218

هذا هو الإيمان الذي دعا الإسلام إليه، وهو ليس هذا الإيمان الذي يسمونه إيمان العجائز، إنما هو إيمان المستنير المستيقن الذي نظر ونظر، ثم فكر وفكر، ثم وصل من النظر والتفكير إلى اليقين بالله جلت قدرته، وما أحسب رجلا نظر بعقله وقلبه ثم لم يهتد إلى الإيمان، وهو كلما أنعم نظره وأطال تأمله وتدبره، وحاول الإحاطة بالزمان والمكان وما تشتمله وحدتهما التي لا نهاية لها من عوالم دائمة المور، شعر بنفسه ذرة من هذه العوالم تجري كلها على سنن تمسكها، وإلى غاية عند بارئها علمها، وتيقن من ضعفه وقصور علمه إذا لم يستعن على إدراك هذا الوجود بقوة فوق حسه وفوق عقله، تصل بينه وبين هذه العوالم جميعا، وتجعله يشعر بمكانته منها. وتلك قوة الإيمان.

فالإيمان إذن شعور روحي يحس به الإنسان يملأ نفسه كلما اتصل بالكون وفني في لا نهاية المكان والزمان، وامتثل الكائنات كلها في نفسه، فرآها تجري كلها على سنن تمسكها، ورآها كلها تسبح بحمد ربها؛ بارئها ومنشئها. أما أنه جل شأنه ماثل فيها متصل بها، أو هو مستقل بنفسه منفصل عنها، فهذه مضاربات جدلية عقيمة تضل ولا تهدي، وتضر ولا تنفع. وهي بعد لا تزيدنا علما. ولقد طالما أجهد الكتاب والفلاسفة أنفسهم يحاول بعضهم حلها، ويحاول بعضهم معرفة جوهر الخالق جل شأنه، فذهب جهدهم عبثا، وأقر بعضهم بأنها فوق ما نطيق إدراكه. ولئن قصر عقلنا دون هذا الإدراك ليكونن هذا القصور أدنى إلى تثبيت إيماننا. فشعورنا اليقيني بوجوده جل شأنه وبإحاطته بكل شيء علما، وبأنه الخالق المصور إليه يرجع الأمر كله، من شأنه أن يقنعنا بأنا لن نستطيع أن ندرك كنهه على شدة إيماننا به، وإذا كنا حتى اليوم لا ندرك ما الكهربا وإن شهدت أعيننا آثارها، وكانت تكفينا هذه الآثار لنؤمن بالكهربا والأثير، فما أشدنا غرورا ونحن نشهد كل يوم من بديع صنع الله إذا نحن لم نؤمن به حتى نعرف كنهه، تنزه جل شأنه عما يصفون.

والواقع في الحياة أن الذين يحاولون تصوير ذاته جل شأنه هم الذين يعجز إدراكهم عن السمو إلى تصور ما فوق حياتنا الإنسانية، والذين يريدون أن يقيسوا الوجود وخالق الوجود بمقاييسنا النسبية المحصورة في حدود علمنا القليل. أما الذين أوتوا العلم حقا فيذكرون قوله تعالى:

ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا

4

وتمتلئ قلوبهم إيمانا بخالق الروح وخالق الكون كله ، ثم لا يزجون بأنفسهم في مضاربات عقيمة لا ثمرة لها ولا نتيجة.

ويفرق القرآن بين الإسلام بعد الإيمان والإسلام دون إيمان. يقول تعالى:

قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم .

5

فمثل هذا الإسلام إذعان لدعوة الداعي عن رغبة أو رهبة أو إعجاب وتقديس دون امتثال النفس هذه الدعوة وفهمها إياها إلى حد الإيمان بها. فصاحبه لم يهده الله للإيمان عن طريق النظر في الكون ومعرفة سننه، والاهتداء من هذا النظر وهذه المعرفة إلى خالقه، وإنما أسلم لرغبة أو هوى أو لأنه وجد آباءه مسلمين. وهو لذلك لم يدخل الإيمان في قلبه على رغم إسلامه. من أمثال هذا المسلم من يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا. وهؤلاء الذين يسلمون دون إيمان، وإنما يسلمون عن رغبة أو رهبة أو هوى، تظل نفوسهم ضعيفة وعقائدهم مزعزعة وقلوبهم مستعدة للإذعان للناس والخضوع لأمرهم. فأما الذين تصل عقولهم وقلوبهم إلى أن تؤمن بالله من طريق النظر في الكون إيمانا صادقا، يدعوهم إلى أن يسلموا لله وحده أمرهم، فأولئك لا يعرفون لغير الله خضوعا ولا إذعانا. وهم لا يمنون على أحد إسلامهم

Shafi da ba'a sani ba