وكان إذا أنشد بيتًا من الشعر يخلع أوتاده، ويورده كيف ما أتفق حسبما أقتضاه طبعه وأراده، وما كان مولانا الأفندي يحمل ذلك منه إلا على صفاء المزاج، ويحصل لنا من ذلك غاية الحظ والإبتهاج. فأتفق في غضون بعض المصاحبات، وخلال جمل من المخاطبات، أن مولانا الأفندي أسبغ الله تعالى نعمه عليه، تلطف بحسن إلتفات من مقام التكلم إلى خطاب هذا العبد وأسر إليه، أن مولانا الشيخ كان حلف يمينًا، لا ينشد شعرًا موزونًا، ولا يتكلم كلامًا إلا ملحونًا، ثم أستشعر منه أن لمح أطراف الكلام، فأحجمنا عنه إحجام المرتاب، ونقلنا الخطاب من باب إلى باب. وكنا نقضي غالب الليالي مع مولانا الشيخ ومصاحبته، ونحصل على كمال الإنشراح من صفاء مزاجه وحسن ملاطفته. وكان مولانا المفتي - عامله الله تعالى بلطفه السماوي - عرض عليه في بعض اليالي ما حرره على أماكن من تفسير البيضاوي، في محل درسه العام، الذي كان أقرأه في دمشق الشام، وحضر فيه علماؤها الفخام لينظر تحريره وصنيعه، ويطلع على ما أودعه فيه من النكات البديعة. وكان المشار إليه يترقب أن ينتقل من تصور كلامه، إلى التصديق ورفعة مقامه، فيبدي ما يقتضيه الحال من الثناء اللائق بمثله، ويمدحه بمدح هو من أهله، وينعت فضائله الجسام، بنعوت تليق بالمقام، فلم بمدحه بما يناسبه من جلالة القدر ورفعة الشأن، بل كان ما أعرب عنه من أفعال المدح من باب كان، حيث لم يزد على أن قال له: والله ما كان في ظن الفقير، أنكم تحررونه مثل هذا التحرير، وما هذا إلا كلام صحيح، وما ذلك منك يا مفتي إلا فهم مليح، ثم تحول الكلام من مقام إلى مقام، فجرى في المجلس ذكر شخص ينتسب إلى العلم في دمشق الشام، فبالغ مولانا الشيخ في الثناء عليه، وأسند إليه من الفضل ما يكثر على أمثاله إسناده إليه، فقلنا له: والله يا مولانا لقد أستسمنت ذا ورم ونفخت في غير ضرم، فعند ذلك أنشدنا قصيدة قال أن المذكور بهذه القصيدة أمتدحه، فألفيناها عن بلاغة زائدة مفصحة. فقلنا: والله يا مولانا لقد حملتم المذكور حملا فوق ما يطيق، وأن كنتم بنيتم فضله على هذه القصيدة فهو بناء على خلاف التحقيق، فيمينًا بالبراعة وما نصعت، وبالبراعة وما صنعت، أنا قط لم نعهد المذكور يدعي شعرًا ولا يذكر، ولا نعرفه إلا يحدث من فيه ولا يشعر. فيا ضيعة الأدب، ومن أين هذا الإخاء والنسب؟ والحاصل يا مولانا أن سرقة هذه القصيدة ظاهرة، كالشمس في الشهرة والإنارة. ومثل هذه القصيدة لا تسرق إلا أن سرقت المنارة. وليت شعري، أين هذا من قول الشاعر:
وإنما الشعر لب المرء يعرضه ... على المجالس أن كيسا وأن حمقا
وأن أصدق بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
على أن القرائن متوفرة على سرقتها: منها بلاغتها، وفصاحة ابياتها، ومنها اأن المذكور لم يعهد له قصيدة غيرها حتى تشفع بأخواتها. وقد قضينا يا مولانا العجب ممن له هذه الفصاحة الزائدة، كيف لم يتفق له في عمره إلا نظم هذه القصيدة الواحدة، وقد ذكرتنا هذه القضية قضية جرت بين ابن أبي حفصة وعلي ابن الجهم وهي قضية مشهورة، وعند أرباب الادب غير منكورة، وقول ابن ابي حفصة:
لعمرك ان الجهم ما كان شاعرًا ... وهذا علي ابنه يدعي الشعرا
ولكن أبي قد كان جارًا لأمه ... فلما ادعى في الشعر أوهمني أمرا
هذا ثم أن مولانا الشيخ عرض ما عنده من الاسفار، على مولانا المفتي رفع الله تعالى له المقدار، فأختار من بينها كتاب الأتقان، وطلبه ليطالعه برهة من الزمان، فوقع عنده الموقع واعجبه، وأسر في نفسه أن يستوهبه، فعرض بذلك لمولانا الشيخ في بعض المجالس فلم، وعجبا حيث سبيل إلىعوده بسبب من الاسباب، بحكم:
أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
1 / 5