الغرانيق وتبوك
ثم إن ما ورد في كتب السيرة والحديث عن المعجزات قد اختلف فيه أحيانا. وقد كان على الرغم من ثبوته في كتب الحديث موضع النقد أحيانا أخرى، وقد أشرنا إلى مسألة الغرانيق في هذا التقديم وذكرناها مفصلة في الكتاب. وقصة شق الصدر قد وقع الاختلاف فيها على ما روته حليمة ظئر النبي عنها لأمه، كما وقع على الزمن الذي حدثت فيه من سن محمد وما روت كتب السيرة وكتب الحديث عن قصة زيد وزينب مردود من أساسه، للأسباب التي أبديناها عند الكلام عن هذه القصة في أثناء الكتاب. وقد وقع مثل هذا الاختلاف على ما حدث أثناء مسيرة جيش العسرة إلى تبوك: فقد روى مسلم في صحيحه عن معاذ بن جبل أن النبي قال لمن سار معه إلى تبوك: إنكم ستأتون إن شاء الله غدا عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار: فمن جاء منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي. فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء. قال: فسألهما رسول الله: هل مسستما من مائها شيئا! قالا: نعم؛ فسبهما النبي وقال لهما ما شاء الله أن يقول. قال: ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء. قال: وغسل رسول الله فيه يديه ووجهه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر - أو قال غزير، شك أبو علي أيهما قال - حتى استقى الناس. ثم قال: «يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا.»
8
فأما كتب السيرة فتروي قصة تبوك على صورة أخرى لا يرد فيها ذكر المعجزة، وإنما تجري فيها الرواية على نحو غير ما ورد في صحيح مسلم. من ذلك ما رواه عنها ابن هشام إذ قال: «قال ابن إسحاق: فلما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول الله فدعا رسول الله، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء. قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد عن رجال من بني عبد الأشهل، قال: قلت لمحمود: هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم؟ قال: نعم! والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمه وفي عشيرته ثم يلبس بعضهم بعضا على ذلك. ثم قال محمود: لقد أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين معروف نفاقه كان يسير مع رسول الله حيث سار؛ فلما كان من أمر الماء بالحجر ما كان ودعا رسول الله حين دعا فأرسل الله السحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس قالوا: أقبلنا عليه نقول: ويحك! هل بعد هذا شيء؟ قال: سحابة مارة.»
وهذا الاختلاف في الوقائع يجعل تأكيدها والقطع بها أمرا غير ميسور في نظر العلم. ويقتضي الذين يمحصونها ألا يقفوا عند القول بالراجح والمرجوح قولا لا يثبت إحدى الروايتين ولا ينفي الأخرى؛ وأقل ما يجب عليهم إذا لم تثبت الرواية عندهم أن يغفلوها؛ فإذا عثر غيرهم من بعد على الأدلة اليقينية عليها فذاك، وإلا بقيت غير ثابتة ثبوتا علميا.
طريقتي في البحث
هذه هي الطريقة التي جريت عليها منذ بدأت هذا البحث في حياة محمد صاحب الرسالة الإسلامية. وأنا منذ اعتزمت القيام بهذه الدراسة إنما أردتها دراسة علمية على الطريقة الحديثة خالصة لوجه الحق، ولوجه الحق وحده. ذلك ما قلت في تقديم هذا الكتاب، كما رجوت في خاتمة طبعته الأولى أن أكون قد وفقت لتحقيق ما قصدت إليه، وأن يكون البحث قد تم بحثا علميا لوجه الحقيقة العلمية وحدها، وأن أكون قد مهدت به السبيل إلى مباحث في موضوعه أكثر استفاضة وعمقا، تجلو أمام العلم من المسائل النفسية والروحية ما يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي تلتمسها. وما أشك أن التعمق في البحث يكشف عن أسرار كثيرة ظن الناس زمنا أن لا سبيل إلى تعليلها، ثم إذا مباحث علم النفس تفسرها وتجلوها واضحة للمتعقلين. وكلما وقعت الإنسانية على أسرار الكون الروحية والنفسية ازدادت صلة بالكون، وازدادت سعادة بهذه الصلة؛ كما أنها ازدادت استمتاعا بما في الكون لما ازدادت اتصالا بأسرار القوة والحركة الكمينة فيه حين عرفت الكهربا والأثير.
من أجل ذلك كان خليقا بكل من يتصدى للبحث في مثل هذا الموضوع أن يتوجه به إلى الإنسانية كلها لا إلى المسلمين وحدهم. فليست الغاية الصحيحة منه دينية محضة كما قد يظن بعضهم، بل الغاية الصحيحة منه أن تعرف الإنسانية كيف تسلك سبيلها إلى الكمال الذي دلها محمد على طريقه، وإدراك هذه الغاية غير ميسور إذا لم يهتد الإنسان إلى هذه السبيل بمنطق عقله ونور قلبه. راضي النفس بهذا المنطق، منشرح الصدر إلى هذا النور؛ لأن مصدرهما المعرفة الصحيحة والعلم الصحيح. فالتفكير الذي لا يعتمد على المعرفة الدقيقة ولا يتقيد مع ذلك بالطرائق العلمية، كثيرا ما يعرض صاحبه لأن يخطئ ويكبو، وكثيرا ما ينأى لذلك به عن محجة الحق، فطبيعتنا الإنسانية تجعل تفكيرنا يتأثر بمزاجنا تأثرا عظيما، وكثيرا ما يختلف المتساوون علما في تفكيرهم لغير سبب إلا اختلاف أمزجتهم مع إخلاصهم جميعا في القصد والغاية. فمن الناس العصبي المزاج الحاد التفكير، السريع إلى الاندفاع فيه. ومنهم الصوفي النزعة، الرواقي المزاج، الزاهد في المادة وآثارها، ومنهم المادي الهوى، المتأثر بماديته تأثرا يحول بين تفكيره وبين ما يحسه من قوى تحيط به هي التي تسيطر على المادة. وغير هؤلاء كثيرون تختلف أمزجتهم ويختلف لذلك نظرهم إلى الأمور وتقديرهم إياها. وهذا الاختلاف نعمة كبرى على الإنسانية في ميادين الفن وفي الحياة العلمية، لكنه نقمة على العلم وعلى التفكير القائم على أساسه ابتغاء أمثال الحياة العليا لخير الإنسانية جمعاء. ودراسة التاريخ يجب أن تكون غايتها نشدان الأمثال العليا من حقائق الحياة، ويجب لذلك أن يتجنب من يدرس التاريخ سلطان الهوى وحكم المزاج. ولا سبيل إلى تجنبها إلا أن يتقيد الإنسان بالطريقة العلمية أدق التقيد، وألا يجعل من العلم والبحوث العلمية في التاريخ أو غير التاريخ مطية لإثبات هوى من أهوائه أو نزوة من نزوات مزاجه.
بحوث المستشرقين
ولقد تأثر كثير من المستشرقين في بحوثهم التي صيغت صيغة العلم بأهواء أمزجتهم، وكذلك فعل كثيرون من كتاب المسلمين، وأعجب الأمر في هؤلاء وأولئك أن يتخذ كل مما تزينه نزوات مزاج الآخر من الوقائع ما يقيمه أساسا لكتابة يزعمها علمية ابتغى بها وجه الحق، في حين هو يتأثر فيها بمزاجه وبهواه أشد التأثر. ودليل ذلك لو كلف نفسه بعض الجهد في تمحيص ما كتب الآخر تمحيصا نزيها لتداعت أمام نظره الوقائع التي أبدعها خيال صاحبه. ولو أنه فعل وتجرد جهد طاقته من هوى نفسه، وتحصن بقواعد العلم وطرائقه، لكانت كتابته أبقى في النفوس أثرا على خلاف الكتابة التي يدفع إليها الهوى. وقد حاولت أن أبين شيئا من أخطاء هؤلاء وأولئك في هذا التقديم للطبعة الثانية، متوخيا في ذلك ما اقتضاه المقام من إيجاز غاية الإيجاز. ولعلي وفقت لبعض ما قصدت إليه من نزاهة وإنصاف.
Shafi da ba'a sani ba