56

ويجوز أنني كنت أطيق في تلك الغاشية أن أوفي القربان المطلوب بتصنيف كتاب من وحي الساعة والمناسبة، ولكنني عدلت عنه لضيق الوقت، والشك في اتساع الأجل ... ويجوز أنني قنعت بما تيسر ووجدت أن الخطب أهون من أن أتكلف له عملا أحاوله، وأستنفد به الفضلة الباقية من مطالب العمر المحدود ... فإذا كان ما تيسر كافيا فذاك، وإن كان للمجد ضريبة أغلى مما تيسر فله أن يتقاضاها حيث يلقاها ... فلا خير في وجود بغير الموجود ...

وما تيسر يومئذ هو «خلاصة اليومية».

يوميات اليأس!

و«اليومية» هذه هي دفتر صغير كنت أقيد فيه الخواطر والتعليقات، وأبادر إلى إيداعه أبيات الشعر التي نظمتها ولم أتممها قبل أن أنساها، أو رءوس الموضوعات التي نظرت فيها ولم أفرغ من دراستها، أو ملاحظات الطريق ونوادر الأحاديث العابرة التي أعاودها في مناسباتها، وقد اجتمع عندي من هذه اليوميات دفاتر ثلاث سنوات ... فلما وقع في وهمي أنني سأذهب - بغير أثر ولا خبر - تصفحت هذه الدفاتر، ونقلت منها صفحات متفرقة تشتمل على جميع نماذجها، وبعثت بها إلى صديق في القاهرة أقول له: إن هذه الصفحات هي كل ما أتركه إذا تركت الحياة، فإن وجدني أهلا للذكر ووجدها أهلا للنشر فتلك كرامة الصديق الراحل على الصديق الباقي، وإلا فلا حرج عليه أن يهمل نشرها ويسلمها للنسيان يطويها حيث طواها في زاوية من زواياه ...

ولبثت هذه «الخلاصة» المخطوطة سلاحا من أسلحة الفكاهة والنكاية يشحذه إخواننا الذين عرفوا القصة ولم يتورعوا عن استغلالها ... فمنهم من يقول متململا: متى تظهر خلاصة اليومية؟ لقد طال الأمد على انتظارها ... ومنهم من يقول مستمهلا كلما شكرت أو التمست العلاج: على رسلك بالله ...! إن المطابع مشغولة في هذه الأيام ... فاصبر هنيهة حتى تفرغ لطبع خلاصتك وأمثالها ...!

وما برحوا يستعجلونني ويستمهلونني حتى أرحتهم وأرحت نفسي بطبع خلاصة اليومية بعد أن أضفت إليها وحذفت منها، وكان من التوفيقات التي لم أترقبها أنها نفدت في أقل من ستة شهور، فلم يبق من ألفي نسخة طبعتها منها غير مائة أو نيف ومائة، وهو نجاح غريب لكتاب ولدته فكرة يائسة من الحياة ...

الأكاذيب المتفق عليها!

ولقد عاش معي وهم الموت حقبة في أسوان، وعاش معي حقبة أخرى في القاهرة ... بعد أن رجعت إليها في وقدة الصيف، ولكنني التفت فلم أجده معي في شاطئ الإسكندرية يوم ذهبت إليها لأول مرة، بل وجدتني مع عرائس البحر وعرائس الشعر في لجة من لجج الأمل والمغامرة، وبرحت الإسكندرية بعد شهرين لأبحث عن عمل بالقاهرة ... أين؟ أفي الصحافة؟ كلا ... فما زالت الصحافة في مثل محنتها التي عهدتها يوم انتهيت من عملي فيها ... أفي التدريس؟ ... كلا أيضا ... فإن المدارس قد بدأت عملها، ولا معرفة لي بأحد من أصحابها ...

ولم يطل بحثي هذه المرة؛ فإنني وجدت «المأوى» الذي لا بد منه في عمل بين الصحافة والوظيفة، أو بين خدمة الميري والخدمة الحرة، فعملت في قلم السكرتارية بديوان الأوقاف ...

كان الأستاذ «عبد الرحمن البرقوقي» - رحمه الله - قد أصدر مجلته «البيان»، وكتبت فيها بعض الفصول، ومنها تلخيص لكتاب «ماكس نوردو» المشهور عن أكاذيب المدنية الحاضرة ...

Shafi da ba'a sani ba