في إبان هذه المعركة الصامتة بين الرافعي وحافظ، قدم إلى مصر شاعر كبير لم يكن الرافعي يعرفه أو يسمع به أو قرأ شيئا من شعره، ذلك هو شاعر العراق الكبير المرحوم عبد المحسن الكاظمي، ونشرت له الصحف غداة مقدمه قصيدة عينية من بحر الطويل، قرأها الرافعي فاستجادها ورأى فيها فنا ليس من فن الشعراء المعاصرين الذين قرأ لهم، فملكت نفسه وبلغت منه مبلغا، وقرر لساعته أن يسعى إلى التعرف به؛ ليصل به حبله ويقتبس من أدبه، وكان الرافعي يومئذ كاتبا بمحكمة طلخا، ففارق عمله بغير إجازة، وسعى إلى لقاء الكاظمي في القاهرة وهو يمني نفسه بأن يكون بينهما من الود ما يرفع من شأن الرافعي ويجدي على أدبه، وكان في الكاظمي - رحمه الله - أنفة وكبر ... فأبى على الرافعي أن يلقاه ورده ردا غير جميل؛ إذ كان الرافعي يومئذ نكرة في الأدباء، وكان الكاظمي ما كان في علمه وأدبه وشهرته وكبريائه، مع خلته وفقره، واصطدمت كبرياء بكبرياء، وثار دم الرافعي وغلى غليانه، فذهب من فوره فأنشأ مقالة - أو قصيدة، لا أذكر - نال فيها من الكاظمي ما استطاع أن ينال بذمه والزراية عليه والغض من مكانته، وما كان الرافعي مؤمنا بما كتب، ولكنه قصد أن يلفت الشاعر إليه بالإنذار والتخويف، بعد ما عجز أن يبلغ إليه بالزلفى والكرامة.
وفعلت هذه الكلمة فعلها في التقريب بين الأديبين، فاتصل الرافعي بالكاظمي وصفا ما بينهما وأخلصا في الوداد والحب حتى لم يكن بينهما حجاب، وحتى صار الرافعي أصفى أصفياء الكاظمي، وصار الكاظمي أشعر الشعراء المعاصرين عند الرافعي، ثم ارتفعت الصلة بينهما عما يكون بين التلميذ والأستاذ، وتصادقا صداقة النظراء، حتى إنه لما هم الكاظمي أن يسافر إلى الأندلس في سنة 1905، كتب كتابا إلى الرافعي يقول فيه: ... ثق أني أسافر مطمئنا وأنت بقيتي في مصر.
هؤلاء الثلاثة: البارودي، وحافظ، والكاظمي، هم كل من أعرف ممن تأثر بهم الرافعي من شعراء عصره، أما شوقي، وصبري، ومطران، وغيرهم ممن نشئوا مع الرافعي في جيل واحد، فلا أعرف بينه وبين أحد منهم صلة تمتد إلى أيامه الأولى، وما سمعت منه - رحمه الله - حديثا يشعر بصلة خاصة كانت تربطه بواحد منهم في حداثته، فلعل عند غيري من أهل الأدب علما من العلم يكمل هذا النقص ويسد هذه الخلة. •••
بدأ الرافعي يقول الشعر ولما يبلغ العشرين من عمره، ينشره في الصحف وفي مجلات السوريين التي تصدر في مصر، وكانت المجلات الأدبية كلها إلى ذلك الوقت في أيديهم، فمجلة الضياء، والبيان، والثريا، والزهراء، والمقتطف، وسركيس، والهلال، وغيرها، كان يقوم عليها كلها جماعة من أدباء سورية: كالبستاني، واليازجي، وصروف، وجورج زيدان، وسليم سركيس، وغيرهم، وكانت إليهم الزعامة الأدبية في اللغة والأدب الوصفي والتاريخ، أما أدب الإنشاء فكان قسمة بينهم وبين أدباء مصر.
والآن أدع لصديقي الأديب المرحوم جورج إبراهيم حنا أن يتحدث عن الرافعي في أول عهده بالشعر، قال: «بدأت صلتي بالمرحوم الرافعي قريبا من سنة 1900، كنت يومئذ أقول الشعر، وكان اسمي معروفا لقراء مجلة الثريا، ولم أكن أعرف الرافعي أو أسمع به، وكان لأخيه الوجيه سعيد الرافعي متجر في شارع الخان بطنطا، يستورد إليه النقل والفواكه الجافة من الشام، وكنت زبونه، فذهبت يوما أشتري شيئا من فاكهة الشام؛ إذ كان له بها شهرة، فلما صرت إليه، لقيت هناك فتى نحيلا في العشرين من عمره، يلبس جلبابا، جالسا إلى مكتب في المتجر قريب من الباب، فما رآني الفتى حتى ناداني فدعاني إلى الجلوس، ثم قال لي: أتعرف أني شاعر؟ قلت: لا، لست أعرف، قال: أنا مصطفى صادق الرافعي، وهذه الكراسات كلها من شعري، وعرض علي بضعة دفاتر كانت على المكتب، ثم استأنف قائلا: ولكنه شعر الحداثة فهو لا يعجبني، سأختار أجوده وأمزق الباقي، وسأطبع ديواني بعد قليل فتعرفني ...!»
قال: «وعرفت الرافعي من يومئذ، وقويت بيننا الصلة حتى صرت أدنى أصدقائه إليه، يقرأ علي شعره، ويستمع إلى رأيي فيه، ويستشيرني في أمره، وقد كان أوله كآخره، فما لبثت حتى أعجبت به وأحللته من نفسي أرفع محل من الحب والتقدير.» •••
ظل الرافعي يقول الشعر لنفسه، أو ينشر منه في المجلات الأدبية، أو يقرؤه على أصدقائه، وأصدقاؤه يومئذ صفوة من شباب السوريين في طنطا، منهم: الأديب جورج إبراهيم، والصيدليان: نسيم يارد، وإلياس عجان، والطبيب تودري: وكانوا يتخذون مجلسهم عادة في وقت الفراغ في صيدلية «كوكب الشرق» بطنطا.
فلما كانت سنة 1903، وعمر الرافعي يومئذ ثلاث وعشرون سنة، نشر حافظ إبراهيم ديوانه، وقدم له بمقدمة بليغة كانت حديث الأدباء في حينها، وطال حولها الجدل حتى نسبها بعضهم إلى المويلحي، واستقبل الأدباء ديوان حافظ ومقدمة ديوانه استقبالا رائعا، وعقدوا له أكاليل الثناء، والرافعي غيور شموس، فما هو إلا أن رأى ما رأى حتى عقد العزم على إصدار ديوانه، وما دام حافظ قد صدر ديوانه بهذه المقدمة التي أحدثت كل هذا الدوي، فإن على الرافعي أن يحاول جهده ليبلغ بديوانه ما بلغ حافظ، وإن عليه أن يحمل الأدباء على أن ينسوا بمقدمته مقدمة ديوان حافظ!
وصدر الجزء الأول من ديوان الرافعي في الموعد الذي أراد بعيد ديوان حافظ بقليل، وقدم له بمقدمة بارعة فصل فيها معنى الشعر، وفنونه ومذاهبه وأوليته، وهي - وإن كانت أول ما نعرف مما كتب الرافعي - تدل بمعناها ومبناها على أن ذلك الشاب النحيل الضاوي الجسد، كان يعرف أين موضعه بين أدباء العربية في غد، وإذا كانت مقدمة ديوان حافظ قد ثار حولها من الجدل ما حمل بعض الأدباء على نسبتها إلى المويلحي، فقد حملت هذه المقدمة الأديب الناقد الكبير الشيخ إبراهيم اليازجي على الشك في أن يكون كاتبها من ذلك العصر، مما يخادع نفسه في قدرة الرافعي على كتابتها.
قال الأستاذ جورج إبراهيم: «لما هم الرافعي أن يكتب مقدمة ديوانه، جاء إلي في جلبابه والحر شديد، فحدثني من حديثه، ثم سألني أن أهيئ له مكانا رطبا يجلس فيه ليكتب المقدمة، فجلس في غرفة من الدار، ثم تخفف من لباسه ... واقتعد البلاط بلا فرش، وبسط أوراقه على الأرض وتهيأ للكتابة، فحذرته أن تنال منه رطوبة البلاط في مجلسه الطويل، فقال: لا عليك يا جورج، إني لأحب أن أحس الرطوبة من تحتي ... فينشط رأسي ... ثم استمر في مجلسه يكتب وليس معه ولا حواليه من وسائل العلم إلا قلمه وأوراقه، حتى فرغ من المقدمة في ساعات ...»
Shafi da ba'a sani ba