9
ثم يطرق هنيهة ليرفع رأسه بعدها، وهو يقول: «هل يعود ذلك الماضي؟ إنها حماقتي وكبريائي، ليتني لم أفعل، ليت ...!» ثم ينصرف عن محدثه إلى ذكرياته، ويطول الصمت ...
وكان لا ينفك يسأل عنها من يعرف خبرها، حتى عرف أنها سافرت إلى الشام في سنة 1936 تستشفي فأقامت هناك، فهفت إليها نفسه وتحركت عاطفته إليها في لون من الحب وغير قليل من الندم، فكتب إلى صديقة في «دمشق» لتزورها في مستشفاها
10
وتكتب إليه بخبرها، فكتبت إليه:
11 ... بالصدق يا صديقي أنني كلما استعدت بذاكرتي وصية «فلانة» المؤلمة ونتيجتها المحزنة، اعترتني حالة انقباض شديد وحزن لا حد له ... إن الموت في مثل هذه الحالات يعد كنزا ثمينا لا يحصل عليه إلا السعيد، وإني أتهمك قانونا ... بأنك كنت سبب جنونها، فماذا كان عليك لو لبيت الدعوة ؟ آه، لقد كنت قاسيا وفي منتهى القسوة، فهل كان يحلو لك تعذيبها بهذا الشكل، وإلا فماذا تقصد من هذه القطيعة؟ إن المرأة على حق حين تظن، لا، بل حين تعتقد أن الرجل ... لا، السكوت أولى الآن ...
أما هذه «الوصية» التي تشير إليها الكاتبة في رسالتها، فلست أعرف ما هي، فلم تقع لي كل رسائل الكاتبة، ولست أعرف أين كان يخبؤها الرافعي من مكتبه، ولعل ولده «الدكتور محمد» يدري، فإن كان؛ فإن كان عليه حقا للأدب أن يحتفظ بما عنده من الرسائل إلى أوانها، فسيأتي يوم تكون فيه هذه الرسائل شيئا له قيمته في البحث الأدبي. •••
قلت: إن الرافعي قطع ما بينه وبين صاحبته منذ ثلاث عشرة سنة، لم يلتقيا فيها إلا مرة، ولكنه كان يكتب لها وتكتب له رسائل لا يحملها ساعي البريد؛ لأنه كان ينشرها وتنشرها في ثنايا ما تنشر لهما الصحف من رسائل أدبية، يقرؤها قراؤها فلا يجدونها إلا كلاما من الكلام في موضعها من الحديث أو المقالة أو القصة، ويقرؤها المرسل إليه خاصة فيفهم ما تعنيه وما تشير إليه، ثم يكون الرد كذلك، حشوا من فضول القول في حديث أو مقالة أو قصة، هي رسائل خاصة ولكنها على أعين القراء جميعا وما ذاع السر ولا انكشف الضمير، وفي أكثر من مرة والرافعي يملي علي مقالاته، كان يستمهلني برهة ليعيث في درج مكتبه قليلا فيخرج ورقة أو قصاصة يملي علي منها كلاما، ثم يعود إلى إملائه من فكره، وأعرف ما يعنيه فأبتسم ويبتسم، ثم نعود إلى ما كنا فيه، وتنشر المقالة، فلا نلبث أن نجد الرد في رسالة تكتبها «فلانة» فيتلقاها الرافعي في صحيفتها كما يفض العاشق رسالة جاءته في غلافها مع ساعي البريد من حبيب ناء ...
هي طريقة لم يتفاهما عليها ولكنهما رضياها، وأحسب ذلك نوعا من الكبرياء التي ربطتهما قلبا إلى قلب، والتي فرقت بينهما على وقدة الحب وحرقة الوجد والحنين! •••
وكنت أسير مع الرافعي مرة بالقاهرة في شتاء سنة 1935، فلما انتهينا إلى القرب من مبنى جريدة «الأهرام»، قال لي: «مل بنا إلى هذا الشارع!» ولم تكن لنا في ذلك الشارع حاجة، ولكني أطعته، وانتهينا إلى مكان، فوقف الرافعي معتمدا على عصاه، ورفع رأسه إلى فوق وهو يقول: «إنها هنا، هذه دارها، من يدري؟ لعلها الآن خلف هذه النافذة ...!»
Shafi da ba'a sani ba