ويذهل رضوان ويحملق فيها بعينين مأخوذتين. فاطمة وليست هنية! وينظر وينتظر، ثم يقول: هل أنت متأكدة؟ - لو كنت متأكدة ما طلبت أن أذهب إلى الطبيب. - تذهبين ... اليوم تذهبين.
وحين خرجا من عند الطبيب لم تقل فاطمة شيئا، وإنما تركت رضوان للدوامة التي ألقاه فيها؛ إنها حامل. لا يدري رضوان إن كان يفرح أم يخجل، ماذا يقول لها؟ كيف يفرح؟ ماذا يقول لهنية؟ هل تبقى على ذمته؟ وما ذنبها؟ وما كان ذنب فاطمة؟ أي جرم فعلت؟ أي جرم فعلت؟ ويظل رضوان في دوامة من الخجل يشوبها الفرح حتى يصل بفاطمة إلى البيت، وينفتل هو إلى الفضاء ليخلو إلى نفسه الحائرة التي لا تكاد تصدق ما وقع.
وتكتمل شهور الحمل، وتضع فاطمة طفلها الأول ويسميه أبوه إبراهيم تيمنا بإبراهيم ابن النبي. وتمر الأيام وتكتمل الشهور سنين، ولا ينجب رضوان من زوجته غير وحيده إبراهيم.
وفي يوم يمرض إبراهيم ويسارع رضوان بولده إلى الطبيب، ويعالجه الطبيب فلا يفلح العلاج ويتركه إلى طبيب آخر، والهلع يقتلع قلبه من بين ضلوعه. لا، ليس القلق على الولد حياة، لا ولا هو موت، إنه شيء أشد بشاعة من كل شيء، لا شيء يماثل هذا الهلع، لا شيء مثل هذا الخوف، إنه شر من كل شعور، ما أحلى العقم بالنسبة إلى هذا الخوف! بل ما أحلى ألا نوجد على الإطلاق ولا نلتقي بهذا الذعر.
ويلجأ رضوان إلى الطبيب وإلى الله وإلى الدواء وإلى الدعاء، ولكن الله كان قد أعد لإبراهيم مكانا في الجنة.
وحين عاد رضوان من وداع ابنه الأخير، وكان اليوم الأول من الإجازة، كانت الدموع تملأ عينيه في إصرار، فهي تثب إليهما كلما جففهما. لم يجلس رضوان إلى الفراغ، ولم يفكر في الإجازة، وكل ما كان يفكر فيه هو فاطمة، إذ أنجبت له ولنفسه الشقاء. ما كان أسعدها قبل أن يجيء إبراهيم! ويدخل إليها وهي في حزنها القاتل: فاطمة ... أنا آسف. - الآن. - لم أقلها إلا اليوم. لم أقلها حين تزوجت، ولم أقلها حين بشرك الطبيب بإبراهيم، أما الآن فلا أجد غيرها. أتراها تكفي؟ - أتراها أنت تكفي؟ - لا أملك غيرها. - حسبنا الله ونعم الوكيل.
وفي نشيج عال صاخب يقتطع من فلذات القلب اقتطاعا قال رضوان: حسبنا الله ونعم الوكيل.
لأنه يحبها
وقف حسن عبد الفتاح أمام باب كلية الحقوق ينتظر وزملاؤه نتيجة الليسانس. لم يكن يحس بأحد حوله. انفصل كيانه عن الجموع المتزاحمة، فهو فرد في نفسه وفي آماله وفي مخاوفه، لا يحس إلا هذا الوجيب الآخذ الذي يهز جسمه هزا. أنجاح فانطلاق إلى الحياة بكل ما في الحياة من حلاوة الكفاح؟ فما كان يرى في النجاح والانطلاق إلى الحياة إلا الحلاوة. أم سقوط فهو تلميذ سيظل؟ وهو حينئذ سيعود إلى أمه كسيف البال مخذولا، يخاف من غضبها خوفا قد يطغى على حزنه من السقوط. إن تفكيره في أمه يمازج تفكيره في النتيجة؛ فهو حينا يفكر في المواد مادة مادة، ويذكر كيف أجاب في كل مادة منها، وهو أحيانا كثيرة يفكر في أمه كيف قامت على شأنه بعد موت أبيه، وكيف بذلت له من دمائها ومالها وجهدها، حتى جعلته يصل إلى نهاية المرحلة العالية من التعليم.
لقد قامت بواجبها نحوه، بل بذلت أكثر من واجبها، فكم يمضه أن يقصر هو عن واجبه! كان إرضاء أمه أساسا تقوم عليه حياته جميعا؛ فقد كان يرى نفسه نفحة من جهودها، وقبسة من دمائها، بل كان يرى نفسه أملها الضخم الذي عاشت له، وبه سنوات طويلة ثمينة شابة من حياتها.
Shafi da ba'a sani ba