وفي ظلال هذه المشاعر عاشت حياته جميعها. أحب، أحب بكل ما في الحب من نبض جياش، وبكل ما في الشباب من اندفاع وقوة، أحب زميلته في الكلية إلهام، ولكن أمه عرفت بحبه وقالت لا؛ فإذا نبض الحب يصبح نبضا خائفا هالعا أن يغضب أمه، وإذا هو يبتعد عن حبيبته مذعورا، ويعود إلى طاعة أمه راضيا بها عن كل ما في الحب الشاب من أحلام وآمال ورؤى.
وها هو ذا اليوم ينتظر نتيجة الليسانس، تلك الشهادة التي جاهدت أمه في سبيلها أكثر ما جاهد هو. إنه يريد الشهادة ليذهب إلى أمه، ويعلن إليها أن جهودها قد كللها النجاح، وينطلق إلى الحياة. كان في البعيد البعيد من نفسه يخيل إليه أن هذه النتيجة التي ستعلن الآن ستحمل في طواياها معنى آخر غير معنى النجاح. إنها ستجعل له قرار الإفراج عنه من سيطرة أمه. شعور يخامره ولا تعلنه نفسه إلى نفسه، كأنما كان يريد أن يقول لها في غير ألفاظ: لقد جاهدت لأحصل على الشهادة فهل تكفيك الشهادة مكافأة على جهادك؟ وكأنما كان ينتظر أن تقول أمه في غير ألفاظ هي أيضا: لقد صرت رجلا فافعل ما بدا لك. آمال تهجس في الخوافي البعيدة من نفسه، وهو واقف بباب الكلية عينه لا ترتفع عن الباب الكبير، ينتظر أن يخرج منه الموظف المختص ليعلق أسماء الناجحين على تلك اللوحة الماثلة بجوار الباب، التي قدر لها أن تحمل أغلى ما يطمح إليه جميع هؤلاء الواقفين في لحظتهم تلك. هذه اللوحة الكالحة ستحدد مصير كل فرد منهم. وعينا حسن عبد الفتاح شاخصة إلى الباب الكبير، والباب صامت لا يبين عن أحد.
وأخيرا ظهر الموظف وبيده الأوراق، وبعد محاولات عسيرة وقعت عينا حسن على اسمه بين الناجحين، ولم يحس بنفسه إلا وهو واقف أمام أمه، يخبرها وعيناه تموجان بالدموع: «لقد نجحت.»
وفرحت الأم، ولكنه لم يجد عندها ما كان يتوقعه من فرح؛ كانت واثقة من نجاحه كأنما كان نجاحه أمرا تصنعه بيديها فهي واثقة من نتيجته، وقد أكد هذا المعنى في نفسه أنه وجدها قد أعدت له الوظيفة دون أن تسأله عن الاتجاه الذي يريد أن يشقه في الحياة. وخيل إليه أنه قبل الوظيفة سيستطيع أن ينعم بحريته من ربقة أمه، فهو يقبل الوظيفة في غير مناقشة ويصبح موظفا.
ولا يمضي كثير وقت حتى تفاجئه أمه: حسن. - نعم يا نينا. - لقد خطبت لك. - ماذا؟! - سناء بنت عمك علي أبو العلا. - تقصدين بنت صديقتك شريفة هانم؟ - ما رأيك؟ - أتسألين عن رأيي حقيقة؟ - طبعا. - أتسألين عن رأيي بعد أن تخطبي؟ - أنت حر. - أنا حر! - طبعا. - فأنا لا أريدها. - ماذا؟! - أنا لا أريدها. - لماذا؟ - لأني لا أريدها. - ولكني أريدها. - إنه أنا الذي سيتزوج. - ولكني أمك. - هذا شيء لا يمكن أن أنساه. - ماذا تقصد؟ - أقصد أنه لا فائدة، فسواء عندك وافقت أم رفضت. - تعني أنك موافق. - أمرك.
وما هي إلا أيام حتى يتم كتب الكتاب، وما هي إلا أيام أخرى حتى يحل يوم الزواج، ويترك حسن البيت ويخرج إلى الطريق. في هذه المرة لم تكتف أمه أن تفرض سيطرتها عليه، ولكنها فرضتها بقوة وعنف على فتاة لا تمت لها بصلة. ما ذنب هذه الفتاة؟ كيف يتزوج من فتاة لا تحبه ولا يحبها؟ إنها أمه. ماذا يصنع؟ وماذا صنع قبل اليوم؟ إنه هو، هو لم يتغير ولم تتغير أمه. ويجول في الطرقات يسلمه شارع إلى شارع، ورأسه يموج بالسخط والضيق بلا أمل على الإطلاق.
ويعود إلى البيت في الموعد المقدور، وتنطلق الزغاريد وتتعالى الموسيقى، وينظر إلى وجه زوجته وتنظر إلى وجهه، وكأنما هما متفقان على المعاني التي تدور بنفس كل منهما، ولكن ماذا يصنعان؟ كان يحس أنها واقعة تحت سيطرة أبيها وأمها كما يخضع هو لسيطرة أمه. إن أمه تستطيع أن تفعل به ما تشاء؛ استطاعت أن ترغمه على اختيار كلية الحقوق، واستطاعت أن ترغمه على المذاكرة، بل واستطاعت في قوة عاتية أن تحطم حبه الأول، ولكن أتستطيع أن تنشئ حبا؟ هل تستطيع أمه أن تجعله يحب هذه الفتاة أو تجعل هذه الفتاة تحبه؟ كيف؟ لماذا لا يقول «لا، لا»، صارخة واضحة جهيرة، لا لبس فيها ولا غموض ولا إبهام. لا، ويترك أمه ويعيش وحده حتى يجد هواه.
نعم، إن أمه قد بذلت في سبيله الجهد والخوف والعطف، ولكن ألا تبذل كل الأمهات؟ وهل معنى هذا أن تنتهب حياته جميعا، بل وتنتهب حياة فتاة أخرى لا ذنب لها إلا أن أمها صديقة أمه؟
أليست كلمة «لا» تنقذه وتنقذ هذه الفتاة المسكينة الجالسة أمامه؟ ما ذنبها؟ مسكينة إنها حلوة، جميلة غاية الجمال، لعله كان يختارها إذا ترك وشأنه. إنه يحب هذه العيون الحالمة المذعورة، ويحب هذا الشعر الأسود المنساب، ويحب هذه الابتسامة التي تجرها إلى فمها جرا ، ويحب هذا العود الواهن وكأنه طيف، الرقيق كأنه فكرة، الشفاف كأنه حلم. هو يحب هذا جميعه ولكنه لا يحب سناء. وكيف له أن يحبها؟ هو لم يفكر فيها زوجة إلا حين أمرت أمه أن يتزوجها، فإذا هي زوجته.
كلمة واحدة هي «لا»، يستطيع أن يقولها في هدوء وفي حزم، فينهي هذه المأساة التي تحيط بها الزغاريد، وتتعالى لها الموسيقى الفرحة، وتنطلق لها الأغاني، وتدق الطبول، «لا» حرفان يمنعان المأساة من أن تتم فصولا، وليكن بعد ذلك ما يكون.
Shafi da ba'a sani ba