هذا العصر وثقافته
تحولات في المناخ الفكري
بين ماض وحاضر
ديمقراطية بغير سياسة
مسك الختام
إنسان من حروف
وحدة النظر
حلقة مفقودة
أسئلة تنتظر الجواب
قومية ثقافية
سماسرة العلماء
عصبية عمياء
حضارة تأكل نفسها
القلة الناقدة
سياسة بغير ساسة
بحثا عن الإنسان الجديد
الرؤية الساذجة
مقياس الحضارة
حوافز التقدم
وكذب بطن أخيك
إقناع فاقتناع فقانون
الزيارة الرابعة
بداوة وحضارة
حرية الفلاح المصري
وجدان هذا الشعب
لقاء في الغربة
طبيعتنا وما ينبع منها
المصريون وسر خلودهم
ثقافة المصري وجذورها
النغمة الهادئة
هذه بعض سماتنا
ثقافة أخرى
قطرة المداد الأخيرة
ليس إيمان الدراويش
من الكلامولوجيا إلى التكنولوجيا
عزلة وسط الزحام
الشرك الأصغر
توابع وزوابع
نرجسية بغيضة
الرأي المستقل
قبل الثورة وبعدها
رسالة إلى شاب
محنة وامتحان
كشف حساب
قامات متساوية
شعب مكافح
الثورة الصامتة
ضمير الأمة في كتابها
طريقنا إلى إحياء الدين
هذا العصر وثقافته
تحولات في المناخ الفكري
بين ماض وحاضر
ديمقراطية بغير سياسة
مسك الختام
إنسان من حروف
وحدة النظر
حلقة مفقودة
أسئلة تنتظر الجواب
قومية ثقافية
سماسرة العلماء
عصبية عمياء
حضارة تأكل نفسها
القلة الناقدة
سياسة بغير ساسة
بحثا عن الإنسان الجديد
الرؤية الساذجة
مقياس الحضارة
حوافز التقدم
وكذب بطن أخيك
إقناع فاقتناع فقانون
الزيارة الرابعة
بداوة وحضارة
حرية الفلاح المصري
وجدان هذا الشعب
لقاء في الغربة
طبيعتنا وما ينبع منها
المصريون وسر خلودهم
ثقافة المصري وجذورها
النغمة الهادئة
هذه بعض سماتنا
ثقافة أخرى
قطرة المداد الأخيرة
ليس إيمان الدراويش
من الكلامولوجيا إلى التكنولوجيا
عزلة وسط الزحام
الشرك الأصغر
توابع وزوابع
نرجسية بغيضة
الرأي المستقل
قبل الثورة وبعدها
رسالة إلى شاب
محنة وامتحان
كشف حساب
قامات متساوية
شعب مكافح
الثورة الصامتة
ضمير الأمة في كتابها
طريقنا إلى إحياء الدين
هذا العصر وثقافته
هذا العصر وثقافته
تأليف
زكي نجيب محمود
هذا العصر وثقافته
الجمع بين الأصالة والمعاصرة مشكلة، بل لعلها تكون أعسر المشكلات الثقافية، وأشدها تعقيدا بالنسبة للبلاد الناهضة - ونحن منها - ولكنها مشكلة غير واردة في البلاد المتقدمة؛ فلا تجد في فرنسا - مثلا - أو في إنجلترا سؤالا مطروحا أمام المفكرين يسألهم: كيف تكون سبيل الناس إلى مركب ثقافي، يجمع بين العناصر الأصيلة من جهة، وخصائص العصر من جهة أخرى، بل لا تكاد تقع عند القوم هناك على علامة واحدة، تدل على قلق يساورهم بالنسبة إلى تراثهم القديم، على حين أن مشكلة المشكلات الفكرية عندنا اليوم، هي هذه:
كيف أصون تراثي ليبقى هذا التراث في حياتي الحاضرة كائنا حيا، لا مجرد أثر من آثار المتاحف؟ ثم كيف يتفاعل هذا التراث نفسه مع مقومات هذا العصر، تفاعلا يجعلني أحيا الجانبين معا، بغير تكلف ولا تصنع ولا ادعاء، فأظل عربيا كما كنت دائما، وأكسب صفة المسايرة لعصري حتى لا أتخلف، فيصيبني الركود فالجمود فالموت؟ وليس الأمر في هذا مقتصرا علينا - نحن الأمة العربية - وحدنا، بل هو إشكال يتحدى رجال الفكر في جميع البلاد الناهضة كما ذكرت، ولقد حدث لنا منذ نحو ثمانية أعوام، أن تلقينا دعوة من جماعة من أرباب الثقافة في لاهور بباكستان، وجهت دعوتها إلى أكبر عدد ممكن من البلاد النامية - كما يسمونها - وكان كاتب هذه السطور أحد ثلاثة، ذهبوا موفدين من مصر لتمثيلها في تلك الندوة الفكرية، وكان الموضوع الرئيسي المطروح للبحث، هو هذا السؤال نفسه: كيف يتاح لهذه الأمم الناهضة أن تقبل مقومات العصر مع المحافظة على تراثها؟ ما هي أفضل صيغة يجتمع بها العنصران في بلد ما، دون أن يطغى منهما عنصر على عنصر آخر فيمحوه؟ إننا لنشاهد بالفعل بلادا انمحت ملامحها الأصيلة، فلم يبق لها إلا جانب الثقافة الوافدة، دون أن تكون هذه الثقافة الوافدة متصلة بطبعها الأصيل، فلا هي عدت بهذا الانصهار بين البلاد المتقدمة، ولا هي استبقت لنفسها طبيعتها؛ لتنعم بطمأنينة النفس على أقل تقدير.
أعود فأقول إن هذه الأزمة الفكرية لا يتأزم بها بلد من البلاد المتقدمة، وتعليل ذلك واضح وبسيط؛ فالحضارة العلمية الجديدة وليدة تلك البلاد، انبثقت من عقول رجالها وقلوبهم، وبالتالي فقد جاءتهم موصولة بماضيهم صلة طبيعية، حتى لتستطيع أن تتعقب هذا الحاضر إلى الوراء خطوة خطوة، من خطوات التاريخ الذي سارت به تلك البلاد المتقدمة حياتها، فإذا تسلسل الحلقات أمام عينيك واضح، لا يدعوك إلى قلق أو تساؤل! تستطيع أن تسير بادئا من أينشتين وزمرته من أصحاب الفيزياء النووية الجديدة، وقافلا إلى الوراء خطوة خطوة، فإذا أنت مع نيوتن وغيره، أو أن تسير - في دنيا الفنون التشكيلية - بادئا من بيكاسو وقافلا إلى الوراء، فإذا أنت مع رجال الفن في عصر النهضة الأوروبية، وقل هذا في كل شعاب الحياة العلمية والفنية، بل قله كذلك في كل ميادين الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي بصفة عامة، وذلك رغم التفاوت البعيد بين ما كان قائما في الماضي، وما قد أصبح عليه الأمر في الحاضر، لكنه تفاوت كالذي يكون بين الطفل والرجل، يمكنك تعقب العناصر التي هي قوام الرجل الآن، فإذا أنت بعد التحليل أمام الطفل الذي كان، وإزاء هذا النمو الطبيعي لا ينهض أمام الناس إشكال خاص بالتراث، ولا سؤال عما يجب عمله للجمع بين ما هو تراث وما هو معاصر.
لكن الإشكال الضخم هو إشكالنا نحن، والسؤال المعضل هو سؤالنا نحن؛ فحضارة العصر ليست من صنعنا، ولا شاركنا في ذلك الصنع بكثير أو قليل، بل هي حضارة، فتحنا بابنا فإذا هي واقفة أمامنا كائنا عملاقا متكامل البناء والأجزاء، يريد الدخول في الديار، أو نريد له نحن مختارين ذلك الدخول، فأخذتنا الربكة الشديدة: ماذا أنا صانع بمحتوى بيتي إذا دخله هذا العملاق؟ أؤلقي بذلك المحتوى في البحر؛ ليخلص المكان للوافد الجبار، أم أسارع بإعادة ترتيب المحتوى، بحيث لا يكون ثمة تعارض بينه وبين الزائر الكبير؟ إن شيئا كهذا يحدث بالفعل حين تشاء المصادفة للواحد منا - إذا كان يحيا في بيته حياة متواضعة - أن يفجأه زائر عرف عنه الثراء الضخم أو التحضر الحديث، فعندئذ تأخذنا ربكة فيما نحن صانعوه بأنفسنا، ليتفق الوضع مع منزلة الزائر المترف المتحضر.
نعم، هذه هي الصورة لما هو قائم في حياتنا الفكرية: في دارنا تراث نعتز به، وفيه انعكاس لخصائص نفوسنا، غير أن حضارة جديدة تقحمت علينا الأبواب، ودخلت بقوادمها، وإن تكن بقية أعجازها ما زالت منحشرة عند أبواب الدخول، ولو كان هذا الوافد الكاسح غير مرحب به بإجماع الرأي، لسهل علينا طرده والقبوع وراء أبواب مغلقة - وقد فعلت ذلك بلاد نعرفها - وكذلك لو كان هذا الوافد مقبولا بحذافيره، ليحل محله ما هو قائم، بحيث يملأ وحده علينا المكان؛ لما تعذر علينا أن نلقي بما تحتوي عليه الدار في ألسنة اللهب ونستريح، لكن حقيقة الأمر هي بين بين؛ فلا بد من تقبل الزائر عن رضى، شريطة أن يتكيف لما عندي من مقاعد وأسرة وأوان وصحون.
لست أذكر أن تبادل الرأي في الندوة الثقافية، التي حضرتها في لاهور منذ ثمانية أعوام أو نحوها، قد وصلت في هذه الأزمة الفكرية الحضارية إلى حل أو ما يشبه الحل، برغم أن عددا كبيرا من البلاد الواقعة في مثل هذه الأزمة قد حضر من يمثله، وإني لأرى الأمر أخطر جدا من أن يترك بغير حل، وهو كذلك أخطر جدا من أن تترك حلوله في أيد عابثة، يسهل عليها حل العقدة بقطعها. ولست أفتري على الله شيئا من الكذب، إذا زعمت للقارئ بأن هذه المشكلة الفكرية، كادت لا تبرح ذهني يوما منذ ندوة لاهور، ولقد أوشكت على الوصول إلى حل يرضيني، عرضت أطرافا منه في مناسبات متفرقة، لو جاز لي أن أضغط هيكله في هذا الفراغ الضئيل، الذي بقي لي قبل أن يتم المقال، لقلت: إن أوضح ما يميز العصر هو العلم وتقنياته، هذا أمر لم يعد محلا لاختلاف، فإذا صببنا هذا المضمون العلمي بمميزاته في وعاءين من عندنا، كانت لنا النتيجة التي نريد: أما الوعاء الأول فهو اللغة، فأنقل إلى اللغة العربية نتاج الفكر العصري كما هو، يصبح هذا النتاج عربي القسمات والملامح، وأما الوعاء الثاني فهو قواعد السلوك من تشريع وعرف، على شرط ألا تتعارض هذه القواعد مع ما تقتضيه علوم العصر على اختلافها، فإن تعارضتا وجب الإبقاء على علوم العصر، وحذف ما تعارض معها من قواعد السلوك، وإني لعلى يقين بأن الأنماط السلوكية الإقليمية المحايدة، بالنسبة لأحكام العلم كافية وحدها، أن تصون للأمة مميزات تميزها من سواها، وبهذا - فيما أتصور - نساير عصرنا بالفكر العلمي، ونميز أنفسنا باللغة، وبهذه الأنماط السلوكية التي نتفرد بها.
أقول ذلك بهذا الإيجاز المركز الذي لا يشفي غليلا، وأنا على علم بالصعاب التي تكتنف ملء هذين الوعاءين بمضمون العصر؛ فوعاء اللغة يجد من يصرخون - من العاجزين - بأن تعريب بعض العلوم ضرب من المحال، ووعاء السلوك المميز كذلك يجد من يحتجون - من الجامدين - بأنه إما أن يبقى لنا قديمنا كله، وإما أن تلقوا بعلومكم هذه الجديدة كلها في النار، لكننا بهذه الكلمة لا نخاطب لا هؤلاء ولا أولئك.
تحولات في المناخ الفكري
سؤال عن حياتنا الفكرية، طرحته أمامي، ولا أظنني قد اهتديت عنه إلى جواب مريح، وهو: هل حدثت في حياتنا الفكرية ثورة تساير الثورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي أحدثت لنا تغيرا ملحوظا لا جدال فيه؟ بعبارة أخرى: هبنا قد أقمنا مقارنة تحليلية بين أوجه نشاطنا الفكري خلال العشرينيات من هذا القرن، وما يقابلها خلال الستينيات، فهل نجد بينهما فارقا نوعيا، يستحق أن يوصف بأنه «ثورة» في عالم الفكر؟
قد يقال إن الثورة في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع، هي في حد ذاتها ثورة في الفكر، إذ ماذا يكون الفكر إلا فكرا في موضوعات هذه الميادين؟ أم تريد للفكر أن يتحرك في فراغ التجريد، فينمو أمامنا كالجذع الأجرد، بلا ورق ولا ثمر؟ نعم، قد يقال هذا، وهو قول لا يخلو من الصواب! ولكن أوجه النشاط الفكري التي أعنيها، ليست هي الأوجه التي تنشط بها في هذه الميادين، بل هي أقرب إلى أن تكون المبادئ الأولية والقواعد الأساسية، التي بناء عليها نقيم حياتنا الفكرية القريبة من ميادين العمل في دنيا السياسة والاقتصاد والاجتماع، ولقد يحدث للناس أن تتسق لهم مبادئهم الأولية تلك وقواعدهم الأساسية، مع دنياهم في هذه الميادين، فتكون حياتهم عندئذ متجاوبة الأجزاء، لا شد فيها ولا جذب؛ مما يحدث القلق والتوتر. ولكن قد يحدث لهم كذلك ألا تتسق لهم هذه مع تلك، فيعيشون النتائج من شكل، ويحتفظون بالرءوس من شكل آخر، كالذي يضع أمامه قواعد النحو، ثم يكتب على خلافها، فتقول له القواعد: ارفع الفاعل وانصب المفعول، ويظل محتفظا في رأسه بهذه القاعدة النظرية، ولكنه إذا كتب نصب الفاعل ورفع المفعول!
وعندما طرحت أمام نفسي السؤال عن حياتنا الفكرية: هل حدثت أو لم تحدث فيها ثورة، وحاولت الجواب، خيل إلي أننا قد غيرنا أسطح حياته في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وأبقينا ما هو مستقر في القاع العقلي من مبادئ وقواعد، كما هو بغير تغيير؟ ولو كانت تلك الأسطح متمشية مع هذا القاع، لاستقرت السفائن في بحارها، ولكنهما يتنافران في مواضع كثيرة، فالسطح العملي في ناحية، والقاع النظري في ناحية أخرى.
ولو اصطلحنا على أن نسمي مجموعة المبادئ والقواعد «بالمناخ الفكري» أو «بالنمط الفكري»، كان الذي أريد أن أقوله، هو أن حياتنا المعيشة على صعيد النشاط العملي، قد تغيرت بصورة ملحوظة، وأما المناخ الفكري العام، فيوشك ألا يصيبه من التغير شيء ذو بال، فإذا تذكرنا أن «الثورة» الفكرية بمعناها الأعمق، لا يتم قيامها إلا إذا تحول «المناخ» أو «النمط» من حال إلى حال، علمنا أننا ما زلنا بحاجة إلى جهد، يبذل في حياتنا الفكرية لعلنا نظفر بما نريد.
إنك لا تعرف طبيعة العصر من تفصيلات المعيشة العملية، بقدر ما تعرفها من الطابع الفكري العام، الذي تكون له السيادة في توجيه الناس، وهم بصدد الحكم على الأشياء والناس والمواقف، فمهما قلت لك من دقائق حياة الناس في مصر وفي أمريكا - مثلا - فلا أحسبك قادرا على تصور الفرق بينهما، بمثل ما تقدر على هذا التصور، إذا أنا استقطبت لك هذه الدقائق الكثيرة في طابع عام، كأن أقول: إن في مصر يضيق المكان ويتسع الزمان (التاريخي)، وفي أمريكا يتسع المكان ويضيق الزمان، فالأرض المأهولة في مصر ضيقة، فلا تسمح لأهلها بالمغامرة، مع امتداد عمرها التاريخي، امتدادا تترسب معه طائفة ضخمة من التقاليد، فتكون النتيجة هي أن يشتد احترام المصري للمبادئ، مع قلة فرصته في سرعة الحركة وأبعادها، وأما في أمريكا فالأرض فسيحة الأرجاء، والأمد التاريخي وراءهم قصير، فتتاح الفرصة للتحرك السريع والبعيد للسببين معا، فلا رقعة الأرض تحول دون المغامرة، ولا التقاليد الموروثة بذات وجود فتعيق المغامر.
أعود إلى فكرتي التي أردت عرضها، وهي أن العصر، أو القوم، إنما يعرف بالمناخ الفكري العام، أكثر جدا مما يعرف بدقائق التفصيلات العملية، فهذه هي في الأغلب نتيجة ذلك، أو هكذا ينبغي أن تكون؛ لكي تتم للحياة وحدتها. وإن ذلك نفسه ليصدق على الحياة العملية ذاتها، فترى العلماء - علماء الطبيعة مثلا أو علماء الكيمياء - لهم في كل عصر «نمط» فكري عام، يلتزمونه في منهاج البحث والنظر، ولولا ذلك لما كان لكل عصر علمي طابع خاص يميزه، فلقد كان النمط الأرسطي في التفكير، هو المناخ الغالب على علماء العصور الوسطى جميعا - في الشرق وفي الغرب على السواء - فالعناصر الأولية التي كانوا يردون إليها الكائنات، هي العناصر الأربعة المعروفة التي أخذ بها أرسطو، وطريقة الاستدلال العلمي هي نفسها الطريقة القياسية التي صاغها أرسطو، وهكذا، فإذا قلنا إن النهضة الأوروبية قد أحدثت «ثورة» في الفكر، كان معنى ذلك أنها غيرت «النمط»، واستبدلت به «نمطا» آخر، سواء بقيت النتائج العلمية القديمة أو تبدلت؛ إذ المعول في الثورة الفكرية هو على النمط العام في طريقة التفكير، لا على تفصيلات النتائج ودقائقها.
ولا تحدث الثورة الفكرية - بمعنى إحلال مجموعة من المبادئ النظرية محل مجموعة أخرى - دفعة واحدة؟ أو على الأقل أن مثل هذا التغيير المفاجئ لطريقة التفكير، لم يحدث خلال التاريخ، وإنما تتم الثورة الفكرية، بتحولات تدريجية تنقل الناس شيئا فشيئا، من نمط فكري قديم إلى نمط آخر جديد، ومتى يحدث هذا التحول؟ إنه يحدث كلما طالع الناس في حياتهم وقائع، يستحيل تعليلها بمبادئهم القديمة؛ فيضطرون اضطرارا إلى اصطناع مبادئ جديدة، تفسر لهم تلك الوقائع، فمثلا: كان الناس ذات يوم على مبدأ، أن الارض ثابتة والكواكب تدور حولها (وهذا هو النمط البطليموسي في الفلك)، فظهرت لهم أشياء لا يمكن فهمها وتفسيرها، إلا إذا غيرنا المبدأ وجعلنا الأرض - كغيرها من كواكب المجموعة الشمسية - تدور حول الشمس (وهذا هو نمط كوبرنيق في النظر)، وعندئذ يقال بحق إن ثورة فكرية قد حدثت في تاريخ العلم.
والأغلب ألا يغير الناس طريقتهم في التفكير، عند أول استثناء يظهر لهم في الأفق، بل تظل الاستثناءات تتراكم، والنمط القديم باق، إلى أن تتأزم الأمور لكثرة الحقائق، التي لا تتفق مع الطريقة القديمة في التفكير، وهنا يرجح أن يظهر في الناس رجل؛ ليقدم نظرة جديدة قادرة على حل المتناقضات التي تراكمت، فتكون هذه هي «الثورة» الفكرية.
وعقيدتي هي أن ثورة فكرية كهذه، لم تحدث لنا خلال هذا القرن كله، برغم التغيرات الكثيرة، والهامة، التي طرأت على صورة الحياة؛ وذلك لأن النمط الفكري القديم باق كما كان دائما، والعجيب الذي يلفت النظر، هو أن الفجوة الكائنة بين ذلك النمط الفكري من جهة، وتفصيلات الحياة الجديدة من جهة أخرى، لا تحدث فينا شيئا من القلق أو التوتر، الذي لو حدث لحفزنا إلى سد الفجوة، بالملاءمة بين المبادئ العامة وتفصيلات الحياة العملية.
تمنيت لو أن الفرصة متاحة هنا، لتحليل مناخنا الفكري القديم إلى أهم عناصره، ولكن حسبي أن أوجز القول في عبارة واحدة، فأقول إن طريقتنا في النظر لم تزل - كما كانت منذ قرون - هي البحث في الموروث عن «الشواهد» التي تبرر الجديد أو لا تبرره، فكأننا نمسك بين أيدينا قالبا من حديد؛ لنرغم الحياة المتدفقة الفوارة على الخلود فيه إلى سكينة النائم، تتغير حياتنا وذلك الإطار الحديدي لا يريد أن يتغير، وما لم تحدث في مناخنا الفكري تحولات، توائم بينه وبين صور الحياة الجديدة، فسيظل التنافر قائما بين الرأس والقدمين.
بين ماض وحاضر
عندما نقول إن حياتنا الفكرية في عصرنا، يجب أن تختلف اختلافا بعيدا عن الحياة الفكرية لأسلافنا في عصورهم، فلسنا بذلك نقول شيئا لنا فيه اختيار، أو قل: إن الاختيار الوحيد أمامنا في هذا المجال، هو أن نختار بين أن تكون لنا حياة فكرية أو لا تكون، فإذا كانت الأولى، أي إننا إذا اخترنا أن تكون لنا حياة فكرية، فعندئذ يصبح حتما علينا أن تجيء حياتنا الفكرية مختلفة عن حياة أسلافنا، رضينا ذلك أم كرهناه.
وأبسط برهان نسوقه على وجوب الاختلاف العميق بين ماض وحاضر، هو اختلاف معاني الكلمات الأساسية في كثير جدا من ميادين الفكر والأدب، فاللفظة المعنية تظل قائمة بيننا، كما كانت قائمة بين أسلافنا، وأما معناها عندنا ومعناها عندهم، فلم يعد بينهما إلا أوهى الصلات، حتى لأتصور أنه لو بعث اليوم سلف، وأراد التحدث إلى نظرائه من المعاصرين، لحدث بين الطرفين من استحالة التفاهم، ما حدث لأهل الكهف حين استيقظوا من سباتهم الطويل، وأرادوا تعاملا وتبادلا مع أهل المدينة، وسأقدم هنا مثلين أختارهما من المعاني الوثيقة الصلة بدنيا الأدب والفكر.
المثل الأول خاص بالكتابة والكاتب والكتاب، فماذا نفهم اليوم من قول القائل عن رجل إنه: «كاتب»؟ ألسنا نفهم من هذه الكلمة معنى، كالذي نصف به رجلا مثل العقاد أو طه حسين؟ فالكاتب عندنا اليوم هو من يعالج «الأفكار» بسطا وتحليلا، أو يصور تفاعلات «السلوك» البشري متمثلا في أفراد، يخلقهم خلقا في قصصه ومسرحياته، أو يعيد خلقهم ابتعاثا من صفحات التاريخ، ومن العجب أننا نستخدم هذه الكلمة نفسها - كلمة «كاتب» - لندل بها على مهنة أخرى، لا نكاد نذكرها إذا ما كان حديثنا حديثا عن الفكر والأدب، وأعني بها المهنة الإدارية التي يناط بها كتابة الرسائل الحكومية أو حفظها، وهي المهنة التي يرتقي صاحبها من «كاتب» إلى «باش كاتب».
وعكس ذلك هو ما كان سائدا بين أسلافنا، فإذا قيل عن رجل إنه «كاتب»، لم يرد إلى أذهان السامعين قط أنه ذو علاقة بنقد «الأفكار» وتمحيصها، ولا بتصوير السلوك البشري في قصة ومسرحية، وإنما المعنى الذي يرد إلى الأذهان هو تهذيب المعنى الثاني في حياتنا، أي المعنى الذي نفهم به من الكاتب أنه رجل يعمل في دواوين الحكومة أو ما يشبهها؛ ليشرف على كتابة الرسائل الرسمية وحفظها، فلو طولب مؤرخ بأن يذكر أعلام الكتاب (بضم الكاف وتشديد التاء) في تاريخنا القديم، لما ذكر بينهم الجاحظ والتوحيدي وأبا العلاء؛ لأن هؤلاء كتاب بمعنى هذه الكلمة عندنا نحن اليوم، وكذلك لو طولب مؤرخ معاصر بأن يذكر أعلام الكتاب في حياتنا الحديثة، لما ذكر إلا رجالا من أمثال طه حسين والعقاد والحكيم، ومحال أن ينصرف ذهنه إلى من يعملون في دواوين الحكومة وغيرها بالمعنى الثاني الذي أشرنا إليه.
ففي دنيا الفكر والأدب، يمتنع التفاهم بين السلف والخلف، إذا ما دار الحديث حول «الكاتب» وما ينبغي له أن يفعل، فمن هو كاتب عندنا لم يكن كذلك عندهم، ومن هو كاتب عندهم ليس كذلك عندنا. إنهم إذا أرادوا وصف الكاتب الأمثل قالوا كلاما كهذا: من صفة الكاتب اعتدال القامة، وكثافة اللحية، وملاحة الزي، حتى لقد أوصى والد والده أن يتخذ أسلوب الكاتب في حياته، فيكون نقي الملبس، نظيف المجلس، طاهر المروءة، عطر الرائحة. وقد يستطرد الواصفون عندهم للكاتب النابغ في دنيا الكتابة، فيذكرون طريقته في كتابة الحروف، وفي إعداده لأقلامه، «فيتخير من القصب أقله عقدا، وأكثره لحما، وأصلبه قشرا، وأعدله استواء، ويجعل لقرطاسه سكينا حادا؛ لتكون عونا له على بري أقلامه، ويبريها من ناحية نبات القصبة، واعلم أن محل القلم من الكاتب كمحل الرمح من الفارس.»
قد نقول نحن اليوم هذه العبارة الأخيرة نفسها: «محل القلم من الكاتب كمحل الرمح من الفارس.» لكننا إذا قلناها، عنينا بها شيئا آخر غير الذي عناه بها قائلها القديم، فقد أراد بها حين قالها: عناية الكاتب بالقلم من حيث هو قطعة من قصبة، يجب أن يختارها على صفات معينة، وأن يبريها بسكينة على طريقة معينة، وأما نحن - إذا قلناها - فلا نعني بها إلا «الأفكار» أو «الصور السلوكية» التي يجري بها القلم، كيف يجب أن تسدد في الهجو وفي الدفاع، كما يحدث للرمح في يد الفارس.
ويطول بنا الحديث إذا استرسلنا في ذكر الفوارق بيننا وبين أسلافنا، عندما يرد في الحديث ذكر للكتابة والكاتب، فنكتفي بما أسلفناه، لننتقل إلى المثل الثاني: وهو خاص بلفظتي «الجمال» و«الجلال» ماذا فهم الأسلاف منهما؟ وماذا نفهم منهما نحن اليوم؟
أما نحن اليوم، فقد نختلف فيما بيننا على معنى «الجميل» و«الجليل» - في دنيا الفنون - اختلافات كثيرة، لكننا جميعا نقع في إطار فكري واحد، هو الإطار الذي يربط الفكرتين بآثار الفن أو بكائنات الطبيعة، وما قد يحدثانه في نفس المشاهد أو السامع من نشوة من طراز معين، نحاول تحديده، فنختلف في طريقة التحديد، لا في تلك النشوة نفسها وحدوثها، وقليلون منا هم الذين عنوا بالتفرقة في هذا المجال، بين نشوة يحسها الرائي للزهرة الرقيقة - مثلا - ونشوة أخرى يحسها المشاهد للجبل العظيم أو للمبنى الضخم، أو البحر الضخم، أو الصحراء الممتدة، وهكذا. والذين فرقوا بين الحالتين، اقترحوا أن يقتصر «الجمال» على الحالة الأولى، وأن يطلق «الجلال» على الحالة الثانية، وسواء فرقنا بين الجمال والجلال في دنيا الفنون وعالم الطبيعة أو لم نفرق، فللكلمتين عندنا معناهما التقريبي، إن لم نستطع لهما تحديدا حاسما في مجال النقد الفني، وفي الفلسفة الجمالية، كما يعرفها الدارسون.
ونعود إلى أسلافنا فنفاجأ بشيء آخر، لا يمت بصلة، أو يوشك ألا يمت بصلة، بما يطوف في أذهان المعاصرين، فاقرأ - مثلا - رسالة صغيرة لابن عربي عنوانها: «كتاب الجلال والجمال»؛ لترى في أي عالم ينظر؟ إنني ما زلت أذكر اللحظة التي وقعت فيها على هذه الرسالة، فما كدت أقرأ عنوانها، حتى سرت في نفسي فرحة، وسحبت الكتاب من الرف، وعدت به إلى مقعدي من المكتبة، لأنكب عليه، ظنا مني أنني قد وقعت على ما يشبه نظريات «الجمال» و«الجلال» في الكتابات الفلسفية أو النقدية التي أعهدها في ثقافتنا المعاصرة؛ وذلك لأنني لم أقع قبل ذلك - ولا بعد ذلك - عند أي مفكر عربي قديم، على شيء مما يجوز أن نسميه بالنظرية الجمالية - الاستاطيقية - في التراث العربي.
عدت برسالة ابن عربي إلى حيث كنت أجلس يومئذ من المكتبة، فإذا بي أجد المتعة التي لم يكن فوقها متعة، ولكنها متعة جاءتني من عالم فكري آخر، غير العالم الذي توقعته من العنوان .
بدأت الرسالة بتفرقة لطيفة ونافذة، لم أجد لدقتها مثيلا في كل ما قرأت عن «الجمال» و«الجلال» في كتابات المحدثين، عربا كانوا أم من غير العرب، وذلك أنه وصف الحالة التي تعتور الإنسان أمام «الجميل» بأنها أنس، والحالة الأخرى التي يحسها الإنسان أمام «الجليل» بأنها «هيبة»، نعم؛ فنحن نأنس لرؤية بساتين الزهر وحقول القمح - مثلا - لكننا نشعر بالهيبة أمام الصحراء والبحر والجبل، ثم جاءت بعد تلك التفرقة اللطيفة ملاحظة، هي عندي من أصدق ما يلحظه باحث في هذا المجال، وهي أن الشعور بالأنس والشعور بالهيبة - أمام الجميل وأمام الجليل - إنما هو شعور خاص بالإنسان المشاهد، لا بالشيء الذي تنصب عليه المشاهدة. إلى هنا والدنيا بخير، فلا فرق بين مجال الكاتب ومجال القارئ في طريقة التصور.
لكن أمضي مع الكاتب، فإذا هو يعني بالجمال والجلال أمورا لم تتوقعها قط - لو كنت مثلي - إذ هو يعني بهاتين اللفظتين، حالتين مختلفتين في توجيه الله تعالى لآياته إلى الناس فهو آنا «يجاملهم» (وهذا هو الجمال) ويتبسط معهم، ويبدي لهم جانب الرحمة، وآنا آخر يتوعدهم (وهذا هو الجلال)، وينطلق ابن عربي بعد ذلك؛ ليبين لنا أنه ما من موضع في القرآن الكريم، كان فيه الجمال، إلا وقد قابله موضع فيه الجلال، فقوله تعالى:
غافر الذنب
يقابله قوله:
شديد العقاب ، وقوله:
وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين * في سدر مخضود
يقابله:
وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم ، وقوله:
وجوه يومئذ ناضرة
يقابله قوله:
ووجوه يومئذ باسرة ، وهكذا يأخذ المؤلف في ذكر أمثلة كثيرة، تبين هذا التقابل المطرد بين «إشارات الجمال» و«إشارات الجلال» - كما يسميها.
فبأي قاسم مشترك يتحدث المعاصرون مع القدماء في شئون الفكر والأدب، إذا ما دار بينهم حديث عن «الكتابة» و«الجمال» و«الجلال»؟ ألم أكن على حق حين قلت إن الاختلاف بيننا محتوم؛ لأنه أمر ليس لنا فيه اختيار.
ديمقراطية بغير سياسة
فكرة الديمقراطية هي إحدى أفكار كثيرة، خلقها فلاسفة السياسة منذ قديم، ثم أخذوا يزيدونها مع الأيام خصوبة مضمون وثراء معنى، ولقد ازدادت بهذه الإضافات المتوالية، انتفاخا في حجمها، واتساعا في رقعة تطبيقها، حتى لتبدو آخر الأمر، وكأنها كائن مختلف عما كانت عليه أول الأمر، وسواء أكان فلاسفة السياسة هم الذين خلقوها من أذهانهم حقا، ثم عرضوها على الناس فاعتنقها الناس وطبقوها، أم كان هؤلاء الناس هم الذين أداروها في صدورهم آمالا غامضة، فجاء الفلاسفة ليخرجوها لهم مصوغة في عبارات تحددها، فلا اختلاف بين الطريقين في النتائج، وإحدى هذه النتائج التي ليس عليها اختلاف، هي أن فكرة الديمقراطية وغيرها من «الأفكار السياسية» لا تفهم حق الفهم، إلا مقرونة بزمن استعمالها، فنقول: كانت الديمقراطية في العصر الفلاني تعني كذا وكذا، وهي اليوم تعني كيت وكيت، بل ربما كان لها في العصر الواحد - كعصرنا الحاضر - معنى عند قوم يختلف عن معناها عند قوم آخرين.
وهكذا قل في سائر الأفكار الرئيسية في مجال السياسة، كالحرية، والمساواة، والاشتراكية وغيرها، وبغير هذا التحديد يحدث الخلط في أفهام الناس، خلطا نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا، حين نرقب الناس وهم يتجادلون في هذه المعاني، فندرك كيف يتجادلون على غير أرض مشتركة، إذ يكون لكل منهم معنى في ذهنه، غير المعنى الذي يجادل به زميله.
ولقد عن لي خلال فترة زمنية قصيرة، أن أسجل عندي كل معنى للديمقراطية أجده واردا في الصحف، فإذا بالحصيلة كشكول عجيب، يدل أوضح الدلالة على مقدار التباعد بين الناس في تصورهم للديمقراطية ماذا تكون، برغم كونها محورا رئيسيا في الحياة السياسية كلها، وبرغم أننا نعيش معا في عصر واحد وفي بلد واحد؛ فالديمقراطية عند كاتب هي حرية المناقشة وتعدد الآراء، وهي عند كاتب آخر ارتفاع الحد الأدنى للأجور مع انخفاض الحد الأعلى، وعند كاتب ثالث هي التوزيع العادل لأعباء الضرائب، وهي عند كاتب رابع استقلال السلطات بعضها عن بعض، وهكذا.
وبينما كنت أجمع تلك الحصيلة من الصحف، لمعت في رأسي عبارة خرجت من عمق الذاكرة، وكأنها القبس يلمع فجأة وسط الظلام! كم هي عجيبة ذاكرة الإنسان فيما تحتفظ به، وما ترفض الاحتفاظ به، فيلقى في بحر النسيان! فما أكثر ما دهشت لحادثة قفزت إلى ذاكرتي، بغير داع ظاهر يدعوها إلى الظهور، ولحادثة أخرى أكد لها الذهن كدا لأستعيد تفصيلاتها، فلا تستجيب!
وأقول ذلك بمناسبة تلك العبارة التي وثبت إلى الذاكرة فجأة، وبغير داع ظاهر، وأعني بها عبارة كنت سمعتها أيام الدراسة من أستاذ، قالها لنا في سياق حديث له عن رحلة كولمبس، التي كشف بها أمريكا، إذ قالك ذلك الأستاذ إن رحلة كولمبس لم تظهر كل نتائجها بعد! لكن ما علاقة كولمبس ورحلته، إن كانت نتائجها كلها قد ظهرت أو لم تظهر، ما علاقتها بما أنا بصدد الحديث فيه؟ وإني لأكاد أوقن أن هذه العبارة حين سمعتها من قائلها، لم تكن قد أثارت في نفسي شيئا من الاهتمام بتحليلها تحليلا أتقصى به معانيها القريبة والبعيدة، لكنها حين جاءتني الآن، غير مدعوة ولا مطلوبة، وقفت عندها لحظة، فإذا هي مصباح ينير الطريق.
أعدت على سمعي تلك العبارة التي برزت من جوف الظلام: «رحلة كولمبس لم تظهر كل نتائجها بعد.» فأمسكت بهذا القول كما يمسك الطفل بعصفور بين يديه خشية أن يطير، فماذا كانت تلك النتائج - يا ترى - التي توقع لها أستاذنا القديم أن تظهر، والتي لم تكن قد ظهرت في أيامه بعد؟
كانت أولى نتائج الرحلة - بالطبع - كشف القارة الجديدة، التي ما لبثت أن أصبحت هي العالم الجديد، ثم شاء الله لهذا العالم الجديد، أن تنبت على أرضه حضارة جديدة، قوامها علم وصناعة بمعنى جديد لهاتين الكلمتين، ولسنا هنا بصدد التقويم، لنقول عما حدث أكان خيرا هو أم كان شرا، لكننا إنما نذكر ما حدث نتيجة لحياة جديدة، نشأت في عالم جديد، ويهمني جدا في هذا الموضع من سياق الحديث، أن يتنبه القارئ هنا إلى لفظة «جديد»، فلقد عرف الإنسان شيئا من «العلم» وشيئا من «الصناعة»، منذ خلقه الله إنسانا يسعى في فجاج الأرض، لكن علم اليوم وصناعة اليوم لهما من الطابع المتميز، ما يقيم حدا فاصلا بينهما وبين الذي كان؛ مما أجاز لكثيرين جدا من كتاب عصرنا، أن يستخدموا عبارة «ما قبل العلم» ليشيروا بها إلى العصور الماضية جميعا، برغم كل ما شهدته تلك العصور من علوم وصناعات؛ لأنها جميعا كانت من صنف، وأما علم يومنا وصناعته فمن صنف آخر.
نعم إن بذور العلم الجديد والصناعة الجديدة، كانت قد بذرت بادئ ذي بدء في بقاع من أوروبا - وفي إنجلترا أيام الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر بوجه خاص - لكنني لا أظن أن ثمة موضعا لشك، في أن العالم الجديد هو الذي طور البداية، تطويرا أنتج للعالم هذا الذي نسميه بحضارة العصر.
وليس الذي يعنينا في هذا الحديث، من حضارة العصر هذه، جماعة العلماء في المعامل، ولا مجموعة المكنات في المصانع، بل الذي يعنينا هنا بصفة خاصة هو ما قد صاحب ذلك، أو تلاه من نظم للحياة جديدة، نشأت نتيجة طبيعية للعلم والصناعة في صورتهما الجديدة، وهي نظم حملت في ثناياها «ديمقراطية»، لا يقتصر أمرها على المفهوم السياسي بكل معانيه المختلفة، التي ترد على أقلام الكتاب، بل مدت أطرافها لتشمل صورا من الحياة الخاصة والعامة، مما لا يندرج تحت مفهوم السياسة بمعناها المعروف، فكيف كان ذلك؟ هاك أمثلة توضح ما نريد:
قرأت في كتاب «صلة العلم بالمجتمع» - تأليف كراوزر - (وله ترجمة عربية) أن ظهور الحرير الصناعي في اليابان، كان له أثر واضح في إزالة الفوارق الطبقية في تلك البلاد، فلقد تميزت طبقات الناس قديما - في اليابان وغيرها بأنواع ثيابها، فكان الحرير في اليابان مقصورا على الطبقة العليا، التي كان منها رجال الحكم، فما إن استطاعت الصناعة الجديدة أن تخلق نوعا من الحرير، لا يختلف في مظهره عن حرير دود القز، حتى بات المظهر متشابها بين حاكم ومحكوم؛ مما أوحى إلى الناس بفكرة ظلت تكبر وتنمو، وهي ألا يكون الحكم مقصورا على أسرة حاكمة، وحتى إن بقيت للحكم أسرة بعينها، فلا ينبغي أن يجاوز ذلك حدوده الشكلية، التي لا تؤثر في سير الأحداث.
لقد لبث الناس في عصور ما قبل الصناعة الجديدة، لا يعرفون لثيابهم إلا المصادر «الطبيعية»، كالصوف والقطن والكتان والجلد، وكانت هذه تتفاوت في قيمتها، بتفاوت الصعوبة في الحصول عليها، لكن العلوم الجديدة والصناعة الجديدة، جاءتا لتخلقا ما لم تكن للطبيعة عهد به، فأخرجتا للناس صنوفا من الأقمشة المركبة في المعامل، كادت تسوي بين عباد الله في مظهر الثياب، ولست أملك نفسي من ابتسامة ساخرة، كلما رأيت أسرة مصرية، حرصت على أن تضع خادمتها منديل الرأس على شعرها؛ ليكون بمثابة الفارق الذي يعلن اختلاف الطبقتين (ونحن الدولة التي تستهدف إذابة الفوارق بين الطبقات)، أقول إني لا أملك سوى السخرية من هذه البقايا، بعد أن كان الاختلاف في طبيعة الثياب نفسها!
وعلى ذكر اليابان وحريرها الصناعي، وما أحدثه من تذويب حقيقي بين الطبقات، أذكر - عابرا - شيئا آخر، هو اللؤلؤ الذي عرفت اليابان أيضا كيف تستزرعه، فبدل أن ننتظر على الأصداف دهرا طويلا، حتى تفرز لنا اللؤلؤ إفرازا طبيعيا، استعان أهل اليابان بعلوم اليوم وصناعاتها، فعرفوا كيف يستثيرون تلك الأصداف نفسها؛ لتعجل بإفرازها من اللآلئ، وهكذا ازدادت انتشارا، ورخصت ثمنا، فأصبحت السيدة من عامة خلق الله تطوق عنقها، بما لم تكن تستطيعه في الأزمان الخوالي إلا أميرات.
ألا ما أكثر المعاني التي تمر على الإنسان مع مر الأيام، فلا يفهمها حق الفهم في حينها، حتى إذا ما أسعفته خبرة الحياة بعد ذلك بما يعين، تبين له من خفايا المعنى ما لم يكن قد تبين، فلست أذكر متى ولا أين قرأت للأديب الفرنسي «إميل زولا» قوله: إن ظهور المتاجر الكبرى ذات الأقسام المتعددة، قد أنزل أدوات الترف منازل الديمقراطية، فماذا كان يعني إميل زولا بقوله هذا؟ إننا لنرى بعض جوانب الحياة اليومية فلا نلحظ - من شدة من ألفناها كم فيها من عوامل أنشأت في حياة الناس الجارية ديمقراطية لم يكن يحلم بها الحالمون، ولعل ما أراده «زولا» بعبارته السابقة عن المتاجر الكبرى، هو أن البضائع فيها معروضة أمام الأعين، لا فرق بين النفيس منها وغير النفيس، وأثمانها محددة، بغض النظر عن مكانة المشتري، وقد تقول: وماذا في ذلك؟ أقول إن في ذلك الشيء الكثير من التسوية بين الناس، ولعلي لا أقذف بالقول قذف المستهتر، إذا زعمت بأن تفاوت الأثمان للسلعة الواحدة، بحسب المواقف المختلفة في عملية البيع والشراء، هو قرين للمجتمع إذا سادته التفرقة بين الطبقات، وأن اجتماع الأفراد جميعا عند ثمن واحد للسلعة الواحدة في المتجر الواحد، هو أيضا قرين للمجتمع إذا شاعت فيه الروح الديمقراطية الصحيحة.
كانت البضائع الثمينة فيما مضى مصونة عن أعين العابرين، يخرجها بائعها لمن يتوسم فيه الملاءمة لشرائها، وكانت أثمان السلعة الواحدة تعلو وتهبط بتفاوت الزبائن في تقدير البائع، دون أن يكون في ذلك معنى للغش أو الخيانة ف «التجارة شطارة.» كما سمعت تاجرا عربيا يقول لمن جاءه لائما لبيعه السلعة الواحدة بأثمان مختلفة. تغيرت الصورة في البلاد التي تأثرت بروح العصر الجديد، وتلكأت الصورة القديمة في البلاد الأخرى، تلكأت كثيرا أو قليلا بمقدار ما تأثر البلد المعين بروح العصر.
ولم تكن الثياب وحدها، أو المساكن أو ضروب العمل، أو صور البيع والشراء، هي التي تفرق بين فئات الناس، بل كان يفرق بينها كذلك ضروب التعليم التي تتلقاها، وأنواع الوسائل التي تملأ بها أوقات الفراغ، إلى أن أنتج العلم الجديد والصناعة الجديدة للناس وسائل، يجتمع عندها الأعلون والأدنون على سواء، فالإذاعة - مرئية ومسموعة - والصحيفة وشاشة السينما، لا تفرق بين مشاهد ومشاهد، ولا بين قارئ وقارئ، أو سامع وسامع، فأعلى فئات الناس وأدناها - كل في داره - يقضي ساعات فراغه بالطريقة نفسها، وبالمادة الفكرية والفنية نفسها، وفي اللحظة نفسها.
كان القادرون وحدهم هم الذين يحصلون على الفاكهة أو غير الفاكهة، في موسمها وفي غير موسمها، وفي منبتها وفي غير منبتها على السواء، فأصبح الأمر في هذا موزعا بالتساوي على البشر أجمعين، بفضل التعليب وطرائق الحفظ - وكلها من نتائج العلوم - حتى ليكون الإنسان في يومنا من سكان الصحراء، وأمامه فاكهة الدنيا بأسرها ولحومها وخضرها على مدار العام؛ فانمحت بذلك فوارق الزمان وفوارق المكان. إننا لو استطردنا في هذا الحديث؛ لتفتحت لنا أبوابه إلى غير نهاية، وكلها أبواب تدخلنا في رحاب الديمقراطية عن غير طريق السياسة.
مسك الختام
يقال إن طائر البجعة يغرد بأحلى أنغامه قبيل أن يموت، حتى ليكفي أن تقول عن عمل فني لفنان، أو عن كتاب لمؤلف، أو عن عمل مجيد لمصلح، إنه كان بمثابة «غنوة البجعة»؛ لتعلم أنه كان آخر منجزاته وأعظمها معا، فهو من حياته - كما نقول نحن - مسك الختام.
ولقد ظهر لفيلسوف التاريخ «آرنولد توينبي» كتاب، كان آخر ما كتب، ونشر له بعد وفاته (ولد 1889م، ومات 1975م)، فلما كتب عنه النقاد، وصفه بعضهم بأنه كان لحياته المليئة بأعظم الإنتاج الفكري؛ بمثابة «غنوة البجعة»، بمعنى أنه كان خير كتبه جميعا في رأي هؤلاء، وهو الكتاب الذي جعل عنوانه: «الإنسان وأمه الأرض»، فماذا ورد في هذا الكتاب؛ ليميزه في أعين النقاد؟
كان «توينبي» معروفا لنا - نحن المثقفين العرب - معرفة جيدة، على الأقل إذا قيست بمعرفتنا لما ينتجه الفكر الغربي في عصرنا، وربما كان ذلك راجعا إلى عاملين أساسيين: أولهما أن توينبي قد وجد بيننا من يلتفت إليه ويهتم به؛ فأراد ألا يقصر الأمر على نفسه، فكتب عنه بما جعله عندنا تحت الضوء، ويكفيني في هذا الصدد، أن أذكر بأن توينبي كان هو أستاذ التاريخ، الذي تعلم على يديه أستاذنا المؤرخ المغفور له «محمد شفيق غربال» أستاذ التاريخ الحديث بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وهو الذي أخرج بدوره عددا ضخما من ألمع المشتغلين بالتاريخ الحديث في حياتنا الثقافية، ولقد كان المرحوم الأستاذ غربال، هو الذي شجع المرحوم فؤاد شبل بترجمة المجلدين، اللذين كان «سومر فيل» قد لخص بهما الموسوعة الكبرى في فلسفة التاريخ، التي كتبها توينبي في نحو عشرة مجلدات وأسماها «دراسة للتاريخ»، وهي الدراسة التي استعرض بها أكثر من عشرين حضارة؛ ليحلل عوامل نشأتها وعوامل زوالها «في حالة زوالها»، وإذا به يخرج من هذا كله بالنتيجة المشهورة، وهي بأن «التحدي والاستجابة»، هما الأساس العميق في ظهور الحضارات واختفائها، وقد قلت إن توينبي كان معروفا لنا - نحن المثقفين العرب - معرفة جيدة إذا قيست بمعرفتنا لسواه من أعلام الفكر الغربي المعاصر، وإن ذلك كان يرجع إلى عاملين أساسيين، ذكرت أولهما، وهو أنه وجد من اهتم به، فأثار بدوره اهتمامنا، وأما العامل الثاني فهو أن توينبي - بكل الموضوعية النزيهة التي كان ينظر بها إلى الأمور، وكأنه من الأرباب على قمة الأولمب، ينظر إلى الأحداث نظرة المسيطر الواثق، لا تهزه العاطفة يمنة أو يسرة - بكل هذه الموضوعية المتسامية المنزهة عن الهوى، كان يناصر العرب في قضيتهم، وكان يعلي من شأن الإسلام، إذا ما كان بصدد الحديث عن الديانات، ذوات الأثر العميق في مسار التاريخ.
ونعود إلى كتابه الذي نشر له بعد وفاته، والذي كان مسك الختام لمجموعة أعماله، التي تنوء تحت حملها قدرات البشر، من غير ذوي العبقرية الفذة، فنسأل: ماذا جاء في هذا الكتاب الأخير؛ مما أضفى عليه امتيازه؟! وأود - قبل أن أجيب - أن أثبت حقيقة أسعفتني بها الذاكرة الآن، في هذه اللحظة، التي أكتب فيها هذا السطر من المقال، وتلك هي أنني تذكرت ساعة مضى عليها أكثر من ثلاثين عاما، كنت فيها أطالع كتاب شبنجلر، عن تدهور الحضارة الغربية، ولم تكن مطالعتي لذلك الكتاب، من النوع الذي أنصرف فيه بكل ذهني إلى ما أطالعه، لا لأن ذلك الكتاب العظيم لا يستحق كل ما وسعني من قوة وتركيز، بل لأنني كنت يومئذ أملأ - في تلك الساعة - فراغا قصيرا بين عمل أنجزته وعمل آخر سأبدأ فيه؛ فرأيت أن أجعل ساعة الراحة تنويعا في المرعى وتغييرا في النغم، فكان أن امتدت يدي إلى كتاب شبنجلر - وكنت في المكتبة العامة بجامعة لندن - وأخذت أطالع عبر صفحاته تلك المطالعة الطائرة، وإذا بالحظ الحسن يسوقني إلى وضع فيه فكرة كانت جديدة علي، ورأيت فيها ما يشبه المنارة أمام ربان السفينة وهو في جنح الظلام.
وإنما كانت تلك الفكرة المضيئة جديدة علي؛ لأنني - كمئات الألوف من المتعلمين العرب، الذين أخرجتهم المدارس والجامعات - كنت حبيس إطار قيدتني به مدارسنا وجامعاتنا، وهو إطار صنعه فكر غربي، ينظر إلى الدنيا بمنظاره هو، وكان ذلك الفكر الغربي صانع هذا الإطار، مخلصا لنفسه؛ لأنه إنما صاغ ما رآه بعينيه في مناخه الثقافي، لكن ماذا أجبرنا نحن أن نتورط فيه؛ فنظنه هو الحق الموضوعي الذي لا شبهة فيه؟ وإنما أعني بذلك الإطار الفكري، الذي حبستنا فيه ثقافة الغربيين عن طريق مدارسنا وجامعاتنا، تقسيم التاريخ إلى مراحل ثلاث: قديم ووسيط وحديث، فأما الحديث فهو القرون الأربعة الأخيرة، وأما الوسيط فهو القرون العشرة التي تمتد «تقريبا» من القرن السادس إلى القرن السادس عشر، وأما القديم فهو ما قبل ذلك! ما شاء الله! ثمانية آلاف عام، بكل ما فيها من حضارات مصر وبابل والهند والصين ثم اليونان والرومان، وبكل ما فيها من ديانات ظهرت في الشرق الأقصى كالبراهمية والبوذية، وأوحى بها الله في الشرق الأوسط، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام؛ ثمانية آلاف عام بكل غزارة محصولها، وخصوبة عقولها ومضاء إراداتها، «تكلفت» كلها في قسم واحد من أقسام ثلاثة، هي عندهم أقسام التاريخ! ثم ماذا؟! ثم يحدث في معظم الكتب التي تعرض ذلك التاريخ، أن تزيد من العناية بالحديث بالنسبة إلى القديم؛ فتكون النتيجة هي أن تجد أكثر من ثلث الكتاب، أو قل أكثر من ثلث الجهد المبذول - إذا كان هناك أكثر من كتاب أو مؤلف - مخصصا للقرون الأربعة الأخيرة وحدها، التي هي التاريخ الحديث، وأقل من ثلث المساحة الورقية أو ثلث الجهد العقلي، هو الذي يخصص لثمانية آلاف عام، هي مدى التاريخ القديم، وقد تكون فترة العصور الوسطى أحسن حظا من فترة التاريخ القديم، لكنها مع ذلك لا تظفر بمساحة، تقرب مما يخصص للقرون الأربعة الأخيرة.
فماذا يكون الانطباع الذي يخرج به الدارس، إذا ما رأى ثمانين قرنا قديمة، لا تساوي عند المؤرخين أربعة قرون حديثا؟ ألا يكون ذلك الانطباع المحتوم، هو تفاوت الاهتمام بالنسبة نفسها بين العصور؟! ولما كانت منجزاتها الكبرى قد وقعت في ذلك القديم المنكود، فهل يسع الدارس منا إلا أن يضؤل حجمه في عين الناس، إذا ما قارن حضارتنا بحضارة القرون الأربعة الأخيرة؟!
ومنذ تلك اللحظة التي وقعت فيها على فكرة شبنجلر هذه، بأن حضارات القدماء مغبونة على أيدي المؤرخين، وأنا أحاول أن أتحرر بفكري عن حدود الإطار، الذي حبستني فيه مدارسنا وجامعاتنا، ولم يكن معنى ذلك عندي، أن أستهين بالقرون الأربعة الأخيرة، كلا بل كان معناه الأكبر هو ألا أجعل عظمة القرون الأربعة الأخيرة، تعميني عن رؤية ما قد كان قبلها، لا سيما ونحن من أبناء ما قد كان قبلها.
ومرة أخرى أعود إلى كتاب «الإنسان وأمه الأرض»، الذي كان مسك الختام في حياة آرنولد توينبي، وأسأل: ماذا في هذا الكتاب مما يؤهله عندنا، لكل ترحيب ولكل إجلال وتعظيم؟! إن أهم ما جاء في هذا الكتاب ليبشر به، هو رسالة ذات شقين: أحدهما أنه قد آن للحضارة العصرية، أن توقف وثبات العلم عن جبروتها، بأن تعيد الدين إلى قوته الأولى في نفوس البشر، ليكون العلم إلى جانب الدين قوتين تحدثان التوازن المطلوب، وأما الشق الثاني من الرسالة، فهو الدعوة القوية الموجهة إلى الغرب الأوروبي والأمريكي، بأن يصحح ضلاله الذي أغواه فيما مضى، بأن يجعل أوروبا وحدها - وأوروبا الحديثة على وجه الخصوص - هي المحور الذي تدور حوله حضارات الأرض وأفلاك السماء.
وفي ذلك يقول توينبي ما خلاصته أن الإنسان قوامه إرادة حرة وضمير، فبالإرادة الحرة - متروكا حبلها على الغارب - يبرطع الإنسان في شئون الدنيا، ما شاءت له قدراته، فينطلق في علومه وصناعاته وكشوفه، فهو يشق الأرض هنا، ويغوص إلى أعماق البحر هناك، ويضرب في أجواز الفضاء إلى أن يطأ بقدميه سطح القمر، ثم يجاوز القمر إلى ما هو أبعد منه في متاهات الكون الفسيح، لكن الإنسان في اندفاعاته الجبارة بقوة الإرادة الحرة، قد يصيب وقد يخطئ، فإذا كان الخطأ خطيئة، ولم تجد في دنياه ما يعاقب عليها، وثب إليه ضميره، يذكره بما سوف يلقاه من جزاء يوم الحساب.
إن الإنسان من جمهور الناس، يتأرجح بين نموذجين تمثلا - كما قال توينبي - في القديس فرنسيس وأبيه، فأما القديس فقد جسد في شخصه زهد الصوفي، الذي ينشد الصفاء والنقاء ، وأما أبوه فقد كان تاجرا محموما بالرغبة في كسب المال ومتعة الأرض، ففي أبيه انفردت الإرادة، وفي ابنه القديس غلب الضمير، والإنسان العادي من سواد الناس متأرجح بين الطرفين.
ولو سمحت لشخصي الضئيل أن يعبر لنفسه عن رأي يخالف به - بعض الشيء - موقفا لتوينبي، قلت: إن فيلسوف التاريخ توينبي، كأنما أراد إحياء للدين على حساب التقدم العلمي، وكأنه يرى أن ذلك الإحياء الديني، لا يتسق مع أن يترك العلم في تقدمه السريع، وهو في هذا المقام يذكر قراءه، بأن العلم ليس هو ذلك الطاغية، الذي لا سبيل إلى تقليم أظافره؛ لنتيح الفرصة لغيره فيعتلي الذروة مكانه - «وغير العلم» الذي يشير إليه هنا هما الدين والفن - فيكفي أن نوجه أصحاب النبوغ العبقري نحو الدين ونحو الفن، لتنصرف تلك القدرات العليا عن ميدان العلم، يكفي ذلك لترى المكانة بعد قليل من سنين، قد عادت إلى الدين وإلى الفن، كما كانت لهما طوال القرون، وإني لأتساءل في تواضع شديد: لماذا لانترك أصحاب العبقرية النابغة، في وجهتهم نحو ميدان العلم، كما هي الحال الآن، مع إضافة الروح الدينية والفنية؛ ليحيا الإنسان بجناحين، كما أراد له الله تعالى أن يحيا! فليس الأمر هو إما هذا وإما ذاك، بل الأمر هو الجمع بين هذا وذاك، في كيان إنساني واحد.
ولكن قل ما شئت في شأن هذا الكتاب الأخير لتوينبي، الذي جاء وكأنه صيحة، يوجهها الرجل من قبره إلى إنسان العصر، قل ما شئت، فالكتاب للرجل هو مسك الختام.
إنسان من حروف
ترى ما الذي أسدل الستار - في أوروبا - على عصورها الوسطى، ثم كشف لها الطريق إلى عصرها الحديث؟ كيف جاءتها النذور، فاتحة أعينها على عوامل الركود والجمود، لتزيحها وتنطلق إلى حضارة جديدة، هي الحضارة التي يعيش العالم كله اليوم في خيراتها؟ ذلك سؤال نسأله لعلنا نقع على جواب، ينفع الأمة العربية، وهي تتأهب لتستقبل العصر الجديد؟ ما هي أقوى المصابيح التي توجهت بضيائها في أوروبا، ساعة انتقالها من حياة إلى حياة؟ فلعلنا لو عرفناها أضأنا مثلها ، لتنزاح الظلمة عن الطريق.
إنها قلة قليلة جدا من الكتب، بين ملايينها التي تراها، أو تسمع عنها: مخزونة في مكتبات العالم، هي التي صنعت للإنسانية تاريخها الفكري، ومن تلك القلة القليلة كانت قصة دون كيخوته للأديب الإسباني سيرفانتيس (ترجمها إلى العربية الدكتور عبد الرحمن بدوي)، ولست أشك في أن القصة معروفة ومألوفة، فمن ذا الذي يسمع بهذا الفارس الأسطوري - دون كيخوته - الذي ملأته الأوهام، حتى لقد امتشق حسامه، وادرع بدرعه، وراح يقاتل طواحين الهواء، ويهاجم قطعان الغنم، حاسبا إياها قلاعا وجيوشا! لكن الذي أشك في أن يكون معروفا مألوفا - اللهم إلا عند القلة القارئة - هو ما علق به النقاد، وشرح به الشراح، تلك الآية الأدبية الكبرى. فلا نهاية لما يقوله أولئك وهؤلاء، في استخراج المغزى الكامن في غضون القصة. ولقد كان من أهم ما قيل عنها، استخراجا لمغزاها، أنها كانت الحد الفاصل بين عصر أوروبا الوسيط - بأضوائه وظلماته معا - وعصرها الحديث، فكيف كان ذلك؟
المحور الأساسي في القصة - أو على الأقل هذا هو الجانب الذي يهمنا منها في هذا المقال - هو أن دون كيخوته قرأ قراءة مستفيضة عن حياة الفرسان كما كانت في العصور الوسطى، وتشبع بما قرأ حتى اعتزم أن يحيا فارسا على منهاجهم. فلو كان دون كيخوته يعيش في قلب العصور الوسطى، مع سائر الفرسان عندئذ، وسلك كما سلكوا؛ لما كانت هناك مفارقة تلفت النظر، لكن تلك العصور كانت قد جاوزت نهارها، وانحدرت إلى غروبها، فإذا ما أراد إنسان، ساعة الغروب، أن يرد الزمن إلى ساعة الظهيرة التي انقضت وانقضى أوانها، كان ذلك هو العبث بعينه؛ لأنه يحاول المستحيل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نقول، إنه لو كان دون كيخوته، قد قرأ عن حياة الفرسان ما قرأ، ثم وقف عند حد القراءة وحدها؛ لعددناه مثقفا استوعب التاريخ من إحدى زواياه، ولكنه قرأ، ثم صمم على تنفيذ ما قرأه في حياته الحقيقية، بأن يعيد حياة الفرسان في شخصه؛ فكان هذا الجانب منه هو الذي نقله في أعين الناس من كونه مثقفا، إلى كونه مهزلة تثير السخرية.
فعندما صور سيرفانتيس هذه الشخصية - شخصية دون كيخوته - كان بمثابة من يقدم للناس صورة رجل، يجسد عهدا مضى، فمن أراد أن يعيده كما كان، بكل قواعده وأصوله، كان بذلك أعجوبة تدعو إلى الضحك، حتى ولو مازج هذا الضحك، شيء من العطف على ذلك المسكين، الذي لم يستطع أن يفرق بين الممكن والمحال، فقد ملأ رأسه بالصور المقروءة في الكتب، ثم خرج ليحياها، فإذا الواقع من حوله، قد تغيرت معالمه عما قرأ، فبدل أن يعدل من الصورة المقروءة؛ ليجعلها تساير الواقع، حاول العكس؛ وهو أن يغير من الواقع ليجعله مسايرا للمقروء في الكتب، ومن هنا جاءت غفلته.
إن المراحل التاريخية التي ينعم الناس فيها، بالاستقرار وسكينة النفس وراحة البال، هي تلك التي يحدث فيها توافق بين المكتوب من جهة، والواقع الذي يعيشونه من جهة أخرى، لكن المراحل المطمئنة بهذا التوافق، لا تمتد إلى آخر الدهر، بل لا بد أن تتغير ظروف الواقع المعيش شيئا فشيئا، فتحدث بالتالي فجوة بين الوارد في الكتب والأمر الواقع، وتأخذ الفجوة في الاتساع، حتى تصل إلى درجة، يستحيل معها أن يطمئن للناس عيش، ويصبح حتما أحد أمرين: إما أن نعدل من المكتوب، بمكتوب جديد يلائم الواقع الجديد - وتلك هي سنة التقدم - وإما أن نحاول إرجاع الواقع الجديد إلى الوراء، ليعود إلى ملاءمته القديمة مع ما هو مسطور في الكتب، وهي محاولة إذا نجحت كان نجاحها، هو نفسه موت الأمة التي نجحت فيها.
خرج دون كيخوته في مغامراته، وهو يتوهم أن المجال لم يزل هو نفسه المجال، الذي نشط فيه الفرسان الأقدمون، الذين قرأ عنهم أخبارهم وأراد أن يحيا على نموذجها، فكان المسكين يضرب في فجاج الأرض، وكأنه حفنة من حروف طارت من صفحاتها التي هي مدونة فيها، لم يكن عندئذ إنسانا كسائر الأناسي من حوله: تجري في عروقه مثلما يجري في عروقهم من دماء، بل كان كتابا يسير على ساقين، ولم يكن كسائر الناس يرى الأشياء من حوله ، ثم يصطنع لها ما يناسبها من حرف وكلمة وعبارة، بل كان على عكس ذلك، يبدأ بما عنده هو من حرف وكلمة وعبارة؛ ليقحمها على الأشياء الخارجية إقحاما، فكان وكأنه إنسان من ورق، عظامه لغة قرأها في قصص الفرسان، كما رواها الرواة، ولحمه نصوص محفوظة، ودماؤه هي المداد الذي سال على صفحات الكتب كلمات.
كان دون كيخوته في سعيه الواهم، تجسيدا لتراث مكتوب؛ فأخذ يلتمس له في حياة الواقع شبيها يؤيده ويحميه؛ ولأمر واضح المرمى، جعله المؤلف رجلا نحيلا ضعيفا، أثقل جسده بدروع، لم تخلق إلا لأجساد قوية سليمة؛ فازداد هزاله هزالا، وهو تحت دروعه الثقال، ولأمر واضح كذلك، جعله المؤلف يركب حمارا عليلا، ويحسب أنه إنما يعتلي جوادا، كجياد أسلافه من الفرسان، فكانت كلها رموزا مكثفة، تصرخ بالدلالة على أن أوان الفروسية قد فات ومات، ومن أراد إحياءه في غير عصره، كان كمن أراد أن يخرج من الماء شعلة نار.
كان دون كيخوته في تجواله منسوجا من حروف، التقطها من صفحات الكتب، بل لم تكن تلك الحروف هي لحمة كيانه وسداه فحسب، بل زادت على ذلك، فأصبحت هي القانون الذي يحدد له ما يجب، وما يجوز وما يمتنع؛ ولذلك كان كلما صادفته على الطريق ظروف طارئة، رجع إلى النصوص المنقولة المحفوظة؛ ليرى فيها ماذا يجب على الفارس أن يصنعه إزاءها؛ ليؤدي واجبه على الوجه الذي ترضى عنه الفروسية وقوانينها. لقد كانت القصص التي قرأها دون كيخوته عن الفرسان الأسبقين، بمثابة الأساطير؛ ولذلك كانت لها خصائص الأساطير، ومن هذه الخصائص أن الأسطورة لا تتقادم مع الزمن، فهي في أي وقت، وفي كل وقت، تبدو وكأنها بنت يومها؛ ولذلك فالأسطورة تلمع دائما ببريق الحق، وإذن فلم يكن شذوذا من دون كيخوته، أن يتأثر بما قد قرأ، على النحو الذي تأثر به، معتقدا دائما أنه أمام نصوص أزلية أبدية، تحمل الحق في سطورها، وترسم طريق الواجب بحروفها.
وكان من أول تلك الواجبات المفروضة عليه، أن يعيد نثر الحياة المحيطة به، إلى شعر الحياة التي كانت ، أن يرد صلابة الواقع، كما يحسه ويعانيه، إلى ملحمة من ملاحم الماضي المجيد، فمحتوم عليه أن يظل في أرجاء الأرض، باحثا عن المواقع التي يراها مطابقة للصور التي قرأ عنها في حياة الفرسان، وهم في عز مجدهم؛ لأن كل موقع وكل موضع، يرى فيه تطابقا مع النصوص، ينهض شاهدا على أن النصوص، تحمل الحق في كلماتها، وما دامت تحمل الحق، فلا بد من أن يسلك على هداها، وهو مطمئن لسلامة ما يفعله.
وحتى إذا أعجزته الحيلة عن أن يجد التطابق المنشود، بين العالم كما هو واقع، والنصوص كما قرأها في الكتب ووعاها، حاول أن يقرأ ذلك العالم الواقع، قراءة جديدة يهتدي بها بخياله، فيحوله بالوهم عما هو عليه، إلى ما كان ينبغي في رأيه أن يكون عليه. إن الأشياء في هذه الدنيا الواقعة، قد يمكن تفسيرها على أوجه كثيرة، فلماذا لا تبحث فيها عن الرؤية، التي تجعلها تعبر الفجوة التي حدثت بينها وبين نصوص الكتب، تعود فتطابقها من جديد، كما كانت تطابقها أيام الفرسان؟ فكأنما كائنات الدنيا - بهذه النظرة - هي رموز يقرؤها القارئ على نحو ما يشتهي أن يقرأها، وليست هي بواقع صلب عنيد، لا مناص للإنسان من الإذعان له، والتكيف لطبائعه.
فهذه - مثلا - قطعان من الغنم ترعى، وتلك أكواخ صغيرة تناثرت فوق المرج، وأولئك فتيات راعيات ساذجات فقيرات، فلماذا لا نرسل الأوهام في كل هذه الأشياء؛ لتصنع لنا من قطيع الغنم جيشا، يصلح أن نواجهه مواجهة الأعداء في ساحة القتال، ولنصنع من الأكواخ قلاعا حصينة تستحق التأهب للهجوم والغزو، وتجعل لنا من أولئك الراعيات سيدات مهذبات، ممن كن في حماية الفرسان الأولين؟ وإذا ظل الاختلاف قائما بين ما هو واقع من جهة، وما هو منصوص عليه في الكتب من جهة أخرى، لجأنا إلى السحر، ننزل فعله على الأشياء لتخرج من طبائعها، وتتحول إلى ما يجعله على الصور التي نريدها لها، والتي تكون بها مسايرة للنصوص ذات العصمة والخلود، ذلك هو المغزى وراء شخصية دون كيخوته، وهو أن يرسم للناس صورة من يريد للزمن، أن يكر راجعا إلى الوراء، وصورة من يظن أن الماضي، هو وحده الزاهر الزاهي، الذي يقاس عليه! ولكن ماذا لو حاول دون كيخوته، أن يلوي مجرى الزمن عن اتجاهه؟ ماذا لو أراد أن يرغم الأشياء الواقعة، على أن تطابق نصوصه، فلم يستطع؟ أليست النتيجة الحتمية عند المشاهد، هي أن يجد كلمات الكتب القديمة، قد أفرغت من مضمونها؛ لأنها فقدت قدرتها على أن تشير إلى أمور الواقع؟ وإذا هي فقدت دلالتها الحقيقية، فهل يبقى أمامها إلا أن تنطوي في صفحاتها، وتنغلق في محابس كتبها، ليعلوها العفار، فتذهب عنها النضارة، وتصيبها صفرة المرض؟ إن الكتب القديمة عندئذ تنعزل وحدها، وتبتر الصلة بينها وبين الدنيا التي حولها، فلا تعود أنفاسها تستمد الهواء من خارج، فتضطر إلى امتصاص نفسها، وابتلاع ريقها، إلى أن يشاء الله لها أمرا.
وأما الواقع الجديد، الذي استعصى على السحرة، أن يردوه إلى صورة النماذج المخزونة في الكتب، فيمضي قدما، باحثا له عن كتب جديدة تسايره، يكتبها كتاب آخرون، وفي هذا تكون الصحوة التي يسميها التاريخ بالنهضة، كان ذلك في اليقظة الأوروبية، فهل يصلح لنا سواه في اليقظة العربية؟
وحدة النظر
لقد جاءت هذه الأسابيع القليلة الماضية، منذ اليوم السادس من أكتوبر؛ لتقيم لنا البرهان واضحا، على أن الفكر والأدب والفن جميعا، تستطيع أن تلتقي كلها في اتجاه واحد؛ فالفكرة، والنغمة، واللفظة، والخط واللون، إن هي إلا جوانب متعددة، من منشور زجاجي واحد، يسقط عليه شعاع الضوء، فيتفرق ألوانا مختلفة، تؤكد ما بينها من اتساق وتكامل؛ ففي غضون هذه الأسابيع القليلة الماضية، رأينا كيف انسابت الأفكار في مقالتها، والأنغام في معزوفتها، والألفاظ في قصائدها وأغنياتها، والخطوط والألوان في لوحاتها، وكأنما جميعا قد انبثقت من عين واحدة، ونطقت بلغة واحدة، واختفت الفوارق التي تفصل بين قديم وجديد، أو بين وجدان وعقل، أو بين علم وفن؛ لأن هذه كلها - وإن تعددت وسائلها - جاءت لتعبر عن كيان واحد، بكل ما في مقوماته من جوانب، ثم جاء ذلك التعبير - وهذا هو المهم - صادقا لا محاكاة فيه ولا تصنع.
لم تكن هذه حالنا دائما، فقد سألت نفسي ذات يوم قريب، وكان ذلك قبل السادس من أكتوبر: ترى إلى أي حد تتجه أوجه نشاطنا في ميادين الفكر والأدب وجهة واحدة، كما ينبغي لها أن تفعل، لو كانت بيننا الروابط الحيوية، التي تجعل من الأمة أمة واحدة؟ وليست وحدة النظر بين المجموعة المترابطة من الناس، تقتضي بالضرورة أن يتحد أفراد تلك المجموعة في وسائلهم، إذ في وسع هؤلاء الأفراد أن يوجهوا أنظارهم وجهة واحدة معينة، كأنما تشيع بينهم النظرة إلى مجدهم القديم، أو تشيع النظرة إلى المستقبل المأمول، ومع ذلك يختلفون في طرائق التعبير باللفظة والنغمة واللون، وأعتقد أنه بغير الاتحاد في اتجاه النظر، يتعذر أن يعيش القوم في مناخ وجداني واحد.
والحق أن العصور المختلفة - وكذلك الشعوب المختلفة في العصر الواحد - إنما يتميز بعضها من بعض بنوع «اهتماماتها» أكثر مما تتميز بمجموعة الوقائع المحيطة بها، وتلك «الاهتمامات» هي فروع تنبثق من المناخ الوجداني العام، الذي يميل بالناس إلى أن يحبوا هذا الشيء، وأن ينفروا من ذلك، فقد تتشابه الوقائع المحيطة بمجموعتين من الناس، لكن تختلف اهتماماتهم، فتختلف بالتالي حياتهم الثقافية، كأن تهتم إحدى المجموعتين بالنتائج العملية، بغض النظر عن المبادئ المضمرة وراءها، على حين تهتم الأخرى بتلك المبادئ النظرية، مهما يكن من أمر النتائج المترتبة عليها، ومع هذا الاختلاف البعيد في وجهة النظر بينهما، تراهما متشابهتين في كونهما تشتغلان بالزراعة أو بالصناعة أو غير ذلك من وسائل العيش. إننا إذا وصفنا قوما بالروحانية، وقوما آخرين بالمادية، فلسنا نعني بذلك أن طرائق القومين في الزراعة أو في الصناعة، تختلف عند أحدهما عنها عند الآخر، بل نعني أنهما - برغم تشابه المناشط العملية - يختلفان في محور «الاهتمام»، وبالتالي فهما يختلفان في المناخ الثقافي، الذي يعيشان في كنفه ويتنفسان هواءه. أريد أن أقول إن الواقع المرئي المسموع الملموس شيء، ونوع الاهتمام به شيء آخر، فقد يقصد رجلان إلى مسجد، أحدهما يريد الصلاة، والآخر يريد القيام ببحث أثري، والمسجد نفسه في كلتا الحالتين واحد لم يتغير، فالذي ميز بين الرجلين هو نوع الاهتمام به، فجعل أحدهما - في تلك اللحظة المعينة - عابدا، وجعل الآخر عالما.
تجانس الشعب الواحد في ثقافة واحدة، معناه أن أفراد ذلك الشعب، قد ربطتهم «اهتمامات» متشابهة، يتجهون بها جميعا نحو أفق واحد مشترك، ولا ينفي ذلك أن تتفاوت بينهم درجات الإجادة والإبداع، إذا كانوا من أهل الفكر أو الأدب والفن، فالاهتمام الواحد قد يتجسد في مائة مقالة أو كتاب، ومائة قصيدة من الشعر، ومائة لوحة أو تمثال أو أغنية، فلا تكون وحدانية الاهتمام بينها جميعا دليلا، على أنها من درجة فنية واحدة، ولولا هذا التجانس في الاهتمامات بين أفراد الشعب الواحد، لما استطاع مؤرخ الفكر أو مؤرخ الفن والأدب، أن يفرق بين العصور ولا بين الأمم.
على ضوء هذا كله، سألت نفسي ذات يوم قريب، كما أسلفت القول: ترى إلى أي حد يعيش رجال الفكر والأدب والفن بيننا في مناخ ثقافي واحد؟ بعبارة أخرى: إلى أي حد ينتمي هؤلاء جميعا - من الناحية الثقافية - إلى شعب واحد، وعصر واحد؟ ولست أزعم أنني كنت قد وصلت مع نفسي، إلى إجابة أتشبث بصوابها، ولكني لا أرى بأسا في أن أشرك القارئ معي، فيما خيل إلي أنه الجواب الصحيح.
وذلك أني رأيت في حياتنا الثقافية خيوطا مبعثرة، لم تنسج في قماشة واحدة، لا لأن أحدا من رجال الفكر النقدي، لم يتناولها بمنواله لينسجها معا في ثقافة موحدة، بل لأنها من التنافر بحيث يستحيل اجتماعها في رقعة واحدة، ولنختر لأنفسنا مجموعة من المفكرين والأدباء وأصحاب الفن، ثم نحاول أن نعيش مع أفرادها فيما أنتجوه، واحدا بعد واحد، لنرى: هل يتجانس إحساسنا، كلما انتقلنا من هذا المفكر في كتبه أو مقالاته، إلى ذلك الشاعر، ثم إلى ذلك الفنان؟ أعتقد أننا لن نجد ذلك الإحساس المتجانس إزاءهم جميعا، وسنشعر أحيانا عند الانتقال من أحدهم إلى الآخر، أننا في الحقيقة قد انتقلنا من عصر إلى عصر، أو من إقليم إلى إقليم.
ففي ميدان الفكر النظري، يتجاوز القرن الثامن الميلادي وأواخر القرن العشرين، كما تتجاوز أفكار فرنسية وإنجليزية وأمريكية وروسية، بحسب المورد الذي ينهل منه الكاتب، وأعجب من ذلك أن الكاتب الواحد قد يتشكل مع الأيام؛ لاختلاف الكتب التي وقعت له بين يديه بالمصادفة البحتة، وفي ميدان الفن التشكيلي يغلب أن يقدم لك الفنان لوحات، تؤكد عندك النزعة الذاتية الفردية؛ لأنها لوحات تعنى بأحكام الشكل من خط ولون، فلا يسعك أنت المشاهد إلا أن تعيش داخل بنائها، دون أن توحي لك بمضمون. ونقيض ذلك تراه في ميدان الفنون التعبيرية - من مسرح وشعر وموسيقى - فها هنا يغلب على الفنان إبراز الموضوع، حتى وإن جاوز في سبيل ذلك مواصفات الفن الرفيع في طريقة البناء. إنني هنا أصف ما أظن أني أراه، ولست بما أقوله أريد المفاضلة أو النقد، ولقد خلصت من ذلك كله إلى نتيجة رجحت لنفسي صوابها، وهي أننا في حياتنا الثقافية مفرقون، لم تجمعنا نظرة واحدة في مناخ وجداني واحد.
ثم جاءت هذه الأسابيع القليلة الماضية، فرأينا كيف استقطبتنا الأحداث في جهاز عصبي واحد، فماذا يمنع أن يطول الأمد بهذه النظرة الواحدة، التي خلقت لنا في لحظة التوتر، بحيث تتحول إلى مناخ واحد دائم نعيش فيه جميعا، وإن اختلفت بيننا الوسائل والأساليب؟
حلقة مفقودة
هنالك في حياتنا الثقافية حلقة مفقودة - أو هكذا يخيل إلي - فلقد لبثت أمدا طويلا على هذا الإحساس، بأن البناء الثقافي في حياتنا تنقصه حلقة لتكتمل دورته، وظللت على هذا الإحساس الغامض بوجود النقص، دون أن أتبين على وجه التحديد والدقة ما طبيعته؟ وبالتالي كيف نعالجه؟ وها هي ذي فكرة تراودني، فلعل فيها قبسا يضيء.
ماذا كنا لنجد في حياة الناس الثقافية، لو كانت تلك الحياة مكتملة البناء؟ كنا لنجد فيها أركانا أساسية ثلاثة: أولها أدب يصور الواقع بتفصيلاته، على النحو الذي يرضي مقاييس الفن الأدبي في التصوير، فمن شأن القصة والمسرحية والشعر، أن تعطينا الشعور بما هو كائن، سواء كان هذا الواقع الموجود كائنا في دنيا الناس كما يعيشونها ، أو كان هذا الواقع الموجود كائنا في الصدور أملا وألما، وفي ظني أن أدباءنا - أصحاب القصة والمسرحية والشعر - قد أدوا معظم المطلوب، فمن ذا يزعم أنه إذا قرأ مجموعة ما أنتجه رجال الأدب، فإنه لن يخرج بصورة وافية، لأنماط العيش في القرية وفي المدينة، عند الأغنياء والأوساط والفقراء على حد سواء؟ من ذا يزعم أن القصة والمسرحية والشعر في أدبنا الحديث، قد قصرت كل التقصير، في تعقب ما يعتمل في صدور الناس، من ضروب الصراع وأنواع الكفاح: صراع بين القدرة الاقتصادية من ناحية، والأمل الطامح من ناحية أخرى، وكفاح للتغلب على العقبات، التي تحد من حرية الإنسان وكرامته؟
فالركن الأساسي الأول - من الأركان الثلاثة التي تخيلتها ضرورية لكل بناء ثقافي مكتمل الكيان - قد تحقق إلى حد كبير في حياتنا، وقد كان ينبغي أن يجيء بعد هذا التصوير الذي قدمه الأدباء في القصة والمسرحية والشعر، فكر نظري يستخلص من الصور المعروضة أوجه كمالها وأوجه نقصها، بالنسبة إلى حياة جديدة يراد خلقها، بعبارة أخرى: كان ينبغي أن يلحق «المفكر» «بالأديب»، فلئن قدم لنا الأديب حياتنا بكل ما فيها من ألوان الصراع والكفاح والأمل والألم، فإن طريق السير يقتضي أن ينهض رجل الفكر النظري بصياغة مجموعة القيم الجديدة، التي يراد لها أن تنتظم مرحلة من الحياة القادمة، يرجى أن تزول فيها تلك الألوان من الصراع، وأن يتحقق فيها ما يكافح الناس من أجله، حتى إذا ما فرغ الفكر النظري من تخطيط الحياة الجديدة، جاء بعدئذ الركن الأساسي الثالث في البناء، ألا وهو فريق التنفيذ؛ فرجال القانون يضعون التشريع الذي يتفق مع الوضع الجديد، ورجال الاقتصاد يوجهون النشاط الاقتصادي في الاتجاه الذي يرونه ملائما، ورجال الخدمات الاجتماعية بشتى صنوفها يؤدون ما ينتظر منهم أن يؤدوه لخلق المجتمع الجديد، ورجال السياسة وراء هذا كله يدبرون وينسقون؛ لتنسجم النغمات في لحن واحد.
والفكرة التي راودتني، والتي رأيتها توضح لي موضع النقص، الذي أحسست وجوده في حياتنا الثقافية، هي أن المرحلة الوسطى التي كان ينبغي لها أن تجيء بين صورة الحياة الواقعة كما قدمها لنا الأدباء، من جهة، وما يقوم به فريق التنفيذ - رجال القانون، والاقتصاد، والاجتماع، والطب، والتعليم، والسياسة - من جهة أخرى، أقول إن المرحلة الوسطى التي كان يجب أن تجيء بين تصوير الواقع كما يقع، وبين خلق الجديد المنتظر، لم تجد من يضطلع بها على الوجه الأكمل، فكان بين أيدينا واقع شائك يراد إصلاحه، ثم محاولات عملية نحو ذلك الإصلاح، دون أن يتوسط الطرفين فكر نظري، يستخلص من الواقع الشائه صورا نظرية، لما ينبغي أن يكون؛ فلا عجب إن رأينا المحاولات العملية نحو الإصلاح، معرضة لكثير من العشوائية في طريق سيرها، فنقيم اليوم ما نهدمه غدا، ثم ترانا بعد غد، قد عدنا إلى إقامة ما هدمناه، وهكذا.
لقد شهدت حياتنا «الفكرية» نشاطا ملحوظا في الهدم - هدم القديم الذي يراد له أن يزول - أكثر جدا مما شهدته من النشاط الإيجابي، الذي يصوغ الأسس النظرية لما هو مطلوب، فما زلت أذكر ضروب الفاعلية الفكرية التي سادت بيننا، خلال العقدين الثالث والرابع، أعني في العشرينيات والثلاثينيات، وهي الفترة التي امتدت من ثورة 1919م حتى قيام الحرب العالمية الثانية سنة 1939م، فقد كان هنالك أمام النشاط الفكري عدد ضخم من الأصنام، التي كان لا بد من تحطيمها وإزالتها، قبل أن نأخذ في إقامة أركان الحياة الجديدة؛ وضع سياسي كان لا بد له أن يتغير، فكرة الخلافة كان لا بد أن تنمحي، حتى لا يفكر الطامعون في نقل الخلافة إلى القاهرة، بعد أن أزالها مصطفى كمال من تركيا، تصور قديم للشعر، كان لا بد أن يستبدل به تصور جديد، تراثنا الأدبي القديم، كان لا بد أن يمحص ويراجع، فكرة التطور البيولوجي، كان لا بد أن يلهم بها الناس؛ ليتعلموا كيف يسبغون التغير الحتمي في بنية المجتمع، نسبتنا إلى الماضي، كان لا بد أن تتحدد لتتضح، فنعرف إلى أي الأسلاف ننتمي، وغير ذلك من الثورات الجارفة، في كل أوضاع الحياة الفكرية؛ ولذلك كنا جميعا نشم في الهواء رائحة الدخان المنبعث من المعارك الدائرة ، بين ما كان يسمى حينئذ بالجديد والقديم.
كنا في العشرينيات نهدم الأوثان الفكرية، ثم نبني التماثيل الجديدة للأفكار الجديدة، ولعلنا في ذلك كنا على نغمة واحدة، مع مجمل النشاط الفكري في أوروبا، إبان تلك الفترة نفسها، حيث كان القوم هناك في شغل، كذلك يزيلون الأقنعة عن الوجوه الشائهة، حاولوا أن يزيلوا عن الحياة الريفية شاعريتها الرومانسية المزعومة؛ لتتكشف أوجه الفقر والمرض المختفية، حاولوا أن يزيلوا عن الإنسان قشرة «العقل»؛ ليتبين كم هو في سلوكه مسير بغرائزه لا بعقله!
حاولوا أن يفكوا الروابط، التي اعتاد الناس إلى ذلك الحين، أن يروها قائمة بين أطراف الحياة، فلم يجدوا بين الغريزة الجنسية وقيام الأسرة علاقة ضرورية، تحتم ألا تكون تلك بغير هذه، حاولوا أن يكشفوا عن «العبث»، الذي يتسم به الوجود كله، حتى يزيلوا عن أعين الناس غشاوة الغايات النهائية المثلى، بل حاولوا هدم الجانب الدلالي من اللغة، فأخذوا عامدين يرصون اللفظ في غير معنى مفهوم؛ ليساير ذلك العبث باللغة، عبث الحياة نفسها، عندما قال الشاعر إليوت: إن شهر أبريل هو أقسى الشهور، أراد أن يفك الرابطة بين الربيع وتجدد الأمل، حاولوا ذلك كله هناك في أوروبا؛ لعلهم يمحون به أنقاض حياة تهدمت أركانها، لتقوم مكانها حياة تزدهر بالقيم الأعلى والأكرم.
فعلوا ذلك هناك، وفعلنا مثله عندنا، ولكننا بالطبع وجهنا فئوسنا، نحو ما أردنا هدمه من حياتنا، اللهم إلا نفرا من أصحاب الفكر الزائف، طفقوا يهدمون ما أراد مفكرو الغرب أن يهدموه، مع أنه ليس موجودا هنا، حتى وإن يكن موجودا هناك، فكم من كاتب عندنا، أخذ يدير قلمه حول فكرة «العبث» وفكرة «الاغتراب» وفكرة «الوجودية»، وهي أفكار كانت، وما تزال، محاور أساسية في الفكر الأوروبي؛ لأنها منبثقة من حياتهم، لكنها ما تزال واهنة الصلة بحياتنا؛ لأننا لم نتصنع بعد، ولم نتعلمن بعد إلى الدرجة التي قد توحي بالعبث، والغثيان والشعور بالاغتراب.
قام رجال الفكر عندنا - إذن - في العشرينيات والثلاثينيات بقسط كبير من الهدم، لكنهم لم يقوموا بقسط يماثله في الحجم تجاه البناء الإيجابي، وبعد فترة من الحيرة فيما بين الحرب العالمية وقيام الثورة سنة 1952م، تدفق نشاط جبار في ميادين التغيير الفعلي، فكأنما قفزنا من الطرف الأول إلى الطرف الثالث، بغير وقفة طويلة، كان لا بد أن يقفها رجال الفكر النظري بين الطرفين، كانت هذه الحلقة الوسطى المفقودة من واجب الجامعات، ومراكز البحوث ورجال الفكر بصفة عامة، والذي أزعمه هو أنها لم تجد من العناية، ما وجدته ميادين التعبير الأدبي، من جهة، وميادين النشاط الفعلي الثائر، والهادف إلى التغيير نحو ما هو أفضل، من جهة أخرى.
إن من يرفض أن يكون كالخرتيت - كما رفض ذلك بطل مسرحية أيونسكو - لا بد أن يتبع رفضه هذا، ببيان ماذا يريد أن يكون؟ إن رفض الواقع المريض أمر ضروري في ذاته، لكنه وحده لا يكفي؛ إذ يجب أن يسايره تصور واضح، لواقع صحي جديد، لكن مثل هذا التصور لا يضعه إلا رجل الفكر النظري، بجانبه الفلسفي والعملي، وهو ما أظنه مفقودا، أو شبه مفقود في حياتنا الثقافية الحاضرة.
أسئلة تنتظر الجواب
قرأت لكاتب قصصي معاصر - هو ريتشارد هيوز - عبارة تستحق النظر، يقول فيها ما معناه: إن الكتابة المعتمدة على خيال - ويقصد بها أدب القصة والمسرحية والشعر - من شأنها أن تثير أسئلة، دون أن تتورط في الإجابة عنها، وأما الكتابة غير المعتمدة على خيال - ويعني بها العروض الفكرية، التي يراعى فيه التسلسل المنطقي، من فكرة إلى فكرة أخرى - فهي التي تجيء بعدئذ؛ لتتولى الإجابة عن تلك الأسئلة المثارة.
وهو - فيما أرى - قول قد يصح بعد شيء من التعديل؛ إذ كثيرا ما يتداخل النوعان في كاتب واحد، أو على الأقل هكذا كانت الحال بالنسبة لكبار كتابنا، فهل نقول إن الكاتب الواحد منهم، كان يثير أسئلة ليتركها بغير إجابة، حين ينظم الشعر أو القصة أو المسرحية، ثم يعود بعدئذ إلى محاولة الإجابة عن أسئلته هو، أو أسئلة سواه؟ لست أظن أن خطوات السير قد جاءت على هذا التوالي الزمني، بل الأقرب إلى الصواب هو أن تلك الخطوات قد تداخلت حينا ، وتعاقبت حينا آخر، على هذا الوجه مرة، وعلى ذلك الوجه مرة أخرى، فإذا قلنا - مثلا - إن من الأسئلة الأساسية التي أثارها العقاد في شعره، سؤالا عن مدى حق الفرد في أن يستقل بذاته عن الجماعة، بحيث يتفرد بخصائص، لا ينخرط بها في المجموع المحيط به، فإن عرض هذا السؤال للبحث العقلي، قد جاء بعد ذلك على قلم العقاد نفسه، كما ورد على أقلام أخرى كثيرة؛ وإذن فها هنا جاء التعاقب على النحو الذي ذكره «هيوز» في عبارته التي أسلفناها، ولكننا من جهة أخرى قد نلحظ تعاقبا معكوسا؛ إذ نرى البحوث العقلية الكثيرة، التي دافع بها أصحابها عن وجوب انخراط الأفراد في سواد الجمهور - وكان ذلك في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات - قد أعقبها أدب غزير من قصص ومسرحيات وشعر، جاء ليعزف على هذه النغمة نفسها، وفي مثل هذه الحالة يكون الجواب قد سبق السؤال، على أن الجانبين تداخلا عند توفيق الحكيم، فهو وإن يكن كثير الأسئلة قليل الأجوبة «بمعنى أنه أكثر إنتاجا في الأدب المعتمد على الخيال، منه في الكتابة المعتمدة على تحليلات المنطق العقلي.» إلا أن الجانبين عنده قد تضافرا وتداخل أحدهما في الآخر.
لكن هذه الاعتراضات الشكلية، لا ينبغي أن تحجب عنا جانب الصدق فيما زعمه «هيوز»، فأديب الخيال إذا أخلص لفنه، انصرف إلى الجانب الذي اختاره من حياة الناس الفعلية؛ ليصوره سلوكا يتفاعل بعضه مع بعض، كأنه يشاهد مسرحا من بعيد، فلا يقحم نفسه بأحكام يصدرها من عنده؛ ليقذف بها داخل النسيج الحي، الذي تصدى لتشريح لحمته وسداه، أريد أن أقول إن الأمر في الأدب المعتمد على تكوينات الخيال، يختلف عما يشيع على ألسنة الناس، حين يقولون إن «الأديب يعبر عن نفسه.» فيما يكتب، وحقيقة الأمر هي أن الأديب الحق أقرب إلى «التنصل» من نفسه، منه إلى «التعبير» عن تلك «النفس»، إنه يتنصل من نفسه ليخرجها من تفاعلات الموقف، الذي تصدى لتشريحه وتصويره، حتى لا تتدخل أهواؤها في تركيب تلك التفاعلات، فتنسكب في مجراها الطبيعي، ولو كان مدار الأدب هو «نفس» كاتبه؛ لما كان للأدب عند الناس من وزن، إلا الوزن الذي يمكن أن تزنه نفس واحدة، وإنه لوزن ضئيل مهما بلغت تلك النفس الواحدة من عظمة ورجحان.
شوامخ الأدباء
وها هو ذا تاريخ الأدباء في أي لغة نختارها، نستعرض شوامخ الأدباء فلا نجد - باستثناء الشعر الوجداني الفردي - إلا رجالا أقاموا بناءاتهم الأدبية، حاجبين «أنفسهم» بين أقواس تحصرها حتى لا تقتحم، ما لا يجوز لها أن تتدخل فيه لتغير من طبيعته، هل عبر «الجاحظ» عن «نفسه» وهو يرسم البخلاء بخيلا بخيلا، رسما أقامه على أفعالهم هم وأقوالهم؟ هل عبر «دانتي» عن «نفسه» وهو يصور أهل الجحيم والأعراف والفردوس؟ هل عبر شكسبير عن «نفسه» وهو يقدم هذا الحشد الهائل من صنوف البشر؟ إن هؤلاء جميعا لم يفعلوا شيئا سوى أن فتحوا أمام أبصارنا وأسماعنا نوافذ؛ لنرى خلالها «الإنسان»، لنرى «الناس» يتعاملون ويتفاعلون ويتبادلون عوامل الدفع والحركة، ولنا نحن بعد ذلك أن نصدر ما استطاعت عقولنا أن تصدره من أحكام، بناء على ما رأيناه وما سمعناه، وكثيرا ما يحدث - بل لا بد أن يحدث - للقارئ البصير - إذ هو يرى ما يراه ويسمع ما يسمعه عند قراءته لقطعة أدبية - أن يستخلص مشكلات تثيرها الأحداث التي عرضتها عليه القصة أو المسرحية أو قصيدة الشعر. إن الكاتب الأديب لم يقل له صراحة: هذه هي المشكلة، وذلك هو علاجها. بل اقتصر الكاتب على عرض الناس إذ هم يتفاعلون في حياة، والأمر متروك لنا - نحن القراء - أن ندرك لأنفسنا بأنه إذا كانت هذه هي الطريقة التي يحيا بها الناس، فهنالك إذن مشكلات حادة تتطلب العلاج: مشكلات في بناء الأسرة ووضع المرأة فيها، أو مشكلات في ظروف العمل والعاملين، أو مشكلات في تنظيم العلاقة بين الحكومة والناس، أو غير ذلك من مشكلات الحياة كما رأيناها مصورة، وعندئذ قد ينهض كاتب من أصحاب الفكر النظري - في صورة التأمل الفلسفي أو في صورة البحث العلمي - ليضطلع بعمليات التحليل التي قد تكشف عن وسائل الخروج من تلك المشكلات التي أطلعنا عليها الأدب، عند تصويره للحياة كما هي واقعة، متوسلا إلى تصويره ذاك بوسائل يعرفها الأدباء.
أسئلة عن حياتنا
والذي أنا زاعمه هنا، هو أن حياتنا الثقافية الحديثة قد شهدت أدبا أثار فينا أسئلة عن حياتنا الواقعة، أكثر جدا مما شهدت فكرا يحاول الإجابة عنها، وأريد قبل أن أعرض لزعمي هذا، أن أذكر مثلا مما أتصور حدوثه، لو أن كيان حياتنا الثقافية قد استقام واكتمل، فرجال الأدب في أوروبا وأمريكا بصفة عامة وخلال نصف القرن الذي يبدأ من العشرينيات وحتى لحظتنا الراهنة، يطالعون الناس بصور عن حياتهم، من شأنها أن تثير فيهم الريبة عن حضارة العلم التي يحيون تحت جناحها، وأن تحرك فيهم الفزع مما هم مقبلون عليه، لو أن أوضاعهم الحاضرة لبثت قائمة، واطردت في سيرها على النحو الذي تسير به، وأقرب الأمثلة لذلك هو الشاعر إليوت «وهو شاعر محظوظ عند قراءة العربية؛ لكثرة ما كتب عنه الناقدون هنا.» فيكفي أن نذكر له «الأرض اليباب» وحدها؛ لنرى نظرة الأدب في الغرب إلى حضارة هذا العصر، فما تلك الأرض اليباب إلا ظروف الحياة المعاصرة، كما تصورها الشاعر فصورها، ويمكن أن نضيف إلى إليوت كثيرين غيره، يختلفون في طريقة القول، لكنهم يتفقون فيما يريدون أن يقولوه، وهو أن الحياة في عصر الصناعة والعلم، قد تؤدي بنا إلى ركام من حطام، وإلى حالة من اليأس والضياع.
كان ذلك ما أظهره الأدب في الغرب؛ فلم تكن مصادفة أن ينهض كاتبون، ليحللوا هذه الحضارة المتهمة إلى خيوطها وعناصرها، لعلهم يرون مواضع الداء أين تكون؟ إن «فلسفة التاريخ» وحدها - ودع عنك سائر فروع التفكير - قد شهدت عددا من الأعلام الذين تصدروا للبحث على نطاق واسع؛ فشهدت شبنجلر، وتوينبي، وسوروكين، وغيرهم، كل يحلل ويعلل؛ متى وكيف تنهار حضارة أو تنشأ حضارة، محاولين بذلك أن يهيئوا للناس ضوءا يهديهم إلى سبيل النجاة، مما أوحى لهم الأدباء بأنه وشيك الوقوع. شيء كهذا التجاوب والتكامل بين جانبي الحياة الثقافية - جانب الأدب وجانب الفكر - هو ما يدور بذهني عندما أتصور حياتنا نحن الثقافية الحديثة، فلا أجد فيها توازنا بين الكفتين، فبينما الأدب عندنا قد اضطلع بكثير جدا مما يراد للأدب أن يؤديه، نرى الفكر في حالة من القصور تشبه العجز، لا يقدم لنا إلا قليلا مما يعيننا على مواجهة المشكلات التي أثارها الأدب، ولا تعجب إذا وجدت النقد عندنا، كلما عرض عليك خمسين قصة أو مسرحية أو ديوانا من الشعر، لم يجد ما يعرضه من نتاج الفكر إلا كتابا أو كتابين، فإذا أضفت إلى هذه النسبة الضئيلة، عاملا آخر يزيدها ضآلة، وهو أن النقاد يحجمون عن التعرض لنتاج الفكر، ويستسهلون أن يشغلوا أنفسهم بالنتاج الأدبي وحده، أقول إنك إذا أضفت هذا العامل، رأيت لماذا تخلو - أو تكاد تخلو - حياتنا الثقافية من محاولات على مستوى الفكر النظري لحل مشكلاتنا، حلا يتكافأ مع الأسئلة التي استثارها الأدب في نفوسنا.
ولأضرب لك مثلا أو مثلين: هنالك سؤال عن موقفنا من حضارة العصر كيف يكون؟ ففي الأدب عندنا صور لأشخاص ظفروا بنصيب من علوم العصر، كالطب أو الهندسة، لكنهم حين أرادوا أن يحيوا كما يحيا أهل العصر، تنكر لهم مواطنوهم؛ تلك إذن مشكلة قوامها صراع بين مجموعتين من القيم، عرضها علينا الأدب في تصويره لحياتنا، فكم نالت هذه المشكلة من البحث الفلسفي الذي يضيء لنا الطريق؟ هنالك بالطبع إجابات سهلة وساذجة، يقذف بها رجال من حولنا هنا وهناك؛ إذ يحيلوننا على العودة إلى ما كان عليه الأسلاف، وكان الله يحب المحسنين، كأنه لا صراع بين الضلوع ولا اصطراع!
تفاوت بين الناس
خذ مثلا آخر تراه شائعا في كل قصة وفي كل مسرحية، مما يقدمه لنا الأدب تصويرا لحياتنا: التفاوت بين الناس بالفعل، مهما قال القائلون في ذلك، وخطب الخطباء بأن الناس سواسية، وبأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالعمل، فالتفاوت قائم بالفعل، حتى لتجد المبشر نفسه الذي يبشر بهذه المساواة المطلوبة بالكتابة أو بالخطابة؛ تجده وهو في عملية التبشير نفسها، يفكر كيف يخرج لنفسه من هذا كله بما يميزه عن سواه، كيف يرسل أبناءه إلى المدارس الخاصة، حتى لا يخالطوا من لا يود لهم أن يخالطوهم، كيف يبني لنفسه مسكنا يمتاز به عن مساكن الناس، وكيف يحصل لنفسه ولأسرته على الثياب، التي لا يحصل على مثلها إلا المقربون؛ وإذن فلم يكن ذلك الكاتب أو الخطيب مؤمنا بالمساواة التي قام ليبشر بها، وهكذا نحس عند قراءتنا للأدب بضروب، لا تنتهي من ألوان النزاع بين رجل يتوهم أنه الأعلى، ورجل آخر يكافح حتى لا يظن الناس بأنه الأدنى، فكم وجدت مشكلة المساواة بين المواطنين التي تراود أحلامنا، وصراعها مع التفاوت الذي يكتنف حياتنا الواقعة؛ كم وجدت هذه المشكلة من عناية الكاتبين، الذين يخلصون للفكر ولا يراءون باللفظ، الذي يقف عند الشفاه؟ خصوصا إذا تذكرنا أن في تراثنا الشائع بيننا، أقوالا متضاربة بين قبول هذا التفاوت ورفضه؛ مما يستوجب النظر الجاد؛ لعلنا نجد الصيغة المناسبة.
أسئلة كثيرة تنبثق من واقع حياتنا، كما يصورها لنا الأدب، ما زالت في حياتنا الثقافية معلقة - أو هي كالمعلقة - لم تجد لها فكرا يجيب.
قومية ثقافية
يخطئ أفحش الخطأ من يتوهم أن الوطن العربي، الذي ننتمي إليه هو الرقعة الجغرافية وحدها، التي تمتد من الخليج إلى المحيط؛ فذلك ضرب واحد من الانتماء، هو الانتماء إلى مكان بعينه، أما الضرب الثاني من الانتماء، وهو الذي بغيره لا تتكامل للمواطن أبعاده الحقيقية، فهو الانتماء إلى خط زماني معلوم، وأعني به الانتماء إلى تاريخ معين، بكل ما تشمل هذه الكلمة من وجوه وأغوار، ولو كان الوجود المكاني وحده يصنع قومية، لجاز أن نقول إن يومنا الراهن، يكفينا دون أمسنا القريب أو البعيد، أما إذا كانت القومية تتألف أساسا من بعدين متكاملين، هما هذا الوجود الجغرافي الذي تحدده رقعة الأرض، مضافا إليه وجود زماني، يمتد خلف ظهورنا إلى حيث يشاء له تاريخنا أن يمتد؛ فلا مناص عندئذ من أن يمتزج الماضي بالحاضر، امتزاجا لا فكاك لنا منه، مهما تكن طبيعة المواقف التي تعترضنا، وتتطلب منا القرار والعمل؛ فنحن عرب بالمكان والزمان معا، بالواقع الحاضر، وبالتاريخ الماضي، بالموقع الجغرافي وبالثقافة الموروثة في آن واحد.
فللعربي أن يهاجر إلى أي أرض أراد، لكنه سيظل عربيا بثقافته، بتاريخه، كما هو عربي بانتمائه إلى أبويه، وإنه لمن التناقض أن يتشكك متشكك، في وجود الصلة الوثيقة بين حاضرنا وماضينا، في الوقت الذي يجري شكه هذا في لغة عربية، لم يخلقها لنفسه صباح اليوم، بل جاءته من ماضيه بمفرداتها وطرائق تركيبها، وليست اللغة رموزا من نوع الرموز الرياضية المجردة، بل إن كل كلمة فيها مشحونة بفكر ووجدان، تولد عن فكر أسلافنا ووجدانهم على طول التاريخ، ولو لم يكن في مفردات اللغة وأساليب تركيبها هذه الشحنة العقلية الشعورية، لما استطاع كاتب أن يعبر بها عن فكرة تراوده، أو عن شعور يختلج في نفسه، فأنت مثقف بثقافة عربية موروثة، كلما استخدمت اللغة العربية كتابة وكلاما.
لقد أوقعتني المصادفة ذات يوم منذ عشرين عاما، على مجلة كانت تصدرها حينئذ جامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية - فيما أذكر - فوجدت بها ترجمة إنجليزية لصفحة، وردت في كتاب لتوفيق الحكيم، وكانت المادة المنقولة متعلقة بموقف تاريخي، أظنه كان من مواقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأراد المترجم الأمريكي أن يوضح المعاني للقارئ، فراح يكتب شروحا في الهوامش، تبين الخلفية التاريخية الثقافية، التي لا بد منها للقارئ الأمريكي، حتى يتمكن من فهم العبارة المنقولة، فهالتني كثرة الشروح التي رآها المترجم ضرورية لذلك، فبينما القارئ العربي تكفيه النظرة الواحدة السريعة إلى ذلك النص المنقول فيلم بمعناه؛ احتاج القارئ الأمريكي إلى عدة صفحات من الشروح الهامشية قبل أن يلم بذلك المعنى؛ وذلك لأن القارئ العربي ممتلئ بثقافته العربية، امتلاء قد لا يشعر به في كل لحظة من حياته، لكنه امتلاء يتبدى في اللحظة التي يعايش بها الأقدمين، عند النظر إلى شيء من مخلفاتهم التي ورثناها، على أن هذه المخلفات الموروثة، ليست ترقيمات ميتة من مداد مسكوب على ورق، بل هي معان وقيم، فلا يكاد العربي يطالعها حتى تنزو في عقله، وفي قلبه حياة نابضة، يحسها هو وإن لم يحسها معه سائر البشر أجمعين.
لكننا نسيء الفهم أفظع إساءة، لو ظننا أن هذا البعد التاريخي الثقافي الممدود خلف ظهورنا؛ ليصل حاضرنا بماضينا، من شأنه أن يرد الحاضر إلى الماضي، بمعنى أن أعود بكل مشكلات يومي هذا إلى حلول أبحث عنها في عصر مضى؛ إذ الأقرب إلى التصور الصحيح، هو أن تلك الصلة الثقافية التاريخية، من شأنها أن تستحضر ذلك الماضي، حضورا يواجه العصر القائم، وما تكتنفه من مشكلات، والفرق بعيد بين رجلين، أحدهما يفتح دفاتر السابقين، بحثا عن صيغة تصلح لموقف حاضر، وأما الآخر فيرى أن مهمته هي أن يضيف دفترا جديدا من عنده إلى دفاتر السابقين، على شرط أن يجيء الجديد في نفس الإطار الذي جاء فيه القديم؛ ليتكون من المرحلتين تاريخ واحد لشعب واحد.
وأعني بالإطار الواحد هنا، وجهة النظر العامة إلى الكون والإنسان؛ فها هنا تكمن أصول القومية الثقافية، التي تتيح للفرد الواحد أن ينتمي إلى أمته العربية انتماء بالبعد الزمني، كما ينتمي إليها بالوجود في مكان جغرافي ذي حدود أرضية معلومة. وثقافات الشعوب إنما يختلف بعضها عن بعض أساسا في وجهات نظرها العامة، قبل أن تختلف في تفصيلات تلك الثقافات، فمثلا قد يكون التصور الأخلاقي عند غيرنا، هو أن مبادئ الأخلاق هي حصيلة خبرات بشرية طويلة، فما قد ثبت بالخبرة الطويلة أنه في صالح الناس، أثبتوه في قائمة الفضائل التي يجب على الأفراد مراعاتها، في سلوكهم العملي خلال حياتهم الجارية، وهي وجهة من النظر تجعل الإنسان جزءا من الطبيعة لا يعلو عليها، وأما مبادئ الأخلاق في تراثنا نحن الثقافي، فهي مبادئ فرضت فرضا على الطبيعة البشرية لتعلو بها وتتسامى، ومعنى ذلك أنه إذا حدث اختلاف بين ما تمليه علينا الغرائز، وما توجبه المبادئ الخلقية، لم نتردد في أن نجعل لهذه المبادئ أولوية على تلك الغرائز، شيء كهذا هو مما يكون لنا وجهة عامة للنظر، نرى من خلالها ونحكم، فإذا احتفظنا نحن المعاصرين بالنظرة نفسها التي كانت للأقدمين، كان في ذلك ما يكفي لوصلنا معا في حياة ثقافية واحدة ، دون أن نلجأ إلى نماذج بعينها عند هؤلاء الأقدمين من قول أو من عمل.
إن شر خيانة يخون بها المعاصرون أمانة السالفين، هي أن يقلدوهم تفصيلة بتفصيلة، وموقفا بموقف، وإنما تصان الأمانة بأن نحافظ على المنظار، الذي يساعدنا على رؤية ما هو دقيق وما هو بعيد، دون أن نتوقع رؤية المشاهد نفسها التي كان قد شهدها السابقون بهذا المنظار، فمن الحقائق الحضارية الكبرى أن الحضارة المعينة، إذا ما بلغت درجة عليا من الكمال، تأخذ في الانحدار إذا ظللنا نحاكي هذا الكمال نفسه كما وقع، ولكنها تطرد في الصعود إلى كمال أوفى، إذا نحن اصطنعنا طريقة السير التي سار بها السابقون، فالزمن تياره دافق، والكائنات في تغير لا يقف لحظة، وليس أمام الإنسان حيال هذا التيار الجارف من صيرورة وتغير، إلا أن يختار واحدة من اثنتين؛ فإما أن يتقدم مع التيار، وإما أن يذبل ويموت، وإما أن يختار لحركة الزمن «الوقوف» عند خط حضاري معين بكل حذافيره، أو «الرجوع» إلى نمط مضى زمانه فذلك اختيار للمحال.
والتقدم مع التيار - كما قلنا - لا يقتضي التنكر للماضي ومبادئه، بل إن عكس ذلك تماما هو الصحيح؛ لأن ذلك التقدم لا تنتظم خطاه، إلا إذا جاء وفق خريطة فكرية، رسمت على نظرة معينة إلى الإنسان وأهدافه، وهذه النظرة لا تولد عند أصحابها لحظة بلحظة، ولكنها - كالبوصلة عند ربان السفينة - تورث ليكون لها في كل عصر تطبيق جديد.
حاضرنا لا بد أن يكون نسيجا من قديم وجديد، القديم هو لحمته والجديد هو سداه، وكيف يمكن للأمر أن يكون غير ذلك؟ هل يطير الطائر إلا إذا ورث عن أبويه الجناحين؟ وهل يبصر الرائي إلا إذا أمده المسلف بالعينين؟ إن الواحد منا ليسافر إلى بلد في أوروبا أو أمريكا - مثلا - فتصدمه ضروب من العلاقات البشرية لم يألفها، فيرى الناس يحزنون لما يفرح له هو، ويفرحون لما يحزن له، يراهم يهتفون بأمور لا أهمية لها عنده، ويتجاهلون أمورا لها كل الأهمية عنده، فكثيرا ما يعجب لسلوكهم عجبهم من سلوكه ، فلكل من الطرفين خريطة حياة تحدد له المواقع وخطوط السير، تختلف عن خريطة الآخر في حياته، وتلك هي الثقافة القومية التي بثت فيها قواعد النظر ومبادئ السلوك، وهي ثقافة لا تولد لقومها بين عشية وصبحها، بل هي كالشجرة التي لبثت على مر القرون، تبدل أوراقا بأوراق، كلما دار الحول وجاء الربيع، لكن جذورها ثابتة في الأرض، ما بقيت لها في هذه الأرض موارد الغذاء والسقيا.
وأخطر الخطر أن يحملنا الإعجاب بشجرتنا الثقافية، على أن نجمد أوراقها فوق غصونها، فنلصقها بالصمغ حتى لا تسقط، ونطليها بالأخضر حتى لا تصفر مع الخريف، فالإعجاب بشجرتنا هذه إنما يتحقق على أكمل وجه، لو تركناها تبدل ثوبها مع دوام جذعها وجذورها، فكما أن الداعين إلى حاضر بلا ماض، قد أخطئوا خطأ فاحشا، فكذلك يخطئ مثل هذا الخطأ من يدعو إلى ماض بلا حاضر، نعم إن التزام الماضي بكل تفصيلاته طريق مأمون من الزلل، لكنه كذلك طريق يسير بالسائر إلى وراء، ليعود به إلى حيث كان الابتداء، وتدفق الحياة يوجب على الكائن الحي أن يغامر في الجديد المجهول، حتى وإن عرضته المغامرة إلى شيء من خطر، على أن تجيء المغامرة مستندة إلى أصول ثابتة، كقصة الغلام - في الأسطورة اليونانية - الذي أراد ارتياد جب مجهول، فربط جسده بخيط وجعل أمه على رأس الجب، ممسكة بالطرف الآخر من الخيط، حتى لا يضل ضلالا بلا عودة.
ليست الثقافة القومية، أو القومية الثقافية، كومة من أقوال هي أحسن ما قيل، ولا من أعمال هي أفضل ما عمل، ثم ما علينا إلا أن ننكت الكومة لنستخرج منها نموذجا من قول أو من عمل، بل هي «وجهة نظر»، نستخلصها من تلك الأقوال والأعمال؛ لنسلطها على مشهد آخر من عصر جديد.
سماسرة العلماء
الشيء في مكانه الطبيعي لا يستغرب، وإنما تأتيه الغرابة التي تدعو الناس إلى التساؤل، حين نراه في سياق غير سياقه المألوف، فلا غرابة - مثلا - أن ترى قردة في الغابة أو في حديقة الحيوان، لكن الغرابة تكون إذا رأيت القردة طليقة في شوارع المدينة، وكثيرا ما يصدق هذا على ألفاظ اللغة، بمعنى أن اللفظة المعينة وهي في استعمالها المألوف، لا تثير سؤالا، وأما إذا وردت في سياق لم نألف أن نراها مسوقة فيه؛ فها هنا يكون الوقوف، والتعجب، ثم البحث عن معناها هناك.
ومن الأمثلة الكثيرة على ذلك، مثل أحب أن أرويه: وذلك أني إذ كنت أطالع كتاب الحارثي المكي «قوت القلوب» - وهو كتاب معروف في ميدان التصوف - صادفتني عبارة وردت ضمن الحديث عن «الزهد»، فوقفت عندها لحظة لأكثر من سبب، فهي تقول: «الزهد في الرياسة ومدح الخلق، أشد من الزهد في الدينار والدرهم؛ لأن الدينار والدرهم قد يبذلان في طلب ذلك، وهذا باب غامض لا يبصره إلا سماسرة العلماء.»
كان ظني قبل ذلك أن كلمة «سماسرة» تفوح بالحداثة، فلم أكن أتوقع لها أن تكون من الكلمات القديمة العهد في اللغة العربية، وكذلك كان ظني قبل ذلك، أن هذه الكلمة لا يكون لها معنى إلا في عالم البيع والشراء، فكيف، وبأي معنى، جاز لها أن ترد في كتاب عن التصوف، كتبه صاحبه منذ ألف عام؟ فلما كشفت عن معناها في القاموس، وجدتها كلمة أخذتها العربية عن الفارسية منذ زمن بعيد، وأن معناها يتفرع فرعين: أحدهما هو المعنى الشائع بيننا، الذي يكون به «السمسار» وسيطا بين البائع والمشتري، وأما الآخر فهو أن «السمسار» هو الرجل العليم بحقائق الأمور، وبهذا المعنى الثاني يكون «سماسرة العلماء»، هم العلماء المدققون العارفون بأطراف الموضوع الذي يتحدثون فيه.
من هذه البداية البسيطة أخذت الخواطر في ذهني تتقاطر وتترابط، حول موقفنا العلمي كله، في يومنا هذا، وراجعا به إلى بداية عهد التدهور الذي أصابنا منذ القرن السادس عشر، فلقد كنا قبل ذلك أمة تخلق في ميادين الحضارة والعلم، وتبدع وتضيف إلى حضارة الدنيا وعلومها ما هو جديد، وأما منذ ذلك الحين، فقد غشيتنا الغاشية لأكثر من ثلاثة قرون، أخذنا بعدها نحاول - خلال القرن الأخير - أن نفتح أعيننا على ضوء حضارة جديدة، كانت قد بذرت بذورها، ونمت جذورها وفروعها ، وأورقت وطاب ثمرها، وحدث كل ذلك في غفلة منا، لم نكد أول الأمر ندري منه شيئا، ثم أخذنا آخر الأمر نصحو؛ لنلتقي ونأخذ دون أن نضيف ونعطي.
بعبارة أخرى نستغل فيها المعنيين اللذين وجدناهما لكلمة «سماسرة»، نقول: لقد لبثنا حتى القرن الخامس عشر سماسرة علم، بالمعنيين معا: بالمعنى الذي يجعلنا من أصحاب الابداع والإضافة، وبالمعنى الذي يجعلنا كذلك على استعداد، أن نأخذ عن سوانا علومهم؛ لنعيد نقلها إلى من يأتي بعدنا من حملة المشاعل، وأما منذ أوائل القرن السادس عشر - مع الغزو التركي - فقد ضاع منا المعنى الأول، ولم يبق لنا من السمسرة الحضارية إلا معناها الثاني، وذلك في أحسن الظروف، علماؤنا - منذ ذلك الحين - لم يعودوا «سماسرة» بالمعنى، الذي أراده الحارثي الملكي في عبارته التي أسلفناها، أي إنهم لم يعودوا يضيفون إلى الدنيا شيئا جديدا، واكتفوا - في أحسن حالاتهم - بالسمسرة الرخيصة التي تقف عند حدود النقل والمحاكاة.
أردت ألا أسوق القول جزافا، فرجعت إلى كتب ثلاثة: أحدها يحصي علماءنا إبان القرن السادس عشر، ويسميهم «بالكواكب السائرة»، والثاني يحصي علماءنا إبان القرن السابع عشر، ويصف نفسه بأنه «خلاصة الأثر»، والثالث يحصي علماءنا إبان القرن الثامن عشر، ويتخذ لنفسه عنوانا «سلك الدرر» - تصفحت هذه الكتب الثلاثة، وهي من عدة مجلدات؛ لأكون لنفسي صورة عن الحياة العلمية عندنا خلال ثلاثة قرون مظلمة، وحاولت أن أستخلص من قراءتي تلك، الصفات الرئيسية المشتركة التي يصح لنا، أن نقول عنها إنها الصفات المميزة لذلك العهد، ولم يكن ذلك عسيرا؛ لأن القارئ لا يلبث أن يرى تلك الصفات المميزة، طافية على السطح في كل صفحة يطالعها، ومن أبرزها أن من أسموهم «بالعلماء» عندئذ، لم يكن طموحهم العلمي يزيد على «حفظ» الكتاب الفلاني، و«شرح» الكتاب الفلاني، بل كثيرا ما كان مدى جهودهم أن يشرحوا شروحا سبقهم إليها أسلافهم، فهم جميعا «سماسرة» علم بأسوأ معنى لهذه الكلمة.
فإذا تساءلنا: ما الذي أصابنا في المضمار الحضاري، حتى كبونا بعد سبق؟ كان الجواب حاضرا ، وهو: ذهبت قدرتنا على خلق الفكر الجديد، واكتفينا بتبعية تقتضي أثر الأقدمين في محاكاة بليدة عاجزة. إن القرون الثلاثة التي امتدت من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، كانت هي الفترة التي انحدرنا فيها انحدارا سريعا من القمة إلى القاع، وكانت هي الفترة نفسها التي ارتفعت فيها أوروبا من حضيضها إلى الأوج، فما علينا إلا أن نجري مقارنة تحليلية بين ما كان قائما عندنا في دنيا الفكر، وما كان قائما عندهم خلال تلك الفترة الواحدة؛ لنستخرج العنصر الذي غاب عندنا فكان الانحدار، ووجد عندهم فكان الصعود، وأحسب أن الحقيقة عندئذ ستصرخ في وجوهنا صراخا يسمعه الأصم، بأنهم هناك قد أخذوا يقرءون كتاب الطبيعة المفتوح، ويقرءونه على ضوء المنهج العلمي المؤدي حتما إلى نتائج عملية في حياة الناس، بينما أخذنا نحن خلال تلك الفترة نقرأ صحائف الأقدمين لنحفظها حفظا، ونشرحها ونشرح شروحها ونكتب عنها الهوامش، ثم نشرح هذه الهوامش في هوامش، إلى آخر هذا الجهد الشاق الذي يبدأ بالورق وينتهي بالورق.
ويستطيع من شاء أن يجري مقارنة سريعة بين قائمتين: يضع في إحداهما أسماء الأعلام والأعمال العلمية التي شهدتها أوروبا في فترة القرون الثلاثة تلك، ويضع في الأخرى أسماء الأعلام والأعمال العلمية التي شهدها العالم العربي إبان تلك الفترة نفسها، فإذا وجد هناك من الأعلام رجالا من طراز جاليليو ونيوتن وديكارت وبيكون وجون لوك وهيوم وفولتير وكانط، وعشرات غيرهم ممن أقاموا لسلطان العقل والعلم عروشه، ثم وجد هنا من الأعلام رجالا - وأنا أنقل عن الكتب الثلاثة التي أشرت إليها - من أمثال محمد المشهدي، ومحمد بن عنان، وزكريا بن القاضي، وإبراهيم اللقاني، وإبراهيم الميموني، وأحمد القليوبي، وأحمد العجمي إلخ ... إلخ، ممن جعلوا علامة الامتياز مقدار ما حفظوه، وما شرحوه، ومقدار ما استطاعوه من خرق قوانين الطبيعة، لا محاولة الكشف عنها واستخدامها، أقول إن المقارنة السريعة بين القائمتين، ستعطينا الجواب السريع عن سؤالنا: لماذا تقدمت أوروبا بعد تخلف، وتخلفنا نحن بعد تقدم؟ إننا نسأل سؤالنا هذا، وكأن الجواب خاف عن الأبصار، يحتاج من الباحثين درسا وتنقيبا، مع أن الجواب أمامنا يخرق العين، وهو: لقد حاولت أوروبا منذ نهضتها في القرن السادس عشر، أن تقف الوقفة العقلية العلمية، التي تبتكر بها في كل يوم حقيقة جديدة عن دنيانا هذه، التي نعيش على أرضها ونتنفس هواءها، بينما اتجهنا نحن خلال الفترة نفسها نحو الماضي، نبدي في نصوصه المكتوبة ونعيد.
ثم شاء الله لنا خلال القرن ونصف القرن الأخيرين، أن نفتح نوافذنا على هؤلاء القوم، لننقل عنهم من حصيلتهم العلمية، ما نتزود به في مواكبة الحضارة، وكان الأمل - وما يزال - معقودا على جامعاتنا، وما تستطيع أن تؤديه إزاء هذه المهمة الحضارية الخطيرة، التي نريد بها أن ننفض عن أنفسنا غبار عهد قديم؛ لنتهيأ إلى الدخول في عهد جديد.
وهنا أعود إلى فكرة «سماسرة العلماء» بمعنييها: معنى العلماء الذين يحيطون بعلومهم إحاطة تامة، ويضيفون إليها الجديد المبتكر، ومعنى العلماء الذين يقصرون همتهم على التوصيل السلبي لما أنتجه الآخرون، أعود إلى فكرة «سماسرة العلماء» هذه، فأجدني على ضوئها أوضح رؤية للحالة في جامعاتنا، التي عليها وحدها ينعقد الأمل؛ إذ إنني على هذا الضوء أرى ضربين من الأساتذة في جامعاتنا: أحدهما فريق العلماء الذين هم عليمون حقا بعلومهم، حتى ليصلحون أن يكونوا بين العلماء في أي جزء من أجزاء الأرض، وأما الآخر فهم أولئك الذين اضطرتهم الظروف القاهرة إلى الاكتفاء بأن يكونوا وسطاء بين من ينتجون العلم ومن يستهلكونه، ولست على يقين، كم تكون النسبة العادية، بين سماسرة العلماء الذين هم علماء بالمعنى الإيجابي المنتج، وسماسرة العلماء الذين هم وسطاء، فلأترك هذه النسبة يحددها لنا من هم أعلم مني بمسائل الإحصاء.
ولم يكن سماسرة العلم الذين هم وسطاء، ليبعثوا في النفس كثيرا من الأسى، لولا أن هذه الوساطة نفسها، قد باتت معرضة لكثير مما ينحرف بها عن أمانة التوصيل؛ إذ لم تعد الوسائل ميسرة أمامهم؛ ليلموا بالبضاعة العلمية الجديدة المعروضة في أسواق المنتجين، فتراهم يضطرون اضطرارا إلى أن يصبوا وساطتهم العلمية هذه، على بضاعة تعفنت لكثرة ما «باتت » في خزائنها.
يقول المثل العربي القديم: «إلا يكن إبلا فمعزى» - إذا لم تكن الإبل ميسورة، فلا أقل من ماعز - ونقول على نهج هذا المثل: إذا لم يتيسر لنا «سماسرة العلماء» بالمعنى الإيجابي، الذي أراده الحارثي المكي بهذه العبارة، فلا أقل من تمكين السماسرة الوسطاء من النقل والتوصيل، بأن نفتح لهم أبواب ذلك على مصاريعها.
عصبية عمياء
آرثر كيستلر كاتب يهودي، يصادفك اسمه دائما مع الصفوة العليا من رجال الفكر والأدب، كلما اجتمعت هذه الصفوة على هدف تخطط له، كان أول كتاب قرأته له - وكان ذلك في أوائل الخمسينيات - هو «ظلام في الظهيرة»، شدني إليه ما قرأته عنه في مجلات النقد، وهو كتاب يقص فيه، ما كان قد لقيه من تعذيب في سجن سياسي، ثم شاءت لي المصادفات البحتة أن يهديني صديق في موسم من مواسم الأعياد كتابا، فإذا هو لهذا الكاتب نفسه، وهو «عصر الحنين» الذي أراد أن يبين فيه كيف أن أبناء هذا العصر، تنقصهم الفكرة التي يؤمنون بها، فتعصمهم من الحيرة والضياع.
قرأت هذين الكتابين في فترتين متقاربتين، ووجدت فيهما قدرة على التحليل والتصوير تستوقف النظر، ولم أكن بعد قد عرفت من ذا يكون هذا الكاتب، لكني أخذت أتعقب ما يصدره وما ينشره، وأبحث عما كان قد سبق له أن نشره وأصدره؛ فكان من أهم ما صادفني له، كتاب عنوانه: «اليوجي والقوميسار» - وهو بالطبع يشير باليوجي إلى ثقافة الهند الصوفية، كما يشير بالقوميسار إلى ثقافة الشيوعية المادية - وهو إذ يوازن بينهما، قد جعل إحداهما في طرف، والأخرى في طرف، وبين الطرفين ظلال وأطياف متدرجة تأخذ من كليهما، وقد تأخذ من طرف التصوف جانبا أكبر، وذلك بحسب الظروف التي تحيط بجماعات الناس في مختلف الأقطار، وعرفت أن الكتاب قد أخذ عنوانه من عنوان المقالة الرئيسية بين مجموعة مقالات جمعت فيه، وكانت هذه المقالة التي عنوانها «اليوجي والقوميسار»، قد صدرت سنة 1942م، أي إنها صدرت ورحى الحرب العالمية الثانية دائرة.
و«القوميسار» في هذه المقالة، هو رمز للعقيدة بأن الغاية أهم من الوسائل المؤدية إليها؛ ولذلك فلا ضير في قسوة أو غدر أو تعذيب، إذا كان ذلك يحقق الغاية المطلوبة آخر الأمر، وأما «اليوجي» - في هذه المقالة أيضا - فيرمز إلى عقيدة مضادة لذلك، إذ يرمز إلى العقيدة بأن الوسائل أهم من غاياتها، فلا بد من حياة مقدسة مطهرة من الإثم، مهما تكن النهاية التي تنتهي إليها تلك الحياة، عقيدة القوميسار هي أن إصلاح الأوضاع الخارجية يأتي أولا، ثم يتبعه بالضرورة إصلاح الحالات النفسية الداخلية، وأما اليوجي فعقيدته هي عكس ذلك؛ إذ إن شوط الإصلاح عنده يبدأ من داخل النفس وينتهي إلى ما هو خارجها من أوضاع ظاهرة، منهاج القوميسار مرتكز على العقل المنطقي العلمي المنصرف، ومنهاج اليوجي معتمد على الحياة الشعورية الداخلية، الأولوية عند القوميسار هي للجهد الذي تبذله الجماعة مجتمعة، وأما اليوجي فالأولوية عنده هي للجهد الذاتي الخاص الذي يبذله الفرد في رياضته لنفسه.
كان ذلك هو مضمون المقالة كما نشرت أول مرة، لكن الكاتب قد عن له بعد ذلك - في أواخر الستينيات - ألا يكتفي عن حياة الصوفي الهندي بما يقرؤه؛ فلقد أحس إحساسا قويا نبع له من خبرته الشخصية، بأن دعوة «القوميسار» إلى العلم وحده والحياة المادية وحدها، لم تعد تكفي للحياة المتزنة المطمئنة، وتساءل: ترى هل يكون الجانب المفقود هو شيئا من صوفية الهند، أو قل صوفية الشرق بصفة عامة؟ فما هو إلا أن ارتحل إلى الهند وإلى اليابان، ليرى بنفسه ماذا عند اليوجي الهندي، أو عند ال «زن» الياباني ليعطيه لعلم الغرب وصناعته؟
التقى وهو في الهند بأربعة أقطاب من رجال التصوف، وزار عدة مراكز خاصة بأبحاث اليوجا، وكانت النتيجة التي انتهى إليها أن كل ما عند الهند من روحانية، لا يجدي شيئا في تخفيف العبء النفسي عن المثقف الغربي، فليس فيها - كما رآها بعينه المتحيزة - إلا التخلف والقذارة والمرض، وأما عن اليابان فقد زارها، وهو مفتون بها أول الأمر، لأخذها بأسس الحضارة العصرية، وظن أنه ربما وجد فيها امتزاج هذه الحضارة العصرية بنزعة صوفية شرقية ، فيتحقق له ما أراد أن يجده علاجا لأمراض العصر، لكنه سرعان ما خاب أمله - هكذا قال - لأنه إذ نفذ ببصره وراء الظواهر المصطنعة، رأى كيف تنصب حياة الياباني في قوالب جامدة، وبدل أن تعمل عوامل الحضارة العصرية، التي أخذتها اليابان لنفسها أخذا سريعا، بدل أن تعمل تلك العوامل على تحطيم قوالبهم الجامدة تلك، زادتها صلابة وجمودا؛ لأن الياباني في أعماقه قد خشي على وجوده من الضياع في تيار عصر، لم ينشئه هو، بل أنشأه آخرون، فازداد تمسكا بقوالب حياته؛ لعلها أن تكون له درعا واقية تصون ذاته المتميزة عن سواها.
قالها آرثر كيستلر صريحة، بعد زيارته للهند ولليابان، إنه لم يجد عند صوفية الشرق إلا سخافات ترتدي ثوب الوقار، وأذكر أني بعد أن قرأت له الكتاب الذي يحمل عنوان «اليوجي والقوميسار»، اشتدت رغبتي في أن أعلم عن شخص هذا الكاتب، ما يصوره لي بدرجة كافية من الوضوح، فمن ذا يكون هذا الرجل الذي لم تعجبه لا شيوعية الشرق الأوروبي، ولا ديمقراطية الغرب الأوروبي، ولا صوفية الهند، ولا نهضة اليابان؟ من ذا يكون هذا الرجل الذي أخذت أتتبع مقالاته وأتتبع كتبه؛ فأجد فيها دائما الرأي الجريء، الذي يصيب حينا ويخطئ حينا، لكنه في كلتا الحالتين قلق لا يستقر على مذهب يرضيه؟ فسرعان ما وجدت حقيقته، في كتابته، هو عن نفسه، وفي كتابات الآخرين عنه، فهو يهودي صهيوني، يعترف بأن الصهيونية قد جذبته عندما كان في شبابه طالبا في فينا، فذهب إلى فلسطين؛ ليرى الموقف هناك على الطبيعة كما يقولون، ثم عاد إلى أوروبا واشتغل بالصحافة، متخصصا في العلوم، ولم يلبث أن جاءه الجذب هذه المرة من المذهب الشيوعي، فالتحق عضوا في الحزب الشيوعي، ولم تمض على عضويته عشر سنوات، حتى انقلب عدوا للمذهب الشيوعي، وذلك بعد أن ذهب إلى إسبانيا أيام حربها الأهلية - في الثلاثينيات - واشتغل مراسلا صحفيا، وقبضت عليه حكومة فرانكو، وحكمت عليه بالإعدام، غير أن محاكمات التطهير في موسكو أيام ستالين، قد زعزعت عقيدته في الشيوعية، وكتب كتابه «الجلادون » وهو لم يزل عضوا في الحزب ، ثم خرج منه فكتب أشهر كتبه «ظلام في الظهيرة»، الذي أشرت إليه فيما سبق، وهنا عاد إلى فلسطين وكانت عندئذ قد اغتصبتها «إسرائيل»، فكتب عنها كتابا.
علمت عن الرجل هذه الحياة المتقلبة، التي ترتدي ثوبا وتخلع ثوبا، ووراء كل ثوب منها صهيونية كامنة، فبدأت أقرأ له بعين الشك والحذر، حتى وقعت له على موقف متخبط أثار في نفسي الدهشة، إن لم يكن الازدراء، برغم كل ما كنت لمسته في أعماله من معرفة غزيرة وذكاء نافذ، ذلك أنه اضطلع منذ مدة - في شهر نوفمبر 1973م - بحملة غوغائية في إحدى الصحف البريطانية الأسبوعية، قوامها الدفاع عن الخرافة، أو ما يندرج تحت الخرافة من وجهات للنظر، فمن ذا الذي يتوقع من رجل، صبغ فكره بصبغة العقل العلمي، ووصف الروحانية الهندية بكل ما وصفها به من زراية وتحقير، أن يظهر لنا اليوم بروحانية من الصنف الرخيص، لكنه يعلي من شأنها، ويروج لها؛ لأنها - فيما أظن - من طراز غير شرقي؟! كأن من حقه أن يلتزم علمية النظر، وكأن من حقه أن يأخذ بروحانية الاتجاه، ولكن ليس من حقه أن يلبس منظار العقل العلمي، وهو ينظر إلى صوفية الشرق، وأن يعود فيلبس منظار الرؤية الغربية، وهو ينظر إلى علمية الغرب. ولو قرأت الحكايات التي يعرضها على قرائه؛ ليثبت لهم بها أن وراء المنطق العقلي مصدرا تنبع منه المعرفة، لوجدتها من قبيل ما يحكيه عامة العامة من سواد الناس، وعجبت من رجل تنكر بكل علميته لروحانية الشرق، يرويها مصدقا ومحاولا، أن ينتزع التصديق من قارئيه.
إنها العصبية العمياء، التي تستحسن الشيء وتستهجنه في آن واحد، بحسب المكان الذي تراه فيه، فإن كان عند الأهل والمحبين، كان جميلا، وإن كان عند الأغراب المبعدين كان قبيحا! فماذا نقول في حياة فكرية هذا الرجل من روادها؟
حضارة تأكل نفسها
منظر رأيته ولم أكن قد أكملت العاشرة، وذلك أن رأيت قطة في ركن من بناء مهجور، تأكل قطيطات لها، كانت ولدتها لتوها، أو هي ولدتها لفترة وجيزة سلفت، الصغار من حولها أجساد هلامية عمياء، آلية الحركات، لم تستقم على سيقانها، ولقد استدارت لها الأم في صوت وحشي غليظ، كأنها انقلبت عندئذ نمرا صغيرا، وما زالت إلى ساعتي هذه أذكر، كم اختلطت عندي الرغبتان: رغبة الفرار فزعا، ورغبة الوقوف لأشهد المأساة حتى نهايتها! وأظنني قد سألت الكبار يومئذ، فأنبئوني أنها من طبيعة القطة فلا عجب، لكنني عجبت وما أزال! وأذكر أن تعليلا لهذه الحقيقة من طبائع القطط، قد صادفني ذات يوم، غير أني نسيت كيف كان.
ذهب عني «مضمون» ذلك المنظر الرهيب، ولكن بقي لي منه «الشكل»، وهو أن يخلق الإنسان لنفسه خلقا جديدا، لا لينعم به، بل لتدب في نفسه الكراهية له، حتى لقد تؤدي به إلى أن يفتك بما كان قد خلق وأبدع، وإنها لكثيرة ومنوعة، تلك الحالات التي ينطبق عليها هذا «الشكل»، الذي وعيته منذ طفولتي الباكرة، وإنها لحالات تتفاوت فيما بينها أهمية وتفاهة، لكنها تشترك معا في أن ينهش الصانع صنيعته.
والحالة التي أردت اليوم عرضها، تطبيقا لشكل الهرة تأكل بنيها، هي إحدى الحالات الهامة والخطيرة، وأعني بها أن يقف أبناء عصرنا لينقضوا على حضارته هدما وتخريبا، مع أنهم هم بناتها، ومع أنها حضارة لم تزل بعد في طور التكوين ولم تبلغ مداها، ولو أن الانقضاضة جاءت من أبناء العالم المتخلف؛ لقلنا إنها قصة الثعلب الذي لم ينل عنقود العنب الناضج، فقال إنه حصرم مر؛ تعزية لنفسه عن فشل أصابه، لكنها انقضاضة تجيء من عدد لا بأس به، من أبناء العالم المتقدم، الذين صنعوا للعصر حضارته هذه التي استداروا إليها لينهشوها.
ومن أقرب هذه الصيحات المستنكرة ظهورا، مسرحية للكاتب الإنجليزي «إدوارد بوند» اسمها «بنجو» - وهو اسم للعبة تفاجئ اللاعبين بالنتائج العشوائية - ولقد اختار الكاتب مادة لمسرحيته شخصية شكسبير، مبينا أن هنالك تشابها بين ما قد كان في حياة شكسبير من تناقض، وبين هذا التناقض نفسه في حياتنا العصرية الراهنة، وهو تناقض يباعد بين الأوضاع الفعلية للحياة كما هي واقعة، وبين ما يدعيه الدعاة من مبادئ وقيم، وكما حدث لشكسبير من خيبة أمل، أودت به إلى أن يزهق روحه بيديه، فلا بد أن نتوقع لعصرنا أن يحطم بنيانه بمعاوله.
يقول الكاتب عن شكسبير إنه قد تساءل في مسرحياته عن أمور كثيرة أقلقته وأرقته، تمس الأوضاع كما كانت قائمة بين الأغنياء والفقراء، وبين أصحاب القوة ومن لا قوة لهم من سواد الناس، فمن قرأ هذه الكتابة القلقة المؤرقة، لم يتوقع من صاحبها أن يسلك سلوك الأغنياء الأقوياء حين تجمع المال بين يديه، بل إن نزاعا كان قد نشب في بلده، بين من كانوا يملكون الأرض، وأرادوا تسويرها ليردوا عنها المرتادين من عامة الشعب، وبين هؤلاء الفقراء الذين أرادوا الانتفاع، وإن لم يطمعوا في امتلاك، فوقف شكسبير في صف المالكين مؤيدا، لم يقلقه ولم يؤرقه أن ينال هؤلاء المعوزون، ما نالهم من سجن وتعذيب، وجلد بالسياط وتشويه للأجساد، بل ومن الموت شنقا، فلعله قد ظن كما ظن سائر الأغنياء الأقوياء؛ أن هذه كلها أمور طبيعية خلقها الله للإنسان.
وكان شكسبير قد ألقى بالقلم من بين أصابعه قبل أوانه، فيتساءل الكاتب: لماذا أمسك شكسبير عن الكتابة؟ إن مثل هذا الإمساك لا يحدث إلا في إحدى حالتين: أولاهما أن يكون قد أفرغ كل ما في جعبته، ولم يعد لديه ما يقوله، والثانية هي أن يشعر بلذع الضمير، دون أن يملك الإرادة ليغير من سلوكه بما يرضي ضميره، وإنما يلذع الضمير صاحبه، حين يفعل ما يعلم أنه خطأ، وحين يقول ما يعلم أنه كذب. ولقد وقع شكسبير في الكذب وفي الخطأ، وهو عالم بما وقع فيه، والأرجح ألا يكون شكسبير قد أمسك عن الكتابة للسبب الأول، وأن تكون العلة هي فراره من ضميره.
ومثل هذا التناقض الفاضح بين القول والفعل، هو ما يكرث حضارة عصرنا بأفدح الكوارث، وسيؤدي بها إلى النتائج نفسها، أعني أن يخيب الرجاء فتأكل الهرة بنيها وينتهي الأمر. إننا ننادي بضرورة التعاون والتفاهم بين الأمم، لكن طبيعة العصر تدعو هذه الأمة أن تتنافر وأن تتناكر ، وننادي بضرورة أن نلقي إلى عقولنا بزمامنا ، لكن طبيعة العصر تدعونا إلى اصطناع اللاعقل وخرافته، وننادي بضرورة السلام، وطبيعة العصر تدعونا إلى القتال أو الاستعداد للقتال، إننا ندعو إلى تحرير الأبدان والعقول، وطبيعة العصر تدعونا إلى أن نجعل المساكن الحديثة أقفاصا نسجن فيها الأبدان، وإلى أن نجعل من مدارسنا وجامعاتنا أقفاصا أخرى، تقيد الخيال وتكبل العقل، ندعي الديمقراطية، وطبيعة العصر تجعل رقاب الكثرة في قبضة القلة القوية أو الغنية، لقد أمدتنا علوم العصر وتقنياته بقوة المارد، لكنها كذلك أمدتنا بأخلاق المارد وأهدافه، وهي أخلاق وأهداف تنطوي على خبث وشر وتدمير، لقد كان التطور التاريخي ينحو بالإنسان، نحو مزيد من التعاطف والرحمة والعون، لكن عصرنا بطبيعة كيانه التقني (التكنولوجيا) يقلب المسار، فيعود بنا إلى مزيد من القسوة والعنف واللامبالاة. لقد بات عسيرا على الإنسان في عصرنا أن يكون إنسانا، وانقلبت ملايين المعوزين من البشر، أشبه شيء بقصاصات من الورق ذات بعدين، ألصقت على لوحات خربة. إننا اليوم نشهد أكثر مما شهد الناس قبلنا، ونسمع أكثر مما سمعوا، ونعرف أكثر مما عرفوا، ومع ذلك كله فإن الحياة تبدو لنا اليوم، أقل معنى مما بدت لإنسان الأمس؛ فلم تعد كثرة المرئي والمسموع والمعلوم، تزيد من قدرتنا على فهم أنفسنا، وفهم العالم من حولنا، فلو كنا أكثر فهما، وبالتالي أكثر إحساسا بالتبعة، لغيرنا من الأوضاع المحيطة بنا، ولكننا لم نفعل، كأنما نحن الرجل المخمور، ذهبت الخمر بوعيه وإرادته.
تلك شهادة كاتب معاصر، وشهادة أخرى يدلي بها شاهد آخر، هو «جورج شتاينر» (كاتب أمريكي، لكنه فرنسي المولد)، فيقول عن الحياة الثقافية في بريطانيا، إنها قد أنهكها التعب، فقعدت عن السير، فهي تجتاز اليوم حقبة ميتة من تاريخها الفكري، وإلا فأين فلاسفتها؟ لقد كاد ينعدم فيها خلال الأربعين عاما الماضية، كل جهد فلسفي مما يتناسب مع تاريخها، وكذلك قل في الإنتاج الأدبي، فلقد نضب معينها من العظماء، فانصرفت إلى ماضيها تجتره من جديد، وكأنما لسان حالهم يقول: إن الأوائل لم يتركوا للأواخر شيئا، وليست فرنسا وغيرها من أقطار أوروبا، بأحسن من بريطانيا حالا (باستثناء وحيد، هو ألمانيا)، فلقد امتلأت رءوس الشباب بتهاويم اللامعقول والخرافة، ولعل ذلك كله راجع إلى تعب، أصابهم من الحياة العلمية والتقنية التي أنقضت ظهورهم، وأرقت جنوبهم في مضاجعها.
وشاهد ثالث هو «يواقيم كايزر»، يقول إن أهم ما يلفت النظر في وسط أوروبا، هو الشعور بخيبة الأمل فيما هو جديد؛ ولذلك ترى حركة قوية تعود بالناس إلى المسرح التقليدي القديم؛ في المسرح، وفي الشعر، وفي دور النشر، وغيرها من ميادين الفكر والأدب والفن، لقد نهضت في أوروبا ثورات ثقافية - كثورة الطلاب مثلا سنة 1968م - لكنها كانت ثورات أرادت تحطيم القديم، دون أن تقترح الحل البديل، وكثيرا ما لجأ دعاة الجديد إلى قديم يلطخونه بالأصباغ ليجملوه، كمن بحث عن الجمال في فتاة شابة، ولما لم يجده، صبغ وجه الجدة العجوز بالمساحيق.
هذه وغيرها شهادات نقع عليها حينا بعد حين عند كتاب أوروبا وأمريكا، ضيقا منهم بحضارة عصرهم التي صنعوها بأيديهم، فسرعان ما نلقف نحن أمثال هذه الشهادات فرحين بها؛ لندلل بها على وجوب التنكر للعصر وحضارته، قائلين ها هم أولاء شهود من أهله قد أدلوا بالشهادة، وبذلك ننسى الفرق الجوهري، بين رجل قوي يشعر بوعكة المرض، ورجل عليل يشعر بصحوة من عافية، لقد شرب هؤلاء كأس العصر حتى الثمالة، فلا بأس عليهم من داع، يدعو إلى شيء من كبح الجماح، وأما نحن فلم نجرع من حضارة العصر إلا جرعة، لا أظنها تزيد عن المضمضة إلا قليلا، وإذن فلا جناح علينا من غمس لأبداننا وعقولنا في علوم العصر وتقنياته، وسيمضي وقت طويل قبل أن يأخذنا ما أخذ أولئك من قلق.
ولكننا مع ذلك كله لا نخلو من مشكلة هي أعسر المشكلات، وهي الصيغة التي تجيء بها حضارة العصر لتمتزج بتراث لنا أصيل.
القلة الناقدة
يقال إن محاورة «المأدبة» - لأفلاطون - هي أروع ما قد كتبه ذلك الفيلسوف، إذا قيست محاوراته بموازين الفن الأدبي، ولعل الروعة في بنائها الفني، أن تكون العلة التي تفسر لنا اختلاف الناس ، في فهم المعنى المقصود بتلك المحاورة، فموضوع «المأدبة » - كما قد يعلم القارئ - هو الفكرة التي اشتهرت على ألسنة ناس باسم «الحب الأفلاطوني»، مع أن هذا الذي أسماه الناس بالحب الأفلاطوني، هو أشد الأشياء بعدا عن فكر الفيلسوف.
كان «أجاثون» - الشاعر المسرحي - قد ظفر عند أول ظهوره في جمهور الناس بشعره المسرحي الجديد، بإعجاب شعبي كاسح؛ مما جعل طائفة من عشاق الفن، تقيم مأدبة لتكريم الشاعر، امتلأت بصحاف الطعام وكئوس الشراب، وصخبت بالموسيقى والغناء، وفي الليلة التالية أقيمت مأدبة أخرى في بيت «أجاثون»، حضرها سقراط، لكن جماعة الأصدقاء هذه المرة، لم يريدوا بعد العشاء خمرا ولا موسيقى، ورغبوا في أن تكون مسلاتهم حوارا فلسفيا، يليق بأصحاب الكفايات العقلية الموجودة ليلتئذ في الحفل، واقترح أحد الحاضرين أن يدور حوارهم حول ما يمكن أن يتوجه به الإنسان من آيات المديح إلى إله الحب، ولقي الاقتراح ترحيبا من الحاضرين، وترحيبا من سقراط بصفة خاصة؛ فقد كان هذا الرجل يعيش بنصفه في شئون دنياه، وبنصفه الآخر في ملكوت الفكر، حتى ليمكن تشبيهه بكبار الصوفية، الذين قد يحيون مع الناس بأبدانهم، لكنهم يحاولون بأرواحهم، أن يشقوا حجب الغيب المستور؛ ولذلك لم يتوقع سقراط لموضوع الحب، الذي تأهب الحاضرون لطرحه في حوار، لم يتوقع له إلا أن يكون معناه المقصود، أقرب إلى معنى الحب الإلهي، كما يعهده الناس عند أهل التصوف.
كان سقراط يجلس في الحفل إلى جوار «أجاثون» - وهو الذي من أجل تكريمه لنجاحه الفني العظيم عند الجمهور، أقيمت مأدبة الأمس ومأدبة اليوم - وكان بين الحاضرين شاعر الكوميديا الموهوب «أرستوفان»، ولقد تعمد أفلاطون في روايته، أن يعطي الحديث عن الحب إلى الشاعرين المسرحيين على التوالي، فيتكلم أرستوفان، ثم يأتي بعده مباشرة أجاثون، وأن يقع حديثهما - كواسطة العقد - ويلحقهما سقراط بحديثه القوي العميق، ولماذا تعمد صاحب المحاورة، أن يضع حديث الشاعرين في منتصف الطريق؟ قد يكون ذلك ليجيء حديثهما أشبه بمحطة الراحة بين مرحلتين من كد العقل، فكأنما قد فرغ الحاضرون؛ ليشهدوا شاعرين بينهما ما بين «أرستوفان » و«أجاثون» من فارق بعيد، ماذا يقولان؟ وكيف تكون المقارنة بينهما، وهنا بيت القصيد من هذا المقال.
أما «أرستوفان» الموهوب، صاحب الفطرة الأدبية السليمة الفنية، فقد تناول الموضوع - موضوع الحب بين الجنسين - بأظرف ما تكون السخرية المحببة إلى النفوس، وأما «أجاثون» - الشاعر الناشئ الذي لقي كل ما لقيه عند «الجمهور» من إعجاب شديد - فلم يزد حديثه عن عبارات لفظية جوفاء، لا تحمل شيئا من دسم المعنى، حتى لكأن حديثه الفارغ ذاك، إهانة لعقول الحاضرين.
قال أرستوفان الساخر إن الناس قد انقسموا في أصل نشأتهم ثلاثة أجناس، فرجال ونساء، ثم إلى جانبهم جنس ثالث هو المخنثون، الذين يمكن أن يكونوا رجالا مع الرجال ونساء مع النساء، وكان المخنث في تكوينه الأول، مركبا من جسدين ملتصقين، أحدهما للذكورة منه، والآخر للأنوثة؛ ولذلك فقد كان له أربع أذرع وأربع أقدام، ومن ثم فقد كانت له قوة فياضة وسرعة في الحركة، ولا عجب أن أخذهم الغرور في أنفسهم - هؤلاء المخنثون - حتى لقد خيف أن يتهددوا الآلهة، فيأخذوا زمام الأمور كلها في أيديهم؛ ولذلك اجتمع الآلهة ليتدبروا الأمر في هذا الخطر الداهم، واختلف الرأي بينهم، فقد رأى فريق من الآلهة، أن يبيدوا الإنسان بكل أجناسه؛ ليطمئن الآلهة على سلطانهم، لكنه رأي لم يصادف الرضا؛ لأن إبادة الإنسان معناها أن يضيع على الآلهة، ما يقدمه الناس إليهم من قرابين ونذور، وهي كنوز لا يستهان بها، ثم انقدح عقل كبير الآلهة - زيوس - عن فكرة عظيمة، وهي أن يشطر كل إنسان نصفين، فبذلك يحقق الآلهة غرضين: أولهما أن يزيد عدد الناس ضعفين، فيزيد بالتالي مقدار ما يقدم إلى الآلهة من قرابين ونذور، والثاني هو أن يتخلصوا من الجنس الثالث الخطر الذي هو جنس المخنثين، وبهذا الانشطار لكل جسد إلى شطرين سيظل كل شطر منهما، يسعى مشوقا إلى الشطر الآخر، وذلك هو الحب في صميمه.
كان ذلك ما قاله أرستوفان، وبعده أعطيت الكلمة للشاعر الناشئ، الذي ظفر بإعجاب الجماهير، فتكلم كما يتكلم الخطباء على المنابر، حين يجيء كلامهم لفظا مزركشا يرن في المسامع، دون أن يحمل إلى العقول معنى واحدا جديرا بالتأمل، نعم، لقد هذب أجاثون حديثه وشذبه، لكن الفرق بينه وبين أرستوفان، كان كالفرق بين البستان الذي أنفق البستاني، كل جهده في تهذيبه وصقله وتنظيمه، لكنك تبحث فيه عن ثمرة تستاغ فلا تجد، أما أرستوفان فقد ترك طبيعته الغنية تنفجر بثرائها، كما يحدث للمرج في الربيع، عند أجاثون صناعة، وعند أرستوفان الطبع الأصيل.
كان سقراط يعلم عن أجاثون التفاهة والضحالة، فكان رأيه في قدرته الفنية والعقلية، على طرفي نقيض مع رأي الجماهير فيه، وعلى طريقة سقراط في لذع العاجزين، المكابرين الأدعياء بسياط السخرية، قال لمن كان ينظم ترتيب الحديث بين المتحاورين، حين أعلن في البداية أن سقراط سيأتي دوره بعد أجاثون، قال له سقراط عندئذ ما معناه: لماذا تضعني هذا الموضع المفزع المخيف؟ كيف لي أن أتحدث بعد هذا الرجل النابغة، الذي خطف بالأمس القريب مسامع الجماهير؟ ماذا أقول وأنا فقير الفكر ضعيف الموهبة، بعد أجاثون بكل ما وهبته الآلهة من قدرة على الخلق والإبداع؟! وكأنما أحس أجاثون بمقاصد سقراط، فقال له معاتبا: لقد أحرجتني بكلامك هذا؛ لأنك أوهمت به الحاضرين أن يتوقعوا مني الشيء الكثير!
أجابه سقراط ملاطفا في دهاء: وهل يمكن يا عزيزي أجاثون لفئة قليلة من أمثالنا أن تفزعك وتنال منك؟ أننسى ما قد رأيناه منك، عندما واجهت حشود الجمهور في ساحة التمثيل، حين واجهتهم بجرأة جريئة، فعلوت في أعينهم إلى قمة المجد؟ فقال أجاثون تعليقا على قول سقراط: بل إن العاقل لتأخذه الرهبة، أمام قلة ذكية ناقدة، مهما تبلغ به الشجاعة في مواجهة العامة من سواد الناس.
وكان أجاثون بجوابه هذا صادقا وحكيما، فلئن كان للكثرة العددية رجحان على القلة الناقدة في دنيا السياسة، فهل يجوز أن نترك لها مثل هذا الرجحان في دنيا العلوم والفنون والآداب؟ فلقد تنكب جماعة من الناس برجال من طراز «أجاثون» في حياتها الثقافية، يقدمون التافه الضحل، ويحصلون به على إقبال جماهيري، وعندئذ تكون رحمة الله بتلك الجماعة من الناس، أن تظهر فيها القلة الناقدة ليعتدل الميزان .
سياسة بغير ساسة
ليس هذا العنوان من عندي، بل هو مستعار من الناقد الإنجليزي «هربرت ريد»، أشار به إلى «معنى للسياسة عميق الغور»، قد لا يتفق مع ما يضطلع به رجال السياسة، بالمعنى الشائع المألوف؛ فرجل السياسة بهذا المعنى المألوف الشائع، هو كسائق القطار، مطالب بأن يسير على «شريط» مرسوم له، نحو هدف حدده الراكبون أو هو - على تقدير أفضل - كسائق السيارة العامة، يجوز له أن ينحني بالسيارة قليلا نحو اليمين أو نحو اليسار، وفقا لما يعترضه على الطريق من مفاجآت، لكنه مقيد بالاتجاه العام، وبالغاية التي يقصد إليها الراكبون، ومهارته في هذه الحالة مقصورة على أن يبلغ بهم تلك الغاية في أمان، أما المعنى الذي قصد إليه هربرت ريد بالسياسة، التي لا يؤديها رجال السياسة، فهو تحويل المجتمع من اتجاه إلى سواه، ومن هدف معين إلى هدف يخالفه، ومثل هذا التحويل في وجهة النظر وفي الغايات، إنما يقوم به رجال الفكر لا رجال السياسة، ويضرب هربرت ريد أمثلة لذلك؛ وليم مورس، وتولستوي، وغاندي. ونستطيع نحن أن نسوق من عندنا ومن تاريخنا الفكري الحديث، رجالا من أمثال جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده.
وها نحن أولاد اليوم نعرض للحوار «قضية بناء الإنسان الجديد»، فهي إذن قضية من قضايا «التحويل»، التي تتطلب «سياسة» لا تجيء من رجال السياسة، بالمعنى المعروف لهذه التسمية؛ لأن مثل هذا التحويل في بناء الإنسان، لا يكون إلا إذا تغيرت وجهات النظر، واتجاهات السير والأهداف، وإلا لو أبقينا الإنسان المراد تحويله بنفس منظاره القديم، وطرائقه القديمة وشواغله القديمة، فأين - إذن - يكون التجديد المطلوب؟ إننا نقول لغوا إذا ملأنا الأشداق بلفظ «الجديد»، ثم حرصنا في الوقت نفسه على أن نفرغ من الكلمة كل معناها؟ فإذا كنا حقا وصدقا نريد إنسانا عربيا جديدا، فأول شرط تمليه البداهة الفطرية، هو ألا نجعل القديم معيارا لنا، عند الحكم على الأشياء والأفكار والمواقف؟ وعندئذ يتحول النظر من الماضي إلى المستقبل، بمعنى أننا إذا أردنا أن نثبت للناس صواب فكرة معينة، أو صلاحية سبيل من سبل العيش، فلا يجوز أن يستند الإثبات على ما قاله فلان وما رواه علان، ممن عاشوا في زمان مضى وانقضت ظروفه، بل ينبغي أن يكون سند الإثبات، هو ما «سوف» يقوله أبناؤنا وأحفادنا في القرن الحادي والعشرين. إننا إذا كنا ننعم اليوم بشيء أو نشقى بشيء، فما ذلك النعيم أو الشقاء إلا الثمرة التي خلفتها لنا أفعال السابقين، وعلى هذا النحو سينعم اللاحقون أو يشقون، نتيجة حتمية لأفعالنا، الحاضر وليد الماضي، وسيكون والدا للمستقبل، فلا بد لهذا الحاضر من الأخذ عن الماضي، ليجيء تيار الحياة موصولا، لكن لا بد له كذلك من التحوير والتطوير، في جوانب أساسية ليجيء ذلك التيار الحيوي الموصول، تيارا ناميا صاعدا، أما إذا قصر الحاضر نفسه على تمثل الماضي، فإنه إنما يجعل من نفسه نسخة منقولة عن أصل قديم، ثم يسير المستقبل كذلك على هذا الطريق نفسه، فيجيء نسخة أخرى، وهلم جرا، فلا يكون عندئذ فرق بين مثل هذا المجتمع الراكد، وبين جثة محنطة تمضي عليها السنون، فتتناقص وتزداد تشويها، لكنها لا تعرف لازدهار الحياة ونمائها معنى.
إذا أردنا جادين أن نفكر في بناء الإنسان العربي الجديد، وجب بحكم البديهة السليمة ألا يكون «التقليد» (وجمعها تقاليد) مدارنا، فالتقليد - أو التقاليد - لا يعني إلا أن يجيء إنسان اليوم محاكيا لإنسان الأمس، ومن حقك أن تقول ما شئت في هذه المحاكاة من رفض أو قبول، إلا أن تدعي بأنها ستخرج لك الإنسان الجديد؛ إذ الجديد والتقليد ضدان كما تنبئنا القواميس، غير أن تقاليد الماضي، إن لم تكن صالحة كلها اليوم، فهي كذلك ليست فاسدة كلها، وهكذا تسير الجماعات الحية المتطورة - كما يسير أي كائن عضوي حي متطور - تزول من كيانها خلايا وتحل محلها خلايا، في عملية تجديدية متصلة، وتظل للكائن العضوي شخصيته؛ لأنه يحافظ على هيكله العام، ولا ينفض خلاياه جميعا دفعة واحدة؛ ليضع مكانها خلايا جديدة دفعة واحدة، أما أن ينمو الرجل فيأبى عليه وفاؤه لماضيه، إلا أن يستبقي لنفسه خلايا طفولته أو مراهقته، فذلك ضد طبائع الحياة، ولنضغط على كلمة «الحياة»، حتى لا تفلت منا، فكثيرون منا لا يكادون يفرقون بين جسد ينمو ويكبر لأنه حي، وجسد يذبل ويضمر لأنه ميت.
إذا وضع الإنسان العربي «مستقبله» لا ماضيه أمام عينيه، بحيث لا يبقى من الماضي إلا ما يضيء له طريق المستقبل، كان قد وضع بذلك قدميه على أول موقع يؤدي به إلى ولادة جديدة، فالنظر إلى المستقبل يشعره بمسئوليته كاملة، كالمسافر الذي يعلم أنه لا وصول إلا بالخطو إلى أمام، أما النظر إلى الماضي فهو أقرب شيء إلى نظرة «المتفرج»، الذي يفتح عينيه على مشهد يعجبه، لكنه لا يدري بعد ذلك ماذا يصنع به. وليأذن لي القارئ أن أضرب مثلا واحدا، مما يدور في ذهني، وأنا أكتب هذه الكلمات: سمعت منذ قريب حديثا لأستاذ فاضل لا أشك لحظة واحدة في فضله وإخلاصه وحسن طويته، وقد أدار حديثه ذلك على نقطتين، هما أن الأجل محدود وأن الرزق محدود، وإني لعلى يقين بأنه من أعلم الناس بهذا المجال الذي يتحدث للناس فيه، لكني تمنيت من عمق أعماقي أن يصب لنا الضوء، على الطريقة التي يريدنا بها أن نفهم هذه «المحدودية» في الأجل وفي الرزق، بحيث لا نشعر بالعبث حين نعمل على نشر الثقافة الصحية، وعلى إقامة مشروعات التنمية الاقتصادية، والسعي الكادح نحو زيادة الدخل القومي، ورفع مستوى الأجور بالنسبة للأفراد العاملين، لكنه لم يفعل، وسؤالي عقب استماعي للحديث هو: وماذا يراد لنا أن نفعل؟ إن مثل هذا القول لو ترك هكذا بغير تفسير يشرحه، يترك سامعه كالمكنة المعطلة لا تتحرك فيها تروس وعجلات، وبالتالي فلا تحول به نحو أن يكون إنسانا جديدا.
قلت إن شعور الإنسان بمستقبله، يلقي عليه بمسئولية التحرك نحو تحقيقه، ولست أعجب إذ أرى الكثرة الغالبة منا، على غير شعور واضح بالمستقبل، الذي يسددون نحوه خطاهم؛ مما حدا بهم أن يكلوا الأمور كلها إلى ضمير الغائب، فتسمعهم يقولون في كل سياق من حديث: «هم» يريدون كذا ، و«هم» يريدون كيت، فمن «هم»؟ لو كان الناس مؤرقين بمستقبل ترتسم أمام أعينهم سبيله، لاستبدلوا بضمير الغائب هذا ضمير المتكلم وضمير المخاطب، «فأنا» أريد كذا و«نحن» نريد كيت، و«أنت» تريد و«أنتم» تريدون، فبناء الإنسان الجديد لن تقوم له قائمة، إلا إذا أحس الناس بأن الإرادة إرادتهم، بحيث لا يكتب لهم كاتب أو يتحدث إليهم متحدث، إلا وقد تركهم أكثر علما وأوضح رؤية لما «يعلمونه»، بناء على ما قرءوه أو سمعوه، لكن كم من كاتب يكتب ليسلي، وكأنه النديم في مجالس الطرب! وكم من متحدث يتحدث تجميدا للحركة، لا تحريكا للسكون!
بحثا عن الإنسان الجديد
للثقافة القومية أصول ثابتة لا تتبدل مع الأيام، إلا بالحد الأدنى الذي لا يعيق التقدم، كما أن لها فروعا لا تنفك متغيرة، كلما تغيرت الظروف من حولها. الأصول الراسخة تدوم، وهي التي تحدد معالم الشخصية القومية تمييزا لها من سواها، وأما الفروع فهي التي تساير حركة التاريخ، دون أن تفقد صلتها الوثيقة بأصولها الرواسخ، فالأمر في هذا كقطعة من الذهب، يشكلها الصائغ على هيئة الطائر أو على صورة التمساح، يصنع منها سوارا حول المعصم أو حلية على الصدر، لكنها تظل هي هي بنفسها قطعة الذهب التي كانت، فقطعة الذهب هنا بمثابة ما قلنا عنه، إنه الأصول الثابتة في ثقافة القوم، وأما الصور التي تشكلت بها فهي الفروع التي تتنوع، دون أن تضيع منها الصلة الحميمة المباشرة بأصولها.
وهكذا نريد لحياتنا الثقافية أن تكون؛ فتجيء منسوبة إلى جذورها التاريخية من جهة، ومتطورة مع ظروف عصرها من جهة أخرى؛ وبهذا يصبح السؤال الرئيسي المطروح أمامنا هو هذا: ماذا عساها أن تكون «أصولنا» الثقافية الثابتة، التي بغيرها نفقد أنفسنا في غمرة الآخرين؟ ولنترك الآن مسألة «الفروع» المتغيرة؛ لأنها مسألة تهون إذا ما كشفنا الغطاء عن الأصول. إن محاولة البحث عن حقيقة الروح القومية ما جوهرها، تشغل معظم مفكرينا وأدبائنا منذ أمد ليس بقصير، ثم زاد اشتغالهم بها هذه العشرات الأخيرة من السنين، فتوشك اليوم ألا تفتح صفحة أدبية من صحيفة يومية، إلا وتقع على مقال أو أكثر من مقال ينحو به صاحبه هذا المنحى، لكنك - فيما أعتقد - ستجد أكثر الكاتبين في هذا المجال لا يعنيهم البحث عن الأصول الثقافية العامة، التي لو عرفناها لأضاءت لنا ميدان البحث، بلمحة عامة كما يشق البرق سواد الليل، بل تراهم - في أغلب الحالات - يتناولون تراثنا الفكري والديني في متناثرات مفرقة مفكك بعضها عن بعض، فهذا يشرح من العبارة المعنية لفظها، وهذا يبسط مواضع البطولة في موقف تاريخي يختاره من غمار التاريخ، وثالث يتحدث عن إحدى فضائل السابقين، إلى آخر ما نسمعه مذاعا أو نقرؤه مكتوبا في مقالات الصحف، لكن هذه الأمثلة المتعددة المتنوعة، التي يسوقونها لنا أجزاء مبعثرة، لا تكشف وحدها عما وراءها؛ فهي «أمثلة» للروح الإسلامية أو الروح العربية، مع أن هذه الروح - وهي غاية ما نبحث عنه - تريد منا أن نفصح عن حقيقتها، وأن نصوغ أساسها في عبارة صريحة، لكي يتبين لنا بعد ذلك كيف كانت تلك «الأمثلة» التي يسوقها لنا الكاتبون أمثلة لها، وأحسب أنا - بغير هذه الصياغة الصريحة لأصولنا الثقافية الثابتة - سنظل نبحث عن هويتنا الفكرية، ولو ساق لنا الدارسون عن تلك الهوية ألف ألف مثال، إننا بغير العثور على تلك الأصول الثابتة، نفقد قطعة الذهب التي نقدمها إلى عصرنا، ليشكلها وفق ما يراه صالحا لظروفه.
الإنسان الجديد الذي نريد بناءه، هو تشكيل عصري لأصولنا الثابتة، وإذن فالكشف عنها هو خطوة أولى، لا مندوحة لنا عن اجتيازها قبل أن نفكر فيما بعد، وإنني لعلى يقين من مدى الاختلاف البعيد، الذي يفرق وجهات نظرنا في تصور هذه الأصول، ومن ثم اختلافنا الشديد في تصورنا للإنسان الجديد، لكنني أعتقد أننا نفيد من مناقشة موضوع عويص كهذا، أكبر فائدة ممكنة في أقصر وقت ممكن، لو أننا اخترنا نقطة ابتداء ضيقة الرقعة محددة المعنى، بحيث تكون نقطة الابتداء المختارة هذه مرجحة القبول، عند معظم رجال الفكر على اختلاف ألوانهم الثقافية، فهل أقول صوابا إذا قلت إن أعمق الجذور في حياتنا الفكرية هو «التوحيد»؟ فإذا كان الأمر كذلك ، فلنجعل هذه العقيدة نقطة الابتداء، وهي نقطة يترتب عليها مباشرة نتيجة، هي في صميم البناء الثقافي، كما ميز أسلافنا وكما نريد له أن يميزنا، وأعني بها توحيد القيم التي نهتدي بها في مسيرة حياتنا؛ فالقيم التي تهدي الإنسان سواء السبيل كثيرة العدد: العلم، والقدرة، والعدل، والحرية، والتعاون، والرحمة ... إلخ إلخ، لكن هذه الكثرة قد تتوحد عند قوم، بحيث لا ينقض بعضها بعضا، وقد تتعارض عند قوم آخرين، وعندئذ يعاني الأفراد من تمزق وتفسخ؛ لأنهم سيجدون أنفسهم بين شد من هنا وجذب من هناك، وإن عقيدتي في الطابع الثقافي العميق الذي تميز به أسلافنا العرب المسلمون، هي الوحدانية في مجموعة القيم، بحيث كان الرجل منهم يتصرف في شئون حياته بكيانه كله، مما خلع على سلوكهم تلقائية فطرية لا تكلف فيها ولا تصنع.
هذا التوحيد الذي من شأنه، أن يجعل من الإنسان كيانا واحدا غير ممزق، هو قطعة الذهب التي أشرت إليها في أول الحديث، هو المحور الذي ينبغي أن تدور عليه الرحى، هو الأساس الثابت الذي يجب أن نقيم عليه البناء، هذا التوحيد ليمضي لفظا أجوف، إذا هو لم يتجسد سلوكا ومواقف في حياة الأفراد، إنه يفقد كل معناه، إذا هو لم ينعكس في أوضاع الحياة العملية، عند زيد وخالد وزينب وفاطمة؛ إذ بغير هذا التمثيل الحيوي لعقائدنا، يصبح الفرق خافتا باهتا، بين أن تكون موحدا أو لا تكون؛ فالعقائد لم يعتنقها أصحابها في الأصل، ليخزنوها تحفا في صناديق النفائس، بل اعتنقوها - وهم أقوياء أسوياء - لتكون هي المسارب التي تنسكب في أطرها عمليات الحياة كما هي واقعة.
إننا إذا اتفقنا على هذا الذي قدمته مؤخرا، انفتح أمامنا الطريق فسيحا، لبناء الإنسان العربي الجديد، فما علينا بعدئذ إلا أن نصوغ قطعة الذهب في تشكيلها الجديد، فلن يجدي فتيلا أن نظل نبدي ونعيد في ذكر أمثلة من الصور، التي صاغ بها أسلافنا قطعة الذهب هذه، التي ملكوها وورثناها عنهم، فنحن لا نتاجر اليوم بمثل ما تاجروا، ولا نقيم مصانعنا بمثل ما أقاموا، ولا نقاتل الأعداء بمثل ما قاتلوا، أسواق الأمس ليست نماذج لأسواقنا، كلا ولا مصانع الأمس ولا حروب الأمس، لكن الذي يمكن بل يجب أن يمتد على الزمن بينهم وبيننا، هو الوقفة الموحدة بمعناها الواسع العميق، بمعناها الذي لا يجعل شيئا من التعارض بين أن يكون الإنسان الواحد فردا مستقلا، وعضوا في أسرة، ومواطنا في أمة، مثل هذا التعارض موجود عند غيرنا، حتى ليجدون عسرا في أن يحافظ الفرد على استقلاله الذاتي، وعلى أن يكون في الوقت نفسه ولدا موصول الرحم بوالديه وإخوته، إنه المعنى الواسع العميق، الذي لا يصعب علينا معه، أن نرى الإنسانية أسرة بمن فيها من سود وصفر وبيض، وهي رؤية صعبت على غيرنا، بحيث تمزقت أنفسهم بين مبدأ نظري، يقرونه في المساواة بين الناس، وتطبيق عملي لهذا المبدأ، لا يجيز التفرقة العنصرية بأي شكل من أشكالها. إننا لو استطعنا بناء الإنسان العربي الجديد، الذي يعالج مشكلات عصره العلمية والصناعية والاقتصادية والفنية وغيرها، بهذه الروح الموحدة التي تتسق في وحدتها معايير النظر؛ كنا بذلك الأبناء الأوفياء الأمناء على تراث أسلافهم، وكنا في الوقت نفسه أبناء لعصرنا، لدينا ما نعطيه للناس في مقابل ما نأخذه.
الرؤية الساذجة
هي رؤية لصيقة بالفطرة قبل أن يصيبها شيء من التهذيب والتقييد، كرؤية الطفل أو رؤية الإنسان قبل أن يتحضر، وليس في مثل هذه الرؤية الساذجة عيب يعاب، إذا هي وضعت في مكانها الذي أرادته لها طبائع الأشياء، فلسنا نتوقع من الطفل أن يستبدل بسذاجته الفطرية، نظرة ناضجة يقيمها على دقة التحليل وضبط الحساب، كما لا نتوقع من حضارة العصر الحجري أو ما يقرب منها، أن تنتج مركبات صاروخية تنقل الناس إلى سطح القمر، لا بل إننا إذا ما لحظنا طفلا قد سبق الأيام بنضجه العقلي، أخذنا الجزع، وربما أشفقنا عليه من شر يصيبه، كأنه نبات نما في غير موسمه وقبل أوانه.
وإنما العيب هو أن ترتفع السن برجل، حتى ليعد بين الرجال بحكم سنه، ثم نراه يتصرف في أموره بسذاجة الأطفال، فلو استطعنا إبراز الفوارق المميزة للطفولة الحق من الرجولة الحق، لكان لنا بذلك نفسه مقياس، نفرق به بين الرؤية الساذجة بفطرتها، والرؤية الناضجة بعد تحضر وتهذيب، فما هي أوضح تلك الفوارق ظهورا؟
أوضحها - في ظني - هو القدرة على رؤية الأشياء أو المواقف بتفصيلاتها، التي يتشابك بعضها مع بعض كأنها الخيوط في رقعة من النسيج، فرؤية الشيء أو الموقف بتفصيلاته، هي الخطوة الضرورية الأولى، التي يمكن أن تتبعها خطوة القياسات الكمية والضبط العددي، وهذه بدورها هي طريقنا الوحيد إلى صياغة معرفتنا بذلك الشيء أو الموقف صياغة علمية، أما الرؤية التي تقف من الأشياء عند أسطحها، لندركها في جملتها لا بتفصيلاتها الداخلة في تقويم كيانها، فهي كالشارع المسدود من أحد طرفيه، فلا ينفذ منه السائر إلى بعيد، ولا بد له أن يرتد إلى نفسه حيث كان، وهذه الرؤية الإجمالية هي طريقة الأطفال في النظر، فيتعذر عليهم أن يجاوزوا السطح إلى ما وراءه من مقومات وعناصر، وأما الناضج برؤيته بين الراشدين، فينفذ خلال السطح إلى ما قد يخفى على البصر العاري من مكنون خبيء، وعندئذ يتبين أن أشد الكائنات أو المواقف بساطة في مظهره، قد يخفي طي كيانه من التفصيلات المركبة، ما قد يحتاج إلى دراسة متأنية صابرة، قبل أن يلم بها الدارس إلماما، يمكنه من التصرف حيالها وهو بمأمن من الزلل، وهل أبسط في ظاهره من قطرة ماء؟ سل علماء الكيمياء والفيزياء عن قطرة الماء، بعد تحليلها تجد من أمرها عجبا.
على أن الذي يعنيني هنا ليس هو قطرات الماء، أو غيرها من ظواهر الطبيعة؛ لأن هذه الظواهر في أيد أمينة من علماء التجارب الدقيقة في أجزائها وحسابها، وإنما الذي يعنيني هو الإنسان في حياته الاجتماعية، والإنسان العربي بصفة أخص؛ لأنه في أكثر الحالات يترك نهبا لنفر من أصحاب الرؤية الساذجة، يقضون في أموره - وفي أشد أموره حيوية وخطورة - بالنظرة الطفلية السطحية، التي لا تتأرق من خشية الوقوع في خطأ الحساب، فكثيرا ما تصدر مجموعة من القوانين في شئون التعليم أو الاقتصاد أو غيرهما من شئون الناس، ثم لا تمضي فترة طويلة حتى يبدلوها بمجموعة أخرى، قد تكون بالنسبة لسابقتها كالنقيض مع النقيض؛ وإذن فلا بد أن يكون الأمر قد تم بغير حساب في إحدى الحالتين، وربما تم بلا حساب في الحالتين جميعا، فتلحق بهما حالة ثالثة، إن الصواب في مسألة واحدة معينة هو واحد، وأما الخطأ فلا يحصره عدد لكثرته التي لا تنتهي، فإذا جمعنا اثنين إلى ثلاثة، كان الحاصل الصحيح هو خمسة دون سواها، وأما الحاصل الخطأ فقد يكون أي عدد من سلسلة الأعداد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى النظم التي نقيمها لشئون حياتنا، الصائب منها في كل حالة نظام واحد، لو وقعنا عليه بعد الدراسة العلمية المتمهلة، لكان الراجح أن يدوم طويلا ما دامت ظروفه التي جاء ملائما لها قائمة، لكننا لكي نحقق لأنفسها مثل هذا الخطو الوئيد الثابت، نحتاج إلى الرؤية الناضجة، وهي رؤية الدارسين والعلماء.
الموقف الحضاري يتحول في عصرنا من صورة ماضية ذهب زمانها، إلى صورة أخرى هي في طريقها إلى أن تكتمل على امتداد المستقبل القريب أو البعيد، وأصحاب الرؤية الساذجة منا ينظرون في براءة الأطفال، إلى ما يحدث حولهم من انقلاب واسع الرقعة بعيد الأغوار، فلا يكادون يرون منه إلا شذرات تافهة، لا يتماسك بعضها مع بعض في تصور متسق موحد، ومع ذلك تراهم لا يتحرجون من التنكر له، والأمر الغريب هنا هو أنهم إذ يتنكرون له، فإنما هم يتنكرون له مستعينين به، فهم يذيعون ذلك بوسائل العصر، التي لولاها لما سمع لهم صوت، ولو نظروا إلى الأمر برؤية ناضجة، لوجدوا أن هذا المنكر ليس من بساطة التركيب، بحيث يمكن قبوله بنظرة واحدة، أو رفضه بنظرة واحدة، فما نسميه «بحضارة العصر» هو الفنون الجديدة كلها، من موسيقى وتصوير ونحت وعمارة، هو الأدب الجديد كله من قصة ومسرحية وشعر، هو العلم الجديد كله في ميادين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وغيرها، هو الدراسات الإنسانية الجديدة كلها، من علوم النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة ، هي التجارب العلمية الجديدة كلها في مجالات الطب والجراحة، كل هذه الدنيا العامرة المليئة هي حضارة العصر، مأخوذة بتفصيلاتها، وهي من الامتلاء والخصوبة بحيث بات محالا على الإنسان الواحد، أن يلم بأكثر من جزء واحد من فرع واحد من علم واحد، أفيجوز أن نحزمها كلها في حزمة واحدة، لتضؤل أمام أبصارنا، ثم ننعتها بهذه الصفة أو بتلك الصفة، مما هو كريه إلى نفوسنا، لندير إليها ظهورنا، التماسا لركن هادئ من هياكل الماضي، نلوذ به ونعيش فيه، كأن ذلك أمر ممكن حتى لو أردناه! فإذا كان أمره محتوما على من أراد الحياة المتجددة، فلماذا نتلقاه بأنصاف قلوبنا أو أرباعها؟
كتب سيرفانتيس قصة «دون كيخوتة»، عندما آلت العصور الوسطى إلى زوال، ولعل بعض ما أراده الكاتب من قصته، هو أن يسخر ممن لبثوا يتشبثون بعصور غاربة، فصور شخصية «دون كيخوتة» المعروفة، ليصور بها رجلا تعلق بشعائر الفروسية، بعد أن ذهب مع الأيام لبابها، ومن هنا جاء «دون كيخوتة» مدعاة للضحك؛ فهو يلبس الدروع كما كان يلبسها فرسان العصور الذاهبة، برغم أنه ليس منهم، قرأ «دون كيخوتة» كثيرا من أخبار الفروسية وعصورها، ولو وقف عند هذا الحد لعددناه في زمرة المثقفين، لكنه صدق كل ما قرأ، وأراد أن يبعثه من مدفنه ليحياه؛ فأصبح بهذا موضوعا للسخرية.
من شأن الرؤية الساذجة أن تخطئ الأبعاد والأعماق، فقد ينظر الطفل إلى القمر، ويحسبه على امتداد ذراع كذراعه الضئيلة، فيمد إليه كلتا ذراعيه ليمسك به فينكفئ على وجهه، وإنه ليحكى أن رجلين؛ أحدهما ساذج الرؤية والآخر ناضجها، وقفا أمام إناء ضخم مليء بالماء، وفيه سمكات تسبح، أراد الساذج أن يمسك بالسمكات، فاتجه إلى هدفه بطريق مباشر غشيم، فتعذر عليه المراد، ولم يخرج إلا بالبلل، فتقدم الناضج الذي يحسب للخطوات حسابها، وبدأ باغتراف الماء من الإناء حتى لم يبق فيه إلا السمكات، وقد هدأ نشاطها وهي ملقاة على القاع، فأمسك بها في غير عناء، فبالحيلة المدروسة يكون تحقيق الأهداف.
مقياس الحضارة
في الحياة المثلى التي صورها توماس مور في كتابه «يوتوبيا» (وتوماس مور إنجليزي من القرن الخامس عشر)، لا يكون للمال دخل في تقدير الناس ارتفاعا وانخفاضا، فقد يتكدس الذهب أكواما عند إنسان، لا قيمة له بمقاييس الحياة المرهفة المهذبة، وكذلك قد لا يملك إنسان آخر قيراطا واحدا من الذهب، ولكنه بمقاييس تلك الحياة يحتل المكانة العليا.
وفيما يلي عبارة وردت في هذا الكتاب: «... لقد خشي أهل يوتوبيا أن ينخدع بعض الناس ببريق الذهب، فيأخذون في جمعه وتكديسه، فقرروا أن تصاغ من الذهب قيود المجرمين وأغلال المساجين، فعقاب الجريمة الفلانية قرط من ذهب يعلق بالأذن، وعقاب الجريمة الأخرى حلقة من ذهب يخزم بها الأنف، أو عقد يطوق به العنق، أو سوار يدور حول المعصم، وبهذا أنزلوا من قدر الذهب، حتى جعلوه علامة التحقير وموضع السخرية والازدراء. ولقد حدث ذات مرة أن بعثت بعض الدول الأجنبية بسفرائها إلى أرض يوتوبيا، فرأيت بعيني رأسي كيف استقبلهم الناس هناك. جاء السفراء مثقلين بأحمال من الذهب في أعناقهم وعلى صدورهم، ظنا منهم أن ذلك يرفع منزلتهم في أعين الناس؛ فلشد ما دهشوا حين رأوا أن الذهب هناك سمة المجرمين، أو لعبة الأطفال، وقد سمعت طفلا وقف إلى جانب أمه أثناء مرور موكب السفراء، سمعته يصيح قائلا: انظري يا أماه كم بلغ هذا الرجل من السن، وما زال يتعلق بلعب الأطفال، فأجابته الأم قائلة: صه يا بني، فلعله تابع من أتباع السفراء، جاءوا به ليكون منهم موضع الضحك.
لهذا أدهش أهل يوتوبيا أن يعلموا عن أهل البلاد الأخرى، أنهم يقيسون منزلة الرجل بنسج ردائه، فإن كان الرداء رقيق الغزل، كان الرجل شريفا نبيلا، وإن كان غليظ الخيوط كان صاحبه من عامة الناس، وتساءل أهل يوتوبيا قائلين في عجب: أما يدري هؤلاء أن الصوف الذي صنعت منه الثياب - رق غزلها أم غلظ - كان غطاء لجلود الخراف، وكانت الخراف بصوف جلودها ذاك في منزلة سواء؟! وإن أهل يوتوبيا ليتندرون فيما بينهم، بما سمعوه عن سكان البلاد الأخرى، من أن الغبي الأبله فيهم، يمكنه أن يستذل من هم أحكم منه وأعقل، إذا كان في حوزته كومة من ذهب، فإن تحولت كومة الذهب إلى خادمه، أصبح الخادم من فوره سيدا والسيد خادما ...»
لقد ذكرت هذا كله، حين قرأت منذ أيام قلائل، موجزا قصيرا لأبحاث قامت بها جماعة من رجال الاقتصاد والاجتماع، أرادوا بها الوقوع على معيار دقيق، يقيسون به الأمم تقدما وتخلفا، فكان أول ما ورد إلى خواطرهم، هو أن يكون معيار القياس متوسط دخل الفرد؛ فبارتفاع هذا الدخل يكون التقدم، وبانخفاضه يكون التخلف، لكنهم سرعان ما تنبهوا إلى أن مقدار الدخل لا يقيس إلا الدخل، ويوشك ألا يكون له أثر بعد ذلك، في الدلالة على درجة التحضر بصفة عامة، مما يذكرنا بعبارة تلفت النظر، قالها نيكسون رئيس الولايات المتحدة السابق، ضمن خطاب له في الكونجرس الأمريكي، إذ قال: في العشرة الأعوام الآتية، سيرتفع مستوى العيش عندنا بمقدار خمسين في المائة، ولكن السؤال الهام فيما أرى هو هذا: هل يصبح الأمريكيون بهذا الارتفاع، أسعد مما هم الآن بمقدار خمسين في المائة أيضا؟ وهل تجود لنا طبيعة الحياة بمقدار خمسين في المائة؟!
قال أولئك العلماء من رجال الاقتصاد والاجتماع ما معناه: إن نسبة الدخل قد تتغير عند قوم في يوم وليلة، فهل يدل ذلك على أي تغير عميق في حياة هؤلاء القوم؟ لقد أذيعت في العام 1973م مقارنة إحصائية، كانت فيها السويد أعلى مستوى من الولايات المتحدة، وبعدهما جاءت كندا، فسويسرا، ففرنسا، فالدنمارك، فألمانيا الغربية، كانت ألمانيا الغربية هي السابعة في الترتيب، وكانت اليابان هي السابعة عشرة! ولقد أقام أصحاب هذا الترتيب الإحصائي، حسابهم على أسعار العملات المختلفة كما كانت في عام 1963م، لكن أسعار هذه العملات قد تغيرت تغيرا شديدا، فلو حسبنا متوسط الدخل للفرد الواحد، كما هو اليوم بناء على سعر العملة، لهبطت الولايات المتحدة، وصعدت ألمانيا الغربية واليابان، فهل يمكن أن يكون معيار القياس بهذا التقلب السريع؟
لا بد - إذن - من البحث عن معيار آخر، نقيس به حياة الناس عمقا وغزارة. إن أرقام الكسب والإنفاق قد لا تدل وحدها على ما نريد قياسه، فقد يقال لنا - مثلا - إن كذا مليونا من الجنيهات تنفقها الدولة على التعليم، فهل يكون ذلك دالا بالضرورة على مقدار ما ارتفع به الناس في درجات الاستنارة والحضارة؟ أليس من الجائز أن تكون هذه الملايين، قد ذهبت لتخرج لنا «متعلمين» بالشهادات؟ لكنهم في دنيا العقل العلمي يعدون ذوي جهالة وخرافة وتعصب ذميم؟
إن أرقام الإحصاءات الاقتصادية - وحدها - لا تكفي؛ لأنها وإن أشارت إلى بعد واحد من أبعاد الموقف، فهي لا تشير إلى سائر الأبعاد، على حين أن الموقف الحضاري، إنما هو حصيلة هذه الأبعاد الكثيرة التي تتألف منها الحياة، وكما قد قيل: إن السائر في الحديقة قد تمتعه أشجار السنديان، ومتعته هذه هي جزء من حياته ولا شك، لكن أشجار السنديان هذه، لا تدخل في إحصاءات الاقتصاد، إلا بعد أن تزول من الوجود بصفتها تلك، أعني أنها لا تدخل في إحصاءات الاقتصاد، إلا إذا اقتلعت، وقطعت وبيعت شرائحها في أسواق الخشب.
لهذا أراد علماء الاقتصاد والاجتماع، الذين أشرت إليهم، أن يبحثوا عن معيار آخر، أو معايير أخرى، تمكننا من معرفة الدرجات المتفاوتة بين حياة وحياة، بشرط أن تؤخذ غزارة الحياة في الحساب، ولا يكتفى بقياسها طولا وعرضا، فوضعوا في اعتبارهم مقدار ما ينعم به الإنسان من «يسر»، بأوسع معاني هذه الكلمة؛ لأن الحياة الميسرة تتطلب - إلى جانب ارتفاع المستوى الاقتصادي - جوانب أخرى قد يصعب قياسها بدقة الحساب، كالصحة والخلو من المرض والجهالة، وكالتربية التي تعمل على تطوير الشخصية الإنسانية بكل ممكناتها، وتكافؤ الفرص بين الناس في العمل، وفي التمتع بالفراغ، ونقاء البيئة مما يلوثها، وضمان الحياة الآمنة من المفزعات، وسيادة القانون سيادة يخضع لها الناس أجمعون، لا فرق بين حاكم ومحكوم، ومشاركة المواطنين مشاركة فعالة في توجيه وطنهم؛ فكيف نقيس بمقدار الدخل وحده جوانب كهذه: الصحة، وحرية التعبير، والعدالة، والمساواة في الفرص، والتمتع بالفراغ؟
بعبارة أخرى: أرادت تلك الجماعة من علماء الاقتصاد والاجتماع، أن تنشئ خطا آخر، موازيا لخط الإحصاءات الاقتصادية؛ ليقيسوا به «كيف» الحياة ما دامت الإحصاءات الاقتصادية تقصر نفسها على جانب «الكم» وحده، فإذا كانت هذه الإحصاءات تبحث عن مقدار «الدخل»، فإن الجانب الآخر مطالب بأن يقيس مقدار «الراحة» و«اليسر» وما إليهما؛ مما يضفي على الحياة لونا وطعما وقيمة، وبالطبع لم يقف هؤلاء العلماء عند مجرد سرد العوامل المختلفة والكثيرة، التي من شأنها أن تضفي على حياة الإنسان لونها وطعمها وقيمتها، بل طفقوا - شأن العلماء دائما - يحللون تلك العوامل تحليلا يبين تفصيلاتها، كما يبين نسبة أهميتها بعضها إلى بعض.
أفلا يجدر بجماعة من علمائنا - ونحن نتأهب للتعمير الشامل - أن تجري عن حياتنا بحثا كهذا؟
حوافز التقدم
قرأت بحثا لأستاذ العلاقات الاجتماعية بجامعة هارفارد (هو الأستاذ ماكليلاند)، يستوقف النظر بطرافته؛ طرافة منهجه وطرافة نتائجه، وكان السؤال الذي طرحه ليحاول الإجابة عنه ببحثه هذا، هو سؤال عن العامل الرئيسي، الذي لا بد من توافره عند الفرد الواحد، أو عند أمة بأسرها؛ لكي يحقق ذلك الفرد أو هذه الأمة تقدما على طريق الحضارة، فإذا ما غاب هذا العامل الرئيسي على وجه الحياة، استحال على الفرد أو على الأمة، أن تحقق من التقدم الحضاري شيئا، مهما توافرت بعد ذلك سائر العوامل، وكانت الإجابة التي انتهى إليها الباحث عن سؤاله ذاك، هي أن العامل الرئيسي الذي يدور مع التقدم الحضاري وجودا وعدما، هو ما أسماه ب «الفيروس العقلي» تشبيها بالفيروسات التي قد تسري في الأبدان، لا يكاد يدركها البصر إلا بعدسات المجاهير، ومع ذلك فهي تحدث في الأبدان أحداثا جساما، وكذلك يمكن القول بأنه قد تسري في عقل الإنسان حالة يصعب تحديدها، لكنها - إذا ما سرت - حفزت الإنسان حفزا إلى العمل الدءوب، الذي لا يعرف الكلل، حتى يحقق هدفه المنشود.
يقول الباحث إن سائر العوامل التي يفسر بها الناس وثبة التقدم، إنما هي في الحقيقة مصاحبات ثانوية، قد تحضر أو تغيب، دون أن تتأثر بحضورها أو بغيابها عمليات التقدم الحضاري، في وثباتها الملحوظة على مسار التاريخ، فمثلا قد يعللون ذلك التقدم بعوامل البيئة مع أن عوامل البيئة هذه تراها هي بعينها، دائمة عند من تقدم ومن تخلف على السواء، وقد يعللونه بنوعية الأجناس البشرية، فهذا الجنس الفلاني قادر على التقدم، وذلك عاجز عنه، مع أنك واجد في الجنس البشري الواحد، جماعة تقدمت وأخرى تخلفت، بل قد تجد في الجماعة الواحدة، أنها تتقدم حينا وتتخلف حينا، وقد يعللونه بالمهارة في الحروب والقدرة على الغزو والتوسع، فكأنما الغازي هو دائما أكثر تقدما ممن وقع عليه الغزو، مع أن الأمثلة لا حصر لعددها، الأمثلة التي تدل على أن الأمة المغزوة، كانت وظلت بعد الغزو، أكثر تقدما في مدارج الحضارة من الجماعة الغازية، لا، بل يزعم الباحث أن الوثبات الحضارية لا يفسرها، ما يكون عند الجماعة الواثبة من علم ومن تكنية، ما لم يكن ذلك العلم أو هذه التكنية، مصحوبة بما أسماه «الفيروس العقلي»، ويسوق أمثلة لذلك، منها أن أحد الشعوب المعاصرة المتخلفة، أعطت لصيادي السمك فيها أدوات تكنية، صنعها العلم الحديث، من شأنها زيادة الحصيلة السمكية بمجهود أقل، ولقد أدت تلك الأدوات مهمتها؛ فزاد المحصول بالفعل، وزادت معه دخول الصيادين، ولكن لوحظ في هؤلاء الصيادين أحد أمرين؛ فبعضهم أوقف العمل عندما توافرت بين يديه ثروة تكفيه فترة يعيشها بلا عمل، وبعضهم الآخر واصل العمل وزيادة الكسب، ولكنه أسرف في الإنفاق على النساء والخمر، وكانت النتيجة أنه برغم ما أتيح لهؤلاء الناس من ثمار التقدم العلمي، لم يستطيعوا لأنفسهم ارتقاء حضاريا، وكان الذي فاتهم فضيع عليهم عملية الارتقاء، هو ما أسماه الباحث بالفيروس العقلي.
وعبارة «الفيروس العقلي» هذه، عبارة أطلقها صاحبها على سبيل المجاز، وأراد بها ذلك الضرب من المهمة العازمة، التي لا تترك حاملها ليستريح على جنبيه إلا أن يرى حياته، مليئة بالعمل المنتج الناجح، الذي ما ينفك يزداد إنتاجا ونجاحا، عاما بعد عام، كأنما في رأسه نحلة تطن وتلسع، حتى تحول بينه وبين الاسترخاء المطمئن البليد، ومن لم تصبه هذه الحالة المؤرقة الهلوع على النماء المستمر والارتقاء المتصل، قد ينظر إلى غيره ممن أصيب بها، فيظن به الهوس والجنون، وقد يتساءل في عجب: فيم هذه العجلة المكروبة، وعند هذا المجنون من الرزق ما يكفيه؟ لكنه «الفيروس العقلي» أصاب واحدا ولم يصب الآخر، فتقدم الأول ونما، وتخلف الآخر وانكمش.
هذه الرغبة الحارقة عند الإنسان، في أن يعمل، وأن يظل عمله يزداد، فتزداد ثماره كثرة في الكم وتجويدا في الكيف؛ هي شرط التقدم الحضاري عند الفرد وعند الجماعة، قد تضاف إليها أمجاد التاريخ وقوة الجيوش، وغزارة الإنتاج الفني والأدبي، وقد لا تضاف؛ لأنها وحدها إذا وجدت تبعتها الوثبة الحضارية، ثم جاءت بالتالي تلك العوامل الإضافية الأخرى، كالأذناب تلحق بالرءوس.
أما المنهج الذي اتبعه الباحث في بحثه هذا، فهو منهج تجريبي يتلخص فيما يلي: اختار من عصور التاريخ - في شتى أقطار الحضارة الإنسانية - فترات ازداد فيها النشاط الحضاري، وأخرى هدأ فيها هذا النشاط أو خمد، واختار في كل حالة من الحالات، معيارا يقيس به ذلك النشاط الحضاري زيادة ونقصا، كأن يختار عنصرا معينا، كانت له أسبقية في ميدان التجارة، أو الصناعة أو الفكر والفن، وأخذ يحلل هذه النماذج المختارة، للصحوة الحضارية أو للخمول الحضاري، أخذ يحلل هذه النماذج تحليلا بلغ من الدقة أقصى درجاتها، لعله يقع على العامل الرئيسي، الذي إذا حضر، حضرت معه الصحوة، وإذا غاب غابت الصحوة وحل الخمول، فأوقعه التحليل على جوانب عجيبة:
منها المادة الدراسية التي يطالعها الناشئون في المدارس أو غيرها، في الفترة التي تسبق الازدهار، أو تسبق الخمول بنحو عشرين عاما، فوجد علامات مميزة لتلك المطالعات الدراسية في كلتا الحالتين؛ علامات خاصة في حالة الازدهار اللاحق، وعلامات أخرى في حالة الخمول اللاحق؛ وذلك لأن تلاميذ المدارس، وهم في مراحلها الأولى، هم الذين سيصبحون بعد عشرين عاما أو نحوها، رجال الحكم ورجال التجارة ورجال الصناعة، ورجال العلوم والفنون والآداب، وعلى نوع المادة التي تعبأ بها رءوسهم وهم أطفال، تكون وجهات أعمالهم وأنظارهم وهم كبار.
لماذا اشتد الازدهار الحضاري عند اليونان الأقدمين، إبان القرن السادس قبل الميلاد، بالقياس إلى الهبوط النسبي في القرن الخامس فنازلا ؟ لماذا ازدهرت إنجلترا في القرن السادس عشر، أكثر جدا مما حدث لمعاصرتها إسبانيا؟ ولقد اهتم الباحث بعصرنا الحديث بصفة خاصة، واختار لطائفة من البلاد سنوات ازدهار وسنوات انكماش، ثم تعقب الأمور على أصولها، فيما كان قد سبق من مادة دراسية، طالعها أبناء المدارس قبل الازدهار بمدة كافية، أو قبل الانكماش، ولقد أجرى بحثه هذا على أربعين بلدا من بلدان العالم المختلفة؛ ليصل إلى نتيجة مرجحة الصواب، وهي أنه كلما ازدادت مواد القراءة التي تبعث على الأمل والعمل، جاءت النتيجة بعد ذلك بنحو عشرين عاما زيادة في النمو الاقتصادي، والعكس كذلك صحيح، وكان من أهم ما لحظه الباحث في مطالعات البلاد التي تقدمت بعد حين، أنها احتوت على العلاقات الاجتماعية، التي تجعل الفرد يعمل من أجل نفسه، ومن أجل سواه في آن معا، كما كان من أهم ما لحظه الباحث في مطالعات البلاد التي تدهورت بعدئذ، أو واصلت طريق التدهور، أنها بالغت في الإشادة بالطرائق التقليدية في الفكر والسلوك.
ولست أريد أن أضع في نفس القارئ العربي ذرة من تشاؤم، لكنني أدعوه دعوة مخلصة إلى النظر في كثير مما يطالعه أبناؤنا وبناتنا، إما خلال المواد الدراسية، وإما عن طريق ما تبثه وسائل الإعلام؛ ليرى كم من هذا المقروء والمسموع يؤدي إلى بناء الأفراد وبناء الأمة، على القيم الحضارية التي بثها في الناس، إذا أردنا حقا أن نصحو من سبات؛ لنعوض ما فات من تقصير ونلحق بالطلائع؟
أذكر منذ عهد قريب أن مجلة عربية، نشرت فيما تنشره من روائع التراث، عبارة يسأل فيها والد عن أحب بنيه إليه وأحب بناته، فقال عن أحب بناته إليه، إنها البنت التي تكون أسرع من أخواتها إلى القبر، ولعل موسيقى العبارة المذكورة، قد صادفت هوى لدى مذيع عندنا، فسمعته يذيعها في الراديو؛ ليشهد للسامعين على عظمة الكنوز الموروثة، فهل فكرت المجلة أو فكر المذيع، حين نشرت الأولى ما نشرته، وحين أذاع الثاني ما أذاعه، ما هي القيم التي يستهدف إقامتها بما ينشر أو يذاع؟
إنني ما زلت أذكر قطعة من محفوظاتنا الأدبية ونحن صغار، ومن يدري ؟ فلعلها ما تزال مما يفرض على الناشئة حفظه، خطبة الحجاج بن يوسف في أهل الكوفة، التي بدأها - بعد أن حسر اللثام عن وجهه، ونحى العمامة عن رأسه - بدأها بقوله:
أنا ابن جلا وطلائع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني!
إني والله لأرى أبصارا طامحة، وأعناقا متطاولة، ورءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني أنا صاحبها، كأني أنظر إلى الدماء، ترقرق بين العمائم واللحى ...
فمن ذا الذي يريد الآن حاكما يبدأ حكمه بخطبة، يهدد فيها أصحاب الأبصار الطامحة والأعناق المتطاولة، بأنه محطمها ومريق دماءها؟ من ذا الذي يريد الآن حاكما يقول للناس - حالفا بالله - إن رءوسهم قد حان أوان حصدها، وإنه هو صاحبها الذي يطيح بها متى شاء، تلك قيم بين حاكم ومحكوم، ربما ساغت لسابقين، لكننا نرفضها اليوم رفضا حاسما، ففيم إذن حفظ عبارة كهذه وروايتها والتمزز بجرسها، كأنها تعبر لنا عن نزعة سادية مكتومة في صدورنا؟
أول التقدم حافز يحفزنا إليه، والحافز موضعه العقول والقلوب، والذي يثبته في موضعه ذاك مقروء ومسموع، ومحال أن نقرأ وأن نسمع ما يقذف بنا القهقري، إلى عصور خلت وذهبت قيمها مع التاريخ، ثم نطمع في الوقت نفسه أن يكون لنا من الحضارة العصرية نصيب.
وكذب بطن أخيك
كان النبي - عليه الصلاة والسلام - قد رأى رجلا مهموما لمرض أخيه بإسهال أصابه، فأمره النبي بأن يسقيه العسل، لكن الرجل لم يلبث أن عاد ليشكو، بأنه قد سقى أخاه عسلا حتى أفرط، فزادت علة أخيه، فقال عليه الصلاة والسلام: «صدق الله وكذب بطن أخيك».
ومعنى ذلك - فيما فهمت - أن المبدأ العام قد يكون سليما في ذاته، ولكن الخطأ يأتي من طريقة التطبيق، وهذه الحالة التي عرضناها، مثل شاهد على ذلك، فالقاعدة العامة بأن العسل شفاء للناس، قاعدة صحيحة، على شرط أن نحسن تطبيقها، فلا نتزيد ولا نقصر! وعلى ذلك فلا يجوز لنا أن نترك شيئا، نافعا في ذاته وبحكم طبيعته، بسبب مضرة نشأت عنه لسوء استخدامه - هكذا يقول ابن رشد، الذي أخذنا عنه الحديث النبوي الشريف.
ثم يستطرد فيلسوفنا ابن رشد في عرض فكرته، التي كان بصدد الدفاع عنها، وهي ضرورة أن تدرس الفلسفة اليونانية القديمة، وذلك ردا على اتهام الدارسين لتلك الفلسفة، والكاتبين في مجالها، بأنهم قد ضلوا السبيل القويمة؛ إذ جاوزوا - في رأي أصحاب الاتهام - حدود الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة، فيقول ابن رشد في دفاعه عن الفلسفة، إن من يمنع الناس القادرين المؤهلين عن النظر في مصادر الفلسفة، بحجة «أن قوما من أراذل الناس، قد يظن بهم أنهم ضلوا بسبب النظر في تلك المصادر.» إنما هو كمن «يمنع العطشان شرب الماء البارد العذب، حتى يموت من العطش، بحجة أن قوما شربوا ماء، فشرقوا به وماتوا.» فالخطأ في مثل هذه الحالة، هو أن الموت بسبب العطش أمر محتوم، بحكم طبيعة العطش وما يؤدي إليه، فلا يجوز أن تقاس عليه حالة الموت عن الماء بالشرق؛ لأن الشرق أمر عارض، قد يحدث وقد لا يحدث، ومعنى ذلك - عند ابن رشد - هو ألا نترك شيئا ضروريا في ذاته، بحجة أنه قد أحدث ضررا عارضا لخطأ في استعماله.
إن المعركة لم تنقطع بين أئمة الفكر من العرب الأقدمين، منذ فتحت لهم أبواب الثقافة الأجنبية على مصاريعها - وكان ذلك في القرن التاسع الميلادي - إذ لم يخل الموقف أبدا من أصوات ترتفع حينا بعد حين، رافضة لتلك الثقافات الدخيلة، على ظن منها بأن في الموروث القومي ما يكفي، ولا حاجة بالناس إلى زيادة تأتي من عند غرباء، ولكن تيار الحياة الدافق كان أقوى من تلك الأصوات الرافضة، ولعل آخر المعارك في هذا الميدان، كان الحوار الحاد الذي استغرق ما يقرب من قرن كامل، جاءت في أوله هجمة الغزالي على الفلسفة اليونانية، التي لم تكن في رأيه مما يتسق مع عقيدة الإسلام، ثم جاء في آخره رد ابن رشد على تلك الهجمة الغزالية، كان ذلك إبان القرن الثاني عشر الميلادي، ولقد شاء سوء الحظ لتاريخنا الفكري، أن يكون الهجوم هذه المرة أقوى من الدفاع ، فانسدلت الستائر على نوافذ الحياة الثقافية، ليظل الفكر العربي مغلقا على نفسه نحو سبعة قرون، بعدها ارتفعت تلك الستائر عن أبصارنا شيئا فشيئا؛ فكانت تلك هي النهضة العربية التي نعيشها اليوم.
ولكن الأيام في دورانها، قلما تمحو القديم كله، لتثبت الجديد كله، بل يحدث في معظم الحالات، أن يتبدل في الحياة الثقافية حشوها، وتبقى هياكل البناء على صورتها التي ترتفع حينا بعد حين، متشككة فيما ننقله إلى ساحتنا من ثقافة الغرباء، تماما كما كانت ترتفع بين القدماء، وبالحجة نفسها، وهي أنها وافد دخيل علينا، قد يفسد جوهرنا الأصيل، وإنك لترى أصحاب الأصوات الرافضة هؤلاء، يذكرون لك حالات من الفساد، الذي أصابنا بالفعل من ثقافة العصر وحضارته، وكثيرا ما يطلقون على الموقف كله اسم «الغزو الثقافي»، ليحدثوا في النفوس كراهية ونفورا؛ إذ من ذا الذي يرضيه أن تغزوه جيوش الأعداء، هاجمة عليه من خارج حدوده؟ فماذا في وسعنا أن نرد به هذا الضلال، بأقوى مما رد به ابن رشد ضلالا، مستعينا بالحديث الشريف الذي قيل فيمن أساء استخدام العسل، حين أراد الشفاء لأخيه، فظن سوءا بالعسل نفسه، مع أن السوء في طريقة استخدامه، والحديث الشريف قد أسلفناه، وهو «صدق الله وكذب بطن أخيك.»
كان الصراع بين القدماء حول فلسفة الغرباء وحدها، أيقبلونها أم يرفضونها، وأما صراعنا نحن اليوم، فهو حول فلسفة الغرباء وعلومهم في آن معا! نعم، إن الرافضين لحضارة العصر، قد يتحفظون أحيانا، أو قل إنهم قد يتواضعون أحيانا، فيقولون: أما علوم الغزاة فهي مقبولة؛ لأن العلوم ملك الجميع، وأما غير العلوم مما له صلة بالإنسان وحياته، كالأدب، والفن، والعلوم الإنسانية نفسها، من علم نفس إلى علم اجتماع وعلم اقتصاد؛ فلسنا بحاجة إلى ما يقوله الغرباء، ولنا في ثمارنا ما يكفينا، فالصيحة اليوم عارمة، ثم هي تشتد في كل يوم قوة واتساعا، بأنه ينبغي للعرب أن تكون لهم علومهم الخاصة في النفس والاجتماع والاقتصاد.
ولست أريد - هنا والآن - أن أصادر على هذه الصيحة ومطالبها، ولكن الذي أتمسك به إلى آخر نفس من حياتي، هو أن نلتزم، في كل ما نتصدى له من هذه الميادين، منهج البحث العلمي الموضوعي النزيه، وأقول ذلك والخوف يملؤني من شياطين الهوى؛ خشية أن تفعل فعلها في رءوسنا، فتغرينا بأن نجعل للعاطفة صدارة على المنطق العقلي، ومعنى العاطفة هنا، هو أن نشترط على أنفسنا - بادئ ذي بدء - أن تكون النتائج النهائية من بحوثنا «العلمية» هي كذا وكذا، قبل أن نمضي في تلك البحوث بعقل علمي محايد، بغض النظر عما يؤدي إليه ذلك العقل العلمي من نتائج.
لقد جاءتني دعوة للمشاركة في ندوة علمية، تعقد في إحدى العواصم العربية؛ لوضع أصول عامة لعلم نفس إسلامي، وقد ألبي هذه الدعوة الكريمة وقد لا ألبيها، على أني إذا اخترت ألا ألبيها؛ فذلك لأني لا أعد نفسي من أصحاب الكلمة في علم النفس، فلهذا الفرع من فروع التخصص العلمي، أصحابه المؤهلون للبحث في ميدانه، لكن الذي يلفت نظري - فيما أنا بصدد الحديث فيه - هو أن الدعوة تنص في ديباجتها، وقبل أن تنعقد الندوة وتنطلق فيها كلمة، على أن هذه الندوة «تتناول خلال انعقادها دراسة المفاهيم الأساسية في العلوم النفسية، ودراسة ناقدة لإعادة النظر في تلك المفاهيم، التي نبعت في إطار الثقافة الغربية، وفي ظل تضاريسها الاجتماعية، وعكست معتقدات هذه الثقافة، وقيمها التربوية وأسسها الحضارية، وبعض هذه المفاهيم لا يتسق مع إطار الحضارة الإسلامية، بل قد يتعارض أحيانا مع تعاليم الدين الإسلامي، وأسسه التربوية والأخلاقية.»
وهكذا ترى أن نص الدعوة الموجهة إلى الباحثين، يشترط عليهم في أول سطوره، بأنهم إنما يجتمعون ليقروا نتيجة معينة، قبل أن يسيروا في بحوثهم خطوة خطوة، وهي أن علم النفس، كما هو معروف لدارسيه «لا يتسق مع إطار الحضارة الإسلامية، بل قد يتعارض أحيانا مع تعاليم الدين الإسلامي.» فمن هو الباحث الذي يجرؤ بعد ذلك على أن يقصد إلى تلك الندوة، ليعلن هناك أن علم النفس، كما هو معروف لدارسيه، إنما يصح أو لا يصح على أسس المناهج العلمية وحدها؟ من ذا يريد أن يشاع عنه بين قومه أنه يدافع عن شيء، كأن الغرض الأول فيه هو أنه «لا يتسق مع إطار الحضارة الإسلامية، بل قد يتعارض أحيانا مع تعاليم الدين الإسلامي»؟
مثل هذه الوقفة العاطفية، التي تدفعها «الرغبة» أن تقرر النتيجة المرغوب فيها، قبل أن تتقرر مقدماتها ومبرراتها في مجال البحث العلمي الموضوعي، أقول إن مثل هذه الوقفة العاطفية هي ما أخشاه، وهي نفسها الوقفة التي خشيتها، وحاربها نفر عظيم من أئمة الفكر بين أسلافنا، حين هوجمت ثقافة الغرباء، فتصدوا للدفاع عنها وعن ضرورتها للعقل السليم.
ومرة أخرى أقول مؤكدا بأنني لا أريد التعصب - مقدما - لخطأ الاتهام الموجه إلى علم النفس كما هو قائم، أو لصوابه، ولكني أطالب بتغيير المنظار الذي تعودنا وضعه على وجوهنا، حتى لا يرينا من الموقف إلا ما «نتمنى» أن نراه، لنضع مكانه منظارا آخر، لا يخدم أهواءنا، وإنما يكشف الحق أمامنا، كما هو قائم بالفعل، فلا نصادر عليه قبل أن نراه.
ذلك هو طريق التقدم إذا أردناه، فلا نستعبد أنفسنا لأمنياتنا، إلى الحد الذي يجعلنا نقرر لتلك الأمنيات أنها حقائق واقعة، قبل أن يثبت لنا وقوعها، وأن لنا في تراثنا نفسه لقدوة نقتدي بها، فما أكثر المواضع التي قال فيها الأئمة السابقون بوجوب احترام الحقائق التي لا سبيل إلى نكرانها، وحتى إذا وجدناها كأنما هي تتعارض مع نصوص العقيدة في ظاهرها، وجب النظر في تأويل تلك النصوص تأويلا يقبله العقل، وتقبله طبيعة اللغة العربية في الوقت نفسه؛ لأننا لو تركنا الفجوة قائمة بين نصوص العقيدة من ناحية، والحقائق التي تثبتها العلوم من ناحية أخرى، فتحنا بذلك الباب واسعا أمام ذوي النفوس الضعيفة، أن يشكوا في نصوص العقيدة، إذ يتعذر على العقل البشري كما فطره الله سبحانه، أن يجد حقيقة ثبتت بالعلم الأكيد، ثم يتنكر لها.
وما دمنا قد بدأنا الحديث باقتباس أخذناه من ابن رشد، فلا باس في أن نختمه بشيء من ابن رشد، فلقد كان الهدف الرئيسي الذي استهدفه بكتابه العظيم - برغم صغره - «فصل المقال، فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» هو أن يبين كيف ينبغي لنا أن نوفق بين هذين الجناحين: جناح الحكمة، التي هي المعرفة العلمية البرهانية القائمة على العقل ومنطقه، وجناح الشريعة التي هي وحي نزل منا منزل الإيمان، فهما لا شك متفقان، لكننا إذا وجدنا ظاهر الشريعة، كأنما هو يبدو مخالفا للعلم البرهاني القائم على منطق العقل؛ كان على الراسخين في فقه الشريعة، أن يتأولوا ظاهرها ذاك حتى يتطابق الطرفان.
إقناع فاقتناع فقانون
ألا ما أكثر الأخطاء البريئة التي يخطئها الإنسان مدفوعا بأطيب النوايا! فلكم اشتدت بنا الرغبة - أيام الشباب - في أن نسرع بالأمة نحو التغيير، الذي يخرجها من تخلفها الطارئ، ليدخلها في رحاب التقدم الحضاري، كما هو مفهوم بمعايير عصرنا! وكم كانت تضيق بنا صدورنا، كلما نظرنا فلم نجد تقدما، كأنما يخيل إلينا أن الأمة في حركاتها، تقفز إلى أعلى لتعود فتقف حيث كانت، ولا تقفز إلى أمام قفزة، تكسبها مزيدا من رقعة الأرض! فكنا نتساءل بانفعال الشباب وحماسته: لماذا لا يفرض التقدم المطلوب فرضا على الناس بقوة التشريع، كما حدث في بلاد أخرى، مثل تركيا بقيادة مصطفى كمال «أتاتورك»؟ كنا نقول ذلك، وأكثر من ذلك، لا يشفع لنا في سذاجتنا إلا النوايا الطيبة.
وكان موضع السذاجة فينا، هو الظن بأن تغيير الشعوب قد يأتيها من خارج نفوس أبنائها، كما قد ينبثق من داخل تلك النفوس، بل ربما ظننا أن التغيير المقحم عليها من الخارج أسرع تحققا وأدوم أثرا؛ لأنه سيغزوها مستندا إلى قوة القانون، الذي يستند بدوره على قوة الحديد والنار.
وأما مع النضج، وما يصاحب النضج من دقة التحليل وصحة النظر، فالبديهية الأولى في تطوير الشعوب، هي أن يكون ذلك التطوير منبثقا من إرادة الناس، فليس الشعب قطعة من الصفيح، يشكلها الصانع بأدواته، على أي صورة أراد، فيبسطها إذا أراد ويكورها إذا أراد، لا، فما الشعب إلا أنت وأنا وأخوك وأخي وجارك وجاري، فانظر إلى نفسك، وكيف تستقيم لك الأمور في حياتك العملية؛ ينكشف لك طريق الشعب في معالجته لشئون حياته، نعم ، إنه قد يرغم على السير على هذا الخط المرسوم له ، أو في ذاك المنحنى، لكنه لا يلبث أن يرتد عما أرغم عليه، ليعود سيرته الأولى، كما كانت قبل عوامل الإرغام، فلا عجب أن يقال عن الانقلابات، التي يحدثها أفراد بغير إرادة شعوبهم: إنها سرعان ما تزول فتزول آثارها.
مدرب الحيوان في ملاعب السيرك، هو الذي يغض النظر عن طبيعة الكائن الحي الذي يدربه، ليفرض عليه من عنده طبيعة أخرى، فيرغم الفيل أو الأسد على أن يتجاهل سطوته وقوته، ليحرك كما تتحرك القردة أو الكلاب أو ما شاء له مدربه، وقد يضحك مني القارئ إذا أنبأته كم يقسو على نفسي، أن أرى أسدا أو فيلا في حلبة السيرك، وقد فقد عزته وذل «ليتفرج» الإنسان ويلهو! وقلما أطيل الجلوس أمام مشاهد الإذلال هذه.
وللسيرك أشياء حديثة نشأت في حياة الإنسان، وهي حالات «غسل المخ» من أفكاره، لتوضع مكانها أفكار جديدة، وليس السؤال المهم هنا هو: أي الأفكار أصلح، الأفكار المغسولة التي محيت، أم الأفكار الدخيلة التي زرعت مكانها؟ أقول إن ذلك ليس هو السؤال الذي يهمنا الآن؛ لأن مدار اهتمامنا في هذا الحديث هو «الإرادة»، فمهما يكن من حقيقة الفكرة أو حقيقة السلوك، الذي أقحمناه على الإنسان من خارج نفسه، إقحاما رغم إرادته، فهو سلوك أو هي فكرة شيطانية، لا تنمو ولا تورق ولا تثمر.
التغيير الطبيعي الوحيد، هو ذلك الذي يصدر عن اقتناع، أو عن إيمان حقيقي عند المتغير، أو بعبارة أخرى، هو ذلك الذي يجيء عن «إرادة» الشخص أو الشعب الذي يتغير، وفي هذا المعنى كتب برنارد شو يوما رسالة إلى الأديب القصصي هنري جيمس، المشهور في ميدان علم النفس، وكانت الرسالة متصلة بالحركة الاشتراكية، التي أطلقوا عليها اسم «الفابية»، وكان برنارد شو من ألمع روادها، فقال في رسالته تلك ما معناه: ماذا يفيد الناس من كل هذه المسرحيات التي أكتبها، بل ماذا يفيدون من أي كتابة يكتبها كاتب مهما كان نوعها، ما لم تبث فيهم «إرادة» تنزع بهم من بواطن نفوسهم، نحو أن يستبدلوا بالحياة المريضة التي يحيونها هنا على الأرض، حياة أخرى كالتي يحياها الملائكة في السماء؟ إنها الإرادة هي التي تمضي بصاحبها نحو أهدافه، وبغيرها يظل ما نكتبه كالهباء.
وأظنه قد بات واضحا، على ضوء هذا الذي قلناه، ماذا تكون المهمة الأولى للمثقفين؟ إذ هي قبل أي شيء آخر وبعد أي شيء آخر، مهمة «التنوير» التي تضيء ولا ترغم، ونجاحها مرهون بأن تتولد في قلوب الناس «إرادة»، ترغب من تلقاء نفسها فيما يراد لهؤلاء الناس أن يرغبوا فيه، وإذا قلنا ذلك فقد قلنا - بجملة أخرى - إن مهمة المثقفين هي أن يميلوا بالناس، نحو أن يستبدلوا بمجموعة قيم عتيقة كامنة في صدورهم، مجموعة أخرى من القيم الجديدة، الصالحة للموقف الجديد في العصر الجديد، فما أكثر ما تتردد الآن كلمة «قيم» على ألسنتنا وعلى أقلامنا، وكأن المقصود بها كائنات من الأطياف الشبحية المتلفعة بسواد الغموض، ولنلحظ هنا بأن هذه الكلمة - كلمة «قيم» - لم تكن مألوفة بين الكتاب العرب، الأقدمين منهم والمحدثين، حتى هذه العشرات الأخيرة من السنين، ولا غرابة أن تظل على كثير من غموض المعنى في أذهان الناس؛ لأن الاستعمال لم يصقلها بعد، بحيث تلمع بمعناها المرشد المفيد، وعندي أن معناها لا يرشد ولا يفيد، إلا إذا فهمناها على أنها «الرغبات»، التي نراها مجسدة في مسالك الناس، وهم في نشاطهم العملي، فإذا أردنا لهؤلاء الناس أن يغيروا مسالكهم تلك، فما علينا بادئ ذي بدء، إلا أن نغير الرغبات الراقدة في النفوس، وتغيير رغبة برغبة أخرى، هو على وجه الدقة ما نعنيه، عندما نريد تغيير قيمة بقيمة سواها في عالم «القيم».
المهمة الأولى التي يضطلع بها المثقفون - إذن - هي التنوير، الذي يرجى منه أن يغير الناس على ضوئه رغبات عندهم يعيشون بدوافعها، برغبات أخرى يراها المثقفون أولى وأجدى، وأكثر ملاءمة للظروف، وبكلمة أخرى نقول إن مهمة المثقفين، هي «إقناع» الناس بالجديد المطلوب. وحركات التنوير في التاريخ الفكري كثيرة، ومعظمها معروف للقارئ معرفة تكفيه، ومن ذا لا يعرف بالقدر الذي يكفيه عن حركة التنوير الكبرى في فرنسا إبان القرن الثامن عشر، وروادها فولتير وديدرو ومونتسكبيه، وهي الحركة التي انتهت بالناس إلى الثورة الفرنسية، وما جاءت تحمله معها من «القيم» الجديدة؟
وفي التاريخ الفكري الحديث، قامت في إنجلترا في الجزء الأول من هذا القرن الحركة «الفابية»، التي أشرت إليها منذ حين، وذكرت من أعلامها برنارد شو، ولكن أسطع نجمين في سمائها، كان سدني وب وزوجته بياترس وب، خصوصا الزوجة، حتى لقد قيل إنها هي التي كانت تلمع بالأفكار الجديدة، فيصوغها برنارد شو في رسائل الجمعية ونشراتها، وإنه لمما يمتعك حقا أن تقرأ لهذه الجماعة أو تقرأ عنها؛ إذن لرأيت كيف تكون الحياة الثقافية في أعلى ذراها، وماذا تكون أولى مهامها، وأعني بها مهمة «التنوير»، تمهيدا لاقتناع الناس بالفكر الجديد، فتتكون في بواطنهم إرادة التغيير. ولقد كان مما قاله سدني وب في هذا الصدد: إنني لا أتصور كيف يجيء التحول الذي نريده نحو الاشتراكية، إلا إذا بدأنا بإقناع أصحاب الثقافة في إنجلترا، وهم لا يزيدون في رأيي على ألفين، وعن طريق هؤلاء تتسع دائرة الإقناع، إلى أن تعم رقعة فسيحة من أبناء البلاد، وفي مستطاعنا بغير شك أن نرتب الصلات المثمرة مع هؤلاء المثقفين. ولقد أثمرت الحركة الفابية ثمرتها بالفعل فنشأ حزب العمال، وقامت حكومات يتولى زمامها عمال.
وفي رأيي أن حياتنا الفكرية في مصر، قد شهدت تنويرا من هذا الطراز، كان مكثفا في الأعوام العشرة الأولى من هذا القرن، وفي العقدين الثالث والرابع (العشرينيات والثلاثينيات)، وإنه لمما يلفت نظري سؤال كانت الجمعية الفابية قد طرحته، وكذلك طرحته جماعة التنوير في مصر، وهو: أيكون الاعتماد الأول في التنوير على حركة إحياء روحي، تستهدف تغيير القيم في النفوس، فتتغير الحياة العملية تبعا لذلك، أم يكون الاعتماد الأول على النشاط السياسي، الذي يتولى إنقاذ البلاد من مستعمريها والمستبدين بحكمها؟ وكانت الإجابة عند الجمعية الفابية أصرح منها عندنا في مصر؛ لأنهم هناك آثروا أن تكون الأولوية للتنوير الفكري، وبعده يأتي التغيير السياسي نتيجة طبيعية (وهو رأي قريب من رأي الشيخ محمد عبده في ذلك)، وأما عندنا في مصر فقد تشابك الطرفان، حتى أوشك كل نشاط للتنوير الفكري، أن يجيء على أقلام نفر، شغلوا أنفسهم بالنشاط السياسي في الوقت نفسه.
ومن أهم الجوانب التي أردت إبرازها في حديثي هذا، هو التعاقب الترتيبي بين الإقناع والاقتناع، ثم القانون الذي يقنن ما قد أصبح الشعب مؤمنا به، فهذه الخطوات الثلاث، تشير إلى أركان ثلاثة من البنية الاجتماعية، فالإقناع - كما قلنا - هو مهمة المثقفين على اختلاف أنواعهم وتنوع نشاطهم، من جامعات ومراكز للبحوث وأدباء وفنانين وصحافة وإعلام بأوسع معانيه، هؤلاء جميعا هم مصادر النور، الذي يلقي الأضواء على الجديد المأمول، وأما الإقناع فهو الحالة التي يرجى حدوثها عند الجمهور بكل درجاته، وأخيرا تأتي الدولة بمنظماتها لتصوع القوانين وتعمل على تنفيذها، والخلط في هذا الترتيب يؤدي عادة إلى خلق عقبات على طريق النمو والتطور، وأعني بالخلط أن تجعل الدولة من نفسها موجهة للمثقفين، أو أن يعطي المثقفون لأنفسهم حق التشريع قبل أن تخرجه الدولة قانونا معمولا به.
وما دام «الإقناع» هو الخطوة الأولى في طريق السير إلى أمام، ثم ما دام الجمهور بكل درجاته، هو الهدف إلى أن يتم لديه اقتناع، فمن الضروري ومن المفيد أن نصب عليه الضوء لنجلوه أمام الأبصار، ولسنا نجد في هذا السياق ما هو أنصع مما قاله بعض الفلاسفة المسلمين الأولين (ابن رشد بصفة خاصة)، استنادا إلى الآية الكريمة:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن - فها هنا ثلاثة مناهج في الإقناع، تختلف باختلاف الناس في درجات التفكير، والمناهج الثلاثة هي: «الحكمة» التي هي البرهان العقلي وعلى أسس علمية، و«الجدل» وهو ضرب غير برهاني من الإقناع؛ لأن الجدل يجعل شواهده الأولى التي يعتمد عليها، أقوالا مشهورة يقبلها الناس بغير تمحيص؛ إذ يكتفون فيها بأنها أقوال لها مكانتها في قلوبهم؛ إما لشدة ذيوعها فيهم؛ وإما لمكانة قائليها، وهذا المنهاج الجدلي، وإن لم يقنع صفوة العلماء المدققين، فهو قد يكفي لإقناع أواسط الناس، الذين لا هم يصبرون على دقة البراهين العقلية العلمية ، ولا هم من الناحية الأخرى يقبلون المزاعم بغير الشواهد التي تؤيدها، وأما المنهاج الثالث، فهو «الموعظة»، وهذه تصلح للشعب عامة؛ لأن عامة الناس تريد منك ما هو أشبه بالخطابة، لتؤثر في عاطفتها وتثير حماستها، وبناء على توجيه الآية الكريمة في وسائل بث الدعوة، يكون لكل فئة من الناس وسيلتها الصالحة لإقناعها.
والمناهج الثلاثة جميعا: الحكمة، والجدل، والموعظة، مطلوبة لنا اليوم لنتجه بالدعوة الثقافية، التي ندعو بها إلى حياة العصر الجديد، اتجاهات تنتج الأثر الذي يبقى ويثمر.
الزيارة الرابعة
جاءتني الدعوة بأن أشارك في ملتقى ثقافي، يعقد في وشنطن بين فريق من العرب وفريق من الأمريكيين، وكان ذلك في أواخر شهر سبتمبر الماضي، وأساس اللقاء - كما قيل لي عند توجيه الدعوة - هو أن يقدم كل فريق ما يرى تقديمه من القيم الثقافية التي تتميز بها أمته، على أن يعقب المحاضرات التي تلقى، شيء من التعليق والمناقشة، فكانت هذه الزيارة بالنسبة إلي، هي الزيارة الرابعة، يبعد أولها عن آخرها بما يقرب من خمسة وعشرين عاما، وكان الفرق بين الرؤيتين، هو الفرق الذي تحدثه هذه الأعوام في المرئي والرائي.
كنت في المرة الأولى أستاذا زائرا في جامعتين من جامعات الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت إحداهما في الجنوب الذي اشتدت فيه التفرقة العنصرية بين الألوان، وكانت الأخرى في الغرب المنفتح صدرا وعقلا، ولقد كانت لقاءاتي - على الأغلب - مع أساتذة جامعيين، فربما كان لذلك أثر في نقاء الصورة التي رأيتها، وسجلت مشاهداتي إبان تلك السنة في كتابي «أيام في أمريكا»، ولم يعد بي حاجة إلى مزيد من قول، لكني أود أن أذكر هنا - تمهيدا للمقارنة - أن ذلك الكتاب في مجمله، قد جاء يحمل نظرة مبهورة بما رأيت، حتى لقد كتب عنه كاتب ناقد، فقال إنه يحمل إلى القارئ «عقدة الخواجة»، التي أصيب بها مؤلفه، مع أن الأقرب إلى الصواب، هو أن العقدة التي هي عند مؤلفه، عقدة «العلم» المترجم إلى دقة، تغلغلت في أصلاب الحياة بكل أوضاعها.
وفي المرة الثانية كنت ملحقا ثقافيا بسفارتنا في وشنطن ، ولست أريد أن أذكر شيئا من تفصيلات الخبرة التي مررت بها عندئذ، سوى أن أقول إنه ربما كانت الشهور التي قضيتها في ذلك العمل، أتعس ما عشته من سنين، ويكفي أن أقول إنها كانت المرة الأولى والأخيرة في حياتي، التي جعلني بعض المحيطين بي، أحس بأنه عار يدنس الإنسان، أن يكون قد نذر جهده لحياة الفكر والثقافة.
وأما الزيارة الثالثة فكانت لثلاثة أسابيع، أشاهد خلالها طريقة العمل في إعداد الموسوعات، فزرت ثلاثا منها، وهي أكبرها: «البريتانيكا» في شيكاجو (وكانت قد اشترتها إدارة أمريكية من الإدارة البريطانية) و«كولومبيا» و«الأمريكانا» في نيويورك، وكان ذلك كله على سبيل التمهيد لإخراج الموسوعة التي أنفقت عليها شركة فورد، وأشرفت على إخراجها مؤسسة فرانكلين بالقاهرة، وقام بإعدادها وتأليفها نفر من خيرة العلماء في الوطن العربي، برئاسة المرحوم الأستاذ محمد شفيق غربال.
ثم جاءت هذه الزيارة الرابعة منذ أيام، فلم يسعني في لحظة من لحظات التأمل، إلا أن أقارن مقارنة سريعة بين هذه الزيارات الأربع، من حيث الأثر الذي تركته في نفسي، فكان أول ما خطر لي، هو أن الزيارتين الثانية والثالثة، لم أزدد بهما علما عن أمريكا، بقدر ما ازددت علما بمصر، أما في عام السفارة فقد رأيت منذ البداية، أن الأمر لن يكون خدمة للثقافة، بقدر ما يكون مشاركة في لعبة المناورات، والمناورات المضادة، والتي محورها جميعا هو: من الرئيس ومن المرءوس؟ ولما كنت من «أخيب» عباد الله في أمثال هذه المناورات، فقد لذت بالفرار، لينعم بالرئاسة من استطاع أن ينعم.
كانت هذه إذن خبرة بمصر أكثر منها خبرة بأمريكا، وكذلك كانت الحال في زيارة الموسوعات، فقد عدت من تلك الزيارة القصيرة، لأجد مجموعة من مقالات نشرتها الصحف، بشيء من التنسيق فيما بينها، كأنما وراءها «مايسترو» ينظم الخطوات، وخلاصة تلك المقالات هي أن مثل هذا العمل الذي هممنا به هو خيانة، وأن موسوعة عربية لا ينبغي لها أن تجيء ترجمة عن موسوعة أمريكية ، إلى آخر ما كتب الكاتبون، ومرة أخرى وجدت نفسي في موقف من مناورات تتطلب مناورات مضادة، ولم يخلقني الله لمثلها، فتنحيت عن رئاسة التحرير، وأن أكن قد ظللت عضوا عاملا في لجنة الإشراف، استجابة لما أراده أستاذي شفيق الغربال.
والذي ملأ قلبي حسرة يومئذ، هو أن أصحاب تلك المقالات، لم ينتظرا ليعرفوا حقيقة الأمر: أهي حقا موسوعة مترجمة، أم هي موسوعة اضطلع بتأليفها نفر من علماء الغرب؟ ثم أهي حقا تتحدث عن موضوعات أمريكية، أم أنها جعلت أعلى نسبة للموضوعات العربية الخالصة؟ وعلى كل حال فقد تحقق المشروع، وبرغم كل ما وقع فيه من أخطاء - صححت في الطبعات التالية - فإني أعتقد أن هذه الموسوعة العربية الصغيرة، قد وضعت أساسا متينا، لكل من أراد بعد ذلك موسوعة عربية كبرى.
وتبقى هذه الزيارة الرابعة، فها هنا لم أترك الحكم لبصري وسمعي وحدهما؛ إذ ماذا عسى أن يعلمه البصر والسمع خلال أيام معدودات؟ بل أضفت إليهما ما يقوله أصحاب الشأن أنفسهم، إذا وجدت فيما يقولونه دلائل الصواب، ولعلني لم أقف من شيء وقفتي من صناعة «الكاتب» في أمريكا، ما حقيقتها؟ ثم جاءت المحاضرة التي ألقاها في ذلك الملتقى «جون أبدايك» - وهو كاتب وشاعر - تحمل الجواب المتزن الذي تفوح منه رائحة الصدق ونزاهة الحكم.
بدأ القول بذكر ما يتمتع به الكاتب الأمريكي من ظروف مؤاتية، فهو مواطن في دولة غنية، وينتمي إلى أمة زالت الأمية عن أبنائها؛ مما يعني زيادة في عدد القارئين، ويعيش في بلد دستوره يحتم حرية الكلمة المنطوقة والكلمة المطبوعة، حتى ليتعذر على القانون أن يصل إلى الكاتب في الحالات، التي قد يظن أنها موضع مؤاخذة في بلاد أخرى، ومن حسن حظه كذلك أنه يكتب باللغة الإنجليزية الواسعة الانتشار، والتي تترجم منتجاتها إلى عدة لغات أخرى؛ إذ ليس على صاحب الموهبة الأدبية ما هو أقسى من أن يضعه حظه، في لغة لا هي مقروءة عند أهلها؛ لأنهم أميون لا يقرءون، ولا هي مما يقبل الناس على ترجمته، بدرجة تكفل لها الانتشار في الشعوب القارئة، أضف إلى ذلك كله من الظروف الحسنة المؤاتية للكاتب الأمريكي، أن تكون أمريكا نفسها موضوعا للكتابة؛ فهي قارة جديدة أنشأت حضارة جديدة، وبالتالي يكون فيها من الشباب حيويته وطموحه، مما يتسع معه المجال أمام الكاتب؛ لأن كل شيء حوله يحفزه إلى النشاط والإبداع، حتى إذا ما بلغ المتكلم (جون أبدايك) هذا المدى من حديثه عن الظروف السعيدة التي تحيط بالكاتب الأمريكي، بدأت معه كلمة: ولكن ... نعم ولكن الكاتب الأمريكي برغم ذلك كله، قد هبطت قيمته هبوطا ملحوظا في درجات المجتمع، فكل الظروف المساعدة التي ذكرناها، لا تتضمن بالضرورة أن يجيء الإنتاج الأدبي، على درجة عالية من الجودة، فلعل الكاتب المنحصر في بلد صغير، أو المحدود بقلة قارئه، يعوض بالإتقان والإجادة سعة الانتشار وكثرة القراء، إذ ماذا تجدي الكثرة، إذا هي لم تقرأ قراءة المتفهم المتمعن؟ وهكذا يفعل معظم القراء في أمريكا؛ مما انعكس على الكاتب نفسه، فأخذ يخاطب القوم بشيء من عدم العناية، يتناسب مع طريقتهم في القراءة.
وقارن الكاتب الأمريكي اليوم بسلفه منذ قرن مضى، تجد هذا السلف أعلى مكانة، وأجود إنتاجا وأشد ثقة بنفسه، فهو لا يتأثر بالجمهور من حوله، بقدر ما يحاول أن يغير ذلك الجمهور ليعلو به. إن من يظفر بالشهرة اليوم في عالم الكتابة، قد تبنى شهرته على الصياح الأجوف، أما منذ قرن مضى، فلم يكن يظفر بالمكانة الأدبية إلا صاحب الرسالة، الجاد، الواعي بما أوجبه عليه خالقه، الذي أودع الموهبة في قلبه. لقد ازدادت أمريكا اليوم قوة وسلطانا وثراء، لكن من ذا الذي قال إن جودة الإبداع الفني، تساير القوة والسلطان والثروة؟ كلا، فالتاريخ شاهد على أن الفن يزدهر في المرحلة السابقة، على بلوغ الأمة ذروتها من قوة وثراء وسلطان، هكذا كانت الحال في بريطانيا، عندما بلغ فيها الأدب قمته العالية أيام شكسبير وملتون، مع أنها كانت لم تزل بعد سائرة إلى القوة لا محققة لها، وهكذا كانت الحال أيضا في أمريكا منذ قرن مضى؛ أيام امرسون، وثورو، وملفيل.
إن للكاتب الأمريكي اليوم مشكلاته، التي قد تعرقل جودة الإنتاج؛ فالولايات المتحدة الأمريكية - كما قال «جون أبدايك» - هي أوسع غابة يعبث فيها أصحاب المغامرات، فترى الثراء يتراكم حيث لا ينبغي له، لينحسر عن رجال الأدب والفن إلا باستثناءات قليلة، ولقد كان الكاتب فيما مضى يجد متسعا أمامه في المجلات والصحف، حتى ليمكنك القول بأن المجلات والصحف، كانت هي التي تشق طريق المجد أمام من تعده الموهبة للكتابة، أما اليوم فقد سقطت كبرى المجلات صرعى، ومالت الصحف نحو أن تكون «صحافة» لا تخلي مكانا لقلم الأديب، وبات المصدر الرئيسي الذي يخرج للناس أدباءهم هو الجامعات، فبعد أن كان الكاتب ينصهر في لهب الحياة الجارية، أصبح وفي نفسه قيود الدراسة الأكاديمية، فذهب عن الأدب نبضه ليحل محله شيء من برودة الثلج.
إن أصحاب الحرف الأخرى كثيرا ما يستريحون إذا ما تقدمت بهم السن؛ لأن أعمالهم تستقر أركانها مع توالي السنين، وأما حرفة الأدب فلا تدع لصاحبها قرارا وثيرا، يريح جنبه عليه في شيخوخته، فهو من جهة مدفوع بقلقه الفطري، نحو أن يظل مجاهدا مغامرا، ومن جهة أخرى هو مدفوع بالحاجة إلى المال، ولو وقف به الأمر عند هذا الحد لهان الخطب، لكنه كثيرا ما يفرط في فنه الأدبي إرضاء لصاحب المال.
إن من سيئات الكاتب الأمريكي اليوم، انصياعه للمناخ السائد؛ فتراه يحاول الصعود إلى القمة، بمثل ما يحاول أصحاب المصانع والمتاجر أن يصعدوا، متناسيا أن له فنا من حقه أن يجود ويتقن، وسواء بعد ذلك أصعد مع الصاعدين أم قعد، ولا غرابة في أن نجد من أصحاب القلم، من يكاد يبيع نفسه بيعا في سبيل العظمة الكاذبة، فيختلط عليه الأمر بين الإبداع الفني الجيد، وبين كثرة الكلمات التي ترص على الصفحات رصا ليضخم حجم الكتاب، دون أن يقلق ضميره أنه يكرر نفسه في الكتاب الواحد عدة مرات، مع أن التاريخ الأدبي صارخ بالحقيقة الناصعة، وهي أن أصحاب الروائع الخالدة، لم يطف بأذهانهم ساعة الإبداع، أنهم يسعون إلى روعة أو خلود، فجاءهم الخلود وجاءتهم روعة العمل طائعة، دون أن تكون هدفا منشودا لذاته.
ماذا تكون صناعة الكاتب، إذا لم تكن مخاطبة القراء، بصور وأفكار ملئت بمضمونها الغزير، وصيغت فأحسنت صياغتها، ورتبت ترتيبا يجعل المقارنة ممكنة بينها وبين الواقع؟ ثم ماذا تكون الخبرة الأمريكية الخاصة، التي كان ينبغي أن تجد سبيلها إلى أقلام الكتاب، إذا لم تكن هي خبرة من قام بتطويع سريع لأرض فسيحة عذراء، كشف عنها الغطاء في اللحظة التاريخية، التي كانت العصور الوسطى عندها، تسلم الزمام إلى عصر جديد، تسوده التكنولوجيا وتسوده الصناعة؟
إن كل الظروف التاريخية كانت تستوجب أن يكون الكاتب الأمريكي مخلصا لنفسه، فهو فرد مسئول أمام ضميره وأمام ربه، ثم لا سائل له بعد ذلك، فلماذا لا يتفحص ذاته في صدق، ثم يكتب ما يكتبه في إطار يرضى عنه الفن، حتى ولو لم يرض عنه أصحاب الجاه وأصحاب الثراء؟ لكن كثرة من الكتاب في أمريكا قد شغلتها شواغل المال والشهرة عن الإخلاص الكامل لذواتهم؛ مما دعا أعلاما في دنيا الأدب من أمثال «باوند» و«همنجواي»، أن يقوموا بما يشبه الثورة الأدبية، عندما عبروا عن مقتهم الشديد لكل تعبير فاتر في وجدانه، ولكل قول مسطوح بلا أغوار.
الكاتب الأمريكي لا يحس بما يحس به زميله في بريطانيا - مثلا - من أنه صاحب صناعة لها وظيفتها في البناء الاجتماعي، وبذلك لا يكون من حقه أن يغرق في أوهامه وأحلامه، فللصناعة الأدبية تقليد يجب أن يصان، وأن يتم العمل في إطاره، لكن الكاتب الأمريكي يفقد هذا الإحساس؛ ومن ثم فهو كثيرا ما يتوهم أنه قسيس يعظ الناس، وليت وعظه كان كوعظ القساوسة مستندا إلى كتاب وعقيدة، بل هو وعظ بشخصه هو وكأنه إله على الأرض. إن القارئ يريد - وهو يقرأ - أن يطالع الواقع عن طريق عقل غير عقله، وهو عقل الكاتب الذي يفترض فيه سلامة الإدراك ودقة التعبير، أما أن يفر الكاتب من حقائق الواقع الذي مهمته تقتضيه أن يتابعها في أمانة وصدق، فتلك خيانة منه لفنه الأدبي، وما أكثر ما وقعت هذه الخيانة ، من كتاب هربوا إلى الغابات، أو إلى خارج بلادهم، أو إلى المخدرات، وأخيرا إلى عيادات العلاج النفسي!
ألم يكن يكفي حرفة الأدب ما أصابها من سوء، عن طريق السينما والراديو والتليفزيون، إنها أدوات قد أضلت الأدب الحق عن سبيله، أما الراديو والسينما فقد كانت السيئة منهما، أن حاولا تقديم حياة مصطنعة إلى أسماع الناس وأبصارهم، إن القائمين عليهما لا يحبون أن يقدموا الحقيقة كما هي واقعة، بل يطبخون طبخة من أوهامهم، ثم يقولون للناس هاكم الغذاء! ولما كانت السينما بصفة خاصة تعتمد على القصة، أصبح كتاب القصة هم الأبطال في ميدان الأدب، ولكن أي قصة؟ إنها القصة التي تصلح للسينما، لا القصة التي تصلح للخلود.
وجاءت النكبة التالية عن طريق التليفزيون، إنه هذه المرة لا يطلب صورة مصطنعة، كسابقيه الراديو والسينما، بل يلجأ إلى نقيض ذلك، ويريد أن يحول الجهد الأدبي إلى «الحادثة» وعرضها، فهناك ترى حوادث الرياضة، وترى حلقات المناقشة، وترى المتحدث وحيدا أو مع جماعة، وترى الألغاز المسلية، وأما الإنتاج الأدبي كما عرفه تاريخه، فقل إن عليه العفاء.
أما بعد، فلست أريد أن أحمل «جون أبدايك» وزر ما ورد في هذا المقال؛ لأنه وإن يكن هذا المقال قد اعتصر ما تحدث به ذلك الأديب عن الكاتب في أمته، فإن طريقة العرض مسئول عنها وعما توحيه كاتب هذه السطور، وهي سطور أعدها زبدة ما زودتني به زيارتي الرابعة.
بداوة وحضارة
من أبرع اللفتات الفكرية عند ابن خلدون، فكرة الصراع بين البداوة والحضارة، بالمعنى الخاص الذي قصد إليه بهاتين الكلمتين، وهي فكرة استمدها استدلالا مما لحظه من حوله على أرض الواقع، وفي بلاد المغرب بصفة خاصة، فنظرة خاطفة إلى خريطة الوطن العربي الكبير، تكفينا لندرك الصورة في إجمالها، وهي أن ذلك الوطن قوامه الصحراء، التي هي أوسع الصحراوات اتساعا على وجه الأرض، تطرز حوافيها مراكز عريقة في الحضارة، تمتد مع شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وتعبر بلاد الشام إلى العراق، لتعود فتمتد على شواطئ الخليج العربي والبحر الأحمر، فكأنك - إذ تنظر إلى خريطة الوطن العربي - فإنما تنظر إلى رقعة فسيحة من النسيج الأصفر، توشي أطرافها - دائرا ما تدور - زخارف الألوان.
وهنا تأتي الملاحظة البارعة الناقدة، التي ذكرها ابن خلدون، وهي أن الصراع ما انفك قائما بين ثقافة المتوسط وثقافة الأطراف، والثقافة الأولى هي ما أسماه ب «البداوة»، والثقافة الثانية هي ما أسماه ب «الحضارة»، أي أن الأمر بينهما لم يكن أمر تخلف هناك وتقدم هنا، بمعنى أن تكون البداوة مرحلة تجيء سابقة على طريق التطور، ثم تأتي بعدها مرحلة الحضارة، بل الأمر بينهما هو أمر ثقافتين متجاورتين، لكل منهما خصائصه التي يتميز بها، ولما كانتا متجاورتين على النحو الذي ذكرناه، فقد شهدتا تفاعلا هو الذي حدد مسار التاريخ في هذه الرقعة الفسيحة من الأرض، ولكنه تفاعل لم يكن متوازن الكفتين، بحيث يتعادل التأثر والتأثير، بل كان الأرجح فيه طغيان البداوة على الحضارة أحيانا، فتهجم الثقافة الأولى على ظهور جيادها وفي ظلال سيوفها، لتغزو الثقافة الثانية في حصونها وقلاعها.
وأبزر العناصر في المركب الثقافي الذي نعنيه بكلمة «البداوة»، العصبية للقبيلة أو العشيرة، والركون - في تأمين المستقبل ضد مفاجآت الحوادث - إلى «المروءة» التي هي مزيج من الكرم والشهامة في نجدة المحتاج، ويقابل هذه الخصائص في المركب الثقافي الآخر، الذي نطلق عليه اسم «الحضارة» في سياق حديثنا هذا، الانخراط في بناء الدولة، والانصياع عن طواعية للقوانين، التي تسنها تلك الدولة لتنظيم شئون الحياة، وأما تأمين المستقبل فوسيلته في هذه الثقافة الحضارية، هي ادخار المال الفائض، ادخارا يبقيه كما هو، أو يستثمره في إنتاج جديد.
ولننظر الآن إلى مصر بصفة خاصة، فما الذي حدث لها في كيانها الثقافي، خلال هذا الصراع بين بداوة الوسط وحضارة الأطراف؟ لقد كانت مصر على امتداد تاريخها الطويل، مركزا هاما من تلك المراكز الحضارية، التي قال عنها ابن خلدون إنها ما فتئت مهددة بهجمات «البداوة»، تأتيها من خارج حددها، وإذن فلا بد أن تكون قيمها الأساسية قد ارتجت آنا بعد آن، حتى تداخلت فيها عناصر البداوة مع عناصر الحضارة في مزيج، قد يتعذر فيه أن نرد كل عنصر إلى أصله ، إلا بعد تحليل هادئ ودقيق.
وربما كان من أوضح المعالم التي تستوقف النظر عند التحليل، أن ثمة ينبوعا مشتركا بين ثقافة البداوة الوافدة إلينا من الصحراء، وثقافة الريف الزراعي كما انتهى أمرها تحت سطوة الطغاة، الذين استبدوا بالحكم في مصر قرونا طويلة، وهذا الينبوع المشترك هو فقدان الأمل في كلتا الحالتين - لأسباب تختلف في إحدى الحالتين عنها في الأخرى - فنتج عن الشعور بقله الأمان مجموعة من القيم في بداوة الصحراء، ومجموعة أخرى من القيم في حضارة الريف الزراعي، فلما غزت ثقافة البداوة بمجموعة قيمها، ثقافة مصر بمجموعة قيمها، حدث مركب خليط هو الذي نحياه نحن اليوم.
ولا بد لي أن أذكر، في هذا الموضع من الحديث، أن المركب الثقافي الذي نشير إليه بكلمة «بداوة»، هو نفسه المركب الثقافي الذي يشار إليه بكلمة «الجاهلية»، أعني أنه هو مجموعة العناصر الأساسية، التي سادت شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، والذي كان من بين ما استهدفته الدعوة الإسلامية أن تحد من غلوائها وتطرفها؛ تقريبا لها من خصائص الحياة الحضارية، فليست «الجاهلية» من «الجهل»، وإنما هي اسم يدل على صفات رأى فيها البدوي الجاهلي مثله الأعلى: الحفاظ على العرض، الثأر، الإسراف في الكرم، وتبذير المال، والإسراف في القتل والعنف والزهو بالنفس ... إلخ.
قلت إن صفات البداوة الأصيلة، قد انبعثت من الشعور بعدم الأمان الكافي لبث الطمأنينة، وكذلك أدى الشعور نفسه بعدم الأمان الكافي، لطمأنينة النفس إلى مجموعة صفات أخرى في حضارة الريف المصري، فقد كانت النتائج في الحياة البدوية هي انتشار روح القتال والتحفز بالسيف والخنجر، وضرورة الأخذ بالثأر من المعتدي، ولا عجب أن سادت بين البدو سرعة الانفعال والشعور بالكبرياء، والشجاعة الجريئة في الحروب وأمام المخاطر بشتى صنوفها، وأما نتائج الحياة غير الآمنة في الريف المصري، فقد اختلفت؛ لأنه بينما البدوي متنقل أبدا لا يستقر في مكان، فإن الريفي ثابت على أرضه؛ ولذلك فقد آثر التقية واصطناع الحيلة للنجاة من الخطر، بدل الوثوب إلى ظهور الجياد والسيف في يده، كما آثر الصبر والهدوء المتمهل على سرعة الانفعال وحدة الغضب، وآثر الوداعة على العنف وسرعة الاعتداء، وإن الفرق بين البدوي الأصيل والريفي الأصيل، ليتمثل في نوع الرئيس الذي يختاره كل منهما، فبينما البدوي يفضل أن تئول الرئاسة إلى المهاجم الجريء، يفضل الريفي أن يلقي بزمام الرئاسة إلى من تتحقق فيه صفات الوالد العطوف.
وكانت الصفات التي يحترمها البدوي، هي نفسها الصفات التي يزدريها الريفي، فالأخذ بالثأر عند البدوي واجب محتوم، مع أن الريفي لا يستريح إليه ويفضل المصالحة، أو الاحتكام إلى حكم يقضي بين الخصمين، يحب البدوي حياة العنف، وأما الريفي فيستعذب الحياة الآمنة الوادعة، يستنكر البدوي أن يجيئه الموت وهو راقد في فراشه، بينما الأمل عند الريفي في أن يستوفي الأجل محوطا بأهله، ولئن كان البدوي والريفي معا يرحبان بنسل الذكور، فإنما يصدران في ذلك عن هدفين مختلفين: الأول يطلب الذكور للقتال، والثاني يطلبهم لفلاحة الأرض، وتعلقت حياة البدوي بناقته وجواده؛ لأنهما دابتا سفر وفروسية، وأما حياة الريفي فقد تعلقت بالجاموسة والبقرة؛ لأنهما دابتا زرع وضرع.
ونستطيع أن نمضي في أمثال هذه المقارنات، لكن حسبنا ما ذكرناه لنوضح به ما أردنا توضيحه، تعليقا على الفكرة الرئيسية التي استعرناها من ابن خلدون، عن الصراع الذي ما انفك قائما طوال عصور التاريخ، بين ما أسماه «بداوة» وما أسماه «حضارة»، والذي أردنا توضيحه هو أن هاتين المجموعتين من الصفات والقيم، قد اختلطت إحداهما بالأخرى في مجتمعنا المصري، حتى انتهينا بهذا الخليط إلى وضع فيه ما يصلح لحياتنا المتحضرة، وفيه كذلك ما لا يصلح لها، فمثلا: قد بقيت لنا من صفات البداوة فكرة الأخذ بالثأر (على الأقل في بعض أجزاء البلاد دون بعض)، مع أنها فكرة لا تتسق مع مجموعة الصفات الحضارية، وبقيت لنا كذلك بعض الآثار من احتقار البدوي للحرف اليدوية، مع أن البدوي عندما ازدرى الحرف اليدوية امتشق بدلها السيف ليشغل به يديه، على حين أننا حين تابعناه في هذا الازدراء، أبقينا أيدينا فارغة من أداة القتال، فراغها من أداة العمل، وكذلك بقيت لنا من صفات البداوة تلك «العنطزة»، التي لا يسندها رصيد من حياة النشاط المنتج، مع أن إحدى قيمنا الريفية الحضارية الأصيلة أن نزرع لنحصد.
إننا إذا أردنا تعميرا حضاريا - ونحن نزعم أننا نريد ذلك - تطلب الأمر دراسة تحليلية للقيم السائدة، لنجتث منها رواسب البداوة، حتى لا يبقى بين أيدينا إلا قيم الحضارة، التي هي جزء من أصولنا وجذورنا، على أنه إذا كان الشعور بقلة الأمان والأمن، هو العلة التي نتج عنها ما نتج - في البداوة وفي الحضارة معا - من صفات لا تتفق مع التقدم الحضاري الواثب السريع، فإن أول ما يجب علينا تحقيقه هو بث الشعور بالطمأنينة، وذلك وحده كفيل بإيجاد الخصائص التي يتطلبها التعمير الحضاري المطلوب.
لقد حدث لي ذات يوم أن طلب إلي صديق، كان في موقع المسئولية من حياتنا الثقافية، أن أعاونه في رسم خطة تصلح للهداية فيما ينبغي عمله ليتغير المجتمع، فقدمت له تخطيطا مؤداه أن نغير من بعض القيم على المدى الطويل، فنظر صديقي إلى ما اقترحته عليه، ثم سألني وابتسامة الإشفاق على شفتيه: كم عاما تكفي لتنفيذ هذه الخطة الثقافية؟ فأدركت أنه إنما أراد شيئا ذا مفعول سريع، تبدو فقاقيعه على صفحات الجرائد غدا، وأجبته وابتسامة الإشفاق أيضا على شفتي: ألف عام! وكنت بهذه الإجابة لا أخلو من السخرية، بمن يريدون تغيير المجتمع بين طرفة عين وانتباهتها؛ لأنهم في الحقيقة يريدون الزياط المسموع، ولا يأبهون بعد ذلك للنتائج تمتد في جذورها الراسخة، يريدون الزبد الذي يذهب جفاء، ولا يهتمون لما يمكث في الأرض مما ينفع الناس.
حرية الفلاح المصري
هي عبارة غريبة، وقفت عندها، وأردت أن يقف معي القارئ مشاركا في النظر، وأعني بها عبارة وردت في محاضرة عامة، ألقاها المفكر البريطاني المرموق «أزايا (= أشعيا) برلين»، في جامعة أكسفورد سنة 1958م، وكان عنوان المحاضرة «فكرتان عن الحرية»، ثم ضم هذه المحاضرة مع ثلاثة فصول أخرى، كلها تدور حول فكرة «الحرية» في كتاب صدر حديثا، جعل عنوانه: «أربع مقالات عن الحرية»، ولقد بلغ «أشعيا برلين» من الشهرة في الفكر الإنجليزي المعاصر، ما استحق به أن يمنح لقب «سير»، وكان الرجل أستاذا للعلوم الاجتماعية والسياسية في أكسفورد، ثم عميدا للكلية التي يعمل فيها، ولعله ليس من فضول القول أن أذكر عنه، بأنني كنت قد التقيت به في دلهي، عندما أقامت حكومة الهند مهرجانا أدبيا سنة 1961م، للاحتفال بالذكرى المئوية لميلاد شاعرها العظيم رابندرانات تاجور، دعيت له من مصر، كما دعي له أزايا برلين من بريطانيا، وكما دعي له كذلك آخرون من أقطار العالم، ولقد كنت على علم بشيء مما كتبه «برلين» قبل ذلك، خصوصا كتابه «القنفذ والثعلب»، الذي أراد به أن يميز بين ضربين من ثقافات البشر، فضرب منهما ينطوي على نفسه؛ فيكون كالقنفذ في طبيعته، والضرب الآخر متطلع يجول في فجاج الأرض، يلتمس المعرفة حيثما وجدها؛ فيكون أشبه بالثعلب في جولانه، نعم، كنت على علم بشيء مما كان قد كتبه «برلين» قبل ذلك، لكني وجدت الرجل محدثا أقل منه كاتبا، فشاهت صورته في خيالي إلى حد ما، عندما رأيت لسانه كيف تثقل به الحركة بين شدقيه، بما لا يتناسب قط مع قلمه، وكيف يسلس له الجريان على الورق.
أما العبارة التي وقفت عندها، في الفصل الذي عرض فيه «فكرتين عن الحرية»، فخلاصتهما ما يلي: إن معنى الحرية يختلف بين الناس اختلافا بعيدا، فليس معناها عند أستاذ في جامعة أكسفورد، كمعناها عند الفلاح المصري. إننا نكون بمثابة من يسخر من الفلاح المصري، إذا منحناه حقوقه السياسية، وأقمنا له الضمانات التي تضمن له، ألا تتدخل الدولة في شئونه الخاصة، لينعم بحريته الشخصية، نعم، إننا نكون بمثابة من يسخر من بؤسه، إذا منحناه تلك الحقوق والضمانات، بينما هو على حالته من عري، وأمية، ومرض، ونقص في الغذاء. إن ذلك الفلاح إنما يحتاج أولا إلى الرعاية الطبية، وإلى التعليم؛ لكي يتاح له أن يفهم الحرية، وأن يعرف كيف يكون استخدامها؛ إذ ما لم تتوافر الظروف، التي تمكن الإنسان من الانتفاع بحريته، فإن هذه الحرية تفقد كل قيمتها، والأمر هنا كالأمر الذي أشار إليه كاتب روسي في القرن التاسع عشر، حين قال ما معناه إن هناك حالات يكون فيها الحذاء عند الإنسان، أرفع قيمة من كل ما أنتجه شيكسبير، والفلاح المصري - هكذا يستطرد أشعيا برلين في حديثه - بحاجة إلى الثياب وإلى الدواء، قبل أن يكون بحاجة إلى حريته الشخصية، على أننا - برغم ذلك - لا ينبغي لنا أن نفهم من ذلك، أن الحد الأدنى من الحرية الشخصية، التي لا بد لذلك الفلاح أن ينعم بها، وما قد يضاف إلى ذلك الحد الأدنى فيما بعد من حريات، ليست «نوعا» آخر من الحرية، غير النوع الذي ينعم به الأستاذ في جامعة أكسفورد، أو ينعم به الفنان، أو صاحب الملايين؛ لأن الحرية صنف واحد، لا يتعدد بتعدد الشعوب.
كان أول سؤال ألقيه على نفسي همسا، بعد قراءة هذه الفقرة من كتاب «أشعيا برلين» هو هذا: ولماذا الفلاح المصري دون سائر خلق الله؟ ألم يجد الكاتب من كل من حوله من شعوب الأرض أحدا يقارن حريته - أو عدم حريته - بحرية أستاذ في جامعة أكسفورد؟ (ولعله يقصد في نفسه في هذه المقارنة)، على أن هذا السؤال الذي همست به لنفسي، لا يصلح وحده جوابا ولا تعليقا على ما أورده الكاتب في عبارته التي أسلفناها؟ فخلاصة الرأي الذي أرادنا الكاتب أن ننطبع به، هو أن فتح الطريق أمام الفلاح المصري، نحو مزيد من حريته الخاصة في حياته، هو ضرب من العبث الساخر، ما دام ذلك الفلاح على حالته، من عري ومرض وجوع وجهل.
فالسؤال الإيجابي الذي نوجهه إلى المفكر البريطاني هو: على فرض جدلي بأن طبائع الفلاح المصري على تلك الحضارة التي صورها الكاتب، فهل تدل طبائع الأمور وحقائق التاريخ المصري، على وجوب مراعاة الترتيب الزمني، بحيث يظل المستعبد مستعبدا، إلى أن تتحسن حياته، فيكتسي بعد عري، ويشبع بعد جوع، ويصح بعد مرض، ويعلم بعد جهالة؟ ومن ذا الذي - يا ترى - سيكفل له هذه الجوانب كلها نيابة عنه؟ هل قعدت إنجلترا عن المطالبة بالحرية السياسية من حكامها - عندما ظفرت «بالماجنا كارتا» في قلب العصور الوسطى، أقول هل قعدت إنجلترا عن تلك المطالبة، انتظارا ليوم يتحقق فيها للشعب، ما كان ينقصه يومئذ من مقومات الحياة؟ أو أن الأمر قد جرى على عكس ذلك تماما، وهو أن يطالب الشعب لنفسه بحريته من طغيان حاكميه؛ لكي يتسنى له في ظل الحرية أن يحقق لنفسه ما يريد؟
ثم أنتقل مع المفكر البريطاني إلى مسألة أخرى، أراها أخطر وأهم، وهي هذه: أصحيح أن الفلاح المصري تنقصه الحرية إلى الدرجة التي تخيلها ذلك الكاتب؟ إنه لخلط كثير الوقوع، وهو أن يخلط المفكرون عندما يصدرون أحكامهم على الشعوب، بين «من هو هذا الشعب الفلاني؟» من جهة، وبين «ماذا يملك من القوى الاقتصادية في لحظة عابرة من الزمن؟» من جهة أخرى؛ إذ سرعان ما تغري حالة فقر عابرة يمر بها شعب معين، بالظن بأن ذلك الفقر العابر دليل فقر حضاري كذلك، وما هكذا حقائق التاريخ في كثير جدا من الحالات.
فما هي «الحرية» التي يراها أشعيا برلين، قد انعدمت في الفلاح المصري، وتمتع بها الأستاذ في جامعة أكسفورد؟ لعله يعلم أكثر جدا مما أعلم في مجال الفكر السياسي (لأنه ميدان تخصصه هو، وليس ميدان تخصصي أنا)، بأن مؤرخي الأفكار السياسية في حياة الإنسان، قد أحصوا لمفهوم «الحرية» أكثر من مائتي معنى، وردت كلها عند الشعوب المختلفة في العصور المختلفة، وفي الظروف والمواقف المختلفة، فما هو المعنى من بين هذا العدد الضخم، الذي وجد المفكر البريطاني أن الفلاح المصري - في إطار ذلك المعنى - لا ينعم بشيء مما ينعم به الأستاذ في جامعة أكسفورد؟ نعم، إن للأستاذ في جامعة أكسفورد ضروبا كثيرة من الحرية، لا تطوف للفلاح المصري ببال، ولكن ألا يجوز أنها لا تطوف بباله؛ لأنه لا يريدها، في الوقت الذي اختار لنفسه فيه ضربا من الحرية آخر، لا يريده الأستاذ في جامعة أكسفورد، بل وربما لا يستطيعه حتى إذا أراده، وأعني به الحرية من قيود الرغبات العاجلة العابرة ، ابتغاء قيم أعلى؟ ولا تقل لي متسرعا ما يقوله كثيرون عن غير وعي: إن الحرية هي بين القيم الإنسانية أعلاها؛ لأنها لو كانت كذلك لما قبل الإنسان، أن يضحي بجزء منها عند نشأة المجتمع، في سبيل حصوله على قيم أخرى، كالمساواة والعدالة والأمن، والإبداع الفكري والفني إلخ.
لقد عرفت أستاذا للفلسفة في إحدى جامعات أمريكا، كنت أزامله في الجامعة نفسها وفي قسم الدراسات الفلسفية منها، وكان ذلك إبان فترة قضيتها هناك أستاذا زائرا، فكان الأستاذ الأمريكي يملك بيتا صغيرا في قلب غابة، تقع على بحيرة عند الحدود الفاصلة بين الولايات المتحدة وكندا، وكان له في تلك البحيرة زورق بخاري، فإذا ما جاءت عطلة آخر الأسبوع، أحيانا يذهب بسيارته مصحوبا بأسرته، ليقطع بها مئات الأميال، حتى يبلغ طرف البحيرة، فيجد زورقه البخاري هناك في انتظاره، فينتقل من سيارته إلى زورقه، فيشق به ماء البحيرة، وصولا إلى مكان منزله الصغير داخل الغابة، فيقضي ما بقي له من ساعات الراحة، ثم يعود هذا الطريق كله، ليستأنف عمله بالجامعة في أول أيام الأسبوع الجديد، وإنه ليعود ليشكو إلي قلة ماله، والأزمات التي تحيط به وصعوبة التغلب عليها، كنت أعجب من تصرفه وكان يعجب من تصرفي، فهو «حر» الحركة، لكنه بتلك الحركة الواسعة يوقع نفسه في مشكلات اقتصادية، قد يتعذر حلها عليه، وأما أنا فقد كنت بالنسبة إليه «مقيد» الحركة، لكني في الوقت نفسه، لم أكن أعاني ما كان يعانيه من أزمات، برغم قلة «المنحة» المالية التي كنت أتقاضاها، بالنسبة إلى راتبه الكبير، فها هنا ضرب من الحرية عند أستاذ جامعي، لم أكن راغبا فيه، كان في حركته ناشطا، ليس لديه فرصة للتفكير الطويل، في موضوعات اختصاصه الجامعي، وكنت في قيودي مقعدا، لكنني نعمت بفرصة التفكير، فيما أقرأ وما أكتب.
ولا أقول ذلك لأفاضل بين حياة وحياة، بل أقوله لأوضح فكرتي، بأن الحرية ضروبها كثيرة، قد ينعم بضرب منها إنسان، ويمسك عن ذلك الضرب نفسه إنسان آخر عامدا، ليحقق ما يظنه أفضل وأولى.
والفلاح المصري تتراكم في فؤاده طبقات حضارية، جاء بعضها فوق بعض على طول الزمان ، والبحث في ثقافته المخزونة المتراكمة، هو كالبحث الجيولوجي في طبقات الصخور، إن قلبه لا يزال ينبض برواسب حضارة الفراعنة، في فنها وإيمانها وفتوتها، وبرواسب أخرى من حضارة اليونان والرومان، ورواسب ثالثة من حضارة العصر المسيحي، وبطبقة عميقة فوق ذلك كله من حضارة الإسلام، ثم جاءت حضارة هذا العصر لتكون غلافا يحيط بهذا كله، دون أن يمحو منه شيئا.
فإذا انخدع مشاهد خارجي - حتى ولو كان «سير أزايا برلين» - بما قد يبدو على الفلاح المصري، من بعض الفقر والمرض والأمية، فقال لنفسه: إنه لا حرية لمثل هذا المسكين، فقد فاته الجوهر وخدعته القشور؛ لأن الفلاح المصري يحيا حياة فيها من ضروب الحرية أسماها، وأعني بها حرية القيد الأخلاقي، الذي يفرضه الإنسان على نفسه، حين يكون في وسعه أن يستهتر ويعربد.
إن أزايا برلين في كتابه هذا، يقرر لنا أن السؤال الرئيسي في النظرية السياسية، هو سؤال عن «الطاعة»: فلماذا أطيع سواي؟ ومن يكون هذا «السواي»؟ وإلى أي حد أطيعه؟ على أن هناك حدا فاصلا ضروريا في حياة الإنسان، يفصل بين رقعة هي حياته الخاصة، التي لا يطيع فيها أحدا إلا ضميره، ورقعة أخرى هي حياته المشتركة العامة التي تخضع للقوانين، وها هنا تكون الطاعة للقانون، ثم يكون سؤالنا عن هذا القانون: من الذي يضعه، ومن الذي يحميه؟ هو لب النظرية السياسية.
وأخذا بهذا التعريف نفسه، وتطبيقه على حياة الفلاح المصري، فإني ألحظ ما لا يلحظه سير أزايا برلين في فلاحنا المصري، وهو أن لهذا الفلاح حياة خاصة، قوامها أسرته وعقيدته، ولم يشهد التاريخ مرة واحدة، اعتدى فيها المعتدون على تلك الحياة الخاصة، دون أن يتصدى الفلاح المصري لأولئك المعتدين، وأما ما وراء ذلك من حياة عامة فيها حكومة وفيها قوانين، فهو يضعه في المرتبة الثالثة من اعتباره واهتمامه؛ لأن تاريخه الطويل قد علمه درسا نافعا، وهو أن حياة الحكومات والحكام والقوانين الوضعية، كلها أمور تجيء وتذهب، فلا تستحق كل الحرص الذي تجعله النظريات السياسية الحديثة أحق بكل اعتبار واهتمام.
ولو عاش الأستاذ في جامعة أكسفورد، ما عاشه الفلاح المصري، فقد يرى ما يراه من تفرقة بين ما يتبخر مع الأيام، وما يبقى بقاء الخلود.
وجدان هذا الشعب
كانت الكاتبة القصصية «أدنا أوبرايان» قد أمسكت عن الكتابة بضع سنوات، وخلدت إلى الراحة في مسكن هادئ، يحيط به الجمال في بساطته، أو البساطة في جمالها، فلما سئلت: لماذا لا تكتبين؟ قالت: إن حياة الناس لم تعد تمدني بما يستحق الكتابة؛ لأنهم - في حياتنا المكروبة اللاهثة - قد أغلقوا صدورهم على أنفسهم، ولم يعودوا يفصحون بشيء ذي دلالة! ولكن الكاتبة لم تكد تذيع حديثها هذا تبريرا لصمتها، حتى رأت شابا صديقا لولدها، وكان ذلك الشاب بهي الطلعة إلى درجة أوقفت نظرها! فسألت ابنها عن صديقه ذاك: ما طبيعته؟ فأجابها ابنها بقوله: هو يا أمي من ذلك الطراز من الناس، الذي يعطيك نصف طعامه، إذا لم يكن هناك إلا طعامه، وعنده أن صديقين يكونان معا بين الشبع والجوع، خير من أن يشبع أحدهما كل الشبع، ويجوع الآخر كل الجوع.
سمعت الأم الكاتبة هذا الوصف عن صديق ابنها، فعجبت في نفسها لهاتين الصفتين تجتمعان في إنسان، ولم تعهدهما تجتمعان في أحد، وهما أن يكون جميل الخلقة وكريم الخلق في آن معا! وكأن اجتماع هذين الضدين (من وجهة نظرها) في ذلك الشاب، أقرب إلى الكشف الجديد عن طبيعة الإنسان؛ فالخلقة الجميلة لا تتنافى مع الخلق الجميل. وخرجت الكاتبة من دارها، لتجلس وحدها على أريكة في متنزه عام، سارحة بتأملاتها في هذه التركيبة البشرية، التي لم يقع في ظنها أنها قد تتحقق في دنيا البشر، وإذا بقصة تنفجر في خيالها، كاملة من الفاتحة إلى الختام، ثم ما هي إلا أن عادت إلى دارها لتبدأ من فورها، في كتابة القصة، حتى فرغت منها في أيام قلائل، وجعلت لها عنوانا معناه: أيها الإنسان، إني لا أكاد أعرف عنك شيئا، وهي قصة ينتظر صدورها بعد حين قصير.
لكن الخلاصة الموجزة التي نشرتها الصحف الأدبية قبل صدور الكتاب، أثارت في نفسي تعجبا وتساؤلا ؛ إذ قالت لنا تلك الخلاصة إن مدار القصة، هو أن ذلك الفتى الجميل جسدا وروحا، قد أحب فتاة، وسار معها شوط الحب، حتى انتهى به الأمر أن غدرت به حبيبته، فاغتالته في غير رحمة! فيا عجبا! هل أرادت الكاتبة بذلك أن تقول إن ذلك الطراز النادر من البشر لا يعيش؟
وليس لي شأن هنا برأي الكاتبة الذي استمدته من خبراتها في وطنها، وإذا سمحت لنفسي أن أترجم جمال الجسد وجمال الروح، اللذين هما عند الكاتبة البريطانية ضدان لا يجتمعان، ثم أنظر بعد ذلك في خبرتي، التي أستمدها من وطني وشعبه لأسأل: هل دلت الشواهد على أن الفطرة الموروثة فينا والفضائل المكتسبة، ضدان لا يتلاقيان في أحد؟ فإذا سلمت الفطرة فسد الخلق المكتسب؟ لست أظن ذلك، وربما كان هذا الجمع بين الجميلين - جمال الفطرة وجمال الاكتساب - هو مما يميزنا، ولا ينفي عنا ذلك أن يشذ أفراد إما في جانبهم الفطري، وإما في أخلاقهم المكتسبة، وإما في الجانبين معا، وهو شذوذ إذا ما وقع، شد أبصارنا إليه، بحيث نلتقي كلنا في غضبة واحدة، تنفث غضبها في زمجرة واحدة، كتلك الغضبة القومية الشاملة التي غضبناها؛ لقتل المغفور له الدكتور محمد حسين الذهبي.
عرفت الرجل من مسافة قريبة، حين اجتمعنا ذات حين في جامعة واحدة، هي جامعة الكويت، يدرس الشريعة وأدرس الفلسفة، فما رأيت فيه إلا رجلا يمثل وجدان شعبنا خير تمثيل، ولكن ماذا أريد بعبارة «وجدان شعبنا»؛ تلك العبارة الغزيرة بمضمونها، العميقة بأبعادها؟
لقد تعودت أن أفهم المعاني العامة المجردة، مستعينا بتطبيقاتها التي تتجسد فيها، وماذا يكون «معنى» لا أراه وهو يمشي على قدمين؟ ماذا يكون «مبدأ» لا أجده ناطقا متحركا مشخصا في أفراد يحيونه ويتمثلونه؟ ومثل هذا القول هو الذي أغضب مني كثيرين - زملاء وغير زملاء - لأنهم كثيرون جدا بيننا؛ أولئك الذين يحبون للمبادئ وللمعاني وللأفكار، أن تظل في رءوسهم أطيافا أو أشباحا، لا يكتب لها أبدا أن تخرج من محبسها ذاك، لتكتسي لحما وعظما، ولتجري في عروقها دماء الحياة الحقيقية النشيطة ، التي تدب بأقدامها على الأرض سعيا نحو تحقق كامل.
ولا أقول إن إخراج الأفكار المجردة إلى عالم الأحياء والأشياء، بدل احتباسها أوهاما في الرأس أو ألفاظا على اللسان، لا أقول إن ذلك المطلب أمر هين، كلا ولا هو بالأمر الذي يصبر على صعوبة تحقيقه كل الناس، فأكثرهم - كما أسلفت - يؤثر لنفسه الراحة، فترى الواحد منهم ينزلق على أعوص الأفكار والمعاني انزلاقا، لا يعبأ بما قد يكون تحت السطح، الذي ينزلق عليه من أغوار، إنه ينزلق على أسطح الأفكار والمعاني، كما ينزلق اللاعب على سفح جبل مثلوج في فصل الشتاء، لا يعنيه إلا هذا السطح الذي ينزلق عليه، وبهذه السهولة في حياته الفكرية، لا يعارض في أن ينعم الآخرون بسهولة مثلها، فتكون النتيجة الأخيرة التي نتورط فيها، هي أن نجد أنفسنا في مناخ فكري، نردد فيه الألفاظ ونتبادل الكلمات والعبارات، لا نفهم معانيها ولا نتعمق أبعادها.
لقد استطرد الحديث بي هكذا، بعد أن سألت قائلا: وماذا تعني بعبارة «وجدان الشعب»؟ لأنني موقن بأن معظم القارئين على استعداد بأن يقبلوا هذه العبارة، وكأنها واضحة كل الوضوح، لا تستدعي شرحا ولا تحليلا، فاستطردت في الحديث؛ لأنبه إلى أن ما يظن به الوضوح والفهم، قد لا يكون كذلك.
وأولى الصعوبات التي تعترضنا، في محاولتنا توضيح «الوجدان الشعبي» ما هو؟ هي صعوبة التفرقة بين جانبين، لا بد منهما معا للإنسان في حياته - سواء كانت حياة فردية أو حياة اجتماعية - وهما جانب الاستمرار الذي يضمن للماضي، أن يرتبط بالحاضر والمستقبل في هوية واحدة، وجانب التغير الذي يتيح للإنسان أن يجدد في حياته بحسب ما تقتضيه الظروف المتطورة، فهذان جانبان يبدوان وكأنهما متناقضان.
وحقا أن هذا التناقض الظاهر، بين أن نطلب استمرار الشخصية القومية من جهة، وأن نطلب في الوقت نفسه بضرورة أن نتكيف للمواقف الجديدة، إنما يخلق إشكالا عندما نحاول أن نتخلص منه، مع المحافظة على كلا الطرفين المتناقضين، فالوالد المثقف الواعي، الذي يريد تربية ولده على خير صورة ممكنة، يعترضه هذا الإشكال نفسه، وهو: كيف يربي ولده بحيث يشب الولد على صيانة موروث أمته وطريقتها في الحياة، وبحيث يستطيع في الوقت نفسه ألا يتقيد بذلك الموروث، إذا ما دعت ضرورة التطور ألا يتقيد به؟
والكاتب المسئول يعترضه الإشكال بعينه، وهو: كيف يكتب بحيث لا يجعل من نفسه عاملا على تشويه ملامح الثقافة القومية، وبحيث يدعو - في الوقت نفسه - إلى أن تساير أمته عصرها بكل ظروفه؟ بل إن هذا الإشكال نفسه هو الذي يصدم المجتمع الحساس، ويصدم الدولة الحريصة على سلامة شعبها؛ فالتناقض الظاهر نراه قائما في كل الحالات، والخروج منه بصيغة مناسبة تصون الطرفين، وتتخلص منهما في آن واحد، هو عادة محور رئيسي، تدور حوله الحركة الثقافية في الشعوب الصاحية اليقظانة، وأقول ذلك لأنني أعلم بأنه كثيرا ما يصعب على الأفراد أو على الجماعات، أن تخرج لنفسها بصيغة توفيقية كهذه، فيحدث لها أحد أمرين: فإما يتغلب الجانب الموروث التقليدي فينفرد وحده بالميدان؛ وعندئذ يكون الجمود الذي يشل الحركة، وإما أن يتغلب جانب الجديد الدخيل، فينفرد وحده بالميدان كذلك؛ وعندئذ يكون التفكك والانحلال وضياع الشخصية القومية.
والركن الهام الذي تحقق به الصيغة التوفيقية التي أشرنا إليها، هو في التفرقة بين ما هو ثابت في خصائص الشعب، بحيث لا يجوز أن ينال منه الجديد، وبين ما هو متغير في تلك الخصائص! والجانب الثابت هو ما نريد له أن يكون «وجدان الشعب» كما نفهمه، فهنا نرى هذا الوجدان يثور إذا ما جاءت الصفات الجديدة، فهددت الكيان الثابت بالزوال أو بالضعف، ولكنه يغمض العين عن كل صفة جديدة، تجيء في هامش المتغيرات، وهو هامش عريض، وبهذا الفهم لمعنى «الوجدان الشعبي»، لا نرى مبررا لقسمة الناس إلى أنصار للقديم وأنصار للجديد، أو قسمتهم إلى رجعيين وتقدميين؛ لأن كل إنسان في هذه الحالة التي نتصورها، «يجب» أن يكون من أنصار القديم، فيما هو ثابت من مقومات الشخصية الوطنية، وأن يكون في الوقت نفسه من أنصار الجديد، فيما هو متغير من تلك المقومات، فإذا قلنا - مثلا - إن من المقومات الثابتة: اللغة والعقيدة الدينية وشبكة العلاقات الرئيسية بين الأفراد في حياتهم، خصوصا داخل الأسرة، وتصور البطولة؛ كان لا بد لكل فرد منا أن يكون من أنصار القديم في هذه الأمور الثوابت؛ فيحرص على كيان اللغة الأساسي، وعلى أركان العقيدة، وعلى العلاقات الجوهرية بين أفراد الشعب، وعلى النماذج العليا التي يقاس إليها سلوك الإنسان، للتمييز بين ما هو سلوك جيد وما هو سلوك رديء.
إننا شعب عاش «حضارات» متتالية، وليس تاريخه الماضي مجرد مئات من السنين أو ألوف منها تتابعت، بل هي «حضارات» تعاقبت! وهذه نقطة يصعب إدراكها للوهلة الأولى، فترانا نكتفي بقولنا: إننا أصحاب تاريخ طوله ستة آلاف أو سبعة آلاف من السنين، ونكاد ننسى أن هذه الآلاف لم تكن كلها - حضارة - واحدة، بل هي «حضارات» أعقب بعضها بعضا، وأهمية هذه النقطة هي أننا ما لم نكن قد فرقنا في أنفسنا بين ما هو ثابت وما هو قابل للتغير، لما ظللنا مصريين على طول هذا التاريخ المديد، بفضل الثوابت المستقرة، ولما استطعنا في الوقت نفسه أن نستبدل حضارة بحضارة، بفضل قبولنا لتغيير ما يجوز عليه أن يتغير.
لقد قيل عن وجدان الشعب المصري إنه معتدل المزاج، فلم يتطرف في حياته الثقافية قط! وما هذا المزاج المعتدل، إلا ما قد أشرت إليه من تفرقة واضحة عندنا، بين ما يجب ثباته وما يجوز تبديله، وبهذا المقياس نستطيع أن نميز فينا بين السوي والمنحرف؛ إذ الانحراف بمقياسنا يكون في الانحصار داخل الجانب الثالث، وقفل الأبواب دون المتغير، أو يكون في الانحصار في هامش المتغيرات، ونبذ الثوابت في كياننا التاريخي.
فلما قلت عن المغفور له الشهيد الدكتور محمد حسين الذهبي، إنني عرفته عن قرب، فوجدته يجسد وجدان هذا الشعب، فإنما عنيت بذلك القول أنه ممن أدركوا أين حدود الثوابت، وأين يجوز التجديد؛ فكان يجسد بشخصه تلك الصيغة، التي قلنا إنها هي التي تضمن لنا استمرارية الشخصية المصرية، مع ارتقائها في الوقت نفسه على سلم التطور الحضاري، كلما استبدلت الإنسانية حضارة بحضارة.
لقاء في الغربة
لست أنسى بلدا نائيا حللت فيه يوما منذ سنين، وكان آخر ما أتصوره هو أن ألتقي في ذلك المكان القصي، بمن تربطني به الصلات من قريب أو بعيد، لكني ما كدت أستقر في غرفتي من الفندق ساعة، حتى جاءني شابان عربيان، كانا قد سمعا بمقدمي، أحدهما من فلسطين والثاني من لبنان، وكان لأحدهما سيارة، فعرضا أن يدورا بي في السيارة دورة، يطلعانني فيها على معالم الإقليم، ويجدان خلالها فرصة لتبادل الحديث، وكانا فيما يبدوان كأنهما ممتلئان بالأسئلة عن الوطن العربي، ويريدان عنها الجواب؛ فالصحف في ذلك المكان النائي إقليمية، لا تكاد تذكر للقراء شيئا ذا بال، عما يدور خارج حدود الإقليم من تجارة، وأحداث يومية تجري بها حياة الناس.
أحسسنا نحن الثلاثة أننا أفراد أسرة تلاقوا بعد اغتراب، فكان هذا الإحساس نفسه، الذي ملأنا جميعا بنشوة فرحانة، هو ما بدأنا به الحديث، الذي مضينا في أطرافه ساعة أو يزيد، فما الذي كان بيننا لينجذب الواحد منا إلى الآخر، هذا الانجذاب الفطري العجيب؟ كان هذا أول سؤال طرحناه، ووقفت بنا السيارة عند فجوة بين أشجار غابة كثيفة، اكتست بها الجبال هناك من سفوحها الدنيا إلى قممها العالية، وأخرج لنا الشاب الفلسطيني قطعا صغيرة من الحلوى، بعد أن حرص على أن يجمع منا أغلفتها الورقية؛ ليضعها تحت صخرة جاثمة على الأرض، حتى لا نشوه ذلك الفردوس بوريقة لم يكن ذاك مكانها.
وأعدنا على أنفسنا طرح السؤال: ماذا بين العربي والعربي، مما قد تخفى بعض جوانبه، ونحن هناك على أرض الوطن، حتى إذا ما التقينا في الغربة، أحسسناه نبضا في القلوب؟ وما أسرع أن يجاب عن هذا السؤال بقولنا: إنها اللغة الواحدة بيننا، والعقيدة الواحدة، والألم الواحد، والأمل الواحد؛ وكلها عوامل، يكفي الواحد منها أن يكون رباطا، لكنها اجتمعت.
ألقينا السؤال، ثم انصرفنا عنه لنعود إليه بعد حين، وهكذا أخذ السؤال يظهر بيننا ويختفي، لم نأبه له كثيرا؛ لأننا لم نرد أن يكون اجتماعنا هذا حلقة بحث، بمقدار ما أردنا للعروبة الكامنة في دمائنا، أن تعلن عن نفسها في ذلك المكان النائي، عند مرتقى الجبل ومدخل الغابة، حيث لم يكن الهواء في جوف الصمت الشامل، إلا موج كلماتنا العربية نرسلها بعض إلى بعض، منغوما بأحرف العين والغين والصاد والضاد.
إنها هي اللغة العربية بسحرها الساحر وقوتها القاهرة، فقد تشترك بعض شعوب الأرض في اللغة الإسبانية، أو في اللغة البرتغالية، أو في اللغة الإنجليزية، فلا تحس نفسي بضرورة القربى بينهم، وكأنما الكلمات التي يتبادلونها خيوط من الصوت، تذهب بينهم وتجيء، دون أن تحمل معها أنفاس الحياة. ولطالما استمعت إلى أفراد يتفاهمون بالإنجليزية، حتى إذا ما انقضى الأمر المعلق بينهم، ارتد كل منهم إلى أصل غير الأصول التي يرتد إليها الآخرون. وأما اللغة العربية بين أبنائها، فوقعها عندي شيء غير ذلك؛ بين هؤلاء الأبناء كائنات حية مجنحة، وكأنها الطير يترك عشا آمنا؛ ليلوذ عند السامع بعش آمن، بل أعجب من هذا أنني إذا سمعت مستعربا يتحدث إلينا بالعربية التي تعلمها، أحسست بأنه في طريقه إلى أن يكون واحدا من ذوي القربى.
إنها هي اللغة العربية بعمقها العميق، فمجموعات الألفاظ فيها تتعانق، ويتعلق بعضها ببعض، كأنها شجرة الأنساب في عشيرة واحدة، فما تزال اللفظة فيها تؤدي بك إلى سواها، وهذا السوى يؤدي بدوره إلى سواه، حتى تقع على الأصل اللغوي الأصيل، الذي كان بمثابة العين التي تفجر ماؤها، فأخرجت من معدنها الواحد تلك الأسرة اللفظية كلها، حتى لقد قيل عن تشابك المعاني الكثيرة، المنبثقة من جذر لغوي واحد، إنه ذو علاقة بتشابك الأنساب بين القبائل العربية ... ما علينا من ذلك الآن، فالذي أريد قوله، هو أن اللغة العربية بين أبنائها تحمل في عروقها وشائج القربى، إنها ليست كرموز الرياضة، تبنى منها المعادلات، دون أن يكون لها مضمون حيوي ذو وقع في المشاعر، بل هي أقرب إلى القماقم التي تروي لنا عنها الأساطير، بأنها تحبس بين جدرانها مردة تواقة إلى الانطلاق، إذا ما كشف عنها الغطاء. إن «العبارة » في اللغة العربية «عبور»، تنتقل به روح إلى روح، إنها بحكم قواعد إعرابها قابلة للتقديم والتأخير، دون أن يصاب المعنى بسوء، فلا عليك أن تضع الفاعل في أول التركيب، أو في وسطه أو في آخره؛ لأن علامة الرفع فيه ستدل عليه أينما كان، فتكون اللفظة في تركيبها اللغوي، كالمواطن يحمل معه جواز سفره، الدال على وطنه الذي ينتمي إليه، وما كذلك أكثر اللغات.
لم يذكر أحد منا - نحن الثلاثة الذين التقينا هناك في أقصى الغرب؛ ذلك الركن المعزول في غير هجران - لم يذكر أحد منا شيئا عن اللغة العربية، والحيوية التي تسري في عظامها ومفاصلها، لكننا جميعا أحسسنا بأن تلك اللغة بيننا، لم تكن خيوطا صوتية، تروح بيننا وتجيء، وكأنها خيوط القطن في أنوال الغزل، بل أحسسنا وكأنها الأفئدة تنتقل وتتجاذب في ألفاظ ونبرات.
ويعود السؤال بيننا فيظهر من جديد: ماذا بين العربي والعربي، مما يظهر على أقواه وهما في الغربة؟ هنالك كثيرون من غير أبناء الأمة العربية (وأحيانا من أبنائها أنفسهم)، يعتقدون بأن الوحدة القومية بين الشعوب العربية وهم مزعوم، وأن تلك الشعوب لا يربطها إلا الرقعة الجغرافية المتصلة، ولم يكن غريبا أن نرى سياسة الاستعمار الأوروبي، تشطر ذلك الاتصال الجغرافي شطرين بفاصل اسمه إسرائيل؛ لتزيل من الأذهان حتى ذلك الوهم القائم على التجاور الجغرافي، لكن هؤلاء جميعا لم يعرفوا بأي المشاعر تهتز نفس العربي، إذا ما التقى بأخيه العربي في غربة، وأخذا يتحدثان باللغة العربية!
قال أحد الزميلين في محاولة الجواب: ألا يكون الرباط الذي يجذب العربي إلى العربي، إذا هما التقيا في أرض الغربة، رباطا سلبيا أكثر منه إيجابيا؟
سأله زميله: وماذا تعني؟
فقال: أعني أن شيئا من التعاطف بين العربي والعربي، ينشأ من شعورهما معا بما يعتور الأمة العربية في حاضرها، من أسباب العجز والتخلف؛ فالمشاركة في الضعف تدعو إلى التراحم. إن في موروث الأمة العربية ما لا يسعفها عند الجري في ميادين الحياة العصرية، بل إن من موروثها ما يحدث لها العثرة والسقوط، فبينما الازدهار في مجالات الاقتصاد هو هدف عصرنا، وبه تقاس الأمم تقدما وتأخرا، نرى الأمة العربية ما زالت تعلي من المظهرية الاجتماعية، فلأن يظهر العربي أمام الناس بأنه من أصل كريم، أهم عنده من أن ينمو في علم أو في صناعة؛ ولذلك فقد كثر حديث العربي عن «المجد» القديم، وكأنما لا يؤرقهم ألا يكونوا ذوي مجد حديث، ولقد ترتب على هذه الصفة الأساسية فينا، صفات أخرى، منها أن أبناء هذا العصر يزهون بما «ينتجون»، على حين أن كثيرين منا ما زال موضع زهوهم هو أنهم «يستهلكون»، ولكم شهدنا من العرب هنا (خارج الوطن العربي) من يبعثر ماله بغير حساب؛ ليقال عنه إنه ذو ثراء، فليس مصدر فخره أن يكون قد أنتج، بل مصدر فخره أنه أضاع.
هكذا قال أحد الزميلين؛ ليعلل حنين العربي للعربي في الغربة، بكونهما معا في الهم شريكين، وهنا اعترض الزميل الآخر على أن يكون الرباط بيننا، هو أمثال هذه الصفات السلبية، مقترحا علينا أن نبحث عن جوانب الالتقاء في خصائص إيجابية، يتميز بها العربي أينما كان، ومن أي جزء من الوطن العربي جاء، وتساءل بدوره قائلا: ما الذي يجعل الشاعر العربي والكاتب العربي والفنان العربي، في أي بقعة ظهر، شاعرا للجميع وكاتبا للجميع وفنانا للجميع؟
إن أحمد شوقي، وطه حسين، وأم كلثوم، لم يكونوا لمصر بأكثر مما كانوا للعرب جميعا، وإذن فحين يكون الأمر أمر فكر وشعور، تكون الأرض مشاعا مشتركا بين العرب أجمعين، وفي هذا وحده ما يشير إلى الأسس العميقة، التي أقيمت عليها القومية العربية الواحدة.
فقلت للزميلين بعد صمت، استمعت للحوار بينهما: قلت، إنه لمما يلفت النظر، حتى وشيء من الخلاف قائم بين بعض الدول العربية، أن تكمن وراء هذا الخلاف نفسه «وحدة»، تشع كما يشع ضوء الشمس من وراء السحب، إن في العالم مجموعات أخرى من الدول غير مجموعة الدول العربية، وبينها ما بيننا من روابط اللغة والعقيدة، وقد يكون بينهما مثل ما بيننا من محاولات للمشاركة في خطط السياسة والاقتصاد والثقافة، لكن ثمة اختلافا بين مجموعة الدول العربية ومجموعاتهم؛ ففي مجموعاتهم ترى الصداقة أو الخصومة ، لا تجعل مصير كل دولة منها متوقفا على مصائر الأخريات، كأن اتحادها أو عدم اتحادها يأتي كغطاء الرأس، تضعه أو تخلعه دون أن تتأثر لذلك هوية الشخص ذاته، وأما بين الدول العربية فالأمر مختلف؛ لأن الدولة منها لا تستطيع أن تتخذ لنفسها موقفا، إلا إذا كان بصرها وسمعها على بقية الدول، لشعورها القوي بأنها لا تستطيع أن تشذ دونها، وأن تظل على شذوذها فترة طويلة.
وختمنا وقفتنا القصيرة وحوارنا، بأن قلنا معا إن ما بين ثلاثتنا من رباط، إنما هو امتداد لما كان منذ كانت في الدنيا عروبة، وسوف يظل قائما ما بقيت في الدنيا عروبة، وعروبتنا طبع وثقافة معا، أو قل إنها طبيعة وتاريخ.
طبيعتنا وما ينبع منها
عبارة نديرها على الألسنة الآن بكثرة ملحوظة، هي قولنا عن فكرة معينة أو اتجاه أو مذهب «إنه نابع من طبيعتنا»؛ ولذلك فهو مقبول، أو ليس نابعا؛ ولذلك فهو مرفوض.
وكان ينبغي أن يلح على رجال الفكر والأدب سؤال عن «طبيعتنا» هذه؛ ما عناصرها وأركانها؟ فما دامت هي المرجع الذي نرتد إليه - بحق - لنشنق منه ما يجوز لنا الأخذ به وما لا يجوز؛ فلا مناص لنا من تحديده، حتى لا يترك نهبا مباحا لكل متكلم، يستمد منه من شاء أي معنى شاء، ولا رقيب ولا حسيب، كأنه «جوف الفرا»، الذي قال عنه الشاعر القديم إن كل أنواع الصيد فيه، ولكم كنت أتمنى ألا نترك هذا الأساس الفكري الهام لمجرد «الرأي» نبديه، بل كان الأولى أن تتناوله مراكز البحث الاجتماعي، وأقسام علم الاجتماع وعلم النفس في جامعاتنا، ليقيموا لنا النتائج العلمية الصحيحة عن «طبيعتنا» تلك، التي ينبع منها هذا، ولا ينبع منها ذاك، أقول كان الأولى أن تقيم لنا مراكز البحث وأقسام الجامعات، النتائج العلمية الموثوق بها، على أسس علمية، وبمناهج البحث العلمي، ولسنا في ذلك أول من يحاول هذه المحاولة العلمية في تحديد الطابع القومي، فهذه هي اليابان - مثلا - نقرأ عن معهد البحوث الاجتماعية، فيها أنه قد اضطلع بمثل هذا المشروع؛ ليحدد الخصائص القومية التي تميز الشعب الياباني، فأي هذه الخصائص ثابت وأيها يتغير؟
بدأ المعهد الياباني بحوثه تلك منذ أكثر من عشرين عاما، وأخذ يراجع النتائج مرة كل خمس سنوات، ليرى ماذا تكون الاتجاهات التي يثبت عليها الناس طوال السنين، والاتجاهات الأخرى التي يغيرونها حينا بعد حين؛ ليوائموا بين أنفسهم وبين ما يحيط بهم من مستحدثات الحياة.
وإلى أن يقطع علماء الاجتماع والنفس عندنا بقول، فلا حيلة لنا إلا «الرأي» نبديه عفو الخاطر.
وقد يكون من الخير أن نلجأ إلى البداهة، وما تراه باديا ومميزا في طبيعة شعبنا - على سبيل الأمثلة الدالة، إن لم يكن على سبيل الحصر - فمن ذا الذي يحتكم إلى بديهته، فلا يحس الشعور الديني العميق، الذي يملأ النفوس ويعمر القلوب، وذلك الشعور الديني في عمومه، الذي يجعل الإنسان يجاوز الشهادة إلى الغيب، ويجاوز اللحظة العابرة الحاضرة إلى حياة الخلود، ويجاوز حدود الأشياء إلى ما يمكن أن ترمز إليه تلك الأشياء، أقول إن هذا الشعور الديني العام مميز ثابت لنا، مهما يطرأ على تياره الدائم من متغيرات الشعائر في مراحل التاريخ ومتعاقب الديانات، ذلك - إذن - أحد الأصول الثابتة في نظرتنا إلى الكون وإلى الحياة، وأما ما «ينبع» من تلك الطبيعة فينا فأمور كثيرة، من أهمها في حياتنا العصرية الحاضرة، التسوية بين الناس على اختلاف أعمالهم؛ لأنه إذا خيل إلينا أن الأفراد يتفاوتون في اللحظة العابرة، فهم بالنسبة إلى الأبدية سواء، على غرار ما نقوله، إذ نقول إن جميع الأشياء على وجه الأرض، يتساوى بعدها عن الشمس.
ولهذه اليقظة نفسها وجه آخر «ينبع» مباشرة من نظرتنا الدينية العميقة، وهو أن القيمة العليا التي يقاس بها الناس ارتفاعا وانخفاضا، ليست هي النجاح المادي في الحياة العملية، فهذا النجاح الذي يقاس بالمال وبالمنصب، إنما ابتكرته شعوب أخرى، حديثة العهد في تاريخها، لكننا - حتى وإن تظاهرنا بقبوله - فهو لا يضرب بجذوره في أعماقنا. إن الواحد منا يعمل العمل، ثم يأخذ أجره المالي، وهو في حالة من الخجل، لا يستطيع إخفاءها، وكثيرا ما تسمع المتحدث منا يقول في سياق حديثه: «إن ما يهمني ليس هو المال، وإنما المهم هو كذا وكذا»، والخلاصة هي أن الإنسان في نظرتنا إنسان، بإنسانيته الطيبة الورعة المستقيمة، أكثر منه إنسانا بما يملكه أو لا يملكه.
إننا إذ ندعو مخلصين إلى العقلانية الصارمة في شئون حياتنا، فلسنا نريد بهذه الدعوة، أن نتناقض مع ذلك الجذر الديني العميق في نفوسنا؛ لأنه بينما تريد للعقل أن يتولى الشئون العابرة الظاهرة من حياة الإنسان، نترك للنظرة الدينية الثابتة الراسخة في نفوسنا، تحديد القيم لما يخلد ويدوم، والخلط بين هذين المجالين هو الذي يؤدي إلى سوء التفاهم.
وأصل ثابت آخر من الأصول التي تكون «طبيعتنا» مكانة الأسرة في نفوسنا، وما يتبع هذه المكانة من عرف في التعامل بين الكبير والصغير، وهنالك في هذا المجال بعض الظواهر التي يسيء فهمها من لا يعرف أصولها؛ فقد ينظر الأجنبي إلى الابن يبدي لأبيه أو أمه طاعة خاشعة، فيقول إنها بذور لروح الاستبداد وفي نظام الحكم، لكن ما هو استعباد واستبداد في ظاهره، إنما هي في باطنه حب وتوقير.
وبالجمع بين الأصلين المذكورين: الأصل الديني والأصل الأسري، «تنبع» لنا فروع فيما يميزنا من خصائص، فإذا كانت روابط الطاعة في البناء الأسري تحدد من الذي يأمر ومن الذي يطيع، فإن إيثارنا لما هو خالد على ما هو زائل، بحكم شعورنا الديني، يحتم علينا أن نجعل طاعة الابن لأبيه في الأسرة، أو طاعة الزوجة لزوجها، محدودة بما لا يتصل بالمسئولية الدينية أمام الله، ومن هنا يحدث التوازن - مرة أخرى - بين شئون الحياة المتغيرة العابرة، ودنيا القيم الثابتة التي لا تتبدل ولا تزول.
إن تقديسنا للأسرة يميل بنا نحو إخراج أمورها، من مجال العمل الذي نكسب منه الرزق، فلا أمور العمل تفسد حياة الأسرة، ولا حياة الأسرة ينبغي لها أن تفسد مجال العمل، وعلى سبيل المقارنة نقول إن أول سؤال ألقاه الباحثون في المعهد العلمي في اليابان - المعهد الذي أشرنا إليه فيما سبق - وهو سؤال حددوا به إحدى الخصائص الثابتة في طابعهم القومي، هو: ما هي الصفات الرئيسية، التي تريد لها أن تكون في رئيسك، الذي يشرف عليك في مجال العمل؟ وكان الجواب المشترك هو: نريد رئيسا يقسو علينا في العمل، لكنه يخالطنا في حياتنا الخاصة مخالطة الإخوة، ومن هذه الإجابة المشتركة اشتقوا ما يميز الياباني في نوع الحكومة التي يريدها. وأغلب ظني أننا لو وجهنا هذا السؤال إلى مصريين، لما كان هذا هو جوابهم، فهم لا يريدون رئيسا يقسو في العمل، ولا هم يريدون رئيسا يخالطهم في حياتهم الخاصة، فإذا كان الياباني بطبيعته يمزج بين الحكومة والأسرة، فالمصري بطبيعته يفصل بينهما؛ لأن كلا منهما يتبع مجالا مختلفا، مجال الحكومة موكول للمتغيرات، ومجال الأسرة جزء من الثوابت.
وأصل ثالث ثابت في «طبيعتنا»، هو المحافظة الشديدة على العرف الاجتماعي، فليس من السهل على المصري أن يخرج على هذا العرف، حتى وإن تمنى له أن يزول حين لا يجد في قيامه حكمة ظاهرة، بل إن المصري منا قد يكتب ويكتب، داعيا إلى تغيير عرف من الأعراف الاجتماعية، ولكنه لا يجرؤ هو نفسه على تغييره، فإذا كان هذا في ظاهره جمودا، فهو على الأقل يضمن للجماعة، ألا تتسرع في تغيير أرعن، لا يتفق مع نضجها الثقافي والحضاري.
تلك طائفة من الأصول الثابتة، التي يتكون منها ما نعنيه، عند الإشارة إلى «طبيعتنا»، وأما ما هو «نابع» من تلك الطبيعة، فهو كل شيء يحافظ لنا على الشعور الديني، وعلى كيان الأسرة وعلى العرف الذي تواضع الناس بصفة عامة، على أن يتعاملوا على أساسه.
وبديهي أن الثوابت الممتدة على آماد طويلة من التاريخ، يصاحبها خصائص أخرى متغيرات، لا يبالي المجتمع أن يراها تتبدل مع تبدل الظروف، بل ربما رأيناه يطالب بتبديلها، كلما اقتضت لها ضرورة الحياة أن تتغير، مثال ذلك: إن كيان الأسرة الذي نحرص على بنيانه، وعلى ما ينطوي عليه من علاقات التراحم والتعاون بين أفراد الأسرة، من الوالدين إلى البنين، ومن الإخوة إلى أبناء العم والخال، أقول إن هذا الكيان الأسري قد يلحق به «الوساطة»، بين أفراد الأسرة الواحدة، بحيث يضحي الفرد منهم بصالح الآخرين، في سبيل خدمة يؤديها إلى أقربائه، لكن هذا التفريع عرضي، قد لا يلزم حتما عن الأصل؛ ولذلك كان من الممكن أن يدخل هذا الفرع في دائرة ما يتغير، حين تتطلب ظروف المجتمع أن يتغير.
وكذلك حقوق المرأة وواجباتها، هي مما يلحق بالكيان الأسري، ولكنه أيضا مما يمكن أن يطرأ عليه التغير، دون أن نمس الكيان الأساسي بسوء، فقد تعمل المرأة داخل البيت أو خارج البيت، وتظل الوشائج القوية رابطة بينها وبين أفراد أسرتها. وبمناسبة المرأة وحقوقها، نقول إن في البحث الاجتماعي الذي قام به معهد البحوث في اليابان، ورد سؤال موجه إلى الرجال والنساء معا، هو: لو كانت حياتك لتبدأ مرة أخرى، وكان لك حق الاختيار، فهل تحتفظ بجنسك الحالي أو تغيره بالجنس الآخر؟ فكان جواب الرجال جميعا أنهم يختارون الذكورة، وأما النساء فكان نصفهن فقط هو الذي قال إنه يختار الأنوثة، والنصف الآخر يتمنى لو خلقن رجالا، مما يدل على أن الرجل، ما يزال يتمتع بحقوق اجتماعية أكثر من المرأة، ويريد الاحتفاظ بما يتمتع به، وأن نصف النساء يرون تغيير الجنس؛ طمعا في الامتياز الاجتماعي الذي يظفر به الرجال.
إلا أن الحديث في العناصر التي تتألف منها «طبيعتنا»، وفي ما هو نابع منها، حديث طويل متشابك الأطراف، لكن الموضوع حيوي، يعتمد على وضوحه وضوح ما نجيزه، وما نمنعه من مقومات حياتنا الجديدة، ما دمنا قد صرحنا في مواثيقنا الوطنية بأن «طبيعتنا»، هي ينبوع التطور الذي نرتضيه، والواجب محتوم على المراكز العلمية، أن تقطع فيه بالقول الذي لا يتركنا لاجتهاد الآراء.
المصريون وسر خلودهم
الوقت صيف، والمكان شاطئ الإسكندرية الجميل، والصحبة جماعة ربطتها روابط الود والوفاء، وموضوع الحديث هو مصر: مصر السماء، ومصر الأرض، ومصر البحر، ومصر الزرع، ومصر الصحراء، ومصر العمارة والحضارة، ومصر المصريين.
نقرأ تاريخ الأقدمين الأولين، فنقرأ عن الأكاديين والآراميين والحيثيين، والآشوريين والبابليين والفينيقيين والمصريين؛ ذهبوا جميعا، وبقي المصريون كما كانوا مصريين من أول الدهر، فيما سجل التاريخ وقبل أن يسجل.
بقي المصريون كما كانوا من أول الدهر مصريين، يربطون الرباط الوثيق بين الأرض والسماء، بين الحياة وما بعد الحياة، ورفعوا لذلك رمزا ناطقا في مسلاتهم وأبراجهم ومآذنهم؛ مسلات الهياكل وأبراج الكنائس ومآذن المساجد، ارتفعت كلها لتشير إلى السماء، وكأنها أصابع السبابة من الأيدي، انبسطت لتشهد أن لا إله إلا رب العالمين، وهل كانت مصادفة شاردة من مصادفات التاريخ، أن قويت المسيحية في كنف الإسكندرية، قبل أن تعبر البحر إلى أوروبا، وأن اجتمع تراث الإسلام في حمى القاهرة، بين جدران الأزهر الشريف؟ إنها مصر، بلد العقيدة الدينية نشأة ورعاية.
لقد قيل إن حضارة الإنسان قائمة على ركائز ثلاث (والقائل هو وايتهد): صناعة مصر، وديانة فلسطين والجزيرة العربية، وفلسفة اليونان وعلومها، ولكني أقول إن ذلك وإن يكن صحيحا، إلا أنه صحيح على سبيل التغليب، فالأغلب على مصر أن تكون منشأ الصناعة، والأغلب على فلسطين والجزيرة العربية أن تكون منشأ الديانة - ديانة التوحيد - والأغلب على اليونان أن تكون منشأ الفلسفة والعلوم، ومع ذلك فإن هذه الركائز الحضارية الثلاث، لم تجتمع كلها بنسبة واضحة إلا في مصر، فأنت صادق إن قلت عنها إنها مهد الصناعة، وأنت صادق إن قلت عنها إنها البادئة بعقيدة التوحيد، وأنت كذلك صادق إن قلت عنها إنها منشئة الفلسفة والعلوم، لقد قال رينان عن اليونان إنهم معجزة البشرية، وكان ينبغي أن يقول هذا القول عن المصريين الذين علموا اليونان.
كانت هذه هي نعمة الحديث بيننا، إذ التقينا صحبة على شاطئ الإسكندرية في الصيف، كان من الطبيعي أن يسأل منا سائل: إذا كان المصريون قد ظلوا مصريين، كما كانوا منذ أول الدهر، فما سر هذا البقاء الصامد على طول الزمان؟ وأخذ الاجتهاد في التعليل بيننا، يدور كالكرة نتناقلها واحدا بعد واحد، لقد كان ما اجتهدت أنا به في حلبة الحوار، فكرة بسيطة لكنها مفسرة:
قلت إن روح التدين التي تغلغلت، في أعماق هذه الأمة منذ أقدم القدم، قد نتج منها نتيجة أعانتها على الخلود، وهي جمع الإنسان الواحد بين أن يكون فردا، وأن يكون في الوقت نفسه مواطنا؛ وذلك لأن هاتين الصفتين قد تجتمعان معا في شخص واحد وقد لا تجتمعان؛ لأن الإنسان الواحد قد يغوص إلى أذنيه في فرديته، وكأنه في هذه الدنيا وحيد، لا يجاوره أحد سواه، وكذلك قد تجد الإنسان الواحد، الذي يغوص إلى أذنيه في خدمة الآخرين، حتى لينسى أنه بدوره فرد يجب أن يعيش.
وبعبارة أخرى، قد تكون أقرب إلى أفهامنا اليوم لاستخدامها ألفاظا شائعة، نقول إنك تجد من الناس من يجعل الأولوية للأفراد من حيث هم أفراد، كما قد تجد فيهم من يجعل تلك الأولوية للمجتمع، وأما الأفراد فيظهرون ويختفون، كما تظهر أوراق الشجر في الربيع وتختفي في الشتاء، وكأنما كل من هذين الفريقين يحسب أن لا لقاء بين الرأيين، مع أن الرأيين يلتقيان معا عند حامل العقيدة الدينية؛ لأنه بحكم عقيدته الدينية - على الأغلب - مسئول عما يفعل مسئولية فردية، وبحكم هذه العقيدة نفسها أيضا، هو مطالب بألا يعيش بمعزل عن الناس، بدليل قيام الشعائر التي تحتم أن يجتمع العابدون في مكان واحد وهم جماعة، ومن روح التدين العميقة العريقة عند المصري، تعلم أن يجمع الجانبين في صدره بغير عناء: فهو يشعر بأنه فرد مسئول، وهو في الوقت نفسه يشعر أنه ملتزم بأمته، وحتى إن مرت على المصري فترات من التحول، تنحل فيها الرابطة بين هذين الطرفين، فإنه عندئذ يشعر بالقلق، كأنما خرج عن فطرته، وعندئذ كذلك تسمع الناس يشكو بعضهم إلى بعض سوء الحال، داعين الله أن يكتب لهم النجاة من محنة عابرة.
لقد روت لنا الأنباء منذ قريب قصة عجيبة تستوقف النظر، عن ضابط ياباني كان مشاركا في القتال، أيام الحرب العالمية الثانية، وكان مقره هو ورجاله موضعا ما من إحدى جزر الفلبين، واستسلمت اليابان، لكن صاحبنا لبث في موضعه من غابات تلك الجزيرة، لم يأمره أحد بأن يستسلم هو الآخر، بل لم يبلغه النبأ بأن الحرب قد انتهت، ومرت الأعوام منذ نهاية الحرب سنة 1945م، ولم يكن معروفا عن هذا الضابط، إلا أنه لم يقتل في معركة مع من قتل، حتى كان شهر مارس من العام 1974م، فعثروا عليه بعد تسع وعشرين سنة كاملة، عثروا عليه وإذا هو طوال تلك السنين، دءوب على هندامه العسكري، وعلى سلاحه وذخيرته، كما لو كانت رحى الحرب دائرة.
وأعجب من هذا أنهم إذ أفهموه أن الحرب، قد انتهت منذ ثلاثين عاما كاملة إلا عاما واحدا، وأنه لا بد أن يسلم سلاحه ويقدم نفسه إلى السلطات في الفلبين، أصر على أن يأتيه الأمر بذلك من رئيسه العسكري المباشر، الذي كان قد كلفه بواجبه، ولم يجدوا بدا من أن يجيئوا إليه من وطنه برئيسه المباشر - وهو الآن رجل من الشعب يحيا حياة مدنية - فأمره بأن يستسلم ويسلم السلاح، ففعل.
تلك هي القصة التي روتها الأنباء، ويهمنا منها ما قد أحدثته في الصحف من نقاش، فأولا قد استقبلت اليابان هذا «البطل»، استقبالا كان - كما نشر - من الطراز الذي يستقبلون به الغزاة الظافرين من قادة بلادهم، لماذا؟ لأنهم رأوا فيه نموذجا عاليا من احترام المبدأ؛ فقد كلف بواجب عسكري قومي، فكان لا بد له من أداء واجبه إلى حد الفناء في سبيله.
لكن الذي يلفت النظر، هو أن هذه الحماسة الحارة في تمجيده بادئ الأمر سرعان ما هدأت، ليسأل المفكرون أنفسهم في هدوء بعد ذلك: أحقا هذا هو النموذج الذي نريده للياباني في حياته؟ أتكون هذه الطاعة العمياء، التي لا مبادرة فيها ولا حسن تصرف، هي مثلنا الأعلى من تربية الناشئين؟ وكان الجواب هذه المرة: لا، لأن «أونودا» (وهذا هو اسم الضابط) لم يزد على آلة، وفقد جانبه الإنساني الذي يعطيه حرية العمل.
وإني لأتأمل هذه القصة ومغزاها، فأقول: إن مثل هذا الرجل بكل هذا الالتزام، المتزمت في أداء واجبه القومي، إنما هو صورة «للمواطن»، لكنه ليس صورة «للفرد» الحر، المسئول مسئولية بصيرة لا عمياء.
وشاء الله للقصة أن تكتمل فصولا، فرووا أن جنديا يابانيا آخر (واسمه يوكوي)، كانوا قد عثروا عليه قبل ذلك بعامين، في جزيرة أخرى من جزر الفلبين، لكنهم وجدوه قد يئس من القتال منذ زمن بعيد، وأهمل سلاحه حتى بات قطعا من الحديد الصدئ، كما أهمل ثيابه وأهمل بدنه، فكان أشعث الشعر، ممزق الثياب، قذر البدن، يعيش على نبات الغابة وحيوانها، كما يعيش الإنسان البدائي، ولم يفت الكتاب أن يقارنوا بين «أونودا» و«يوكوي»؛ لأنهما في الحقيقة نموذجان مختلفان من البشر، فبينما أولهما قد حول رغبة المجتمع، فجعل منها ضميرا أخلاقيا يسيره، كان الثاني أسرع استماعا إلى غرائزه أو - كما قال أحد كتابهم - كان الأول يمثل اليابان التي لم تنهزم، على حين الثاني قد تمثلت فيه الهزيمة.
فهل يجوز لنا أن نقول إن كلا الرجلين كان على خطأ؟ ألا ترى أن كلا منهما قد احتفظ بجانب وترك جانبا؛ إذ احتفظ الأول بجانب «المواطن» تاركا جانب «الفرد»، واحتفظ الثاني بجانب «الفرد» تاركا جانب المواطن؟
إذا كان كذلك، فلقد أصبح واضحا لنا، لماذا خلد المصري على وجه الدهر، بعد أن علمته ثقافته أن يجمع الفرد والمواطن، في نفس واحدة وبلا عناء.
ثقافة المصري وجذورها
الحديث عن ثقافات الشعوب وما يميزها، كثيرا ما يكون أقرب إلى المحاولة العقلية، تقصد لذاتها أكثر مما تقصد لصحة النتائج أو بطلانها، فقلما يتفق الرأي على شعب معين: ماذا يميز ثقافته الأصيلة؟ وذلك لتشعب الحياة تشعبا، يكاد يستعصي على قاعدة واحدة، تضم أشتاته بجميع أطرافها، وإنه ليحدث أن يوصف لنا شعب معين، بصفة معينة عند باحث، وأن يوصف ذلك الشعب نفسه، بنقيض تلك الصفة عند باحث آخر، ومع ذلك كله فالحديث عن ثقافات الشعوب، وما يميزها قد يكون كاشفا وهاديا، إنه لا يضيف إلى الحياة حياة جديدة، لكنه يلقي الضوء على الجانب المستور، فيرى الناس من أمور أنفسهم، ما لم يكونوا قد رأوه من قبل.
لقد حاول كاتب أمريكي أن يكشف عن المميز الفاصل، الذي يجعل الأمريكي أمريكيا تختلف نظرته عن كل إنسان سواه، فبدأ محاولته تلك ، بأن اختار اختيارا شبه عشوائي بعض الملامح، التي ظن أنها توجد في الحياة الأمريكية ، ولا توجد في سواها، ثم تناولها بالتحليل حتى وقع - في رأيه - على القاسم المشترك بينها جميعا، رغم تباينها الشديد، وكانت الملامح التي اختارها هي هذه: تخطيط المدينة الأمريكية، على خطوط مستقيمة متوازية ومتعامدة، كأنها شبكة من قضبان الحديد، تتوازى وتتعامد في مربعات صغيرة، وناطحة السحاب التي هي في هيكلها المعماري كالقفص، تنهض أعمدته العمودية إلى أعلى، وتعترضها - طابقا بعد طابق - أعمدة أفقية، وموسيقى الجاز في تكرار وحداتها، والدستور الأمريكي، وأسلوب مارك توين في الكتابة، وطريقته في بناء القصة، وشعر وتمان في ديوانه «أوراق العشب»، والإنتاج الكبير بطريقة التجميع، ومضغ اللبان ... تلك - فيما رأى ذلك الكاتب - هي طائفة من ملامح الحياة الأمريكية الخالصة، فما هي الصفة الواحدة التي تتمثل فيها جميعا؛ تتمثل في طريقة تخطيط المدن، وتشييد ناطحات السحاب، كما تتمثل في القصة والشعر والدستور والإنتاج الكبير ومضغ اللبان؟! وبعد تحليل جيد لكل ملمح على حدة من تلك الملامح، انتهي إلى نتيجة، هي أن ما يميز الثقافة الأمريكية أساسا، هو الاهتمام بطريق السير والحركة، أكثر من الاهتمام بما ينتج عن ذلك السير، ويتجمد على صورة معينة محدودة، ولكي تكون الحركة السائرة حرة الخطوات، وجب أن تكون مؤلفة من وحدات تتكرر إلى غير نهاية معلومة: فالمدينة المخططة على استقامة الشوارع وتعامدها بدقة هندسية، قد تنمو - بالطريقة نفسها - إلى غير حد، دون أن تنكسر وحدتها الفنية، وناطحة السحاب المكونة من طوابق على هيئة القفص في هيكلها، يمكن أن تعلو إلى غير حد، دون أن يفسد شكلها المعماري، والقصة عند مارك توين قوامها حكايات صغيرة، تروى بأسلوب الحديث المعتاد، الذي هو موضوعات تتعاقب مع فترات قصيرة من الصمت، وإذن فلا يضير بناءها الفني، أن تستطرد في توالي الحكايات إلى غير حد، وشعر وتمان مرسل، لا يراعي توازنا ولا تماثلا في مقطوعاته، والدستور الأمريكي تتراكم مواده مع مقتضيات الحوادث، فليس له خاتمة مغلقة يقف عندها، وهكذا قل في الإنتاج الاقتصادي من حيث قابلية البناء لتكرار الوحدات، وفي غير ذلك من جوانب الحياة، والخلاصة هي أن طابع الثقافة الأمريكية - عند ذلك الكاتب - هو انطلاقة الحركة غير المقيدة بمبدأ ومنتهى.
قرأت ذلك، فقلت لنفسي: لماذا لا تجرب منهجا كهذا على الثقافة المصرية الصميمة، لعلك تخرج بطابع لها يميزها؟ وبدأت كما بدأ، أي إنني اخترت طائفة من ملامح الحياة المصرية، اختيارا شبه عشوائي، وكان ما اخترته هو هذه الملامح: القرية المصرية، أبو الهول، الأزهر، أم كلثوم، أحمد شوقي، مولد السيد البدوي، خان الخليلي، وتناولت هذه الأشياء بما استطعته لها من تحليل:
فكان أهم ما رأيته يميز القرية المصرية - في تكوينها المعماري - تكتلها وتلاصق مبانيها، حتى لتبدو للقادم من بعيد، كأنها كومة واحدة تنبثق من رأسها مئذنة، أغلب طرقها مغلق من أحد الطرفين، وهي طرق تنعرج مع المباني، فلا يراد لها أن تستقيم؛ لأن القرية في حقيقتها الاجتماعية أسرة واحدة، تجد الدفء في الجوار، وتجد الطمأنينة في أن يتعانق الكل في جسم واحد، فلا بأس في أن تضيق الطرق وأن تنحني ليقترب أعضاء الأسرة بعضهم من بعض، إن مثل هذه القرية لا تقبل الغريب، إلا إذا انخرط في كيانها، إنها ترفض أن يدخلها دخيل، يغير لها ركنا أساسيا من قواعد حياتها، فيعكر عليها تلك الحياة وصفوها، فدوام بقائها هو معيارها، وكل تغير مقبول إذا جاء في ذلك الإطار الدائم.
وأبو الهول - كسائر الآثار المصرية - يبني العقل على أساس الفطرة ليكتسب الدوام، إنه رأس إنسان، بما يتضمنه من بصيرة واعية، لكنه رأس ركب على حقيقة فطرية، لصيقة بالطبيعة وهي جسم الأسد، فها هنا كذلك جاء الرمز دالا على التمسك بالأساس الفطري الثابت، حتى ولو كان التغير الطارئ هو عقل بإدراكه الواعي.
والأزهر تتلخص رسالته الحضارية الكبرى، في أنه هو الذي جمع أشتات التراث العربي، عندما تعرض ذلك التراث للبعثرة والفناء، على أيدي التتار، ولولا هذا الجمع الذي اضطلع به الأزهر، لما كان بين أيدينا اليوم، ما يسمى بالتراث العربي، ومرة أخرى نجد «الدوام» ومقاومة التشتت والفناء هدفا رئيسيا، تنتظم خطوات السير على هداه.
وأم كلثوم التي ترسل الغناء، وكأنها تقيم عمارة على عمد مكينة ثابتة؟ إنها لتسلك أرق العواطف في جو من الوقار المهيب، لا تكاد تفرق فيه بين قصيدة في مدح النبي عليه السلام، ونشيد وطني، وقطعة غزلية مما يتبادله العاشقون، كل ذلك في إطار الفن الغنائي، عندما يتخذ الصورة التي تضمن له الدوام. وشيء كهذا يقال في شعر أحمد شوقي، إنه يقول الشعر - كائنا ما كان الموضوع - وكأنه يخاطب به الزمن غير المتقيد بأفراد من البشر يجيئون ويذهبون، والحقيقة هي أن هذه الخاصة، تبدو لي مميزة للشعر العربي كله.
ومولد السيد البدوي - كأي مولد آخر يقام في مصر مع اختلاف الحجم - يعطيك إحساسا عجيبا بالحياة المصرية بشتى عناصرها، إنها ليست تعبدا كلها، ولا هي مرح كلها، ولا هي تجارة كلها، إنها كل ذلك في مزيج واحد، تحمل في طيها من الرمز في مثل ما تحمل من الواقع. إن حلقة الذكر الصوفي قد تنعقد بجوار حلقة الرقص الشعبي، والحلقتان معا على مقربة لصيقة ببائع الحمص والحلوى وحب العزيز ... حياة لها عرفها الذي يتكرر عاما بعد عام، لم توضع لها القواعد والقوانين، ولكنها تجري في انبثاقها الفطري، كما جرت في أعوام مضت، وكما ستجري في أعوام تتلو.
وماذا عن خان الخليلي؟ إنه في مجمله رواسب عصور تأبى أن تزول، تدخل عليها عوامل العصر الجديد، كما تلبس النساء سوارا حول معصمها، فهو حلية مضافة، لكنه ليس هي، وهذا هو ما يشد السائحين الأجانب إليه، إنهم لا يذهبون إلى شارع قصر النيل وشارع طلعت حرب؛ لأنهم لو فعلوا، كانوا ما يزالون في بلدهم وفي عصرهم، وضاعت عليهم تكاليف السفر، لكنهم يذهبون إلى خان الخليلي؛ لأن الماضي يزاحم الحاضر ويزحمه، والمعنى نفسه قائم في كل قطعة مصنوعة هناك، ففي كل قطعة معروضة تلمح التكامل البشري، الذي لم يمزقه تعدد الاختصاص، كما هي الحال في الصناعة الآلية الجديدة، ففي مصنوعات الخان تمتزج الصناعة بالفن، ويمتزج المصنوع بالصانع.
خذ ما شئت مما تراه في حياتنا، ولا ترى مثله في حياة الآخرين، تجد فكرة الدوام الذي يعلو على اللحظة العابرة، تجد فكرة الدوام كامنة فيه بشكل ظاهر أو بشكل خفي، الدوام هو معيارنا في التغير الذي نقبله، أو التغير الذي لا نقبله، فما جاء على أطر حياتنا العميقة، كالزائدة التي تفيد ولا تضر، قبلناه، وأما ما جاء ليهدم لنا الإطار فهو مرفوض، حرية المفكر وحرية الفنان وحرية الإنسان بصفة عامة، مشروطة بالتزام الثوابت التي تدوم.
أما أن يكون هذا خبرا أو لا يكون، فليس ذلك موضوع هذا الحديث.
النغمة الهادئة
النغمة الهادئة هي نغمة المصري في حياته، إذا ما أطلقت له تلك الحياة على سجيتها، لم تعترض سبيلها حوائل وموانع، المصري في حياته العملية مطرد منتظم مهذب، ينساب انسياب النيل في مجراه، لا يفاجئ ولا يباغت، فنهر النيل حتى في فيضانه مقيد بموعده، كأنما هو ينذر بقدومه؛ لكيلا يأخذ أحدا على غرة وخديعة، المصري بان للحضارات، صانع للثقافات، ولولا نغمة حياته المطمئنة الهادئة ما صنع ولا بنى، ولكنه إذا فاجأته فاجئة استدار لها وأزالها؛ لكي يعود إلى هدوئه فيبني ويصنع.
وللإنسان في حياته العملية - كما للكاتب في كتابته وللمتحدث في حديثه - أسلوبه الخاص الذي يميزه من سواه، وأسلوب الإنسان في حياته العملية - كأسلوب الكاتب وأسلوب المتحدث - هو الجانب المنظور من حقيقته، وهو مؤلف من مجموعة اختيارات وحذوف، فهو يختار لنفسه في كل موقف - والمواقف الحاسمة من حياته بصفة خاصة - هذا الفعل دون ذاك، يختار في حديثه هذه اللفظة دون تلك، فهو إذ يختار ويحذف، يعكس نفسه أمام الناس، كما يريدها أن تكون، وحياة المصري كما يبديها في الظروف المعتادة سلوكا وحديثا، تتميز بهدوء الاعتدال.
إنه إذا رضي إنسان عن نفسه، أبداها في تعامله مع الناس، ومع الأشياء كما هي على حقيقتها، لا يدعوه داع أن يسدل عليها أقنعة ليخفيها، ولقد عاش المصري في أزمة النكسة ست سنوات وأربعة أشهر، خرج فيها على طبيعته، فأخذه الضيق، واستبد به القلق، وتوترت أعصابه حتى لتستثيرها توافه الأسباب، ثم ما هو بعد يوم واحد من النصر، إلا أن عادت له طبيعته، وها أنا ذا ألحظ في كل من أصادفهم حولي من الناس، أينما توجهت، وكائنة ما كانت الصلة بيني وبينهم، هدوءا في النغمة؛ نغمة الحديث هادئة، الحركة هادئة، يزدحم الناس هنا وهناك، ولكنه زحام يوشك أن يكون صامتا، لم تعد وجوه الناس عابسة، التعاطف والتراحم والتعاون، أصبحت في لمح البصر هي قاعدة السلوك، كشأن المصري إذا ترك لطبيعته.
كنت أتصفح كتابا يؤرخ لأعلام الرجال في الوطن العربي إبان القرن السادس عشر، فكانت تلفت نظري صور طريفة، لرجال يمثلون المعايير المقبولة في حياتنا، فهم في رأيي ليسوا «أعلاما» بالمعنى الشائع لهذه الكلمة، ولكنهم نماذج لمتوسط الإنسان المصري في حياته العملية، حين تكون تلك الحياة موضع مدح وثناء من عامة الناس، وهاك صورة من تلك الصور، لترى فيها الملامح الرئيسية التي أسلفت القول بأنها هي قسمات من الطابع المصري الأصيل في هدوئه وعذوبته، وتعاطفه وتراحمه وتعاونه، وفي شعوره العام بأن كل مصري - أو قل إن كل عربي - هو واحد من أفراد أسرته، يعامله كما يعامل أخوته وأبناء عمومته.
والصورة التي أقتبسها، هي لرجل يدعى محمد بن النجار الدمياطي، كان خطيبا لمسجد في القاهرة، جمع الله له بين العلم والعمل، فهو في علوم الشرع إمام، وهو في التعبد قدوة، وكان غاية في التواضع، يخدم العميان والمساكين ليلا ونهارا، ويقضي حوائج الفقراء والأرامل، يجمع لهم من أموال الزكاة ما استطاع أن يجمع، وكان يلبس الثياب الزرق والجيب الأسود، ويتعمم بقماش من قطن، من عاداته كل يوم أن يتلو بعد صلاة الفجر، نحو ربع القرآن سرا، فإذا أذن الصبح، قرأ جهرا قراءة تأخذ بجوامع القلوب، وكان يخدم نفسه بنفسه، يحمل الخبز على رأسه من الفرن، ويحمل حوائجه من السوق، ومع ذلك فقد كان ذا هيبة عظيمة، ولقد حدث له أيام السلطان قانصوه الغوري، أن استودعه تاجر مالا؛ ليعطيه لولده بعد موته، وجاءه الولد وهو دون البلوغ، فأبى أن يعطيه ماله إلى أن يبلغ رشده، فشكاه الغلام للسلطان، وطلب منه السلطان مال الغلام، فأقسم للسلطان أن ليس عنده شيء، ولما بلغ الغلام رشده، جاءه فأعطاه ماله، فسأله السلطان في ذلك، فقال إن فقهاء الشافعية أفتوا بأن الظالم، إذا طلب الوديعة ممن أؤتمن عليها، فلهذا المؤتمن أن ينكرها ويحلف على ذلك، وأنت ظالم!
صورة - كما ترى - فيها سذاجة، قد لا تصلح نموذجا لعصرنا الراهن، لكن فيها أركانا أساسية، هي التي يقام عليها الخلق المصري الأصيل، إذا لم تمنع دون ظهوره موانع، ففيها الهدوء الذي أشرت إليه، والذي يضمر في ثناياه النظرة الجادة العاملة، والعاطفة المتعاونة الأمينة، وهي صفات لا تتوافر إلا إذا غزرت الثقافة، وعمقت بعد ماض طويل عريق، فالنغمة الهادئة في الكلمة وفي الحركة، هي نتيجة ضبط للجوارح وإلجام للسان، فلا تسرع إذا أمكن التأني، ولا صياح إذا أمكن الهمس، ولا جزع إذا توافرت للقلب سكينة الإيمان، وإذا شئت فانظر إلى أسرة ريفية، اجتمعت حول طعام العشاء: فلا تهتز الأبدان بحركة تزيد على الحاجة، ولا تنطق الألسنة بلفظة لا تقتضيها ضرورة السياق.
هذه النغمة الهادئة في الحديث، وفي العمل، وفي التعامل، وهي صورة حياتنا إذا لم يطرأ عليها طارئ دخيل. لقد قال سقراط ذات يوم، لمن جلس بجانيه صامتا: يا هذا كلمني لكي أراك! وعلى أساس هذا المبدأ السقراطي، في أن النفس تكشف عن حقيقتها، في نوع الحديث وطريقة السلوك، نقول إننا - وقد أزحنا عن صدورنا كابوس النكسة - نعود اليوم إلى حقيقة نفوسنا، من هدوء ينطوي على تاريخ طويل، كنا فيه صناع ثقافة وبناة حضارة، بل حضارات تعاقبت واحدة بعد واحدة.
هذه بعض سماتنا
عندما تزهر الشجرة أو تثمر، فإن لحظة إزهارها أو إثمارها، لا تكون كسائر اللحظات في حياتنا؛ لأنها لحظة أكثر تعبيرا من سواها، عن طبيعة تلك الشجرة أصلا وهدفا، فشجرة القطن لا تصبح شجرة قطن بكامل معناها، إلا عند تفتق الزهرة وظهور الثمرة آخر الأمر، وأما قبل ذلك فهي في طريق الإعداد للهدف، فإما حققته؛ فحققت طبيعتها ووجودها، وإما أخفقت؛ فكانت إلى حطب الطريق أقرب منها إلى شجر القطن. ولقد أتصور الشجرة ساعة إزهارها أو إثمارها، تستجمع كل كيانها في فعل واحد، هو فعل الولادة للكائن الجديد، وربما حدث لأجزائها نوع من التوتر، ينفرج لخروج الزهرة أو الشجرة، من عالم الخفاء إلى عالم الشهرة.
وقد يكون هذا نفسه هو ما يحدث في حالة الإبداع الفني، فهنالك إرهاصات مبهمة تسبق ذلك الإبداع، وتشيع في كيان الفنان شيئا من القلق الغامض، ثم ما هو إلا أن تجيء اللمعة، فيتحدد الهدف والطريق، هكذا يكون الكائن الفرد في حياته، وهكذا أيضا تكون الأمة، فلكل أمة لحظاتها الفريدة، التي تتبلور فيها أخص خصائصها، لا لإنهاء خصائص تظهر فجأة من عدم، بل لأنها كائنة هناك، تنتظر اللحظة - لحظة الأزمات - فتتجمع بعد تشتت، وتتبدى بعد غموض واختفاء، وفي لحظة كهذه تتقاطع كل الخطوط، لتلتقي في نقطة واحدة، لو أحسنا تحليلها ورؤيتها، كشفت لنا عن غوامض النفس وخوافيها.
وأعتقد أن الأمة العربية اليوم تعيش لحظة من هذه اللحظات الكاشفة، فلكم سأل منا كاتب: من نحن؟ ما حقيقتنا؟ وأين نكون؟ لكم قال فينا قائل: إننا في هذه المرحلة المرتجلة من تاريخ العالم، نريد البحث عن هويتنا، حتى لا نذوب وننمحي في هويات الآخرين! وها هي ذي لحظة مخبارية نجتازها، قد تهدينا إلى بعض الإجابات عن أسئلة الكاتبين وأقوال القائلين، فماذا نرى في لحظتنا الراهنة على سبيل الإجمال، إلى أن يتاح لنا سبيل البحث المفصل المستفيض؟
نرى أول ما نرى أمة تتحقق وحدتها بفعل موحد مشترك، فلقد قالها الإمام ابن تيمية منذ زمن بعيد، حين قال إن فكرة «الأمة»، لا تتحقق لمجموعة من الناس، إلا إذا اشتركوا في «فعل» واحد. إن فكرة الأمة لا تتحقق - عند ابن تيمية - لمجرد أن يعيش أفراد المجموعة على رقعة جغرافية واحدة، ولا لأنهم يشتركون في تاريخ واحد، ولا لأنهم يتكلمون لغة واحدة، بل تتحقق فكرة «الأمة» في حالة واحدة وبشرط واحد، هو أن تلتقي فاعلياتهم في فعل واحد، يستهدف هدفا واحدا؛ وذلك لأنه بالفعل المشترك يجاوز كل فرد حدود نفسه، لينفتح على الآخرين الذين يشاركونه في أداء ذلك الفعل، إن التجاوز المكاني وحده، لا يكفي في إيجاد الرابطة الحيوية العضوية، التي تجعل من الأمة أمة واحدة، فالمتفرجون في دار السينما يتراصون متجاورين على مقاعدهم، بل وتتجه أنظارهم جميعا إلى شاشة واحدة، ويتتبعون قصة واحدة، ومع ذلك فلا شأن للواحد منهم بمن يجلس على يمينه أو على يساره، دع عنك من يجلسون وبينه وبينهم صفوف، لكن ما هكذا الحال في فريق الكرة، فها هنا يتفرق اللاعبون على أرض اللعب، لكنهم يترابطون معا برباط الفاعلية الواحدة، المشتركة المنبثقة من الداخل؛ فالكسب لهم جميعا والخسارة عليهم جميعا، وضربات الكرة بأقدام اللاعبين تأتي متكاملة يعاون بعضها بعضا، على إصابة الهدف المشترك.
هنالك مجموعات بشرية تجمع أفراد المجموعة الواحدة منها «دولة» واحدة، لكنك لا تشعر بين أفرادها بمثل هذا الرباط العضوي الذي أشرنا إليه، فسكان الولايات المتحدة لم ينصهروا بعد في «أمة» واحدة، ولا يصعب على الزائر أن يرى بين الأفراد، مثل الرابطة التي يترابط بها الشركاء في عمل تجاري واحد، أو في إدارة مصنع واحد، هي ما تزال رابطة المصلحة - والمصلحة المادية فوق كل شيء - ولا غرابة أن يكون أول ما تسمعه ممن تلاقيهم من أفراد، هو أن يذكر لك المتحدث إليك عن أصله الأوروبي أو غير الأوروبي الذي ينتمي إليه أول الأمر، فيقول لك: أنا ألماني، أو أنا إيطالي وهكذا، ولقد لحظت أثناء مقامي هناك فترة، بعض الجهود التي يبذلها كتابهم نحو «أمركة» الأمريكيين في «أمة»، وليس ذلك بغريب عنا نحن العرب، وقد رأينا كيف ينتمي الأمريكي اليهودي إلى ما يتصل بيهوديته، قبل أن ينتمي إلى وطنه الأمريكي.
إذن فمن أبرز سماتنا هذا الرباط الأسري، الذي يجعل العلاقة بين أفرادنا تجاوز حدود المصلحة، إلى ما هو أهم من ذلك وأعمق، وهي علاقة قد تخفى عن الرائي، في فترات الحياة العادية، لكنها تشتد ظهورا في لحظات التأزم، كاللحظة التي نعيشها اليوم، ولا يجوز أن نخلط بين مثل هذه العلاقة «الأخوية»، التي لا تكون إلا بين أبناء الأسرة الواحدة، وبين تلاحم الأفراد ، الذين جمعتهم المصادفات ساعة الخطر، كأن تشرف سفينة على الغرق، فتظهر بين ركابها روابط، لم تكن قبل وقوع الخطر، ولن تكون بعد زواله.
سمة أخرى نتميز بها أكثر مما تتميز بها أمة أخرى فيما أعتقد، وتلك هي الحاسة المرهفة، التي نميز بها بين ما يستحق الاهتمام الجاد وما لا يستحقه، إننا أمة قطعت على طريق الزمن أكثر من ستة آلاف عام، وحملت على كتفيها أربع حضارات متعاقبة، وهي الآن تدخل الخامسة، ومحال أن يكون وراءها هذا الرصيد الضخم من خبرات متراكمة، دون أن يترك على وجهة نظرها أثرا باقيا، يشبه ما تتركه الأعوام في حياة الفرد الواحد، فعلى خلاف الحدث الغر، ترى من أثقلته السنون بخبراتها بطيء الانفعال أمام الحوادث، فلا يستثيره منها إلا ما يمس صميم الحياة. لقد طبع ليوناردو دافنشي، ابتسامة ملغزة على شفتي موناليزا، فلبث النقاد يعلقون ويشرحون؛ لعلهم يكشفون الغطاء عن سر تلك الابتسامة الغامضة، وفي عقيدتي أن مئات التماثيل التي نحتها الفنان المصري القديم، بادئا من أبي الهول فصاعدا مع تاريخ الفن عند أجدادنا أسرة بعد أسرة، تحمل ابتسامة أشد إلغازا وأعمق غورا، هي ابتسامة من خبر الحياة وسرها، فأخذ يسخر سخرية ممتزجة بالإشفاق، ممن تهزهم صغائرها وعوابر أحداثها، لكنه إذا جد من الأمر ما يعلم أنه جد، نفرت همته ونشطت جوارحه، إلى أن تتحقق على يديه المعجزات، وتلك هي صورة المصري إلى يومنا هذا. إنني كثيرا ما أتفرس ملامح الفلاح المصري، وهو ما يزال في بقاء الريف، خصوصا من تقدمت به السن، فأجد على وجهه وفي نظرات عينيه، تلك الرصانة الرزينة والحكمة الهادئة، مع صمت لا يلغو ولا يثرثر، التي يراها الرائي في تماثيل الأقدمين، إنها غزارة ثقافية صقلت الطبائع، وحدت من نزوات الرعونة. لقد قرأت عبارة تنسب لرجل من رجال الدين المسيحي في أوروبا إبان العصور الوسطى، وقفت عندها لما فيها من غزارة المعنى، وهي عبارة يبتهل بها قائلها إلى ربه قائلا ما معناه: اللهم أعطني الصبر أمام ما ليس في وسعي أن أغيره، وأعطني الشجاعة لأغير ما يمكن تغييره، ثم أعطني اللهم حكمة أميز بها بين ما يمكن تغييره من الأمور وما ليس يمكن. وتلك الصفات الثلاث التي يبتهل بها هذا الداعي أن يمده الله بها، هي من سمات المصريين بحكم تاريخه وثقافته، فهو يصبر أمام ما يتطلب الصبر، وهو يهم بالتغيير إذا دعت الدواعي، ثم هو بحكمته يفرق بين ما يستحق أن يتغير وما لا يستحق.
والمصري، بل العربي بصفة عامة، متفائل بطبعه؛ فهو مهما ضاقت عليه الدوائر، آمن بكل كيانه أن بعد العسر يسرا، ولا يجيء تفاؤله هذا عن سطحية المنظر، كالتفاؤل الذي أجاد تصويره تشارلز دكنز في شخصية مكوبر، بل هو تفاؤل صاحب النظرة العميقة، التي تعلم أن في الكون تدبيرا يكفل أن يعتدل الميزان، فلا يكون نقص هنا ولا إجحاف هناك، إلا ابتغاء تكامل أسمى، لا يترك مثقال ذرة من الخير أو من الشر، إلا أن يعقب عليه بما يوازنه.
وانظر بعد هذا إلى أي مواطن عربي عابر في الطريق، كيف يقابل اللحظة التي نجتازها، تجد خصائصه الكامنة في طبعه قد وضحت أمام الأبصار: فهو لكل مواطن عربي آخر أخ تجمعهما أسرة واحدة، وهو على وعي كامل بما تلقيه الظروف عليه من تبعات، حتى ولو لم يكن إبان الحياة العادية، ممن يطيقون تحمل التبعات، وهو هادئ، متفائل، يعلم في يقين أن الأمور صائرة آخر الأمر بإرادة الله - متمثلة في إرادته - إلى خير.
ثقافة أخرى
كم هي الأعوام التي انقضت منذ جلست آخر مرة، هنا، في مدينة «توركي» على الشاطئ الجنوبي من إنجلترا، وهي مدينة ترقد بين البحر والجبل، وتنبت منازلها على السفوح المخضرة بالعشب والشجر، حتى لكأنها زهرات أخرجتها الطبيعة بيضاء وحمراء، فكل شيء هنا متسق مع كل شيء، فلا السماء ارتفعت وحدها، ولا البحر انعزل، ولا استقل بكيانه الخاص جبل، أو شجر، أو طير، أو حيوان، أو منازل، أو إنسان!
نعم، كم هي الأعوام التي انقضت منذ جلست آخر مرة هنا، والحرب العالمية الثانية تدور رحاها، والفزع يملأ الهواء وتسري رعشته في اليابس والماء، ووجوه الناس واجمة، لا تفتر فيها شفة عن ابتسامة! فأين تلك الجلسة الماضية بأحزانها وهمومها، من هذه الجلسة - في المكان نفسه بعد عشرات السنين التي انقضت - وجموع الناس من حولي لاهية ضاحكة، كأنهم في يوم عيد؟!
فأطلت الجلوس ما أسعفتني ظروف الساعة أن أطيل، الصحيفة اليومية في يدي، وقد كدت أفرغ من قراءتها، والبصر زائغ هنا وهنا وهناك، يبحث في الناس عن الظواهر، التي يمكن أن تتخذ علامات مميزة لما نسميه بثقافة «الغرب» الحديث، أهي في هذه الطرز العجيبة من الثياب، التي يتعمد أصحابها أن تبدو وكأنها أقدم من القدم، ذهبت ألوانها وتمزقت أطرافها؟! يا سبحان الله! كنت أفهم لو أن هؤلاء الناس قد أرادوا أن يقيموا الدليل على القوة والغنى، فارتدوا من الثياب جديدها اللامع بزخارفه، لكن لا! إن القوة والغنى يبدوان في هذه «الهلاهيل»، الكالحة الممزقة التي يلبسونها، ولله في خلقه شئون! فالأقوام تتظاهر بما ليس عندها، فإذا رأيت قوما يتظاهرون أمام الغرباء، بالطعام الغزير وبالثياب الفاخرة، فاعلم أنهم في حقيقة أمرهم، يعوزهم الطعام وتنقصهم الثياب؟ إنها مفارقة من مفارقات الحياة، فحيث يكثر الجوع والعري، يشتد التنافس بين ذوي اليسار على بدانة الأجسام وضخامة الكروش، وعلى الإسراف في زخرف الثياب، كأنما الواحد منهم أو الواحدة يريد أن يقول للناس: إنني لست واحدا من الجائعين العريانين، فأنا ذو مال وجاه! وأما إذا كانت وفرة الطعام والثياب أمرا مفروغا منه، انقلب الوضع، وأصبح الناس أميل إلى نحافة الأجساد وإلى بساطة الثياب، فهذه الملابس الكالحة الممزقة، التي أراها هنا فيمن أرى من الناس، إنما هي علامة مقصودة، تدل على أن العصر هو عصر وفرة إلى حد التخمة.
لا، لا - قلت لنفسي - إنك لن تجد علامات العصر التي تبحث عنها، في هذا الذي يقع عليه البصر، فالبصر إنما يقع على «ظواهر»، على حين أن ملامح العصر تتمثل فيما هو «باطن» مخبوء ، وعندئذ خطرت لي خاطرة، في أن أعيد النظر في الصحيفة اليومية التي طويتها في يدي؛ لأرى «الغرب» على صفحاتها، فماذا فيها من صور لا تحدث إلا هنا؟
وأخذت أقلب الصفحات، فإذا بالصور تتزاحم في كثرة لم أتوقعها، لقد طرحت من حسابي، ما كان يمكن أن أجد مثيلا له في حياتنا نحن في مصر؛ لأن ما هو مشترك بيننا وبينهم - حتى إن دل على العصر الجديد - فهو لا يعد سمة خاصة «بالغرب» وحده، وإلا لما شاركناه فيه، وهاك بعض ما وجدته من صور الحياة في الغرب الحديث، مأخوذا من صحيفة واحدة في يوم واحد.
كنا قد شهدنا ليلة أمس برنامجا في التليفزيون، يصور للناس قصة غريبة لسيدة في الستين من عمرها، أخذت تغري أمها التي أوشكت على التسعين، والتي سكنت غرفة في أحد بيوت العجائز الكثيرة، التي أعدت لمن تقدمت بهم السن، ولحقهم مرض الشيخوخة دون أن يكون إلى جوارهم من يعينونهم على الحياة، أقول إن السيدة الابنة أخذت تغري أمها تلك بالانتحار حتى زينته لها، فأحضرت لها في زيارتها الأخيرة أقراصا مخدرة لتضعها في شرابها، حتى ينسدل على حياتها ستار الموت، وكانت الشرطة قد علمت بالجهود التي تبذلها الابنة في إقناع أمها، بأن تنزع حياة نفسها بيديها، ولقد جاء النبأ إلى الشرطة عن طريق أخت لها، فترصدت الشرطة للسيدة، ووضعت جهازا تليفزيونيا مستورا، يسجل زياراتها لأمها وما يدور بينهما من حديث، حتى كانت تلك الزيارة الأخيرة، التي قدمت فيها الابنة إلى أمها أقراص التخدير.
وقبض على الجانية عند خروجها من غرفة أمها - ولم تكن الأم قد فقدت حياتها بعد - وقدمتها الشرطة إلى المحاكمة وهمت بالإنكار، فصدموها بالشريط التليفزيوني الملون، بكل ما دار وحدث في غرفة الأم، وحكم عليها بالسجن لمدة عامين، فرأينا ليلة أمس على شاشة التليفزيون قصة الأم وابنتها، منذ كانت الابنة طفلة مات أبوها وهي صغيرة، إلى أن تطورت بها الحياة وأصبحت بدورها أما ثم جدة، وشاءت لها الأيام أن تعسر بها الحياة بعد يسر، فهنا أدار الشيطان في رأسها فكرة حمل أمها على الانتحار؛ لأنها كانت تعلم أنها ترث عن أمها أربعين ألفا من الجنيهات.
كان الحوار الذي سمعناه بين الأم وابنتها، محركا للعواطف، فلقد سألت الأم ابنتها: أأنت واثقة من أن هذه الأقراص، كافية حتما للقضاء على الحياة؟ وأجابتها الابنة بالإيجاب، محرضة إياها أن تضعها في كأس من الخمر؛ لأن ذلك مما يقضي على الشك، قالت الأم لابنتها: إنني خائفة، فشجعتها الابنة قائلة لها: مم تخافين؟ هل تجدين حياتك هذه جديرة بالبقاء؟ أإذا كان لديك كلب في مثل ضعفك هذا، ألا تأخذينه للبيطري مختارة ليقتله؟ أجابت الأم: نعم، ولكن ليس للكلب روح، كالتي وهبني الله إياها، وإني لأخاف أن أنزعها عن بدني بإرادتي، فأنال العقاب يوم الحساب، فأخذت الابنة في إقناعها بأن الله لا يعاقب على فعل كهذا، لكن الابنة لم تكد تخرج ويقبض عليها، حتى أسرعت الممرضات بأمر الشرطة، فجمعن من الأم أقراص الموت.
رأينا القصة كاملة ليلة أمس في التليفزيون، وأصبحنا هذا الصباح، فإذا بالصحيفة اليومية التي في يدي، تسجل ردود فعل غاضبة من الجمهور، يحتج فيها الناس على نشر مثل هذه القصة الموجعة، وكان الأساس فيما أرسله القراء إلى الصحيفة هو «أخلاقية» هذا النشر، هل يجوز خلقيا أو لا يجوز؟ يقول أحدهم: إن السيدة الجانية قد حوكمت ونالت عقابها، فلماذا تحاكم مرة أخرى على الملأ؟ ويقول آخر: كيف يحق للتليفزيون أن ينشر الشريط الذي سجلته الشرطة سرا، دون أن يؤخذ رأي الجانية وذويها؟ ويقول ثالث: هل كان من حق الشرطة بادئ ذي بدء، أن تصور حياة الناس على غفلة منهم؟ وهكذا وهكذا.
تلك - إذن - هي شريحة من حياة «الغرب» الحديث، مما أعتقد أنه مستحيل الحدوث في حياتنا؛ فأولا يكاد يستحيل علينا أن نترك الأم في عجز شيخوختها، لتسكن غرفة وحدها في بيت العجائز، فما دام لها البنات، فلا بد لإحداهن أن ترعاها، مهما ثقلت رعايتها على أفراد أسرتها، لا سيما والأم برغم شيخوختها الضعيفة لم يكن بها مرض ظاهر، ولم تكن فقيرة بحيث يعجز رعاتها عن نفقاتها، بل كانت ذات ثراء ليس بالقليل.
لقد أنعم الله علينا بثقافة ترفض رفضا قاطعا مثل هذا التحجر في القلوب، فالعلاقات الرابطة بين أفراد الأسرة عندنا، توشك أن تكون أمرا مقدسا، لا تدنسه أبالسة الشر والطمع، إلا في حدود ضيقة يقتضيها ضعف الطبيعة البشرية آنا بعد آن، وأما من حيث «المبدأ» فنحن بحمد الله ننعم بالدفء في علاقاتنا الأسرية، وكأن كلا منا قد أمن الكوارث بفضل أفراد أسرته، الذين قد يظن بينهم التباعد، ولكن ما أن تكرث أحدهم الكارثة، حتى تراهم قد التفوا حوله من حيث يدري ولا يدري.
وأعود إلى الصحيفة اليومية في يدي؛ لأستعيد قصة امرأة خرجت من السجن لتوها، بعد أن أمضت بين جدرانه أربعة أسابيع، لماذا؟ لأنها نذرت حياتها للحيلولة بين الثعالب وصائديها، فها هنا ما زال صيد الثعالب في الغابات هواية محببة للقادرين عليها، فقالت هذه المرأة لنفسها: كيف يجوز للإنسان مطاردة حيوان ليلهو؟ أليست تلك الثعالب كائنات حية أراد لها خالقها أن تحيا؟ ومن هذه العقيدة عند المرأة، انطلقت لتنفق جهودها وأموالها في معاكسة اللاهين بمطاردة الحيوان وصيده، فرفع بعضهم إلى المحاكم لما ناله من ضرر، وحكمت عليها المحكمة بالسجن أربعة أسابيع، خرجت بعدها بالأمس، لتعلن في الصحف أنها لن تكف عن الدفاع عن الحياة في أية صورة كانت، ولينلها من عنت القضاء ما ينالها، ولم يفتها أن تندد بالعدالة في بلادها، إذا كان معناها قد انحدر في أذهان القائمين عليها إلى هذا المنحدر المشين.
وإذن فهذه شريحة أخرى من حياة «الغرب»، فيها المثل الأعلى، وفيها الإصرار على الجهاد، في سبيل ما يقيمه الإنسان لنفسه من نماذج المثل العليا، ولعل هذا الجانب من حياة «الغرب»، تؤيده قصة أخرى في هذه الصحيفة اليومية نفسها، عن امرأة شابة تطلعت إلى أن تجوب منطقة صحراوية في قلب أستراليا، فذهبت وحدها واستأجرت أربعة جمال، وكان معها كلبها، وظلت تتحسس طريقها هناك أربعة أشهر، تكشف لنفسها الجديد، فما وهنت لها عزيمة، ولا أغراها شبابها أن تحيا حياة المتعة في المدن، وبمثل هذه العزائم تبنى الحضارات.
وصورة أخرى تقدمها الصحيفة، وهي أن رجلا من أصحاب الأعمال في فرنسا، ذهب أثناء النهار إلى منزله لطارئ عارض، فإذا هو أمام مفاجأة أفقدته صوابه؛ إذ رأى أحد العاملين عنده مع امرأته في فراشه، فكان أن فصله من العمل فور لحظته، فهل يخجل العامل من فعلته؟ أبدا رفع أمره إلى القضاء؛ لأنه لم يكن من حق صاحب العمل أن يفصله بغير إنذار ومهلة من زمن، وبغير تعويض يحدد القانون مقداره. والأعجب أن تأخذ المحكمة بوجهة نظره، وتحكم على صاحب العمل بغرامتين يدفعهما للعامل؛ إحداهما للفصل الفوري، والأخرى للتعويض عن الضرر. لكن صاحب العمل قد هاله هذا الظلم، فاستأنف، ومن حسن الحظ أن المحكمة هذه المرة، قدرت ظروفه وأعفته من الغرامتين.
وأعود إلى الصحيفة لأستخرج من صفحاتها عجبا من العجب: جمعية هدفها المطالبة بأن يكون للراشدين من الرجال أو النساء حق الاتصال الجنسي بصغار السن، وأرادت هذه الجمعية أن تعقد مؤتمرا، فاتفقت مع أحد الفنادق في لندن، أن يؤجر لها بهوا من أبهائه ووافق مدير الفندق، لكن حدث أن سمع العاملون بالفندق بأمر هذا الاجتماع وأهدافه، فهددوا صاحب الفندق بأن يتركوا أعمالهم إذا ما تم الاجتماع، لكن أعضاء الجمعية أصروا على الاجتماع في ظل ما اتفقوا عليه، دونما أدنى خجل من وضعهم الشاذ، بل إنهم ليعلنونه في صراحة تثير العجب.
ثم أفتح الصفحة في منتصفها، فإذا أنا أمام ذخر من الأدب والفن، ملأ صفحتين متقابلتين؛ ترجمة حديثة لحياة جلادستون، كتاب عن الشيوعية في كمبوديا، تعليق على المجلد الثالث من الترجمة الذاتية، التي يخرجها عن حياته رونالد دنكان، عرض لكتاب جديد عن الطعام، وكيف كانت ألوانه، وطرائق طهوه في التاريخ القديم، موجز سريع عن محتوى ثلاثة كتب جديدة، عن حياة الجريمة بين أناس في العصور القديمة والوسطى، كانوا يدعون الورع في ظاهر حياتهم، لا سيما من رجال الدين عندئذ، تعليق على خمس قصص مما أخرجته المطبعة هذا الأسبوع، ثم استعراض غني للمهرجان السنوي الذي يقام في أدنبرة، عن الفنون بكل صنوفها.
وما دمت أتحدث عن الحياة الفكرية ، فلا بد لي من ذكر حديث ربما كان أبرز ما وقع في مجال التأليف، وهو أن جماعة من رجال الدين هنا، كانوا منذ نحو شهرين، قد أصدروا معا كتابا عن العقيدة المسيحية، التي تقول إن الله قد تجسد في المسيح، فرفضوا هم هذا التصور، وأطلقوا على كتابهم ذاك عنوان «أسطورة تجسد الله في المسيح»، فسرعان ما تألفت جماعة أخرى من رجال الدين أيضا، وأخرجوا معا كتابا للرد على الكتاب الأول، وأسموا كتابهم هذا «حقيقة تجسد الله في المسيح»، ولقد امتلأت الصحف الأدبية بالمقارنة بين الكتابين، وأرجح الرأي عند المعلقين، هو أن الجماعة الثانية كانت أعمق بحثا من الجماعة الأولى.
جمعت هذه الأشتات بعضها إلى بعض، وهي أشتات مأخوذة من صحيفة واحدة في يوم واحد، فألفيتها تصور مناخا ثقافيا ليس بينه وبين مناخنا الثقافي شبه، لا من قريب ولا من بعيد، فخرجت بنتيجة مؤكدة، وهي ضرورة أن يكون لكل ثقافة قومية معاييرها الخاصة، بالإضافة إلى المجال المشترك، الذي يجب أن يتفق فيه الناس جميعا، وأعني به مجال العلوم وأشباهها، ومن هذه وتلك تكون صورة العصر.
قطرة المداد الأخيرة
لم يكن قد بقي في زجاجة الحبر إلا قطرة، وهممت أن أرشفها بقلمي؛ لأكتب فكرة في رأسي خشيت عليها أن تطير، وما إن مددت سنان القلم في حرص ليلتقطها، حتى نطقت القطرة المسحورة بلفظ عجيب! ولعل شيطانها قد أنطقها لترد على سخريتي بسخرية أشد، فقد كنت تهكمت على نفسي وأنا أمد إليها القلم، فحسبتني أتهكم عليها هي، تهكمت على نفسي بألا يكون بين يدي إلا هذه القطرة الضحلة من المداد، وألا يكون في رأسي إلا فكرة واحدة خفت عليها أن تطير، وبهذا الفقر المميت - فكرا وحبرا - أزعم لنفسي أنني كاتب قد ينفع الناس!
وسمعتني - أو سمعني شيطانها (فلكل شيء في هذه الدنيا شيطانه)، فبدأت بقولها: تلومون سواكم والعيب فيكم! أخذني الفزع، وتلفت حولي ملتمسا مصدر الصوت، فقالت قطرة المداد من داخل زجاجاتها: ها أنا ذا أحدثك من هنا! ومن هنا بدأ الحوار بيني وبينها.
قلت: ما الذي أغضبك مني يا صاحبتي؟ لم يعد عندي ما أكتب به إلا أنت، وأشفقت على فكرتي التي طافت برأسي، كأنها الطائر في الظلام؛ فتسمع رفيف جناحيه ولا تراه، أشفقت على فكرتي تلك ألا تجد فيك مدادا، يسعفها في الظهور، فماذا في ذلك مما يؤذيك؟
قالت: لا، ليس في هذا القول ما يؤذيني، ولكنني قارنت حالا بحال؛ فشعرت بالأسى.
قلت: وبين أي الحالين كانت المقارنة؟
قالت: بين حالكم أنتم اليوم، وحال أسلافكم من حملة الأقلام! كان القلم بين أصابع الكاتب قصبة من بوص، ولكنه كان إذا أجراه صاحبه على صفحة الورق، بعث الصرير يزغرد به لطرافة الفكر ولغزارته، أو بعث الأنين تعاطفا مع ما أحسه خلال الكلمات من حسرات، تقطعت بها أنفاس صاحبه، كانت تلك هي الحال مع أقلام آبائكم؛ لأنهم كانوا ذوي رسالة يؤدونها نحو حضارة يبنونها، وأما القلم في أيديكم أنتم - مع أنه لم يعد قطعة من الغاب، بل أصبح قطعة نفيسة من أجهزة العصر - أقول: أما القلم في أيديكم أنتم، فهو يجري صامتا في خيبة أمله، فلا صرير له ولا أنين، إنه إذا أحس مرة بنبض الإبداع والصدق ترتعش به الكلمات، فهو يشم رائحة الموت في الكلمات ألف مرة، القلم في أيديكم أنتم يأتمر ولا يأمر، إنه ينصت ولا يملي، إنه يظل في أيديكم أداة خرساء، إلى أن يحركه محرك من غير أنفسكم فيتحرك، إنه كسائر أجهزة عصره، إنه كالسيارة والطيارة وكالقنابل الذرية والمدافع الرشاشة؛ فكلها أجهزة تئز وتفرقع وتطير وتدمر، على شرط أن يريد لها ذلك مريد، وأما إذا لم يسعفها المريد بأمره، فإنها عندئذ هي الآلة الخرساء.
قلت: حتى إذا صح هذا الذي تقولين، فما لك أنت والأقلام؟ كانت أقلام الكاتبين فيما مضى ذوات صرير فخفت صريرها، وكانت تئن عند المؤلمات فسكت أنينها، هكذا تزعمين: لكنك أنت هي أنت في كلتا الحالتين؛ قطرة من مداد، فلا الصرير كان منك ولا الأنين! وما دمت قد بدأتني بهذا الاعتداء بغير موجب ولا داع، فيحق لي - إذن - أن أصارحك بشيء مما اختلجت به نفسي، عندما مددت إليك قلمي، ليرشفك استعدادا للكتابة: أتعلمين ماذا دار بنفسي عندئذ؟ أخذت أقول لنفسي في كثير من الحسرة: أهذه القطرة الهزيلة من السائل الأزرق في سواد، هي التي تعول عليها في تغيير قيم قديمة، لتضع مكانها قيما جديدة؟ أتظن أن نقطة الحبر هذه، إذا ما نثرتها على ورقك، عادت نقطة حبر كما كانت، بل اشتدت ضعفا عما كانت؛ لأنها بدأت متجمعة يؤازر بعضها بعضا، ثم انتثرت على الورق، فتفككت أوصالها وانحلت عراها! أهذه القطرة من السائل هي التي سيتقدم بها المجتمع بعد تخلف؟ أهي التي سيتعلم بها الشعب بعد جهالة؟ أهذه هي التي سيثرى بها الناس بعد فقر؟
قالت: أكانت كل هذه المرارة في نفسك عندما أردتني؟
قلت: نعم، وأكثر منها؛ ولذلك لعلك قد لاحظت تردد القلم وهو يمتد إليك.
قالت: وما الذي شجعك بعد خذلان؟
قلت: شجعتني الأوهام، والأوهام - كما قد تعلمين - تخلق الأبطال، فقد أنبت نفسي على يأسها وتخاذلها، وقلت لها: إنك تعلمين حق العلم - يا نفسي - أنها ليست قطرة المداد في ذاتها، هي التي ستغير وتهدم وتبني، بل هي الكلمات التي ستصاغ بها تلك القطرة، إنها لن تعود سائلا في زجاجة، بل ستجري على الورق رموزا، هي الألفاظ، وتبعث الرموز أشعة ضيائها إلى حدقات العيون - هي عيون القراء - وتنقل الحدقات الرسالة إلى الأذهان وإلى الصدور، فتتحرك هناك عقول وتنبض هنا قلوب، هذا هو ما تتحول به قطرة المداد الضئيلة هذه.
قالت قطرة المداد: لقد قلتها بلسانك يا رجل، فأنا وما يشكلني به الكاتب، ومن هنا تراني قد بدأت حديثي معك، بقولي: إنكم أيها الكتاب تلومون دنياكم والعيب فيكم، فللكاتب منكم أن يجريني على قلمه، فإذا أنا الحرية العزيزة قد تنفست لفظا، ولكني قد أسيل على قلم الدليل، فأنقلب وكأنني الأغلال في أرجل العبيد، نعم، إنني وما يشكلني به الكاتب، وإنه ليخيل إلي أن معظمكم يا معشر كتاب اليوم، قد ذهب عنكم المجد الذي كان لأسلافكم، فأصبحت أنا - قطرة المداد التي تراني - كالماء الراكد في حمأة عطنة، بعد أن جرت زميلات لي على أقلام السابقين، فكن أبحرا زاخرة بالدر النفيس من فكر ووجدان.
قلت: أنت وما شئت أن تقولي، وربما كان موضع الخطأ عندك وعندي أننا معا نسمي كاتبا من ليس بكاتب، هل سمعت عن «العرض - حال - جي» ما هو؟ (ولقد قطعت لك الكلمة لتدركي أجزاءها)، فهذا أيضا رجل يجلس إلى منضدة، أمامه ورق، وفي يده قلم، لكن الزبون هو الذي يملي عليه ما يريد، وسأقص عليك نكتة فكهة قلناها في أسمارنا لنضحك. فلقد حدث لرجل أن ضاقت به سبل العيش، وجعل يفكر في طريق سهل يكسب به كسرة خبز، وكان الرجل أميا لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك فقد رأى أن مهنة «العرضحالجي» - كما شهدها في أصحابها - مهنة خفيفة ومريحة، فماذا لو أعد منضدة صغيرة كسيحة، وجلس إليها على نحو ما يفعل الآخرون؟ وذلك هو ما حدث بالفعل، فجاءته زبونة تطلب منه أن يقرأ لها ورقة أعطتها له، فأخذ الرجل يقرأ: بعد التحية والسلام، نعرفك بأننا في صحة جيدة! فصاحت الزبونة قائلة: ما هذا الذي تقوله يا سيدنا؟ إن الورقة التي بيدك كمبيالة! فقال العرضحالجي المزور وهو في ربكة من الخجل: ولماذا يا سيدتي لم تقولي هذا في البداية؛ لأقرأها لك قراءة كمبيالات؟!
قالت قطرة المداد: وماذا أردت الإشارة إليه بهذه القصة؟
قلت: أردت أولا أن أشيع فيك شيئا من المرح؛ لأخفف عنك هذا التوتر، الذي ألحظه ساريا في كيانك، ثم أردت ثانيا أن أنبهك إلى خطأ عندك وعندنا، حين نخلط بين الكاتب بمعناه الذي يجعله مصباحا هاديا على الطريق، وبين كاتب عروض الحال، سواء أكان ممن يقرءون ويكتبون، أم كان زائفا أميا استسهل المهنة فاحترفها. ولست أشك في أنك تدركين الفرق البعيد بين كاتب يعاني ما يكتبه ويحياه، وآخر ينفذ لصاحب الشأن ما يريده، وعلى صاحب الشأن أن يحدد له المسار مقدما؛ لكي يتاح للكاتب (الزائف في هذه الحالة)، أن يتبين نوع الكتابة المطلوبة للزبون، أهي كتابة «الخطابات! أم كتابة الكمبيالات!»
أحسست وقد بلغ بنا الحوار هذا المدى، أن كلينا - قطرة المداد الباقية وأنا - قد استرخى وهدأ انفعاله واطمأن؛ فقلت لها وأنا أدنو قليلا نحوها بسن القلم: أرجو أن تحملي كثيرا مما وجهته إليك محمل المزاح، إن شطرا كبيرا مما قلته قد يكون حالة خاصة عندي من الشعور بالقصور، فلقد أفرغت قبلك عدة زجاجات من الحبر، حتى ملأت بكلماتها ما يقرب من عشرين ألف صفحة، كان فيها الغث ولكنها لم تخل من بعض السمين، ومع ذلك فقد يراني بعضهم - ومن خيرة المثقفين - أنني دخلت عليهم الميدان كالشهاب، بلا مقدمات! فأين إذن يا صديقتي ذهبت زجاجات الحبر، التي انسكبت قطراتها على مدار السنين؟
هو يا أختاه شعور عندي بالقصور، فليس اتهامي موجها إليك بقدر ما هو موجه إلى شخصي، وكيف أوجه إليك اتهاما، وأنا أعلم عن أخوات لك سابقات، كن قد تحولن على أقلام الكتاب الفحول ألسنة من نار؟ ألم تكن كلمات الجيل الماضي، وقودا أشعل الثورة في صدور قادتها، ثم أشعلها بعدهم في أبناء الشعب جميعا؟ لا، لم يكن ما قلته اتهاما موجها إليك، فأنت - كما قلت لي منذ حين - وما يشكلك به الكاتب، لم يكن قولي اتهاما بقدر ما كان عتابا أعاتب به نفسي، وأعاتب معي بعض من حمل القلم، فلم يجعل كتابته لسانا لضميره، كما ينبغي لها أن تكون - ولم يجعلها سفيرا للعقل، ولا وحيا للفكرة، لقد سئل أحد أسلافنا: أي شيء تعرف به الرجل؟ فأجاب: إذا كتب فأجاد، والكاتب إذا أجاد الكتابة - كما قال من الأسلاف قائل آخر - سالت عن قلمه عيون الكلام من ينابيعها، إن الكاتب الجاد أمام ألفاظه التي يسكبها، لتحمل ما أراده من معنى، لكأنه روح تجزأ في أبدان متفرقة.
وعند هذه النغمة الأخيرة، استسلمت لقلمي قطرة المداد الأخيرة، فاستقاها القلم بمنقاره الحاد، وفرغت زجاجة الحبر؛ فحرصت على أن أنتقي ما أكتبه، وفاء لتلك القطرة الفصيحة، ثم ما لبثت أن قلت لنفسي: لماذا لا ترد لها جميلها، بأن تثبت على الورق ما دار بينكما من حوار؟
ليس إيمان الدراويش
للإيمان معنى عند القوي القادر، يختلف عن معناه عند الضعيف العاجز، معناه عند القوي أن يكون له مبدأ يرتكز عليه، ثم هدف يعمل على بلوغه بهدى من ذلك المبدأ، وهو فيما بين المبدأ والهدف يحتكم إلى العلم وحده؛ ليرسم له الطريق خطوة خطوة، وأما معناه عند الضعيف فهو التمني بألا تجري الحوادث وفق أسبابها، لعل مشكلاته أن تنحل من حيث لا يدري.
إيمان القوي عمل هادف، وإيمان الضعيف قعود ينتظر، إنه لا إيمان إذا أخذت تكرر لفظة «الإيمان» ألف ألف مرة، حين تصبح وحين تمسي، كما أنه لا شفاء من مرض، إذا أخذت تكرر اسم الدواء. حين يبذر الفلاح بذوره في الأرض، ويظل يرعى حتى يثمر ما أراد له أن يثمر، فهو مؤمن إيمان الأقوياء؛ لأنه ارتكز إلى بداية صحيحة، واهتدى بالعلم (أو بالخبرة السليمة التي هي من العلم)، في رعايته لزرعه، فكان حتما أن يبلغ هدفه المقصود، أما الذي يبح صوته من صياحه بلفظة الإيمان، دون أن يكون لمسيرته بداية ونهاية ووسط يربط بينهما، فذلك هو العاجز الضعيف.
كان لكاتب هذه الأسطر شأن في مكتب حكومي، فذهب ليسعى نحو قضائه، وهنالك وجد من الزحام أمام الموظف المكلف بأداء العمل، ما ظن معه أن شأنه ذلك لن يقضى في أيام أو أسابيع، ومع ذلك فقد مد ذراعه ممسكا بأوراقه مع مئات الأذرع الممتدة بأوراقها، وكأنما يئس الموظف المسكين من أن يزحزح شيئا من هذا الجبل الراسخ؛ فأبطأ الحركة عامدا، ينقل ورقة من هنا إلى هناك، ثم يعيدها إلى حيث كانت، يتلفت إلى يمينه وإلى يساره باحثا عن لا شيء، فقال قائل: لو كنا في عصر المعجزات، لارتقبنا المعجزة تقضي لنا شئوننا! وهنا وجد الموظف الغارق في غيبوبته قشة النجاة؛ وضع القلم من يده، والتفت إلى المتحدث وأخذ يعنفه، قال: ليس للمعجزات عصر معين يا سيد يا محترم! إن كل عصر هو عصر معجزات، فيجوز أن أغمض عيني وأفتحها، فلا أجد أمامي أحدا ، لغير ما سبب معلوم، هذه هي قلة الإيمان التي أودت بنا في الداهية.
هكذا انطلق الموظف في خطبة واعظة، ولقد سكت الواقفون وجمدت أيديهم على أوراقهم، ولم تزل مئات الأذرع ممتدة، إن أحدا منهم لم ينطق بكلمة، إلا أن تكون تأييدا للرجل، وتشجيعا له على المضي في هديره؛ وذلك إما إيمانا بصدق ما يقوله، وإما خوفا على أموره أن يتعثر بها الطريق إلى الأبد، وذلك عند فريق كبير من الناس هو «الإيمان»، الذي أردناه إحدى ركيزتين. •••
السهام المسمومة في أبداننا، وسهمها يسري سريعا سريعا، وبعض الكاتبين منا يلهون بأقلامهم، كأنهم يريدون للناس مزيدا من نعاس، فلقد هانت على هؤلاء أقلامهم - ولا أقول هانت عقولهم؛ لأن عقولهم لحسن الحظ، لا تؤمن بشيء مما تجري به أقلامهم - هانت على هؤلاء أقلامهم فطفقوا يتحدثون إلى الناس عن أشباح، تمزق من العدم وتختفي في العدم، دون أن يدري أحد كيف ظهرت ولا أين اختفت، طفقوا يتحدثون إلى الناس عن بينات، تثبت لهم أن الأشياء قد تحدث أو لا تحدث، رغم أنف العلماء الذين يتبجحون، فيزعمون أن الأشياء مقدورة بأسبابها، بحيث يمكن حسابها بالقيراط والدانق، وأعجب العجب أن هؤلاء الكاتبين حين يشغلون الناس بأمثال هذه الأحاديث، يحسبون أنهم إنما يشرحون لهم معنى الأساس، الذي أردنا للدولة أن تقوم عليه، وأعني الأساس الذي جعلنا ركيزته: العلم والإيمان، فماذا يقتل العزيمة في النفوس، إذا لم تقتلها عقيدة كهذه تبثها في الناس؟
الإيمان بمعناه الصحيح حركة لا سكون، فالإيمان بالله عز وجل، يتضمن بالضرورة إيمانا بصفاته، وصفاته - تعالى - قيم يمكن أن تكون أمام الناس معايير للسلوك، فإذا آمنت بالله العليم القادر المريد البصير السميع ... إلخ، وجب أن يكون ذلك في الوقت نفسه إيمانا بضرورة العلم والقدرة والإرادة، والإلمام بحقائق الأمور عن طريق البصر والسمع (راجع في ذلك شرح الإمام الغزالي لأسماء الله الحسنى)، وبهذا يكون إيمانك دفعة دينامية نشيطة ساعية، وإلا فكيف تؤمن بضرورة أن تكون قادرا، دون أن تتحرك بالفعل الذي يثبت قدرتك؟ أو كيف تؤمن بضرورة الإرادة الماضية، دون أن يكون لك الهدف الذي تمضي بإرادتك إلى تحقيقه؟
إنه لا يكفي لترسيخ ركيزتي «العلم والإيمان» في نفوس الناس، أن نتناول أمامهم بعض ظواهر الكون، فنشرح لهم رأي العلم في حدوثها، ثم نختم لهم القصة بخاتمة تقول: إن ذلك كله من تدبير الله. لا يكفي أن نضيف للناس هذه الإضافة إلى شروحنا العلمية، لنضمن أن يجتمع في صدورهم العلم والإيمان؛ لأن هذه الإضافة لا تبعث أحدا على حركة ولا ترسم لأحد طريقة سير.
الإيمان لا يكون بأمر واقع؛ فأنت لا تشير إلى رغيف الخبز قائلا: إنني «أومن» بأن هذا رغيف خبز، بل تقول إنه رغيف خبز؛ لأني أراه بالبصر، وليس ما تراه العين أو تسمعه الأذن موضوعا ل «الإيمان»، بل هو موضوع لإدراك مباشر بالحواس، وأما الإيمان بمعناه المطلوب فهو ينصب على «المبدأ» و«الهدف»، ونحن لا نرى بالعين ولا نسمع بالأذن، ولا نلمس بالأصابع «مبادئ» ولا «أهدافا»، وإنما نتخذها اتخاذا عن إيمان بها؛ لنجعل من المبادئ بدايات للحركة، ومن الأهداف نهايات لها، على أن يكون الطريق من البدايات إلى النهايات مرسوما وفق ما عرفناه من قوانين العلوم، وهنا أكرر القول - على ضوء ما ذكره الإمام الغزالي في ذلك - بأن الإيمان بالله يتضمن إيمانا بمبادئ، هي مجموعة القيم أو مجموعة المعايير، التي تضبط طرائق سلوكنا نحو أهدافنا.
وليذكر الذين يحسبون أن الإيمان معناه الأشباح تظهر وتختفي، أو أن معناه هو ألا تسير الأمور مقدورة بأسبابها، ليذكر هؤلاء أن بناة الإسلام، إنما أقاموه على إيمان بالمبادئ والأهداف، ولم يقيموه على قصص تروى لينعس بها الصاحي، وليزداد بها الناعس استغراقا في نعاسه!
وأعود إلى رغيف الخبز، لأضيف إليه وجود العدو على أرضنا، فأقول: إن علمك برغيف الخبز، وعلمك بوجود العدو على أرضك، مرهونان بالبصر والسمع؛ ولذلك فلا هذا من قبيل «الإيمان» ولا ذاك، ولكن قل: إن إخراج العدو من أرضي هو «أهم» عندي من رغيف الخبز، تكن قد ارتكزت إلى «إيمان»، حين اتخذت لنفسك القيمة أو المعيار الذي تفاضل به بين الأشياء لتقدم أحدها على سواها، ذلك هو ما يجعل الإيمان قوة حية دافعة، لا مجرد صوت أجوف تنفرج عنه الشفاه.
من الكلامولوجيا إلى التكنولوجيا
قال شاعر قديم وهو يصف الإنسان الكامل كما يتصوره:
لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
أراد بذلك أن يقول إن الإنسان الكامل قوامه جانبان، هما: الشعور الذي يختلج به صدره، ثم التعبير بلغة اللسان عن ذلك الشعور؛ فالقلب الشاعر هو نصف طبيعته، واللسان الناطق هو نصفه الآخر، وأما ما يبقى منه بعد ذلك من أجزاء البدن، فهو إطار جيء به ليحمل ذينك العنصرين.
ربما يكون هذا الشاعر قد أصاب في رسم الصورة، التي تصور عصره فيما كان يصبو إليه ذلك العصر، من مثل إنساني أعلى؛ إذا لم يكن يطلب من الإنسان الأمثل عندئذ، أكثر من أن يضطرب جوفه بفكرة أو عاطفة، ثم يجري لسانه بما يصفح عن تلك الفكرة أو العاطفة بلفظ مبين.
فإذا رأينا ظروف الحياة في عصرنا، قد تغيرت تغيرا يقتضي ألا تكون هذه هي صورة الإنسان كما ينبغي له أن يكون، فليس الذنب في هذا ذنب الشاعر القديم، بل هو ذنبنا نحن؛ إذ جمدنا على صورة ذهب زمانها، وأخشى أن يكون هذا هو ما قد حدث، فما نزال إلى يومنا هذا ننسج حياتنا، على المنوال القديم نفسه؛ فصدور تضطرم بمشاعر الغضب أو الرضا، وألسنة تنطلق بالتعبير عما في الصدور، تعبيرا بالشعر حينا وبالنثر أحيانا، ثم لا شيء بعد ذلك، فمحطة الوصول عندنا هي، أن يكون مكنون الفؤاد قد أفرغ في عبارات لغوية؛ وذلك لأننا نظن فيما يبدو - جريا مع نموذج الشاعر القديم - أنه ما دام القلب قد انفعل واللسان قد نطق، فقد أدينا كل ما يمكن أن يؤدى.
لكن ماذا لو كان عصرنا هذا يأبى أن يتصور الإنسان على هذين النصفين؟ ماذا لو كان عصرنا يطالب الإنسان بنصفين آخرين، أحدهما يتألف من الفؤاد واللسان معا، وأما الآخر، وهو النصف الذي أهمله الشاعر - وربما كان ذلك لأن عصره كله قد أهمله - فهو جانب الفعل الذي يخرج الفكرة أو العاطفة إلى دنيا العمل، بل إن فلسفة عصرنا هذا لا يكفيها، أن يقال إن الفكرة وتنفيذها، جانبان يكمل أحدهما الآخر، بل تصر على أن تكون الفكرة أو العاطفة، هي نفسها العمل الذي يظهرها ويجسدها، فإذا وجدت جماعة يساروها الوهم، بأن رءوس أفرادها ممتلئة بالأفكار، وبأن قلوبهم مفعمة بالمشاعر، غير أن طريق العمل أمامهم مسدود، فاعلم عندئذ أن الرءوس في حقيقتها رءوس خاوية، وأن القلوب في واقعها قلوب فارغة، وإنما هو الوهم صور لأصحابه ما قد صوره.
كان المدار فيما مضى، هو القلب الشاعر الحساس، واللسان الناطق المبين، فأصبح المدار هو دينامية العمل؟ ففي أصلاب العمل، تسري الفكرة ويسري الشعور، وإذا لم يكن عمل فلا فكرة هناك ولا شعور، ولما كان جانب الصناعة في هذا العصر هو أهم الجوانب، ثم لما كانت هذه الصناعة مرهونة بآلاتها - والآلات علوم مجسدة ومهارات مكثفة، وليست قطعا من حديد - أقول لما كان الأمر كذلك، كانت الصورة الأساسية التي تجسد روح عصرنا، هي الأجهزة العلمية التي عن طريقها، نستدبر حضارة ونستقبل أخرى؟ فقل لي إلى أي حد استطاعت أمة، أن تشارك في ابتكار هذه الأجهزة العلمية، أقل لك كم سارت تلك الأمة في شوط الحضارة العصرية، فإذا كانت عكاظ فيما مضى، هي التي تحكم على درجة التفاوت بين الناس، بناء على جودة ما ينظمه شعراؤهم، فسوق الأجهزة العلمية هي عكاظ اليوم.
لا، لم يعد فؤاد الفتى نصفا ولسانه نصفا، اللهم إلا إذا أصر هذا الفتى، على أن يلوذ بعصر غير عصره؟ والأصوب أن يقال اليوم: دماغ الفتى نصف ونصف أجهزته العلمية، التي تتكثف فيها معارفه ومهارته! وأما ما عدا ذلك، فهو إما أن يكون نشاطا في خدمة تلك العلوم وأجهزتها، وإلا فهو جزء من حياة الإنسان الخاصة، التي لا بد منها لراحة نفسه أثناء ساعات الفراغ، لكنها لا تسهم بنصيب ظاهر في البناء الحضاري المشترك.
كانت «الكلمة» مدار الحياة فيما مضى، فأصبحت الآلة هي المدار ، وإذا قلنا «الكلمة» فقد أشرنا بالتالي، إلى ما تنطوي عليه من خلجات الفؤاد، وكذلك إذا قلنا «الآلة» فإنما قصدنا، إلى ما تنطوي عليه من علوم! وبعبارة يسهل على القراء حفظها نقول: إن النقلة الحضارية هي من مرحلة الكلامولوجيا - أو الكلام بكل ما يتعلق به من قواعد ومقاييس - إلى مرحلة التكنولوجيا، أو أجهزة الصنع بكل ما يتعلق بها من علوم. بالطبع لم يخل عصر من أجهزة وآلات، ولا يخلو عصرنا من جانب الكلام، غير أن طابع العصر مستمد من العنصر الموجه لتيار الحياة، ولقد كان هذا الموجه هو الكلمات في شتى صورها، وأصبح موجهنا اليوم هو الآلات وعلومها.
لقد أراد كاتب إنجليزي معاصر - هو الدكتور ليفس المفكر والناقد الأدبي، الذي بذل جهودا مثمرة في مراجعة القيم، التي نقيس بها الأدب والحياة معا - أراد هذا الكاتب أن يصور عصورنا في عبارة موجزة مكثفة، تحمل أخص خصائصه المميزة، فقال ما معناه إنه عصر «تكنولوجي بنتامي»، أي إنه عصر يقيم نشاطه على العلوم الطبيعية مجسدة في أجهزة، كما أنه عصر يجعل معيار التقويم لأي شيء، أو أي فعل ما ينجم عنه من منفعة؛ هذا هو عصرنا لمن أراد أن يعيش فيه: آلات ومنافع، ولنلحظ هنا أن ليفس حين أصدر كتابه الأخير، الذي ذكر فيه هذا القول، إنما أراد به أن يقاوم هذا الغلو في التعويل على الآلة، وعلى مقياس النفع دون سواه، لكن حقيقة العصر تبقى هي ما هي، سواء أحبها من أحبها أو كرهها من كرهها، إنه عصر لم يفسح في ساحته إلا أضيق مكان، للفتى الذي أشار إليه شاعرنا القديم، والذي نصفه فؤاد ونصفه الآخر لسان.
وللقارئ بعد هذا كله أن يقدر لنفسه، كم أسهمنا في دنيا العلوم وأجهزتها؟ وكم التزمنا في سلوكنا بمعيار المنفعة وحدها؟ ثم له أن يقدر كذلك كم فينا - إلى هذه الساعة - من فتيان جعلوا نصف حيواتهم لعواطف الأفئدة، ونصفها الثاني لزوابع الكلمات، ينطق بها المتحدثون شفاها، أو تجري بها أقلام الكاتبين في الصحف؟
استيفاء «الشكل» اللفظي والورقي هو - في معظم الحالات - كل شيء عندنا، فهل ملئت الاستمارات وكتبت التقارير؟ هل اجتمعت اللجان ودار فيها الحوار وسجل في محاضر؟ هل أشبع المتكلمون والكاتبون فينا العاطفة، وضخموا فينا الشعور بالذات؟ إذا كان ذلك قد تم على الوجه الأكمل، فقد تم لنا كل شيء، السبيل إلى حل مشكلاتنا، هي أن تنعقد مجالس وتأتلف لجان، بعضها يوصف ب «الأعلى»، ويترك بعضها الآخر بغير وصف، ليفهم بأنه «الأدنى»، فإذا ما انعقدت المجالس، وائتلفت اللجان - علياها ودنياها - استراحت فينا الضمائر، ولا عليك بعد ذلك أمر المشكلات.
وهل أنسى صباحا - وكانت الثورة في أيامها الأولى - دق فيه التليفون في ساعة مبكرة، وكان محدثي صديقا، عرفناه أيام الدراسة بطموحه الشديد، نحو صعود سريع في سلم المناصب، وسألني هل أصحب ركبهم في ذلك الصباح إلى جبل المقطم، لافتتاح عملية التشجير هناك، ببضع شجرات تغرس على سبيل البداية المباركة؟ قبلت صحبتهم فرحا بها وبهدفها، ولما أن اجتمع جمعنا هناك، وأخذ من أخذ في غرس الشجيرات، درت ببصري باحثا عن مصدر للماء فوق تلك البقعة الصخرية، فلم تقع عيني على مصدر، وهنا سألت صديقي ذاك: من أين لهذه الشجيرات ماء الري؟ فابتسم ابتسامة أعرفها فيه وأعرف دلالتها، وقال: أما زلت يا فلان «عبيطا»، تأخذ كل الأمور بالجد؟ يا صديقي الطيب إنها «مظاهرة» مفيدة، سواء ازدهرت الشجيرات أم ذبلت، وقبل أن أنسى، أود أن أقول إن صديقي ذلك، قد ولي الوزارة بعدئذ مرتين.
عزلة وسط الزحام
شعور غريب هو ذلك الذي خامر ويخامر نفرا غير قليل من أفذاذ الرجال، وأعني ما يشعرون به من غربة أو من عزلة، برغم وجودهم في أوطانهم بين أهلهم وذويهم، فليكن تعليل هذا الشعور عند هؤلاء ما يكون، فهو على أية حال شعور يدل على أن التجانس الفكري أو الشعوري، ليس كاملا بين هؤلاء وبين من يحيطون بهم، دون أن يكون في الأمر تنكر وعقوق من ناحيتهم، أو أن يكون فيه صواب مؤكد هنا، وخطأ مؤكد هناك، لكن الأعم الأغلب في هؤلاء، أن يكونوا أنفذ فكرا وأغزر شعورا من عامة الناس، فأولئك بالنسبة لهؤلاء كجبال شمخت برءوسها العالية، التي تجاوز منطقة السحاب؛ فتصفو لها الرؤية دائما، على اختلاف في ذلك مع السهول، التي قد تجثم عليها طبقات كثيفة من السحاب، تحجب عنها رؤية الشمس إلى حين.
مثل هذه الغربة أو العزلة، التي قد تنتاب المرء، وهو بين أهله ومواطنيه، أحسها أبو حيان التوحيدي، فقال وهو بصدد تصويره بقلمه البارع وفكره اللماح: «... أغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه.» فلماذا أحس التوحيدي هذه الغربة الغريبة؟ لا بد أن يكون ذلك لفجوة فصلت بينه وبين سائر الناس، كأن يرى نفسه جادا ويراهم هازلين، أو أن يرى نفسه صادقا ويراهم كاذبين، فتوجه إليهم بقول فيه حرارة القلب وصفاء النظر: «... إلى متى نعبد الصنم بعد الصنم؟ إلى متى نقول بأفواهنا ما ليس في قلوبنا؟ إلى متى ندعي الصدق والكذب شعارنا ودثارنا؟ إلى متى نستظل بشجرة تقلص عنا ظلها؟ إلى متى نبتلع السموم ونحن نظن أن الشفاء فيها؟»
وشعور كهذا أيضا أحسه ابن باجة، فألف كتابا هو من عيون تراثنا الفكري، جعل عنوانه: «تدبير المتوحد»، والمتوحد هو من يحس العزلة في ذاته، برغم أنه يعيش في زحام كثيف من الناس، ويقول في وصفه إنه «الإنسان الفاضل يعيش في مدينة غير فاضلة.» وقد يكون في المجتمع أكثر من فرد واحد من هؤلاء الفاضلين، لكنهم لا يكونون إلا قلة قليلة على كل حال، يسميهم ب «النوابت» (من النبات الذي ينمو من تلقاء نفسه، وكأنه يتحدى عناصر بيئته).
ولقد شاع في عصرنا هذا الحديث عن «اللامنتمي»، ولعل أبرز فرق بين النابتة المنعزل عند ابن باجة، وبين اللامنتمي الشاعر باغتراب عند أدباء عصرنا ومفكريهم، هو أن النوابت كانوا قلة ضئيلة، تميزت من سواد الناس بفكر نافذ أو شعور مرهف، وأما اللامنتمون اليوم فهم الناس أجمعون في عصر الصناعة الراهن، ولكن الجانب المشترك بين مفكر الأمس ومفكر اليوم، هو الرؤية التي ترى في جمرة الناس جماعة تعيش بيولوجيا وفسيولوجيا، لكنها لا تعيش على أسس من المنطق والجمال.
هو إذن شعور يساور نفرا من الناس في مختلف العصور، ولأسباب قد تختلف باختلاف تلك العصور، فقد يكون العصر ممعنا في معاييره المادية، وعندئذ ترى من هو أميل إلى الحياة الروحية، قلقا بين الناس، حتى لقد يشتد به هذا القلق فينعزل بالفعل - لا مجرد عزلة سيكولوجية وهو مع الناس - بل عزلة بجسده، فيختفي في كهف من الجبل، أو يلوذ بصومعة في متاهة الصحراء، أو ربما أمعن الناس في مجاوزتهم لدنيا الواقع، مستجيرين بما وراء هذا الواقع من غيب، يلتمسون عنده الراحة مما يحيط بهم من مرارة وعناء، فها هنا أيضا ترى المتشبث بدنيا الواقع المشهود قلقا بين الناس، يشعر معهم بالاعتزال والغربة، إذا قال قولا أنكروه عليه، وإذا آثر الصمت أنكر ذلك هو على نفسه.
هي غربة تعزل صاحبها عن قومه، برغم وجوده معهم على صعيد واحد، وإن فيها لخيرا يعود على الناس، ووبالا يعود عليه، أما هم فكثيرا ما يأخذون عن هذا الغريب المعتزل، علوما وفنونا ومبادئ للحياة الأفضل، وأما هو فكثيرا ما تنصب على رأسه اللعنات؛ لشذوذه عن الجمع المتجانس.
مراجعة الحياة الجارية لتقويمها وتصحيحها، هي إحدى دعائم البناء الاجتماعي نفسه؛ ولأنه إذا لم يكن في جوف هذا البناء من يصيح بأهله صيحات النذير، كلما رأى خللا في أركان البناء وسقوفه وجدرانه؛ تحتم أن ينهار ذات يوم على رءوس ساكنيه، بل إنها لخصيصة من أهم خصائص الأجهزة العلمية العصرية المعقدة - كالحاسبات الإلكترونية مثلا - أن تعد بحيث تصحح نفسها بنفسها، فإذا وقع فيها الخطأ، ارتد هذا الخطأ نفسه إلى مصدره ليعود صوابا، قبل أن تكمل العملية الآلية سيرها إلى غايته، فلو نظرنا إلى مجتمعنا من زاوية كونه آلة ضخمة مركبة الأجزاء والعناصر، كانت مراجعة النقد بمثابة ما يسمونه في الأجهزة العلمية بإعادة التغذية، فبدل الغذاء الخاطئ نضع فيها الغذاء الصحيح، وإلا لتضخم الخطأ وباض وأفرخ، وضرب فينا بجذوره واستحال على الناقدين منا أن ينالوا منه شيئا.
إن حديثي هنا عن المغترب وهو في داره، المنعزل وهو في زحمة الناس، فقد يكون ذلك من علة مرضية، وعندئذ يكون هو الانحراف الذي يضر صاحبه ويضر الناس معا، وليس هذا هو ما أردت الحديث عنه وإبرازه أمام الأبصار، ولكنه كذلك قد يكون - لا عن انحراف مرضي - بل عن امتياز عند صاحبه في الفكر والشعور، وها هنا يكون الضلال أفحش الضلال، في أن نردع هذا الغريب المعتزل بفكره وشعوره، رغبة منا في أن تسوى الأرض عاليها مع سافلها ... المتصوف الذي يهجر الناس، وينعزل في محرابه متعبدا، هو بعزلته تلك أشد احتجاجا على جور الحكومة، ممن يملئون الدنيا صياحا بكلمات الاحتجاج، ولا عجب إن رأينا بعض الأمراء الحاكمين في تاريخنا القديم، يضيقون ذرعا بمن ترك الناس وانعزل؛ لأنه إنما يجعل من وجوده كله لسانا ناطقا بالثورة على ما هو كائن وفاسد. وفي التراث الأدبي - أعني التراث الإنساني بغير تحديد لقومية معينة - صور كثيرة للعزلة، التي تجسد تمردا مطلوبا ليوقظ الغافلين، من ذلك مثلا تلك القصص الكثيرة، التي تروى عن سفينة تتحطم، لينفرد رجل واحد آخر الأمر على الجزيرة، فهي صورة للرغبة في الفرار، كقصة روبنسون كروزو التي نعرفها جميعا، وقصة أخرى في عصرها مجهولة المؤلف اسمها «الراهب».
الموضوع يغريني بفيض من حديث، لكن جملة واحدة قد تفصح عما أريد: إن من الأفراد من يستحيل على طبائعهم، أن تخرط في قوالب الجمهور، كلا ولا هي مصلحة الجمهور، أن يذوب فيه أمثال هؤلاء الأفراد، وإلا لما كان الناتج إلا أن يصبح المليون مليونا وآحادا.
الشرك الأصغر
كانت حياتهم - كما رأيتها - كحفل تنكري من طراز بديع، اختفت فيه الوجوه وراء أقنعتها في إحكام تام، حتى لقد كان من أعسر العسر على مشاهد الحفل، أن ينفذ خلال القناع ليكشف عمن وراءه: من ذا يكون؟ أو ماذا يكون؟ إذ قد يبدي له القناع بشاشة في لمعة العينين أو بسمة الشفتين، فإذا الحقيقة تنكشف له فيما بعد، عن يأس وجهامة وعبوس، أو هو قد يرى في القناع سحنة مجنونة بلهاء، حتى إذا ما كشفت له الأيام عما وراء القناع، رأى طلعة تشع الحكمة الرزينة من قسماتها ... وهكذا كانت الحال في حياة الفكر عند هؤلاء الناس، فلم يكن الفاحص ليرى في كتاباتهم دليلا واحدا، على أنها قد جاءت صورة صادقة لكاتبيها؛ إذ قد يرى على الصفحات مرحا، ثم يعلم عما في نفس كاتبيها من كآبة سوداء، أو هو قد يرى على صفحاتهم ورع الأتقياء، ثم تنكشف له حقيقة الأمر، فإذا الورع التقي مظهر جرى به القلم على الورق، وأما الفؤاد فملؤه فجور!
تلك هي العبارة التي سمعتها - أول ما سمعت - من رجل، لم يكن بيني وبينه أواصر الصداقة المتينة، لكن واجبا اجتماعيا اقتضاني زيارته في يوم عيد، دخلت غرفة مكتبه لأجده هناك مكوما في ركن أريكة وثيرة، وقد لف جسده بعباءة غريبة، لم يظهر له منها إلا وجه اكفهرت ملامحه، وجدته يتحدث إلى زائريه حديثا تدفق كأنه السيل المنهمر، يتعذر إيقافه لحظة واحدة، تتيح للداخل أن يلقي بسلامه، أو للراحل أن ينطق بتحية الوداع، وكان واضحا لنا - نحن الجالسين أمامه نستمع - أنه ربما أصاب فيما يقول وربما أخطأ، لكنه في أي الحالتين - فيما يبدو - صادر عن صدق أمين في روايته، عن فكره وشعوره، ومضى في حديثه ليقول: «رياء! رياء! حياة هؤلاء الناس الثقافية معظمها رياء، ينطق فيها المتكلم بما ليس يعتقد أنه الحق، ولقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: إياكم والشرك الأصغر! قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء!»
لم أكن أعلم من هؤلاء الذين يتحدث عنهم هذا الرجل، ولا أردت السؤال؛ لأنني إنما قصدت إلى زيارة قصيرة صامتة، ولقد خيل إلي أنني حتى لو أردت مقاطعته بسؤال لما استطعت، لكن أحد الزائرين استطاع الدخول في مجرى التيار الدافق، وسأل قائلا: كيف يكون الرياء شركا يا أستاذنا؟ فأجابه الأستاذ: الشرك الأكبر هو الشرك بالله، فهو انتحال حق إلى جانب الحق الأحد، وعلى هذا القياس يكون الرياء شركا أصغر؛ لأنه مزاوجة بين باطن وظاهر، فيبطن المنافق شيئا ويظهر للناس شيئا آخر، والأغلب أن تكون هذه المزاوجة للخداع، ثم مضى الرجل في حديثه ليقول: «ولقد أصيب هؤلاء الناس في حياتهم الثقافية بهذا الشرك الأصغر، بأكثر من معنى واحد: فالكاتب وعبارته كثيرا ما يتنافران، وهذا أحد المعاني التي أردتها، ثم أردت معه معنى آخر، وهو أن أحكام المحكمين قلما تجيء مطابقة لعقائدهم، فهم - بعبارة الإمام الغزالي - يعرفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق، فالحق عندهم هو ما خدم صاحب الجاه، الذي في وسعه أن ينفع أو يضر ...»
قال السائل مقاطعا: أهي الطبيعة البشرية التي يصعب تغييرها؟ أم هو مرض عابر أصاب القوم، في أعز جانب من جوانب حياتهم، وأعني جانب الأدب والفكر؟
فأسرع المتحدث بالجواب: إنهم لا يكفون عن المطالبة بإعادة تشكيل الحياة؛ ليسايروا ركب الحضارة الجديدة، فكيف يتحقق لهم شيء من ذلك، إذا لم يكن المبدأ هو التسامي بدوافع الطبيعة البشرية، حتى لو كان الرياء جزءا من الطبيعة، التي فطر عليها الإنسان؟ وماذا تكون الحضارة في أي صورة من صورها، إذا لم تكن إلجاما لغرائز الطبع؛ لنتجه بها حيث نريد لها أن تتجه؟ إن الرياء في حياة الفكر والأدب شر من المرض، المرض لا يرائي صاحبه ولا يجامل، ولو فعل لأودى بصاحبه إلى موت سريع، إنه يظهر نفسه في صدق صريح، فيراه الرائي صفرة على الوجه، أو رعشة في الأطراف، أو غير ذلك من الصور التي يتبدى بها المرض لأصحابه، أما هؤلاء الناس في حياتهم الثقافية، فينطقون بما تقتضيه الظروف، لا بما يمليه الحق في عقولهم وقلوبهم.
صمت الرجل لحظة ليلقط أنفاسه، ثم لم يلبث حتى عاد إلى الحديث: «كان ينقصهم الرأي الشجاع، الذي يوحد في الناس بين باطن وظاهر؛ فقد أفهم أن يرائي الإنسان عدوه ليخدعه، ولكني لا أفهم أن يرائي نفسه فينطق بالباطل وهو يعلم أنه باطل، نعم إنه لأمر عسير على عامة الناس، أن يوائموا بين البواطن والظواهر، لكن ماذا يبقى من المفكر، وماذا يبقى من الأديب، إذا هو لم ينقل إلى الناس صورة الحق كما رآه؟ مثل هذه الشجاعة أمر عسير لكنها هي التي تصنع المتحضر، بل هي التي تصنع العابد القانت. لقد قرأت في هذا التوافق بين باطن المرء وظاهره، كلاما جميلا لكثيرين من أسلافنا الأمجاد، أذكر لكم منهم على سبيل المثال الحكيم الترمذي، في قوله إن الحياة الطيبة لا تدرك لمجرد الرغبة فيها أو التظاهر بمظاهرها، وإنما تدرك عندما تصبح تلك الحياة نشاطا واحدا متكاملا، يحتوي الكائن البشري من جميع أركانه، فيحتويه فكرا وإرادة، ونية وعملا، فإذا تكلم متكلم، أو إذا كتب كاتب، جاءت كتابته أو جاء كلامه صورة أمينة، لما يعتقد أنه الحق.»
هنا سمعت صوتا في باطني يقول: إن هذا الرجل بحديثه، كأنما يشير إلى مفتاح وحيد، لمن أراد لنفسه كرامة الإنسان، ولم يلبث الرجل أن عاد إلى الحديث: «لم أطق صبرا على حياة أولئك الناس، وأعني حياتهم في دنيا الفكر والفن والأدب؛ فهذه هي دنياي في المقام الأول، كما قد تعلمون، لا، لم أطق صبرا على حياتهم؛ لأنها مثقلة بالرياء، ويشوبها - تبعا لذلك - تسرع في الأحكام، وتخبط في الاختيار، لقد تقدمت بي السنون يا أصدقائي، ورأيت من جوانب حياتهم الفكرية كثيرا وسمعت كثيرا، رأيت كيف يقول القائل منهم رأيا تحت ضغط الظروف، ثم ينتقل إلى الغرفة المجاورة ليتنصل منه، التقويم الثقافي عندهم قائم على «الكليشيهات» الجاهزة المحفوظة، فإذا سألتهم: من الكاتبون؟ ومن الشعراء؟ أجابوك بقوائم حفظوها عن ظهر قلب لكثرة ما رددوها؛ ولذلك كان الفالحون في حياتهم الثقافية، إنما جاءهم الفلاح حين استطاعوا بوسائل النشر، أن يدسوا أسماءهم وسط حبات المسبحة، التي تكر على الألسنة بغير تفكير، فعندئذ تراهم يحصدون، حتى ولو لم يشاركوا - إلا بأقل الجهد - في حرث الأرض وبذر البذور ورعاية الزرع لينمو ويثمر، صدقوني يا أصدقائي، فلقد تقدمت بي السنون، ورأيت من حياتهم كثيرا وسمعت كثيرا، رأيت وسمعت نقادا يقبلون ويرفضون، دون أن يقرءوا للمقبول عندهم أو المرفوض صفحة واحدة من كتاب، إنه لتكفيهم في ذلك إشاعة يسمعونها، فيزيدونها بدورهم شيوعا، الحياة الثقافية عند هؤلاء الناس - يا أصدقائي - تنطوي على زيف كثير، العبارة عندهم لا تعبر، الصورة عندهم لا تصور، النقد عندهم لا يمحص، الرفع والخفض عندهم يستندان إلى كل العوامل، إلا أن يستند إلى العمل وقيمته، وطوبى - عندهم - لمن أتقن فن السباحة في البحر المائج، والويل - عندهم - لمن وقف عند الشاطئ، يرتقب ظهور العدل في دنيا الفكر والفن والأدب، مع ظهور المهدي المنتظر، وقد طال انتظاره، إلا أنه «الشرك الأصغر»، كما قال عنه رسول الله ...»
عدت إلى داري، ولم يزل صوت الرجل يملأ مسامعي، وحاولت جهد طاقتي أن أرده عني، مستعيذا بالله من وسواس خناس، وحمدت الله أن لم تكن حياتنا نحن مثل حياتهم.
توابع وزوابع
«التوابع والزوابع» عنوان لكتاب من عيون تراثنا العربي، كتبه ابن شهيد الأندلسي، قبيل كتابة أبي العلاء لرسالة الغفران بزمن وجيز، وبين الكتابين شبه ليس هنا مكان الحديث فيه، فلقد طار الخيال بابن شهيد إلى وادي الجن، حيث رأى بين الجان في ذلك الوادي العجيب، خصومات أدبية بين المؤيدين والمعارضين، بالنسبة لكل من عرفهم عالم الأنس من كتاب وشعراء، فلكل كاتب ممن نعرفهم في حياتنا نحن، ولكل شاعر، تابع من الجن يحبه ويدافع عنه، ولقد فرق المؤلف بين أنصار الشعراء وأنصار الكتاب تفرقة لفظية، فأطلق على أحد الفريقين اسم «التوابع»، وعلى الفريق الآخر اسم «الزوابع».
وصور لنا هؤلاء الأتباع جميعا تصويرا مناسبا يتفق مع صفات الشاعر أو الكاتب الذي جاء «التابعة» أو «الزابعة» ليناصره، مثال ذلك أن يكون صاحب المتنبي فارسا على فرس بيضاء، ينظر من مقلة ملئت تيها وعجبا، وأن يكون شيطان أبي نواس مخمورا، افترش أضغاث الزهور، واتكأ على زق خمر، وأن يكون صاحب الجاحظ شيخا أصلع، جاحظ العين اليمنى، عليه قلنسوة طويلة، يكره السجع والتكلف، وهكذا.
دارت الحرب النقدية، التي ترفع شاعرا وتخفض شاعرا، وتصب الضوء على كاتب، وتخفي في الظلام كاتبا، دارت تلك الحرب النقدية - لا بين الشعراء والكتاب أنفسهم - بل دارت بين الذيول والأتباع، وها هنا تكمن الفكرة، التي أريد عرضها على القارئ، وخلاصتها أن المكاييل والموازين التي تقوم بها أقدار العاملين في دنيا الفكر والأدب - عندنا وعند غيرنا - تخطئ بمقدار ما تصيب، فقد يحدث أحيانا أن تجيء الشهرة لمن لا يستحقها، كما يحدث - بالطبع - أن يظفر بها من هو أهل لها، وعلة الخلل عندما تختل الموازين والمكاييل، هي في هؤلاء «التوابع» و«الزوابع»، الذين تضلهم الشياطين، فيطبلون لأنصارهم ويزمرون، لتكون ثمرة صياحهم مجدا لسادتهم، الذين يهللون لهم ويكبرون، وكثيرا جدا ما تؤتي شجرتهم أكلها، وأعجب عجبي هو أن هؤلاء التوابع أو الزوابع، تأخذهم حماستهم لسادتهم، لا لنفع يعود عليهم، ولا دفاعا عن فكرة يؤمنون بصوابها، بل ليؤكدوا لأنفسهم الشعور بالتبعية، كأنما يمتعهم أن يكونوا أذنابا وأتباعا، فإذا كان في الأمر رئيس ومرءوس - مثلا - تبرع المرءوس بمناصرة رئيسه، فجعل منه شاعرا أو كاتبا أو باحثا عالما، ولا عليه أن يكون للرجل نصيب من ذلك كله أو لا يكون، فليس من الحالات النادرة في حياة الناس الثقافية، أن يعلو الصيت برجل حتى يبلغ الأوج، وأن تمنحه الدولة وهو في أوجه ذاك ما يتناسب معه من أوسمة وجوائز، ثم ما هو إلا أن تمضي السنون، وتزول دواعي التأييد المفتعل، فإذا صاحبنا قد هوى من أوج إلى حضيض، والعكس صحيح كذلك، بمعنى أن ينخسف الرجل في عصره لافتقاره إلى أنصار، يدقون له الطبول وينفخون في المزامير، ثم يلمع له نجمه بعد ذلك، حين يقام للتقدير ميزان الحكم النزيه، ومن هنا أوجبت الضرورة على رجال النقد، أن يراجعوا أسس التقويم عصرا بعد عصر، حتى تثبت القيمة لمن يستحقها، ويذهب الباقون في غمرة النسيان.
إن دنيا الفكر والأدب شبيهة بدنيا البيع والشراء، فهنالك في دنيا البيع والشراء، نوعان من عوامل ارتفاع الأسعار وانخفاضها، أحدهما وهو السوق المعتادة، التي تحمل على الرفع والخفض فيها، عوامل يمكن تقديرها بضبط الحساب ودقته، والآخر هو «صالات المزاد»، ففي هذه الصالات قد تباع السلعة النفيسة بأبخس ثمن، أو تباع السلعة الخسيسة بأعلى ثمن، فالعلاقة في المزاد مبتورة - أو تكاد - بين جودة السلعة المعروضة، وثمنها الذي يرسو عليه المزاد، وكذلك الأمر في دنيا الفكر والأدب؛ فلهذه الدنيا سوق، ولها أيضا «صالة مزاد»، أما السوق فهي ما ينتهي إليه حكم الناس، على قيمة المفكر أو الأديب، بعد طول تمحيص وتحليل، على مدار الزمن، وأما «صالة المزاد»، فهي ما يح دث لرجال الفكر والأدب في عصرهم، حين تكاد تنقطع الصلة بين جودة الإنتاج وثمنه، الذي يدفع لصاحبه شهرة ومالا وأوسمة وجوائز تقدير.
وهناك مثلا يبين لك كم تفعل الأهواء فعلها في التقدير.
فلا بد أن يكون القارئ على علم بمكانة «أزرا باوند» في عالم الشعر الحديث؛ فهو الذي يكاد يجمع الرأي عليه، بأنه في ذلك عالم الشعر الحديث، فهو الذي يكاد يجمع الرأي عليه، بأنه في ذلك العالم الشعري إمام في طليعة الطليعة من رواده، ولقد عرف أزرا باوند بعداوته لليهود، حتى جعل هذه العداوة جزءا ظاهرا في شعره، ولعله لم يهجر وطنه أمريكا، ليقيم في إيطاليا، إلا ليجد فرصة أوسع للتعبير عن كراهيته لهم، ولقد أقام تلك الكراهية على مسلكهم في دنيا الاقتصاد، مما لا يتفق مع كرامة الإنسان، كما يتصورها هو، وكما ينشدها للإنسان في حياته المثلى.
فقد حدث منذ عامين، وكان ذلك قبيل وفاة الرجل بقليل (مات في خريف 72) أن رشح عند «الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم» لنيل وسام الشرف - وكانت سنه عندئذ سبعة وثمانين عاما - فرفضت إدارة الأكاديمية قبول الترشيح، وبنت رفضها على ما أسمته أسبابا خلقية، تمس بعض جوانب حياته، بعيدا عن دائرة الشعر وتقديسه، ويلفت النظر هنا بصفة خاصة أن الأكاديمية، أوصت بألا تذاع تفصيلات المناقشة التي دارت بين الأعضاء، لكن السر سرعان ما ذاع في الناس وفي الصحف، وهو أن مجلس إدارة الأكاديمية فيه أعضاء يهود من ذوي النفوذ، وقيل صراحة بأنه لا يجوز أن يكرم شاعر كهذا بوسام الشرف، مع عدائه السافر للسامية، وينتمي إلى تلك الأكاديمية نحو ألفين وسبعمائة عضو، فكم منهم احتج على هذا الخلط بين تقويم الشعر والموقف الاجتماعي السياسي؟ احتج ثلاثة أعضاء واستقالوا، ووافق الباقون على حرمان الشاعر من التكريم إرضاء للأعضاء اليهود، وورد ذلك صراحة في خطاب سري، أرسله مدير الأكاديمية إلى الأعضاء.
تلك كانت قيمة أزرا باوند في «صالة المزاد»، أما قيمته في سوق الشعر على مدى الزمن فشيء آخر، لم يكن يساوي في صالة المزاد وساما، وهو أعظم شعراء هذا العصر؛ إذ هو الشاعر الرائد، الذي قدم إليه ت. س. إليوت مخطوط قصيدته «الأرض اليباب» التي يقال عنها إنها أهم وأخطر، ما أبدعه الشعر على طول القرن العشرين، لكثرة ما أثارته بين نقاد الأدب في العالم كله، من تحليلات وتأويلات ومجادلات. أقول إن أزرا باوند كان هو الشاعر الرائد الذي وضع بين يديه ت. س. إليوت رائعته تلك، ليرى فيها رأيه، وليصلح منها ما شاء أن يصلح، قبل طبعها ونشرها، فحذف منها باوند ثلثها - وقيل بل مما يقرب من ثلثيها - وخلع عليها وحدة كانت تنقصها؛ هذا الشاعر الرائد لم يكن يساوي في صالة المزاد التي أقامتها الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، وساما لتكريمه، وأما في سوق الأدب التي يستند فيها التقويم إلى أسس موضوعية، فسوف يكون له القدر الرفيع في تاريخ الأدب، ما بقي للأدب تاريخ.
وأعود إلى ابن شهيد وكتابه «التوابع والزوابع» لأختم هذا المقال، بخلاصة لما ختم به كتابه ذاك؛ ففي تلك الخاتمة زعم أن بغلة وحمارا كانا من الشعراء، وانعقدت المحاورة بين «التوابع» في وادي الجن، ليقرروا أيهما أجود شعرا البغلة أم الحمار؟ واتجه الرأي نحو تفضيل البغلة على الحمار، وكان إلى جانب المكان الذي انعقدت فيه المحاورة، بركة ماء تسبح فيها إوزة أديبة لها دراية بالشعر ونقده، وأغضبها هذا الحكم الجائر؛ لأن شعر الحمار في رأيها أجود من شعر البغلة، بدرجة لا تترك مجالا للتردد إلا عند أصحاب النزوة والهوى.
فكانت هذه الخاتمة سخرية لاذعة، لا أدري ماذا قصد بها ابن شهيد، لكنها سخرية ترد إلى خاطري، كلما رأيت «توابع أو زوابع» - عندنا أو عند غيرنا - يناصرون أو يعارضون، أو يفاضلون في الفكر والأدب بين بغلة وحمار.
نرجسية بغيضة
مختلفان نحن يا صاحبي في طريقة النظر؛ تريد أنت أن تديم الغزل في ملامح صورتك، فلا تبصر منها إلا الحسن الجميل، وأريد أنا ألا أطيل الوقوف عند مواضع الجمال والحسن - وهي كثيرة - لأفرغ لأوجه النقص الشائهة، فأبرزها أمام الأبصار لعلها تصلح، هل سمعت بنارسيس - أو نرجس - في الأسطورة اليونانية القديمة؟ لم يكن نارسيس قد رأى وجهه في مرآة؛ فلم يكن يعرف شيئا عن ملامحه، فما إن شهد صورة وجهه، ذات يوم على سطح الماء حتى فتن بها عشقا، لكنه كان كلما أراد أن يضم هذا الحبيب الطارئ بين ذراعيه، اضطرب الماء، واضطربت معه صورة الحبيب، فامتلأ صدره هما وغما، ولبث في يأسه يذبل ويذوي حتى تحول إلى فناء، وأرادت عرائس الماء، أن تصون رفاته في قبر تعده له، فلم يجدن من جسده إلا نرجسة نبتت على حافة الغدير. وجاء علماء النفس في عصرنا، فاختاروا اسم «النرجسية» عنوانا لمن أحب نفسه، حتى عميت عيناه عن نقائصها.
مختلفان نحن يا صاحبي: فلقد أوغلت فيك النرجسية إيغالا، حتى كرهت أن يشار لك إلى عيب فيك، وأما أنا فقد أخذت مني الواقعية، مأخذا قيدني إلى الأرض وأهلها، حتى لم أعد أطيق الطيران عنها مع وهم الخيال. أتذكر كيف صممت أذنيك عن سمع حديثي، حين هممت بالتحدث إليك عن تلك الفجوة المخيفة، التي تفصل - عند بعضنا - بين القول والعمل؟ إن الذي حز نفسي حزا، هو علمي بأنك ما صممت أذنيك عن سمع حديثي ذاك لأنه كذب، بل إنك قد فعلت ذلك لعلمك أنه صادق، فما الذي أغضبك يا صاحبي من الحق يعلن في الناس؟ فيم إشفاقك من أن يتعرى نفر منا قليل، أصيب بهذه الفجوة المخيفة حتى لنخشى أن يصيبنا معه؟ وهل زاد حديثي عنهم يومئذ، عن أن يكون بسطا للقول الكريم:
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون .
أتعرف من هم أولئك الذين عنيتهم بحديثي ذاك؟ لم يكن بينهم الفلاح الذي يعزق الأرض ويحرثها، ويرويها ويرعاها أكثر مما يرعى بنيه، والذي لولا كدحه هذا كل يوم، منذ يبزغ الفجر إلى أن تغيب الشمس، لما كان بين أيدينا قمح نأكله، ولا قطن نبيعه أو ننسجه، فلا فجوة هناك في حياة الفلاح بين قول وعمل؛ لأن قوله هو نفسه ضربات فأسه، كلا، ولا هو الخباز الذي يصطلي اللهب ساعات متصلة، والذي لولاه لما وجدت أنت ولا وجدت أنا رغيف الخبز على موائد الطعام ... لا، إنه لا فجوة بين قول وعمل عند العاملين بكل صنوفهم، الطبيب في المستشفى، والمهندس في المصنع، والمدرس في قاعة الدرس، عامل البريد، وعامل النقل والبقال والكواء والخياط ... كل هؤلاء عاملون لم أقصد إلى أحد منهم، حين حدثتك عن الازدواجية المخيفة التي تفصل - عند قلة بارزة من الناس - بين القول والعمل، وهو الحديث الذي لم يصادف عندك هوى فسددت عنه أذنيك، لم أكن أقصد إلى أحد من هؤلاء العاملين الألوف، الملايين؛ لأن أحدا من هؤلاء جميعا، لم ينعم عليه الله بترف التأرجح بين دنيا القول ودنيا العمل، فحياتهم توشك أن تكون عملا كلها، بلا قول يسبقه أو قول يلحقه، اللهم إلا كلمات متقطعات يسمرون بها، مع أهليهم ساعة إفطار أو ساعة عشاء.
لكن الذين قصدت إليهم بحديثي الذي أغضبك، قلة قليلة بضاعتها كلام، هي قلة تمسي في كلام وتصبح في كلام، فيرفعهم كلامهم هذا إلى صدارة ملحوظة، لقد قلت لأحدهم ذات يوم، وكنت على صلة به تجيز مثل هذا القول، قلت له: ترى لو جمعنا كلامك كله، الذي ظللت تمسي به وتصبح عاما بعد عام، فكم رغيفا من الخبز يخرج منه للجائعين؟ كم ثوبا ننسجه منه لمن ينقصهم الكساء؟ كم مترا من الطريق نرصفه؟ وكم جدارا نبنيه؟ أليست هي يا صاحبي طواحين تملأ أوعيتها هواء، فيخرج لنا من عيونها هواء، ويظل الجائع في حاجة إلى الرغيف، ويظل العاري في حاجة إلى الثوب، ويظل الطريق المتهدم ينظر من يرصفه، والجدار من يبنيه؟
ولو كان أولئك الذين يملئون أوعية الطواحين هواء لتخرج للناس هواء، يقصرون مشغلتهم على أنفسهم، لتركناهم وشأنهم حتى ولو رفعتهم طواحينهم تلك إلى الصدارة الملحوظة، لكنهم يجرون الفلاح والعامل وربة البيت، والطبيب والمهندس والمدرس، وراصف الطريق وباني الجدار وخابز الرغيف، يجرونهم من ميادين العمل؛ ليشهدوا الطواحين وهي تعبأ بالهواء، ثم وهي تلفظه هواء، وينصرف المتفرجون بعد الموكب: لا الجائع قد طعم، ولا العاري قد اكتسى، ولا المريض قد برئ، ولا الجاهل قد زالت عنه غشاوته ... وقلب المأساة يا صاحبي هو في أن تكون هذه «الشطارة» سلما للنجاح، فلماذا غضبت يا صاحبي، حين هممت أتحدث إليك عن هذه القلة الكاسبة بلا عمل؟ أهي النرجسية البغيضة قد أبت عليك، أن يشار فينا إلى عيب يعاب؟
يا صاحبي هذا وطنك ووطني، هذا بيتك وبيتي، فمن منا ينافق من؟ لو كنا نزلاء بيت لا نملكه، لنافقنا رب البيت ابتغاء حياة آمنة، لكننا نسكن بيتا نحن أصحابه، فهل نسكت عن جدار تشقق أو باب فسدت مفاصله؟ أم تريدني أن أقسم لك بالله العظيم - أولا - بأن البيت بيتنا لكي تؤمن حقا بأننا مالكوه؟ إذن فأنت تريد من يقسم لك هذا القسم العظيم، بأن الشمس تشرق في الصباح وتغرب في المساء، وأن المربع قائم الزوايا والمثلث ذو ثلاثة أضلاع!
هي قلة قليلة منا تكسب مناصبها بالكلام، وأما الكثرة الكاثرة فينا فلا تعرف لقمة العيش طريقها إلى أفواههم، إلا بعد عمل كادح، وكل ما خشيته وأخشاه، هو أن يكون لتلك القلة الكاسبة، أثرها في صرف الناس عن مواقع العمل، وأن الوطن ليكسب كسبا كبيرا، لو أن تلك القلة نفسها ارتدت هي الأخرى إلى ميادين عملها، فكلهم كان في الأصل صاحب عمل منتج، ثم تركه ليعيش حياة الكلام، لما أن وجدها أجدى عليه وعلى عياله، منهم أستاذ الجامعة والمهندس والمدرس والطبيب والعامل، ولست أعقل أن يكون أستاذ القانون - مثلا - أو أستاذ الاقتصاد أصلح في أي مكان آخر منه أستاذا للقانون أو الاقتصاد، لست أعقل أن يكون للطبيب مكان أنسب له، من مكان يطب فيه للمرضى، وكذلك قل عن المهندس والمدرس والعامل، وأن هؤلاء جميعا ليعلمون في بواطن نفوسهم، أنهم قد تركوا المواقع الأنفع، ليأخذوا المواقع الألمع، فهم كغيرهم من البشر يريدون البريق.
لست من رجال السياسة، ولا أصلح أن أكون؛ فحياتي خطوطها مستقيمة، والسياسة - هكذا يقال لي - خطوطها تنحني؛ ولهذا فقد لا تكون لي العين المبصرة، التي ترى الحكمة في وجود هؤلاء النفر حيث هم، إذ قد تكون في ذلك «سياسة» لم تتهيأ لي القدرة على إدراك خبثها، ولكني إذا ما سئلت: وماذا تريد؟ لأجبت بلغة الخطوط المستقيمة قائلا: أريد أن يثبت كل في موضعه من دنيا العمل، وإذا أنت وضعت في المكنة تروسها وصواميلها ومساميرها، كل واحدة في مكانها الصحيح، دارت المكنة على أكمل وجه مستطاع، وبهذا نجد الزوائد التي تعيش وتعلو على كد سواها.
مختلفان نحن يا صاحبي في طريقة النظر، ولا بأس في أن نختلف:
قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا
صدق الله العظيم.
الرأي المستقل
عندما طرح الحوار: هل تنشأ بيننا أحزاب أو لا تنشأ، اكتفاء بما هو قائم من التحالف بين قوى الشعب في إطار الاتحاد الاشتراكي، أو - بعبارة أخرى - هل نتيح لمجموعات مذهبية أن تقوم، تاركين للمواطن الانتماء إلى أي منها؟ أو نكتفي بمجموعة واحدة كبرى، بحيث لا يجد المواطن أمامه سبيلا للاختيار، اللهم إلا حرية القول داخل تلك المجموعة الواحدة؟ أقول إنه عندما طرح هذا الحوار بين البديلين، خيل إلي أن ثمة حالة ثالثة لم يذكرها المتحاورون، مع أنها قد تكون حالة واقعة بالفعل، ومتمثلة في بعض الأفراد، ألا وهي حالة المواطن الذي تكونت له وجهة للنظر، يستقل بها، فلا هي مما يلتئم مع الأحزاب التي يسمونها ويحددونها قبل أن تنشأ، ولا هي مما تتسق اتساقا كاملا مع المجموعة الكبرى، كما هي قائمة، أفلا يحسن بنا أن نفتح من القنوات ما نضمن به لكل رأي أن يقال وأن يسمع؟
وقد يقال: ولماذا لا يفصح صاحب الرأي المستقل عن رأيه هذا داخل التنظيم الذي ينتمي إليه، سواء أكان ذلك التنظيم مجموعة صغرى جزئية أم مجموعة كبرى شاملة؟ والجواب هو أن ذلك الرأي المستقل قد يجيء منصبا على إطار التنظيم نفسه، ومن ثم فلا يجوز أن يكون تابعا له وثائرا عليه في آن واحد، والنتيجة التي أريد أن أصل إليها، هي أن البديلين اللذين أتصورهما ليسا إما اتحاد اشتراكي وإما أحزاب، بل هما إما اتحاد اشتراكي وإلى جانبه مستقلون، وإما أحزاب وإلى جانبها مستقلون، أعني أنه من الضروري أن يوجد مكان لصاحب الرأي المستقل، كائنا ما كانت صورة التنظيم الواحد، أو التنظيمات المتعددة بعد ذلك.
إن الإنسان ليزداد ثقة برأيه، إذا ما وجد هذا الرأي نفسه عند إمام من أئمة الفكر، مشهود له بارتفاع المكانة، وحسبي هنا أن أعتصم برجل هو الإمام الغزالي؛ فللغزالي كتاب اسمه «ميزان العمل»، أراد به أن يرسم خطة للحياة العملية السليمة، ولقد جاءت في نهاية هذا الكتاب عبارة جديرة بالوقوف عندها والتأمل في مضمونها:
يقول الإمام أبو حامد الغزالي في عبارته تلك - جوابا على من يسأله إذا كان من الضروري، أن يكون للإنسان مذهب يتبعه، يقول ما معناه: لماذا تلتزم مذهبا بعينه، ما دامت المذاهب كثيرة أمامك، وليس لمذهب منها معجزة، تجعل له الترجيح على سواه؟ إن صاحب المذهب قد اختار لنفسه ما ذهب إليه، فما منفعتك أنت فيما اختار هو لنفسه؟ فنصيحتي إليك هو أن تحذر الانضمام إلى المذاهب، واطلب الحق بفكرك المحض، فلعلك أن تكون فيما بعد صاحب مذهب لمن شاء أن يتبعك «ولا تكن في صورة أعمى، تقلد قائدا يرشدك إلى طريق، وحولك ألف مثل قائدك، ينادون عليك بأنه أهلكك وأضلك عن سواء السبيل، فلا خلاص إلا في الاستقلال.»
وليس هذا «الاستقلال» الذي يرى الغزالي أنه وحده طريق الخلاص، مستطاعا لكل إنسان، مهما كانت درجة تحصيله وفكره، بل المفروض هنا بالطبع ألا يتصدى للرأي المستقل، إلا من اجتمعت له الوسائل التي تعينه على ذلك، وإلا فهل يجوز لمن لم يلم بأصول الشريعة - مثلا - أن يستقل برأيه في مسألة تندرج في هذا المجال؟ هل يجوز لمن لا علم له بعلوم الفيزياء والكيمياء، أن يدلي برأيه الخاص في مشكلة من مشكلات هذه العلوم؟ لا، فالرأي لا يكون إلا لمن في مستطاعه أن يرى، والرؤية لا تتاح إلا للخبير، كل خبير في مجاله الخاص.
وكان المجال الذي يعنيه الإمام الغزالي حين قال: «لا خلاص إلا في الاستقلال»، هو مجال العلوم الدينية ومذاهب الفقه، لكننا هنا نتوسع في التطبيق، ليشمل المبدأ سائر مجالات النظر، فأقل ما يقال - اهتداء بنصيحة الغزالي في وجوب «الاستقلال» بالرأي، أن نطالب بمكان مشروع في أي نظام سياسي نختاره، لصاحب الرأي المستقل، إذا دل تاريخه الفكري على أنه قادر على هذا الاستقلال.
إننا نبالغ في المذهبية حتى لنجاوز بها في كثير من الأحيان حدود السياسة، إلى ميادين ما كان ينبغي لها قط أن تتورط في المذهبية، كميادين التعليم، والأدب والفن؛ فمن المألوف في حياتنا الفكرية أن يصطرع رجال هذه الميادين على أسس أو مذاهب، ليست هي على كل حال أسسا أو مذاهب، اقتضتها وأنبتتها حياتنا. لقد استمعت ذات يوم في غرفة المسافرين بمطار القاهرة، إلى شابين جلسا إلى جواري، ودارت بينهما معركة كلامية حادة، اشتعلت ألفاظها واحمرت لها وجوه وارتعشت شفاه، حول نقد الشعر على أي أساس يقوم؟ هل نقيمه على أساس المعادل الموضوعي الذي قال به «إليوت»، أو نقيمه على أساس «أيديولوجي» بحسب مضمونه الاجتماعي؟ قلت لنفسي ساعتئذ، مشفقا على المتقاتلين - وأظنهما كانا في طريقهما إلى بعثة دراسية في الخارج - أليس الأجدر بهذين الشابين أن يقيما الأحكام على الشعر العربي نفسه، يدرسانه شاعرا شاعرا، قصيدة قصيدة، لينبث الأساس النقدي من تربته المباشرة؟
ونعود إلى مجال الرأي السياسي، وهو مدار الحديث، فنقول إن الانتماء مقدما إلى مذهب معين أو حزب معين، قد يكون التزاما مسبقا بفكرة لم تلدها الممارسة والمعاناة، نعم إن مثل هذا الالتزام «الجاهز»، يجعل الحياة العملية أيسر بالنسبة إلى الكثرة الغالبة من الناس؛ لأن هذه الكثرة لا تجد من وقتها فراغا، يكفي للتأمل النظري في شئون السياسة، فيلائمها أن تلبس الرداء «جاهزا»، حتى لا تتعرض لمشقة «التفصيل»، الذي يصمم الثوب على قد صاحبه، لكن هذه القوالب الفكرية قد يضيق بها من يكون بمستطاعه أن يصوغ لنفسه القالب الذي يلائمه، وربما تبعه آخرون إذا وجدوه ملائما لهم.
افرض أننا دعونا إلى إقامة حزبين، فالأرجح في هذه الحالة أن يقال: حزب لليمين وحزب لليسار، ولقد حاولت بكل صدق وإخلاص، أن أرسم الحدود الفاصلة بين اليمين واليسار، فما استطعت؛ لأنني إذا وجدت هذه الحدود على شيء من الوضوح في مجال النظم الاقتصادية والاجتماعية، فلست أجدها كذلك في مجال الفكر والفن والعقيدة، ولقد سبق لي أن كتبت منذ ما يقرب من عشر سنوات، مقالا بعنوان: يمين الفكر ويساره، ما معناهما؟ أردت به أن «أفهم» ولم أرد قط - ولا أريد الآن - أن أتحدى أحدا، أردت عندئذ، وما زلت أريد، أن أفهم، وإني لفي عجب أشد العجب - كما قلت في ذلك المقال - ممن يجدون في أنفسهم الجرأة على القذف بكلمات يحملونها أضخم المعاني، بغير أن يكونوا على بينة - ولو إلى حد محدود - مما يقولون ويكتبون! و«اليمين» و«اليسار» كلمتان أراهما تستعملان على نطاق واسع، للتفرقة بين الأفكار والمواقف والأشخاص، فهذه الفكرة من اليمين، وتلك من اليسار، وكذلك هذا الموقف وذاك، وهذا الرجل وذاك، فماذا يا ترى عساها أن تكون تلك الصفات التي - إذا ما توافرت في شخص - أدخلته في زمرة اليمين أو في زمرة اليسار؟ وإن الداهية لتصبح أدهى، حين نجعل أصحاب اليمين، يتصفون كذلك بالرجعية واللاعلمية، وأن نصف أصحاب اليسار بالتقدمية والعلمية في وجهة النظر.
كان الأجدر - في نظري - أن نجعل الأولوية للمشكلات نفسها التي تعترض طريقنا، نطرحها أمامنا ونحاول أن نلتمس لها الحلول، دون التقيد بمذهب سابق؛ لأن مثل هذا التقيد السابق قد يورطني في «أيديولوجية» مترابطة الأطراف، مع أنني ربما أردت الأخذ ببعضها دون بعضها الآخر، وأود هنا أن أستطرد قليلا؛ لأقول: إن ما يسمونه اليوم بالأيديولوجيا مساو لما كان أجدادنا يسمونه «الملة»، واستمع إلى فيلسوفنا الفارابي يقول في «كتاب الملة» تعريفا لهذه الكلمة: «الملة هي آراء وأفعال، مقدرة مقيدة بشرائط ، يرسمها للجميع رئيسهم الأول، يلتمس أن ينال باستعمالهم لها غرضا له فيهم، أو بهم، محدودا.» والسؤال عندي هو: لماذا يكون هذا التقيد ملزما للجميع؟
على أني أريد أن أضعها واضحة أجلى وضوح؛ إن صاحب الرأي المستقل، لا حق له في تغيير الواقع الفعلي من حياة الناس، وكل حقه منحصر في إبداء الرأي، لعله أن يصادف عند الناس اقتناعا، فيغيرون واقعهم وفق ما يسن لذلك من قوانين ونظم، إنه رأي سقراطي أعتقد في صوابه، فلقد هاجم سقراط كثيرا من أوضاع مجتمعة، وحوكم وحكم عليه بالموت، فينما هو ينتظر تنفيذ الحكم في السجن، مهد له تلاميذه الأغنياء طريق الهرب، لكنه رفض ذلك وسخر منهم أشد السخرية، قائلا ما معناه: إنني أطيع القوانين القائمة إلى أن أفلح في إقناع الناس بتغييرها، ومحال علي أن أعبث بها كما أهوى.
والأمنية عندي هي أن يتاح لصاحب الرأي المستقل مكان، بجانب الاتحاد أو بجانب الأحزاب إذا نشأت أحزاب، حتى لا ينطوي على رأيه ذاك صامتا، فتضيع منا أفكار ربما كانت هادية.
قبل الثورة وبعدها
نسوق هنا أمثلة لمشكلات فكرية، شاعت في مناخنا الثقافي قبل ثورة يوليو 1952م، وأمثلة أخرى لمشكلات فكرية أخرى، نشأت لنا فيما بعد الثورة؛ لنرى من مقارنة ما شغل الناس قبل الثورة، وما شغلهم بعدها في مجال الثقافة، كيف تغير المناخ، وماذا يدل عليه ذلك التغير؟ وسأعيد هنا شيئا مما كنت عرضته في مناسبة سابقة.
كان من الأسئلة الرئيسية التي طرحت إبان عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته - بصفة خاصة - سؤال يبحث عن الأصول الأولى التي يمكن أن نرد المصريين إليها من الناحية الثقافية: أهي أصول فرعونية أم هي أصول عربية، لا تجاوزها إلى ما وراءها في التاريخ؟ وقد ناصر الفرعونية سلامة موسى ومحمد حسين هيكل (في أول أمره) وغيرهما، إلا أن هيكل عاد فتبين وجه الخطأ فيما بدأ بالدفاع عنه؛ فقد بدأ هيكل - بمناسبة صدور كتاب عن «قصص البردي» (1926م ) - بدأ في ربط الصلة بين مصر الحديثة ومصر القديمة، مؤكدا أن بين المرحلتين على تباعد الزمن بينهما «اتصالا وثيقا ينساه كثيرون، ويحسبون أن ما طرأ على مصر منذ عصور الفراعنة من تطورات في نظام الحكم، وفي العقائد الدينية وفي اللغة وفي غير ذلك من مقدمات الحياة، قد فصل بين هذه الأمة الحاضرة وبين الأمة المصرية القديمة فصلا حاسما، جعلنا إلى العرب أو إلى الرومان، أقرب منا إلى أولئك الذين عمروا وادي النيل في ألوف السنين التي سبقت المسيحية.»
فلم يلبث عندئذ أن رد على هذه النزعة الفرعونية، كتاب يؤمنون بأن جذورنا عربية، وبأنه من العبث أن نردها إلى أبعد من ذلك التاريخ، ومن هؤلاء أحمد حسن الزيات حين قال: «اشتهر بالرأي الفرعوني اثنان أو ثلاثة من رجال الجدل وساسة الكلام، فبسطوه في المقالات، حتى خال بنو الأعمام في العراق والشام أن الأمر جد، وأن الفكرة عقيدة، وأن ثلاثة من الكتاب أمة، وأن مصر - رأس البلاد العربية - قد جعلت المآذن مسلات، والمساجد معابد، والكنائس هياكل، والعلماء كهنة.» وبعد أن يمضي الزيات بأسلوبه العربي البليغ، في التهكم من الفكرة الفرعونية وأصحابها، يلخص الموقف بعبارة جميلة فيقول: «ثقافتنا إنما تقوم في روحها على الإسلام والمسيحية، وفي آدابها على الآداب العربية والفرعونية، وفي علمها على القرائح الأوروبية، أما ثقافة البردي فليس يربطها بمصر العربية رباط لا بالمسلمين ولا بالأقباط.»
ونسوق مثلا ثانيا لما كان يدور فيه القول بين الأدباء والمفكرين فيما قبل الثورة، موضوع القديم والجديد في تصور الناس للأدب، فهنالك من ينصرفون باهتمامهم إلى صقل اللغة وتجويدها، دون أن تكون لديهم فكرة يريدون نقلها بتلك اللغة، وهؤلاء هم أنصار القديم، وكان إلى جانب هؤلاء آخرون، يهتمون بالفكرة أول ما يهتمون، وهؤلاء هم أنصار الجديد، ونستطيع أن نتخذ سلامة موسى - في هذا المجال الخاص - مثلا متطرفا لفريق المجددين، ومصطفى صادق الرافعي مثلا متطرفا لفريق المتشيعين للقديم، فلقد كتب سلامة موسى في ذلك يقول: «أدباء الصنعة يكتبون وكل همهم محصور في تأليف استعارة خلابة، أو مجاز جميل، أو كتابة بارعة، أو غير ذلك من الفقاقيع، فإذا أراد أحدهم أن يؤلف كتابا أو يضع مقالة، لم يعن أقل عناية بالموضوع الذي يكتب في ...»
ويرد الرافعي على هذا الهجوم، فيؤكد أن علته الحقيقية، ترجع إلى عدم التمكن من لغة العرب وأدبهم، فمن لم يجد في حياته الفرصة لهذه الدراسة، وشاءت له ظروفه أن يدرس مثلا لغة أجنبية، راح يتهم اتهامات مصدرها عجزه عن التعبير بلغة العرب.
وهناك مثل ثالث لما كان يدور عليه الخلاف بين الأدباء والمفكرين قبل الثورة، وهو هذه المرة خلاف فرعي بين أنصار الثقافة الأوروبية، ففريق يناصر الثقافة الوافدة من إنجلترا، وفريق آخر يناصر الثقافة الوافدة من فرنسا، فكان السؤال بينهما: أي الثقافتين الأوروبيتين يجب الأخذ بها قبل أختها؟ أهي ثقافة اللاتين أم ثقافة السكسون؟ وكانت بداية الحوار في هذا الموضوع، مقالة نشرها العقاد تعليقا على كتاب أصدره أنطون الجميل عن «شوقي شاعر الأمراء»، فجاءت في هذا التعليق موازنة بين طريقة اللاتين، وطريقة السكسون في النقد الأدبي، خلاصتها أن الأولين ينقدون الأدب وكأنهم يتحدثون حديثا ظريفا في صالون، وأما الآخرون فينقدون الأدب نقدا يضرب في لباب الموضوع، بغير اصطناع الظرف الاجتماعي الذي يتكلفه الأصدقاء في ندواتهم.
وكان العقاد فيما كتب على اعتقاد بأن ثمة فرقا بين الثقافتين، ينبثق من الفرق بين المزاجين، وأن هذا الفرق نفسه واضح في مفكرينا وأدبائنا، فمن درس منهم الثقافة اللاتينية، وجدته أقرب إلى أن يكون مؤرخا للأدب أو شارحا له، ومن درس منهم الثقافة السكسونية، وجدته أقرب إلى أن يكون هو نفسه كاتبا أديبا أو شاعرا، وأخذ بالطرف الثاني من الحوار طه حسين.
ونكتفي بهذه الأمثلة الثلاثة في هذه الصورة الموجزة، لمشكلات ما قبل الثورة في دنيا الفكر والأدب: أنرتد إلى الفراعنة من الناحية الثقافية أم نرتد إلى العرب؟ أنشغل أنفسنا بزخرفة اللفظ وصقله، أم نمضي إلى المعنى بلا زخرفة ولا صقل؟ أنأخذ بثقافة الإنجليز قبل الفرنسيين، أم بثقافة الفرنسيين قبل الإنجليز؟
وجاءت الثورة فأشاعت في دنيا الفكر والأدب مناخا آخر، يستحيل - بحكم طبيعة جوه - أن تنشأ فيه أمثال هذه المشكلات، فلم يعد يطرأ ببال أحد، أن يسأل سؤالا عن الجذور الثقافية، التي ينبغي أن نرتد إليها؛ لأن الإجابة قد صارت في مناخ الثورة حاسمة، بأن الجذور عربية ليس في ذلك شك، ولا هو موضوع لسؤال؟ ولم يعد ثمة من خلاف في الرأي بين أصحاب اللغة العربية المزخرفة في غير معنى، وأصحاب المعنى الذي لا يكسو نفسه بزخارف؛ لأننا جميعا في مشغلة من القضايا الحيوية المتزاحمة، لم تترك لنا فراغا لهذا الترف في طرح المشكلات، ولم يعد فينا من يسلم سلفا بضرورة منبع أوروبي خاص دون سائر المنابع، لنختلف فيما بيننا عن ذلك المنبع الخاص ماذا يكون؛ لأننا جميعا نسعى إلى ثقافة عربية معاصرة، ولا يعنينا من أين يجيئها الغذاء المصري، طالما أنه يجيء ليلتئم مع أصولنا الثقافية العربية.
وهاك أمثلة لمشكلات جديدة، فجرتها الثورة في مناخنا الثقافي الجديد، لعل أهمها وأشملها هي «الاشتراكية»، وكيف نصوغها لتلائم هذا الشعب المعين المتميز بخصائصه، الذي هو المصريون؟ ماذا نضيف إلى المبدأ العام في الاشتراكية، وماذا ننقص منه ليجيء الثوب آخر الأمر على قد لابسه؟ فلم يعد الخلاف هنا: من أي بلد أوروبي استمد الفكرة؟ كلا ولا هو خلاف حول اللغة التي أصوغ الفكرة فيها، وإنما هو خلاف حول تفصيل القماش الذي اتفقنا عليه، وهو قماش النظام الاشتراكي؛ فهنالك من يفضل تطويل الأكمام، وإلى جانبه من يرى ضرورة تقصير الأكمام، وأما القماش نفسه وأما اللابس بقده ومعالم جسمه، فلا اختلاف عليهما.
لقد اجتمعت بيننا الكلمة على أن نتحول، إلى أمة اشتراكية بالمعنى الاقتصادي والمعنى الاجتماعي معا، لكننا في الوقت نفسه خشينا أن يضيع الفرد منا في الجماعة، كما ضاع عند سوانا، ولنا من تراثنا ما يجعل للفرد قيمته؛ فطرحناه سؤالا في حياتنا الفكرية: كيف يكون الفرد فردا، ويكون في الوقت نفسه مواطنا لغيره في صالح مشترك، دون أن يكون في هذا الجمع بين التفرد والمواطنة مفارقة ولا تناقض، وبحيث نتجنب الانعزالية من جهة، والضياع في الخضم من جهة أخرى؟
ومن هذا المنطلق العام، تفرع سؤال: كيف يحكم «هذا » الشعب نفسه بنفسه؟ إنه ليس سؤالا عن أنظمة الحكم على إطلاقها، بل هو سؤال عن «هذا» الشعب بتاريخه وظروفه، فما كان أهون علينا عند محاولة الإجابة عن هذا السؤال، أن نقارن دساتير الأمم الأخرى، وأنظمة الحكم فيها بعضها ببعض، لنختار قصاصة من هنا وقصاصة من هناك، ولا علينا بعد ذلك إن تجمعت هذه القصاصات، في ثوب ضيق أو في ثوب فضفاض، ثم ندخل أنفسنا في هذا الثوب، بغض النظر عما فيه من ضيق أو سعة.
ولكوننا نحرص كل الحرص على أن يكون «هذا» الشعب، بخصائصه المتميزة الفريدة هو موضوع التفكير، واجهنا مشكلتنا الثقافية الكبرى، التي هي أم المشكلات بيننا الآن، وهي: كيف أعاصر هذه الدنيا بحضارتها القائمة، دون أن أضحي بشيء هام من تلك الخصائص المتميزة الفريدة؟ إن الأمر لم يعد خلافا بيننا على أي الطرفين نختار؟ بل هو خلاف على طريقة دمج الطرفين كيف يكون؟ قد تجد فينا من يجيب قائلا: نفرغ الإناء القديم من مضمونه القديم، بحيث لا يبقى منه إلا هيكل المبادئ والقيم، ثم نصب في الإناء مسائل يومنا، وكذلك قد تجد فينا من يرفض هذا قائلا: نبقي على الإناء وما فيه، ثم نضيف إليه مسائل اليوم، فإذا هي سارية في كيانه، كأنها جزء منه، كما قد تجد فينا إلى جانب هذين الفريقين آراء أخرى، لكننا جميعا منشغلون بهذه القضية الكبرى؛ لأنه على الطريقة التي نحلها بها، يتوقف الشكل النهائي الذي تنصب فيه.
وهنا أيضا ما كان أيسر - فيما مضى - على بعضنا أن يتحمس لصور الحياة الماضية بغير تعديل، وعلى بعضنا الآخر أن يتحمس لصور الحياة الغربية بغير تعديل كذلك، وكلتا الحالتين نقل ومحاكاة، كل الفرق بينهما أننا في الحالة الأولى نعبر الزمان كرا إلى الماضي لننقل عنه، وفي الحالة الثانية نعبر المكان إلى الغرب لننقل عنه، وأما الصعب العسير فهو أن نخلق لأنفسنا الثقافة المتميزة الفريدة، المنسوجة من خيوط الماضي والحاضر معا، وذلك هو ما نحاوله بصفة أساسية فيما بعد الثورة.
إن الفكر هو نفسه المفكرون الأشخاص، والفن هو نفسه الفنانون؛ فليس الفكر والفن أشباحا هلامية لا نتبين ملامحها؛ ولذلك فقد كنت ذات يوم قد راجعت السجل الثقافي «الذي كانت تصدره وزارة الثقافة» عاما بعد عام، منذ سنة 1949م إلى سنة 1963م، وركزت المقارنة على ما صدر سنة 1949م أو سنة 1959م؛ لأرى الفرق في النشاط الفعلي الذي أداه رجال الفكر والأدب، متمثلا فيما أصدروه من كتب، وما حاضروا فيه، فوجدت تأليفا جديدا في الفلسفة، مرماه البعيد أن يثبت ملامح الشخصية العربية الأصيلة، وتأليفا جديدا من شأنه أن «يعلمن» الفكر العربي، أعني أن يجعله أقرب إلى منهج التفكير العلمي، وتأليفا جديدا في الاقتصاد والاجتماع محوره النظام الاشتراكي الجديد، ووجدت أدبا - شعرا وقصة ومسرحية - يبرز ملامح المجتمع الجديد.
وعند هذه النقطة الأخيرة، نقف لحظة ثم نختم الحديث؛ فالفرق شاسع في الهدف والمسعى، بين جماعة الأدباء قبل الثورة وجماعتهم بعدها، كان الكاتب قبل الثورة في صميمه «قارئا»، بمعنى أنه كان يقرأ من ينابيع الغرب ومن ينابيع السلف، ويهضم ما قرأ، ثم يعرضه، فإذا كان فيما يعرضه غزارة، فالغزارة مصدرها سواه، إنه كان أدبا يفوح برائحة القنديل (كما قال أحد النقاد الإنجليز في القرن الثامن عشر، عن أديب أراد هجاءه)، أعني أنه كان أدبا فيه جهد الدرس والتحصيل، على ضوء المصباح في مكان مغلق.
وأما الأدب بعد الثورة، فقد اتجه به الأدباء نحو الحقل والمصنع والشارع، إنه أدب فيه رائحة العرق وضوضاء العمل، ولا غرابة بعد هذا، أن تكون المقالة هي الأداة الأولى عند أديب ما قبل الثورة، وأن تكون القصة والمسرحية هي الأداة الأولى عند أديب اليوم، وعلى كل حال فهذه تفرقة على سبيل التعميم السهل، وإلا فليس يخفى أن جهابذة المسرحية والقصة معا، هم أعلام قبل الثورة وبعدها على حد سواء.
رسالة إلى شاب
جاءني خطابك، سمعت في نبراته أنين الشكوى موجها من مجهول إلى مجهول، كأنك تائه في الصحراء يصرخ مستغيثا، وهو لا يدري هل يصادف سميعا؟ فإذا صادفه فمن ذا يكون؟
جاء خطابك إلي وكل ما بيني وبينك، هو أنني من جيل ينحدر وأنك من جيل يصعد، فكان الخطاب بمثابة همزة الوصل بين جيلين، إنني يا بني لم أنعم قط يوما بمثل هذا الذي نعمت به أنت، حين رسمت صراخك على الورق، وأرسلته إلى الجيل الذاهب لعله يغيث، لا، لم أنعم قط يوما بمثل هذا؛ لأنني بحكم مهنة التعليم التي احترفتها، كان مقسوما لي أن أمثل دور الجيل الأكبر حتى وأنا شاب، فهكذا يكون موقف الأستاذ نحو تلاميذه، حتى ولو كان هذا «الأستاذ» ما زال «معيدا» تخرج منذ عام.
ومع ذلك فلننظر في شكواك، خلاصتها أنك تنظر إلى المستقبل فيأخذ اليأس منك ما يأخذ، تقول ما معناه أنك تمد البصر، فلا ترى إلا طريقا مسدودا أمام عينيك، ثم تسألني هل يلومك لائم في هذا الظلام المحيط بك، إذا أنت ثنيت رأسك عن المستقبل والحاضر معا، لتعود إلى الماضي تلوذ بركن من أركانه، وكأنك أحسست مما أكتبه أنني من دعاة المستقبل، الذين يرفضون النكسة إلى أمس، إلا بمقدار ما يعطيني ذلك الأمس سلاحا، أشق به طريقي إلى الغد.
ولن أخدعك فأصور لك الحنظل عسلا، ففي الحاضر - حاضر الدنيا بأسرها - حنظل كثير وعسل قليل، ثم يتوقف الأمر بعد ذلك على وجهة النظر: التوقع في المستقبل القريب أو البعيد، للحنظل المر أن يقل، وللعسل أن يزيد؟ أم نتوقع للحنظل الكثير أن يزداد كثرة، وللعسل القليل أن يزداد قلة؟ إنه سؤال مطروح بالفعل، علينا وعلى غيرنا، ولقد كتبت مرة، وها أنا ذا أكتب بأنه إذا جاز لبعض البلاد الصناعية الكبرى، ألا تتوقع خيرا كثيرا في مستقبلها، فأظن أن ذلك لا يجوز لبعض البلاد «النامية»؛ إذ يكفي أن تكون نامية، ليجيء غدها أكمل من يومها.
وما كان أغربها من مصادفة أن أتلقى خطابك في نفس اليوم، الذي قرأت فيه تعليقا على كتاب جديد عنوانه: المستقبل وكيف نتقيه؟ ومؤلفه هو راتاري تيلور، وفي الكتاب نظرة سوداء - أشد ما يكون السواد - إلى المستقبل كما يراه كاتبه؟ ولو وضعنا ملخصا لهذا الكتاب في إطار منطقي، يبدأ بمقدمة كبرى، وينتهي إلى نتائجها التي تترتب عليها، قلنا إن تلك المقدمة الكبرى عنده، هي ما يراه في كثير جدا من أرجاء العالم المتحضر، من تصاعد ملحوظ في الجريمة والعنف واللامبالاة، مما يدل على أن ثمة نقصا ما في البناء الاجتماعي الحديث، فماذا عساه أن يكون؟ وسرعان ما يجيب الكاتب بأن ذلك النقص هو عمليات التفكك الاجتماعي الذي لم يجعل بين الناس هاديا ومهتديا، فانبثت العداوة في النفوس، وأصبح الكل للكل عدوا مبيتا.
وينظر الكاتب إلى مستقبل بلاده - كما تنظر أنت يا بني إلى مستقبل نفسك - فلا يرى الطريق المسدود الذي ترى، بل يرى عنفا يزداد، وجريمة تستشري، وقلاقل تهز الكيان الاجتماعي كله من أساسه، إنه يرى بذل الجهد مع خيبة الرجاء، والعمل مع انحدار في مستوى العيش، ويرى شحا في الطعام وقلة في الموارد، ونكبات مالية لا ينجو منها أحد، إن ضوضاء المدن تزداد، وتلوث الهواء يتكثف، والحروب الأهلية وغير الأهلية يتسع مداها، بل إن هذا الكاتب اليائس يمعن في يأسه، فيقول إن العالم كله سيتعرض في المستقبل لتغيرات في المناخ، يزداد بها برودة إلى آخر ما قال.
وربما كان من حق هذا الكاتب أن يقول ما قاله؛ لأن بلاده في حكم من سار على الدرب، حتى بلغ غايته، ولم يعد أمامه إلا أن يعود إلى حيث كان؛ ولأنه هو كهؤلاء الساخطين الذين صورهم «أوزيورن»، وهم ينظرون إلى الوراء مرغمين، يملؤهم الغضب؛ لأنهم لم يعد أمامهم أمام.
وأما نحن يا بني ففي طريق البناء لم نفرغ بعد، وفي طريق السير على الدرب لم نبلغ غايته، بل لم نخط على درب الحضارة العلمية الصناعية الجديدة إلا بضع خطوات، على أننا إذ نريد أن نخطو على ذلك الدرب فإنما نريد أن نفعل ذلك فعل المبدع الأصيل، لا فعل المقلد التابع، والفرق بعيد بين الموقفين؛ الفرق بعيد بين مستكشف رحالة، يشق طريقه لأول مرة، لم يسبقه إليه رحالة آخر، وبين مسافر جاء بعد ذلك ليسير على الطريق، الذي دقته من قبله أقدام المسافرين ، فبينما يكون الأول سائرا نحو مجهول، ترى الثاني قد عرف كل شيء عن الطريق قبل أن يبدأ السير، وفي الحالة الأولى تكون الفرصة سانحة لكل مغامر مبدع خلاق، وفي الحالة الثانية يكون السأم والمحلل واجترار الذكريات.
المستكشف الرحالة يغامر بتجربة جديدة؛ ولأنها جديدة فهي عرضة للخطأ، وأما المسافر المتابع فلا يحاول تجربة الجديد، بل يعيد ما فعله سواه، وهو بهذا التكرار - وإن يكن أقل عرضة للخطأ - إلا أنه كذلك أقل شعورا بجدة الحياة، إن هذا التابع كالظل، لا يملك لنفسه أن يقصر أو يطول، إلا إذا قصر أو طال الأصل الذي هو ظله، فلو حاولت يا بني أن تشارك في حياتنا المغامرة الجديدة، فربما وجدت ما يزيح عنك القنوط.
الرحالة الكشاف يحيا في كل لحظة حياة مؤرقة يقظانة، لما يمكن أن يحدث من مفاجآت لم يحسب حسابها، وأما المسافر التابع فيحيا حياة الدعة والسكون، قارن - مثلا - كولمبس في رحلته الأولى عبر المحيط يضرب في العباب وظلام المجهول يكتنفه، قارنه مسافرا جاء بعد ذلك يقطع الرحلة نفسها في سفينة أو طائرة، يأكل طعامه ويشرب شرابه، وهو بمنجاة من الخوف أن يفرغ منه طعام أو شراب، عالما متى يبلغ الهدف وأين. في الحالة الأولى مخاطرة ومغامرة، ينكشف بها جديد، لم يكن من قبل موضع رؤية أو سمع، وفي الحالة الثانية أمان واطمئنان، ولكن لا جديد، بل هو قديم الأمس مكرور معاد.
والفرق بين هاتين الحالتين، هو نفسه الفرق بين موقفين من الحياة: موقف من يضع بين يديه موروثا تركه السابقون، وما عليه إلا أن يلتزمه حرفا حرفا، إنه قد يحفظه عن ظهر قلب، ما وسع ذاكرته أن تحفظ، أو أن يعمل في إجرائه تحليلا وتركيبا، ما أسعفته قدرته على التحليل والتركيب، لكنه لا يضيف إليه سطرا، فكأنما كل همه هو أن يخرج كلاما من كلام، كالطاحونة تطحن الغلال دقيقا، فتوضع الغلال في وعاء، ثم تدور الآلة وتفعل فعلها، فتخرج الغلال في صورة أخرى هي الدقيق، وهي بذلك لا تضيف إلى الموجود مثقال ذرة، وربما أنقصت منه خلال عملها مثقال ذرات.
وأما الموقف الآخر فهو موقف الذين يكشفون الجديد بعد خوض التجربة؛ يستوحون القديم ليضيفوا إليه، أو ليصححوه، فلئن كان شعار الأقدمين هو: القديم المأمون خير من الجديد المجهول، فشعار المجددين هو: بل الجديد المجهول أولى؛ لأنه الوسيلة الوحيدة إلى التقدم، لقد كانوا يعلموننا ونحن صغار أن «من فات قديمه تاه.» وأود لو علمنا صغارنا اليوم أن «من اكتفى بقديمه جمد ومات.»
إذا أردنا أن نغير وجه الحياة التي نحياها، فلن يكون ذلك بأن نفتح كتب السالفين، لنروي عنهم ما قالوه، وننقل عنهم ما صنعوه، وإنما السبيل القويمة بل السبيل الوحيدة - هي أن نسأل عما يراد تحقيقه في «المستقبل»؛ فالماضي لا بد منه، لا لنجعل منه نموذجا نحتذيه بل ليكون مصدرا للإلهام فيما ينبغي أن نصنعه. إن ولاءنا لآبائنا، يجب أن يكون في محاكاتهم في وقفتهم تجاه الحياة، لا في إعادة ما صنعوه حرفا بحرف، كانت وقفة آبائنا في عصور القوة والطموح، هي في المغامرة والمخاطرة، هي في إبداع الجديد، ليضيفوه مرحلة جديدة في حضارة الإنسان، والولاء لهم إنما يكون في اتخاذنا من حياتنا وقفة كهذه: تبدع وتضيف، تخاطر وتغامر، تخوض التجربة وتتعرض للخطأ لتعرف ما الصواب.
والمستقبل الذي نريد أن نبدعه خلقا جديدا، بتفكير علمي سليم، ليس شيئا يأتي «بالجملة»، ولكنه تفصيلات تتحقق «بالقطاعي»، برغم أن هذه الأجزاء المتفرقة تتكامل آخر الأمر بعضها مع بعض في كيان عضوي واحد، المستقبل المطلوب يساق في عدة أسئلة، كل سؤال منها يتطلب الجواب: ماذا نريد للزراعة في كذا من السنين؟ ولطرق المواصلات؟ وللصناعة؟ وللتعليم، وللقضاء؟ وللأسرة؟ إلى آخر جوانب الحياة العملية التي نعيشها الآن، والتي نريد أن نعيشها غدا، وليس في كل هذه الأسئلة سؤال واحد يستطيع تراث الأقدمين وحده أن يقدم له الجواب.
صنع الحياة، وهي متجددة كل يوم، عمل يضطلع به الإنسان وحده دون سائر الكائنات، وهو عمل يخطئ ويصيب، ولكنه يصيب أكثر مما يخطئ، وبهذا وحده بنيت الحضارات، ولو أراد الإنسان أن ينجو من خطأ المغامرة، لتخلى عن الأمانة، التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، فالنجوم تدور في أفلاكها كما رسم لها فلا تضل، وكذلك تتحرك الأرض وتنشأ الجبال كما أريد لها فلا تحيد، لكنها جميعا قد تدوم دوام الأبد، دون أن تضيف من عندها شيئا، وأما الإنسان الحي فكان قدره أن يصنع الحياة خطوة أعلى من خطوة، ومرحلة أرقى من مرحلة، فلا ينفعه أن ينظر إلى الوراء، إلا بمقدار ما ينير له الطريق إلى أمام.
ولماذا لا تأخذ من شبابك نفسه درسا يعلمك؟ إذا أصابك جرح فسوف يلتئم، بدفعة الحياة وقوة التجديد، إذا ضاق بك الواقع طارت بك الأحلام إلى آفاق بغير حدود، لا أحلام النعاس بل أحلام الوعي المتنبه - فتلك هي طبيعة الشباب، فالفرق بعيد بين اليقظة الحالمة والحلم اليقظان، وربما كان الفرق هو ما أراد جيمس جويس أن يبينه في كتابيه: «يولسيز» (أو عوليس كما يكتبه الزملاء في سائر أرجاء الوطن العربي) و«يقظة فينجان»؛ في الكتاب الأول أحلام تعاقبت حلقاتها في تيار الشعور، عند رجل تباعدت فيه حياته الظاهرة عن حياته الباطنة؛ فكان أقرب إلى اليقظان الحالم، وفي الكتاب الثاني صورة أخرى هي صورة من تظنه شاردا مشتت الذهن، وهو في حقيقته مفتوح العينين مرهف الأذنين، لكل ما يدور حوله من صورة وصوت، وذلك هو نحن اليوم، فتحسب أن الحياة قد أظلمت من حولك، مع أن الوعي صاح والصبح قريب.
محنة وامتحان
لم يكن قد بقي لي من إجازة الصيف إلا بضع ساعات، أستقل بعدها الطائرة عائدا إلى الوطن الحبيب، حين ألقيت بصري على صحيفة كانت في يدي؛ لأقرأ فيها شيئا لم أكن قرأته في الصباح الباكر، فإذا بظل خفيف أراه عند موقع البصر من الصحيفة، يتحرك من العين كيف تحركت، ظننته غبارا على عدسة المنظار، فخلعت المنظار ومسحت العدسة بمنديلي، وأعدته إلى موضعه ونظرت ، فرأيت بقعة الظل ما زالت تحجب عني الكلمات، وأسرعت إلى اختبار آخر لأستوثق من أن الظل الطارئ، لم يكن وهما كالوهم الذي رأى به ماكبث خنجرا في الهواء، ولم يكن ثمة من خناجر، وإنما هو وهمه الفازع من جريمته، أقول إني أسرعت إلى اختبار آخر؛ لأفرق بين وهم وحقيقة، فأخرجت من جيبي قلما وورقة وهممت بالكتابة، فإذا الظل هناك يحول بيني وبين أن أرى ما أكتبه، وبعدئذ تتابعت المواقف الحزينة؛ فساعة الصفر قد حانت، وهنالك استمارات يملؤها المسافرون، فاستحالت علي الكتابة.
كانت تلك المحنة نفسها هي الامتحان؛ لأبلو نفسي أمام الكوارث المفاجئة كيف تكون؟ فإذا تلك النفس هادئة مستسلمة، فاهمة غير فازعة ولا جازعة، كأنما كانت تتوقع حدوث الذي حدث، ولم يبق إلا أن تتحدد ساعة الحدوث، إنني لست خالق نفسي - هكذا سمعت صوتا يهمس في ضميري - ولو كنت خالق نفسي لوهبتها البصر الذي تريد، لكنني مخلوق تشكله الأحداث، وما عليه سوى أن يقابل تلك الأحداث الطارئة، بما يستطيع بذاته أو بما يستطيع بغيره.
وبهذه النفس المطمئنة المستسلمة الهادئة، قصدت بهداية من الله إلى الدكتور إبراهيم عبود، ولم أكن أعلم عنه إلا شهرته في طبه، وحسن رعايته في إنسانيته، لكنه فجأني بعلاقة أخرى، لم أكن أدري من أمرها شيئا، بل لم أكن أتوقعها، وهي علاقة القارئ بالكاتب، وما زلت حتى هذه اللحظة تحت علاجه، ولو أنني خلال هذه الأسابيع قد رأيت عيني وقد عادت إليها سلامتها إلا قليلا، لما جرؤت - في غيبة من الطبيب - أن أمسك بالقلم.
عدت من إجازة الصيف وبقعة الظل تحجب عني الكلمات - مقروءة أو مكتوبة - فكان لا بد لي من تأملات أوازن فيها بين البصر الذي فقدته أو كدت أفقده، وبين ما أنتجته من قراءة وكتابة على طول السنين، فرأيت عندئذ كيف خرجت من الحياة بصفقة المغبون، ثم ازدادت هذه الرؤية جلاء، عندما قرئت علي الرسائل التي أرسلها القراء خلال الصيف، فلم يسعني إزاء بعضها، إلا أن أسخر من نفسي قائلا: من أجل هذه النتائج سكبنا ضياء البصر؟ وهاك خلاصة لرسالتين منها:
رسالة أرسلها طالب بكلية الهندسة في جامعة أسيوط، يقول لي فيها ما معناه أني بدعوتي إلى التزام العقل وأحكامه، في الأمور التي لم تخلق لأحكام الهوى وميول الوجدان، يقول الطالب إني بهذه الدعوة على ضلال، ثم يقص البرهان على ضلالي في الدعوة إلى العقل، فيقول: «منذ أسبوعين سمعت مصادفة عن رجل فقير مغمور يقطن في قرية بجوارنا، ويجيد قراءة الكف، وعليه خادم من الجن، ولما كنت قلقا على نتيجة الامتحان، فقد قررت الذهاب إليه جريا وراء كلمة اطمئنان ولمسة هدوء، وأمسك الرجل بكفي ثم قال ... إلخ.»
ولما كان قارئ الكف الذي يقوم عليه خادم من الجن (كما يقول الطالب في خطابه) قد أنبأ الطالب بالنتيجة قبل إعلانها، فأثبتت الأيام بعد ذلك أنه قد صدق فيما أنبأ أو تنبأ، فإن الطالب يختم خطابه بهذه الخاتمة «أين العلم من هذا؟! أين المنطق؟ أين القوانين الطبيعية؟!» ثم يوجه إلي أنا الكلام فيقول: «أنت المتهم الأول فما هو دفاعك؟ أين منطقك العتيق؟ وليلحظ القارئ كلمة «عتيق» هنا، فقراءة الكف بتوجيه من الجن هي عنده الأمر «الحديث» ... لقد كنت تلميذك عشرين عاما نظريا - على الورق - وعندما دخلت أول امتحان عملي كفرت بك، ومزقت المفكرة.»
نعم، لقد سخرت من نفسي بعد أن قرئت علي هذه الرسالة، وتساءلت: أمن أجل هذه الثمرة المرة سكبنا ضياء البصر؟! ماذا كان في وسع الشعب أن يصنع لتطوير نفسه، تطويرا يخرجه من الظلمات إلى النور، أكثر من أن ينفق على مثل هذا الطالب، ما أنفقته من مال اقتطعه العاملون من أقواتهم القليلة؛ ليمكنوا طالبا كهذا من دراسة «الهندسة»، فبدل أن تمده الهندسة بالعلم ومنطق العلم، مما عساه أن ينقلنا من التخلف الحضاري الذي نعانيه؛ خرج صاحبنا من هذا كله، بما لا يزيد مقداره شعرة عن مواطن آخر لم يكتب له حظ التعليم، ولا كلف الشعب مليما واحدا، إذ خرج صاحبنا من هذا التعليم كله، بأن يلتمس المعرفة عند «رجل فقير مغمور يجيد قراءة الكف، وعليه خادم من الجن!»
واحسرتاه! ألف ألف حسرة على ما أنفقه الشعب الكادح من لحمه ودمه، وعلى ما سكبناه من ضياء الأبصار على الورق، إذا كانت الثمرة التي حصدناها وحصدها الشعب؛ هي أن يخرج طالب في كلية علمية، يسودها منطق العلم ومعايير العلم ودقة العلم، أن يخرج ذلك الطالب من هذا كله؛ ليبحث عن عراف الجاهلية الأولى، ليتنبأ له بنبوءات يستعين فيها بخادم الجن!
ولنا أن نسأل الطالب بعد ذلك: وماذا أفادك العراف من علم؟! هل أمدك بمعادلة رياضية جديدة لم تكن تعرفها، وتنفعك في تخطيط المدن وإقامة الجسور وشق الترع ومعالجة الأجهزة العلمية في مجال الكهرباء؟! ماذا أفدت أنت أو ماذا أفاد الشعب بعد الذي أنفقته في تعليمك، من أن العراف «الفقير المغمور»، قد أنبأك بنتيجة الامتحان قبل إعلانها؟! وهل كان هذا السبق في معرفة النتيجة جديرا، بأن تريق من أجله كرامة العقل ووقار العلم؟ اعلم يا بني أن النهضة الأوروبية التي لا بد أن تكون قد سمعت عنها، قد وقعت يوم أن أسدلت ستارا كثيفا على أمثال هذه السخافات، لتفسح ساحة المسرح لرجال آخرين من أمثال جاليليو وكبلر ونيوتن، لا يقوم عليهم في عملهم خدام من الجن، بل يهديهم منطق العقل ومنهج العلم، وفي سبيل اكتساب ذلك المنطق وهذا المنهج، أرسلناك وأرسلنا ألوفا مثلك إلى كليات الجامعة، لعلكم تنهضون بنا كما نهض أمثالكم بسوانا.
وأنتقل إلى رسالة أخرى، يوجه صاحبها إلي أقسى اللوم، لهذه الكتابة التي أكتبها، فكيف يجوز (لكاتب كبير) مثلي - هكذا قال - أن يترك المشكلات التي يعاني منها الناس، ليكتب عن أمور الله أعلم بمصادرها ومواردها؟! ثم يتمنى لي صاحب الرسالة أن أقوم بسياحة في أرجاء مصر: «باحثا عن شقة، وباحثا عن دواء - أي دواء - ومتعقبا لسلفه، وواقفا في طابور، ولاهثا وراء مصلحة لك تقضيها هنا أو هناك، ومستخدما لوسيلة نقل عامة أو خاصة «تاكسي»، وزائرا لمدرسة أو جامعة أو مستشفى، ودائما تائها حائرا تشكو للسماء ظلم أهل الأرض، في قسم الشرطة أو محكمة، أو جريحا - لا قدر الله - على قارعة الطريق، أو قارئا للصحف والمجلات المصرية، أو مستعما للإذاعة المصرية أو مشاهدا للتليفزيون المصري، أو متفرجا في صالة عرض تعرض الأفلام المصرية، أو جالسا على كرسي بين النظارة في مسرح مصر، أو ... أو ... ويشترط أن تقوم بهذه السياحة على نفقتك الخاصة، ودون الاستعانة بأسلحة القرابة والمحسوبية والوساطة والحظوة والتفرقة في الممعاملة بين سيد وعبد من الناس ...»
هذا جزء من الرسالة التي أشرت إليها، ولعلي قد أنصفت صاحبها، بأن أعلنت في الناس أوجع ما فيها، لكنك يا صاحبي - والخطاب هنا موجه لصاحب الرسالة - لم ترد أن تفرق بين كتابة وكتابة، إنك تريد من كل من حمل القلم، أن يسدل بقلمه ذاك مسبحة يعد على حباتها صباحا ومساء، وما بين الصباح والمساء، قائلا: مواصلات، تليفون، مجاري. إن مكنة المجتمع يا سيدي هي كالساعة لها عقارب تظهر أمام العين، ولها كذلك تروس تخفى عن العين، فأيهما في رأيك أصلح إذا ما فسدت الساعة: أن نظل نحرك العقارب ظاهرة بأصابعنا لتأخذ وضعها الصحيح، أم أن نكشف تروسها الخبيثة لنصلح ما فسد منها، فتعتدل العقارب بالتالي ومن تلقاء نفسها؟
صحيح أنه لا بد من الإعلان عن مواضع العلة في حياتنا، وهذا عمل لا تنقطع الصحافة ورسائل قرائها عن أدائه، لكن هنالك عملا آخر، يريد بدوره من يتصدى له ويضطلع به، وهو تعقب العلل إلى جذورها، على أمل بأن إصلاح الجذور يستتبع إصلاح الفروع والثمر، وأعتقد أني فيما أكتبه من هذا الفريق، فإذا لم أكن قد نفعت أحدا بما لبثت أكتبه بضع عشرات من السنين، كان لي الحق أن أسال نفسي ساخرا: أمن أجل هذه النتيجة سكبت ضياء البصر؟!
كشف حساب
ذات يوم من ربيع العام 1976م تسلمت وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى، الذي تفضل السيد الرئيس محمد أنور السادات، رئيس الجمهورية فمنحني إياه، وعدت إلى داري بالوسام والقلب ينبض، والذهن في شرود، وما إن أخذت مجلسي من الدار حتى فتحت العلبة المخملية لأملأ عيني بما ترى وقرأت «براءة» الوسام التي تقول : «تقديرا لحميد صفاتكم، وجليل خدماتكم للأدب، قد منحتكم وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى.» فدمعت عيناي، ثم انتقل بي الدمع إلى بكاء مكتوم، ولا تسلني لماذا؟ فأنا أروي لك ما حدث وعليك أنت التعليل، فربما كان ذلك لطول ما عانيته من عسف فيما مضى، فلما جاءني التقدير برغم المنكرين، دمعت مني العين وأجهش الحلقوم!
لكن ذلك لم يصرفني عن أن أنصب لنفسي الميزان؛ لأحاسبها - أمام هذا التقدير العظيم من الوطن ورئيسه الكريم - لأحاسبها على مد صنعته من أجل مصر وشعبها، لقاء ما وهبتني إياه! لقد وهبتني الحياة وما يقيم أود الحياة، أن هذه الأنفاس التي يعلو بها الصدر ويهبط هي من هوائها، وهذا البدن من أرضها ومائها وشمسها وهوائها، بل إن أفكاري وعواطفي هي من نسج أهلها الذين هم أهلي، فماذا صنعت - يا نفسي - لمصر لقاء هذا العطاء الغزير؟!
فكان جوابها الساخر: صنعت لها كلمات أرسلتها في الهواء، وسميتها «تعليما»، وصنعت لها كلمات بعثرتها على الورق، وسميتها «كتابة» ... إنها «كلمات، كلمات، كلمات» - كما قال هاملت - وذلك حين رآه بولونيوس يقرأ، فسأله: ماذا تقرأ يا مولاي؟ فأجابه بقوله: كلمات، كلمات، كلمات! فعاد بولونيوس ليقول إنما سالتك عن مادة تلك الكلمات ما هي؟ فأجابه هاملت: فضائح - يا سيدي - فضائح! فهذا المؤلف الوغد الساخر، يذكر عن الشيوخ أنهم يلتحون بلحى بيضاء، ولهم وجوه تغضنت جلودها، وأعين تفرز العماص ... نعم إنهم لكذلك، لكن هل يليق إثبات ذلك على صفحات الكتب؟!
وما دمت قد ذكرت هاملت، فلقد نبهني ذلك إلى حقيقتي وحقيقة طائفة ضخمة من المثقفين عندنا، إننا جميعا من طراز هاملت، نجعل من الأولوية لذواتنا نتأملها كأنها هي محور الكون، وننصرف بها عن دنيا العمل المنتج النافع، الذي يزيد من أقوات الناس قوتا، ومن مساكنهم مسكنا، ومن كسوتهم كساء، إننا ننفق جهودنا في أنانية، وشك وتحليل وجدل، نجعل من أنفسنا نقطة انطلاق لنعود إلى أنفسنا من جديد، لا يكاد البلد وشعبه يحس بوجودنا إلا جعجعة، لا تحل له مشكلا ولا تزيح عن صدره هما، إننا مشغولون بأوضاعنا لا بأداء واجبات عملية كان ينبغي أن نؤديها، إننا ساخرون والشعب من حولنا يكدح لينتج لنا لقمة العيش، وهدمة الثياب، وإننا لنعلم ذلك حق العلم عن حقيقة أنفسنا، ومع ذلك نشمخ بالأنوف ونتعالى، إننا - نحن جماعة المثقفين الذين هم من أمثالي - هو هاملت في تردده ودورانه حول نفسه، إنه يوهم نفسه بأن مشكلته الرئيسية هي: هل يحيا أو يموت؟ ومع ذلك فهو متشبث بحياته، كأنما الفكر النظري عنده شيء أما حياته العملية فشيء آخر، نعم إننا - جماعة المثقفين الذين هم على شاكلتي - مثل هاملت، يلبس رداءه من المخمل النفيس المزركش بأسلاك الذهب والفضة، ومع ذلك يحلو له أن يطلق اللسان بعبارات الفقر والبؤس والشقاء.
قلت لنفسي: ما دمت - يا نفسي - قد ذكرتني بهاملت، فإنني أتهمك بالجحود، وأتهم معك معظم المثقفين في مصر «وهل أقول أيضا في الوطن العربي كله؟» فالشعب يطعمكم من جوع ويؤمنكم من خوف، ومع ذلك لا يقول قائلكم إلا مرددا ما قاله القدماء، بأن حرفة الأدب مجلبة للعري والجوع والفزع! أعرف أديبا من أدباء الجيل الماضي، درت عليه حرفة الأدب - هذه المفترى عليها - أرضا زراعية فسيحة الرقعة؛ حتى جعلته من سادة ذلك الزمان، فلما حمل القلم ليكتب، لم يكتب إلا شكاة من الفقر والإملاق، كأن هذه الشكاة من الرواسم «الكليشيهات»، التي يحتم على المثقفين في بلدنا أن يقولوها، ويعيدوا قولها ما كان لهم قلم وكانت كتابة؟ ورحمك الله يا سلامة موسى، جزاء هجمتك العنيفة يومئذ على ذلك الكذب القبيح.
وأعود إلى نفسي وحسابها على ما قدمته لهذا البلد، إزاء ما أطعمها وآمنها وعلمها، فلم أجد لديها إلا كلمات! لكم وددت - ليرضى عني ضميري - أن شاركت العاملين المنتجين بيدي، بأظافري، لا أعرف ماذا يعني العمل؟ لقد ذهب الشباب وذهبت عني فتوته، وباتت حسرتي كلاما في كلام ... كنت منذ قريب أصلح سيارتي، وجلست أنظر إلى العامل وهو يصلحها، فرأيته وقد فرش الأرض من تحته بلوح معوج من الصاج، ورقد عليه وزحف بجسده تحت السيارة، فسقطت في إحدى عينيه قطعة من رماد النار، وزحف بجسده من تحت السيارة مسرعا، لا يسعفه في مسح عينه المصابة، إلا طرف قميصه الذي تحول إلى خرقة من زيت مزج بالقذر والحمد لله، جاءت سليمة، لكن هل يجوز لأحد من السادة المثقفين أمام هذا المنظر، أن يشكو من قلة كسبه وكثرة كسب هذا العامل؟
كانت كلها «كلمات» - منطوقة مرة ومكتوبة مرة - هي التي قدمتها للناس على طول السنين، ومع ذلك فماذا لقيت منهم؟ كافأني الشعب الكادح على كلماتي تلك، برواتب أجراها ولا يزال يجريها، وكافأني بما دفعه أثمانا لكتبي، ولم يكن ذلك كله ملاليم، كما يزعم المثقفون فينا نكرانا للجميل، بل كان قروشا وجنيهات، مهما قلت فهي كثيرة بالنسبة للمتوسط العام الذي كان من العدل أن يشملنا كما يشمل طوائف العاملين.
على أن هناك كلمات وكلمات، وليس الكلام كله سواء، فهنالك كلمات يكتبها الطبيب وصفا للدواء الشافي، وكلمات يكتبها المهندس تخطيطا لبناء يقام، فتلك وأمثالها كلمات وثيقة الصلة بالعمل، وليس فيها القصور النظري الشكلي الذي يعاب، ولكن هناك أيضا كلمات - كالتي هي بضاعتي - تبدأ كلاما وتنتهي كلاما! والحمد لله فلم يصبني بالغرور، الذي يوهم صاحبه بأن الفلك الدوار، إنما يدور على محوره هو، فما فتئت على مدى السنين أقول وأعيد - في ميدان تخصصي الجامعي - بأنه إذا كان لا بد من كلام، فليكن كلاما من الضرب الذي يضيء طريق العمل، فكل كلام يبدأ باللفظ وينتهي باللفظ، ثم لا شيء بعد ذلك؛ هو هراء، بل شر من الهراء؛ لأن الهراء الصريح يصم الناس دونه آذانهم فلا يضر، أما هذا الهراء المتستر وراء طلاء خادع، فهو الذي قد نفتح له آذاننا في غير جدوى.
ألم أقل ذات يوم (في مقال عنوانه «مداد مغشوش»، نشر في 20 مايو 76) إنني على سبيل المراجعة، استخرجت من مكتبتي مجموعة المقالات الإصلاحية، التي كتبها الشيخ محمد عبده؛ لأرى ماذا يكون الفرق بين المشكلات التي عرضت له، والمشكلات التي تعرض لنا، فإذا هي في جملتها متشابهة؛ مما دعاني إلى السؤال: ماذا صنعت - إذن - كتابة الكتاب في زمن طوله قرن كامل؟ فلو كنا قد أدرنا تعليمنا على الربط الوثيق، بين الكلام الذي نقوله والعمل الذي نؤديه، لتغيرت حتى طريقة كلامنا نفسه، فتقل السيولة اللفظية التي تذهب هواء مع الهواء، وتبقى حالنا هي حالنا، لا يغيرها إلا سواعد العاملين.
وعدت إلى نفسي أناقشها الحساب، وألح عليها بالسؤال: ماذا قدمت للناس لقاء ما قدموا؟!
قالت: تعليم هناك، كان وما زال، وكتابة هنا، كانت وما زالت، فماذا تريد؟ وإذا جعلنا الكتابة ضربا من التعليم، أجبتك بأن حياتي قد ذهبت تعليما داخل الأسوار وخارج الأسوار، أليس في ذلك ما يكفي؟!
قلت: كان يكفي لو أن التعليم جاء هداية، تنقل الناس من قول إلى عمل، الفرق كبير يا صاحبتي بين أسلاك من اللفظ تنثرينها على الأرض باردة، وتلك الأسلاك وقد سرت فيها حرارة التطبيق، في الحالة الأولى يتعثر السائرون فيسقطون، وفي الحالة الثانية يهتز الوجود حرارة وكهرباء. لقد زارنا هنا في مصر كاتب إنجليزي منذ سنين، والتقيت به مصادفة في فندق كنت أقيم فيه، فعلمت أنه بصدد الكتابة عن مصر، وأنبأني بأنه يتأهب للرحيل إلى بعض قرى الصعيد، يخالط الناس فيها ويشاركهم أعمالهم كما يعملونها، وذهب وقضى ما قضى من أسابيع، ثم عاد، وجلسنا معا نتحدث فيما وجد وما أحس، فكان من أطرف ما قاله لي، أنه قد وجد بعض الأعمال أشق في حقيقتها مما تبدو في ظاهرها، من ذلك العمل على الشادوف، ثم أضاف إلى قوله: الفرق بعيد بين أن أكتب لأقول «إن بعض المزارعين يستخدمون الشادوف في ري الأرض.» وبين أن أكتب ذلك نفسه، لكن بعد أن أحس من داخلي إحساس هؤلاء المزارعين وهم يعملون. في هذه الحالة الثانية تسري في كلماتي حرارة الحياة ونبضات الصدق، وأما كلماتي إذا ما قيلت وأنا بعيد، فلا بد أن تجيء وكأنها قطع من الثلج.
وهكذا أنت يا نفسي - هكذا عدت إلى نفسي أحدثها - كأن شأنك شأن معظم المثقفين في بلدنا، نقول القول ولا نمارس ما ينطوي عليه من مشقة العمل فيسهل النقد، ويهون تصوير النماذج المثلى، وكأن نجوم السماء يجوز لها، أن تنتثر أمامنا أصدافا على الأرض، استجابة لكلام نقوله أو نكتبه، ماذا كانت دنيا الناس لتخلو منه، إذا لم يكن لك يا نفسي اللسان الذي تكلم والقلم الذي كتب؟! هل كان بناء فيها لينقض، أو طريق لينسد، أو جسر لينهدم؟ ذلك لأن بضاعتك كانت كلاما لا تسري في مفاصله حرارة العمل، أفلا تذكرين - يا نفسي - كيف استهان رئيس للتحرير بما تكتبينه؛ فقرر حذف ما تكتبين، وشاءت الأحداث الساخرة أن يكون الرجل ممن تعلموا على يديك؟ أرأيت كيف ذهب تعليمك؟ وأي موقع وقعت كتابتك؟
فإذا كان هذا مبلغ ما ذهبت إليه جهودك، ثم قدم إليك هذا الشعب - العريقة أصوله، الكريم عنصره - ما قدمه من رغد العيش، ومن علائم التقدير، أفلا يكون من حقه كل ما في وسعك الضئيل، أن تقدميه إليه من تضحية، ومن إخلاص، ومن حب؟!
قامات متساوية
من الفوارق المألوفة بين العلم والفن، أن العلم «يتقدم» مع الزمن، بمعنى أن القوانين الطبيعية التي أخذ بها العلماء في القرون الماضية، لم تعد مما يقبله علماء اليوم، إذا أحلوا محلها قوانين أخرى، أصدق انطباقا على ظواهر الطبيعة، وأما في الفن فليس ثمة معنى مفهوم لفكرة «التقدم»، فربما كان أقدم شاعر عرفه التاريخ، أروع في شعره من أعظم شاعر يعيش بيننا الآن، من ذا يجرؤ على القول بأن أدباء المسرح في عصرنا هذا، هم أعلى في درجات الفن الأدبي من شيكسبير بل من سوفوكليز عند اليونان الأقدمين؟ من ذا يجرؤ على القول بأن فن التصوير على أيدي أعلام هذا العصر، متفوق على ما أبدعه رافائيل ومايكل أنجلو؟ من ذا يستطيع الزعم بأن فن النحت على أيدي نوابغه المعاصرين، أعظم - بمعايير هذا الفن - مما أبدعه أزميل النحات المصري القديم؟ ألم تقل لي أستاذة ناقدة في الفنون التشكيلية ذات يوم، وقد وقفنا في القسم المصري من متحف المتروبوليتان بنيويورك، أمام تمثال فرعوني صغير، ولكنه رائع رائع، ألم تقل لي الأستاذة الناقدة يومئذ إنها لو وضعت فن النحت المعاصر بأجمعه في إحدى كفتي الميزان، ووضعت ذلك التمثال الصغير في الكفة الأخرى، لرجحت عندها كفته؟
لا ، ليس ثمة معنى واضح مفهوم لفكرة «التقدم» في الفنون، بمثل ما هو واضح مفهوم في مجال العلوم، أو على الأقل هذا ما كنت أراه وما زلت أراه، لولا أن مؤلفة حديثة قد أخرجت كتابا في تاريخ الفن، تزعم به غير ذلك، وكان مما وقفت عنده من أفكارها في ذلك، فكرة هي غاية في الطرافة، لم أستطع لا أن أؤيدها ولا أن أنفيها؛ لأن علمي بتاريخ الفن أقل جدا مما يسعفني بالأمثلة التي تؤيد أو تنفي، وأما الفكرة الطريفة التي أشرت إليها، فهي قول المؤلفة بأنه من علامات النمو والتقدم في الفنون - كفن التصوير مثلا أو فن النحت - أنها تساير التقدم الحضاري، بما تدخله في مضموناتها من تغيرات جوهرية، ومن ذلك - على سبيل المثال - أن الفنان القديم كان يفاوت بين قامات الناس، بحسب تفاوتهم في مكاناتهم الاجتماعية، فلا يرسم الملوك في أحجام أفراد الناس من العامة، ومع سير التاريخ، أخذ الفنان يقارب بين هذه القامات شيئا فشيئا، حتى جاء عصرنا ومعه المساواة الاجتماعية شبه الكاملة، فأزال الفنان كل ضروب التفاوت التي روعيت في العصور الماضية، ومعنى ذلك هو أن يكون في حياة الفن «تقدم»، يوازي التقدم الذي نراه في أي مجال آخر من مجالات النشاط الإنساني.
تلك كانت هي الفكرة الطريفة التي وقفت عندها، وتقاطرت الذكريات كما شاءت أن تتقاطر، لا كما شئت لها، فكان مما ورد على خاطري، ذكريات عزيزة من مرحلة طويلة في حياتي، كنت خلالها أوثق صلة بالفن، وما ينتج في ميدانه هنا في مصر، وهي مرحلة سعدت فيها بصحبة موحية لصديقين كريمين، من أئمة الحياة الفنية في دنيانا الثقافية، وهما صلاح طاهر، وحامد سعيد، وما إن جاءتني هذه الذكرى، حتى قفزت لأقف عند لوحات أقتنيها من فن صلاح طاهر، ولأجمع شيئا عندي مما رسمه أو كتبه حامد سعيد.
فمن لوحات صلاح طاهر التي أقتنيها، صور لمجموعات بشرية، لعلها تمثل مرحلة من أخصب وأمجد ما أنتجه هذا الفنان؟ ولولا الفكرة التي تزودت بها من المؤلفة التي أشرت إليها ، لما تنبهت بكل هذه القوة التي تنبهت بها إلى قامات لأشخاص في هذه المجموعات البشرية، التي صورها صلاح طاهر أشكالا أشكالا وألوانا ألوانا، وإذا هي في الحق ناطقة بهذا المعنى، بل بأكثر منه، فالقامات فيها متجانسة تنعدم بينها ضروب التفاوت، حين يكون للتفاوت مغزاه السياسي أو الاجتماعي، ثم هي أيضا متجانسة في شيء آخر، وهو أنها جميعا في الخفاء سواء، فترى مجموعة النسوة قد تلفعن بملاءات سوداء، أو ترى مجموعة الرجال قد لفوا أنفسهم بأثواب بيضاء، وبذلك تقف أمام اللوحة، فلا ترى إلا تكوينا قوامه أشخاص، تعاونوا معا على تكامل التكوين، دون أن يتبين من أحدهم ما يميزه ممن عداه.
فهل نقول - على ضوء ما قرأته عند تلك المؤلفة - إن الفنان هنا قد جسد القيم السياسية والاجتماعية في الحياة المصرية الجديدة، والتي من أهمها أن تزول الفوارق الفردية، ليبقى المجموع المتعاون على إنتاج متكامل، وحتى إذا لم تكن هذه الفكرة قد تحققت في حياتنا تحققا كاملا، أفلا نقول هنا إن الفنان قد سبق برؤيته الفنية، ما لا بد أن يصل إليه المجتمع ذات يوم، ما دام سائرا على الطريق الذي بدأه؟
وجلست بعد هذه النظرة الجديدة، التي نظرت بها إلى ما عندي من لوحات صلاح طاهر، جلست لأقلب فيما كتبه صديقي الآخر، وهو رائد الفن، الصديق حامد سعيد، وأخذت أقرأ ما كنت قرأته له قبل ذلك، مما كتبه بمناسبة إنشائه منذ سنوات عديدة، لما أسماه بمركز الفن والحياة، فهذا الرائد لم يكفه أن يضع نفسه في فنه الروحي الصوفي الشفاف، بل أضاف إلى ذلك أن يبث رؤيته في حوارييه، حتى إذا ما تخرج على يديه نفر يعتز الفن المصري المعاصر بإبداعهم، أضاف إضافة أخرى، وهي أن يقيم ذلك «المركز»، الذي جعل مدار العمل فيه، هو إعادة الشخصية المصرية إلى الوعي بذاتها، عن طريق الرؤية الفنية.
فها هنا برزت فكرة التعادل والمساواة والتجانس بين أفراد الناس، لا من حيث هم أطوال جسدية تتكافأ في ارتفاعها، بل من حيث هم أنفس قبل أن يكونوا أجسادا، فصميم الفكرة الاشتراكية عنده هي إنسانية الإنسان، فهذا هو جوهر الموضوع، وأما كل ما يجيء بعد ذلك - كما يقول حامد سعيد - فهو امتدادات وانبثاقات من هذا الأصل الروحي، فنحن إذا تناولنا الأمور من جذورها، استقامت أمامنا سبل التفكير، واستقامت - بالتالي - سبل العمل على اختلاف نواحيه، وحقا إن من دواعي الأمل في صحة الحياة الثقافية التي نحياها، أن يكون فيها هذه الأركان الحية بنشاطها، الواعية بأهدافها؛ ولذلك فقد أذهلني ما سمعته منذ قريب، من أن هيئة من الهيئات الرسمية المشرفة على الفنون، قد اتجهت نحو الحد من نشاط ذلك «المركز»، فلعل ما سمعته لم يكن صوابا.
إلا أن اللحظات التي تنقضي مع الفن، إبداعا أو تذوقا، لهي اللحظات التي تكشف لنا عن الحق في جوهره، بعد تخليصه من الشوائب التي تحول دون رؤيته على الوجه الصحيح، إنها لحظات يمكن تشبيهها بالجبال في الأرض، فليس الجبل كائنا غريبا وضعوه فوق سطح الأرض، بل هو الأرض نفسها، وقد ارتفعت عن المستوى العام، وكذلك اللحظة الفنية - سواء كانت لحظة إبداع من الفنان نفسه، أو كانت لحظة تذوق بصير ممن يتأمل العمل الفني - أقول إن اللحظة الفنية هي كذلك مرتفع في مجرى الخبرة البشرية، لم يقحم عليها إقحاما، بل هي جزء من تلك الخبرة البشرية نفسها، وقد ارتفع عن المستوى العام.
فإذا كان الفن قد أخذ يميل في عصرنا، نحو أن تتعادل قامات الناس، وأن تتكافأ أنفسهم وأرواحهم، فكذلك ينبغي للحياة العملية أن تكون، ولسنا نريد لهذا الكلام أن يمضي، وكأنه صنوف من الألفاظ كتبت ثم قرئت، وبعد ذلك يذهب كل شيء إلى فراغ العدم، بل نريد لهذا الكلام أن يدق أذن القارئ دقا، حتى يدق في عظمه - كما نقول - لعله يتحول عنده إلى أسلوب في النظر وطريقة في الحياة.
وأول خطوة نحو هذا التحول، هي أن نغير أفكارنا عن البطولة والأبطال، فمن الواضح أن هنالك نسبة عكسية بين الفكرتين؛ فكرة التقارب بين أقدار الناس - في الواقع وفي الفن على السواء - وفكرة البطولة وعبادة الناس لها، بمعنى أنه كلما زالت الفوارق في الأحجام، قل الميل نحو عبادة الأبطال.
إن اختفاء «العملاق» من مسرح الحياة المعاصرة، له صور عديدة، منها - مثلا - أنه بينما كان المألوف في الحياة الفكرية أو الحياة السياسية، قيام عملاق جبار يحيط به أتباع أقزام بالقياس إليه، نرى أن الصورة في عصرنا، هي أن تتوزع القدرة على مجموعة من القادة، بدل أن تتركز في أشخاص بأعينهم، فيزدادون بها ضخامة بالنسبة إلى أقرانهم، ففي الحياة الفكرية - مثلا - كان يسيطر على العصر الواحد من العصور فيلسوف واحد ضخم، ينسب إليه العصر كله، بحيث يصبح الباقون أتباعا تحت لوائه، فيقال: عصر ديكارت، وعصر كانط، وهكذا، ويكون لكل من هؤلاء «مدرسته» الفكرية، أي مجموعة الفلاسفة الذين يسيرون على دربه؟ وأما في يومنا هذا، فلن تجد العمالقة الذين يبتلعون العصر في أجوافهم، لن تجد في يومنا هذا رجلا مثل أفلاطون أو أرسطو أو ابن سينا أو الغزالي، وكذلك قل في دنيا الإبداع الأدبي، إذا كان من المألوف أيضا أن ينهض في العصر المعين، أديب يرتفع كأنه الجبل الشامخ، لا يترك لمن يعاصرونه إلا القليل؛ فهكذا كان الجاحظ في عصره، وأبو العلاء المعري في عصره، ولعل هذه النقطة أكثر وضوحا في الأدب الغربي، فنرى هومر دانتي أو شيكسبير أو جيته، وكأن الواحد منهم كان يعيش وحده في فراغ يخلو من الأنداد؛ ولذلك كان كل منهم يستوعب عصره، ويعتصره ليكون منه بمثابة الممثل الشرعي الذي يمثل أمة بأسرها، تفكر بعقله وتكتب بقلمه، وتنطق بلسانه ... وأما في عصرنا هذا فالأمر مختلف؛ إذ يتقسم هذه النيابة الشرعية مجموعة بأسرها من المفكرين أو من الأدباء.
شعب مكافح
كانت الفنانة الموهوبة التي جاءت لتسمر معنا منذ قريب هي التي ألقت علينا السؤال، فقالت: ما الذي تلحظونه من أوجه النقص في حياتنا الفنية - وكانت تعني عالم السينما بصفة خاصة - وماذا ترونه أجدر بجهودنا نحن المشتغلين في عالم التمثيل؟ ما هي أفضل الأدوار التي يجدر بمثلي أن تختارها، إذا أرادت أن تؤدي في الفن السينمائي دورا له قيمه الثابتة؟
فأخذنا نحاول الإجابة، كل من وجهة نظره، وما هو إلا أن برزت لنا خلال السمر المسترسل الهادئ، نقطة رأيتها تلمع ببريق الصدق، وكانت تستحق منا مزيدا من التحليل والتوضيح، لولا أن أمثال هذه الجلسات الحوارية العابرة، من طبيعتها ألا تتقصى ولا تطول.
والنقطة التي رأيتها تلمع ببريق الصدق في مجرى الحديث، هي أن أفلامنا السينمائية - حتى وهي جادة في تصوير حياتنا - تشبه من يحوم حول الحصن ولا يغزوه، إنها حين تعرض علينا صورا من الجهود المبذولة في تطوير حياتنا، ونقلها من مرحلة في تاريخنا إلى مرحلة، وحين تقدم لنا صورا من بطولة أبنائنا في شتى الميادين؛ بطولتهم في حرب التحرير، وبطولتهم في المصانع، وفي المزارع، وفي ميادين البحث العلمي، وفي غير هذه وتلك من مجالات الفكر والعمل، يحس المشاهد بشيء من التكلف والتصنع، يحس كأنما هو أمام نشرة جاءت من مصلحة الاستعلامات، كتبها موظفون تنفيذا لأوامر جاءتهم، ومعها التوجيه وطريقة التنفيذ، ولعل مصدر هذا الإحساس عند المشاهد، هو أن الصور المعروضة تكتفي، في معظم الحالات، بظواهر الأمور دون بواطنها ولبابها.
إنه لا يكفي أن يقتصر الأمر في قصة كفاحنا، عند مجموعة من الأخبار الإعلامية تحشر في قصة الفيلم حشرا، كأن الفيلم كتاب من الكتب المقررة على المدارس، حتى وإن نسجنا في ثوب القصة خيوطا من الحب والزواج والأسرة والأبناء؛ وذلك لأن كفاح الشعب لا يظهر على حقيقته، إلا فيما هو كامن في صدور الناس من خلجات، تضطرب بها الأفئدة من صدق وعزيمة؛ فالسد العالي، والمصانع والمعاهد والجامعات ومراكز البحوث، وغير ذلك من ألوف المنشآت التي أقمناها لننهض بها، إنما تستمد حرارتها وغزارتها ومعناها من نبض القلوب ومن مضاء العزيمة، أما هي في ذاتها فقد كان من الجائز، أن يقيمها مستعمر أراد استغلالنا لصالحه، فالوقوف عندها وحدها قد لا يدل على شيء، وربما كان أكثر منه دلالة، أن نتعقب أسرة واحدة فيما تضطرب به جوانح أفرادها من نوازع الطموح، فنرسمها رسما صادقا، فنرى في مشاعرها من الداخل، وفي مسالكها من الخارج، ما يصرخ بالبرهان على كدح هذا الشعب وكفاحه، لا ليقف عند ضرورات العيش وحدها، بل ليتفوق على نفسه نهوضا نحو ما هو أعلى.
ولا يحتاج الأمر منا إلى بحث طويل، لنجد النماذج التي تستحق التصوير، والتي إذا صورناها، صورنا معها وبها هذه المرحلة من تاريخنا، تصويرا حيا لا يثير في المشاهد الشعور بالتكلف المصطنع؛ لأنه بالفعل حقيقة لا تظاهر فيها ولا كذب.
ليس هو إسرافا في القول، أن أزعم بأنني لا أكاد أعرف واحدا ممن حولي، سواء كانوا من ذوي القربى، أو كانوا من الأصدقاء والمعارف، الذين صادفوني وصادفتهم على طريق الحياة؛ إلا وتاريخه الشخصي هو في ذاته قصة جهد وكفاح، ولم يكن الجهد والكفاح فيها ليقنع بملء البطون الجائعة وكفى، بل جاوز ذلك - في الكثرة الكاثرة من الحالات التي أعرفها - ليطمح فيما هو أعلى، على درجات الصعود، ولا تقل إنها حالات فردية صادفتك، لكننا مطالبون بأن نصور جهد الشعب في مجموعه، لا تقل ذلك، وإلا فقد ضاعت منك الرؤية الواضحة، كما هي ضائعة في أفلامنا، حتى وهي جادة وهادفة؛ إذ يخيل إلي أنها - لكي تجعل القصة شاملة للشعب كله - تتعمد أن تنزع من الأفراد فرديتهم، لتتركهم وكأنهم رموز شبحية لمجهول، ومن هنا يجيء شعور المشاهد بما في القصة من تكلف، ولولا هذا الغواء لما ألقت علينا الفنانة الموهوبة، التي جاءت لتسمر معنا، سؤالها الدال على قلقها، فالشعب هو مجموع أبنائه، وكفاحه هو حصيلة كفاحهم، ولن ترى صورته الحقيقية التي لا زيف فيها، إلا إذا رأيتها مجسدة في حياة أفراده الخاصة، هذا رجل قد اكتمل نموه الاجتماعي والثقافي، يستطيع أن يقص عليك قصته منذ كان طفلا، يحثه أبوه على التفوق، كأن النجاح المجرد لا يكفيه، أراد من ولده تفوقا على زملائه وعلى نفسه، لو روى لك قصته ... كيف كان ذلك الوالد رقيق الحال ، وربما كان من حقه أن ينظر إلى حاله وحال أسرته نظرة إنصاف، فيقول: لا، إن راتبي الضئيل لا فيض فيه، بعد ضرورات العيش، يفيض به لتعليم الأولاد، وخير لي ولهم أن يعاونوا في كسب الخبز والثياب. إنه لو قال ذلك لما حق للائم أن يلوم، لكنه لم يقله، وأقبل على المغامرة القاسية التي كان يعلم في يقين، منذ اللحظة الأولى أنها مغامرة ستأكل حياته أكلا، وستدنو به وبعياله من حافة العري والجوع، ومع ذلك فقد أقبل عليها، وراح يقطع من لحمه الحي كل قرش، لينفق على أولاده في المدارس وفي الجامعات، وننظر الآن فإذا هم اليوم الدكتور فلان والدكتورة فلانة.
وربما مضى هذا الراوي في حكاية حياته؛ ليصور لك أنه منذ تخرج هو في الجامعة، لم يجد الأرض ممهدة ومفروشة بالبساط الناعم؛ فطفق على طريق الصعاب مجاهدا، لا يقنعه الكفاف، والذي يعنينا من قصته، هو أنه إذا أراد أن ينهض بنفسه، فيزيد من علمه علما، ومن منصبه ارتفاعا، إنما كان ينهض بوطنه حتى ولو لم يكن ذلك عن قصد مباشر؛ وذلك لأنه يكفي أن يسير على طريق القيم الرفيعة الطامحة، من أجل شخصه هو لتنعكس الثمرة على أمته، وها هنا على وجه الدقة يكون الفاصل فيما نشاهد على شاشات السينما، بين إخلاص وزيف.
نعم، إنك لا تحتاج إلى بحث طويل عن نماذج المواطنين، الذين يكدحون من أجل الصعود بأنفسهم وبذويهم، فإذا صعودهم الخاص صعود في الوقت نفسه للناس أجمعين، فهذه النماذج المكافحة تراها متمثلة في جميع من حولك، من أهل وأصدقاء ومعارف وجيران، إذا أنت أمعنت النظر، ونفذت خلال الظواهر إلى البواطن، وانتقلت ببصرك من الفروع إلى الأصول ... وهل أنسى ما حدث لغلام فقير لكنه نابغ، عندما كانت مجانية التعليم لا تشمل إلا قلة من الأفذاذ النابهين، ومع ذلك فقد كان يشترط على هؤلاء أن يدفعوا القسط الأول، قبل أن يتاح لهم الدخول، فقد أراد ذلك الغلام وأراد له أبوه، أن يدخل المدرسة الثانوية، بعد أن أكمل المرحلة السابقة، بتفوق وضعه في مقدمة الزملاء جميعا؛ فذهب الغلام في صحبة أبيه، ومعهما خطاب يوصي بالغلام خيرا لأنه موهوب، ووجه التوصية هو أن يعفى من القسط الأول، وأما المجانية فمكفولة للغلام بعد ذلك، بحكم القانون لتفوقه، من أين ذلك القسط الأول، والوالد لا يملك من دنياه قرشا واحدا يزيد على الخبز الجاف؟ لقد رزقه الله ذلك الابن النابه، لكنه لم يرزقه بالجنيهات القليلة، التي كان لا بد من دفعها قبل الالتحاق بالمدرسة، وكان ناظر المدرسة طيب القلب، تأثر بالموقف تأثرا عميقا، لكن ماذا كان في وسعه أن يصنع؟ إن عينه بصيرة بحقيقة الأمر، لكن يده كانت أقصر من أن تصنع شيئا للغلام وأبيه، وكان الغلام وأبوه واقفين في فناء المدرسة، ينتظران الجواب، وجاءهما الجواب الحزين، فبكى الوالد مرددا من خلال دموعه «يا خسارة» «يا خسارة»، واحتضنه ابنه، يمر بكفيه الصغيرتين على ظهره، في عطف يذيب الصخر، قائلا له: لا عليك يا أبي لا عليك! لا عليك يا أبي، لا عليك!
فهل استسلم الوالد المعدم؟ أبدا أبدا! لم يستلم، والله أعلم ماذا فعل ليعود بعد أيام بالجنيهات المطلوبة، وبدأ الفتى شوطه المدرسي، ليتلوه شوط الجامعة، وليظل على تفوقه، فيسافر إلى فرنسا، ويصبح اليوم هو الأستاذ الدكتور فلان، أستاذ ورئيس قسم مادة كذا بكلية كذا ... فادخل معي إلى حبات الأفئدة في صدور هؤلاء الناس، تجد إصرارا على التسامي، إصرارا على التفوق على أنفسهم، إصرارا على تحطيم الحواجز أو الوثوب فوق رءوسها. وليست هذه النماذج من مضاء العزيمة، بالشيء النادر في بلادنا، بل هي هناك عند كل خطوة تخطوها، عند كل حنية من حنايا الطريق، في كل ركن من أركان الريف، فكلها قلوب ملئت بالإرادة، إرادة أن تغير الحياة بادئة من بواطنها، وهنا نكرر القول - لأنه هو الذي يعنينا في موضوعنا الراهن - بأن الأسرة، أو أحد أفرادها حين تفوز بعوامل الطموح، فهي تفعل ذلك من أجل نفسها، ثم يجيء الارتفاع بالوطن نتيجة مباشرة بعد ذلك، هذا هو الموقف الطبيعي، أما إذا أصرت السينما على تصوير جهود المجاهدين على أنها مبذولة - عن وعي وبعمد وتصميم - من أجل المجتمع وفي سبيل الوطن، بدأت الصورة تهتز في أعين المشاهدين ، واختلط صدقها بباطلها، وضاع أثرها مع الدخان.
في اعتقادي أن من بين الدوافع العميقة التي تدفع الناس في بلدنا، نحو هذا التسامي، حتى ولو جاء ذلك على حساب الرغيف والجلباب، هو الرغبة القوية في أن يزيلوا الفوارق بين المواطنين لتتساوى القامات، وإلا فما الذي يبرر لهذه العاملة في خدمة المنازل، ولهذا الشاب الذي يشقى، ما الذي يبرر لهما - وهما اثنان على مرأى العين مني، وليسا من خلق الخيال - أن يكدحا، كارهين لنوع العمل؛ لينفقا على إخوة لهما في مراحل التعليم؟ وسألت الفتاة وسألت الفتى، فكان جوابهما واحدا، وكأنه جواب متفق عليه، وهو: لقد حرمنا من التعليم، فأردنا أن نعوض ما فاتنا في رفعة إخوة لنا.
ومع كل هذه القصص الشريفة الطموحة من حولنا، التي كان محالا على أمثالها أن يقع، ما لم تكن الأمة تحيا في مناخ تسوده إرادة الحياة وإرادة القوة معا، ترانا نبحث عن حكايات للسينما، ونلجأ إلى التزييف في مواقف مصطنعة لا تقنع أحدا، ونرى الفنانة الموهوبة تلقي علينا سؤالها؛ لنهديها إلى دور في دنيا التمثيل يشرفها أن تؤديه.
الثورة الصامتة
شهد هذا القرن حربين كبيرتين، شملتا العالم بأسره، وشهد معهما كذلك عشرات الحروب الصغرى، التي اقتصر كل منها على إقليم واحد، ومع ذلك فهنالك من أصحاب الرأي، من يزعمون لنا بأن عصرنا هذا، إذا قيس إلى العصور السابقة، كان عصر ثورات أكثر منه عصرا للحروب، على خلاف في ذلك مع العصور السابقة، التي كانت عصورا للحرب أكثر منها عصور ثورات.
ولقد وقفت عند هذه التفرقة طويلا، لعلي أقتنع بصدقها، فأخذت أقلب النظر في القرون القليلة الماضية - وهي تسمى عادة بالعصر الحديث - لكني لم أجد ما يؤيد هذه التفرقة، إلا أن يكون «للثورة» عند صاحب هذا الرأي معنى آخر غير معناها المألوف؛ إذ لو أخذنا بهذا المعنى المألوف، لألفينا الحروب والثورات قائمتين جنبا إلى جنب، أو متلاحقتين تلاحق الأسباب بمسبباتها؛ فالثورة الفرنسية وحروب نابليون - مثلا - قد تداخلتا تداخلا جعلهما ثورة وحربا في آن واحد معا.
على أن الثورة كما نراها في القرون الأخيرة، قد اتخذت صورا مختلفة، ولا أفضلية لصورة منها على صورة، فهنالك الثورة التي اتخذت صورة العنف، الذي كاد يجعلها مع الحروب في قائمة واحدة، وهنالك الثورة التي اتخذت صورة المقاومة غير العنيفة، كالتي دعا إليها غاندي - كما كان قد دعا إليها من قبله تولستوي في الروسيا وثورو في أمريكا - ثم هنالك الثورة التي اتخذت صورة ثالثة، جعلتها أقرب إلى «التطور»، الذي يعمل على تحويل الحياة، كالثورة الصناعية - مثلا - والثورات الاجتماعية الإصلاحية بكافة ضروبها.
فبأي معنى يقال عن عصرنا إنه عصر ثورات، بعد أن كانت سوابقه عصورا للحروب؟ نعم، إن هذه الضروب الثلاثة كلها قد شهدها عصرنا في ثوراته، فثورة الروسيا وثورة الصين كلتاهما، قد اصطنعتا وسيلة العنف، وثورة الهند قد آثرت وسيلة المقاومة المسالمة، والثورات الاشتراكية التي ظهرت في أجزاء كثيرة، قد جاءت في الوقت نفسه تطورا في بنية المجتمع وطرائق العيش، لكن هذه الضروب الثلاثة نفسها قد ظهرت في غير عصرنا، وإذن فليست هي وحدها مبررا كافيا لتمييز هذا العصر بأنه - على خلاف سوابقه - عصر ثورات.
وإنما المبرر الكافي لهذه الصفة، هو أن التاريخ لم يشهد عصرا آخر كعصرنا، قد بلغ فيه التغير الثوري كل هذه الأبعاد التي بلغها في عصرنا، وهي أبعاد أفقية ورأسية معا، فقد امتدت ثورات عصرنا أفقيا حتى شملت قارات بأسرها دفعة واحدة، وشملت تبعا لذلك بلايين البشر، وامتدت رأسيا حتى نبعت من أعماق الشعوب، ولم تكن مجرد حركات تقوم بها حكومات أو أقليات اقتصادية أو ثقافية.
على أن الأمر - على كل حال - لا يقتصر على الثورات المسموعة، فهنالك ثورات أخرى من نوع صامت، تتسرب عواملها في أوصال المجتمع، فتفعل فعلها فيما يشبه الخفاء، فهي ثورات تفتت الجرانيت بقطرات من الماء، واهنة لكنها دءوب، يقول كولردج - الشاعر الإنجليزي في أوائل القرن الماضي - يقول في كتابه «حديث المائدة»: «لقد شهدت إنجلترا في تاريخها ثلاث ثورات صامتة، كانت الأولى حين انسلخت المهن عن الكنيسة، وكانت الثانية حين انسلخ الأدب عن المهن ، وكانت الثالثة حين انسلخت الصحافة عن الأدب.» ولكي أجسد أمام القارئ صورة هذه الثورات الصامتة الثلاث، التي ذكرها كولردج عن التاريخ الثقافي لبلاده، أقول: تصور رجلا من رجال الدين قد ارتدى أربعة أثواب بعضها فوق بعض، كل ثوب منها يرمز إلى انتمائه إلى مجموعة معينة من الناس، فثوب يدل على انتمائه إلى عالم الأدب، وآخر يدل على أنه من رجال الصحافة، وثالث يرمز إلى أنه معلم، ورابع يبين أنه من رجال الدين، كانت هذه الصورة المكدسة الأثواب، فوق رجل واحد، هي صورة الحياة الثقافية في العصور الوسطى لإنجلترا، ثم أخذ الرجل، شيئا فشيئا مع مراحل التطور، يخلع عن نفسه ثوبا بعد ثوب، حتى لم يبق على جسده إلا عباءة الكنيسة، على أن كل ثوب من الأثواب المخلوعة، كان يلقفه رجل آخر ليستقل به، فبعد أن كان القسيس هو نفسه الأديب، وهو المعلم، وهو الصحفي، أخذت هذه الجوانب الثقافية تستقل، ليقوم كل جانب منها على أسسه، حتى وإن حدث بعد ذلك أن تواصلت شتى الجوانب؛ لتنشئ معا حياة ثقافية واحدة.
كانت هذه الانسلاخات - في رأي كولردج - بمثابة الثورات التي حولت صورة المجتمع في هدوء وصمت، لم يشعر بها أحد إلا حين برزت نتائجها واضحة أمام الأبصار، وفي ظني أن ثورات صامتة كهذه، قد دب دبيبها في حياتنا نحن الثقافية، لولا أنها لم تستكمل عملها بعد، لتصل به إلى نهايته، وليس من الضروري - بطبيعة الحال - أن تكون الفروع المراد سلخها لتستقل بذاتها، هي نفسها الفروع التي لحظها كولردج في التاريخ الثقافي لبلاده، ويكفي أن يكون اتجاه السير متشابها في الحالتين.
انظر إلى شريط حياتنا الثقافية خلال القرن العشرين، واجعل أحد طرفيه محمد عبده في أول القرن وتوفيق الحكيم في يومنا الحاضر، تجد الفرق بين الأول والثاني شبيها بما قصد إليه كولردج؛ كان الشيخ محمد عبده إماما في الدين، وفي السياسة، وفي الصحافة، وفي الأدب، وكانت كل هذه الجوانب منصهرة في شخصه الواحد، فكان لا بد أن ينساق كل جانب منها إلى دواعي الجوانب الأخرى، فأدبه يتسق مع الصحافة، وصحافته تتسق مع السياسة، وسياسته تتسق مع عقيدته الدينية؛ فلم يكن في مستطاع الناقد في كل فرع من هذه الفروع، أن يحاسبه بما تقتضيه الأصول الفنية لذلك الفرع، ومع الأيام أخذت تنفرط هذه الجوانب، ليضطلع بكل منها من يجيد فنونه، وها هو ذا توفيق الحكيم، الذي جعلناه طرفا يمثل الصورة الحاضرة، أديب يرعى فنه الأدبي ليصون له قواعده، فنتج لنا بذلك أدب جديد قوي.
على أن أطوار السير في حياتنا الثقافية، لم تجئ متطابقة مع المراحل التي ذكرها كولردج عن بلاده؛ فقد جاءت العشرة الأول من هذا القرن برجال من طراز يختلف عن طراز محمد عبده، من أمثال لطفي السيد وقاسم أمين، ثم جاءت العشرة الثانية بطراز ثالث، من أمثال هيكل والعقاد وطه حسين، وأعقبتها العشرة الثالثة بطراز رابع، من أمثال سلامة موسى وعلي عبد الرازق، ثم العشرة الرابعة بطراز خامس، تمثل في توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومدرسة أبولو، وفي العشرة الخامسة حدثت حيرة، وإرهاصات بالفكرة الاشتراكية، وقامت ثورة 1952م، فأصبحت الفكرة الاشتراكية محورا رئيسيا، واشتدت الصلة بين الفكر والحياة.
وواضح أن هذه الموجات المتلاحقة قد تداخل بعضها في بعض؛ فأبناء الموجة المعينة منها يبقون على مسرح الحياة الثقافية ليضاف إليهم - لا ليحل محلهم - أبناء الموجات التالية، والذي يعنيني هنا هو المقارنة بين السوابق واللواحق؛ لنرى هل كان بينها «ثورة صامتة»، تتجه نحو أن تنسلخ الفروع، لتستقل فتشتد أعوادها وتقوى جذورها؟ إننا إذا تذكرنا أن الهدف أمام الجميع هو هدف مشترك واحد، وهو الحرية بكل فروعها وشعابها، والانفتاح على رحاب العصر، وجدنا كل فئة تسلك نحو ذلك الهدف سبيلا، يختلف بعض الشيء في محور ارتكازه عن الفئة التي بدأت قبلها، فكان رجال الموجة الأولى - بعد مرحلة محمد عبده - أقرب إلى الساسة، ورجال الموجة الثانية أقرب إلى الأدباء، ورجال الموجة الثالثة أقرب إلى العلماء ، على أن الصحافة كانت قاسما مشتركا بين أولئك وهؤلاء جميعا، حتى جاءت الموجة الرابعة في الثلاثينيات، فاستطاعت لأول مرة أن تسلخ الأدب عن السياسة وعن الصحافة معا.
نحن - إذن - نتقدم على الطريق بثورات صامتة، لكن ضربا من الدمج الممقوت الكريه، ما يزال جاثما على صدورنا، وكثيرا ما يقف عقبة في سبيلنا، والله أعلم متى يزول لنبرأ من كوارثه، هو ضرب لم يكن من الجوانب التي لحظها كولردج في بلاده، لكنه عندنا بارز ملحوظ، وهو الدمج بين صاحب المنصب وصاحب الفكر أو الأدب، فقد يكون صاحب المنصب مفكرا أو أديبا وقد لا يكون، وما لم ننضج إلى الحد الذي نفرق به بين مكانة الرجل ومكانة أدبه أو فكره، فلن تبلغ بنا الثورة الصامتة مداها.
ضمير الأمة في كتابها
للناس أن يختلفوا في كثير جدا من شئون الحياة الجارية، دون أن يكون (للضمير) دخل في هذا الاختلاف، وبالتالي، دون أن يكون للكاتب الحق في ذلك الدور المطلوب، فلهم - مثلا - أن يختلفوا في أفضل الطرق لتنظيم المرور ماذا تكون؟ هل تسير السيارات في هذا الشارع أو ذاك في اتجاه واحد أو في اتجاهين؟
وكيف نخفف حدة الزحام في ساعات الذهاب إلى العمل والانصراف منه؟ بل إن للناس أن يختلفوا فيما هو أخطر من ذلك شأنا، كأن يختلفوا في خير نظام لتقسيم المراحل التعليمية، وفي أنفع المناهج الدراسية وهكذا، لهم أن يختلفوا في نظام الفصل الدراسي الواحد في الجامعة أو نظام الفصلين، وهكذا قل في أمثلة أخرى كثيرة من نظم الحياة الاجتماعية؛ فليس كل اختلاف بين الناس محركا للضمائر، وإذن فليس كل اختلاف بين الناس في شئون الحياة الجارية، مما يستدعي بالضرورة أن يكتب الكاتب «الأديب»؛ لأن أمثال هذه الأمور متروكة لمن يعنون بتقصي الوقائع وإحصائها ومعالجتها على النحو الأفضل، بدءا من التقارير الصحفية وانتهاء إلى البحوث العلمية، لكنها أمور - كما قلت - لا دخل لضمائر الناس فيها، والفصل فيها إنما يكون للعلم وللتجربة.
لكن هناك ضروبا أخرى من المواقف، ما إن يختلف في شأنها الناس حتى تتأرق الضمائر في الصدور، حافزة أصحابها إلى الجهر بالرأي الذي يرونه صوابا، ثم الوقوف دون هذا الرأي مهما تطلب ذلك من كفاح وجهاد، وتضحية بالراحة أو بالمال أو حتى بالحياة نفسها، وتلك هي المواقف التي تمس إنسانية الإنسان، كالحرية والعدل والمساواة، وما إليها من قيم عليا تحدد للإنسان أهدافه البعيدة، وتخطط له طريق السير نحو تلك الأهداف.
فمن حق الإنسان العاقل أن يبدي رأيه المشروع، بالقول أو بالفعل، دون أن يكون لكائن من كان أن يحرمه من هذا الحق بحجة أنه أعلم منه بالطريق الأسلم، فالفرق الأساسي بين الحر والعبد، هو في أن الحر يقرر لنفسه القرار ليكون مسئولا عنه، على حين أن العبد يقرر له سيده؛ ولذلك يكون سيده هذا مسئولا عن عبده أمام القضاء، فإذا اعتدى معتد على حق الناس في حرية التعبير عن وجهات أنظارهم، لم يكن ذلك من قبيل الاختلاف على طرق المواصلات، ومراحل التعليم ورسوم الجمارك وجباية الضرائب، لا، بل هو من صنف آخر، يثور من أجله «الضمير» ويكتب «الأديب»، أو - على الأقل - ذلك هو ما ينبغي أن يكون.
إنه لمن عجب أن الناس جميعا، في كل بقعة من بقاع الأرض، وفي كل عصر من عصور التاريخ، قد اتفقوا على مجموعة من القيم العليا، لا يحول بينهم وبينها إلا أن يتدخل سلطان ذو بطش، يرى أن مصلحته تقتضي ألا يمارس الناس حياتهم في ظل تلك القيم، وحتى في هذه الحالة، فإن ذلك السلطان الباطش لا يجرؤ على نسخ قيمة من تلك القيم، إنه لا يقول للناس مثلا: إنني جئت إليكم داعيا إلى الظلم والكبت، بل تراه - بكل سلطانه وقوة بطشه - يراوغ زاعما أنه يريد العدل كما يريده كل إنسان، ويريد الحرية وهكذا، إلا أنه يرى العدل متحققا في كذا وكيت، ويرى الحرية متمثلة في هذا وفي ذاك، إنه لا ينفي «القيمة» العليا المعينة، لكنه يتستر وراء اسمها بما شاء لنفسه من تأويل وتفسير.
لقد وقفت لحظة أفكر، عندما كنت أقرأ قصة «دون كيخوته »، وطالعت الموقف الذي جمع طائفة من اللصوص قطاع الطريق، بعد أن نهبوا ما نهبوه ذات يوم وجلسوا ليقتسموه، فحدث بينهم خلاف على طريقة التقسيم، وبدأت بينهم المعركة، فجاء رئيس العصبة يستفسر الأمر، فقالوا له: إننا نريد «العدل» في قسمة الغنائم! اللصوص يريدون العدل فيما بينهم! وهكذا ترى القيم الإنسانية العليا أمرا لا خلاف عليه، بين الأبرياء وبين المجرمين على حد سواء.
ولو كان الأمر مقتصرا على فرد واحد، لوجد هذا الفرد من ضميره ما يهديه إلى الصواب، وحتى إذا خانته إرادته وارتكب الخطأ، فإنه عندئذ يعلم من وحي ضميره، أنه إنما فعل ما لم يكن يجوز له أن يفعله، لو أتيحت له الإرادة القادرة.
ولكن الأمر يختلف بالنسبة إلى الجماعة من الناس، فها هنا إذا ما اعتدى المعتدون على القيم الإنسانية العليا، فقد لا يتحرك الضمير بالقوة الكافية في هذا الفرد، أو ذلك الفرد من عامة الناس، وعندئذ ينوب عنهم الكاتب الأديب، إنه لم يتعرض لظلم أفدح من سواه، ولا لطغيان أكثر مما تعرض له الآخرون، لكنه بحكم تكوينه الذي جعله شاعرا أو أديب قصة ومسرحية، أو غير ذلك من صنوف الصياغة «الأدبية»، أقول إنه بحكم تكوينه ذلك، يكون أعنف ثورة في ضميره، فيعلن الرأي أو يصوغ حقيقة الموقف، إعلانا وصياغة تخرجان ما كان مضمرا غائما في نفوس الآخرين، أي أن ضمير الكاتب إذ يتحرك لنفسه، فهو كذلك يتحرك نيابة عن سائر الناس.
هذا هو أبو العلاء المعري في زمانه، يعاني ما يعانيه الجمهور كله من اضطراب السياسة وفساد الساسة، لكن الجمهور من طبيعته الصمت الذي لا يبين، والأديب بينهم هو وحده الذي ينطق بلسانه، عما كانت تود ألسنتهم أن تنطق به لو استطاعت، فيقول أبو العلاء فيما أحسه مع الناس كلاما كثيرا، بالشعر مرة وبالنثر الفني مرة أخرى، فيكون ذلك بمثابة ضمير خاص لنفسه، وعام يشمل الناس أجمعين، فتراه يقول ما معناه بلغتنا الدارجة: إن الناس تسوسهم هذه الأيام شياطين مسلطة عليهم، هم الولاة الذين يتولون أمورهم في الأمصار جميعا، فهؤلاء الولاة لا يعنيهم أن يجوع الناس حتى الموت، ما دامت موائدهم مثقلة بالطعام والشراب، وإن الأمير من الأمراء لم ينل إمارته إلا عن طريق العربدة، وحتى أولئك الذين يظهرون الورع والتقوى، فإنما ورعهم ذاك وتقواهم مصائد يصيدون بها المناصب والمكاسب، إلا أني قد مللت العيش في هذه الأمة - هكذا يقول أبو العلاء بعد ترجمة لغته الأدبية إلى لغتنا الدارجة - مللت العيش في هذه الأمة؛ لأنني أرى أمراءها، وكأنهم مكلفون بخرابها لا بصلاحها، فلقد ظلموا الرعية واستباحوا كبدها، وجاوزوا مصالحها، مع أنهم أجراء هذه الرعية يأخذون رواتبهم من كدحها، إنك إذا قلت الحق، اضطررت إلى أن تقوله مهموسا، وأما إذا نطقت لغوا وباطلا، أقاموا لك المنابر عالية:
إذا قلت المحال رفعت صوتي
وإن قلت اليقين أطلت همسي
لقد قامت معركة صفين بين علي ومعاوية على الخلافة، وسالت الدماء غزيرة على أرض المعركة، فتحركت «الضمائر» تسأل: من المسئول عن هذه الدماء؟ إنه محال أن يكون الفريقان معا على صواب، وإلا لما اقتتلا، بل لا بد أن يكون أحد الفريقين على الأقل مخطئا. وبغض النظر عن أي الفريقين هو المخطئ، فالسؤال الذي تحركت له الضمائر عندئذ هو: ما حكم المخطئ الذي كان سببا في قتل مئات المسلمين؟ أيظل مسلما أم يكون قد خرج على إسلامه؟ وبهذا السؤال الذي انبثق من أرض المعركة، بدأت البذرة الأولى لأقوى حركة فكرية في تراثنا الإسلامي، وهي حركة المعتزلة، إن الضمائر التي أقلقها الوضع القائم وأفصحت عن قلقها ذاك، لم تكن ضمائر الأفراد المتحاربين واحدا واحدا على السواء، بل كانت ضمائر قلة قليلة، هي التي استطاعت التعبير عما كان يتردد في الصدور، أي إن ضمائر الفئة القليلة القادرة على الصياغة، التي توضح جوهر القضية المطروحة، كانت تتأرق أصالة عن نفسها ونيابة عن سواها.
ولا بد لي أن أذكر في هذا السياق أن هذا السؤال الخاص، بالحكم على من اقترف ذنبا كبيرا من المسلمين، لم يكد يطرح حتى أخذت الآراء تتشعب وتتعدد، فتكونت بذلك فرق (بكسر الفاء وفتح الراء) كثيرة، هي بمثابة «الأحزاب» الكثيرة التي تعددت، لا تكلفا واصطناعا، بل تكونت بطريقة تلقائية طبيعية، اقتضتها ضرورة الموقف: فهنالك سؤال خطير مطروح، والإجابات عليه كثيرة متضاربة، فماذا يحدث عندئذ سوى أن يتجمع أصحاب الرأي الواحد في جماعة واحدة، لتناضل آراء الجماعات الأخرى إلى أن يتبين الحق فيما هو مطروح أمام الفكر ليجيب؟
وفي دنيا الأدب والفكر أمثلة لا حصر لها، توضح لنا كيف يتصدى الكاتب للخطأ الذي يمس إنسانية الإنسان ليصححه، معربا في ذلك عن ضميره القلق أولا، ومعبرا عن ضمائر الآخر ثانيا؟ ولأختر مثلا واحدا من كاتبة أمريكية، نشرت قصة لها في منتصف القرن الماضي، عن قضية الزنوج في الولايات التي لم تكن متحدة بصورة كاملة عندئذ، ولقد أطلقت على قصتها عنوان «كوخ العم توما»، فما كادت تظهر حتى شدت إليها الأبصار والأسماع في أمريكا وفي إنجلترا، ثم ترجمت فور ظهورها إلى عدة لغات أوروبية أخرى.
كانت قضية الزنوج عندئذ مكتومة في الأفئدة أو كالمكتومة، يقرها الناس أو لا يقرونها، لكنها على كل حال لم تجد من يفصح عنها بالكتابة جهرا وعلانية، حتى قصدت لها «هارييت ستو» في قصتها تلك، وحسبك أن تعلم كم كان عميقا أثر كتابها، إذا علمت أن حربا أهلية بين شمال البلاد وجنوبها نشبت، لترغم أهل الجنوب على عتق ما يملكونه من رقيق، وانتصر لنكولن قائد الشمال، وذهبت إليه الكاتبة في معسكره تحييه، ولم يكن القائد قد رآها من قبل، فلما رآها مقبلة عليه بجسمها القصير النحيل، قال لأصحابه: «أهذه هي السيدة النحيلة التي أثارت هذه الحرب الضروس؟» ... هكذا ترى كيف تحرك ضمير إنسانة واحدة، فأحدث ما أحدثه، فلا يحق لنا أن نقول إن الكاتبة الواحدة هذه، قد عبرت عن قلق ضمير واحد، بل الأصوب أن يقال: إن ضمير أمتها كان كامنا في ضميرها، وسأكتفي بنقل مشهد واحد قصير، عن قصة «كوخ العم توما»؛ ليرى القارئ قبسا من هذا العمل الأدبي العظيم، وهو المشهد الذي تحدى فيه العامل الزنجي «العم توما» سيده «سيمون لجري»:
أخذ العاملون من الرقيق يتقاطرون إلى الغرفة، التي جلس فيها سيدهم ليراجع موازين السلال، التي جاءوا يحملونها مليئة بالحصاد، أخذوا يتقاطرون واحدا أو واحدة في أثر واحد، بأجسام أنهكها المرض والضعف، حتى لم تكد تستقيم، جاء دور العم توما، فوضع سلته على الميزان وأجيز، فدخل ليقف مع من سبقوه إلى قاع الغرفة ينتظر الآخرين، لكن العم توما قد أخذ يترقب بلمحات من عينيه قلقه الوميض، خوفا على امرأة زميلة، يعلم أن سيدهم يتربص بها، وجاء دور هذه المرأة التي أوشك جسدها أن يكون حطاما، بسلتها مرتعشة ترتجف جوارحها من الفزع، ووضعت سلتها على الميزان، وكانت كاملة الوزن كما رأى السيد نفسه ورأى من وقف لينظر، لكن السيد ادعى الغضب، وصاح في المرأة قائلا: ما هذا أيتها البهيمة الكسول؟ أمرة أخرى تأتين إلي بسلة منقوصة الميزان؟ ... تعال يا توما واضرب هذه البهيمة بالسوط؛ لتعلمها كيف تمتلئ السلال!
قال العم توما: عفوا سيدي، إنني لا أستطيع ذلك، فهو ما لم أتعوده وما لست أقوى عليه! فنزع السيد «لجري» حزامه، وأخذ يجلد به توما جزاء عصيانه، ثم أوقف الضرب لحظة، ليسأل فيها العم توما قائلا: أرأيت كيف يكون جزاء العصيان؟ أتجرؤ بعد الآن أن تقول إنك لا تقوى على فعل ما آمرك بفعله؟
قال العم توما: نعم يا سيدي، قالها وقد رفع يده؛ ليمسح دمه السائل على صدغيه، ثم مضى يقول لسيده: إنني لأعمل طوال ليلي ونهاري، إذا شئت ذلك يا سيدي، نعم إنني لأعمل ما بقيت في جسدي حياة، أما هذا الذي تأمرني به فلست أراه مما يجوز فعله؛ ولذلك فلن أقدم عليه أبدا، أبدا.
هنا سرت في الحضور دهشة مما قاله العم توما لسيدهم، وأخذوا ينظرون بعضهم إلى بعض نظرات تتساءل: أية زوبعة على وشك أن تعصف بنا جميعا؟!
أما السيد «لجري»، فقد تملكته الحيرة الذاهلة، فتردد قليلا قبل أن يزأر قائلا: ماذا؟ أنت أيها البهيمة النجسة السوداء؟! أتقول لسيدك إنه لا يجوز لك أن تفعل ما أمرتك بفعله؟ ماذا تعرفون أنتم أيتها الماشية الملعونة، عن الصواب الذي يجوز أو الخطأ الذي لا يجوز؟ أظننت يا سيد توما أنك قد انقلبت، من عبد إلى سيد في لحظة واحدة؟ أأنت الذي تهدي سيدك إلى الخطأ والصواب؟ أتزعم لي أن ضرب هذه المرأة بالسوط عمل لا يجوز؟
أجابه توما: نعم يا سيدي، هذا هو في الحق ما أزعمه، إن المرأة المسكينة مريضة وضعيفة، ولو ضربت بالسوط لكان ذلك قسوة بالغة المدى، وهو ما لن أفعله أبدا، أبدا، سيدي! إذا أردت قتلي فدونك فاقتل، أما أن أرفع يدي بالسوط على أي واحد من هؤلاء، فذلك ما يستحيل علي أن أفعله أبدا، أبدا.
تحدث توما بصوت رزين هادئ، لكنه مشحون بعزيمة لا يخطئها أحد، فارتجف «لجري» من الغضب، وبرقت عيناه الخضراوان بريقا مخيفا، ثم انقض على فريسته كالحيوان الكاسر، صارخا يقول: «انظروا»، هذا هو كلب ورع وجدناه بيننا نحن الآثمين! هذا هو قديس - هو سيد ولا أقل من ذلك - جاء ليحدثنا نحن معشر الآثمين عن خطايانا! ألم تسمع أيها الوغد الدنيء بما جاء في الإنجيل: أيها الخدم أطيعوا سادتكم؟ ألست سيدك الذي اشتراك بماله؟ لقد اشتريتك بكل ما فيك، بكل ما تحتوي عليه هذه المحارة الملعونة السوداء! لقد أصبحت ملكي جسدا وروحا، أليس كذلك؟ ورفس بحذائه الثقيل العم توما، قائلا له: أجبني!
ومن أعماق الألم الذي نال هذا المسكين في جسده، وبرغم ما أخذ به جسده يتلوى وينحني ويستقيم من وطأة ما أصابه، فإن قول السيد له بأنه قد بات ملكا له جسدا وروحا بث فيه نشوة روحية عجيبة، تألق بها وكأنه قد أصاب نصرا، وفجأة استقام بجسده، وشخص ببصره إلى السماء، وقال في صرخة عالية، وقد اختلط على وجهه الدمع والدم:
لا! لا! لا! ليست روحي ملكا لك يا سيدي! إنك لم تشترها إذ اشتريت، كلا، ولا كان في وسعك أن تشتريها، لقد سبق لها أن اشتراها خالقها ودفع ثمنها، اشتراها ودفع ثمنها من في وسعه أن يصونها، افعل أيها السيد بجسدي ما تشاء، وأما روحي فلن يكون في وسعك قط أن تلحق بها الأذى.
تلك لمحة مما أملاه ضمير حي على كاتبة أديبة، في قضية رأتها ماسة بإنسانية الإنسان في صميمها. إن ضعاف النفوس قد يقترفون الإثم الذي يصيب جمهور الناس في أعز ما يملكون، وأعني أنه قد يصيبهم في آدميتهم نفسها، وعندئذ تقع تبعة البيان على من في وسعه، أن يفصح عن حقيقة الموقف ببيانه، فإذا لم يفعل، فقل عنه: إنه ضمير مات.
طريقنا إلى إحياء الدين
كيف السبيل إلى إحياء الدين، ليعود قوة دافعة كما كان أول عهده؟ سؤال طرحته على نفسي منذ أمد بعيد، ولم يزل يظهر في حياتي ويختفي إلى يومي هذا، وكثيرا ما كان يراودني الطموح - وكدت أقول الجموح - بأن أنكب على هذا السؤال ملتمسا له جوابا أقتنع بصوابه، لكنني كنت سرعان ما أجدني أمام موضوع لا قبل لي به، لا لعجز في الإرادة فحسب، بل - قبل ذلك وفوق ذلك - لقصور في المعرفة بخفايا هذا الميدان وثناياه، فكنت أنصرف عنه، لكن السؤال لم ينصرف قط عن ذهني، فلم يزل يلح ويريد أن نجد له الجواب.
إنني مؤمن أشد ما يكون الإيمان، بأن نهوضنا بعد الكبوة الحضارية التي طال بنا عهدها، وأعني نهوضنا الذي يتيح لنا، أن نسير مع سائر الدنيا سير الشركاء لا سير الأتباع، لن يتحقق إلا إذا جاءت الحوافز من الدين والوسائل من العلم، لماذا؟ لسبب ظاهر، وهو أن الحوافز في صميمها قيم، نريد لها أن تتحقق في دنيا الواقع، فمن أين نأتي بهذه القيم الحافزة؟ إنها ليست ملقاة على قارعة الطريق لنلتقطها كما نلتقط العصي! إنها ليست في الخزائن لنستخرجها، كما نستخرج قطع الثياب لنرتديها ثم نعيدها إلى خزائنها! إنها - اختصارا - ليست أشياء نعثر عليها بين سائر الأشياء، بل هي «صور» تتمثل أمام الذهن، نشعر بأننا مكلفون بتجسيدها في شئون الحياة الجارية! فما مصدر تلك الصور العقلية التي هي معايير السلوك؟ مصدرها الأول، وربما كان مصدرها الوحيد هو الدين.
ما سبيلنا إذن إلى إحياء الدين؟ كيف أضع في رءوس الناس مجموعة القيم التي يدعو إليها الدين، بحيث تتحول تلك القيم إلى حوافز، لا يستقر صاحبها إلا إذا أخرجها للناس، ولنفسه عملا مرئيا مثمرا؟ وبحيث لا تظل في رءوس أصحابها من قبيل المحفوظات التي نكتفي منها بأن نعيدها على الأسماع ميتة أو كالميتة، لا يهتز لها عصب ولا ينبض بها عرق؟
إننا نبذل في سبيل «التعليم» الديني جهودا بالنهار والليل، وبكل ما بين أيدينا من وسائل التوصيل، ولكنها جهود يذهب الجزء الأكبر منها هباء مع الهواء؛ وذلك لأننا نفتح الأعين على «الفكرة»، لكننا لا نجد السبيل الذي تتحول به الفكرة إلى إرادة تعمل، إننا - مثلا - نعرض على الناس آية قرآنية كريمة، ثم نشرحها أوفى شرح، وقد نستخرج منها بواطن لم تكن مرئية لمعظم الناس، وإلى هنا نقول إن الجهد جليل، وإن الغاية نبيلة، لكن الذي يجعل الجليل أكثر جلالا، والنبيل أعظم نبلا، هو أن نسوق ما نسوقه من المعاني على نحو، يحمل الملتقى على العمل بمقتضاه، وأما إذا بقي في الرءوس علما محفوظا، ثم لا شيء بعد ذلك، فلا نكون قد قطعنا من الشوط الطويل إلا خطوة أولى، فربما عرضنا على الناس إحدى نتائج العلم الحديث، ثم نعقب ذلك بآيات قرآنية تشير إشارة مباشرة أو غير مباشرة، إلى النتيجة العلمية التي عرضناها، فأفرض أن سامعا سأل المتحدث آخر الأمر قائلا له: ثم ماذا؟ ماذا تريدني أن أفعل؟ فأغلب ظني أن هذا المتحدث لن يجد ما يجيبه به، لا بل إنه (أي المتحدث) ربما يسيء إلى ما أراد أن يحسن إليه؛ لأنه سيضع المصدر الديني في موضع الزائدة، التي لا تضيف جديدا، إذ أين يكون الجديد، ما دمت تبين لي ما قد وصل إليه العلم، ثم تضيف إليه في نهاية الأمر شيئا لم يكن ليغير مما عرضته أمرا؟
فمثل هذا الجهد هو شر من جهد ضائع؛ لأنه يضع الأمور في غير مواضعها الصحيحة؛ لأن الترتيب الصحيح في هذه الحالة، هو أن أبين للناس كيف كانت الحوافز السابقة على العمل العلمي حوافز، ليست هي نفسها جزءا من العلم وإن تكن ضرورية له، وإنما هذه الحوافز مستقاة من الدين.
إننا بكل جهودنا في سبيل «التعليم» الديني، لا نزيد على كوننا نشير بأصابعنا للناس، إلى ثمرة عالقة في غصنها البعيد، لكننا لا نبين لهم كيف السبيل إلى قطفها؟ فنحن نعرض النصوص ومعانيها، وكان الله يحب المحسنين، إننا كمن أخذ ناشئا إلى البحر؛ ليدله على مواضع السمك تحت الماء، دون أن يزوده بأدوات الصيد، فيظل الناشئ شاخصا ببصره إلى السمك في جوف البحر، يشف عنه الماء الصافي، ثم يعود إلى داره وليس معه مما رأى سمكة واحدة، تشبعه بعد جوع.
لعلك قد لاحظت أنني قد وضعت كلمة التعليم بين حواجز أو أقواس، حين أشرت إلى «التعليم» الديني الذي نؤديه، ولقد تعمدت ذلك لألفت انتباهك إلى حقيقة الموقف الراهن، فما نفعله اليوم في هذا السبيل منحصر كله في عملية التعليم التي - إذا نجحت - تزيد المستمع أو القارئ علما بما هنالك، ثم لا نكاد نفكر بعد ذلك في الخطوة الثانية الهامة، وهي خطوة التدريب التربوي على أن ينتقل «العلم» إلى «عمل» - وفي هذا الانتقال يكمن الإحياء الديني كما أتصوره.
إننا إذ نتكلم عن الإحياء الديني، لا بد أن يرد إلى أذهاننا «إحياء علوم الدين» للغزالي، فماذا أراد الغزالي أن يحققه بذلك «الإحياء»؟ أظنه أراد أمرين: أراد أن يعود بالإسلام إلى عهده الأول، ثم أراد أن يقاوم الذين حسبوا أن معرفة الحق وحدها تكفي، فقال في ذلك: بل لا بد إلى جانب المعرفة من سلوك، وأن يجيء ذلك السلوك محققا للشريعة.
وعندما نقول إن الغزالي أراد بإحيائه لعلوم الدين، أن يعود الإسلام إلى عهده الأول، فمن الواضح أن هذه العودة، لا تكون بمجرد «الحفظ»، لما كان يقوله الأولون؟ بل إن هذه العودة لا تعني شيئا، إذا لم تكن تعني أن أعود إلى ذلك الضرب من الإيمان، الذي يحول العقيدة إلى عمل.
كان التحول الذي أسماه الغزالي «إحياء»، هو في عمقه تحول من الفكر مجرد الفكر، إلى الإرادة التي تخرج من ذلك الفكر إلى مجرى السلوك، فإذا لحظنا نحن اليوم أن جهودنا كلها، تدور في دائرة «الفكر» وحده، دون أن تتعدى ذلك إلى الإرادة التي تعمل بناء على ذلك الفكر، فنحن على حق إذا زعمنا أننا بعيدون عن «الإحياء» المطلوب.
إن «الشطارة» في تخريج المعاني تخريجا، يجعلنا نتصور أن ما جاء به الدين، هو نفسه ما يجيء به العلم في عصرنا، أقول إن هذه «الشطارة» لا تحولنا قيد ظفر مما نحن فيه، وهي «شطارة» لا تجعل الدين أكثر دينا، ولا تجعل العلم أكثر علما، فهي أقرب إلى شطارة من يمشي على حبل مشدود وهو حافظ لتوازنه، وإنما المهارة كل المهارة هي في أن تبصرني بالطريق، الذي أعرف منه كيف آخذ من الدين حافزا يحرك الإرادة، إلى «صنع» علم جديد أقدمه لنفسي وللإنسانية جمعاء.
أحيا الغزالي - مثلا - فكرة «الخوف من الله»، فبعد أن كانت جملة تتحرك بها الألسنة في الأفواه، جعلها دستورا للعمل، حولها من مجرد لفظ إلى حالة شعورية، تهدي صاحبها في ميدان النشاط الفعلي، إلى ما يجوز فعله وما لا يجوز، القول بأن «الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه.» قول نحفظه جميعا عن ظهر قلب - نسمعه في تلاوة القرآن - ونسمعه في دروس الشرح والتعليق، لكن كم منا «أراد» بكل عزيمته، أن يجعل من هذا القول المحفوظ خطة للسير؟ فما الذي يحول دون أن ننتقل بالقول من مجرد التلاوة والحفظ، إلى أن يصبح عادة سلوكية تتحكم في توجيهنا، كلما عمل منا أحد عملا؟ لو وقفنا على هذه الحوائل وأزلناها، كان في ذلك ما ننشده من إحياء الدين.
لكنني لا أدعي لنفسي قدرة على رسم الطريق، فالأمر لم يزد عندي على شعور، بضرورة الإحياء الديني في نفوسنا، دون أن أكون على علم - أدنى العلم - بما يمكن فعله في هذا السبيل.
Shafi da ba'a sani ba