ولما ثارت في الجامعة مسألة المسجد والمصلى والدروس الدينية وفصل الفتيان عن الفتيات، قبيل موت الرافعي بأشهر، كتب مقالا للرسالة غمز فيه طه وحيا شباب الجامعة، ولم يجد صاحب الرسالة بدا من نشره، وفتن الرافعي بمقاله ذاك وحسن عنده وقعه، فأنشأ تتمة له بعنوان «شيطان وشيطانه»، يغمز بها الدكتور طه حسين، ولكن صاحب الرسالة وقف له واحتج حجة؛ رعاية لصديقه القديم، وكان أول مقال يكتبه الرافعي فترده الرسالة، وقد اغتاظ الرافعي لذلك غيظا شديدا، وأحسبه مات وفي نفسه حسرة منه! لو كان لي أن أعرف أين أجد صورة هذا المقال لنشرته بحق التاريخ الذي لا يحابي الأحياء ولا الأموات، ولكن أين أجده؟ صاحب الرسالة يقول: لقد رددته إليه، والدكتور محمد يقول: لم أجده على مكتب أبي، وما كان بين هذا المقال وبين أجل الرافعي إلا قليل.
5
ولم يتلاق الرافعي وطه وجها لوجه في النقد بعد هذه المعركة حول كتاب «في الشعر الجاهلي»، ولكن المعارك بينهما ظلت مستمرة من وراء حجاب، تنتقل من ميدان إلى ميدان.
ولما اشترك الرافعي في المباراة الأدبية في سنة 1936، ونال في بعضها من الجائزة دون ما كان يطمع، لم ينسب ذلك لشيء إلا لأن طه كان عضوا في اللجنة ... وطه خصم عنيد ... •••
أما بعد؛ فهذا شيء للتاريخ أثبته على ما فيه، ليس فيه رأيي ولا رأي أحد معي، ولكنه شيء مما حكاه لي الرافعي أو قرأت في كتبه، فكتبته في موضعه من هذا البحث بضمير المتكلم وما لي فيه إلا الرواية، وذلك حسبي من العذر إن كان علي معتبة أو ملام.
تحت راية القرآن
الجديد والقديم ...! هنا ميدان الخصومة بين الرافعي وأدباء عصره، فمنذ نحله أديب منهم زعامة المذهب القديم في مقال كتبه لمجلة الهلال سنة 1923، نشط الرافعي ليجاهد هذه الدعوة التي يدعون إليها بتقسيم الأدب إلى قديم وجديد؛ إذ لم تكن هذه الدعوة عنده إلا وسيلة إلى النيل من العربية في أرفع أساليبها، وسبيلا إلى الطعن في القرآن وإعجاز القرآن، وبابا إلى الزراية بتراث الأدباء العرب منذ كان للعرب شعر وبيان، ومن ذلك اليوم نصب الرافعي نفسه ووقف قلمه على تفنيد دعوى التجديد، فجعل همه من بعد أن يتتبع آثار الأدباء الذين ينتسبون إلى الجديد ليرد عليهم ويكشف عن باطلهم، وما كان يرى في عمله ذلك إلا أنه جهاد لله تحت راية القرآن؛ فمن ذلك كان اسم كتابه الذي جمع به كل ما كتب في المعركة بين الجديد والقديم، من سنة 1908-1926.
هو كتاب لم ينشئه ليكون كتابا، ولكنها مقالات تفرقت أسبابها واجتمعت إلى هدف واحد، وكانت مزقا مبعثرة في عديد من الصحف والمجلات فجمعها بين دفتي كتاب، فاجتمع بها رأي الرافعي في القديم والجديد على اختلاف أسبابه ودواعيه وما كتب له، على أنك لا تكاد تبلغ من صفحات هذا الكتاب إلى الصفحة المائة من أربعمائة، حتى يخلو الميدان من كل أنصار الجديد إلا رجلا واحدا هو الدكتور طه حسين بك، ويتوجه إليه الخطاب والرد في كل ما بقي من صفحات الكتاب، فكأنما أنشأه الرافعي وجمعه كتابا للرد عليه هو وحده، وكأنه هو وحده الذي يدعو إلى الجديد وينتصر له ويحمل رايته، فإذا أوشكت أن تفرغ من الكتاب فرغت من الرافعي ومن رأيه ومن حديثه، لتقرأ جلسة من جلسات البرلمان يرأسها سعد ويتناول الحديث فيها طائفة من النواب عن طه حسين ورأي طه حسين في الأدب وفي الدين وفي القرآن، ويحتدم فيها الجدل بين حكومة عدلي وبرلمان سعد في شأن هو إلى الأدب أدنى منه إلى السياسة، وإنها لجلسة ممتعة خليقة بأن تكون في موضعها من كتب الأدب وتاريخ النقد الأدبي. •••
وليس الكتاب على استواء واحد في أسلوبه، ففي المقالات الأولى منه تقرأ رأي الرافعي هادئا متزنا فيه وقار العلماء وحكمة أهل الرأي ورحابة صدر الناقد البريء، فإذا وصلت من الكتاب إلى قدر ما، رأيت أسلوبا وبيانا غير الذي كنت ترى، وطالعتك من صفحات الكتاب صورة جهمة للرافعي الثائر المغيظ المحنق، جاحظ العينين كأنما يطالب بدم مطلول، مزبد الشدقين كالجمل الهائج، منتفخ الأنف كأنما يشم ريح الدم، سريع الوثاب كأن خصما تراءى له بعدما دار عليه طويلا فهو يخشى أن يفر، وهو هنا يعني طه حسين وحده!
وليس عجبا أن ترى هذين اللونين من النقد لأديب واحد بين دفتي كتاب، فإن هذه المقالات وإن صوبت إلى هدف واحد قد اختلف دواعيها وأسبابها ومن كتبت له، وقد كان بينها في التاريخ الزمني سنوات وسنوات، والكاتب المتجدد لا يثبت على لون واحد من عام إلى عام.
Shafi da ba'a sani ba