ومثل: «يا أمير المؤمنين! إن الله - وله الحمد - قد قلدك أمرا عظيما ثوابه أعظم الثواب، وعقابه أشد العقاب؛ قلدك أمر هذه الأمة، فأصبحت وأمسيت، وأنت بغية لخلق كثير قد استرعاكهم الله، وائتمنك عليهم، وابتلاك بهم، وولاك أمرهم، وليس يلبث البنيان إذا أسس على غير التقوى أن يأتيه الله من القواعد فيهدمه وأعان عليه، فلا تضيعن ما قلدك الله من أمر هذه الأمة والرعية، فإن القوة في العمل بإذن الله.»
والكتاب ليس مقصورا على الضرائب ... ففيه - مثلا - نصائح متعددة غالية؛ كحسن معاملة الأسارى، وإنه إذا أمن المحارب لم يؤخذ منه شيء، وكالأمر بحسن معاملة اليهود والنصارى، وإن أبا يوسف سأل أبا حنيفة عن اليهودي أو النصراني يموت له ولد ... فهل يعزى؟ وبم يعزى؟ فقال: «نعم يعزى، ويقال له: إن الله كتب الموت على خلقه، نسأل الله أن يجعله خير غائب منتظر، وإنا لله وإنا إليه راجعون، عليك بالصبر فيما نزل بك، لا أنقص الله لك عددا.»
وكان على باب قصر الخلد حجرة واسعة يجلس فيها الشعراء والمغنون والفقهاء، تدور بينهم الأحاديث المختلفة في الموضوعات المختلفة، وجميعهم ينتظر دعوة الحاجب لطائفة منهم حسب مزاج الرشيد في وقته، وحسب ما يعرض له من أحداث، وأحيانا لا يجد الحاجب من يطلبه في هذه الحجرة فيذهب إليه في بيته.
وإذ كان الرشيد حاكما بأمره فهو أحيانا يرضى لا إلى حد، وأحيانا يغضب لا إلى حد؛ فكان من دعي يغتسل ويتكفن قبل ذهابه إليه، مما يعطينا صورة سيئة للحكام في هذا العهد.
مجلس العظة والاعتبار
ومجلس آخر يرجع فيه الرشيد إلى نفسه، ويدعو من يعظه، أو يذهب إليه إذا كان الواعظ لا يغشى مجالس الأمراء؛ كالذي روي أنه استدعى ابن السماك الواعظ المشهور فلما دخل عليه قال له: «عظني!»
فقال: «يا أمير المؤمنين ... اتق الله، واحذره، لا شريك له، واعلم أنك واقف غدا بين يدي الله ربك، ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالثة لهما: جنة أو نار.»
فبكى هارون حتى اخضلت لحيته ... فأقبل الفضل بن الربيع على ابن السماك، وقال: «سبحان الله! هل يخالجك شك في أن أمير المؤمنين مصروف إلى الجنة إن شاء الله لقيامه بحق الله وعدله في عباده؟»
فقال: «يا أمير المؤمنين: إن هذا - يعني الفضل بن الربيع - ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتق الله، وانظر لنفسك»، فبكى هارون حتى أشفق الموجودون عليه.
وأفحم الفضل بن الربيع، ولم ينطق بحرف حتى خرج من بحضرته، ويأتي الرشيد الفضيل بن عياض فيفتح له الباب هو والفضل بن الربيع، ثم يصعد الفضيل إلى أعلى الغرفة مسرعا، ويطفئ السراج، ويتجه إلى زاوية من زوايا الغرفة، فيبحث عنه الرشيد حتى يجده، فيقول الفضيل، وقد جس يده: «ما ألينها من يد إن نجت غدا من عذاب الله»، ثم يسأله: «لم جئت؟ ... لقد حملت على نفسك، وجميع من معك حملوا عليك، ولو سألتهم عند انكشاف الرقاب عنك وعنهم أن يحملوا عنك نقصا من ذنب ما فعلوا، ولكن أشدهم حبا لك أشدهم هربا منك.»
Shafi da ba'a sani ba