وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون * ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون .
7
ولم يرد في كتاب الله ذكر لمعجزة أراد الله بها أن يؤمن الناس كافة، على اختلاف عصورهم، برسالة محمد إلا القرآن الكريم. هذا مع أنه ذكر المعجزات التي جرت بإذن الله على أيدي من سبق محمدا من الرسل، كما أنه جرى بالكثير مما أفاء الله على محمد وما وجه إليه الخطاب فيه. وما ورد في الكتاب عن النبي العربي لا يخالف سنة الكون في شيء.
المعجزة الكبرى
أما وذلك ما يجري به كتاب الله وما يقتضيه حديث رسول الله، فأي داع دعا طائفة من المسلمين فيما مضى ويدعو طائفة منهم اليوم إلى إثبات خوارق مادية للنبي العربي؟ إنما دعاهم إلى ذلك أنهم تلوا ما جاء في القرآن عن معجزات من سبق محمدا من الرسل، فاعتقدوا أن هذا النوع من الخوارق المادية لازم لكمال الرسالة فصدقوا ما روي منها وإن لم يرد في القرآن، وظنوا أنها كلما ازداد عددها كانت أدل على هذا الكمال وأدعى إلى أن يزداد الناس بالرسالة إيمانا. ومقارنة النبي العربي بمن سبقه من الرسل مقارنة مع الفارق. فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، وهو مع ذلك أول رسول بعثه الله للناس كافة ولم يبعثه إلى قومه وحدهم ليبين لهم. لذلك أراد الله أن تكون معجزة محمد معجزة إنسانية عقلية، لا يستطيع الإنس والجن الإتيان بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. هذه المعجزة هي القرآن وهي أكبر المعجزات التي أذن الله بها. وقد أراد جل شأنه منها أن تثبت رسالة نبيه بالحجة البينة والدليل الدامغ، وأراد لدينه أن ينتصر بفضل منه في حياة رسوله، ليرى الناس في انتصاره قوة سلطانه، ولو أراد الله أن تكون المعجزة المادية وسيلة إلى اقتناع من نزل الإسلام على رسوله بينهم، لكانت ولذكرها في كتابه. لكن من الناس من لا يصدقون إلا ما يقره العقل؛ لذلك كانت الوسيلة إلى إقناع الناس كافة برسالة محمد أوثق ما تكون اتصالا بقلوبهم وعقولهم، فجعل الله القرآن، حجته البالغة، معجزة النبي الأمي إليهم، وجعل انتصار دينه وقوة الإيمان به آتيين من طريق الدليل اليقيني والاقتناع الصادق، والدين الذي يقوم على هذا الأساس أدعى إلى أن يؤمن الناس جمعيا به، على مر العصور واختلاف الأمم وتباين اللغات.
ولو أن أمة غير مسلمة آمنت اليوم بهذا الدين ولم تحتج إلى التصديق بمعجزة غير القرآن لتؤمن، لما طعن ذلك في إيمانها ولا نقص من إسلامها. فما دام الوحي لم ينزل بها فلا جناح على من يؤمن بالله ورسوله أن يجعل ما يتصل به من أمرها محل تمحيص؛ فما ثبت بالحجة اليقينية أخذ به، وما لم يثبت بها فله فيه رأيه، ولا تثريب عليه. فالإيمان بالله وحده لا شريك له لا يحتاج إلى معجزة؛ ولا يحتاج إلى أكثر من النظر في هذا الكون الذي خلقه الله. والشهادة برسالة محمد، الذي دعا الناس بأمر ربه إلى هذا الإيمان وجنبهم ما يزيغ قلوبهم عنه، لا تحتاج إلى معجزة غير القرآن، ولا تحتاج إلى أكثر من تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه.
الإيمان عند أئمة المسلمين
ولو أن أمة غير مسلمة آمنت اليوم بهذا لدين من غير حاجة إلى التصديق بمعجزة غير القرآن، لكان الذين آمنوا من أبنائها أحد رجلين: رجل لم يتلجلج قلبه ولم يتعثر فؤاده، بل هداه الله إلى الإيمان أول ما دعي إليه، كما هدى أبا بكر، فآمن وصدق من غير تردد، وآخر لم يلتمس إيمانه فيما وراء سنة الكون من خوارق، بل التمسه في خلق هذا الكون الفسيح الأرجاء الذي يقصر تصورنا دون إدراك حدوده في الزمان أو في المكان، وتجري أموره مع ذلك على سنن لا تحويل لها ولا تبديل، فاهتدى من سنة الله في الكون إلى بارئه ومصوره. سواء عند هذين أكانت الخوارق أم لم تكن، بل هما لا يفكران في هذه الخوارق إلا على أنها من آيات فضل الله. ومثل هذا الإيمان يراه الكثيرون من أئمة المسلمين مثلا أسمى في الإيمان، ويذهب بعضهم كذلك إلى أن الإيمان الصحيح يجب ألا يكون مصدره خوفا من عقاب الله أو طمعا في ثوابه، بل يجب أن يكون إيمانا خالصا بالله وفناء تاما فيه. إليه يرجع الأمر كله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
المؤمنون في حياة النبي
مثل الذين يؤمنون اليوم بالله ورسوله من غير أن تحملهم المعجزات على الإيمان، كمثل الذين آمنوا بالله ورسوله في حياة النبي العربي. فلم يذكر التاريخ أن المعجزات حملت أحدا منهم على أن يؤمن؛ بل كانت حجة الله البالغة عن طريق الوحي على لسان نبيه، وكانت حياة النبي، في سموها البالغ غاية السمو، هي التي دعت إلى الإيمان من آمن منهم. وإن كتب السيرة جميعا لتذكر أن طائفة من الذين آمنوا برسالة محمد قبل الإسراء قد ارتدت عن إيمانها حين ذكر النبي أن الله أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله. ولم يؤمن سراقة بن جعشم، لما اتبع محمدا حين هجرته إلى المدينة ليأتي أهل مكة به حيا أو ميتا طمعا في مالهم، على رغم ما روت كتب السيرة من معجزة الله في سراقة وفي جواده. ولم يذكر التاريخ أن مشركا آمن برسالة محمد لمعجزة من المعجزات، كما آمن سحرة فرعون لما لقفت عصا موسى ما صنعوا.
Shafi da ba'a sani ba