Rayuwar Tunani a Duniyar Sabuwa
حياة الفكر في العالم الجديد
Nau'ikan
فالفيلسوف - في رأي «ديوي» - إذا ما تنكر للحوادث في تغيرها الدائب، انتظارا منه للحق الثابت، فإنما يقطع الصلة بينه وبين الكون الذي يزعم أنه موضوع تفكيره وتحليل عملية التفكير على النحو الذي أسلفناه، هو في ذاته دليل على أن قوام الطبيعة حوادث تطرأ ويتغير مجراها؛ إذ ما دام التفكير لا يكون إلا بتغيير عناصر الموقف الذي نفكر فيه، فالعالم إذن طبيعته تسمح بهذا التغير، ولا يقين هناك ولا ثبات؛ لأننا في كل موقف وعند كل مشكلة ننتظر نتائج الخطة التي ننفذها، غير موقنين بنجاحها، حتى إذا ما نجحت كانت صوابا أو أخفقت كانت خطأ.
خذ هذا المنظار وانظر به إلى بعض المشكلات الإنسانية الكبرى، وكيف كان يتناولها الفلاسفة الأقدمون، وأولها مشكلة الأخلاق: فمتى يكون الفعل فضيلة؟ إنك لو استثنيت المذهب المنفعي في الأخلاق - وهو مذهب «بنثام» و«مل» في إنجلترا - الذي يقيس أخلاقية الفعل بنتائجه في حياة الإنسان، وجدت الكثرة الغالبة من سائر المذاهب الفلسفية تضع للفضيلة معيارا فرض على الحياة الإنسانية من خارج، فالمعيار آنا يكون دينيا هبط من السماء كالوصايا العشر مثلا، فإذا كان الإنسان لا ينبغي له أن يقتل أو أن يسرق، فلأن أمرا نزل إليه من السماء بألا يقترف إثما كهذا، والمعيار آنا آخر يكون عقليا، فيقول لك الفيلسوف الذي يسند الأخلاق إلى حكم العقل - مثل «كانت» - إن الفعل يكون فضيلة؛ لأن منطق العقل يقره، بمعنى أنه لا يقتضي من النتائج ما ينقض بعضه بعضا، فالقتل - مثلا - رذيلة وإثم؛ لأنه لو عم الناس جميعا لما بقي هناك من الناس قاتل، وإذن فسيفنى الفعل نفسه، أي ينقض نفسه بنفسه وهكذا، لكن هذه المذاهب في الأخلاق تغض النظر عن حياة الإنسان بتفصيلاتها، كأنما الإنسان حقيقة مجردة قائمة في الفراغ، وليس متصلا بأقوى الوشائج مع بيئته وظروفها، كيف تنمو الشجرة إلا باتصالها بتربة الأرض وضوء الشمس؟ الشجرة النامية جزء من كل عضوي لا يمكن تصورها وحدها معزولة مفصولة عن سائر الظروف التي تحيط بها، وكذلك الإنسان حين يعمل ويسلك في حياته، وإذن فيستحيل الحكم على أفعاله إلا وهي منبعثة من ظروف معينة وفي محيط معين وإزاء مشكلة معينة؛ ولذلك لا يمكن أن تستقل «الأخلاق» علما قائما بذاته لا يتصل بسائر العلوم؛ لأن الأفعال الإنسانية التي هي موضوع البحث عند «الأخلاق» هي تعبير عن الطبيعة البشرية التي تتعاون على دراستها وفهمها طائفة من علوم، لا علم واحد بذاته، ودارسة هذه الطبيعة البشرية واجبة، لا لنعرف ما هي، ثم نقف بعد ذلك بأيد مكتوفة على صدورنا، بل ندرس الطبيعة البشرية - كما ندرس أية ظاهرة أخرى - لنمسك بزمامها ونعرف كيف نغيرها لتلائم بيئتها وظروفها، وإذا كان هذا هكذا، فالأمر في «الأخلاق» إنما يتخذ موقفا وسطا بين طرفين؛ فلا هو يتنكر للحوادث الجزئية المتغيرة حبا منه لمثل أعلى يتصف بالثبات والدوام على مر الزمان واختلاف المكان - كما يفعل المثاليون - ولا هو يقبل الواقع كما هو ليخضع له دون أن يغير منه - كما يفعل الواقعيون، ولكنه يتناول هذا الواقع نفسه بالتغيير ليسير به نحو قيم خلقها الإنسان لنفسه بوحي من ظروفه، وتلك هي «الأخلاق» التجريبية كما فهمها «ديوي»، وهي - في رأيه - الأخلاق التي تحقق للإنسان حريته؛ إذ لا معيار له في أخلاقه إلا حياته ومشكلاته هو وطريقته هو في حل تلك المشكلات حلا موفقا ناجحا، ثم هي الأخلاق التي تحقق للإنسان ديمقراطيته بمعناها الصحيح؛ لأن مبدأه الأول سيكون استعداده لتغيير ما يحتاج إلى تعديل وتبديل في حياته الاجتماعية، وليس هو الطاعة العمياء لسابقة مر زمانها وانقضى، وهبطت إلينا في ثوب من العرف أو التقليد.
23
المثل الأعلى للمجتمع الديمقراطي هو أن يتعاون الناس معا كما يتعاون العلماء في المعمل، فالقاعدة الأولى هي - إذن - «الإخاء» بمعنى التعاون، ومن هذه القاعدة تتفرع «الحرية» و«المساواة» فليست هاتان حقين طبيعيين من حقوق الإنسان كما زعم قادة الثورة وحركة التنوير في آخر القرن الثامن عشر، أي إنهما لم ينشآ إلا بعد تكوين المجتمع، وبعد قيام التعاون بين أفراده، فالإنسان «حر» في مجتمع ديمقراطي يتعاون أفراده على قدم «المساواة»؛ ولذلك وجب أن يكون الاعتماد الأول في مثل هذا المجتمع الديمقراطي، على الجمعيات التطوعية لا على الحكومة، فلا ينبغي أن تجاوز الحكومة بنشاطها حدود تنظيم تلك الجمعيات بحيث لا تتضارب وسائلها وغاياتها، أما فيما عدا ذلك فالجماعة تحدد أهدافها ووسائلها، ثم يتعاون أفرادها في سبيل تحقيق تلك الأهداف تعاونا يتبعه الحرية والمساواة بين هؤلاء الأفراد، يتبادلون الخبرة بما يعين بعضهم بعضا، كما يفعل العلماء في المعمل إزاء مشكلة معينة.
وهذا التعاون هو الدين في جوهره، فالإيمان الحق إنما هو إيمان بالكشف عن الحقيقة التي تحل ما يعترض الإنسان من صعاب، الإيمان الحق إيمان بمنهج يساير التفكير ويساير الحياة العملية مسايرة تعمل على ازدهار تلك الحياة ورخائها، لا إيمان بحقيقة ثابتة كمل تكوينها وعرفناها بالوحي معرفة لا تقبل التغير ولا النمو،
24
و«الله» هو هذه العلاقة بين الإنسان ومثله العليا، يحاول تغيير أوضاع الحياة على مقتضاها،
25
ليس للدين مثل عليا خاصة به ولا منهج للتفكير خاص به، إنما هو روح تسري في مواقف الإنسان كلها إزاء خبراته، هو الروح الذي يصطنعه إذ هو فرد متعاون مع إخوان له في مجتمع واحد، يريد أن يبلغ وإياهم هدفا واحدا، ليس الدين في «الكنيسة» إنما هو في مواجهة المشكلات وحلها.
الفصل السادس
Shafi da ba'a sani ba