شيخان على أبواب الأبدية، يساقان إلى ظلام السجن ليس من ورائه إلا ظلام القبر، ولم يقترفا جريمة أو يرتكبا إثما ... ولكن القانون قد قال كلمته، والقانون حق واجب الاحترام، فلم تبق إلا الرحمة الإنسانية شفيعا من قسوة القانون.
وسعت أسرة السجينين إلى المحامي الأديب المرحوم حافظ عامر تطلب إليه أن يكتب استرحاما في أمرهما إلى أمير البلاد، لعل في عطفه ما يأسو الجرح ويخفف وقع المصاب، وجعلت له أجرا على ذلك مائة جنيه!
وماذا يقول المحامي في قضية فرغت المحكمة من أمرها وقال القضاء كلمته؟
ليس هذا سبيل المحامي الذي يرتب القضايا ويستنبط النتائج ويستنطق الصامت ويستوضح الغامض، لقد فات أوان ذلك كله فلم تبق إلا كلمة الشاعر الذي يخاطب النفس الإنسانية فيجتلب الرحمة ويستدر العبرة ويحسن الاعتذار عن النفس البشرية من أخطائها فيذكي العاطفة الخابية ويوقظ الإحساس الراقد، ويتحدث إلى القلب الإنساني حديث الوجدان والشعر والعاطفة.
وقصد المرحوم حافظ عامر إلى صديقه الرافعي؛ ليضع القضية بين يديه ويسأله أن يكتب الاسترحام إلى أمير البلاد، وسمى له أجرة إن توفق في مسعاه.
وقرأ الرافعي القضية وأحاط بها من كافة نواحيها، ثم شرع قلمه وكتب ...
وبلغت صيحته حيث أراد فأفرج عن السجينين في مايو سنة 1921.
وتناول الرافعي أجرته على ذلك من المحامي سبعة عشر جنيها، واستبقى المحامي لنفسه ثلاثا وثمانين ...
3
في هذا الاسترحام الذي كتبه الرافعي في بضع وأربعين صفحة ونحله صديقه المحامي ليطبعه باسمه، لون من أدب الرافعي غير معروف لقرائه، وفيه تحليل نفسي بديع، وفيه شعر إنساني يبلغ الغاية من السمو، وفيه منطق واستنباط وملاحظة دقيقة لا تجد مثلها في أساليب الأدباء.
Shafi da ba'a sani ba