84

وأقول: النادرة، وينبغي أن أقول الوحيدة، في تاريخ الآداب العالمية، فإنني لا أعرف في آداب المشرق أو المغرب نظيرا للمازني في هذه الملكة التي أسميها بعبقرية الترجمة.

إنه يترجم النثر في أسلوب كأسلوب الجاحظ وخالد بن صفوان، ويترجم الشعر في أسلوب كأسلوب البحتري والشريف، ثم لا يخرم في ترجمته حرفا من اللفظ، ولا لمحة من المعنى ... بل يأتي بالمقالة المترجمة أو القصيدة المترجمة في طبقة التأليف أو أعلى وأبلغ، ويعرض لك قصيدة الشاعر الأوروبي - العالمي - بلغة عربية لا يزيد عليها صاحب القصيدة شيئا لو أنه نظمها في لغة الضاد.

ولا يقل شعره المطبوع عن شعره المترجم في مزايا البلاغة والصقل والسلاسة، ومن دواعي الأسف الشديد أنه هدر وأنكر على نفسه الشاعرية، ومن دواعي الأسف الشديد أن عبقرية الترجمة التي انفرد بها لم تجد من ينفع بها العالم العربي، ويغني الفقيد بعمل من أعمالها الخالدة عن كتابة الضرورة أو كتابة الظروف ...

ولا تقل عن ملكة الترجمة فيه ملكة أخرى من أنفس الملكات التي يرزقها الأديب والفنان، وهي ملكة الملاحظة الدقيقة، والتعبير السهل القريب عما يلاحظه من المشاهدات والمناظر عن عرض أو روية.

كنز زاخر

ونعود فنقول: إننا نأسف أشد الأسف؛ لأن الفرص لم تهيئ له أسباب النفع بهذه الملكة في غير الأعمال الصحفية العاجلة، ولو تيسرت له موارد العيش، واستطاع أن يتفرغ للتأليف الذي يريده لأمتع الناس بالعجب العجاب في هذا الباب، ولظفر العالم العربي بثروة المازني كلها، وما أنفسها وما أجلها إذا كان هذا الذي اتسع له وقته وتهيأت له أسبابه جد نفيس جليل.

كنز زاخر ضيعنا منه ما ضيعنا وهو فيما بيننا، فإن تعلمنا شيئا من العبر فلنتعلم كيف نصون ما أبقاه، فإنه لخليق أن يبقى بقاء العربية في حرز أمين، وحسب العربية من فضله على أدبها أنه أثبت لها القدرة على مجاراة أحدث الآداب بأسلوبها الصحيح السليم.

ذكريات مع الذكريات

وأي ذكريات؟ وكم من ذكريات؟ وما أكرمها ذكريات ...!

إنها ذكريات الصبا في بواكيره ...

Shafi da ba'a sani ba