فيا لحكمة الله! •••
وحان موعد مجيء المرأة ولم تحضر، فترجح لدى الطبيب مجيئها مع زوجها عند المساء، ولكن المهندس أتى وحده وكان بادي التغير، منكفئ الوجه، مصفر اللون، منطفئ البصر كأنه تقدم في الكبر أعواما، فتوقع الطبيب مفاجأة وبلاء وسأله: ما بك؟
فهز رأسه بحزن وقال: ماذا تحدس؟ - لعلك راودتها على المجيء فأبت وعصت. - كان يهون. - آه .. إذن قد انفضح أمرك ولم تتقن تمثيل دورك .. ونلت جزاءك على يديها.
فسها الرجل لحظة ثم قال بصوت تقطعه حشرجة اليأس: يا بؤس هذه الدنيا!
فهز الطبيب كتفيه استهانة وقال: كثيرا ما أسمع هجاء مريرا يصب على رأس الدنيا، ولكني أعتقد أن الإنسان هو الخالق الأول لهذه الآلام التي يتملص من تبعتها ويلقيها على عاتق الدنيا. - كما تشاء .. اعلم يا سيدي الطبيب أني في الفترة القصيرة التي تغيبتها عنك أحدثت في حياتي حدثا هائلا؛ فقد فصل الطلاق بيني وبين زوجي، وحرمني نور أطفالي حينا سإخاله دهرا مديدا.
يا للهول .. ترى ما الذي حدث .. وكيف حدث ؟ فإن قلبه يهمس له بفحواه، ولكنه لا يدري تفاصيله ولا يستطيع أن يرجم بما قلب منطق الحوادث وجعل عاليها سافلها.
واستولت عليه الدهشة وباتت عيناه تلحان بالسؤال بأفصح مما يبين اللسان .. فقال المهندس: إليك قصتي بكل إيجاز؛ غادرتك ليلة الأمس وقد صدقت نيتي على دعوة زوجي إلى زيارتك كي يطمئن قلبي، ولكني كنت مضطربا لا أدري كيف أبدأ باقتراح الأمر عليها ولا علم لي إن أنا اقترحته بما أبرره به، فاتخذت مكاني على مقربة منها بادي الهم والفكر. وللحال لاحظت طوارئ الهم والاضطراب تزحف عليها زحفا، فظننته صدى لاضطرابي وهمي واستجابة لهما. وتلبثت أنتظر أن تبدأ بسؤالي عما يساورني فلم تفعل، فضقت بالأمر ضيقا استفزني إلى طرح هذا السؤال: «ألا تشكين من شيء .. ألا تحسين بألم ما؟» فحملقت في وجهي بعينين هالعتين وقالت باضطراب: «كلا .. كلا .. والحمد لله.» فتمالكت نفسي وقلت كاذبا: «ألاحظ عليك هذه الأيام بعض الاصفرار والتغيير، وقد رأيت أن أقترح عليك زيارة طبيب .. فما رأيك؟» فردت بحدة وبلهجة من يتحمس لدفع خطر مروع: «كلا .. كلا .. أنت واهم ولا لزوم لذلك البتة .. إني أكره الأطباء ويهيج وساوسي الاستماع لنصائحهم.»
فطال طلابي وطال رفضها، فألححت عليها فأصرت، فرجوت وتوسلت فعندت وازدادت تشبثا، وعبثا حاولت أن أثنيها على رأيها حتى دهشت لإصرارها وضقت صدرا بها، وبنفسي، فاهتاجني المرض والغضب، وصحت بها بجنون جعلني أستهتر بكل شيء: «يجب أن تصغي إلي .. تعالي معي إلى الطبيب لأني مصاب وأريد أن أعرف ...» ولم أتم كلامي لأنها انتفضت قائمة متصلبة كالأفعى المتوثبة للافتراس، وجحظت عيناها ولم تتمالك نفسها، فسرت في جسدها رعشة شديدة، فأدهشني ذلك وسألت نفسي: ما لها؟ .. وهممت أن أعاود الكلام في ملاطفة مصطنعة، ولكنها قطعت علي الطريق بهزة عصبية ما زالت تكررها بعنف جنوني حتى تلبست صورتها هيئة غريبة تنذر بالويل، فازدادت بي الحيرة وسألتها: «ما الذي يرعبك؟ لم تخشين الطبيب؟» فصاحت بصوت ملتو لا تكاد تميز نبراته: «الرحمة .. الرحمة.» ولكن عاودني الغضب بحالة لم تأذن للرحمة أن تأوي إلى مستقرها في قلبي؛ فخطوت نحوها أهدر غاضبا ساخطا فصرخت: «محمد .. الرحمة .. الرحمة .. لقد كشف الله خبيئتي .. أنا الجانية على نفسي وعليك .. أنا أعرف أنك تعلم ذلك ولكني أستحلفك الله بألا تمسني .. طلقني ولا تمسني.» ثم ارتمت بين قدمي مغمى عليها.
ما معنى هذا؟ .. لقد تسابقت الظنون إلى قلبي، وانصبت الشكوك في عقلي، واكتظ بها رأسي فانصهر من الحرارة والالتهاب، وخلت أن شعر رأسي يقف ويتصلب كشعر القنفذ.
إن المرأة لتبهظ الرجل وتثقل كاهله وهي تؤمن بأنها لم تجاوز بعض حقوقها، أما إذا اعترفت بأنها جانية وسألت الرحمة ووقعت مغشيا عليها فلن يكون ذلك إلا لأمر واحد.
Shafi da ba'a sani ba