح

في ليلة شتوية باردة، وفي حقل من حقول القمح البور،

2

ضربت العروس موعدا لعريسها الذي مات في الحرب.

ولما كانت الساعة تدق دقات منتصف الليل، من القرية المجاورة، فقد وقف أمامها في سترة رمادية قاتمة، مستندا إلى بندقيته.

رأته على ضوء القمر الشاحب، بردائه المثقوب بالرصاص، كان وجهه فاقد الحياة ويداه شمعيتين.

وقفا صامتين في حقل القمح، وراحا ينظران إلى بعضهما؛ لأن أحدا منهما لم يستطع أن يعبر بالكلمات عن ألمه العميق.

وقفا ساعة كاملة، ولم يقولا كلمة واحدة؛ لأن الكلمات عندما تقترب من شفاههما تحتبس في الحلوق وتجف.

والقمر الذي يلقي بالظلال الطويلة، يسبح في مهب الريح الباردة، يجر معه ظليهما فيندمجان في ظل واحد.

ولما كان الظلان يتزاوجان، في ليلة العرس الناصعة، خيل لعروس الجندي الشابة، كأن حبيبها يضحك ضحكة صافية.

ثم رأت يد الميت التي تدلت نحو الأرض، ترتفع ببطء وتطوقها، كأنها خاتم حديدي.

وفجأة نطق الفم المتجمد، وقال لها: «تعالي نتمشى يا أحب الناس، طالما القمر يحمينا، وعيوننا ترى النجوم.»

سارا فوق حقل القمح، الذي جرفته الدبابات، الحقل الذي رواه الدم، وسمدته الأذرع والسيقان، ورطبته أنفاس الموت.

قال الميت: «انظري يا حبيبتي، هذا الحقل البور. آه، كم من الزمن مضى على هذا؟! قد زرعته يداي.

كنت واقفة هناك، حيث يهبط القمر الآن وراء السحب، هل ما زلت تذكرين؟ عندها أشرت إلي.»

تنصت العروس وتصمت وتشعر بالذراع التي تطوق جسدها باردة كالثلج، في ليلة عرسها، بينا هي الآن زوجته.

راحت تخطو بجواره مشدودة القوام، تحس بأن قلبها ثقيل ثقيل، وهو بجانبها يخبط الأرض بقدميه، متوكئا على سلاحه الصدئ.

لما رآها غارقة في الصمت، بدأ هو الكلام. قال لها: «هل تعلمين يا حبيبتي أنني زرعت الألغام في هذا الحقل الذي نمت فيه سنابل القمح؟

كانت هذه الألغام حبوبا غير عادية، دفنت في باطن الحفر، وأنا الذي زرعتها بيدي، حصدت ثمارها في اليوم التالي.

كنت راقدا في حفرة خلف الطريق، في مخبأ مأمون، فكرت في تلك اللحظة، ثم اكتشفت أن فكرتي جاءت بعد فوات الأوان.

جاءت دبابات تتبعها دبابات ودبابات، في أعداد لا تعد ولا تحصى، زحف بالقرب مني جبل مهول، من الغبار والصلب والحديد.

سحق كل ما لم يستطع أن يلوذ بالفرار، ودفنه في الأرض الرخوة، شعرت برئتي تنتزع من صدري، وترتفع في اتجاه القمر.

كانت الحرب بالنسبة إلي قد انتهت، وكذلك انتهى السلام وضاع. هل يسعدك يا حبيبتي الغالية أنني حضرت اليوم إليك؟

أنا الآن بطل، بطل يا صغيرتي، بطل كما أردت وتمنيت. أنت التي أشرت علي أن أتطوع في الحرب قبل الأوان.

الفوهرر

3

قال: نريد مجالا للحياة.

والأب قال: نريد أراضي زراعية. وأنت يا حبيبتي، أنت قلت لي: ارجع وعلى صدرك الوسام.

هل ترين اللغم الكائن هناك؟ أنا الذي دفنته في الأرض بنفسي، تعالي يا أعز الناس، دعينا نستريح إلى الأبد.»

4 (3) سكاجيراك

5

تذكروا الحمالين من سكاجيراك، لقد اختنقوا في الدم، اختنقوا في الوحل، غرقوا مع سفينتهم العتيقة. والبحر ... البحر جرفهم بعيدا. لأجل أي شيء؟

عشرة آلاف ماتوا، سقطوا في أعماق البحر، عشرة آلاف فتحوا أفواههم الشاحبة: «لأجل أي شيء قد سقطنا ميتين؟ في سبيل أي شيء؟ لأجل شيء ليس بالكثير، لأجل شيء ليس بالكثير! فالسادة راحوا يمارسون لعبتهم، في قاعات البورصة الشاسعة. لأجل هذا قد سقطنا ميتين.»

العاصفة تنوح وتعول في سكاجيراك، تجلد أمواج البحر فتفور عالية. والحمالون، الحمالون في قبورهم المبتلة، يريدون أن يبعثوا إلينا برسالة؛ إنهم يطالبون بصليب، إنهم يحذروننا جميعا، ويطالبوننا بأن نكون حذرين، هؤلاء الحمالون.

البحر تزبد أمواجه على شواطئ سكاجيراك، والحمال يزحف من غمار القذر والغائط، ينزل من سفينته العتيقة المثقوبة، ويعرض علينا محنة ولده. في سكاجيراك، في سكاجيراك، يزحف الحمالون.

الحمالون يزحفون، ومن سكاجيراك، من سكاجيراك، تزحف العاصفة: «لا تبنوا سفنا حربية. لا، لا، ازرعوا، ازرعوا قمحا لتحصدوا الخبز. اسحقوا الحرب ومن ثم الحاجة والضنك. تذكروا الحمالين من سكاجيراك، لقد اختنقوا في الدم، وغرقوا في الوحل، لو خطر لكم مرة أخرى أن تبنوا سفينة حربية، فسوف تصيبكم ما أصابهم. تذكروا الحمالين من سكاجيراك، لقد اختنقوا في الدم، وغرقوا في الوحل، غرقوا مع سفينتهم العتيقة المثقوبة، والبحر ... البحر جرفهم بعيدا بعيدا.»

6 (4) مأساة في أفغانستان

الثلج المغبر يتساقط من السماء، وأحد الفرسان يقف على أبواب «جلال أباد» - «من هناك؟» - «فارس بريطاني، يحمل معه رسالة من أفغانستان.» «أفغانستان!» قلها بصوت خافت شديد الإرهاق. تزاحم نصف أهالي المدينة حول الفارس ، وتقدم حاكمها السير روبرت سيل فمد له يده، وأنزله من على الحصان.

قادوه إلى بيت الحراسة الحجري، أجلسوه أمام الموقد. كم تدفئه النار! كم ينعشه الضوء! وها هو يتنفس الصعداء ويشكرهم، ثم يقول: «كنا ثلاثة عشر ألف رجل، وبدأنا الزحف من كابول؛ جنود، وقواد، ونساء وأطفال، نحن جميعا رحنا ضحية الهزيمة والخيانة.

تبدد جيشنا كله، ومن بقي حيا يجوب الآن أرجاء الليل في ضياع وضلال. إذا كان الله قد من علي بنعمة الإنقاذ، فانظروا أنتم إن كان بوسعكم إنقاذ البقية الباقية.»

صعد السير روبرت سيل على سور الحصن، تبعه الضباط والجنود أجمعون. قال السير روبرت: «الثلج يتساقط بكثافة، الذين يبحثون عنا لا يمكنهم أن يعثروا علينا، فهم ضالون كالعميان، وإن كانوا قريبين منا، أسمعوهم إذن ليشعروا أننا موجودون، غنوا أغنية في حب الوطن والبيت. وأنتم أيها النافخون في الأبواق، اجعلوها تتردد في آفاق الليل البهيم.»

عندئذ بدءوا النفخ في الأبواق دون كلل أو إرهاق. ترددت في الليل أصوات الأغاني واحدة بعد الأخرى. عزفوا في البداية أغاني إنجليزية ذات ألحان بهيجة، ثم أتبعوها بأغاني المرتفعات التي تشبه الأنين.

طفقوا يعزفون ويغنون طوال الليل وطوال النهار، وترددت أصوات النداء العالية مشحونة بالحب والحنان. ظلوا ينفخون في الأبواق وينشدون، حتى هبطت الليلة التالية. عبثا تنادون أيها المغنون وعبثا تسهرون.

الذين كان عليهم أن يسمعوا عجزوا عن السماع، الجيش بأسره تبدد وقضي عليه. كان الزحف قد بدأ. ثلاثة عشر ألف رجل، لم يرجع منهم إلى بيته سوى رجل واحد من أفغانستان.

7 (5) حكاية الجندي الميت

1

ولما دخلت الحرب في ربيعها الرابع، ولم تبشر بالسلام، اتخذ الجندي موقفه القاطع، ومات ميتة الأبطال.

2

لكن الحرب لم تكن قد انتهت؛ لهذا شعر القيصر بالحزن؛ لأن جنديه قد مات؛ إذ بدا له ذلك قبل الأوان.

3

الصيف زحف فوق القبور، والجندي راح في نومه، وذات ليلة أقبلت بعثة عسكرية طبية.

4

مضت البعثة الطبية إلى حقل الله البعيد، وبالمعول المبارك نبشت جثمان الجندي الصريع.

5

الطبيب فحص الجندي بدقة، أو على الأصح ما بقي منه، والطبيب وجد أن الجندي لائق للخدمة، وخاف على نفسه من المسئولية.

6

وعلى الفور أخذوا الجندي معهم، وكان الليل أزرق جميلا، ومن لم يضع الخوذة على رأسه استطاع أن يرى نجوم الوطن.

7

دلقوا جرعة نارية من الكونياك في جسده العفن، وعلقوا ممرضتين في ذراعيه وامرأة نصف عارية.

8

ولأن الروائح العفنة تنبعث من الجندي؛ فقد سار في المقدمة قسيس، يهز فوقه مبخرة؛ لكيلا تنتشر رائحته الكريهة.

9

في المقدمة ترن الموسيقى تشندرارا، تعزف مارشا مرحا ولطيفا، والجندي - كما تعلم أثناء حياته - يقذف ركبتيه بعيدا عن مؤخرته.

10

وحوله يلف ذراعيهما ممرضان صحيان، حتى لا يسقط منهما في الوحل، وهو شيء لا يصح أن يكون.

11

لونوا كفنه بالأسود والأبيض والأحمر، وأخذوا يلوحون به أمامه، ولم تعد العين من زحمة الألوان تستطيع أن ترى الغائط المتساقط منه.

12

وسار في المقدمة مشدود الصدر، رجل في سترة رسمية سوداء، كان كرجل ألماني، يدرك واجبه تمام الإدراك.

13

هكذا أخذوا على أنغام التشندرارا يهبطون الطريق المعتم، والجندي يترنح معهم، كنتفة الثلج في العاصفة.

14

القطط والكلاب تصرخ، وفي الحقل تصفر الجرذان، حتى لا يظن أنهم فرنسيون؛ لأن هذا عار عليهم.

15

وعندما مروا بالقرى، كانت النساء كلهن هناك، الأشجار تحني رءوسها، والبدر طالع والكل يصيح: «هورا!»

16

بالتشندرارا وإلى اللقاء، والنساء والكلاب والقسيس، والجندي الميت في الوسط، كأنه قرد يتطوح سكران.

17

وعندما مروا بالقرى، لم يستطع أحد أن يراه. كثيرون كانوا ملتفين حوله، وهم يصيحون «تشندرارا» و«هورا».

18

كثيرون رقصوا وهللوا له، فما استطاع أحد أن يراه. كان من الممكن أن يرى من أعلى، ولم يكن فوقه إلا النجوم.

19

والنجوم لا تلبث أن تغيب، ويأتي الغسق بحمرة الفجر، لكن الجندي كما دربوه، يتقدم ليموت ميتة الأبطال.

8

الفصل الثامن

لما حمل الليل العاصفة على حجره

(1) حكاية عن الغنى والحاجة

في قديم الزمان كان هناك أخ وأخته، وكان اسمهما الغنى والحاجة. كان يتلذذ بآلاف المتع، وكانت لا تكاد تجد الخبز الجاف.

عاشت الأخت تخدم الأخ على مدى مئات السنوات، لم يكن يؤثر فيه بكاؤها، ولا تعبيرها في بعض الأحيان عن ألمها بالغناء.

كان يلعنها ويدوسها بقدميه، وكان يضربها على وجهها الناعم الرقيق، وكانت تركع على الأرض ضارعة: «إلهي، كن في عوني.»

كيف ستنتهي الأغنية؟ إنها لأغنية حزينة، وأنا لا أريد أن أواصل الاستماع إليها، ما لم يحدث للأخت شيء ما.

هذه هي نهاية الأغنية، عن الغنى والحاجة؛ ففي صباح مشرق جميل، ضربت الأخت أخاها ضربة مميتة.

1 (2) شارل الأول

في الغابة، في كوخ الفحامين، يجلس ملك محزون ووحيد، يجلس أمام المهد الذي يرقد فيه ابن الفحام، يهدهده بصوت رتيب: «أيبابوبيا، ماذا يخشخش في القش؟ إنها الأغنام تثغو وتئن في الحظيرة، أنت تحمل العلامة على جبينك، وتبتسم في نومك ابتسامة مخيفة.

أيبابوبيا، القطة الصغيرة ماتت. أنت تحمل العلامة على جبينك. ستصبح رجلا وتهز البلطة في يدك، وها هي ذي أشجار الصنوبر ترتجف في الغابة.

تلاشت عقيدة الفحامين القديمة، ولم يعد أبناؤهم يؤمنون، أيبابوبيا، لا بالإله في السماء، ولا بالملك على الأرض.

القطة الصغيرة ماتت، والفيران الصغيرة فرحة وسعيدة، صدر الحكم وقضي علينا، أيبابوبيا، على الإله في السماء، وعلي أنا الملك على الأرض.

شجاعتي تنطفئ، قلبي مريض، ومرضه يزداد كل يوم، أيبابوبيا. أنت يا طفل الفحام - وأنا أعلم هذا - أنت جلادي.

مرثية موتي هي أغنية مهدك، أيبابوبيا، سوف تحلق جدائل شعري الأشيب قبلها، وفي عنقي سيصلصل الحديد.

أيبابوبيا، ما الذي يخشخش في القش، لقد استوليت على المملكة، وستضرب عنقي حتى يسقط رأسي عن جذعي، القطة الصغيرة ماتت.

أيبابوبيا، ما الذي يخشخش في القش؟ الأغنام تثغو وتئن في الحظيرة. القطة الصغيرة ماتت، والفيران الصغيرة فرحة وسعيدة. نم، يا جلادي الصغير، نم.»

2 (3) النساجون

ما من دمعة واحدة في العيون العابسة. إنهم جالسون أمام النول مكشرين عن أسنانهم. «ألمانيا، نحن ننسج كفنك، ننسج فيه اللعنة المثلثة. نحن ننسج، ننسج.

لعنة على الصنم الذي تضرعنا له، في برد الشتاء وشدة الجوع، عبثا علقنا الأمل عليه وانتظرنا صابرين، فاستهزأ بنا وسخر منا وعاملنا معاملة الحمقى. نحن ننسج، ننسج.

لعنة على الملك، ملك الأغنياء، الذي لم يستطع بؤسنا أن يرقق قلبه، والذي استنزف منا آخر قرش نملكه، وأمر بإطلاق الرصاص علينا كالكلاب. نحن ننسج، ننسج.

لعنة على الوطن الزائف، الوطن الذي لا ينمو فيه غير الخزي والعار، وتقطف فيه كل الزهور قبل الأوان، وتنتعش الديدان على العفن والفساد. نحن ننسج، ننسج.

المكوك يرف ويطير، النول يدوم ويدوي، نحن ننسج بنشاط ليل نهار. يا ألمانيا العجوز، نحن ننسج كفنك، ننسج فيه اللعنة المثلثة، نحن ننسج، ننسج.»

3 (4) أغنية للحصاد

هنالك ينمو حقل القمح الذهبي، يمتد ليصل إلى حافة العالم. اطحني، يا طاحونة، اطحني.

تعصف الريح في الأرض البراح، ترتفع الطواحين إلى حافة السماء. اطحني، يا طاحونة، اطحني.

يهبط الشفق المحمر المعتم في المساء، يصرخ فقراء كثيرون يريدون الخبز. اطحني، يا طاحونة، اطحني.

تكنس العاصفة الحقول، لن يصرخ إنسان بعد من الجوع. اطحني، يا طاحونة، اطحني.

4

الفصل التاسع

صار العبد الخاضع سيد نفسه

(1) حكاية شجرة المانجو

شجرة المانجو عمرها آلاف السنين، آلاف القرود نامت على فروعها، آلاف الطيور بنت فيها أعشاشها. شجرة عمرها من عمر الدولة العظمى.

شجرة المانجو تقف في مكانها منذ آلاف السنين، آلاف البشر استراحوا في ظلها، وفلاحون من حقول الأرز، ومسافرون مع القوافل، وجنود، أكثر من مائة جيل تمد عليهم شجرة المانجو ظلالها.

لكن ذات يوم هبت عاصفة على شجرة المانجو. سقط أحد غصونها على الأرض وصار حربة، ووقع أحدها في النار وتحول إلى مشعل ملتهب، وانكسر غصن ثالث فصار مقبض بندقية.

مائة بندقية، ألف بندقية، عشرة آلاف بندقية، من شجرة المانجو العتيقة العجوز.

1 (2) أم ألمانية

جاءوا في يوم الجمعة، وأخذوا الشاب معهم. أمسك يدها بسرعة وقال لها: «لا تبكي.» لم تبك. شحب وجهها شحوبا شديدا من الرعب، شحوبا شديدا من الرعب. لم يكن لها سواه.

وقفت أمام النافذة حتى منتصف الليل، ثم جرت إلى قسم الشرطة. - «في السابعة أخذوه من البيت.» - «هانز فيشر؟ شارع يعقوب رقم ستة؟ غير موجود هنا.»

أسرعت إلى رئاسة الشرطة. - «هانز فيشر؟ لا لم يسجل اسمه هنا.» - «لم يسجل؟!» طالت وقفتها الخرساء. الوجه الشاحب البياض من الرعب. «وأين أسأل عنه؟»

ضحكوا عليها. «هذه حكاية عجيبة. ربما في تمبلهوف، في بيت كولومبيا.»

مضت إلى هناك، قالت للحارس الواقف على الباب: «هانز فيشر، يا سيدي العزيز، هل أفرج عنه؟» - «لا أعلم، هنا كثيرون مثله.»

أمسكت يده: «إنه ابني.» - «اسألي إذن في قسم الشرطة.» وقفت شاحبة الوجه من الرعب. «سألت هناك بالفعل.»

قال الحارس: «امشي من فضلك.» رجعت إلى قسم الشرطة، كان الصبح قد أشرق. «آه، عمن تبحثين؟ هانز فيشر، شارع يعقوب، إنه هنا.»

جرت الدموع على وجهها: «هل أستطيع أن أكلمه؟ ألن يفرج عنه قريبا؟» قال الرجل الجالس أمام المائدة: «للأسف، لقد مات. كما أن منظره مؤلم.»

بقي فمها مفتوحا. مع ذلك لم تخرج منه كلمة واحدة. ساقوها في حرص لتطل من الباب. في الصبح البارد وقفت ذابلة متيبسة، ثم سقطت كقطعة من الورق.

أمام ألوف الأبواب تموت ألوف الأمهات، لكن ريحا وحشية ستهب ذات يوم، تذرو معها الرماد البارد لحزنهن، وسوف تتلون خدود الأمهات الشاحبة، وتنهض آلاف الأمهات على أقدامهن، يحملن في أيديهن أعلام الأبناء الأموات.

2 (3) أغنية الفلاحين

الأرض كانت عبئا علينا، والعمل كان بغيضا مكروها. لأجل أي شيء؟ لماذا؟ ما الداعي؟ في سبيل من؟ في سبيل رفاهية سادة أغراب.

أعطينا آخر ما لدينا، حتى في القبر تثقل الأرض علينا. لأجل أي شيء؟ لماذا؟ في سبيل من؟ ما الداعي؟

ثم هرب السادة في أثناء الليل، وبقي بيت السادة مهجورا. لأجل أي شيء؟ في سبيل من؟ ما الداعي؟ لماذا؟

وزعت الأرض توزيعا عادلا، صار كل عبد سيد نفسه. في سبيل من؟ ما الداعي؟ لماذا؟ لأجل أي شيء؟ ونحن مساء نقف أمام الأبواب.

الريح تسري عبر حقولنا، والأرض أصبحت محببة إلينا. لماذا؟ في سبيل من؟ لأجل أي شيء؟ وما الداعي؟ نحن نقول الآن للأرض: «أنت أيتها الحبيبة.

أنت يا من لا تتركين لنا أبدا فرصة للراحة. هيا نحتفل في عيد الحصاد. لماذا؟ لأجل أي شيء؟ ما الداعي؟ لأجل من؟

لأجل أن ينهض شعبنا، لبعثه الجديد. لأجل رخائنا ورفاهيتنا جميعا.»

3

نبذة عن كل شاعر

(حسب ورود أسمائهم في النصوص)

1 (1) جوته (يوهان فولفجانج: 1749-1832م)

شاعر الألمان الأكبر، صاحب «آلام فيرتر» و«فاوست» و«الديوان الشرقي للشاعر الغربي» وغيرها من الأعمال الأدبية التي تعكس ألوان طيفها كل الأنواع والأشكال الأدبية، وذلك بجانب أعماله النقدية والفكرية والعلمية عن الفن ونظرية الألوان والبصريات والنبات والتشريح والمعادن بحثا عن القوانين التي تتحكم في التطور العضوي الحي. يرجع لقاؤه الأول مع الموروث الشعبي والأغنية الشعبية إلى سنة 1771م، عندما سجل مجموعة من القصائد القصصية (البالادات) من منطقة الإلزاس، وذلك بتشجيع وتوجيه من الأديب وفيلسوف التاريخ هيردر (1744-1803م)، كما يعد عام 1797م هو عام «البالاد»، الذي وصل فيه إنتاجه وإنتاج شيللر إلى ذروتهما الرفيعة، وتجلى فيه فضل صداقتهما على التعاون الوثيق بينهما. (2) برنتانو (كليمنس: 1778-1842م)

أثرت علاقته بجماعة الرومانتيكيين المبكرين في يينا (أثناء دراسته للطب في جامعتها من 1798 إلى 1800م)، وصداقته مع آخيم فون أرنيم (1781-1831م) الذي تعرف عليه خلال دراسته للفلسفة سنة 1801م في جوتنجن؛ على تطوره الأدبي تأثيرا حاسما، وساعد تعرفه على عدد من الأدباء والعلماء الرومانتيكيين من سنة 1804 إلى سنة 1808م في مدينة هيدلبرج (مثل جوريس وكرويتسر)، مع تعاونه الوثيق في المدينة والفترة نفسها مع صديقه فون أرنيم؛ على بلورة اتجاهه الرومانسي والاشتراك معه في جمع وصياغة عدد كبير من القصائد القصصية والأغنيات الشعبية الألمانية القديمة التي نشرها تحت عنوان: «بوق الصبي العجيب» (1806م)، وكان لها أثر كبير على انتشار «النغمة الشعبية» التي تميز بها الإنتاج الشعري في القرن التاسع عشر. ولبرنتانو أعمال روائية ومسرحية عديدة لم يكملها، بجانب أعمال شعرية أخرى في «الرومانسة»، والحكايات الشعبية التي لم يتمها أيضا، وتكشف جميعها عن الصنعة الفنية والموسيقية واللغوية المحكمة، والحس الغالب بالدعابة والسخرية، والاهتمام الشديد بالاغتراف من ينابيع الموروث الشعبي القديم في الشعر والأساطير والحكايات. وتشهد «بالاداته» - مثل «لورا لاي» التي تجدها في هذه المجموعة - على قدراته التعبيرية والعاطفية الفائقة. (3) هيبيل (فريدريش: 1813-1863م)

نشأ في ظروف بائسة، وتولى تعليم نفسه بنفسه بعد عجزه عن إتمام تعليمه العالي. استقر سنة 1945م - بعد أكثر من إقامة في هامبورج وهيدلبرج وميونيخ وروما - في مدينة فيينا وعاش في علاقة مع مسرح «البرج» العريق الذي تزوج - أيضا (سنة 1846م) - إحدى ممثلاته. وهيبيل هو أعظم كاتب وشاعر مسرحي ألماني في القرن التاسع عشر، ويتناول مسرحه «التراجيدي» مشكلات الصراع بين الأنا والعالم، وبين الأجيال والعصور والحضارات. ومن أهم مسرحياته: «ماريا مجدالينا» و«هيروديس» و«ماريا منه» و«أجنيس بيرناور» و«أجينيس وخاتمه» و«النيبولنجن»، وتجمع مسرحياته وأشعاره بين العاطفة العميقة المؤثرة والتأمل الفكري الدقيق، وبين التعبير الشخصي والتحليق في الأجواء الرمزية، وبين المثالية والواقعية النفسية والجبرية. وقد تأثرت «بالاداته» و«رومانساته» التي نظمها في بداية حياته بالشاعر أولاند الذي اعتبره نموذجه ومثله الأعلى. (4) شيللر (فريدريش: 1759-1805م)

شاعر مسرحي كبير، ومؤرخ، وقاص، وصاحب رسائل فلسفية وجمالية مهمة (تأثر فيها بفلسفة كانط)، ومفكر مثالي انتصر بإرادته الحرة على ظروفه المادية والصحية البائسة.

ويعتبر عام 1797م بالنسبة إليه - كما هو الحال مع صديقه جوته - هو عام «البالاد» أو القصيدة القصصية التي نشر معظم روائعه فيها حول هذا التاريخ، وفي المجلة التي أسسها وهي مجلة «ربات الفنون». وشعره في هذه القصائد يغلب عليه - كسائر أشعاره - الطابع الفكري المثالي الذي يصل أحيانا إلى حد التحمس الخطابي، ف «القفاز» دفاع عن فكرة الشرف أو الكبرياء التي تنتصر على عاطفة الحب، و«إبيكوس وأسراب الكركي» تصور من خلال الأمثولة الأخلاقية والتعليمية كيف يتم القصاص العادل من المجرمين القاتلين للمغني والشاعر إبيكوس، من خلال العرض الجمالي على خشبة المسرح لجوقة الممثلات اللائي يمثلن ربات الانتقام، وينطقن باسمهن. وغني عن الذكر أن «بالادات» شيللر تحتفظ مشاهدها وشخصياتها بالطابع المسرحي الذي يشغل مكان القلب من إنتاجه الأدبي، ويعبر عن صميم روحه الفنية والإنسانية الشامخة . (5) شاميسو (أدالبير فون: 1781-1838م)

ينحدر أصله من عائلة فرنسية نبيلة هربت سنة 1792م من فظائع الثورة الفرنسية، واستقرت سنة 1796م في برلين. عرف برحلته حول العالم ودراساته العلمية في النبات والحيوان التي أوصلته في سنة 1835م إلى عضوية الأكاديمية العلمية، ولكنه اشتهر بقصته الخيالية البديعة التي تعبر عن حيرته بين وطنين - وهي الحكاية العجيبة لبيتر شليميل (1814م)، وتصور رجلا مسكينا يتنازل عن ظله للشيطان، ويحاول عبثا أن يعيش بلا ظل - واشتهر بأشعاره التي يتجلى فيها تحرره التدريجي من صور التعبير والتفكير الرومانسية واتجاهه إلى النقد الاجتماعي والواقعي، وتصوير حياة الناس العاديين مع الميل في بعض القصائد القصصية إلى الحكايات والأساطير الشمالية ذات الطابع المأساوي الفاجع (راجع بالاداته الواردة في هذه المجموعة مثل: «الحلاق المناسب»، و«الشحاذ وكلبه»، وكذلك «لعبة العمالقة» و«ملك من الشمال»)، ومما يذكر أنه كتب في بداية حياته بالفرنسية، ثم اتجه بعد العشرين من عمره إلى الكتابة بالألمانية، وأن قصائده القصصية تأثرت بالشاعر الفرنسي بيرانجيه، الذي قام بترجمتها إلى الألمانية. (6) أولاند (لودفيج: 1787-1862م)

من أهم ممثلي الرومانتيكية المتأخرة في منطقة «شفابين»، وتذكر له مشاركته الفعالة في السياسة وفي الكفاح من أجل قيم الديمقراطية والليبرالية والحرية. تخلى في أواخر حياته عن معظم مناصبه الإدارية والسياسية والتعليمية، وتفرغ للأدب وللبحث العلمي في الأدب الشعبي والحكايات والأساطير الجرمانية الوسيطة، وشارك في تجميع وتحرير أول مجموعة علمية من الأغاني الشعبية، وذلك بجانب بحوثه في الأدب الألماني وإحياء تراث أكبر شاعر ألماني في العصر الوسيط، وهو فالتر فون دير فوجيلفيده، والتعاون مع الأخوين جريم - المشهورين بمجموعة الحكايات الشعبية للأطفال وبتأسيس المعجم الشامل للغة الألمانية - في وضع أسس علم الأدب الشعبي. عرف بقصائده الرومانسية، العاطفية والوطنية، وبقصائده القصصية التي استمد مادتها من التاريخ والأساطير والحكايات الشعبية الجرمانية والشمالية، وتميز بلغته البسيطة وتعبيره العاطفي، وقدرته على التشكيل المرن لقصائده التي قام بتلحينها عدد كبير من كبار الموسيقيين مثل: شوبرت وشومان وليست وبرامز. (راجع بالاداته في هذه المجموعة مثل: «ابنة صاحبة الفندق»، و«لعنة المغني »، و«قصر على البحر».) (7) هيني (هينريش: 1797-1856م)

نشأ في عائلة يهودية من التجار ورجال البنوك والأعمال. درس الحقوق والأدب في جامعات بون وجوتنجن (التي طرد منها بسبب تورطه في مبارزة)، وبرلين (حيث استمع إلى محاضرات هيجل، وزار جوته في شهر مايو سنة 1825م زيارة آلمته بسبب تجاهل «إمبراطور الشعراء» وتعاليه )، وفي العام نفسه تخلى عن اليهودية ودخل المسيحية البروتستنتية، وحصل على الدكتوراه في القانون من جامعة جوتنجن. تعددت رحلاته وأسفاره بين لندن وإيطاليا وبعض المدن الألمانية إلى أن استقر منذ سنة 1831م نهائيا في باريس؛ حيث عمل مراسلا لجريدة ألمانية تصدر في أوجسبورج، ولبعض الصحف الفرنسية، واتصل بكبار الشعراء والأدباء الفرنسيين - مثل هيجو وديما وبلزاك وجورج صاند - كما انضم إلى جماعة السان سيمونيين. صودرت كتاباته وأعماله في ألمانيا - بسبب جرأته وسخريته الجارحة - بقرار من البرلمان الألماني في سنة 1835م. بدأ يعاني منذ سنة 1837م من مرض في عينيه، ومنذ سنة 1848م من شلل في العمود الفقري ألزمه الفراش بقية حياته إلى أن ووري التراب في مقبرة مونمارتر بباريس.

من أهم وأعذب الشعراء الألمان في مرحلة الانتقال من الرومانتيكية إلى الواقعية، وقد انطبع إنتاجه بطابع التمزق بين المرحلتين، وبالاكتئاب مع الدعابة والسخرية والتهكم المر من واقع اختفت منه القيم المثالية والإنسانية السابقة، واقتضى منه الارتفاع فوقه، والتخلص من كل الأوهام التراثية والعاطفية. ظهر تفوقه في قصائده في «كتاب الحب»، وفي السوناتات والأغاني ذات الطابع الرومانسي والشعبي التي أكسبته شهرة واسعة، والقصائد السياسية والنقدية الاجتماعية التي ارتفعت فيها نبرة السخرية العدائية الحادة، وتأثر فيها بالحركة الثورية المتمردة التي أطلقت على نفسها اسم «ألمانيا الشابة» (لا سيما في ملحمته الشعرية: ألمانيا، أسطورة شتاء)، ولكن شعره الغني بالصور الفنية والألم الكوني والعذوبة والدعابة يتجلى في أروع أشكاله وأنغامه في قصائده القصصية (أو بالاداته) التي أثرت - مع مجمل إنتاجه الشعري والنثري المتنوع - تأثيرا واسعا على شعراء العصر الحاضر، لا سيما الشعراء من ذوي الاتجاه النقدي الساخر والمحتج (راجع في هذه المجموعة بعض قصائده القصصية العامة مثل: «بنو عذرة»، و«أنثى»، و«وادي الآلام»، و«النساجون»، و«شارل الأول»؛ وهو ملك إنجلترا واسكتلندا من 1600 إلى 1649م الذي تسبب في نشوب حربين أهليتين، وحوكم في وستمنستر ورفض الدفاع عن نفسه، فاعتبر ذلك اعترافا بجرائمه وأدين وحكم عليه بالإعدام في «وايتهول» بقطع رأسه). (8) كيستنر (إريش: 1899-1974م)

بعد خدمة عسكرية في الحرب العالمية الأولى حصل على الثانوية سنة 1919م، ثم درس الأدب الألماني والتاريخ والفلسفة وعلوم المسرح في روستوك وبرلين ولايبزيج؛ حيث قدم رسالته للدكتوراه سنة 1925م، واشتغل بعدها محررا أدبيا في صحف عديدة. منع في عهد النازيين من الكتابة، وحضر بنفسه حريق الكتب المشهور في برلين (ومن بينها كتبه)، وأخذ ينشر كتبه خارج بلده. كتب في سنة 1942م سيناريو فيلم «منشهاوزن» تحت اسم مستعار، وأشرف على الصفحات الثقافية في «الجريدة الجديدة» من 1945 إلى 1947م في مدينة ميونيخ، التي استقر فيها متفرغا للكتابة الحرة. اكتسب شهرته من الكتابة للأطفال (ومن أشهر كتبه: «إميل والمخبرون»، و«مؤتمر الحيوانات»، وغيرهما)، ومن أشعاره الساخرة التي يتجه فيها لرجل الشارع، ويعالج قضايا الحياة اليومية وأزماتها ومشكلاتها العينية بروح التهكم والدعابة الإنسانية الصافية. عرف كذلك برواياته التي تسجل ظواهر التدهور الأخلاقي والاجتماعي في الثلاثينيات، ومنذ عهد جمهورية فيمار (ومن أهمها روايته: «فابيان، تاريخ رجل أخلاقي»)، وحرصه على البعد عن اتخاذ أي موقف سياسي. ومع ذلك فقد اتجه في محاضراته ومقالاته ومشاركته في الكباريه الغنائي والأدبي (الحرية الصغيرة، 1951م) إلى اتخاذ موقف الرفض لإعادة تسليح ألمانيا، ونقد ما سمي آنذاك بالمعجزة الاقتصادية، وانتقاد الدعوة للتنكر للماضي والتراث. تألق كذلك في مسرحيته الشهيرة: «مدرسة الطغاة» (1956م)، وفي مذكراته وإبيجراماته وقصائده التي تشيع فيها روح السخرية العذبة، وتتسم بقدر كبير من البساطة والوعي والموضوعية والعمق أيضا. (راجع البالاد الوحيدة التي اقتبسناها منه، وهي رومانسة موضوعية.) (9) فيمان (فرانز: 1922-1984م)

من كبار كتاب ألمانيا الشرقية السابقة. جند في الحرب العالمية الثانية، وشارك في المعارك التي دارت في أوكرانيا واليونان، وأسر سنة 1945م في الاتحاد السوفييتي السابق؛ حيث بقي في الأسر أربع سنوات. تخلى عن اتجاهاته الفاشية المبكرة، واتجه إلى الماركسية بعد عكوفه على دراستها، وانضم إلى الحزب الديمقراطي الوطني الذي عين فيه سكرتيرا مسئولا عن الشئون الثقافية. تفرغ منذ 1958م للكتابة الحرة، وأصبح قدوة لشباب الأدباء الذين بذل كل جهده لتشجيعهم ورعايتهم. تسجل أشعاره وكتاباته القصصية والروائية ومذكرات رحلاته ومقالاته مدى اهتمامه بموضوع «الماضي» بكل أخطائه وفظائعه، وبقضايا الذنب والضمير والمسئولية، وبتسليط النقد على الحياة اليومية في ألمانيا الشرقية، ومعالجة التناقض الواضح في العلاقات بين الفرد والمجتمع في ظل التطبيق الاشتراكي الرديء، كل ذلك بجانب انشغاله في نثره وشعره بموضوعات ومواد مستمدة من الأساطير، واهتمامه الشديد بالكتابة للأطفال، وتلخيص الأعمال الأدبية العالمية لهم، وبالترجمة عن عدد من اللغات السلافية (راجع في هذه المجموعة قصيدتيه القصصيتين: «طوبى للعصيان»، و«صبي الشيطان»). (10) ريكرت (فريدريش: 1788-1866م)

درس علم اللغة في جامعتي فيرتسبورج وهيدلبرج، ثم حصل في سنة 1811م على الدكتوراه من جامعة يينا التي اشتغل فيها محاضرا لفترة قصيرة. درس اللغات الشرقية في فيينا على يد المستشرق المعروف يوسف فون همر بورجشتال (الذي اعتمد جوته في ديوانه الشرقي على ترجماته العديدة عن الأدب الفارسي). وعلى الرغم من تفرغه لبحوثه الاستشراقية وترجماته المبدعة عن عدد كبير من اللغات الشرقية، ومنها العربية (التي ترجم عنها جزءا كبيرا من القرآن الكريم، وعشر مقامات للحريري، وديوان الحماسة وغيرها)، فقد شغل منصب الأستاذية للغات الشرقية في جامعة أرلانجن من سنة 1826 إلى سنة 1841م، كما قام بالتدريس بين سنتي 1841م و1848م في جامعة برلين، ثم عاش متفرغا لبحوثه وترجماته في ضيعته الصغيرة بالقرب من مدينة كوبرج. تميز ريكرت بإنتاجه الشعري الخصب، وبترجماته التي لا حصر لها عن لغات شرقية بلا حصر أيضا. وقد لقي الظلم في حياته وبعد موته أيضا من المستشرقين الذين لم يعتبروه علميا بما فيه الكفاية، ومن الشعراء الذين اعتبروه مستشرقا وحسب (وذلك إلى أن أنصفته المستشرقة الكبيرة آن ماري شيميل، التي وضعت كتابا عن حياته وأعماله، ونشرت وحققت بعض ترجماته، ومنها ترجمته المسجوعة الرائعة لمقامات الحريري). يقال إنه كتب ما يزيد على عشرة آلاف قصيدة، تميزت من بينها: «سوناتة أماريل» و«السوناتة المسلحة» (التي كتبها سنة 1814م متأثرا بحرب التحرير الوطنية من قبضة نابليون)، وأغنيات موت الأطفال (1833-1834م)، التي بكى فيها اثنين من أصغر أبنائه، وقد نشرت بعد وفاته ولحنها الموسيقار جوستاف مالر. وتؤكد ترجماته - أو بالأحرى محاكاته الخلاقة للعديد من النصوص العربية والفارسية والهندية والصينية - تفرده وتفوقه كمستشرق شاعر أو كشاعر مستشرق، كما يعبر كتابه «حكمة البراهمة، قصيدة تعليمية في شذرات» - الذي أعاد فيه إنتاج مختارات متفرقة من أدب الشرق والغرب - عن شخصيته وأسلوبه في التفكير والعمل، وطموحه كشاعر لم يقدر له النجاح دائما، خصوصا في ثلاثيته عن حروب التحرير من احتلال نابليون، وفي مسرحياته العديدة التي لم يكد يذكرها أحد في حياته ولا بعد موته (راجع عنه في العربية كتاب «ريكرت عاشق العربية»، للدكتور محمد عوني عبد الرءوف). (11) جرين (أنا ستازيوس: 1806-1876م)

فارس وسليل أسرة من النبلاء. درس الفلسفة والحقوق بجامعتي جراتز وفيينا، وتفرغ منذ سنة 1831م لإدارة ضيعته وقصره في تورن على نهر الهارت. تقلد مناصب سياسية عديدة طبعت شعره بطابع سياسي وليبرالي ونقدي ملحوظ جعله قدوة لحركة «ألمانيا الشابة»، وساهم بترجماته للأغنيات والبالادات الإنجليزية القديمة والسلوفانية في نهضة الأدب الشعبي، كما سجل بمجموعته الشعرية «نزهات شاعر من فيينا» - التي نشرها تحت اسم مستعار وهاجم فيها نظام «ميترنيخ» القمعي - بداية الشعر السياسي لحركة «ما قبل مارس» الأدبية. (راجع قصيدته القصصية «مرسال» في هذه المجموعة.) (12) بريشت (برتولت: 1898-1956م)

شاعر وكاتب مسرحي وروائي ومخرج ومنظر للمسرح الملحمي. احتفل العالم قبل خمس سنوات بمئوية ميلاده، فقرئت أشعاره في الندوات وعرضت مسرحياته على الخشبة المسرحية في أوروبا وأمريكا وآسيا والعالم كله - ربما باستثناء العالم العربي الذي اشتهر فيه في الستينيات، وتأثر به العديد من الشعراء وكتاب المسرح والنقاد والدارسين، ثم نسي بعد ذلك نسيانا يوشك أن يكون تاما - بدأ حياته بدراسة الآداب والطب، وجند في الحرب العالمية الأولى كممرض في مسقط رأسه «أوجسبرج» لفترة قصيرة أثرت على مسرحياته الثلاث المبكرة في المرحلة المعروفة بالمرحلة التعبيرية من إنتاجه المسرحي. توقف بعد الحرب عن دراسة الطب، وواصل الكتابة ودراسة علوم المسرح، ثم تعاقد معه مسرح الغرفة في ميونيخ على العمل كمسئول عن النصوص المسرحية (دراما تورج) بعد النجاح الساحق لثالثة مسرحياته سابقة الذكر، وهي «طبول في الليل» (1922م)، وانتقل إلى برلين للعمل مع المخرج الشهير ماكس راينهارت، حيث عرضت بعض مسرحياته على «المسرح الألماني»، ولكن النجاح الأكبر سعى إليه مع عرض أوبراه الشهيرة : «أوبرا القروش الثلاثة» على مسرح «الشفباوردام» الذي كرسته له الدولة الاشتراكية السابقة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي سنة 1928م. هاجر مع أسرته إلى الدنمارك سنة 1933م بعد وصول هتلر وعصابته إلى السلطة، ثم انتقل منها إلى السويد (1939م)، وفنلندا (1940م)، إلى أن سافر للولايات المتحدة الأمريكية، واستقر في سانتا مونيكا بكاليفورنيا، حتى قدم للمحاكمة أمام لجنة النشاط المعادي لأمريكا في يوم الثلاثين من شهر أكتوبر سنة 1947م. وقد سافر في اليوم التالي مباشرة إلى زيورخ عبر باريس، حتى انتهى به المطاف إلى الإقامة في القسم الشرقي من برلين عاصمة ألمانيا الديمقراطية السابقة، والتفرغ منذ سنة 1949م ل «فرقة برلين» المسرحية التي أسسها مع زوجته الممثلة الشهيرة هيلينا فايجيل، وتخصصت في عرض تجاربه المسرحية مع بعض المسرحيات القليلة لمؤلفين آخرين (مثل: شكسبير، ولنس، وموليير وغيرهم)، وقد حصل في أواخر حياته - على الرغم من العلاقة المتوترة بينه وبين الدولة الاشتراكية وحزبها الواحد - على العديد من جوائز التكريم، وذلك بعد أن لمع اسمه كواحد من أكبر كتاب المسرح العالمي في النصف الأول من القرن العشرين.

ظل إنتاج بريشت المسرحي والقصصي والشعري مرتبطا أشد الارتباط بعصره ومحنته الكبرى؛ وهي الحرب والحكم الأسود لقطعان النازية، ولذلك توجه هذا الإنتاج في المقام الأول إلى الإنسان العادي أو «الرجل الصغير» لتنويره وحثه على الوعي النقدي بتناقضات واقعة، والكشف عن زيف الأساطير والأوهام الفاشية التي خدعته وجرته مع الملايين إلى المذبحة الكبرى، والتحريض على ضرورة «التغيير» الذي يلخص بكلمة موجزة رسالته الأدبية والفنية.

وقد تميز شعر بريشت - الذي ارتبط في الجانب الأكبر منه بمحنة عصره وبكفاحه في سبيل التنوير والتغيير - ببساطته وسهولته الممتنعة، وموضوعيته التي يندر معها أن تجد له شعرا ذاتيا (ربما باستثناء بكائياته على نفسه وعلى عصره في قصائد مثل: «برتولت بريشت المسكين»، و«إلى الأجيال المقبلة»، و«مرثيات بوكو») ومعالجته لكل الأشكال الشعرية المعروفة، من البالاد ذات الوزن والقافية، إلى قصائد الشعر الحر، إلى السوناتة والإبيجرام والشعر التعليمي والملحمة والقصة الشعرية والأغنيات الشعبية والمعارضات لبعض عيون التراث الشعري الكلاسيكي (راجع في هذه المجموعة قصيدتيه القصصيتين عن الجندي الميت، وعن نشأة كتاب الطريق والفضيلة تاو-تي-كنج للحكيم الصيني لاو-تزو. وراجع إن شئت مجموعة أشعاره التي نقلها كاتب السطور إلى العربية، وظهرت تحت عنوان «هذا هو كل شيء، قصائد من بريشت» في دار شرقيات بالقاهرة، 1999م، مشاركة في الاحتفال بذكراه المئوية). (13) هيردر (يوهان جوتفريد: 1744-1803م)

هو فيلسوف التاريخ المشهور («فلسفة للتاريخ لتثقيف الإنسانية» (1774م)، و«أفكار عن فلسفة تاريخ البشرية» (1784-1791م) وغيرهما)، والأديب الملهم لحركة «العصف والدفع» الأدبية والحث على جمع واستلهام التراث الشعبي لدى الشعوب القديمة كافة، لا سيما في الأغنية الشعبية التي نقل منها بنفسه عددا كبيرا في كتابيه: «أغاني شعبية قديمة» (1774م)، و«أصوات الشعوب في أغانيها» (1807م)، وتوجيه أدباء الشباب في ذلك الحين (لا سيما جوته) إلى الاهتمام بالأدب الشعبي، وقراءة شكسبير. تميز بأسلوبه التأثيري والوجداني المجنح، وبنزعته المضادة للعقلانية والتنوير، ولفته أنظار معاصريه إلى فكرة التطور التاريخي والعضوي الحي، وإلى فهم لغة وأدب وثقافة أي شعب من الشعوب اعتمادا على ظروفه التاريخية السابقة والشروط المحددة لطبعه ومناخه وأرضه، بحيث يعتبر - بفكرته الخصبة عن التاريخ كعملية تطور ونمو شبيه بالتطور العضوي في النبات والكائنات الحية - مؤسس فلسفة التاريخ الحديثة في ألمانيا. يذكر له تأثيره سابق الذكر وترجماته الجميلة عن الشعر الإغريقي والشعر الشرقي (راجع قصيدته القصصية «إدوارد»، المترجمة عن الأدب الاسكتلندي القديم). (14) موريكه (إدوارد: 1804-1875م)

تقلد منصب الواعظ والقسيس في عدد من القرى والمدن الصغيرة بالجنوب الألماني، ثم عمل أستاذا للأدب في شتوتجارت التي عاش فيها منطويا ومعتزلا حتى وفاته. يعد بجانب «هيني» من أهم الشعراء الألمان في المرحلة الفاصلة بين الرومانتيكية والواقعية، وقد تأثر شعره العاطفي والموسيقي الرقيق بشعر جوته والرومانسيين، وبروح الأغنية الشعبية وأشكال وأوزان الشعر الكلاسيكي القديم، مع بساطة آسرة في أغانيه المشبعة بالأنغام الشعبية، والاهتمام بتصوير رؤيته وتجربته للطبيعة في صور أسطورية وخيالية مثيرة تشي بالصفاء والبساطة والدعابة والمرح، مع الاحتفاظ بالروح الموضوعية والاهتمام بالملموس والمحسوس في «بالاداته» الطبيعية. تميز أيضا بقصصه القصيرة المحكمة، لا سيما قصته الشهيرة عن «رحلة موتسارت إلى براغ»، وكذلك بروايته «ماره نولتن» التي وقع فيها تحت تأثير رواية جوته «فيلهلم ميستر»، وبترجماته المتواضعة عن الشعر الإغريقي والروماني «أناكريون وثيو كريت وكاتول»، وبرسائله المؤثرة المعبرة (راجع في هذه المجموعة قصيدته القصصية «التتويج الحزين»). (15) رنجلناتز (يواخيم: 1883-1934م)

ولد لأب كان يعمل مؤلفا لكتب الصبية والشباب، درس بعض الوقت في مدينة لايبنزيج، ثم عمل - بغير علم أبويه - على إحدى السفن، وتقلب بين أعمال ومهن مختلفة في البر والبحر، منها الصحافة الفكاهية والأرشيف والمكتبات والمسرح، عانى مرارة البطالة والجوع بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، حتى اكتشفه صاحب مسرح «الصوت والدخان» في برلين، وكان يقرأ فيه أشعاره المرحة الفكهة والمأساوية الفاجعة في وقت واحد، وبقي مواظبا على العمل فيه حتى سنة 1933م. وهو شاعر «الكاباريهات الأدبية» الساخر، يتجاور عنده المعقول مع اللامعقول، والعمق مع الحمق، والنكتة الصارخة مع الحس النقدي اللاذع لعصره وواقعه، والقصيدة الرائعة المؤثرة مع أغنيات «البحر» الساذجة الفجة المتخمة بالجرائم المهولة (على طريقة الأغاني الشعبية التي عرفت باسم «الموريتات»)، وتكمن تحت السطح الضاحك المرح لأشعاره أعماق شديدة الكآبة والحساسية للألم والبؤس الإنساني. له إلى جانب أشعاره كتابات نثرية وذكريات عديدة عن حياته مع البحر والمغامرة (راجع له في هذه المجموعة قصيدته عن «الطفلة الساحرة»). (16) ميكيل (كارل: 1935-2000م)

درس الاقتصاد وتاريخه في برلين الشرقية (سابقا)، وعمل بعد ذلك صحفيا، فمعيدا في المدرسة العليا للاقتصاد، ثم التحق في سنة 1978م بفرقة برلين المسرحية (لبريشت وزوجته هيلينا فايجل) التي تولى فيها مسئولية النصوص المسرحية، وقام بعدها بالتدريس في مدرسة التمثيل في برلين الشرقية، إلى أن انتقل إلى مدرسة «إرنست بوش» العليا لفن التمثيل التي شغل فيها منصب الأستاذية منذ سنة 1991م حتى وفاته.

يمتد قوس الكتابة الإبداعية عند ميكيل ليشمل الشعر والرواية والدراما، ولكن الشعر يحتل مركز القلب من نشاطه الأدبي والفني. اكتسب في الستينيات شهرته كشاعر مجدد يحاول أن يفتح للشعر في ألمانيا الشرقية السابقة آفاقا جديدة، تشهد على ذلك مجموعة الأشعار المنتخبة التي جعل عنوانها: «في هذا البلد الأفضل، قصائد من ألمانيا الشرقية منذ سنة 1945م»، كما تدل عليه أشعاره التحريضية المبكرة مثل مجموعة قصائده بعنوان «مدائح وشتائم»، بالإضافة إلى مجموعته التالية بعنوان «حياتي الجديدة» التي حاول فيها أن يقابل بين المأثور والجديد، والعامية والفصحى، ومواقف الحياة اليومية وأصحاب الجباه العالية، مما أثار عليه النقاد الماركسيين المتزمتين (راجع في هذه المجموعة قصيدته القصصية عن «الطفل الواقف أمام باب الجنة»). (17) فيرتيل (برتولد: 1885-1953م)

شاعر وقاص وكاتب مسرحي نمسوي. درس الفلسفة والتاريخ في فيينا، وشارك مشاركة فعالة في الصحافة النقدية الفكهة (في المجلة الساخرة سمبليسيزموس ومجلة الشعلة التي كان يصدرها الكاتب الساخر كارل كراوس)، وفي العمل المسرحي بالمساهمة في تأسيس عدد من المسارح (كالمسرح الشعبي في مدينة فيينا، والمسرح التجريبي «الفرقة»، وغيرهما)، وفي الإخراج للمسرح والسينما في هوليوود بعد هجرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة 1938م، حتى عودته إلى فيينا سنة 1947م لمعاودة نشاطه المسرحي والترجمي عن الأدب الأمريكي. قام بدور كبير في حملة الدعاية التي كانت تقوم بها إذاعة ال «بي بي سي» البريطانية ضد النازية، وفي سنواته الأخيرة كرس شعره للهجوم على الفاشية (راجع على سبيل المثال قصيدته القصصية في هذه المجموعة عن «أجراس إيرفورت»). (18) فونتانه (تيودور: 1819-1898م)

تقلب معظم حياته بين العمل بالصيدلة والصحافة (عمل مراسلا حربيا خلال الحملات العسكرية والحرب بين ألمانيا وفرنسا من عام 1864 إلى عام 1871م)، والنقد المسرحي وسكرتارية أكاديمية الفنون في برلين . اتجه إلى الأدب متأخرا، ولكن إنتاجه الروائي والشعري ظل متدفقا في شيخوخته، وحتى وفاته. يمثل فونتانه برواياته وشعره القصصي مرحلة اكتمال الواقعية الألمانية، وقد بدأ حياته مع الشعر بكتابة قصائد يكسوها الأسى والحنين، ثم اكتسب شهرته كشاعر قصائد قصصية شعبية احتذى فيها نماذج «البالاد» الإنجليزية والاسكتلندية، مقتبسا مادتها من التاريخ الإنجليزي والاسكتلندي القديم، أو من الشخصيات البروسية في عصره، وتميز بأسلوبه المكثف المقتصد، والمعبر في الوقت نفسه عن القلق والتوتر النفسي. وقد اتجه إلى الكتابة الروائية بعد بلوغه الستين من عمره، فبدأ بالرواية التاريخية على طريقة الإنجليزي سكوت، ولكنه لم يجد طريقه الخاص في الرواية إلا بعد السبعين، عندما عالج كتابة الرواية الواقعية من بيئته المحيطة به في برلين، ومنطقة المارك براندنبرج التي صورها تصويرا واقعيا وموضوعيا بلغ الغاية من دقة الملاحظة والبراعة في رسم الشخصيات والحوار الذكي المعبر مع ميل شديد إلى التأمل والحكمة الملائمين لكبر سنه ونضجه (راجع في هذه المجموعة قصيدته القصصية «مأساة من أفغانستان»). (19) جلاسبرنر (أدولف: 1810-1876م)

ولد في برلين ومات بها. تفرغ منذ سنة 1830م للكتابة الحرة والعمل الصحفي والسياسي، وعرف بأسلوبه الساخر - على طريقة أهل برلين وبلهجتهم وروحهم الشعبية بارعة الدعابة والنكتة - الذي وصل في سخريته السياسية والنقدية الاجتماعية إلى حد مصادرة كتاباته وطرده في الأربعينيات من برلين التي لم يرجع إليها إلا في أواخر الخمسينيات، وبعد فشل ثورة 1848م لمتابعة كتاباته المرحة، وأشعار في بعض الصحف التي أصدرها، ومنها صحيفة برلين الصباحية منذ سنة 1868م حتى سنة وفاته. (راجع قصيدته القصصية المفعمة بالسخرية المؤلمة أو بالألم الساخر، وهي «حكاية الغنى والحاجة».) (20) ديميل (ريشارد: 1863-1920م)

بعد دراسة الاقتصاد والفلسفة والعلوم الطبيعية في برلين ولايبنزيج، حصل على الدكتوراه في سنة 1887م، وعمل في إحدى شركات التأمين، ثم تفرغ للكتابة الحرة منذ سنة 1901م. تطوع في الحرب العالمية الأولى، شارك بعد انتهائها في تأسيس مجلة الفنون: «بان». وبدأ منذ سنة 1891م في نشر قصائده التي رحب بها القراء والنقاد، واعتبروه من أعظم الشعراء الألمان المعبرين عن حس جديد وجريء بالحياة والحب، ورؤية فنية متحررة من التقاليد الأخلاقية الدينية ومضادة لتصورات أصحاب النزعة الطبيعية التي سادت في ذلك الحين، وتجلت هذه الرؤية المزعجة للأعراف البرجوازية في روايته «إنسانان»، وهي قصة حب مؤلفة من «رومانسات» تمجد الحب والجمال وقوة الإيروس (العشق)، وإرادة الحياة، متأثرا في ذلك بفلسفة الحياة عند نيتشه إلى الحد الذي جعل التعبيريين يعتبرونه أحد رواد «صرختهم» في سبيل الحرية والحب والخلاص والإنسانية. وتتجلى أفكاره في الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي والارتفاع بالحب إلى مستوى السر الكوني (راجع في هذه المجموعة قصيدته «أغنية الحصاد»). (21) فولف (فريدريش: 1888-1953م)

ولد في «نويفيد» على شط الراين لعائلة يهودية من الطبقة الوسطى، وهرب من بيت أبويه إلى ميونيخ، ثم إلى روما ليتعلم فن التصوير. عمل في صباه على البواخر التي تمخر نهر الراين، ثم درس الفلسفة والطب في برلين وبون، واشتغل طبيبا على السفن البحرية، وفي الحرب العالمية الأولى، ثم انضم بعد انتهائها إلى حركة اليسار الاشتراكي وإلى الحزب الشيوعي. هاجر في سنة 1933م إلى سويسرا وفرنسا هربا من جحافل النازية، وشارك في الحرب الأهلية الإسبانية في صفوف الشيوعيين، وبعد اعتقاله في فرنسا سنة 1939م على أثر احتلالها، هرب إلى الاتحاد السوفييتي السابق، وعمل في الإذاعة وجبهات القتال في الدعاية ضد النازية، ثم رجع بعد انتهاء الحرب إلى برلين الشرقية، حيث عمل طبيبا وسفيرا لبلاده في وارسو، وشارك في الحياة المسرحية. عرف كقاص وكاتب مسرحي اشتراكي وشاعر عالي النبرة ومحرض على الكفاح ب «سلاح الفن» في سبيل الثورة الاشتراكية والمسرح الاشتراكي الذي أعطاه معظم جهده واهتمامه (راجع له في هذه المجموعة قصيدته الثورية عن «شجرة المانجو»). (22) فاينرت (إريش: 1890-1953م)

بعد سنوات طويلة في تعلم السباكة والميكانيكا والرسم وتصوير الكتب، والمشاركة بأشعاره في «الكباريهات» الأدبية، أصبح من الدعاة للثورة الاشتراكية والمحررين للصحف الشيوعية. بعد هجرته من بلاده سنة 1933م إلى سويسرا وفرنسا، ثم موسكو، شارك في الحرب الأهلية الإسبانية في صفوف التقدميين، ثم استقر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في برلين الشرقية؛ حيث تقلد مناصب قيادية مهمة في العمل الثقافي في الدولة الاشتراكية السابقة. وتعد السخرية النقدية والنبرة الدعائية من أهم سمات شعره التحريضي المباشر (راجع قصيدته القصصية «أم ألمانية» في هذه المجموعة). (23) بيشر (يوهانيس: 1891-1958م)

من أهم شعراء ومثقفي الحركة الاشتراكية في جمهورية ألمانيا الشرقية السابقة. بدأ حياته شاعرا تعبيريا صارخ الانفعال واللغة والصور، ثم اتجه إلى الاشتراكية، حتى صار علما من أعلام «الواقعية الاشتراكية»، وجعل نثره وشعره الغزير سلاحا فعالا لبناء مجتمع اشتراكي وديمقراطي عادل يبني ما خربه الطاغوت النازي، ويبشر بالأخوة البشرية وإحياء قيم التراث الأدبي والأخلاقي والإنساني الأصيل، بعيدا عن التزييف الفاشي والرأسمالي معا. أصدر في سنة 1952م ديوانه: «الجثة على العرش»، فألقي القبض عليه واتهم بالخيانة العظمى. وأخذت القضية تجرجر أذيالها ثلاث سنوات ، حتى أفرج عنه بعد تدخل عدد من أدباء العصر المرموقين مثل: جوركي وتوماس مان وبريشت. وقد ضاعف هذا من تحمسه للشيوعية، ومن إيمانه بأن الأدب من أقوى أسلحة العمل الحزبي والثقافي المنظم لتحقيق الاشتراكية الإنسانية. هاجر من بلاده إلى الاتحاد السوفييتي السابق على أثر استيلاء النازيين على السلطة في سنة 1933م، ثم رجع إليها وأسس في برلين - الشرقية - سنة 1945م مجموعة من الأنشطة الثقافية، من أهمها: الاتحاد الثقافي للتجديد الديمقراطي لألمانيا، ودار النشر «أوفباو» (التعمير)، والمجلة الأدبية المرموقة «المعنى والشكل». وفي سنة 1949م وضع النشيد الوطني لجمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة، ثم تولى رئاسة أكاديمية الفنون من سنة 1952 إلى سنة 1954م، وعين في هذه السنة الأخيرة أول وزير للثقافة، وظل يشغل المنصب حتى رحيله في سنة 1958م.

لا شك في أن «بيشر» قد كافح كفاحا شاقا لتحقيق طموحاته وتصوراته عن الثقافة الإنسانية والأدب التقدمي، ولكن لا شك أيضا في أن حرصه على النزعة التعليمية والتحريضية وتبشيره ب «اليوتوبيا» الاشتراكية قد أوقعه في سخف خطابي كثير، وإن كان هذا لا يمنع من القول بأن بعض أغانيه ذات النبرة الشعبية البسيطة قد شاعت على ألسنة الناس، وأن بعض قصائده التي تغنى فيها بالثورة وزعمائها كانت طاقة دافعة للحماس ، ووقودا لاشتعال الأمل والحلم الاشتراكي الذي لم يلبث أن اختنق في أكفان الروتين والفقر والقهر والتحجر والجمود.

يذكر له - إلى جانب شعره السياسي الملتزم، الذي تجد طرفا منه في كتابي المتواضع عن ثورة الشعر الحديث، القاهرة، أبوللو سنة 1998م - كتاباه النثريان: «دفاع عن الشعر» (1953م)، و«المبدأ الشعري» (1957م) (راجع في هذه المجموعة قصيدته القصصية «أغنية الفلاحين»).

Shafi da ba'a sani ba