ثم نهضت الفتاة إلى الغرفة الثانية وعادت بطبق الحلوى فقدمته إلي، ثم إلى الرافعي، واتخذت مجلسها إلى جانبي ... وعاد الحديث ألوانا وأفانين بين الجماعة وأنا صامت في مجلسي لا أكاد أفهم ما يدور حولي من الحديث!
وجعلت أسائل نفسي وأكاد أنشق غيظا: «ترى ماذا حمل الرافعي على هذا القول ...؟»
فلما انفض المجلس وخرجنا إلى الطريق نظرت إلى الرافعي مغضبا أسأله جلاء السر، فضحك ملء فمه وهو يقول: «قصة طريفة ... لقد عقدنا العقدة فانظر في طريقة للحل ... سيكون فصلا أدبيا ممتعا يا شيخ سعيد، تكون أنت مؤلفه وعلي أن أرويه، لقد سئمنا الخيال فالتمسناك وسيلة إلى بعض الحقيقة ...»
وغاظني حديث الرافعي أكثر مما غاظني الذي كان منه، فتمردت عليه، ولكن الرافعي عاد يضحك ويقول: «أتراك - إن أبيت - تستطيع أن تمنع نفسك الفكر فيها وأن تمنعها؟ لقد بدأت القصة فما بد من أن تكون لها خاتمة!»
وضقت بهذه الدعابة وثارت نفسي فأخشنت القول، فزاد به الضحك وهو يقول: «وهذه الثورة أيضا هي فصل من فصول هذه الرواية ...!»
وأعداني مرح الرافعي وانبساطه فضحكت، ثم لم أجد للجدال فائدة فسكت على غيظ ضاحك، ولقيت الفتاة بعدها مرتين فتناسيت ما كان ولم أسأل نفسي عن شيء من خبرها ... ومضى الزمان، ثم جاءني الرافعي يوما يقول: «إن بينك وبين صديقنا الأديب «ج» لشيئا!» قلت: «ماذا؟»
قال: «أحسبه يغار منك على خطيبته الآنسة «ق»، فإنه لا يعلم أن بينكما عاطفة ...!»
وقال لي حمي ولم تكن ابنته في داري بعد: «أتراك كنت مع الرافعي أمس في زيارته فلانة؟» فتوجست من سؤاله شيئا ...
وكادت تكون قصة كما أراد الرافعي، ولكني حسمت أسبابها فرارا بنفسي! ••• ... من مثل هذه الحادثة كان يلتمس الرافعي موضوعاته ويبدع معانيه في المرأة والحب والزواج ومشاكل الأسرة، ومن هذه المجالس التي كان يصطنعها أو يسعى إليها ويهيئ أسبابها، كانت تنجلي له الفكرة ويومض الخاطر وتتشقق المعاني، ومن هذا الجو زخرت نفسه بالعواطف النابضة التي ألهمته من بعد أن ينشئ ما أنشأ من القصص لقراء الرسالة، ومنها كانت قصص: الأجنبية، وسمو الحب، والله أكبر، واليمامتان، وغيرها، وما أعني أن ذلك كان يملي عليه القصة والموضوع، إنما كان يمده بالمعاني والخواطر حتى يملأ نفسه ويوقظ حسه، فما تزال هذه الخواطر والأفكار مضمرة في الواعية تزيد وتتوالد وينضم شيء منها إلى شيء حتى يأتي وقتها، فإذا هم بموضوع مما يتصل بهذه الخواطر المضمرة انثالت عليه المعاني انثيالا حتى يتم الموضوع تمامه على ما يريد. •••
ولما قص الرافعي قصة «الأجنبية» وحكى حكايتها على لسان ولده الدكتور محمد، أحس بالتعب والملل، وراجع ما كان من عمله في الأشهر الستة الماضية منذ بدأ يعمل في الرسالة وما عاد عليه، فضاقت نفسه وبرمت به، وأحس في نفسه شعورا جديدا ليس له به عهد، وقال لنفسه وقالت له، وثقل جسمه في الفراش مما يحمل في صدره من هم وما يضني جسده من علة، وخفت روحه إلى سمواتها، وتنازعته قوتان ... وهم أن يكتب إلى الأستاذ صاحب الرسالة ليعفيه من الاستمرار في العمل ... وطال الحديث بينه وبين نفسه فأرقه ليلة ...
Shafi da ba'a sani ba