لأطلع غرسه ثمر النجاح
نعم كانت الحياة في أعينهما جنة وارفة الظلال، وفي سمعيهما أنشودة رائعة الألحان. كانا عصفورين غردين يتنقلان في خفة ومرح من فنن إلى فنن، ومن دوحة إلى دوحة، تبتسم لهما كل روضة، ويصفق كل غدير، وقد أمنا عواصف الرياح ومكايد الفخاخ. هكذا كان يعيش ابن زيدون في كنف ولادة، وهكذا كانت تعيش ولادة تحت جناح ابن زيدون، فهما في ليلة في قارب في النهر يتهادى بين الضفتين، يعبث بشراعه النسيم، وتنبعث منه ألحان القيان، وضحكات الندامى في الليل الساجي، فتملؤه حياة ومرحا. وهما في ليلة في دار القاضي ابن ذكوان صديق ابن زيدون وحبيبه؛ بين ضحك ومزاح. وهما في ليلة في مرج الخز، أو القصر الفارسي أو عين شهدة يناغيان البدر ويسامران النجوم.
عاش ابن زيدون بعد خطبته لولادة سعيدا، فنسي أيام شدته، وغفر للزمان زلته ولم يفكر في عائشة بنت غالب وكاد يغفر لها كل ذنوبها. غير أنه كان يحس بأن شيئا يلاحقه، ويعترض طريقه، ويكدر عليه صفوه، ذلك هو حسد الحاسدين، وكيد الكائدين. ولكنه كان كلما مر به هذا الخاطر هز له كتفيه، ومط شفتيه، وأراد أن يعيش في الساعة التي هو فيها.
وقد حدث أن بعثه ابن جهور في شأن من شئون الدولة إلى المظفر صاحب بطليوس، فأكرم استقباله، وألح عليه في أن يقيم عنده، وأغراه بالجاه والمال إن قبل منصب الوزارة في دولته. وكان ابن عبدوس قد أرسل وراءه أحد جواسيسه ليسجل عليه كل كلمة، ويدون كل لفتة. وكانت مواهب أبي الوليد من أكبر مصائبه، ومناقبه من أسباب كوارثه ، ولقد يكون في الذكاء وسلامة الطبع ومرح النفس وذرابة
3
اللسان هلاك محقق، وبلاء ماحق. وفي الأذكياء العباقرة فضلة من نشاط تضطرب دائما في نفوسهم، وكثيرا ما تسوقهم إلى المكروه. إن الغبي يفكر في كل كلمة، ويقدر لرجله موضعها قبل كل خطوة، لأنه قليل الثقة بنفسه، حذر من أن يكون رمية جهله، أما الذكي المتوقد، فمتوثب جوال، يجري وراء البديهة، ويقتنص فرص الارتجال، ويرمي بالكلمة لا يبالي أين رماها، ويصدع بالري في جرأة واعتزاز. وابن زيدون شاعر أديب عالم بالأخبار، سريع حركة الفكر، ذرب اللسان، عظيم الزهو بنفسه، لا يرى له في الأندلس نديدا، ثم هو إلى ذلك مرح ضحوك مستهتر، سريع النكتة، جم الفكاهة. فكان يجلس في حضرة المظفر ويطلق لنفسه العنان، ويخوض في كل حديث من غير أن يستصحب الحذر، وإذا جاء ذكر مملكة قرطبة، أو جاء ذكر ابن جهور، كان يدفعه الطيش إلى أن ينبز ويهمز، وإلى أن يمزح ويسخر، وقد تجاوز الحد وأبعد في الاستهانة بالخطر، حينما مدح صاحب بطليوس فبالغ، وغفل عن أن ابن جهور قد يغضبه أن يمدح وزيره أميرا سواه، دع عنك ما خلع على الرجل من الصفات التي تحصر فيه العظمة، وتعرض بغيره من الأمراء، وكان من قصيدته:
مليك إذا سابقته الملوك
حوى الخصل أو ساهمته سهم
فأطولهم بالأيادي يدا
وأثبتهم في المعالي قدم
Shafi da ba'a sani ba