Wannan Zamani da Al'adunsa
هذا العصر وثقافته
Nau'ikan
وجلست بعد هذه النظرة الجديدة، التي نظرت بها إلى ما عندي من لوحات صلاح طاهر، جلست لأقلب فيما كتبه صديقي الآخر، وهو رائد الفن، الصديق حامد سعيد، وأخذت أقرأ ما كنت قرأته له قبل ذلك، مما كتبه بمناسبة إنشائه منذ سنوات عديدة، لما أسماه بمركز الفن والحياة، فهذا الرائد لم يكفه أن يضع نفسه في فنه الروحي الصوفي الشفاف، بل أضاف إلى ذلك أن يبث رؤيته في حوارييه، حتى إذا ما تخرج على يديه نفر يعتز الفن المصري المعاصر بإبداعهم، أضاف إضافة أخرى، وهي أن يقيم ذلك «المركز»، الذي جعل مدار العمل فيه، هو إعادة الشخصية المصرية إلى الوعي بذاتها، عن طريق الرؤية الفنية.
فها هنا برزت فكرة التعادل والمساواة والتجانس بين أفراد الناس، لا من حيث هم أطوال جسدية تتكافأ في ارتفاعها، بل من حيث هم أنفس قبل أن يكونوا أجسادا، فصميم الفكرة الاشتراكية عنده هي إنسانية الإنسان، فهذا هو جوهر الموضوع، وأما كل ما يجيء بعد ذلك - كما يقول حامد سعيد - فهو امتدادات وانبثاقات من هذا الأصل الروحي، فنحن إذا تناولنا الأمور من جذورها، استقامت أمامنا سبل التفكير، واستقامت - بالتالي - سبل العمل على اختلاف نواحيه، وحقا إن من دواعي الأمل في صحة الحياة الثقافية التي نحياها، أن يكون فيها هذه الأركان الحية بنشاطها، الواعية بأهدافها؛ ولذلك فقد أذهلني ما سمعته منذ قريب، من أن هيئة من الهيئات الرسمية المشرفة على الفنون، قد اتجهت نحو الحد من نشاط ذلك «المركز»، فلعل ما سمعته لم يكن صوابا.
إلا أن اللحظات التي تنقضي مع الفن، إبداعا أو تذوقا، لهي اللحظات التي تكشف لنا عن الحق في جوهره، بعد تخليصه من الشوائب التي تحول دون رؤيته على الوجه الصحيح، إنها لحظات يمكن تشبيهها بالجبال في الأرض، فليس الجبل كائنا غريبا وضعوه فوق سطح الأرض، بل هو الأرض نفسها، وقد ارتفعت عن المستوى العام، وكذلك اللحظة الفنية - سواء كانت لحظة إبداع من الفنان نفسه، أو كانت لحظة تذوق بصير ممن يتأمل العمل الفني - أقول إن اللحظة الفنية هي كذلك مرتفع في مجرى الخبرة البشرية، لم يقحم عليها إقحاما، بل هي جزء من تلك الخبرة البشرية نفسها، وقد ارتفع عن المستوى العام.
فإذا كان الفن قد أخذ يميل في عصرنا، نحو أن تتعادل قامات الناس، وأن تتكافأ أنفسهم وأرواحهم، فكذلك ينبغي للحياة العملية أن تكون، ولسنا نريد لهذا الكلام أن يمضي، وكأنه صنوف من الألفاظ كتبت ثم قرئت، وبعد ذلك يذهب كل شيء إلى فراغ العدم، بل نريد لهذا الكلام أن يدق أذن القارئ دقا، حتى يدق في عظمه - كما نقول - لعله يتحول عنده إلى أسلوب في النظر وطريقة في الحياة.
وأول خطوة نحو هذا التحول، هي أن نغير أفكارنا عن البطولة والأبطال، فمن الواضح أن هنالك نسبة عكسية بين الفكرتين؛ فكرة التقارب بين أقدار الناس - في الواقع وفي الفن على السواء - وفكرة البطولة وعبادة الناس لها، بمعنى أنه كلما زالت الفوارق في الأحجام، قل الميل نحو عبادة الأبطال.
إن اختفاء «العملاق» من مسرح الحياة المعاصرة، له صور عديدة، منها - مثلا - أنه بينما كان المألوف في الحياة الفكرية أو الحياة السياسية، قيام عملاق جبار يحيط به أتباع أقزام بالقياس إليه، نرى أن الصورة في عصرنا، هي أن تتوزع القدرة على مجموعة من القادة، بدل أن تتركز في أشخاص بأعينهم، فيزدادون بها ضخامة بالنسبة إلى أقرانهم، ففي الحياة الفكرية - مثلا - كان يسيطر على العصر الواحد من العصور فيلسوف واحد ضخم، ينسب إليه العصر كله، بحيث يصبح الباقون أتباعا تحت لوائه، فيقال: عصر ديكارت، وعصر كانط، وهكذا، ويكون لكل من هؤلاء «مدرسته» الفكرية، أي مجموعة الفلاسفة الذين يسيرون على دربه؟ وأما في يومنا هذا، فلن تجد العمالقة الذين يبتلعون العصر في أجوافهم، لن تجد في يومنا هذا رجلا مثل أفلاطون أو أرسطو أو ابن سينا أو الغزالي، وكذلك قل في دنيا الإبداع الأدبي، إذا كان من المألوف أيضا أن ينهض في العصر المعين، أديب يرتفع كأنه الجبل الشامخ، لا يترك لمن يعاصرونه إلا القليل؛ فهكذا كان الجاحظ في عصره، وأبو العلاء المعري في عصره، ولعل هذه النقطة أكثر وضوحا في الأدب الغربي، فنرى هومر دانتي أو شيكسبير أو جيته، وكأن الواحد منهم كان يعيش وحده في فراغ يخلو من الأنداد؛ ولذلك كان كل منهم يستوعب عصره، ويعتصره ليكون منه بمثابة الممثل الشرعي الذي يمثل أمة بأسرها، تفكر بعقله وتكتب بقلمه، وتنطق بلسانه ... وأما في عصرنا هذا فالأمر مختلف؛ إذ يتقسم هذه النيابة الشرعية مجموعة بأسرها من المفكرين أو من الأدباء.
شعب مكافح
كانت الفنانة الموهوبة التي جاءت لتسمر معنا منذ قريب هي التي ألقت علينا السؤال، فقالت: ما الذي تلحظونه من أوجه النقص في حياتنا الفنية - وكانت تعني عالم السينما بصفة خاصة - وماذا ترونه أجدر بجهودنا نحن المشتغلين في عالم التمثيل؟ ما هي أفضل الأدوار التي يجدر بمثلي أن تختارها، إذا أرادت أن تؤدي في الفن السينمائي دورا له قيمه الثابتة؟
فأخذنا نحاول الإجابة، كل من وجهة نظره، وما هو إلا أن برزت لنا خلال السمر المسترسل الهادئ، نقطة رأيتها تلمع ببريق الصدق، وكانت تستحق منا مزيدا من التحليل والتوضيح، لولا أن أمثال هذه الجلسات الحوارية العابرة، من طبيعتها ألا تتقصى ولا تطول.
والنقطة التي رأيتها تلمع ببريق الصدق في مجرى الحديث، هي أن أفلامنا السينمائية - حتى وهي جادة في تصوير حياتنا - تشبه من يحوم حول الحصن ولا يغزوه، إنها حين تعرض علينا صورا من الجهود المبذولة في تطوير حياتنا، ونقلها من مرحلة في تاريخنا إلى مرحلة، وحين تقدم لنا صورا من بطولة أبنائنا في شتى الميادين؛ بطولتهم في حرب التحرير، وبطولتهم في المصانع، وفي المزارع، وفي ميادين البحث العلمي، وفي غير هذه وتلك من مجالات الفكر والعمل، يحس المشاهد بشيء من التكلف والتصنع، يحس كأنما هو أمام نشرة جاءت من مصلحة الاستعلامات، كتبها موظفون تنفيذا لأوامر جاءتهم، ومعها التوجيه وطريقة التنفيذ، ولعل مصدر هذا الإحساس عند المشاهد، هو أن الصور المعروضة تكتفي، في معظم الحالات، بظواهر الأمور دون بواطنها ولبابها.
Shafi da ba'a sani ba