Rayuwar Tunani a Duniyar Sabuwa
حياة الفكر في العالم الجديد
Nau'ikan
الفلاسفة يتشبهون بالعلماء
(1) الواقعية الجديدة
كان غرور الإنسان منذ أقدم عصوره قد خيل له امتيازا لنفسه عن سائر الكائنات؛ فهو ذو عقل وبقية الكائنات لا عقول لها، فإن كان يبدو في رأي العين واللمس أنه جسد كسائر الأجساد، فذلك جانب منه ظاهر، وأما جانبه الآخر الخفي، جانبه الحقيقي؛ فهو عقله أو نفسه أو روحه، أو ما شئت من هذه الألفاظ التي تتفق على الإشارة إلى ما ليس بجسد من حقيقة الإنسان، وإذن فالإنسان في حقيقته عنصران مختلفان: جسم يشترك في طبيعته مع ما في الطبيعة من أجسام، وعقل يمتاز به من سواه، ثم وسع الإنسان رقعة هذا التخيل الذي أوهم به نفسه عن طبيعته، حتى شمل به الكون كله، بحيث جعل هذا الكون أيضا ذا عنصرين: طبيعة مادية، يكمن فيها أو وراءها أو فوقها عقل كبير يسيرها ويدبرها كما يسير عقل الإنسان جسده ويدبره.
هكذا لبث الإنسان قرونا طويلة يعتز بنفسه إذا قيست إلى سائر الكائنات، وبكوكبه الأرضي إذا قيس إلى سائر الكواكب؛ إذ لبث يتوهم طوال تلك القرون أنه في هذا الكون سيد مكرم، من أجله خلق العالم، وحول أرضه تدور الكواكب.
ثم جاء العلم الحديث، فلم يزل به خطوة بعد خطوة، كاشفا له عن حقيقة نفسه، مزيحا لهذه الغشاوة عن عينه، حتى أوشك آخر الأمر أن يقنعه بأن أرضه كوكب كسائر الكواكب، وبأنه هو نفسه ظاهرة طبيعية كسائر الظواهر، وبدأت مجهودات العلم في هذا السبيل ب «كوبرنيق» (في القرن السادس عشر) الذي أثبت أن الشمس - لا الأرض - هي مركز المجموعة الشمسية، حولها تدور أجزاء تلك المجموعة ومن بينها الأرض، وإذن فالأرض مسكن الإنسان هي كغيرها جرم يدور حول الشمس، لا يزيدها شرفا عن غيرها أن الإنسان يسكنها.
فأخذ الإنسان بعد هذه الضربة العلمية لغروره، يعزي نفسه ويغذي غروره بأنه وإن زالت عن الأرض مكانتها الممتازة بين سائر أخواتها الكواكب، فلا يزال الإنسان بين سائر الكائنات التي تسكن تلك الأرض صاحب امتياز وسيادة، وهنا جاءت الخطوة العلمية الثانية على يدي «دارون»؛ إذ أوضح له بنظريته في التطور أنه كغيره من الكائنات الحية حلقة في سلسلة التطور، وأنه كغيره من تلك الكائنات نتيجة لعوامل الانتخاب الطبيعي الذي يمحو ما ليس يصلح للبقاء في هذه المعركة الدائمة بين الطبيعة من ناحية، وبين صنوف الكائنات الحية من جهة أخرى.
فاستمسك الإنسان بآخر حصن له في الاعتداد بنفسه، وراح يقنع نفسه بأنه وإن تكن العوامل الطبيعية قد أمدت كل ضرب من ضروب الأحياء بالوسيلة التي تعينه على دوام البقاء؛ فقد كانت الوسيلة التي اختصت بها الإنسان هي أرقى الوسائل؛ إذ وسيلته في معركة البقاء هي العقل، بينما وسائل الكائنات الأخرى في تلك المعركة ذاتها هي الغرائز، وها هنا جاءت الضربة العلمية الثالثة على يدي «فرويد» الذي أزاح آخر ما بقي لنا من قناع الوهم؛ إذ بين لنا كيف نصدر في سلوكنا عن اللاشعور لا عن العقل، وإن خيل إلينا أن سلوكنا ذاك صادر عن عقل ومنطق.
هكذا انتهى العلم إلى «تطبيع العقل» - إن صحت هذه العبارة - أي إلى جعل «العقل» جزءا من الطبيعة وظاهرة من ظواهرها، فأزال بذلك تلك الثنائية التي ظلت شغل الفلسفة الشاغل منذ «ديكارت» الذي شطر الإنسان شطرين؛ فعقل طبيعته التفكير من ناحية، وجسم طبيعته الامتداد من ناحية أخرى، ولو جاز لنا أن نلخص أهم مجهودات الفلاسفة في هذه العصور الحديثة منذ «ديكارت» إلى يومنا هذا في عبارة واحدة موجزة قصيرة، لقلنا إنها مجهودات منصبة حول مشكلة «المعرفة» التي تترتب على هذه الثنائية التي شقت الإنسان نصفين، فما وسيلة العقل إلى معرفة عالم الأجساد، أي عالم الأشياء، أو الطبيعة، إذا كان العقل على هذا الاختلاف كله عن موضوع معرفته؟ كيف يتصل العقل بالمادة ليعرفها؟
لكن وجهة النظر الحديثة إن تكن قد انتهت إلى «تطبيع العقل» - كما قلنا - فقد اقتضى ذلك بالبداهة إلى «تعقيل الطبيعة» في الوقت نفسه؛ إذ أين نذهب بهذه الظاهرة ذات الطابع الخاص المميز، ظاهرة السلوك المعين الذي اصطلحنا على تسميته «عقلا»، أين نذهب بهذه الظاهرة إن لم ندمجها في ظواهر الطبيعة الأخرى، باعتبارها واحدة منها، وبذلك نكون - بفعلة واحدة - قد جعلنا العقل طبيعة، كما جعلنا الطبيعة محتوية على عقل، واذكر ما أسلفناه لك في الفصل السابق من المذهب البراجماتي الذي جعل الفكرة عملا، واذكر كذلك نظرية «وليم جيمس» فيما أسماه بالتجريبية المتطرفة، التي كان من أجزائها رده العقل والمادة إلى أصل واحد محايد لا هو بالعقل ولا هو بالمادة، بل يرتب على نحو فيكون عقلا، ثم يرتب على نحو آخر فيكون مادة.
وإنما نقول ذلك كله لنقرر به أثرا من آثار سيادة العلم في عصرنا الحديث على التفكير الفلسفي، لكن الأثر الأكبر للعلم الحديث على الفلسفة الحديثة - في رأيي - ليس هو في اصطناع الفلسفة لفكرة معينة وانتهائها إلى رأي بذاته، بل هو في انتهاج الطريقة العلمية في التفكير، بعد أن كان للفلسفة طريقتها الخاصة بها، كان الفيلسوف فيما مضى وحدة فكرية قائمة بذاتها - مهما تكن علاقته بسابقيه ومعاصريه ولاحقيه - لأنه كان دائما يستهدف بعمله الفلسفي إقامة بناء كامل، ونسق شامل يسع كل شيء، ويفسر كل شيء، فكان يتخذ لنفسه مبدأ يدركه بالحدس، ثم يستنبط من ذلك المبدأ نتائجه، ثم النتائج التي تترتب على هذه النتائج، وهكذا، حتى يتكامل البناء من سقفه الأعلى إلى أرضه السفلى، وإذا بهذا البناء فيه عن كل جوانب الوجود ما يفسرها في ضوء ذلك المبدأ، حتى إذا ما جاء فيلسوف آخر، ولم يعجبه هذا البناء، أقام لنفسه بناء آخر من سقفه الأعلى إلى أرضه السفلى، ليسع هو الآخر كل شيء ويفسر كل شيء على ضوء مبدأ جديد، وهلم جرا.
Shafi da ba'a sani ba