83

بهذه الدعابة البريئة - التي لا ضرر فيها على أحد - كان المازني يستقبل الدنيا، ويحتمل نقائضها ومفارقاتها، ويعفي نفسه من الجهد الذي يبرز للدنيا خير ملكاته، بل يحاول أن يستر هذه الملكات بيديه غير آسف على شيء!

قادر على نفسه

على أن المازني يصحح في هذا الباب خطأ يقع فيه أولئك الذين يحكمون على الأطوار النفسية بظواهرها وعناوينها، فيحسبون أن طبيعة الاستخفاف تقترن دائما بالعجز عن الجد، وصرامة الأخلاق.

والواقع أن الذين عاشروا المازني وخبروه يعلمون أنه من أقدر الناس على نفسه، وأصبرهم على رياضة طبعه، وأشدهم جلدا على مواقف الشدة والصرامة، وقد عانى من شدائد الأيام ما يقصم الظهر ويغشي آفاق الحياة بالظلام، فلم يكن يتغير لمن يلقاهم ويلقونه في هذه الأحوال إلا بالإكثار من المرح والتبسط ... فلا يعرف جليسه أنه في شدة إلا إذا تحول مزاجه إلى التكلف المحسوس.

وأنا أعلم من عاداته أنه كان مفرط الحس بالشم في مطلع شبابه على الخصوص، وكنا نمشي مسافات طويلة لتجنب المرور ببعض الأماكن التي تنبعث منها روائح الحانات والنفايات، ولكنه راض نفسه نحو ساعة على احتمال رائحة من أبغض الروائح إلى الأنوف؛ لأنه أراد أن يلقي درسا حاسما على محبي «الشيطنة» من التلاميذ.

وكان أولئك التلاميذ يجهلونه، ويجهلون أنهم يحاربونه في ميدانه حين يعمدون إلى ضروب المعاكسات المدرسية التي يغيظون بها طائفة من المعلمين، فانتظروا حصته ووضعوا في المخابر حمضا كريه الرائحة لا يطاق في مكان محصور، وسبق إلى وهمهم أن الحصة ستضيع في السؤال والجواب عن هذه الرائحة وعن مصدرها وعن واضعها، وعن المكان الذي جاء به منها - وهو بطبيعة الحال معمل الكيمياء في المدرسة - ولكنهم لم يلبثوا هنيهة بعد دخوله إلى الفصل حتى أدركوا أنهم في وهم بعيد؛ لأنه لم يسأل ولم يغضب ولم يبد عليه أنه فطن لشيء غريب، ولم يزد على أنه مضى بنفسه إلى النوافذ، فأغلقها وإلى الباب فأغلقه، وأخذ في الدرس وهو على أتم راحة ونشاط، وكلما اشتد الضيق بالشياطين الذين انقلبت عليهم فعلتهم تصايحوا يسألونه فتح النوافذ والأبواب، وهو يزعم لهم في جد وسكون أن الحجرة المغلقة أصح من تيار الهواء، وكان ذلك هو الامتحان الأول والأخير!

ملكة نادرة ...!

وليس أعلم من المؤلفين بالمشقة التي يعانيها الكاتب إذا حاول أن يعيد الكتابة في موضوع من جديد، فإنها مشقة جهد ومشقة ملل في وقت واحد، ولكنني رأيت المازني يعيد كتابة المقرر في التاريخ لبعض الفرق الثانوية تأديبا لرجل من الناشرين خدعه في طبع الكتاب المقرر لتلك الفرق، فأعلن أنه غير راض عن النسخة المطبوعة، وأنه سيطبع المذكرات على التوالي بعد إعادة تحضيرها، وصبر على هذا الجهد الممل ليملي على إخوان الأمانة درسا في عاقبة الخيانة والخداع.

إلا أنني أظلم ملكات المازني كلها إذا رجعت باحتماله لهذه المشقة المملة إلى الإرادة دون غيرها.

فإن الذكاء المفرط في الحقيقة هو صاحب الفضل الأول في صبره على جهد الإعادة ومللها؛ لأنه كان يستطيع أن يفتح المرجع التاريخي الضخم في اللغة الإنجليزية، وأن يلخصه وهو يقرءه، وأن يترجمه وهو يلخصه، وأن يكتبه على ورق الآلة الناسخة في وقت واحد، وهي أربعة جهود يجمعها ذكاء المعلم النابغة في لحظة واحدة: جهد القراءة، وجهد التلخيص، وجهد الترجمة، وجهد التحضير، إلا أن السرعة في الفهم والترجمة الصحيحة أهون ما في هذه الملكة النادرة ...

Shafi da ba'a sani ba