وقد ذكرتنا هذه الواقعة إن بعض المصريين المترددين إلى القسطنطينية كان يجيء لمصاحبة الفقير في الديار المصرية فانجر الكلام يومًا وأستطرد القول إلى المقيد المذكور، فذكر لنا أن بعض الظرفاء المصريين لقيه هناك فلقبه بأبي الهول. فتعجبت من مناسبة هذه النكتة غاية العجب، وقلت: ما أشبه مناسبتها له بمناسبة ذلك اللقب. ووجدت مطابقة هذا اللفظ للموضوع له أوضح من الفلق، وموافقًا له موافقة الشن للطبق، فكتب الفقير في هذا المعنى مقطوعين في الحال، أحب العبد أن يتصلا بهذا المقال، وهما:
رآه البعض من ظرفاء مصر ... وهال القوم منظره الغريب
وقالوا أنه شكل مهول ... فكنوه أبو الهول العجيب
ثم أشرفنا على القدس الشريف آخر ذلك النهار، ودخلنا بعد غروب شمسه. وأستقر منزل مولانا قاضي القضاة متع الله تعالى بوجوده الشريف، وآنسه بالمدرسة المعمورة، وبالقايتبائية مشهورة، أسكن الله بانيها في الجنان أعلى القصور، وشكر سعيه وضاعف له اجور. ولعمري لم تشهد العين أحسن من بنائها ولا أعلى، ولم يتمتع النظر بألطف من رونقها ولا أحلى، فكأنها من حسنها وبهائها بنيت قواعدها على الأفلاك، لا سيما إذا وافتها الشمس بحسن المقابلة من المشرق يكاد سنا برقها يذهب بالأبصار وفي الحقيقة من نظر حق النظر علم أن هذا الحسن إنما أكتسبته من عطف الجوار.
ثم بيتنا ليلة الوصول مع حضرة المفتي في أرض الحرم الشريف ورحبته الفسيحة، لنتدارك أماكن للنزول في الصبيحة، فعند ذلك كتب الفقير لمولانا شيخ الإسلام الشيخ عبد النبي بن جماعة، بعض أبيات يلتمس منه منزلا في تلك الساعة، صورتها:
يا شيخ الإسلام من عمت فضائله ... كل الأنام وخصتهم فواضله
من فاق في العلم أهل العصر قاطبة ... فليس يوجد فيهم من يطاوله
أتى المحب إلى عالي مقامكم ال ... سامي المكان الذي ما خاب آمله
وليس يدري به يا سيدي سكنًا ... كلا ولا مسكنا يؤويه داخله
وصار كالحوت في البيدا فهل سبب لا ... في مسكن فخيار البر عاجله
زال بابكم السامي محط رحا ... ل العلم بالسعد معمورًا منازله
ثم أن الشيخ المشار إليه أعلى الله تعالى رفيع مقداره، هيأ لمولانا المفتي دارًا تجاه داره، وأنزل الفقير في مكان داخل منزله الرفيع المقام، وعاملنا بأنواع الكرم وصنوف الإحترام، وأغتنمنا لذيذ مصاحبته مدة الإقامة، فجزاه الله تعالى خيرًا وشكر إنعامه. وكان الشيخ المشار إليه كثير التردد إلى خدمة قاضي القضاة مولانا، ويكثر مصاحبته والتحدث معه أحيانًا، وكانت تتسع دائرة الكلام في حضرته العلية فينجر الكلام إلى المصاحبة العلمية، فكان مولانا الشيخ المشار إليه إذا سئل أو أجاب، يبدي العجب العجاب، وإذا تكلم بالأوليات من بعض الفنون يوردها على وجه التفهيم، ويلقيها إلقاء معتقد أن المخاطب خالي البال عنها بقلب سليم وكان في وادٍ ةنحن في واد، وشتان بين مريد ومراد.
1 / 4